الصفحات

الخميس، 5 مارس 2009

الحوار بين ارنست رينان وجمال الدين الافغاني

الحوار بين ارنست رينان وجمال الدين الافغاني

كان رينان (1823- 1892) قد آمن في مرحلة معينة من حياته بأنّ المستقبل للعلم وحده، وكتب بين سنتي 1848-1849 كتابا بهذا الاتجاه عنوانه "مستقبل العلم" لم يلق طريقه إلى النشر إلا سنة 1890، ونشر مشفوعا بمقدمة يتراجع فيها الكاتب عن بعض غلوائه في تصوّر مستقبل العلم والحضارة. وبدأ رينان من سنة 1870 يتراجع عن موقفه المعادي للمسيحية ويطالب بإصلاح ليبرالي كاثوليكي وبأن يقبل رجال الدين بالفصل بين الكنيسة والدولة والجامعة. وكان يعتقد إنّ هذه الإمكانية لا يمكن أن تحصل، إذا ما حصلت، إلاّ في المجتمعات المسيحيّة التي تطوّر فيها العلم تطوّرا كبيرا وفقد فيها رجال الدين احتكار توجيه الجماهير. وتتنزّل نظريته في العجز الجوهري للإسلام عن قبول الإصلاح والتحديث في هذا السياق العام
لا شكّ أنّ محاضرة رينان تحتوي أخطاء كثيرة، مثل ما هو مذكور فيها عن موقف الطهطاوي من الغرب والتحديث. وهي تقوم أيضا على نظرية عرقية كانت شائعة في عهده، ولو عاش رينان القرن العشرين بدل القرن التاسع عشر لفاجأته أن تصبح تركيا أوّل دولة علمانية إسلامية وتقوم أكبر ثورة دينية في المجتمع الفارسي. وكان للفكر الفرنسي في نهاية القرن التاسع عشر أثر كبير لدى العرب وهو فكر كان يحمل في الآن ذاته آثار المواجهة العلمانية للكنيسة والرؤية التي خلفتها هذه الكنيسة حول تاريخ الأديان الأخرى ومنها الإسلام. كما كان يتميز بالمعاداة للسامية وتعني في ذلك العصر معاداة الجنسين العربي واليهودي وقد خصص لهما رينان محاضرة لا تقلّ حدّة عنوانها "في مساهمة الشعوب السامية في تاريخ الحضارة" وهي مساهمة رآها محدودة بل تكاد تكون معدومة.

أرنست رينان(من الأكاديمية الفرنسية)
الإسلاميّة والعلم
محاضرة ألقيت بالسوربون يوم 29/03/1883.
الناشر: كلمان ليفي، باريس، 1883.
سيداتي سادتي
لقد خبرت مرات عديدة لطف اهتمام هذا المجمع من المستمعين فتشجعت على أن أطرح للدرس أمامكم اليوم موضوعا من أكثر المواضيع دقّة، مليء بالفروق الرقيقة التي لا مناص من الخوض فيها إذا أردنا أن نخلّص التاريخ من الآراء التقريبية. إنّ نقص الدقّة في استعمال الكلمات التي تسم الأعراق والأمم هي من أهمّ أسباب الالتباس في التاريخ. نتحدث عن الإغريق وعن الرومان وعن العرب وكأنّ هذه الكلمات تحيل إلى مجموعات بشرية ذات هويات قارة فلا نحسب حسابا للتغيرات المترتبة على الفتوحات الحربية والدينية واللغوية وعن الأذواق الجديدة والتيارات الكبرى من مختلف الأنواع وهي تخترق تاريخ الإنسانية. لا يمكن التحكّم في الواقع بمقولات في مثل تلك الدرجة من التبسيط. نحن الفرنسيين مثلا رومان باللغة وإغريق بالحضارة ويهود بالدين. قضية العرق التي تأخذ في المبدأ أهمية كبرى لا تنفكّ تفقد أهميتها بسبب ظهور ظواهر كونية تدعى الحضارة الإغريقية والزحف الروماني والغزو الجرماني والمسيحية والإسلامية والنهضة والفلسفة والثورة، هذه جميعا تمرّ مثل الإعصار على التنويعات البدائية للأسرة البشرية فتجبرها على الانصهار في مجموعات متفاوتة التجانس. أودّ أن أحاول أمامكم توضيح واحدة من أكثر الأفكار غموضا وتشابكا في هذا السياق، أقصد الخلط الحاصل عند استعمال الكلمات: علوم عربيّة، فلسفة عربيّة، فنّ عربي، علوم إسلاميّة، حضارة إسلاميّة. يترتب على الأفكار الملتبسة الكثير من الأحكام المضللة بل الأخطاء العملية الخطيرة أحيانا.
كلّ إنسان يتمتع بالحدّ الأدنى من الاطلاع على شؤون العصر يرى بوضوح الدونية الحالية للبلدان الإسلامية والانحطاط الذي يميّز الدول التي يحكمها الإسلام والبؤس الفكري للأعراق التي لا تقتبس ثقافتها وتعليمها إلاّ من هذه الديانة. كلّ الذين زاروا الشرق أو إفريقيا يصدمهم الانغلاق الذي يميّز عقل كلّ مؤمن صادق، حتى كأنّ دماغه قد أحيط بسوار معدني يمنع عنه العلوم ويحظر عليه التعلّم ويدرأ به أن ينفتح على فكرة جديدة. والطفل المسلم قد ينشأ بعقل يقظ لكنّ التربية الدينيّة تحوّله في سنّ العاشرة أو الثانية عشر إلى كائن متعصّب يدعي حمقا أنّه يمتلك الحقيقة المطلقة ويسعد بوضعه الدوني الذي يحسبه امتيازا. تمثّل هذه العزّة الجنونيّة الرذيلة الجذريّة للمسلم. والبساطة التي تبدو عليها عباداته تملأه باحتقار غير مبرّر للأديان الأخرى. يحتقر المسلم التعليم والعلوم وكلّ ما يميّز العقل الأوروبي لأنّه يعتقد أنّ الله يمنح الثروة والسلطان بمطلق مشيئته فلا دخل في ذلك للتعلّم ولا للاستحقاق. هذه العادة الرديئة التي رسختها العقيدة الإسلاميّة بلغت من القوّة حدّا جعل الفوارق بين الأعراق والقوميات تختفي باعتناق الإسلام. من يدخل الإسلام من البربر والسودان والقفقازيين والماليين والمصريين والأحباش يفقد هويته. ولا استثني من هؤلاء إلاّ الفرس الذين نجحوا في الاحتفاظ بروحهم الأصلية. وقد احتلت فارس في الإسلام مكانة فريدة لكنّها في العمق شيعيّة أكثر منها مسلمة.
يسعى العديد من الناس إلى التخفيف من الاستنتاجات المؤسفة المترتبة ضدّ الإسلام على هذه المعاينة العامة فيقولون إنّ هذا الانحطاط قد لا يكون في آخر المطاف إلاّ حالة عابرة. وهم يستنجدون بالماضي ليطمئنوا أنفسهم حول المستقبل. يقولون: هذه الحضارة الإسلاميّة التي نراها اليوم منحطّة قد كانت في عهد سابق حضارة شديدة التألّق. كان فيها علماء وفلاسفة وكانت لعدّة قرون معلمة الغرب الإسلامي. ما الذي يمنعها من استعادة أمجاد الماضي؟ هذا هو الموضوع الدقيق الذي أرغب في أن يكون موضوع نقاشنا. هل وجدت حقا علوم إسلامية أو على الأقلّ علوم قبلها الإسلام أو تسامح معها؟
إنّ الوقائع المعروضة لا تخلو من بعض الحقيقة. أجل ظهر في الأمصار الإسلاميّة علماء ومفكرون من ذوي المكانة المرموقة من سنة 775 تقريبا إلى حدود منتصف القرن الثالث عشر، أي في فترة امتدّت خمسة قرون تقريبا. بل يجوز القول إنّ العالم الإسلامي كان في تلك الفترة متفوّقا على العالم المسيحي من جهة الثقافة الفكريّة. لكنّ هذا الأمر جدير بأن يحلّل بعمق كي لا يكون مطيّة لاستنتاجات خاطئة. يتعيّن أن نتابع بين القرن والآخر تاريخ الحضارة في الشرق كي نميّز العوامل المختلفة التي ساهمت في هذا التفوّق المؤقت الذي انقلب بعد ذلك إلى دونية متأصلة.
لم يكن شيء أكثر غرابة عن مسامع المسلمين في قرنهم الأوّل من الفلسفة والعلوم. كان الإسلام حاصلة صراع ديني متواصل منذ عدّة قرون ترك الوعي في الجزيرة العربيّة معلّقا بين مختلف أشكال التوحيد السامي. جاء الإسلام في معزل عما يسمّى العقلانيّة والعلم واعتنقه الفرسان العرب وتعلقوا به لتبرير الغزو والنهب فكانوا في زمانهم الأوّل المحاربين الأكثر شجاعة في العالم لكنّهم كانوا بالتأكيد الأقلّ اهتماما بالفلسفة بين البشر. وكتب أديب مشرقي من القرن الثالث عشر يدعى أبو الفرج هذه الكلمات في وصف الشعب العربي: علوم العرب التي تفتخر بها هي علوم اللسان والبلاغة وقرض الشعر وإتقان النثر، أمّا الفلسفة فلم يهبهم الله منها شيئا ولم يجعلها من خصالهم.
