الصفحات

الخميس، 5 مارس 2009

سيّد قطب ، الانسان ، المجهول

سيّد قطب ، الانسان ، المجهول.

د. سعود المولى

لا نعرف لسيد قطب سوى بضع صور اشهرها تلك التي يجلس فيها صامتا" شاحبا" في قفص الاتهام ينتظر حكم الاعدام الذي أصدرته " محكمة الثوّّّار" ونُفذ فيه مع رفيقيه محمد يوسف هواش وعبد الفتاح اسماعيل يوم 29 آب – اغسطس 1966 ...
ورغم عشرات الكتب ومئات الدراسات والمقالات التي تناولت حياته وفكره ، والتي رفعته الى مستوى الرمز ، الاسطورة ، فان جانبا"أساسيا" ومهما" في سيرة سيّد قطب لم يُعرض على الجمهور، وقد جهد الأعداء قبل الأصدقاء لاخفائه وتغييب ملامحه وطمس آثاره .
فكان سيّد قطب الشهيد مظلوما" مرتين.. مرة في رحلة السجن والعذاب والموت ومرة في مؤامرة الصمت والتزوير.
لقد كان مناسبا" لجميع الاطراف تصوير سيّد قطب في الصورة التي نعرفها له اليوم : إمام الاصولية، ومؤسس العنف الاصولي ، وصاحب فكرة الحاكمية ، والتكفير والهجرة ، وجاهلية الناس، والمفاصلة ، وضرورة التغيير بالقوة وبواسطة النخبة المسلمة الطليعية . وفي كل ما قرأناه ونقرأه عن ظاهرة العنف الاصولي الاسلامي ، منذ عهد صالح سرية ، الفلسطيني ، الدكتور في علم النفس التربوي وقائد جماعة ما عُرف باسم "الفنية العسكرية" ( أُعدم عام 1975) وحتى الدكتور أيمن الظواهري ، المرشد الروحي لتنظيم القاعدة ولظاهرة أسامة بن لادن وأبرز مؤسسي تنظيم الجهاد الاسلامي في مصر ( منذ عام 1958) ، ومرورا" بالمهندس شكري أحمد مصطفى أمير ”جماعة المسلمين“ المشهورة باسم ” التكفير والهجرة “( أُعدم عام 1978) ، ناهيك عن عشرات الجماعات والزُمر والمنظمات الجهادية المسلحة في مصر والعالم ، نقع دوما" ، ودون أي استثناء ، على مقولة راجت وشاعت مفادها ان هؤلاء جميعا" ” قطبيون“ ، وان فكرهم ” قطبي“ ، وسياستهم " قطبية " ، وكل ما لهم وما عليهم ، وكل ما هم عليه وما هم ليسوا فيه ، يعود في الاصل الى تأثير سيّد قطب .. وذهبت الدراسات الحديثة المتأثرة بالمدارس الغربية في تفسير الاصولية ( كتابات احمد موصللي ورفعت سيّد أحمد ونبيل عبد الفتاح وحيدر ابراهيم علي وعبد العظيم رمضان وسعد الدين ابراهيم ، وقد حذوا حذو جيل كيبل واوليفييه روا وريتشارد دكمجيان واوليفييه كاريه وغيرهم ) الى اختراع تأثير حاسم ومباشر لكتابات الباكستاني المرحوم ” أبو الاعلى المودودي“ وخصوصا" لجهة تأثرسيّد قطب بفكرته عن”حاكمية الله“ التي أدّت الى تكفير الحاكم والمؤسسات المحيطة به وشرعنة الانقلاب عليه وهو الأمر الذي اعتبر جديدا في الفكر السنّيّ ( وهو ليس بالجديد اصلا الا لدى الذين راق لهم التنظير طويلا ل"ثورية" الشيعة مقابل "نظامية وعقلانية"السنة.
