الصفحات

الخميس، 5 مارس 2009

عن المواطنة والمجتمع المدني والطوائف في التجربة اللبنانية

" عن المواطنة والمجتمع المدني والطوائف في التجربة اللبنانية"
مداخلة في مؤتمر "المواطنة والمجتمع المدني"، الذي عقده مركز الجزويت الثقافي في الاسكندرية،نيسان 2002 منذ 1989 تحديداً أي مع بداية انهيار المعسكر الاشتراكي "وعلى رأسه الاتحادالسوفياتي العظيم" ، انتشرت كتابات أميركية تُعيد نبش مفهوم وفكرة "المجتمع المدني" وتركّز عليها بحيث حولّتها إلى أداة تحليلية، وإلى قيمة معيارية، وإلى دعوة تغييرية في آن معا". (1) وكانت الفكرة قد راجت أولا" في السبعينات وذلك إبان الصراع بين نقابة العمال (تضامن) وبين الدولة في بولونيا. إلا أنه لم تكتسب نفس الحفاوة قبل سقوط جدار برلين. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى قوة وهيمنة التراث الماركسي وتنوعاته المختلفة في الوسط الثقافي والفكري للمشتغلين والباحثين في العلوم الاجتماعية والسياسية. ولم تشهد الفكرة (ولا المفهوم ) انتشارا" وتداولا" في بلادنا قبل عام 1992(أي تاريخ انتهاء حرب الخليج الثانية واعلان مؤتمر مدريد للسلام والسقوط النهائي للمعسكر الشيوعي وتفكّك الاتحاد السوفياتي). ومن ملاحظتنا وخبرتنا في لبنان أكّدنا مبكرا" بأن انبعاث فكرة ومفهوم المجتمع المدني قد ترافق مع ضمور شديد في السياسة والمجتمع. (2) وقد أشار عزمي بشارة إلى نفس الأمر في تحليله لرواج الفكرة في فلسطين المحتلة بدءا" من عام (1989) فأعاد ذلك إلى ضمور شديد في السياسة والمجتمع عقب أزمة الانتفاضة (المقصود الانتفاضة الأولى 1987) التي بدأت تستنفد طاقاتها وطاقات المجتمع ، ثم أُفولها ونجاح إسرائيل في فرض شروط الهزيمة على السياسة والمجتمع الفلسطيني . وهو ذهب أبعد من ذلك حين قرر بأن سيطرة المفهوم الجديد (المجتمع المدني) بعد إجهاض الانتفاضة هو "عملية إجهاض سياسية ، عملية لا تسييس"، ودورها هو دور "العميل المزدوج الذي يعادي السياسة باسم الديمقراطية ثم يدير ظهره للديمقراطية باسم كونها معركة سياسية والواجب هو ليس خوضها وإنما بناء المجتمع المدني"(3)
وأنا شخصيا" من الذين قالوا ويقولون بأن المجتمع المدني دون سياسة وخارج سياق المعركة من أجل الديمقراطية هو عملية إجهاض.
ولقد تحولت عبارة المجتمع المدني إلى موضة أو تقليعة في الوطن العربي بدءاً من مطلع التسعينات من القرن الماضي، بحيث أخذ المصطلح "يحتل موقع الصدارة في التحليلات الاجتماعية والسياسية العربية"، وبحيث انتشرت الدعوات إلى "تفعيل المجتمع المدني" وإلى تأسيس لجان المجتمع المدني وتكوين المنظمات غير الحكومية في أكثر من قطاع ومجال، "مما يُعبّر أحسن تعبير عن حضور هذا المفهوم لدى النخب الثقافية واعتباره أداة لعبور الأزمة وتجاوزها " على حد وصف أحد المقالات(4). وبغض النظر عما في الكثير من الكتابات والمقالات العربية حول المجتمع المدني، من ثرثرة فارغة وضحالة معرفية، فان الشيء الذي تكشف عنه تلك المقالات هو ذهنية "استخدام المفهوم" من جهة، و "لعبور الأزمة"من جهة أخرى.. أما الأزمة فهي أزمة نخب ثقافية بعينها وجدت نفسها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي خارج المجتمع وخارج السياسة ، فاستخدمت المفهوم لعبور أزمتها هي وليس أزمة مجتمعاتها. ذلك أن "غموض المفهوم واسترخاءه خارج السياسة" (على حد وصف عزمي بشارة) يجعل من السهل تطويعه في خدمة عدة أنواع من السياسات ، قد يكون بعضها أو معظمها معاديا" أصلا" للديمقراطية وللحرية ولحقوق إلانسان.
ويبدو أن هذا الاستخدام الانتهازي هو الذي حصل بعد عام 1990. فمع سقوط المرجعية الرسمية للتيار اليساري في العالم العربي (المعسكر الاشتراكي بقيادة موسكو) ومع دخول البلاد العربية في مفاوضات مدريد وانهيار النظام العربي الرسمي بعد حرب الخليج وإجهاض الانتفاضة الأولى في فلسطين ، فان "المجتمع السياسي" قد خضع بالكامل للأنظمة المحافظة وللدكتاتوريات التقدمية الحديثة من جهة ، ولتيارات العمل السياسي إلا سلامي من جهة أخرى . وقد أدى ذلك إلى أزمة شديدة لدى النخب اليسارية والقومية يصفها عزمي بشارة "بالبطالة السياسية وبالهامشية المفروضة" ومن هنا سرعة تلقف هذه النخب لمفهوم وفكرة المجتمع المدني واحتشادهم خلفه لخوض معاركهم في مكان خارج المجتمع السياسي . وهكذا شهدت البلاد العربية ومنذ عام 1992 ظاهرة تفريخ مئات المنظمات غير الحكومية ومراكز أبحاث الديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق إلانسان والبيئة(5) على يد مناضلين سابقين في اليسار القومي والماركسي وخصوصا" في جناحه الشيوعي السوفياتي (الموصوم عادة بالستالينية وبالجمود) وأخذ هؤلاء يطلقون على عملهم وعلى منظماتهم اسم المجتمع المدني.(6)
ولا يهدف هذا الكلام إلى إصدار حكم قيمي على تجربة التسعينات، إلا أن تسجيل هذه الملاحظات، والانتباه إلى خفوت صوت وضمور حضور تلك المنظمات والجمعيات بعد 11 أيلول 2001، يحتاج إلى أكثر من قراءة وتفسير.
وباعتقادي فان احتدام الصراع السياسي الخارجي والداخلي، وعودة المجتمع الأهلي إلى احتلال ساحات العمل المباشر والحضور السياسي الفاعل وخصوصا" بعد الحملة الأميركية الإسرائيلية على فلسطين،وبعد حرب غزو واحتلال العراق وأفغانستان، قد دفع إلى الخلف ورشات العمل والندوات والمؤتمرات وحلقات الدراسة وغيرها من الأطر واللقاءات التي كانت تنعقد في فنادق الدرجة الأولى في القاهرة وبيروت وتونس وعمّان ...(7)
وما أريد أن أخلص إليه هنا هو أن ما سبق لا يستهدف النيل من تلك الهيئات والمنظمات وفيها مناضلون ومناضلات أحترمهم وأُقدر جهودهم ، وإنما الإشارة إلى حقيقة كيفية تسرّب فكرة ومفهوم وممارسة المجتمع المدني إلى بلادنا العربية، وإلى ضرورة بلورة إطار جديد لتصوّر المجتمع المدني ]أو بالأصح للعلاقة بين المجتمع والدولة[ في بلادنا بما يجعل مؤسسات المجتمع المستقلة والناشطة قاعدة للعمل السياسي الديمقراطي وللنضال في سبيل القضايا العامة (وليس فقط القضايا الجزئية) ويجعلها تعيد إنتاج ذاتها مجتمعيا" باستقلال عن الدولة (وليس بالضرورة معها أو ضدها) وعن أموال المساعدات الأجنبية التي ربما كانت ضرورية في المراحل الماضية.