لا شيء أصدق من هذا القول. فالعربي البدوي هو من أكثر الناس شاعرية لكنّه من أقلّهم ميلا للتأمّل والتصوّف. يكتفي العربي المتديّن تفسيرا للكون بإله مبدع يدير العالم بنفسه ويتجلّى للبشر عير رسله المتتابعين. وعندما كان الإسلام منحصرا في العرق العربي طوال الفترة الممتدّة من الخلفاء الأربعة إلى العصر الأموي لم تنشأ في صلبه حركة ثقافيّة مستقلّة عن الدين. على عكس ما يقال غالبا، لم يأمر عمر بن الخطّاب بإحراق مكتبة الإسكندريّة فهذه المكتبة في عهده لم يكد يبقى منها شيء. لكنّه انتصر لمبدأ مدمّر للبحث العالم والعمل الفكري.
لقد حصل التحوّل في حدود سنة 750 بانتصار الفرس ونصرتهم أسرة بني العباس على أسرة بني أميّة وتحوّل مركز الإسلام إلى بلاد الرافدين. كانت هذه المنطقة قد احتفظت بآثار إحدى أبهى الحضارات التي عرفها الشرق، حضارة الفرس الساسانيين التي بلغت أوجها في عهد كسرى أنو شروان. كانت المنطقة قد حفلت بالفنون والصناعات منذ قرون وأضاف إليها كسرى النشاطات الفكريّة. وكانت الفلسفة قد التجأت إلى بلاد فارس بعد أن أطردت من القسطنطينية. أمر كسرى بترجمة الكتب الهندية. كان الجزء الأبرز من السكان على مذهب المسيحيّة النسطوريّة ضليعين في علوم الإغريق وفلسفتهم ماسكين بناصية الطبّ وكان رهبانهم يتقنون المنطق والهندسة. تروي الملاحم الفارسيّة التي تواصل الروح الساسانيّة أنّ رستم عندما عزم على بناء جسر دعا كاهنا نسطوريّا ليكون مهندس الأشغال.
أوقف الزحف الإسلامي بقسوة هذا المسار الفارسي لمدّة قرن ثم جاءت الدولة العباسيّة لتمثّل انبعاثا جديدا لملك كسرى. لقد استولى بنو العباس على السلطة بفضل كتائب فارسيّة يقودها رجال من الفرس. وكان مؤسسو الدولة، أبو العباس ثم خاصة المنصور، محاطين دائما بمستشارين من الفرس. كان هؤلاء بمثابة ساسانيين منبعثين من جديد. وكان المستشارون المقربون والوزراء الكبار ومعلمو الأمراء من أسرة البرامكة وهي من الأسر الفارسيّة القديمة تميّزت بالانفتاح الذهني والوفاء لثقافتها القوميّة واعتنقت الإسلام في فترة متأخّرة ودون كبير اقتناع. أحاط النساطرة بعد ذلك بهؤلاء الخلفاء ضعيفي الإيمان وأصبحوا أطباءهم الشخصيّين واحتكروا هذا الامتياز. وكان لمدينة حرّان في تاريخ العقل البشري مكانة لا مثيل لها إذ ظلّت على وثنيتها محتفظة بالتراث العلمي للعصر الإغريقي وهي التي منحت المدرسة الجديدة فيالق العلماء الغرباء عن أديان التوحيد وخاصة منهم علماء الفلك.
لقد قامت بغداد عاصمة لهذه الحضارة الفارسيّة المنبعثة من جديد. لم يكن ممكنا تجنّب استعمال لغة الفاتحين أي اللغة العربيّة ولا رفض الدين الجديد رفضا صريحا. لكنّ روح هذه الحضارة الجديدة كانت روحا مختلطة. وقد تغلّب الفرس والمسيحيّون وكانت المناصب الإداريّة، والشرطة خاصة، بأيدي المسيحيّين. كلّ الخلفاء العباسيين المعاصرين للأسرة الكارلفنجية بفرنسا، ومنهم المنصور وهارون الرشيد والمأمون، كانوا من المسلمين ضعيفي العقيدة وكانوا يتظاهرون بالدين لأنهم زعماؤه لكن تفكيرهم كان بعيدا عنه. كانوا يتطلعون لمعرفة كل شيء وخاصة ما كان غريبا وثنيا. كانوا يسائلون الهند وفارس القديمة واليونان خاصة. صحيح أنّ أصحاب التقوى من المسلمين نجحوا أحيانا في توجيه البلاط نحو ردود فعل غريبة، فكان الخليفة يتظاهر بعض الأحيان بالتقوى ويضحي بأصدقائه من الكفار والملحدين. لكن نسمة الحرية ما تفتأ تستعيد الغلبة فيدعو الخليفة مجدّدا العلماء والخليعين وينهمكون مجدّدا في الحياة المتحرّرة ولا يملك المسلمون الأتقياء غير الإدانة.
هذا هو التفسير لحضارة بغداد التي تبدو غريبة جذابة. وقد رسخت معالمها في كل المخيّلات بفضل قصص ألف ليلة وليلة. إنها خليط عجيب من التشدّد الرسمي والتسيب المكتوم، فترة شباب وعبث ازدهرت خلالها الفنون الجديّة والفنون المرحة بفضل رعاية قادة مارقين عن ديانة متعصبة. كان الشخص المتحرّر في هذه الحضارة واقعا تحت تهديد العقوبات الأشدّ قسوة لكنه يعامل في البلاط كشخص ذي حظوة. ازدهرت الزندقة في ظل هؤلاء الخلفاء الذين كانوا متسامحين أحيانا وأحيانا أخرى جلادين بالرغم عن إرادتهم. ظهر المتكلمون وأقاموا المناظرات يخضعون بها كلّ الأديان للتعقّل. إنّنا نحتفظ بإحدى هذه المناظرات وقد سجلها أحد العلماء واسمحوا لي أن أسردها على مسامعكم كما وردت في ترجمة السيد دوزي (Dozy): طلب عالم من القيروان من متكلم أندلسي تقي قدم إلى بغداد هل حضر مجالس الكلام فأجاب أنه حضر مجلسين ولم يعد بعدها فسأله عن السبب فقال المسافر: حضرت مجلسا ضمّ مسلمين من السنة ومن المبتدعة وكفارا ومجوسا ودهريين وملاحدة ويهودا ونصارى فكانت ملل الكفر جميعا حاضرة. ولكلّ ملّة رئيسها يذبّ عن عقائدها وإذا دخل أحد الرؤساء قام الجميع احتراما ولا يجلسون حتى يأخذ الرئيس مقعده. فلما انعقد المجلس قام أحد الكفرة فقال: لقد اجتمعنا للمناظرة وأنتم أعلم بقواعدها، فليس لمسلم أن يحتجّ بآيات كتابه وأحاديث نبيه فإنّنا لا نؤمن بها، وإنّما دليلنا ما وافق العقل. فرحب الجميع بكلامه. وقال الأندلسي: عرض علي حضور مجلس ثان فكان من نفس القبيل، فهل أعود لمثل هذه المجالس؟
كان من نتائج هذا التوقف المؤقت لسلطة التقوى أن برزت حركة فلسفية وعلمية حقيقية. كان الأطباء السوريون المسيحيون متضلعين في الفلسفة المشائية والرياضيات والطب والفلك وهم ورثة آخر المدارس الإغريقية. فاستعملهم الخلفاء ليعربوا مجموع أعمال أرسطو وإقليدس وجالينوس وبطليموس أي علوم الإغريق التي كانت متوفرة آنذاك. بدأت بعض العقول النشطة مثل الكندي تتأمل مشاكل كونية يطرحها الإنسان دون أن يجد لها جوابا فسُمي هؤلاء الفلاسفة ومنذ ذلك الحين وهذه الكلمة العجيبة تحمل دلالة مشبوهة وتشير إلى شيء غريب عن الإسلام. أصبحت كلمة فيلسوف عند المسلمين تسمية خطيرة يمكن أن تجني على صاحبها الموت أو الاضطهاد، شأن كلمة زنديق أو بعد ذلك كلمة ماسوني. لا مناص من الاعتراف أنّ ذلك كان قمّة العقلانية الحادثة داخل الإسلام فقد نشأت ما يشبه الجمعيات الفلسفية وتُرك أخوان الصفا ينشرون موسوعة فلسفية مهمة بما تميزت به من حكمة وأفكار راقية. ثم جاء رجلان عظيمان هما الفارابي وابن سينا ليحتلا رتبة المفكرين الأكثر اكتمالا بين الفلاسفة. وتطور الفلك والجبر تطورا حثيثا خاصة في فارس. وواصلت الخيمياء تجاربها الدفينة التي كانت تبرز أحيانا إلى العلن في شكل مذهل، مثل التقطير وربما البارود. وحملت الأندلس بعد المشرق هذا المشعل وقدّم يهودها مساهمات نشيطة. ورفع ابن باجة وابن طفيل وابن رشد الفكر الفلسفي في القرن الثاني عشر إلى رتبة لم تبلغها منذ العصر القديم.