وقد رأى الباحثون والدارسون المذكورون بأن سيّد قطب بلْوَر في السجن أهم أفكاره (وذلك في كتابه الشهير – معالم في الطريق – طبعته دار الشروق وبلغت طبعاته المختلفة حوالي العشرين حتى اليوم، وكان الى الامس القريب مقررا" دراسيا" من قبل وزارة المعارف السعودية). وقد اشتغل هؤلاء وغيرهم على استنطاق الكتاب المذكور باعتباره "انجيل الثورة الاسلامية الاصولية في القرن العشرين " الذي رأوا في مفهومه عن الجاهلية :”حجر الزاوية لكل البناء النظري“ و”الوثيقة الايديولوجية الاساسية للحركة الاسلامية المعاصرة“ (جيل كيبل في كتابه النبي والفرعون – دار الساقي لندن 1985. وقد نقل نفس العبارات كل من رضوان السيّد وأحمد موصللي ورفعت سيّد أحمد ونبيل عبد الفتاح وغيرهم). وطبيعي والحال هذه، ان يتم تجاهل "جاهلية" سيّد قطب نفسه ، أي فكره ومزاجه ونتاجه السابق على ”اصوليته“.. وطبيعي أيضا" ان تضيع "معالم" صورة سيّد قطب الحقيقية ، منذ عُلّق على حبل المشنقة ، وحوّله الاصوليون ، القدامى والجدد ، الى طوطم . وطبيعي ان يضيع معه سرّ تحوُّله الحاد ،وسرّ غضبه وثورته ،وسر سجنه وموته..


سيّد قطب الطفل القروي

وُلد سيّد قطب في التاسع من اكتوبر – تشرين الاول 1906 في قرية موشا في مخافظة أسيوط بصعيد مصر، وكان والده الحاج قطب ابراهيم من أعيان القرية ، ميسور الحال ، مثقفا" ، منفتحا" ، اُهدى اليه سيّد كتابه ”مشاهد القيامة في القرآن“ (1947) فقال عنه في مقدمة الكتاب : ”لقد طبعت في حسّي وأنا طفل صغير مخافة اليوم الآخر، ولم تعظني او تزجرني. ولكنك كنت تعيش أمامي واليوم الآخر في حسابك ذكراه في ضميرك وعلى لسانك".
وكانت امه من اسرة عريقة ، متدينة ، أهدى اليها كتابه "التصوير الفني في القرآن“ (1945) فقال عنها في مقدمة الكتاب. "لطالما تسمّعت من وراء الشيش في القرية للقرّاء يُرتلون في ديارنا القرآن طوال شهر رمضان وأنا معك ، اُحاول ان الغو كالاطفال فتردني منك اشارة حازمة وهمسة حاسمة ، فانصت معك الى الترتيل وتشرب نفسي موسيقاه وان لم أفهم بعد معناه"...
وقد كان لأُمه التأثير الكبير في نفسه وفي حياته خاصة وانها استقرت معه في القاهرة الى ان توفيت عام 1940 فرثاها رثاء مؤثرا" في كتاب شاركه فيه أخوه محمد وأختاه أمينة وحميدة (وهم الاطياف الاربعة ، عنوان الكتاب – الصادر عام 1945) . أما أخته الكبيرة نفيسة فلم يكن لها اشتراك في الاعمال الادبية .. وله في رثاء امه قصيدة جميلة نشرتها مجلة الرسالة في تموز – يوليو 1946 وأعاد نشرها عبد الباقي محمد حسين في” ديوان سيّد قطب- دار الوفاء - المنصورة- مصر 1989 ص 270) بعنوان الزاد الاخير ، وفيها يقول :

زودينـي لكـاد ينفـذ زادي في صـراع من الحيـاة طويـل
كـاد يخبـو المصبـاح الا بصيصـا" فاسكبـي الزيـت في بقايـا الفتيـل.


وقد روى سيّد قطب سيرة طفولته في كتابه”طفل من القرية“ (1946- ودار الشروق 1973) الذي صاغه على طريقة ”الأيام“ ، وأهداه في طبعته الاولى في تموز – يوليو 1945 "الى الدكتور طه حسين بك : أنها يا سيدي أيام كايامك ، عاشها طفل في القرية ، في بعضها من أيامك تشابه، وفي سائرها عنها اختلاف ، بمقدار ما يكون بين جيل وجيل ، وقرية وقرية ، وحياة وحياة ، بل بمقدار ما يكون بين طبيعة وطبيعة ، واتجاه واتجاه ، ولكنها بعد ذلك كله أيام من الأيام.. “.