المسألة الأخرى في حديثنا عن المجتمع المدني في لبنان هو ملاحظة وتسجيل تلك الحقيقة المعروفة في كل العالم العربي وهي وجود وقوة واستمرارية مؤسسات "المجتمع الأهلي" في بلادنا، رغم استخدام تعبير "السياسة المدنية" في تراثنا الفكري كما عند الفارابي وابن خلدون (وهما يربطانها بالنموذج المثالي "المدينة الفاضلة" لدى الفلاسفة).

وبغض النظر عن انتماءات وغايات القائمين على الجمعيات المعروفة باسم المجتمع المدني فإن الجميع قد استخدم المصطلح في تقابل عدائي مع "المجتمع الأهلي" أو الأصلي – التقليدي. ففي وعي المثقف العربي الحديث (وبغض النظر عن التصاق المصطلح بالتجربة الغربية وبالممارسة الديمقراطية الليبرالية) فإن "المجتمع المدني" هو القيّم على الشأن الخاص المتعلق بالفرد وحياته الشخصية ، وهو القائم على البنى والتنظيمات الحديثة بمواجهة أو في مقابل المجتمع الأهلي أو البنى التقليدية القديمة من دينية وعشائرية ومناطقية، الأمر الذي يجعل المصطلح كما يستخدمه المثقف العربي شديد الالتصاق بتشكل حقوق المواطن ووعي هذا الأخير مواطنيته في اجتماع سياسي مدني على النمط الغربي حيث المدني مواجه للديني من جهة وللسلطة التوتاليتارية ( أو العسكرية) من جهة أخرى ، فيكون المجتمع المدني قيّما" أيضا" وفي آن معا" على الحرية والديمقراطية في مواجهة السلطة والدولة، وعلى الحداثة والتقدم في مواجهة الدين والبنى التقليدية .
والحقيقة أن هذا الاستخدام يثير إشكالية أساسية هي لغوية مفاهيمية. ففي حين أننا نجد في اللغات الأجنبية الغربية تطابقا" وتدرجا" في الاشتقاق اللغوي والمفاهيمي معا" بين مصطلحات: civique- civile -cité وcitoyen ، فإن تعبير المواطنة الذي شاع استخدامه لترجمة Citoyenneté يخرج عن المدنية والمدني ويستعير تعبير الوطن كأساس للاشتقاق .. وهذا أمر لا يعكس فحسب إشكالا" لغويا" وإنما أيضا" إشكالا" مفاهيميا" في المصطلح. من هنا تفضيلنا استخدام المصطلح الذي شاع في تراث العرب والمسلمين والصادر عن اجتماعهم السياسي وهو المجتمع الأهلي، بما هو وعاء لبشر ينتجون سياسة وثقافة وسلعا" وعلاقات تبادل في علاقاتهم بالدولة بما هي هيئة حاكمة ومنظمة وضابطة لعلاقات هؤلاء البشر.(8) إن هذا يجعلنا نقرر بان مصطلح المجتمع الأهلي في التاريخ الاجتماعي السياسي العربي هو الذي يوازي مفهوم المجتمع المدني الحديث من حيث دلالة استقلالية المجتمع عن الدولة عبر مؤسسات ومنظمات مستقلة أو شبه مستقلة أو وسيطة. إن هذا لا يعني استبدال أو المفاضلة بين مؤسسات حديثة ومؤسسات قديمة، ولا التبشير بنموذج تاريخي ناجز أو العودة إلى الأصول التاريخية بقدر ما نهدف إلى إيجاد واستخدام مصطلح ومفهوم يعبّران عن حقيقة الانتظام الاجتماعي والمجتمعي في بلادنا.
وهكذا يبدو المجتمع المدني أو الأهلي ، نمطا" في تنظيم المجتمع يتعلق بعلائق الأفراد فيما بينهم لا بصفتهم مواطنين في دولة ولكن من حيث هم منتجون لأوضاعهم المعيشية ولمعتقداتهم ومقدساتهم وحرماتهم . ويبدو أيضا" مُسمى يُطلق على البنى والتنظيمات المختصة والمنتجة لأوضاع الناس العائلية والاجتماعية والاقتصادية والدينية والخارجة عن اختصاص سلطة الدولة.
إن ما سبق يبدو ضروريا" في ضوء ما نعرفه عن الدلالات العديدة لمفهوم civil كما ترد في المعاجم الفرنسية والانكليزية وإلالمانية والممكن إيجازها بما يلي :
1- انه متعلق بالدولة.
2- انه متعلق بالتعامل العادي للدولة مع مواطنيها لتمييزه من التعامل العسكري والجنائي والاكليركي أو الديني.
3- انه متعلق بالتعامل مع مواطني دولة لتمييزهم عن القوى الأجنبية كما هو الحال في استخدامنا لعبارة الحرب الأهلية guerre civile- civil war بمعنى الداخلية أي بين مواطني الدولة.
إذن ، نحن أمام تذكير مستمر لنا بأن civilلا يشتق من civilization (مدنية) وإنما من civis مواطن ومن civitas (المدينة العتيقة) باللاتينية وهو في كل الاحوال مفهوم غير مستقل بقدر ما هو متعلق بالدولة . وفي دلالات أخرى له انه علماني أي منفصل عن شؤون الدين وعن الشؤون العسكرية وعن الجنائي (( القانون الجنائي مثلا" هو جزء من القانون المدني ولكن في الجنائي تدخل الدولة كطرف يمثل الحق العام أما القانون المدني بمعناه الضيق فهو تنظيم للعلاقة بين المواطنين لا تدخل الدولة كطرف فيها إلا إذا تحوّلت إلى جنائية )). ولن ندخل هنا في استعراض نظري وفكري لكيفية نشوء وتبلور المفهوم في التجربة الغربية المعاصرة بدءاً من توماس هوبز ووصولا إلى غرامشي (9) وإنما سنقول إيجازا واختصاراً بأن المجتمع المدني هو مجموعة العلاقات المنظمة للمجتمع أي انه المجتمع المنظّم سياسيا" (في العقل الغربي). فهو عند توما الاكويني (civitas) مساو للدولة التي اعتبرها السكولائيون حاملة قيم المجتمع : الحرية الفردية ، ودولة الحق ، والضريبة الحيادية ، وهي عند بعض الانسانويين humanistes نمط حياة مدني (مديني)(10) أما نظريات العقد الاجتماعي فهي لا تبدأ بالجماعة كمعطى طبيعي كما عند أرسطو ، وإنما بالفرد وبتخيل الجماعة (communauté) كمجتمع (société) أي كعلاقة منعكسة متوسطة بين أفراد ذوي إرادة حرة. الإنسان هنا فرد والمجتمع عبارة عن تعاقد أو علاقة متبادلة بين أفراد من منطلقات نفعية أو أخلاقية أو عقلانية...