هذا هو المجموع الفلسفي الذي تعودنا أن نطلق عليه صفة العربي لأنه مدوّن باللغة العربيّة. لكنه في الحقيقة تراث إغريقي ساساني. وقد يكون أكثر دقّة أن نصنفه إغريقيا لأنّ العناصر الأكثر حيوية في هذا كله قد أتت من اليونان. في عصور الانحطاط تلك كانت قيمة العالم تتحدّد بما تتوفر لديه من معرفة بعلوم اليونان القديمة وكانت اليونان المصدر الوحيد للمعرفة والتفكير السليم. ولئن تفوقت سوريا وبغداد على الغرب اللاتيني فإنما السبب الوحيد لذلك قرب مفكريها من الميراث الإغريقي. كان أكثر يسرا أن نعثر على كتاب لإقليدس أو بطليموس أو لأرسطو في حرّان من أن نعثر عليه في باريس. يا للأسف! ، لو أنّ البيزنطيين رضوا آنذاك أن يكونوا أقلّ غيرة في المحافظة على كنوزهم الفكريّة التي لم تعد مقروءة عندهم! يا للحسرة! لو وجد منذ القرن الثامن أو التاسع أشخاص مثل بوساريون (Bessarion) ولسكاريس (Lascaris)! لو حصل هذا لما احتجنا لهذه الدورة الغريبة التي جعلت علوم الإغريق تصلنا في القرن الثاني عشر عبر سوريا وبغداد وقرطبة وطليطلة. إن عناية خفية قد جعلت مشعل الفكر البشري إذن بدأ يخبو بين يدي شعب تلقفه شعب آخر يرفعه ويؤجج بريقه. فهذه العناية هي التي منحت أهمية خاصة لأعمال هؤلاء السوريين المساكين وهؤلاء الفلاسفة المضطهدين وهؤلاء الحرّانيين الذين عاشوا خارج الزمان بسبب كفرهم. لقد تلقت أوروبا خميرة التراث القديم التي كانت ضرورية لنهضتها وانبثاق عبقريتها بفضل تلك الترجمات العربية لكتب الفلسفة والعلوم الإغريقية.
فعلا، فيما كان ابن رشد، آخر الفلاسفة العرب، يسلم الروح في المغرب حزينا منبوذا، كان غربنا يتهيأ لميلاد جديد. عثرت أوروبا على عبقريتها وبدأت هذا التطوّر الرائع الذي لن ينتهي قبل أن يحرّر العقل تحريرا تاما. هنا، على مرتفعات سانت جنفياف، نشأ المصنع الجديد للعمل العقلي. ولم يكن ينقصه غير الكتب والمصادر من العصر القديم. يبدو لأوّل وهلة أنّ الأكثر منطقيّة أن تطلب تلك المصادر من مكتبات القسطنطينية التي احتفظت بالأصول بدل أن تطلب من تراجم هي في الغالب رديئة ومن لغة لم تكن مهيأة حقا لنقل التراث الإغريقي. على أنّ المنازعات الدينيّة كانت قد أحدثت شرخا بين العالمين اللاتيني واليوناني ازداد عمقا بسبب الحملة الصليبية الملعونة في سنة 1204. ثم إنه لم يكن لدينا مختصون في الهيلينستية فانتظرنا ثلاثة قرون قبل أن نحصل على لوفابر ديتابل (Lefèvre d’Etaples) أو بوديه (Budé).
وفي غياب الفلسفة الإغريقية الحقيقية التي كانت مطمورة في المكتبات البيزنطية اتجه البحث نحو إسبانيا كي تستخرج علوم إغريقية رديئة الترجمة مغشوشة. لن أذكر جيربرت (Gerbert) لأن رحلاته بين المسلمين يحيط بها شكّ قويّ، لكننا نرى منذ القرن الحادي عشر كيف كان ليون الإفريقي متفوّقا في معارفه بالمقارنة بالسائد في عصره وبلده لأنه حظي بتعليم إسلامي. وقد تشكّل من 1130 إلى 1150 مجمع نشيط يضمّ مترجمين استوطنوا طليطلة وعملوا تحت إشراف المطران رايموند (Raymond) وتولى هذا المجمع مهمة النقل إلى اللاتينية للكتب الأكثر أهمية في العلوم العربيّة. وقد دخل أرسطو العربي مظفرا إلى جامعة باريس منذ السنوات الأولى للقرن الثالث عشر. نفض الغرب عن نفسه دونية استمرّت أربعمائة سنة أو خمسمائة سنة. فحتى ذلك الحين كانت أوروبا تابعة في علومها للمسلمين. وفي منتصف القرن الثالث عشر كان الميزان بين الطرفين متأرجحا. وبداية من 1275 تقريبا بدأت تظهر بوضوح حركتان: البلدان الإسلاميّة تنحدر في انحطاط فكري شديد قاتم وأوروبا الغربية تدخل بقوّة في الطريق الواسعة للبحث العلمي عن الحقيقة. إنّه منحى عظيم لا يمكن تحديد أبعاده إلى اليوم.

الجزء الثاني من محاضرة إرنست رينان
الإسلاميّة والعلم
الويل لمن أصبح غير نافع للرقي الإنساني، إنّه يحكم على نفسه بالإلغاء! لقد اختفت العلوم المدعوة بالعربية بعد أن نقلت لقاح الحياة إلى الغرب اللاتيني. وبينما كان ابن رشد يحقّق في المدارس اللاتينية شهرة تعادل شهرة أرسطو كان مصيره بين أبناء دينه أن يقبع في النسيان. وإذا تجاوزنا سنة 1200 لم نعد نعثر على فيلسوف عربي واحد جدير بالاهتمام. كانت الفلسفة مضطهدة دوما في العالم الإسلامي لكن ليس بالقدر الذي يلغي وجودها أمّا ابتداء من سنة 1200 فإن الردّة الدينية قد قضت عليها قضاء تاما. ولم يعد المؤرخون والأدباء يتحدثون عن الفلسفة إلا حديث ذكرى عن شيء غير مرغوب فيه. أتلفت المخطوطات الفلسفية أو أصبحت نادرة الوجود. لم يسمح بالتواصل من علم الفلك إلاّ ما يخدم تحديد مواقيت الصلوات. سيطر العرق التركي على الإسلام فنشر في كلّ مكان تدينه الخالي من كلّ نفس فلسفي أو علمي. ومنذ ذلك الحين لم يشهد الإسلام مفكرا عقلانيا منفتحا، سوى استثناءات قليلة مثل ابن خلدون، فقد قضى على الفلسفة والعلوم بين أتباعه.
لم أقصد يا سادتي أن أتهاون بشأن هذه العلوم العظيمة المدعوة بالعربية فهي تمثّل مرحلة مهمة من تاريخ تطوّر العقل البشري. أجل بالغ البعض في تأكيد أصالتها في مسائل عديدة منها خاصة المسائل الفلكية لكن ليس من الحكمة الانتقال من النقيض إلى النقيض ومعاملتها بالازدراء. حقا لقد وجدت مرحلة عربية امتدت من زمن انهيار حضارة العهد القديم في القرن السادس إلى ظهور العبقرية الأوروبية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وقد تواصل خلالها تراث العقل الإنساني في الأقاليم التي فتحها الإسلام. لكن ما هو العربي في هذه العلوم المدعوة بالعربية؟ أنه اللغة ولا شيء غيرها. حملت الغزوات الإسلامية لغة الحجاز إلى كلّ أطراف العالم فكان مصير هذه اللغة شبيها بمصير اللاتينية في الغرب عندما تحوّلت لغة التعبير عن المشاعر والأفكار وفقدت علاقتها باللهجة القديمة. يعدّ ابن رشد وابن سينا والبتّاني عربا كما يصنّف ضمن اللاتينيين ألبرت الأكبر وروجير باكون وفرنسيس باكون وسبينوزا. إنها لمغالطة كبرى أن ننسب الفلسفة والعلوم العربية للجزيرة العربية، فكأننا حينئذ ننسب إلى مدينة روما كل الأدب المسيحي اللاتيني وكل تراث المرحلة المدرسية ومجموع أعمال عصر النهضة وعلوم القرن الخامس عشر وجزء من القرن السادس عشر لأن ذلك جميعا قد دوّن باللغة اللاتينية. وإن مما يثير الانتباه أننا إذا رجعنا إلى قائمة الفلاسفة والعلماء المدعوين بالعرب وجدنا واحدا لا غير من أصل عربي وهو الكندي والبقية فرس أو من شعوب بحر القزوين أو من إسبانيا أو من أهل بخارى وسمرقند وقرطبة وإشبيلية. لم تكن دماؤهم عربية كما لم تكن عقولهم عربية. استعملوا اللغة العربية مضطرين كما اضطر إلى اللاتينية مفكرو العصر الوسيط فطوّعوها لحاجتهم. واللغة العربية هي لغة شعر وخطابة لكنها أداة غير مناسبة للميتافيزيقا. والفلاسفة والعلماء العرب كانوا في الغالب يكتبون في أسلوب قليل الفصاحة.