في”طفل من القرية“ ، يعرض سيّد لطفولته ، ودراسته ، وحفظه للقرآن وهو في العاشرة من عمره، وتربيته البيتية التي أنشأته على معاني العزة والأنفة والكرامة والرجولة ، الى جانب التديّن والعبادة ، الى حساسية مرهفة وقلب مفتوح للحوار والنقاش (الصفحات 23-25-38-42-121-123) . وقد أمضى في مدرسة القرية ست سنوات (1912-1918) وقضى عامين دون دراسة في القرية بسبب آثار الحرب العالمية الاولى وثورة 1919 المشهودة ، الى ان استقرت الاحوال واستطاعت الاسرة ترتيب سفره للدراسة في القاهرة وذلك عام 1921 . وقد عاش سيّد في القاهرة في بيت خاله خريج الأزهر أحمد حسين عثمان الذي كان يكتب في الصحف باسم أحمد الموشي ( نسبة الى قريته موشا) الى جانب ممارسته التدريس . ومعروف انه كان للخال أثر كبير في بناء شخصية سيّد الذي درس في مدرسة عبد العزيز الاولية ( 3 سنوات) قبل ان يلتحق بمدرسة المعلمين ويتخرج منها بشهادة الكفاءة ( عام 1928). الا انه لم يلتحق بالتدريس الابتدائي بل آثر مواصلة طموحه فالتحق بتجهيزية دار العلوم ( سنتان ) ثم بكلية دار العلوم التي تخرَّج منها بشهادة ليسانس في الادب مع الدبلوم في التربية – تخصص لغة عربية .
وكلية دار العلوم انشئت عام 1872 ﻹعداد المعلمين بطريقة حديثة وقد تخرّج منها حسن البنّا( مؤسس الاخوان المسلمين ) . ومثل حسن البنا عمل سيّد قطب مدرسا" في مدارس وزارة المعارف العمومية ( وزارة التربية والتعليم لاحقا" ) حيث استمر في سلك التعليم حوالي العشرين سنة (استقال في 18 اكتوبر – تشرين الاول 1952) جاب خلالها العديد من المديريات ( مثل حسن البنّا ) فتنقل بين مدارس بني سويف ودمياط والقاهرة وحلوان ( التي استقر فيها فيما بعد ) . ومثل حسن البنّا ، لم يترك سيّد قطب وظيفته الاساسية ، علما" انه انتقل الى التفتيش التربوي ومراقبة الثقافة في وزارة المعارف ( عام 1939 ) قبل ان يصبح مديرا" لمكتب رئيس قسم الثقافة في وزارة المعارف . كما عمل في مجال تأليف الكتب المدرسية مثل: الجديد في اللغة العربية – الجديد في المحفوظات – روضة الطفل ،وكتب القصص الديني وغيرها . ( وبعضها بالاشتراك مع أمينة السعيد ويوسف مراد ) .


سيّد قطب الناقد – الأديب

تزعّم سيّد قطب وهو ما يزال طالبا" في دار العلوم إتجاه الدفاع عن ” التجديد في الأدب “ ضد من رفضه ويبدو ذلك بوضوح في موضوع رسالته لنيل الدبلوم في التربية والتي نشرتها الكلية لاحقا" بعنوان ” مهمة الشاعر في الحياة“ (1933) وفيها يُعلن : ”اننا لا نتقيد بالحدود التي سنّها القدماء وغير القدماء في تقديرهم ونقدهم ، بينما هم لا يزالون مقيّدين“ ( ص 38) . والى تلك المرحلة (1932-1934) يعود ديوانه ”الشاطئ المجهول“ وفيه فصل بعنوان "غزل ومناجاة" يضم سبعا" وعشرين قصيدة حول المرأة ..
ولا بد لفهم كتابات وافكار سيد قطب خلال تلك المرحلة من العودة الى الاجواء الثقافية والفكرية في مصر مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين والى التحولات الجذرية التي حصلت في بنية المجتمع المصري ونخبه .وقد عرض محمد جابر الانصاري (في كتابه:تحولات الفكر والسياسة في المشرق العربي 1930-1970 الصادر في الكويت عام 1980)لتاْثير التطورات الاوروبية في تشكيل الوعي النخبوي العربي خصوصا لجهة تنامي المد القومي وانتشار المفاهيم الماركسية وتعثر الديمقراطية الليبرالية..حيث ان الازمة الاقتصادية العالمية(1929-1930)وصعود قوة الاتحاد السوفياتي الى جانب صعود الفاشية والنازية قد ادت فيما ادت اليه الى صراع حاد بين التيارات الاوروبية الكبرى(الليبرالية الديمقراطية ،الماركسية،والقومية الفاشية)انعكست لدى النخب العربية ازمة عنيفة وخيارات جديدة..