ومن توماس هوبز وجون لوك إلى مونتسكيو إلى جان جاك روسو، تبلور المجتمع المدني باعتباره كتلة بشرية ساكنة في مقابل الدولة صاحبة الحق والإرادة. وبالرغم من الدلالة السلبية لمفهوم المجتمع المدني في الفلسفات الحقوقية فإن مفهوم التعاقد ( أو العقد الاجتماعي) الذي يشكل المجتمع والدولة طرفيه الأساسيين قد مهّد لممارسة حرية المجتمع ولكبح السلطة المطلقة للحاكم ، وتلك هي البداية التأسيسية للديمقراطية فكرا" وممارسة.
أما عند هيغل فان المفهوم سيتخذ دلالة أكثر سلبية لأنه غير قادر على تحقيق الحرية. فهو ( أي المجتمع المدني ) يتشكل من مؤسسات خاصة تتمثل في الأسرة والحرفة والتجمع الصغير تحميه الدولة المعبّرة عن إرادة عليا والمجسّدة سياسيا" وتاريخيا" لمعقولية "الفكرة المطلقة". فالدولة هي التي تحقق الحرية وهي تمنّ على المجتمع بالحرية وتسهر على رعايته وفق مشيئة سياسية وغائية تاريخية تجسّدان المطلق . فالمجتمع المدني عند هيغل هو الحيّز الاجتماعي والأخلاقي الواقع بين الأسرة والدولة . ووجوده يفترض طبعا الدولة . وهو يصبح وسيطا بين الفرد والدولة كمؤسسات وتجمعات يفرزها المجتمع ويتم من خلالها تنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع(11).
أما في الوعي الماركسي الكلاسيكي فإن المجتمع المدني هو المجتمع البورجوازي ، وهو مرتبط بوجود الدولة، فهو التوأم السياسي للدولة الحديثة . وبما أن الهدف هو ذوبان الدولة في المجتمع (أو اضمحلالها التدريجي) فهو سيزول كمفهوم مع اندثاره كواقع. وقد عبّرت الماركسية أفضل تعبير عن رؤيتها للمجتمع المدني في مقطع شهير من كتاب الإيديولوجية الألمانية:"يشتمل المجتمع المدني على جماع علاقات الأفراد المادية ضمن مرحلة معينة من تطور القوى المنتجة. انه يشتمل على مجمل الحياة التجارية والصناعية لمرحلة معينة، وبذلك يتجاوز الدولة والأمة، بالرغم من أنه لا بد له على أية حال من تأكيد ذاته في الخارج من حيث هو دولة وفي الداخل من حيث هو قومية. إن المجتمع المدني بصيغته هذه لا يتطور إلا مع البورجوازية ومهما يكن من أمر فإن التنظيم الاجتماعي المشتق بضرورة مباشرة من الإنتاج والتعامل والذي يشكّل في جميع العصور أساس الدولة وكل البقية الباقية من البنية الفوقية المثالية قد سُّمّي على الدوام بهذا الاسم نفسه"(أي المجتمع المدني).(12) إن هذا النص يقول لنا بان المجتمع المدني هو البنية الاجتماعية التي هي مسرح الصراع الطبقي أولا والأساس الذي يرتكز عليه كل تطور اجتماعي ثانيا (حسب الماركسية)..
غير إن انطونيو غرامشي سار في اتجاه معاكس حين كتب بأنه "باستطاعتنا في هذه اللحظة تثبيت مستويين فوقيين أساسيين: الأول يمكن أن يدعى المجتمع المدني، الذي هو مجموع التنظيمات التي غالبا ما تسمى خاصة، والمجتمع السياسي أو الدولة . هذان المستويان ينطويان من جهة أولى على وظيفة الهيمنة hégémonie حيث أن الطبقة المسيطرة تمارس سيطرتها على المجتمع ومن جهة أخرى تمارس الهيمنة المباشرة أو دور الحكم من خلال الدولة أو الحكومة الشرعية(13) وبهذا فان غرامشي حين يجعل المجتمع المدني بناء فوقيا، فإنه يدخل دلالة جديدة في كون المجتمع المدني فضاء للتنافس الإيديولوجي (باعتباره يحتوي على العلاقات الثقافية – الإيديولوجية ويضم كل النشاط الروحي – العقلي) في حين يكون المجتمع السياسي فضاء للسيطرة السياسية بواسطة القوة / السلطة Pouvoir-Power . ووظيفة الهيمنة التي للمجتمع المدني هي وظيفة توجيهية للسلطة الرمزية التي تمارس بواسطة التنظيمات التي تدعي أنها خاصة مثل دور العبادة والنقابات والمدارس(14) وقد دعا غرامشي (فيما دعا إليه) إلى إنشاء "كتلة سياسية اقتصادية تاريخية متناسقة جديدة بدون تناقضات داخلية، موضحا بأن سيادة أية طبقة اجتماعية أو تحالف طبقي تستوجب هيمنتها "إن تفوق أي كتلة اجتماعية يتخذ شكلين اثنين هما: السيطرة، والإرادة الثقافية –الأخلاقية(أو الهيمنة)"(15) فالهيمنة هي القيادة لإيجاد سياسة ثقافية تهدف إلى تنسيق وتوحيد مواقف الفئات والطبقات الاجتماعية كمقدمة لا بد منها لتحقيق السيادة السياسية. وحسب غرامشي فإن أداة هذه العملية هو الحزب الطليعي ، أو " المثقف الجمعي".