إذا لم تكن هذه العلوم عربية فهل هي إسلامية على الأقلّ؟ هل منحت الديانة الإسلامية هذه المباحث العقلية شيئا من الرعاية؟ لم يحدث هذا أبدا. كانت الحركة العلمية كلها من عمل الفرس والمسيحيين واليهود والحرانيين والإسماعيلية والمسلمين الثائرين ضد دينهم. ولم تحصل هذه الحركة من الإسلام الرسمي إلا على اللعنات. أدان علماء الدين دون رحمة الخليفة المأمون الذين كان من بين الخلفاء الأكثر حماسا لاستقبال فلسفة الإغريق، وفسروا المصائب التي رافقت عهده بأنها عقاب بسبب سماحه بدخول عقائد غريبة على الإسلام. وقد حدثت مرات أن أحرقت كتب الفلسفة والفلك في الساحات العامة أو أغرقت في الآبار وخزانات المياه تقربا من العامة التي هيجها الأئمة. كانت صفة زنديق تطلق على كلّ من يتعاطى تلك المباحث فيضرب في الطريق العام ويحرق بيته وكثيرا ما يأمر الحاكم بقتله كي يتقرب بذلك إلى العامة.
الواقع إن الإسلام قد عمل باستمرار على اضطهاد الفلسفة والعلوم وانتهى به الأمر إلى وأد هذه المعارف. لكن من الجدير أن نميّز في هذا المجال بين فترتين من تاريخ الإسلام، تمتدّ الأولى من بدايته إلى القرن الثاني عشر وتمتد الثانية من القرن الثالث عشر إلى أيامنا هذه. كان الإسلام في الفترة الأولى ملغوما بالملل والنحل ومعتدلا بفضل المعتزلة الذين هم بمثابة البروتستانت، وكان أقلّ تنظما وتعصبا من الفترة الثانية عندما سقط بين أيدي أعراق التتار والبربر وهي أعراق ثقيلة وعنيفة وفاقدة للسمو العقلي. وخاصية الإسلامية أنها تتلقّى من أتباعها إيمانا لا ينفكّ يقوى مع تقدّم الأزمنة. العرب الأوائل الذين اعتنقوا الإسلام كانوا بالكاد يؤمنون برسالة النبي وظلّ تردّدهم في الإيمان واضحا مدّة قرنين أو ثلاثة قرون. ثم أعقب ذلك عصر السيطرة المطلقة للعقيدة ولم يعد من مجال للتمييز بين الروحي والزمني وأصبح التعزير والعقاب يهدّد كلّ من تسوّل له نفسه التهاون بالعبادات. هذا النظام لم يعرف أكثر قسوة منه إلا محاكم التفتيش الإسبانية.
ليس أضرّ بالحريّة من نظام اجتماعي يسيطر فيه الدين سيطرة مطلقة على الحياة المدنية. ولم نر في الأزمنة المعاصرة إلا مثالين من هذا النظام أحدهما العالم الإسلامي والثاني الدولة البابوية السابقة. مع أنّ البابوية الزمنية لم تحكم إلا رقعة محدودة والإسلام سيطر على أجزاء شاسعة من الكرة الأرضية فرض فيها أشدّ التعاليم معارضة للرقي ومنها مبدأ قيام دولة على وحي مزعوم وتنظيم المجتمع بمقتضى اللاهوت.
الليبراليون الذين يدافعون عن الإسلام لا يعرفون منه شيئا. الإسلام هو الاتحاد الكامل بين الروحي والزمني، وهو سلطان العقيدة، وهو أشدّ ما حملت الإنسانية على عاتقها من الأغلال. أعيد قولي إنّ الإسلام تحمّل الفلسفة مرغما في النصف الأوّل من العصر الوسيط لأنه لم يكن قادرا على منعها ولم يكن في حالة تجانس تيسّر له ذلك ولم يكن يملك وسائل القمع. كانت الشرطة كما رأينا بأيدي المسيحيين وكان شغلها الأول تتبع تحركات العلويّين فكانت أشياء كثيرة تخترق سياج الممنوعات. ولما توفّر للإسلام أتباع كثيرون شديدو الإيمان أصبح ديدنه التنكيل بكلّ مخالف. وكان المطروح جمعا بين الاضطهاد الديني والنفاق. كان الإسلام متحرّرا (ليبراليا) عندما كان ضعيفا وأصبح عنيفا عندما امتلك وسائل القوّة. لا داعي والحالة تلك أن ننسب إليه شرف ما احتفظ به مكرها. إنّ نسبة شرف الفلسفة والعلوم إلى الإسلام لأنه لم يبادر بسحقها هو مثل نسبة شرف مكتشفات العلم الحديث إلى اللاهوتيين المسيحيين. ولم يكن اللاهوت الغربي بأقل تسلّطا من الإسلام، إلا أنّه لم ينجح في القضاء على الروح الحديثة كما قضى عليها الإسلام في البلدان التي سيطر عليها. لم ينجح الاضطهاد اللاهوتي في غربنا إلا في بلد واحد هو إسبانيا حيث حلّ نظام فظيع يقوم على القمع وخنق الروح العلمية. وأنا أسارع بالقول إن ذلك البلد النبيل سوف يثأر لنفسه يوما ما. ما حدث في العالم الإسلامي هو ما كاد يحدث في أوروبا لو نجحت محاكم التفتيش وفيليب الثاني وبيوس الخامس في مخططاتهم القاضية بمنع البشرية من الرقيّ. أنا لا أشعر صراحة بالرغبة في أن أشكر الأشرار على ما كانوا عاجزين عن إيقاعه من شرور. إنّ للأديان دورا نبيلا إذا اضطلعت بتخفيف آلام الإنسان وتقوية مواطن الوهن لإنسانيتنا البائسة. لكن لا داعي أن نشكرها على ما تطوّر رغما عنها وقد حاولت وأده منذ النشأة. وكما لا يرث القاتل ضحيته فلا يجوز أن ينتفع المضطهد بما حاول اضطهاده.
إنّ الخطأ فيما يقوم به البعض بدافع الكرم هو أنهم ينسبون إلى تأثير الإسلام حركة تطورت بالرغم عنه وكان من حسن حظها أنها أفلتت من شراكه. وأن ننسب إلى الإسلام شرف ابن سينا وابن زهر وابن رشد يعادل أن ننسب إلى الكاثوليكية شرف غاليليو. حاول اللاهوت الكاثوليكي أن يعطّل غاليليو لكنه لم يكن بالقوّة التي تكفي لإيقاف مساره، وليس هذا سببا كافيا لأن نعترف له بالفضل. أني أبرئ نفسي من نية الإساءة إلى أيّ من الأديان البشرية التي بحث فيها الضمير الإنساني عن السكينة بسبب قضايا الكون والمصير التي تؤرقه ولا حلّ لها. وللدين الإسلامي مستقبله إذا نظرنا إليه من جهة كونه دينا. ولم تطأ قدماي مسجدا قط إلاّ وتملكتني عاطفة حادّة بل لعلّي أشعر بالحسرة لكوني لست مسلما. لكن الإسلام كان للعقل البشري ضررا محضا. لا شكّ أنّ العقول التي حرمها من الأنوار كانت مهيأة لذلك بسبب عوائق ذاتية لكنّه اضطهد الفكر المتحرّر ولن أقول إنّ اضطهاده كان أكثر قسوة من أديان أخرى لكن أقول إنّ اضطهاده كان الأكثر فعالية. لقد حكم على البلدان التي ضمّها إليه بأن تظلّ منغلقة عن الثقافة العقلية.
إنّ ما يميّز المسلم جوهريا هو كونه يحمل ضدّ العلم حقدا دفينا وقناعة صلبة بأن البحث غير مجد بل هو مدعاة إلى الخطأ ويشبه أن يكون كفرا. والمسلم ينأى بنفسه عن العلوم الطبيعية لأنه يراها منافسة للعلم الإلهي ويعادي العلوم التاريخية لأنّها تحتفظ بذكرى ضلالات الماضي. ولعلّ أفضل شاهد على ما نقول هو الشيخ رفاعة (الطهطاوي) فقد أقام بباريس سنوات عديدة واعظا للبعثة المصرية ثم عاد إلى مصر وكتب رحلة تتضمن معاينات عن المجتمع الفرنسي شديدة الغرابة. كانت فكرته الرئيسية أن العلوم الأوروبية القائمة على مبدأ ثبات قوانين الطبيعة هي كلها ضلالة، ولا بدّ من الاعتراف بأنّ وجهة نظره تتناسب والرؤية الإسلامية. فالعقائد المنزلة تتعارض دائما مع البحث الحرّ الذي قد يخالفها. ليست محصلة العلوم أن تقضي على الألوهية وإنما أن تبعدها عن عالم الجزئيات حيث كان المؤمنون يرون حضورها بدون انقطاع. فالتجربة تحاصر مجال الخوارق وتضيقه والحال أنه قاعدة كلّ لاهوت. والإسلام وفيّ لمنطقه إذا ما حارب العلم لكن الوفاء قد يتحوّل أحيانا إلى خطر على صاحبه. كان من سوء حظّ الإسلام أنّه نجح في مسعاه فجنى على نفسه بقضائه على العلم وحكم على أتباعه بأن يظلوا في الدرجة الدنيا من الرقي البشري.