في عام 1932 توفي جبران خليل جبران في مهجره-المنفى ،وعاد ميخائيل نعيمة الى بسكنتا ليبداْ رحلة البحث عن الذات وتحديد الهوية مشككا في جدوى الحضارة الغربية المعاصرة.وفي السنة تلك بداْ محمد حسين هيكل نشر فصول كتابه عن حياة النبي محمد، وبداْ احمد حسن الزيات اصدار مجلة الرسالة "لتكون صلة وصل بين روح الشلرق وحضارة الغرب"...وفي نفس السنة ايضا اصدر طه حسين كتابه "على هامش السيرة"، وتلاه كتاب "محمد الرسول البشر"لتوفيق الحكيم(1936) وهي كتابات اسلامية مهدت لعبقريات عباس العقاد..في حين كان انطون سعاده ينشر في المشرق راية الفكر القومي الفاشي وينظم حسن البنا "الاسر" والطلائع الاسلامية في مصر..وكانت الماركسية يشتد عودها وتتصلب وسط الاقليات والمثقفين...ان اخفاق الليبرالية وتعثر الديمقراطية ( خاصة في ظل الانتدابات الغربية على البلاد العربية وممارساتها القمعية والعنصرية ناهيك عن تطور المساْلة الفلسطينية بعد ثورة ال 36)دفعا المفكرين العرب اّنئذ الى اعادة النظر في مكتسيهم الغربي وفي موروثهم الشرقي..فكانت المرحلة في بعضها تصفية حسابات مع الغرب وفي بعضها الاخر انفتاحا عليه واخذا منه..(راجع في هذا الصدد كتاب محمود شريح"من جماعة الديوان في القاهرة الى مجلة شعر في بيروت"-السلام للطباعة-القاهرة-1996)..ونحن نلحظ هذا التوتر القلق في سيرة سيد قطب الادبية والفكرية اذ كانت انعكاسا دقيقا لتجاذبات تلك المرحلة.
فهو تاْثر مبكرا بمدرسة جماعة الديوان المصرية (عبد الرحمن شكري –ابراهيم المازني – عباس العقاد) التي دعت الى التجديد في الشعر والى الرومانسية...وقد حمل شكري والمازني والعقاد على الشعر القديم حملة شديدة تظهر اّثارها بوضوح في كتاب سيد قطب الاول (مهمة الشاعر في الحياة—وهو رسالة تخرجه من كلية دار العلوم)المتاْثر بكتاب المازني ( الشعر:غاياته ووسائله)كما بمقدمات عباس العقاد لدواوين شكري...وفيها كلها دعوات الى الصدق في الاحساس والصدق في التعبير...وخير تعبير عن هذه المدرسة يقدمه الكتاب المشترك بين العقاد والمازني والمسمى الديوان -1921 (ومنه اسم الجماعة)والمعتبر مانيفست الحركة الجديدة وهو تميز بهجوم شديد على مدرسة الادب التقليدي ( واعلامها شوقي وحافظ)...كما عرفت تلك المرحلة احتفاء مصريا بالادب المهجري اللبناني (الرابطة القلمية في نيويورك-1920- )..وكانت مدرسة الديوان هي التواْم الروحي للرابطة وهي انحلت في نفس سنة انحلال الرابطة(1932 عام وفاة جبران وعودة نعيمة الى لبنان)بعد خلاف دب بين اركانها ليحل محلها حركة ابولو(1933) تماما كما حلت العصبة الاندلسية محل الرابطة في المهجر ( ساوبولو هذه المرة وليس نيويورك)...وكان رواد جماعة ابولو ( وابرزهم احمد زكي ابو شادي)لا يخفون تاْثرهم واعجابهم بخليل مطران وجبران ونعيمة والياس ابي شبكة ونسيب عريضة وبشارة عبدالله الخوري ...كما كان ابراهيم ناجي وعلي محمود طه ومحمود ابو الوفا (الى جانب ابو شادي)الاكثر تاْثرا بالرومنطيقية الغربية وبالرمزية كما عبر عنها المهجريون اللبنانيون...والى هذا الجو الفكري الادبي الثقافي انتمى سيد قطب بكل جوارحه وكان احد ابرز رموزه في الحقبة ما بين 1932 و1948 حيث تألّق نجمه الأدبي والثقافي بسرعة لافتة... كتب في النقد الادبي وخصوصا" في مجلات الاسبوع والرسالة والمقتطف والبلاغ والهلال والأهرام كما كتب في مجلة الشؤون الاجتماعية التي أصدرتها وزارة الشؤون الاجتماعية شهريا" ابتداء من يناير – كانون الثاني 1940 وحتى أواخر 1946 وكان سيّد قطب الى جانب سلامة موسى من أكثر المؤلفين التزاما" بالكتابة فيها . وقد جمع آلان روسيون مقالات سيّد في مجلة الشؤون الاجتماعية وأصدرها مع مقدمة في كتاب بعنوان: سيّد قطب ، المجتمع المصري : جذوره وآفاقه، سينا للنشر – القاهرة 1994. وكتب سيّد أيضا" في مجلة دار العلوم ، كما انه ترأس تحرير مجلة "العالم العربي" التي أصدرها مع المسيحي يوسف شحاته وساهم فيها طه حسين وشفيق غربال ونجيب محفوظ وميخائيل نعيمه وعيسى الناعوري ونزار قباني وبدر شاكر السياب .. وقد تولى رئاسة تحريرها بعد سيّد قطب ، محمد العزب موسى (1947) وذلك لتفرغ سيّد لرئاسة تحرير مجلة " الفكر الجديد " التي أنشأها مع ثمانية من كبار مثقفي مصر يومذاك : صادق ابراهيم عرجون ، محمد الغزالي ، فايد العمروسي ، محمد قطب ، نجيب محفوظ ، عماد الدين عبد الحميد، عبد المنعم شميس، عبد الحميد جودة السحّار.