غير أن الفصل المنهجي عند غرامشي بين مجتمع مدني ومجتمع سياسي لا يشير إلى انقسام وظيفي في كلا المجتمعين . فالواقع الفعلي هو أن المجتمع السياسي و المدني متطابقان . وما يفعله غرامشي هو التمييز داخل الدولة بين لحظة القوة التي تمتلكها الدولة وبين لحظة التسوية ( وهي لحظة المجتمع المدني ). فالدولة ليست فقط أداة عنف وإنما هي ومن خلال لحظة التسوية أو الهيمنة الإيديولوجية تقود المجتمع وتحضر فيه بوجهها القيادي والسيطرة بشكل خفي على المجتمع عبر تحكمها بكل المؤسسات (المدرسة، الجامعة، النقابة، الأحزاب....)
إذن يبدو ، وكأن هناك بعدين لعلاقة الدولة بالمجتمع : احدهما ُبعد قهري والبعد الثاني
تسووي . ومن هذا المنظور لا تعود الدولة أداة قهر بل تصبح وظيفتها أن تكون نقطة توازن بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني.

إذن وكخاتمة فإنه يمكن القول بأن مفهوم المجتمع المدني (ونشأته وتطوره) قد جاء مقترنا بولادة الدولة الحديثة (نشأتها وتطورها). وهناك قواسم مشتركة تناولها الفكر الغربي أثناء صياغته لمفهوم المجتمع المدني .وذلك منذ العقد الاجتماعي وحتى أطروحات غرامشي . فالمجتمع المدني يظهر باعتباره رابطة اختيارية يدخلها الأفراد طواعية والعضوية فيها غير قائمة على الإجبار وينضم إليها الأفراد بمحض إرادتهم إيمانا منهم بأنها قادرة على تلبية مصالحهم والتعبير عنهم . ويتكون المجتمع المدني بهذا المعنى من المؤسسات الإنتاجية والطبقات الاجتماعية والمؤسسات التعليمية والدينية والنقابات العمالية والروابط والأحزاب السياسية والنوادي الثقافية والاجتماعية. أما استقرار المجتمع المدني وتمتعه بوحدته وأداؤه لوظائفه فهي مرتبطة وملازمة للدولة والمجتمع السياسي. وعند قيام المجتمع المدني فليس بالضرورة أن تكون الدولة ديمقراطية ولكنها غير مطلقة السلطة وهي تخضع إثناء أداء مهامها لقواعد عقلانية. وتتمتع مؤسسات المجتمع من حيث المبدأ باستقلالية نسبية من النواحي المالية والإدارية والتنظيمية (عن الدولة) وبالتالي فهي تجسد قدرة أفراد المجتمع على تنظيم نشاطاتهم بعيدا عن تدخل الدولة. غير أن الدراسات الاجتماعية والسياسية المعاصرة قد أخذت تصب الاهتمام تدريجيا على اكتشاف الممارسات الاجتماعية (مدرسة فرنكفورت : أدرنو – ماركوز – هابرماس )* وعلى التركيز على الرأسمال الرمزي والفاعلين الاجتماعيين (بيار بورديو)* مما دفع بالحوار حول المجتمع المدني والديمقراطية وحقوق إلانسان باتجاه اكتشاف وتوسيع آفاق الفهم الديمقراطي عبر ربطه بالعدالة الاجتماعية (مفهوم شومسكي)* واستنباط أشكال جديدة من الفهم والممارسة تبقى مفتوحة على مختلف الممكنات .

والحال أن بلادنا العربية والإسلامية قد عرفت ومنذ مئات السنين مشاركة الناس في التنظيمات والجمعيات والمؤسسات الأهلية المستقلة. وتشير كلمة الأهلي والأهلية، ( وهي مستخدمة في مصر أكثر من لبنان) على معان مهمة في اللغة العربية مثل الارتباط بالقاعدة العريضة من السكان وتعبيرها عن مبادرات صادرة عن تلك القاعدة من المجتمع وليس الدولة. وقد تنوعت الصياغات التنظيمية لتلك الخبرة الغنية وتوسعت وامتدت إلى المفاهيم والفلسفة ، التي تحدد توجهات المجتمع الأهلي وتؤثر عليها . فلم تعد مقتصرة على مفهوم الخيرية، والرعاية الاجتماعية (وهما شكلا المنطلق الأساسي للمجتمع الأهلي ) وإنما تعدته إلى طرح التنمية والمشاركة الشعبية إلى إعادة النظر في المفهوم نفسه بناء على التجربة الغربية ذاتها. ذلك أن جزءا كبيرا من مظاهر المجتمعات الغربية قد تحولت أو هي قيد التحول ولم تعد مفاهيم المجتمع المدني التي نشأت في حالة نقض للطابع الديني للدولة وللسياسة صالحة لفهم الحوار والنقاش الثري الجاري في الغرب منذ التسعينات حيث احتل الدين مثلا دورا أساسيا في مناهضة سلطات الدولة في أوروبا الشرقية وفي الصراع مع الحزبية البيروقراطية اللادينية .. كما عاد مع البابا وتحركاته الدور المحرك للكنيسة في المجتمع باتجاهات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان والتصدي للقهر الاجتماعي والطبقي وللتمييز العنصري وللرأسمالية المتوحشة والعولمة .. إن الأطروحة التي تحصر مفهوم المجتمع المدني في قالب الفلسفة الليبرالية (أو المادية) المعادية للدين وللجماعات هي مما تجاوزه الزمن والواقع في أوروبا الغربية بالتحديد حيث العودة إلى مفاهيم التنوع والتعدد واحترام الاختلاف وحيث يطرح الوجود الإسلامي إشكالات وأسئلة جديدة لا يقدر المعنى العلماني القديم على مواجهتها حيث كان يرى إلى كل تعبير ديني بعدا ثيوقراطيا ورمزا رجعيا ينبغي معاداته وسحقه بالدعوة إلى استقلالية الدين عن الدولة بل إلى فصله عن السياسة المدنية . إن هذه النظرة الأحادية المدمرة للمجتمع وللسياسة المدنية معا هي مما يقود إلى احتكار فئوي للسلطة، أداته الحكم العسكري. وهي مما تخلى عنه الغرب حيث عاد الدين يلعب دورا بارزا في السياسة من خلال مؤسساته التي هي جزء من المجتمع المدني لا خارجة عنه ولا نقيضة له ، ومن خلال الدعوات الكونفدرالية الأوروبية التي تعيد طرح مسألة العلاقة بين المجتمعات المتعددة وبين تعبيراتها السياسية ..
وفي هذا الإطار تبرز التجربة اللبنانية المعاصرة باعتبارها أفقا نظريا وفكريا لإنتاج معرفي جديد حول أطر وأشكال العلاقة بين الدولة والمجتمع.
فلقد استطاع لبنان أن يعطي المثل على نمط حضاري ينبع مباشرة من بنيته المركبة. واستطاع المجتمع اللبناني أن يصنع تجربة تقوم على " الديمقراطية التوافقية " وعلى "التعددية الدينية الثقافية" وعلى بناء دولة ميثاقية – دستورية هي الأنسب لأي مجتمع مركب . إن بناء الدولة في لبنان جاء منسجما إلى حد كبير مع طبيعة المجتمع اللبناني وخياراته الأساسية . ومن هذا الانسجام بالضبط استمد النظام اللبناني قوته الأساسية رغم وجوده عند تقاطع الأهواء والتيارات الإقليمية والدولية المختلفة التي كان كل منها يجد في الداخل اللبناني صدى قويا نظرا لتعقد هذا الداخل وانفتاحه في آن معا.