إذا انطلقنا من فكرة أن في البحث تعديا على حقوق الله فإننا نصل حتما إلى تعطيل ملكة العقل والإخلال بمقتضيات الدقة والعجز عن الرأي الصائب. ينهي المسلمون كلّ قول بالعبارة "الله أعلم"، إنه لأمر جيّد أن يؤمن المرء بالله لكن ينبغي أن لا تبلغ قوّة الإيمان إلى هذه الدرجة. حلّ السيّد لايارد بالموصل ورغب عند وصوله في أن يجمع بعض المعلومات عن المدينة وسكانها وتجارتها وتقاليدها لأنّه كان صاحب عقل منظم، فتوجه يطلب ذلك من قاضي المدينة الذي وافاه بالجواب التالي:
"صديقي الألمعي فخر الأحياء. إنّ ما تطلبه منّي هو أمر غير مجد بل هو أمر مضرّ. لقد قضيت كلّ حياتي في هذا البلد ولم يخطر ببالي قط أن أعدّ بيوته أو سكانه. ولا أرى من شأني أن اهتم بالبضائع التي حمّل بها زيد دابته أو شحنها عمرو في مركبه. أما تاريخ هذه المدينة فعلمه عند الله وهو القادر وحده أن يعدّ ضلالات أهلها قبل أن ينير سبحانه بصائرهم. ومن الخطر أن نحاول نحن البشر معرفتها.
"يا صديقي، يا عزيزي، لا تسعَ لمعرفة ما هو ليس من شأنك، فقد قدمت بيننا فألقينا عليك السلام وقابلناك بالترحيب، فلترحل الآن عنا بسلام. الحقيقة أنّ كلّ ما ذكرته لي لا يمسني بسوء لأنّ القائل والسامع لا يلتقيان. أنت اتبعت سنة قومك فجبت الأقطار ولم تجد لك بأرض مستقرّا. أما نحن فنحمد الله على أننا ولدنا هنا ولا رغبة لنا بالرحيل.
"اعلم يا ابني أن رأس الحكمة أن تؤمن بالله. هو خالق الكون فهل نحاول أن نبلغ علمه ونسعى إلى كشف أسرار مخلوقاته؟ تأمّل ذلك النجم الذي يرتفع في السماء والآخر الذي يجرّ ذنبه ويمضي سنوات ليقترب منا وسنوات ليبتعد، إنّ صانع النجمين هو الأكثر قدرة على أن يوجّههما في السماء.
"لكنك قد تقول: إليك عني يا رجل فأنا عالم رأيت من الأشياء ما لم تر ولم تعلم. إذا ظننت أن ما رأيت وما علمت يجعلك أفضل مما أنا عليه فلا بأس بذلك لكني أحمد الله أني لا أبحث فيما يزيد عن حاجتي من الأشياء. أنت عالم بما أنا في غنى عنه وشاهد على ما أنا متبرّئ منه. وهل إذا زادت معرفتك صنعت لنفسك معدة ثانية أو إذا تدربت على التنقيب اكتشفت بنفسك طريق الجنّة؟
"يا صديقي، إذا طلبت السعادة فقل لا إله إلا الله ثم تجنب الشرور والرذائل. فإذا فعلت ارتفعت عن نفسك خشية الموت والخوف من البشر لأنّك تدرك أنّ ساعتك إذا حانت لا تقديم فيها ولا تأخير."
إنّ لهذا القاضي طريقته في التفلسف، لكن الفارق واضح: إننا نعجب بالروح الطريفة لرسالته أما هو فيرى أنّ ما نقوله نحن هو أمر مستهجن. هذه روح مضرّة بالمجتمع بقدر ما هي مضرّة بصاحبها. ولضعف الروح العلمية نتيجتان وخيمتان هما انتشار الخرافات وغلبة الوثوقية وقد تكون الثانية هي الأشدّ خطرا. والشرق ليس ميالا للخرافة لكنّ داءه الأكبر هو الوثوقية التي تفرض نفسها بالقوّة على المجتمع بأسره. ليست الغاية التي تنشدها الإنسانية الاطمئنان للجهل وإنما الحرب الضروس ضد الباطل والنضال المرير ضدّ الشرّ.
إنّ العلم روح المجتمع والعلم هو العقل وهو السبيل للتفوّق العسكري والصناعي ومنه ينشأ يوما التفوّق الاجتماعي وأقصد سيادة قدر من العدل بين البشر بما يناسب روح الكون. العلم هو الذي يضع القوّة في خدمة العقل. ثمة في آسيا جراثيم توحش تشبه تلك التي عرفتها الغزوات الإسلامية الأولى وإعصار جنكيز خان. لكن العلم هو الذي سيقطع عليها الطريق اليوم. لو اعترضت المدفعية سبيل عمر (بن الخطاب) أو جنكيز خان لما أمكن لهما أن يتخطيا الصحراء. علينا أن لا نتوقّف عند الشذوذ المؤقت. ألم يذمّ العقلاء الأسلحة الناريّة في بداية عهدها ثم اكتشفوا بعد ذلك مساهمتها الثمينة في انتصار الحضارة؟ يقيني الشخصي أن العلم خير وأنه يمنح بنفسه أدوات مقاومة ما يرتكب باسمه من شرور وأن العلم لن يخدم في نهاية المطاف إلا الرقي الإنساني، أعني التقدّم الحقيقي الذي لا ينفصل عن احترام الإنسان والحرية.

كان يمكن لمحاضرة رينان أن تمرّ دون صخب، لولا عاملين أساسين. أولهما شخص رينان الذي لم يكن مجرد باحث أكاديمي بل كاتب يثير الجدل في كل مواقفه ويمارس تأثيرا كبيرا في الرأي العام السياسي والثقافي في فرنسا. ثانيا، وجود ثلة من المثقفين المسلمين في باريس كانوا قد لجأوا إليها بعد الاحتلال البريطاني لمصر سنة 1882. تحوّلت المحاضرة لهذين السببين إلى حدث إعلامي وحضاري ولقيت صدى ضخما وتصدّى كثيرون للردّ عليها. ومن بين الردود ما كتبه جمال الدين المدعو بالأفغاني ونشر في صحيفة "لوديبا" يوم 18-05-1883.


الردّ على رينان
صحيفة "لوديبا"، الجمعة 18 مايو / أيار 1883.
سيدي،
اطلعت في العدد الصادر بتاريخ 29 مارس من صحيفتكم المحترمة على محاضرة في الإسلام والعلم ألقاها في محفل مرموق السيد رينان الشهير الذي عمّ صيته الغرب كله وبلغ أقاصي البلدان الشرقية. ولقد أوحت إلي هذه المحاضرة ببعض الملاحظات رغبت في تسجيلها في هذه المقالة متشرفا بإرسالها إليكم رجاء أن تنشر على أعمدة صحيفتكم.
لقد سعى السيد رينان إلى توضيح مسألة تتعلق بتاريخ العرب ظلت إلى الآن غامضة، كما سعى إلى إزاحة الستار عن حقيقة التاريخ العربي. إلا أن الحقائق التي يقدمها قد تعكّر صفو من أضمر الإجلال لهذا الشعب العربي الذي لا يمكن أن يتهم بكونه قد اغتصب دون حق المكانة والرتبة اللتين احتلهما سابقا في التاريخ. ولا نظن أن السيد رينان كان يقصد النيل من مجد العرب، بل نراه قد استنفد جهده لاكتشاف حقيقة تاريخية وإذاعتها كي تكون معلومة بين الناس، وخاصة الباحثين في أثر الديانات في تاريخ الأمم والحضارات. فأبادر بالتسجيل أن السيد رينان قد برع في هذه المهمة العسيرة لأنه قدّم استدلالات على مسائل كانت خافية إلى حدّ الآن. إني أجد في محاضرته ملاحظات رشيقة ونظرات جديدة وروعة يتعذر وصفها. ولم أطلع على هذه المحاضرة إلا من خلال ترجمة تقريبية لمعانيها، فلو كنت قادرا على قراءتها بالفرنسية لأحطت بأفكار هذا الفيلسوف بأفضل مما فعلت. فليتقبل مني تحية متواضعة تكون عربون احترام وتعبيرا صادقا عن إعجابي. وأنقل إليه في هذه المناسبة قول شاعر كان يحب الفلسفة هو المتنبي، فهو القائل منذ قرون
وذنبي تقصيري وما جئت مادحا بذنبي ولكن جئت أسأل العفو
إن محاضرة السيد رينان تقوم على فكرتين أساسيتين. فقد اتجه الفيلسوف الألمعي إلى الاستدلال على أن الديانة الإسلامية هي في جوهرها ديانة تناقض تقدم العلوم، والاستدلال على أن الأمة العربية تبغض في طبعها الفلسفة وعلوم ما بعد الطبيعة.
كأن السيد رينان يقول: إن الفلسفة نبتة نفيسة يبس عودها بين أيدي العرب فكأنها تحترق بلفح رياح الصحراء. إلا أن قراءة محاضرته تدفع إلى التساؤل إذا كانت هذه العوائق تختص بالديانة الإسلامية وطريقة انتشارها في العالم، أم هي عوائق تختص بطبائع الأمم التي اعتنقت الإسلام وما تتميز به من أخلاق واستعدادات، سواء الأمم التي اعتنقت الإسلام طوعا أو بالقوة؟ لا شك أن ضيق الوقت قد حال دون توضيح المحاضر هذه المسائل. على أن الداء الذي يشير إليه حاصل، ولئن كان عسيرا تحديد الأسباب بدقة والاستدلال بالقاطع من البراهين فإن الأكثر عسرا أن نجد لهذا الداء الدواء الشافي.