كان لسيّد قطب خلال تلك المرحلة (1932-1948) دور بارز في الحياة الفكرية والادبية في مصر والعالم العربي حيث تميّز بخوضه لمعارك نقدية وأدبية أثار فيها الكثير من القضايا بجرأة غير معهودة وبحدة ملحوظة جعلتا منه مثار اعجاب الادباء الشباب . ولعل أبرز معاركه تلك التي أثارها عام 1934 على صفحات مجلة الاسبوع وتحت باب "المنبر الحر" حين نشر سلسلة مقالات خاض فيها ما أسماه "معركة النقد الادبي ودوافعها الاصيلة "وقد حاول فيها ان يبيِّن الاسباب والدوافع الخفية التي حرَّكت أبرز المعارك النقدية التي جرت اّنذاك في مصر .. وقد أثارت مقالاته ردودا" عاصفة خاصة من جماعة أبولو . وعاد سيّد الى الرد عليهم على صفحات الاهرام بعنوان "مهازل النقد" ..
افتتح سيّد مقالاته في الاسبوع بالقول "انه كان أول المغتبطين بهذه المعارك جميعا"، مهما كان فيها من خصومات ومهما كان فيها من ضجيج . ذلك ان خصومة الحياة خير عندي من سلام الموت ، وان ضجة العاصفة أفضل من صمت الركود .. "ولعل من الخير ألا نغالط أنفسنا في الحق لانه مرّ، ولا نشيح بوجوهنا عن الواقع لانه مؤلم . ولعل الخير اذن ان نقول ان كثيرا" من بواعث المعركة لم يكن كريما" وان كثيرا" من أسلحتها لم يكن شريفا". وانه لخير لنا ان نقول هذه الكلمة الآن قبل ان يقولها التاريخ وقبل ان تأتي أجيال من بعدنا تنظرالينا نظرة التقزز والاشمئزاز وترى في بعضنا خبثا" وفي البعض الآخر غفلة لا تفطن لدخائل النفوس، (مجلة الاسبوع - العدد 31- في 27/6/1934).
* أما المعارك التي تحدّث عنها سيّد في مقالاته فهي :
- معركة المازني مع علي محمود طه . وقد رأى سيّد ان دوافعها هي التنافس الشديد بين المازني والعقّاد وطه حسين وان المازني لم يقصد في نقده "المهندس" (علي محمود طه) نفسه حين قال عنه "انه ميؤوس منه" وان في اسلوبه غموضا" وانما قصد العقّاد وطه حسين .
- المعركة بين طه حسين وابراهيم ناجي ، وبين طه حسين وابراهيم المصري . وقد رأى قطب ان طه حسين في نقده لناجي اتجه الى الجزئيات لا الكليات وانه اشتد في بعض المواضع شدة لا تتناسب مع الصورة التي رسمها لناجي في أول مقالة . في حين ان ابراهيم ناجي كان جزعا" مضطربا" في تلقّيه لنقد طه حسين " مما لا يليق بأديب ، وكلمته التي كتبها ردا" على طه حسين فيها دموع وفيها شهيق وزفير لا يليقان برجل". وعن المعركة مع ابراهيم المصري يقول قطب ان سببها "خبث طه حسين على ما به من طيبة".