ومنذ تأسيس الكيان اللبناني (إعلان لبنان الكبير 1920 ودستور1926 ثم ميثاق 1943 ) برز إلى الوجود اتجاهان اثنان تنازعا الكلام حول التجربة اللبنانية :

1- اتجاه قانوني حداثوي يدعو إلى بناء "دولة حديثة " ، دولة "القانون والمؤسسات " ومجتمع مدني – سياسي حديث ، يتجاوز "المجتمع الأهلي الطائفي العشائري المناطقي " وهو ينظر إلى تلك الروابط على أنها "عصبيات متخلفة " تشد المجتمع اللبناني إلى الوراء وتمنع تطوره وتعيق نموه ناهيك عن كونها أصل الحروب الدورية .

2- اتجاه طائفي – ميثاقي اعتبر التزام ميثاق 1943 ووثيقة الوفاق الوطني (1989 ) هو المدخل الأساس لقيام دولة من نوع جديد اسماها الصيغة اللبنانية المميزة تقوم على التوفيق بين الاعتبارات الطائفية والأهلية، وبين اعتبارات المواطنة والمجتمع الحديث.
ولئن بدا للبعض أن التعدد في المجتمع اللبناني حالة خاصة ينبغي تجاوزها لصالح "الدولة الحديثة " ، اللاطائفية ، العلمانية ، القوية القادرة ، على تذويب الاختلافات وتحقيق الانصهار الوطني (أو الوحدة القومية السورية أو العربية) ، فإن مسيرة العالم اليوم باتجاه اعتبار التنوع والتعدد ثروة حضارية (حسب قول الإمام موسى الصدر) خصوصا في المجتمعات الباحثة عن أسس جديدة لوحدتها وعن معنى ومضمون لهويتها ، قد أعاد الاعتبار إلى النقاش حول العلاقة بين الطائفية والتعدد الطائفي وبين صورة الدولة الحديثة المرتجاة .
ونحن من تجربتنا المتواضعة في إطار المؤتمر الدائم للحوار اللبناني خلصنا في السنوات الأخيرة إلى تحديد جملة من المنطلقات لترشيد الحوار حول الدولة والمجتمع صدرت في وثائق متعددة عن المؤتمر ،ونوجزها هنا بما يلي:

1- إن الدولة في جوهرها جهاز إدارة وضبط للنشاطات والمصالح المشتركة في المجتمع، وليس لها غاية تستمد منها شرعيتها. أنها مؤسسة من مؤسسات المجتمع ، وان كانت المؤسسة الكبرى بامتياز أو مؤسسة المؤسسات . وهي بهذا المعنى لا تستطيع أن تشكل اختزالاً للمجتمع أو تعبيراً صافياً متعالياً كلياً عليه اوإلغائياً له. وهذا المعنى يتأكد في المجتمعات التي لم تستطع الدولة فيها تفكيك النسيج الاجتماعي وإرساء علاقة بين أفراد وجهاز دولة متضخّم السطوة على الدوام.
2- والدولة في إدارتها ورعايتها للصالح العام المشترك تبقى مشدودة إلى الغايات التي يحدّدها المجتمع. فالشرعية التي تمتلكها هي شرعية وظيفية يمكن الحكم عليها بمعايير الفعالية والمردودية وبمدى انسجامها مع التوجهات الأساسية للمجتمع.
3- إن الدولة المطلوبة هي الدولة المتصلة بالمجتمع المتكاملة معه، في معادلة قيادة وانقياد في الوقت نفسه: قيادتها للصالح العام المشترك، وانقيادها للغايات التي يحدّدها المجتمع؛ فلا الدولة وصيّة على المجتمع تتصرف بمعزل عن توجهاته، ولا المجتمع قادر على أن يحلّ محلها.
4- إن الدولة في تجربة المجتمع الغربي الحديث استطاعت إلى حد كبير تحويل المجتمع إلى مجرّد أفراد، فاتصلت بهؤلاء الأفراد اتصالاً وثيقاً لصيقاً من خلال تأدية دورها الوظيفي الإداري بكفاءة عالية؛ غير إنها غالباً ما انفصلت عن غايات المجتمع من خلال تفكيك المستند المجتمعي لهذه الغايات وحلول الدولة محله... ولكن هل الدولة في مجتمعنا العربي، ومنه لبنان، استطاعت أن تقوم بالدور الوظيفي وبربطه بغايات المجتمع؟
5- واقع الحال أن الدولة في مجتمعاتنا أخفقت في الاتجاهين، فانفصلت عن المجتمع في ميداني المصالح العملية والغايات البعيدة، وتحوّلت إلى جسم يبدو دخيلاً، تقوم علاقته بالمجتمع على نصاب من الغربة والتنازع والغلبة. وفي حين قدّم الغرب نموذج الدولة القويّة المكيِفة لمجتمعها، قدّمت تجاربنا الحديثة نموذج الدولة الهجينة العاجزة والسلطة الاستبدادية.
6- إن مجتمعنا اللبناني هو مجتمع متصل بقيم الدين، وهو إلى ذلك متعدد الطوائف والمذاهب؛ ولا نجد في ذلك بأساً، بل لعلنا نجد فيه خيراً كثيراً من خلال فهمنا لمعنى التعدّد والتنوّع ودورهما. وعليه كيف يمكن أن تقوم علاقة الدين / الطوائف بالدولة.؟
7- ليس الدين عقيدة مجرّدة منفصلة عن المجتمع . انه متحقق عملياً في المجتمع ويمكن اعتباره الطريقة التي يتوصل من خلالها مجتمع ما إلى وعي نفسه ووعي صلاته بالطبيعة والعالم والكون . وبالتالي فان تنظيم العلاقة بين الدولة والدين وإحلال التناغم بينهما يتأمنان بتنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع وسلامتها.
8- لقد بدأ المجتمع اللبناني على الدوام أقوى وأغنى من دولته وأكثر تدبيرا منها، مستفيداً من امتناع مصادرة الدولة لخياراته ومبادراته. ويمكن التحقق من ذلك إذا لاحظنا إن الازدهار الذي عرفه لبنان (اقتصادياً ومالياً وعلمياً وثقافياً، وعلى مستوى التبادل المادي والمعنوي داخلياً ومع الخارج شرقاً وغرباً) ذلك الازدهار كان أساسا من صنع المجتمع. ولئن كانت قوة المجتمع قد عصمته من سطوة الدولة وسمحت له بالتوازن معها – بخلاف تجارب أخرى في محيطنا القريب والبعيد- إلا أن المبالغة على هذا الصعيد أدت إلى أن يجتاح المجتمع الدولة (فترة الحرب) وهو ما ينبغي التفكُر فيه ملياً لتداركه.