أقول حول الفكرة الأولى: لا توجد بين الأمم أمّة قادرة منذ النشأة أن تتبع طريق العقل المحض. إن الرعب الذي يخيّم على كل أمّة ويحكم عليها غشاءه لا بدّ أن يمنع عنها القدرة عن التمييز بين الخير والشر وعن إدراك أسباب السعادة وتبيّن مصادر الخيبات وعوامل استمرار الشقاء. فتظل عاجزة عن استجلاء العلل وتبين الآثار.
هذه حال تمنع الأمة أن تنقاد لما فيه خيرها أو تمتنع عن المضر بها بمحض الإرادة والاختيار. فاضطرت الإنسانية أن تبحث خارجها عن موئل للسكينة وملاذ يجد فيه ضميرها المضطرب شيئا من الراحة. وبرز حينئذ بين الناس معلّمون لئن لم يكونوا قادرين على حملها على إتباع سبيل العقل فقد دفعوا بأبصارها في متاهات الغيب وفتحوا أمام أنظارها آفاقا رحبة ترضي خيالها وتجد فيها مجالا للتعبير عن آلامها عندما يتعذّر عليها الإشباع الكامل لرغباتها.
إن الإنسان لما كان جاهلا في بدئه بعلل الحوادث المحيطة به وأسرارها فقد رام تسليم أمره إلى المعلمين يتبع إرشادهم ويخضع لأوامرهم. ففرضت عليه الطاعة للكائن الأسمى الذي نسب إليه هؤلاء المعلمون كل الأحداث ومنعوا أن يجادل في الشر والخير. إني أسلم أن الإنسان قد أخضع بذلك إلى أثقل استعباد وأكبر ازدراء. لكن هل ينكر أحد أن ذلك التهذيب الديني، سواء أكان مسيحيا أم إسلاميا أم وثنيا، هو الذي كان مرشد الأمم للخروج من حال التوحش والارتقاء في طريق المدنية؟
وإذا سلّمنا أن الديانة الإسلامية كانت عائقا يحول دون تطوّر العلوم فما الذي يدفعنا إلى اليقين أن هذا العائق لا يرتفع في يوم من الأيام؟ بماذا تختلف الديانة الإسلامية عن غيرها من الديانات؟ أليست الأديان جميعا تشترك في التعصب، كل بطريقته الخاصة؟ خذ مثلا الديانة المسيحية، وأقصد الناس الذين اتبعوا تعاليم هذه الديانة وتكيف سلوكهم بأحكامها. لقد خرجت من الطور الأول الذي أشرت إليه وهي تتقدم بخطى سريعة في طريق العلم والتطور بعد أن أصبحت حرّة مستقلة. أما المجتمع الإسلامي فلم يتخلص إلى الآن من وصاية الدين. وكلما تذكرت أن الديانة المسيحية سبقت الإسلام بقرون إلا واعتراني الأمل في أن تحطّم الأمة الإسلامية يوما أغلالها وتتقدّم شامخة في طريق المدنية على شاكلة الغرب الذي لم تثنه عن ذلك العقيدة المسيحية رغم صرامتها وتعصبها.
لن أقبل أبدا أن يستثنى الإسلام من هذا المسار، وأنا أدافع هنا في وجه السيد رينان عن قضية مئات من ملايين البشر الذي سيقبعون في غياهب التوحش والجهل لولا هذا الأمل، ولا أدافع عن قضية الدين الإسلامي.
أقرّ بأن الإسلام حاول خنق العلم وعرقلة تطوّره، فنجح في تعطيل حركة الفكر والفلسفة وأثنى العقول عن البحث عن الحقائق العلمية. لكن الديانة المسيحية لم تكن على علمي براء مما يشبه هذا، فرؤساء الكنيسة الكاثوليكية وهم الممثلون للأغلبية لم يلقوا إلى الآن أسلحتهم في المعركة ضد العلم. ومازالوا يحاربون حربا ضروسا ما يدعونه التدليس والضلالة.
إني أدرك أن المسلمين سيواجهون مصاعب جمة في سبيل بلوغ المدنية لأنهم ممنوعون من اقتحام الطرق الفلسفية والعلمية. والمؤمن عندهم مدعوّ إلى الابتعاد عن طلب الحقيقة العلمية التي هي حقيقة الحقائق، كما يشهد ذلك الأوروبيون. فهو مثل الثور المقرون إلى العربة، إنه مقرون إلى العقيدة مستعبد لها مدفوع أبدا إلى السير في المنهاج الذي خطه له الفقهاء. كما نراه مقتنعا بأن دينه حاو كل الأخلاق والعلوم فلا يرى حاجة إلى التطلع إلى مصدر غيره ولا يشعر بفائدة في أن يرهق نفسه بتفكير يبدو غير ذي جدوى بعد أن ساد لديه اليقين بأنه يمتلك كل الحقائق. هل يفقد الإيمان ويترك ما هو عليه من سعادة أو يدرك أن الكمال ليس الدين الذي يدين به؟ إن الخشية من لفح الحيرة تجعله نفورا من إعمال العقل.
أدرك هذا تمام الإدراك، لكني أخالف السيد رينان في الوصف الذي قدّمه لكم للفتى العربي المسلم عندما رسم هيأته في عبارات قاسية، قائلا إنه يتحوّل بتقدّم السن إلى متعصب أحمق متكبر لشعوره بامتلاك الحقيقة المطلقة. إن هذا الفتى ينتمي إلى جنس ترك بالغ الأثر عند دخوله حلبة التاريخ، ولم يكن أثره السيف وحده فقد قدّم أيضا الأعمال الجليلة التي تثبت ولعه بالعلوم، العلوم جميعا ومنها الفلسفة التي اعترف أنه لم يتحمّلها إلا فترة قصيرة.
أراني أساق هنا إلى الحديث عن المسألة الثانية التي طرحها السيد رينان في محاضرته ببراعة واضحة. لا ينكر أحد أن الأمة العربية خرجت من وضع التوحش الذي كانت عليه في الجاهلية وأخذت تسير في طريق التقدم العلمي والذهني في سرعة لا تعادلها إلا سرعة الفتوحات، فاستوعبت خلال قرن كل العلوم الإغريقية والفارسية التي كانت في منشئها الأصلي قد ّتطوّرت ببطء وامتدّ تطورها قرونا. وفي مدة لم تتجاوز القرن أيضا امتدت فتوحات العرب من الجزيرة العربية إلى جبال الهمالايا وقمم البيرنيس. فتقدمت العلوم تقدّما مدهشا في تلك الفترة وشملت كل مجتمعات العرب والمجتمعات الخاضعة لسلطانهم. كانت رومية وبيزنطة في السابق مهدين للعلوم اللاهوتية والفلسفية ومركزي أنوار المعارف الإنسانية جميعا، وقد دخل اليونان والرومان عصر المدنية منذ أمد بعيد فكانت لهم القدم الراسخة في ميدان العلم والفلسفة. ثم جاء عصر توقف فيه علماء اليونان وروما عن البحث وتخلوا عن الدرس، فهدمت النصب التي أقاموها للعلم ودرجت كتبهم القيمة في طي النسيان. وقد كان العرب في وضعهم الأصلي من الجهل والتعصب حين ورثوا عن الحضارات المتمدنة ما تخلت عنه، ومع ذلك فقد أحيوا العلوم المندثرة وطوروها وأعادوها إلى الحياة بما لم يسبق له مثيل. أليس هذا دليلا على تعلقهم الفطري بالعلم؟
أجل، أخذ العرب عن اليونان فلسفتهم كما جرّدوا الفرس عن ما اشتهروا به في العصور القديمة. لكن هذه العلوم التي اغتصبوها بحقّ الفتح قد طوّروها ووضحوها ووسعوها ونسقوها بذوق كامل ودقة نادرة. ثم إن روما وبيزنطة لم تكونا أقرب للعرب وعاصمتهم بغداد من الفرنسيين والألمان والإنجليز، فلماذا لم يبذل هؤلاء جهدا في سبيل استغلال الكنوز العلمية المطمورة في تلك المدينتين إلى أن أنارت المدنية العربية على قمم جبال البرينيس وأشعت ضياء وبهاء على الغرب؟ أجل، استقبل الأوروبيون أرسطو بعد أن توشّح بالزي العربي، لكنهم لم يهتموا به عندما كان قابعا بين جيرانهم اليونان (المسيحيين الشرقيين). أوليس هذا برهان ناصع ثان على تفوّق العرب في مجال الفكر وتعلقهم الفطري بالفلسفة؟
حقا سقطت في الجهل ثانية الأقطار التي كانت مراكز المعرفة مثل العراق والأندلس بل أصبحت أوكارا للتشدّد الديني، لكن لا يمكن أن نستنتج من هذا المصير البائس أن العرب كانوا غائبين عن الحركة العلمية والفلسفية في القرون الوسطى وهم الذين كانوا أصحاب السيادة آنذاك.