- المعركة بين العقّاد وناجي وهي برأيه ليست معركة متكافئة وقواها غير متقاربة وأسلحتها مدافع ودبابات وطائرات وغواصات وسموم من جانب العقّاد مقابل قش وخشب وعصير من جانب ناجي. وفي رأي قطب ان الدافع الشخصي كان وراء هجوم العقاد على ناجي خاصة بعد ان زجت جماعة أبولو بناجي في مواجهة العقاد ولقبته بالشاعر العبقري المبدع.
- المعركة بين المصري وناجي وقد رأى قطب ان المصلحة وحدها حكمت العلاقة بين الرجلين فتقاربا حين مدح ناجي المصري وحين هاجمهما معا" طه حسين ، وتحاربا في أوقات اخرى . (مجلة الاسبوع – العدد 32- في 4/7/1934) .
- المعركة بين الزيات وطه حسين والسبب فيها السياسة : "فهي التي جمعت بينهما من قبل فتعارضا ثناءا" عطرا" وهي التي فرّقت بينهما من بعد" ( الاسبوع – العدد 34 في18/07/1934).
والحقيقة ان ما أراد سيّد ابرازه في معاركه النقدية والادبية وقي تقويمه لمعارك زمانه، تلك الخلاصة التي أوردها في حديثه عن المعركة بين أبو الوفا وجماعة أبولو حيث قال " انها كانت معركة صغيرة في جوٍها ودائرتها ولكن كبيرة من حيث العناصر الخلقية فيها"
(مجلة الاسبوع –العدد 34).
” في تلك المرحلة ، كان سيّد قطب مثل غيره غارقا" في المذاهب والتيارات الثقافية الاوروبية التي كانت تتدفق على مصر وتقبل عليها صفوة المثقفين“ ( د. الطاهر مكي: سيّد قطب وثلاث رسائل لم تُنشر بعد- مجلة الهلال- اكتوبر 1986 ص 121) حتى ان سليمان فياض قال انه سمع منه باذنه وهو يروي سيرة حياته ، قوله بانه ” ظلّ ملحدا" أحد عشر عاما" حتى عثر على الطريق الى الله ، وخرج من حيرة الالحاد الى طمأنينة الايمان “ ( مقالته: سيّد قطب بين النقد الادبي وجاهلية القرن العشرين – مجلة الهلال – سبتمبر 1986- ص 58). في تلك الفترة أصدر طه حسين”مستقبل الثقافة في مصر“ وفيه اعتبر مصر ” جزءا" من جغرافية وثقافة وحضارة البحر الابيض المتوسط وعليها ان تعود الى الثقافة اللاتينية وان تعطي ظهرها لما عداها “ . وقد نشر سيّد ردا" بعنوان” نقد كتاب مستقبل الثقافة في مصر“، صدر عام 1935( ولم أستطع العثور عليه) . وكان من المفيد معرفة رأي سيّد خاصة وانه كان صديقا" لطه حسين وتوفيق الحكيم ، ومتنورا" ليبراليا" يتأسى بالعقّاد ” في مرحلة شكه“، وهو وقف معه في عنف معاركه مع الكتّاب الاسلاميين وعلى رأسهم مصطفى صادق الرافعي ، ومحمود شاكر ومحمد سعيد العريان . لقد خاض سيّد على صفحات مجلة الرسالة ( الليبرالية ، لصاحبها احمد حسن الزيات) معركته ضد من أسماهم ” الرافعيين “ وقف فيها الى جانب العقّاد في رده على كتاب الرافعي ”الاعجاز في القرآن“. فحين أصدر الرافعي رده على رد العقّاد ( كتابه : على السفود) رأى فيه قطب ” كتابا" مكانه الحقيقي هو فصل الهجاء “ . وذهب قطب الى نفي ان يكون للدين أي دخل في معركة أدبية قائلا" :” ان الادب والشعر كالفنون مترجمة عن النفس البشرية وأحاسيسها وآمالها فلا دخل للدين فيه ، لانني أدرى من غيري بحقيقة الدين “ ( كتابه : كتب وشخصيات صدر عام 1946- طبعة 1983 – ص 5) . والى هذه المرحلة ، وتلك المواقف ، تعود مسألة اتهام سيّد قطب بانه " دعا الى العري الكامل" . وقد نقل هذه التهمة معظم الذين كتبوا عن سيّد قطب ( راجع خصوصا" أحمد موصللي : الاصولية الاسلامية ، دراسة في الخطاب الايديولوجي والسياسي عند سيّد قطب – 1993.. و عادل حموده : سيّد قطب من القرية الى المشنقة – 1987 ... و محمد حافظ دياب : سيّد قطب الخطاب والايديولوجيا 1997) . وقد نقل جميعهم هذه التهمة حرفيا" عن كتاب الشيخ محمود عبد الحليم (” الاخوان المسلمون- أحداث صنعت التاريخ “ – جزءان – دار الدعوة – الاسكندرية 1979) حيث أورد ( في الجزء الاول من كتابه – ص 190-191 ) وفي سياق حديثه عن شخصية حسن االبنا ” وبصيرته النافذة ورأيه الملهم “ رواية عجيبة غريبة قال فيها انه ” قرأ ، في ذلك الوقت ، في جريدة الاهرام مقالا" لسيّد قطب يدعو فيه الى العري التام وان يعيش الناس عرايا كما ولدتهم امهاتهم “. وان ذلك المقال أثاره الى حد انه كتب ردا" عليه وعرضه على حسن البنّا الذي لم يوافق على نشره .. والغريب ان محمد حافظ دياب ذكر عند نقله للرواية ان مقال سيّد قطب المقصود هنا نُشر في جريدة الاهرام بتاريخ 17 مايو – أيار 1934 وفي الصفحة السابعة تحديدا" .