9- إن اعتراف المجموعات اللبنانية ببعضها البعض واعتراف الدولة بالمجموعات ، هذا الاعتراف الصريح المزدوج هو الذي أنشأ الديمقراطية اللبنانية وشكل حاجزاً دون صعود سلطة ديكتاتورية على مجتمع موحد قسراً بدعوى الوطنية والأمن القومي والانتظام العام، كما هي الحال في معظم البلدان في منطقتنا. لم ينعم اللبنانيون وحدهم بتلك الديمقراطية (بمن فيهم أولئك الذين ظلوا يشتمونها) وإنما قدمت أيضا متنفساً لكل العرب الهاربين من ضيق مساحة الحرية والديمقراطية في بلدانهم.
10- إن حيوية المجتمع اللبناني والديمقراطية الناشئة عن توازنات هذا المجتمع أنعشتا الحرية المتأصلة في نفوس اللبنانيين. ولئن بدت هذه الحرية بلا حدود في معظم الأحيان، فإنها تبقى الشرط الضروري لأي إبداع على أي صعيد. فالقول بان لبنان والحرية توأمان هو قول يتوافق مع واقع الحال.
11- إن حيوية المجتمع اللبناني في أجواء من الحرية والديمقراطية أطلقت تفاعلات على غير صعيد وأنتجت طبقة متوسطة واسعة ً (بالمعنى الاقتصادي- الاجتماعي، والثقافي- المعرفي والعلائقي - التبادلي) شكلت عامل استقرار ورافعة تقدُّم ومستودعاً لقيم التوسط والاعتدال.

خاتمة: ما تقدم من عوامل ومعطيات يدخل في صلب التجربة الإنسانية اللبنانية ويساعد على تفسيرها في الوقت ذاته . كذلك فان رسوخ تجربة العيش المشترك في المجتمع اللبناني ساعد هذا المجتمع على مغادرة الحرب بأقل الخسائر الممكنة وعلى استعادة السلم الأهلي بسرعة لافتة بعدما اصطرعت على أرضه كل القوى الدولية والإقليمية والمحلية في حلقات عنف متصلة على مدى 15 سنة (1975-1990)...
إن التجربة اللبنانية تكتسب اليوم أهمية خاصة بعد فشل نموذج الدولة الذي كان قد ساد العالم بعد الحرب العالمية الثانية. فالصراعات التي نشهدها اليوم في دول عدة في العالم- من أفغانستان إلى يوغوسلافيا السابقة مروراً بدول البلقان ودول وسط أفريقيا ً إلى عدد من الدول العربية – ناجمة عن عجز في ابتكار صيغ جديدة لتنظيم شؤون المجتمعات المتعددة دينياً أو اثنياً أو ثقافياً ، فيصار إلى اعتماد العنف سبيلاً لفرض التوحيد القسري . والعنف يوّلد العنف ، بدليل ما نشهده في العالم من قتل ودمار يصل إلى حد الإبادة . ولا احد بمنأى عن تلك الأخطار . فالعنف الذي يجتاح جزءاً من عالمنا لم يعد يندرج في إطار الصراعات القديمة، صراعات بين دول تضبطها في نهاية الأمر الخطوط الحمر التي رسمتها الحرب الباردة، انه عنف من طبيعة جديدة يفجّر من داخلها ويؤسس لعملية تفكك مستمرة لمكوناتها الأساسية، فلم يعد من سبيل لإيقافه بالوسائل القديمة : الوسائل السلطوية ونظريات الانصهار القسري. ويمتلك هذا الوباء قدرة لا حدود لها في توليد الصراعات والانتقال من مجتمع إلى الآخر.