إن السيد رينان يقرّ لهم بذلك على كل حال، ويعترف أنهم حفظوا قرونا تراث الإنسانية العلمي وطوّروه. وهل من رسالة أكثر نبلا من هذه يمكن لأمة أن تضطلع بها؟ يسلّم السيد رينان أن الأقطار الإسلامية ضمّت علماء ومفكرين عظاما طوال خمسة قرون من سنة 775 ميلادي إلى أواسط القرن الثالث عشر. وكان العالم الإسلامي آنذاك يتفوق على العالم المسيحي في الثقافة والعلوم. لكننا نراه يقول إن النابغين من رجال الإسلام كانوا في الغالب من أصل حراني أو أندلسي أو فارسي أو أنهم كانوا من نصارى الشام. ولست أقصد أن أغمط علماء الفرس صفاتهم الباهرة ولا أن أغض الطرف عن الدور الجليل الذي اضطلعوا به في العالم العربي، ولكن أرجو أن يسمح لي بأن ألاحظ أن الحرانيين كانوا عربا وأن العرب لما احتلوا إسبانيا والأندلس لم يفقدوا جنسيتهم وظلوا عربا. إن اللغة العربية كانت قبل الإسلام عدّة قرون لغة الحرانيين، ولا يتناقض ذلك وكونهم قد حافظوا على ديانتهم القديمة وهي الصابئية كما لا يلغي ذلك انتماءهم للجنس العربي. كذلك كان رهبان الشام في الغالب من العرب الغساسنة الذين اعتنقوا المسيحية.
أما ابن باجة وابن رشد وابن طفيل فلا يمكن القول إنهم كانوا أقل عروبة من الكندي لأنهم نشأوا خارج الجزيرة العربية، فالعامل الأكبر في تميز الأجناس البشرية هو اللغة، ولو ارتفع التمايز باللغة لنسيت الأمم أصولها. إن العرب الذين سخروا أنفسهم لخدمة الشريعة المحمدية وكانوا في الآن ذاته رعاة ومحاربين لم يفرضوا لغتهم على المغلوبين بل احتفظوا بها لأنفسهم وكانوا غيورين بها على الغير. من المسلم أن الإسلام قد دخل البلدان المفتوحة بالعنف الذي نعلم ففرض لغته وتقاليده وعقائده ولم تقدر هذه البلدان على التخلص من نفوذه، وتمثل بلاد فارس مثالا على ما نقول. لكننا إذا بحثنا في القرون السابقة لظهور الإسلام وجدنا علماء فارس على دراية باللغة العربية. فلئن مكنت الفتوحات من تسريع انتشار اللغة العربية فقد أصبح علماء فارس بعد اعتناقهم الإسلام يفخرون بتحرير مؤلفاتهم في لغة القرآن. لا شك أنه لا يحقّ للعرب أن ينسبوا لأنفسهم مجد انتماء هؤلاء الكتاب إليهم لكننا نعتقد أنهم لا يحتاجون إلى ذلك إذ بينهم العدد الكافي من العلماء والكتاب العظام.
ثم ما عسى تكون النتيجة لو أننا تابعنا العرب منذ انطلاق الفتوحات إلى سيطرتهم على العالم فأقصينا كل أجنبي عنهم وعن أحفادهم ولم نعدّ من مزاياهم الأثر الذي تركوا في الأذهان والدفع الذي قدموا للعلوم؟ ألسنا نضطر حينئذ أن نقصر مزايا الفاتحين وخصالهم على حادثة الفتح وحدها؟ آنذاك يسترجع كل شعب مغلوب استقلاله المعنوي ويسند لنفسه المجد كله فلا يبقى شيء يفتخر به هؤلاء الذين زرعوا الزرع وسقوه.
لو عمّمنا هذا الأسلوب لقالت إيطاليا لفرنسا إن مازارين ونابليون إنما ينتميان إليها، ولطالبت ألمانيا وإنجلترا أن ينسب إليهما فخر من رحل من أبنائها إلى فرنسا وتعلم في جامعاتها ورفع عاليا مكانتها العلمية. أما الفرنسيون فسينسبون إلى أنفسهم الأمجاد التي حققها الأحفاد من الأسر النبيلة التي توزعت في أوروبا بعد الثورة الفرنسية.
فإذا كان الأوروبيون ينتمون جميعا إلى نفس العرق فإنه يصحّ أيضا أن يعدّ الحرانيون والسوريون منتمين إلى العائلة العربية الكبرى، وجميعهم من الساميين.
بيد أنه يمكن التساؤل كيف انطفأت جذوة الحضارة العربية بعد أن أبهرت العالم بضيائها؟ وكيف ظلّ هذا المشعل منطفئا والعرب غارقين في لجج الظلام؟
هنا تبدو الديانة الإسلامية مسؤولة، فمن الواضح أنه حيثما حلّت فقد خنقت العلم، وأعانها الاستبداد إعانة كبرى على تحقيق مقاصدها. يروي السيوطي أن الخليفة الهادي أعدم في بغداد خمسمائة فيلسوف ليطهر الإسلام من جرثومة العلم في بلاد المسلمين. وإذا سلمنا أن هذا المؤرخ قد بالغ في عدد الضحايا فلا مجال لإنكار أن هذه المجزرة قد حدثت وأنها تمثل لطخة في جبين هذه الديانة وفي تاريخ الأمة. لكن أراني قادرا على أن أجد في ماضي الديانة المسيحية حوادث من هذا القبيل. إن الديانات كلها تتشابه وإن تعددت أسماؤها ولا مجال للتوافق أو التوفيق بينهما وبين الفلسفة. فالدين يفرض على الإنسان عقائد والفلسفة تحرّره منها أو من بعضها. كيف يمكن والحال هذه أن يتوافقا؟
دخلت الديانة المسيحية أثينا والإسكندرية متواضعة متوددة، وكانت المدينتان على ما هو معلوم المركزين الرئيسيين للعلوم والفلسفة، ثم استقرت المسيحية فيهما وتوطنت فكان أول همها إلغاء العلوم الحقيقية والفلسفة. فخنقتهما ورمت بهما في أدغال المجادلات اللاهوتية، وأصبحت قادرة بذلك على أن تستدلّ على ما لا يمكن الاستدلال عليه بالعقل، من أسرار التثليث والتجسّد وتحوّل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه. تلك سنّة الأديان، كلما سادت وقويت إلا واتجهت إلى إلغاء الفلسفة، وكذلك تسلك الفلسفة إذا آلت إليها السيادة. وسيستمر الصراع بين العقيدة والنظر الحرّ وبين الدين والفلسفة استمرار التاريخ الإنساني. إنه صراع شديد أخشى أن لا تكون الغلبة فيه دائما للنظر الحرّ، فالعقل لا يوافق الجماهير وتعاليمه لا يفقهها إلا نخبة المتنورين. والعلم، على ما به من بهاء، لا يرضي الإنسانية كل الإرضاء وهي المتعطشة إلى المثل العليا التواقة إلى التحليق في الآفاق المبهمة البعيدة التي لا عهد للفلاسفة برؤيتها أو ارتيادها.
جمال الدين الأفغاني

قرأ رينان ردّ الأفغاني المنشور في صحيفة لوديبا الفرنسية بتاريخ 18/05/1883 وأجاب عليه في اليوم الموالي بتعليق نقدّم هنا تعريبه:

طالعت أمس بما هي جديرة به من اهتمام الأفكار النبيهة التي قدّمها الشيخ جمال الدين حول
محاضرتي الأخيرة بالسوربون. لا شيء أكثر فائدة من أن ندرس وعي الآسيوي المستنير وهو يعبّر عن نفسه بصدق وأصالة. والإنصات إلى الأصوات المتباينة وهي تنبعث من أنحاء العالم للدفاع عن العقلانية يدفع إلى الاعتقاد بأن البشر لئن فرقت بينهم الأديان فقد وحّد بينهم العقل. ووحدة العقل البشري هي النتيجة العظمى والمسلية التي يسفر عنها الصدام السلمي بين الأفكار إذا ما صرفنا النظر عن الادعاءات المتناقضة للرسائل المدعوة بالسماوية. يبدو اتحاد العقول السليمة في الكون لمحاربة التعصب والخرافة عملا مخصوصا بنخبة لا شأن لها، لكن الحقيقة أن هذا الاتحاد هو الأمر الوحيد الدائم لأنه قائم على الانتصار للحقيقة وسينتهي بالتغلب يوما ما عندما تنهار الخرافات وتتشظى في وحدات عريقة من التشنجات العاجزة.
لقد تعرفت على الشيخ جمال الدين منذ شهرين تقريبا وتم ذلك بفضل معاوننا العزيز السيد غانم. قليلا هم الأشخاص الذين التقيت فتركوا في نفسي انطباعا بالقوة التي تركها لقاؤه. وقد كانت محادثتي معه آنذاك الدافع الأكبر لاختياري موضوع العلاقة بين الروح العلمية والدين الإسلامي موضوعا لمحاضرتي بالسوربون. إنّ الشيخ جمال الدين رجل أفغاني قد تحرّر كليّا من المسلمات الإسلامية وهو ينتمي إلى الأعراق النشطة لشمال إيران المجاورة للهند فهناك تتواصل الروح الآريّة القويّة تحت حجاب رقيق من الإسلام الرسمي. وهو البرهان الساطع على المصادرة الكبرى التي وضعنا ومفادها أنّ قيمة كلّ دين تتحدّد بقيمة الأعراق التي تعتنقه. كانت ترشح من جمال الدين حرية الفكر ونبل الطباع فخلت وأنا أتحدث إليه بأني أجالس أحد معارفي القدامى وقد بعث حيا، لقد رأيت فيه ابن سينا وابن رشد وغيرهما من كبار الملحدين الذين مثلوا لمدة خمسة قرون تراث العقل الإنساني. كان الفارق يبرز أمامي بجلاء كلما قارنت هذا الحضور القويّ بالصور التي تبدو عليها البلدان الإسلاميّة بعد فارس، فهي بلدان قد اختفت فيها أو تكاد الروح الفلسفية والعلمية. إنّ الشيخ جمال الدين هو أفضل مثال يمكن تقديمه للصمود العرقي ضدّ الغزو الديني، وهو يؤكد ما لم يفتأ مستشرقو أوروبا الأذكياء يذكرونه: إنّ أفغانستان هي البلد الآسيوي الأكثر احتواء للعناصر المكونة لما ندعوه الأمّة بعد اليابان.