وقد رجع الباحث محمد سيّد بركة الى العدد المذكور لا بل الى جميع الاعداد الصادرة في شهر مايو – أيار 1934 فلم يجد لسيّد قطب مقالا" بهذا العنوان .( راجع مقالة محمد سيد بركة في جريدة الشرق القطرية – عدد يوم 2 يوليو – تموز 1997 بعنوان : اتهام سيّد قطب بالدعوة الى العري ). والحقيقة برأيي تكمن في موقف سيّد قطب من الرافعي وكتابه الاعجاز في القرآن ، ووقوفه الى جانب العقاد في المعركة المشهورة .. وقد حمل الاسلاميون ( من الاخوان وغيرهم) على قطب لوقوفه ضد كاتب اسلامي كبير الى جانب علماني كبير في معركة أرادوها دينية.وبالامكان اكتشاف هذه الحقيقة بالعودة الى رواية محمود عبد الحليم نفسه .. فهي تأتي في سياق حديثه عن بصيرة والهام حسن البنّا وتبدأ بكلام عن مجلة الرسالة وعن الرافعي والعقّاد.. يقول محمود عبد الحليم (ص190) :
”انتهى سوق الادب في مصر بل في الشرق العربي كله الى مجلة الرسالة “.. وبعد حديث عنها وعن صاحبها احمد حسن الزيات ، يكمل عبد الحليم بانه ” كان يكتب فيها مصطفى صادق الرافعي وهو حامل لواء الادب الاسلامي ، كما كان يكتب فيها عباس محمود العقّاد وكان معروفا" عنه في ذلك الوقت انه يُمثل الجانب الآخر “.. ثم يستطرد عبد الحليم قائلا" انه” كان لكل من الرجلين مدرسة على شاكلته ومُريدون .. وكان من تلاميذ العقّاد في ذلك الوقت ، شاب أديب درعي اسمه سيّد قطب . ولم يكن سيّد قطب مجرد تلميذ للعقّاد بل كان أقرب تلاميذه اليه وألصقهم به، وأشدهم تشيعا" لأدبه وأفكاره واتجاهاته.. حتى ان مجلة الرسالة بعد ان لقي الرافعي ربه ظلت فاتحة صفحاتها للكتابة عن الرافعي ردحا" من الزمن ، فكان أشدالكتاب تهجما" على الرافعي واشادة بالعقّاد هو سيّد قطب . وكان هذا التهجم على الرافعي يحز في نفوس الالوف من قراء الرسالة الذين كانوا لا يقتنونها كل اسبوع الا لمقالة الرافعي ..على ان الرسالة مهما افسحت في صفحاتها للاضداد فقد كان لها من الكرامة والرهبة والوقار ما يجد الكاتب فيها نفسه ملتزما" بهذا الوقار مهما كان بطبيعته مسغا" منحلا". وقد يجد هؤلاء فيما سوى الرسالة من الصحف مجالا" لنشر آرائهم وابراز اسفافهم “. وبعدها مباشرة ينتقل عبد الحليم فجأة ليقول : ” وقد قرأت في ذلك الوقت في جريدة الاهرام “..الخ.. أي ان المسف المنحل الذي لم يستطع نشر آرائه السفيهة في الرسالة نشرها في الاهرام ، في ذلك الوقت .