فإذا كانت الحرب اللبنانية قد شكلت الإشارة الأولى لما سوف تكون عليه الحروب الآتية فان تجديد التجربة اللبنانية يوجهها المشرق يحيي نموذجاً أكثر ملائمة مع واقع التنوع والتعدد الذي يسود عالمنا والذي يحتاج إلى قدرة مميزة على إدارة الاختلاف ولجم مصادر العنف. هنا يكمن دور لبنان في هذه الحقبة من التاريخ . فاستعادة معنى لبنان ومعنى تجربته التاريخية لا يوفّر ضمانة لمستقبل اللبنانيين فحسب، بل يشكل خدمة لمحيطهم القريب والبعيد ويساعد العرب على تجاوز هذه المرحلة المسكونة بأشباح الحروب الأهلية.













الهوامش


1- راجع خصوصاً الكتابات الاميركية التي صدرت حول المجتمع المدني في العقدين الاخيرين:

1- Charles Tylor , “Modes of Civil Society “ Public Culture ,vol.3, no.1 (Fall 1990) pp 95-118 .
2- Edward Shils, “ The Virtues of Civil Society” Government and Opposition m vol.26 no.2 (Winter 1991) pp3-20.
3- Mickael Waltzer , The idea of Civil Society “, Dissent , Spring 1999 , pp 293-304 .
4- Daniel Bell, “American Exceptionalism Revisited: The Role of Civil Society “, The Public Interest, n.95 (1989), pp38-56.
5- John Keane , Democracy and Civil Society (London :verso , 1988)
6- John Keane , Democracy and Civil Society and The State (London :verso ,1986 )
7- Adam B Seligman : The idea of Civil Society (New York :The Free Press ,1992 )
8- John Ehrenberg: Civil Society,The Critical History of an Idea(New York: New York University Press, 1999)


وللاستفادة من الدراسات الأميركية والغربية يمكن مراجعة كتاب عزمي بشارة (المجتمع المدني: دراسة نقدية ) الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت 1998.
وكذلك مقالة الأب اليسوعي جون دونهيو Donohue في مجلة الجامعة اليسوعية في بيروت أعمال وأيام – بالفرنسية –
Travaux et Jours, n ° 65 – Printemps 2000, pp 161-179.


2- راجع مداخلتنا في ندوة: "المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية"- مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت 1992- الصفحات: 170، 180، 192، 194، 329، 427، 429، 495، 726، 766.
وفي نفس الندوة: مداخلات برهان غليون – عصام العريان- سيف الدين عبد الفتاح- وجيه كوثراني.
3- عزمي بشارة: المجتمع المدني – مصدر سبق ذكره – ص 9- 10
4- - فهمية شرف الدين: "الواقع العربي وعوائق تكوين المجتمع المدني". مجلة المستقبل العربي.السنة 24- العدد 278- نيسان-ابريل 2002-
5- تحصي أماني قنديل ( في " المجتمع المدني في العالم العربي"- دار المستقبل العربي- القاهرة-1994 ) عدد الجمعيات العربية فإذا هي 13239 في مصر وحدها (1991) و 1302 في لبنان (1993) و 5186 في تونس (1993)... وفي إحصاء سريع
أجراه احد طلابنا في الجامعة اللبنانية تأكيد على وجود (70000) جمعية في البلاد العربية عام1998.

6- انظر: * عزمي بشارة – مصدر سابق – ص17.
* سعود المولى : الستالينية الجديدة او تجديد المشروع الاشتراكي – جريدة السفير- بيروت-23/12/1997.
* وحيد عبد المجيد:" تعظيم أهمية المجتمع المدني" في جريدة الحياة – لندن 15/1/1995.
* برهان غليون :" بناء المجتمع المدني العربي : دور العوامل الداخلية والخارجية"- مجلة المستقبل العربي – السنة 14- العدد 158- نيسان/ ابريل 1992.
7- حول هذه الظاهرة راجع كتاب سناء المصري : " تمويل وتطبيع : قصة الجمعيات غير الحكومية "- سينا للنشر – القاهرة 1998.
8- انظر : وجيه كوثراني : المجتمع المدني والدولة في التاريخ العربي- ضمن كتاب مركز دراسات الوحدة العربية عن المجتمع المدني في الوطن العربي، مصدر سابق، ص 119- 131.
9- انظر: عزمي بشارة: مصدر سابق
وكذلك: كريم أبو حلاوة: إشكالية مفهوم المجتمع المدني – دار الأهالي – دمشق 1998.
10 - انظر: Anthony Black : "Guilds and Civil Society in European Political Thought from the 12th century to the present.", Ithaca , Cornell University Press, 1994 pp 76,104 .
11 - انظر : هربرت ماركوز : العقل والثورة : هيغل ونشأة النظرة الاجتماعية ، ترجمة فؤاد زكريا ، الهيئة المصرية للكتاب 1970 (ص 205- 212)

12- ماركس وانجلز : الأيديولوجية الألمانية، ترجمة فؤاد أيوب، دار دمشق- 1971- ص 84- 85 .
13- Norberta Bobio: Gramsci and The Concept of Civil Society 1988 – pp 82- 83
14- عبد القادر الزغل : مفهوم المجتمع المدني والتحول نحو التعددية الحزبية – في ندوة غرامشي وقضايا المجتمع المدني – القاهرة 1990- ص 151.
15- جان مارك بيوتي : فكر غرامشي السياسي – ترجمة جورج طرابيشي – بيروت 1975- ص 14 .