إني لا أرى في المقال العالم الذي كتبه الشيخ إلا مسألة واحدة هي محلّ خلاف بيننا. يرفض الشيخ التمييز الذي يدفع إليه النقد التاريخي في هذه الظواهر المعقّدة التي تدعى الإمبراطوريات والغزوات. فالإمبراطورية الرومانية التي كان للعرب صلات بها عديدة هي التي جعلت اللغة اللاتينية لسان حال العقل البشري في الغرب إلى حدود القرن السادس عشر. وقد كتب بهذه اللغة ألبرت الأكبر وروجر باكون وسبينوزا مع أنّنا لا نعتبرهم من اللاتينيين. وكذلك نقحم في تاريخ الأدب الإنجليزي بيد ( Bède ) وألكوين ( Alcuin ) أو في تاريخ الأدب الفرنسي غريغوار دي تور ( Grégoire de Tours ) وأبيلارد ( Abélard ) وعندما لا نعتبرهم من اللاتينيين فلا يمكن أن نتهم بالتقليل من شأن روما في تاريخ الحضارة، فكذلك نحن لم نقصد التهاون بشأن الحركة العربية. وكل هذه الحركات الإنسانية الكبرى تظلّ بحاجة إلى مزيد التحليل. لكن ليس كلّ ما كتب باللاتينية هو من أمجاد روما ولا كلّ ما كتب باليونانية هو تراث إغريقي ولا كلّ ما كتب بالعربية هو إبداع عربي ولا كلّ ما حصل في المجتمعات المسيحية هو من نتائج الدين المسيحي ولا كلّ ما حدث في البلدان الإسلامية هو من ثمرات الإسلام. هذا هو المبدأ الذي كان قد اعتمده العلامة رينهارد دوزي في تاريخه للأندلس وهو عالم مشهود له بالكفاءة تأسف أوروبا هذه الأيام لوفاته. لقد طبّق هذا المبدأ بحكمة نادرة. فالتمييز الذي دعونا إليه ضروري كي لا نجعل من التاريخ نسيجا من الأفكار التقريبية والالتباسات.
بدا للشيخ أني لم أكن عادلا في مسألة أخرى إذ لم أتوسّع في تأكيد أنّ كلّ أديان الوحي تعادي العلم الوضعي وأنّ المسيحية في هذا المجال ليست بأقلّ ذنبا من الإسلام. هذا أمر لا يرقى للشكّ. لم يكن مصير غاليليو مع الكاثوليكية بأفضل من مصير ابن رشد بين المسلمين. وصل غاليليو إلى الحقيقة في بلد كاثوليكي على الرغم من الكاثوليك كما تفلسف ابن رشد بنبل في بلد مسلم على الرغم من الإسلام. إذا لم أشدّد كثيرا في بيان هذه المسألة فلأنّ مواقفي حولها مشهورة بما يغني عن إعادتها أمام جمهور مطلع على أعمالي. لم أرني مضطرّا إلى أن أعيد في كلّ مناسبة ما كرّرت دائما: ينبغي أن يتحرّر العقل من كلّ عقيدة غيبية إذا رغب في تسخير طاقاته في وظيفتها الرئيسية، أقصد تشييد صرح المعرفة الوضعيّة. ليس المطلوب هدما عنيفا ولا قطيعة قاسية. ليس القصد أن يتخلّى المسيحي عن المسيحيّة ولا المسلم عن الإسلام. إنما المطلوب أن يشترك المستنيرون في المسيحية والإسلام من أجل بلوغ وضع "اللامبالاة الرفيقة" حيث تفقد العقائد الدينية شراستها. لقد تحقّق هذا الوضع في نصف العالم المسيحي تقريبا ونأمل أن يتحقّق مستقبلا في الإسلام. ومن الطبيعي أن أكون أنا والشيخ في طليعة المرحبين عندما يحدث ذلك.
لم أقل إنّ كلّ المسلمين على اختلاف أعراقهم كانوا جميعا جهلة وإنما قلت إنّ الإسلاميّة وضعت الكثير من العراقيل أمام العلم وقد نجحت مع الأسف منذ خمسة أو ستة قرون في أن تمحق العلوم في البلدان التي سيطرت عليها وقد كان ذلك سبب بؤس تلك البلدان. واعتقادي أنّّ نهضة الإسلام لن تحصل بالعودة إلى هذا الدين ولكن بإضعاف تأثيره في البلدان الإسلامية. وكذا تحقّقت نهضة البلدان المصنفة مسيحية بتحطيم استبداد الكنيسة الذي تواصل كلّ العصر الوسيط. ظنّ البعض أنّ في محاضرتي نيّة الإساءة لمعتنقي الإسلام، وأنا أتبرّأ من هذه النيّة لأنّي اعتقد أنّ الضحيّة الأولى للإسلام هو المسلم نفسه. لقد رأيت مرّات عديدة خلال رحلاتي في المشرق أنّ مصدر التعصّب عدد محدود من الأشخاص العنيفين الذين يخضعون غيرهم بالقوّة للممارسات الدينيّة. وأفضل مساعدة يمكن لنا أن نقدّمها للمسلم هي أن نحرّره من دينه. لا اعتقد أني أضمر للمسلمين شرّا إذا كنت أتمنّى لهم أن يحطموا القيود التي تكبلهم خاصة وأن بينهم أشخاصا كثيرين من ذوي الهمّة. وبما أنّ الشيخ جمال الدين يدعوني إلى الإنصاف بين الديانات فإني لا أظنّ أيضا أنّي أضمر الشرّ لبعض البلدان الأوروبيّة إذا ما تمنيت للمسيحيّة فيها أن تكون أقلّ نفوذا.
إنّ التباين بين الليبراليين حول هذه المسائل المختلفة ليس بالتباين العميق فهم جميعا يصلون إلى نفس النتيجة العمليّة سواء أكانوا متعاطفين أو غير متعاطفين مع الإسلام. والنتيجة هي ضرورة تعميم المعارف بين المسلمين. هذا أمر جيّد شرط أن يكون المقصود المعارف الجديّة التي تنمّي ملكة التعقّل. وسأكون سعيدا إذا ساهم القادة الدينيّون من المسلمين في تحقيق هذا العمل الرائع، لكنّي أصارحكم بأنّ لديّ شكوكا في ذلك. سوف يبرز أشخاص متميزون (القليل منهم سيبلغ تميّز الشيخ جمال الدين) وسوف ينفصلون عن الإسلام كما انفصلنا نحن عن الكاثوليكيّة. بعض البلدان سوف تبتعد بمرور الوقت عن الشريعة لكن أشكّ في أن تحظى النهضة الإسلاميّة بتأييد الإسلام الرسمي. وكذلك لم تصاحب الكاثوليكيّة النهضة العلميّة لأوروبا ولا عجب أن تظلّ الكاثوليكية تقاوم إلى اليوم ما هو لبّ العقلانية الإنسانية، أقصد قيام الدولة المحايدة بين العقائد التي تعتبر منزّلة.
ينبغي أن تكون الحريّة الإنسانيّة واحترام الإنسان القاعدة التي تعلو ولا يعلى عليها. من واجب المجتمع المدني أن لا يسعى لتقديم الضمانة لأي دين ولا يفرضه على أتباعه إذا رغبوا في التخلّص منه كما من واجبه أن لا يسعى إلى هدم الديانات بل عليه أن يتعامل معها بحسن القبول باعتبارها تجليات حرّة للطبيعة البشريّة. وإذا ما تحوّلت الأديان إلى مواضيع حرّة وشخصيّة مثل الأدب والذوق فإنّها ستتغيّر كليّا. سوف تتخلّص الأديان حينئذ من الكثير من مساوئها عندما تتخلّى عن الروابط الرسميّة التي تربطها بالدولة. قد يبدو هذا التصوّر طوباويّا في الوقت الحاضر لكنّه سيتحقّق في المستقبل. كيف يمكن لكلّ دين أن يتصرّف مع أنظمة الحريّة التي ستفرض نفسها في المجتمعات الإنسانيّة بعد طول عناء؟ هذا سؤال لا يمكن أن يجد بيانه في عدد محدود من الجمل. ولم أقصد في محاضرتي إلاّ أن أخوض في شأن تاريخي وقد بدا لي أنّ الشيخ جمال الدين قد قدّم حججا قويّة لأطروحتين أساسيتين مما قصدت الدفاع عنه: الأولى أنّ الإسلام لم ينجح في النصف الأوّل من عهده في إيقاف تدفق الحركة العلمية في المجتمعات الإسلاميّة والثانية أنّه خنق هذه الحركة في النصف الثاني من عهده فحاق به شرّ ما أقدم عليه.
أرنست رينان.