ولكن سيّد كان ايضا" منحازا" الى العقّاد وضد طه حسين : ”ان مذهب الدكتور طه حسين هو فقط الدكتور طه حسين نفسه . اي ان الدكتور موهبة بلا امتداد ، بلا تلاميذ ، موهبة منفردة محبوسة في حدود صاحبها ولا يمكن ان تنقلب الى مدرسة أدبية تحمل اسم وخصائص ومميزات العميد. ورغم ان الدكتور طه حسين له عدد كبير من المريدين يحاولون التشبه بخصائصه والنسج على منواله فان واحدا" منهم لم يحقق”خصائصه “ الى اليوم على الوجه المطلوب.. ان مذهب الدكتور هو مذهب الاستعراض التصويري ولان الدكتور في خير حالاته يرسم لوحات متتابعة أدواته فيها الكلمات والجمل “ ( كتب وشخصيات ص 105). ولا يخفي سيّد اعجابه بالعقّّاد . ” في وضح النهار يعيش العقّاد ، صاحي الحس ، واعي الذهن ، حي الطبع ، لا يهوم الا نادرا" ولا يتوه فيما وراء الوعي ابدا".. معالم الاحساس والتصوّر عند العقّاد واضحة وهي على رحابتها وانفساحها وعلى عمقها ودقتها يحدها اطار من الوعي المتيقظ فلا تهيم في وديان مسحورة ولا تنطلق في متاهات مجهولة . على ان للمجهول حسابه في نفس العقاد . ولكن هذا المجهول نفسه يحيط به الوعي وهو فكرة يدعو الى فرضها العقل وليس الايمان بهذا المجهول توهانا" روحيا" ولا صوفية غامضة انما رحابة نفسية وفكرية “ ( كتب وشخصيات ص 84).

واعجابه بالعقّاد كناقد أدبي يتمحور خصوصا" حول كونه ”دارس الشخصيات الاول الى اليوم. ان افضل مواهبه تنصرف الى هذا اللون من الانتاج الادبي الذي يتسع لتجاربه النفسية والفنية على السواء . وفصل الشخصيات التي درسها في أعماله الادبية هو أبرزها بجانب فصل النقد الادبي ، وهو نوع من هذه الدراسات – واذا جاز لي ان أمد ببصري الى المستقبل قلت: هو أخلدها كذلك ... ان دور العقّاد في الدراسات – وفي الدراسات النقدية – هو الاصيل الباقي الذي أحسب ان الزمن لن ينقص من قيمته كثيرا" ، على ان الكثير من اعماله الاخرى قد لا يحتفظ بكل قيمته ، كما ان بعضها سينسى نهائيا" فلا يُذكر الا في معرض التاريخ “.(كتب وشخصيات ص 298).
وفي كتابه: ”النقد الادبي : اصوله ومناهجه “- يُحدد سيّد غاية النقد الادبي ووظيفته في النقاط التالية:
1- تقويم العمل الادبي من الناحية الفنية وبيان قيمته الموضوعية على قدر الامكان.
2- تعيين مكان العمل الادبي في خط سير الادب.
3- تحديد مدى تأثر العمل الادبي بالمحيط ومدى تأثيره فيه.
4- تصوير سمات صاحب العمل الادبي من خلال أعماله وبيان خصائصه الشعورية والتعبيرية وكشف العوامل النفسية التي اشتركت في تكوين هذه الاعمال ووجهتها الوجهة المعنية وذلك بلا تمحلّ ولا تكلُّف ولا جزم كذلك حاسم ..
وهو يُحدد كذلك مناهج النقد الادبي فيرى”انها تشمل المنهج الفني والمنهج التاريخي والمنهج النفسي، ومن مجموعة هذه المناهج قد ينشأ لنا منهج أدبي كامل للنقد الادبي ندعوه المنهج المتكامل “. ويبيّن ان ”الفصل الحاسم بين هذه االمناهج وطرائقها ليس بمستطاع وانما هي مجتمعة تكفل لنا صحة الحكم على الاعمال الادبية وتقويمها كاملا “.. فلا مجال للمفاضلة الحاسمة ولا للتفضيل المطلق بين هذه المناهج .. وايثار أحدها على الآخر لا يكون الا في الموضع الذي يكون فيه أجدى “... فبالنسبة اليه” المناهح بصفة عامة في النقد تصلح وتفيد حين تتخذ منارات ومعالم ولكنها تفسد وتضر اذا جعلت قيودا" أو حدودا" شأنها في هذا شأن المدارس في الادب ذاته .فكل قالب محدود هو قيد للابداع ، وقد يوضع القالب لتضبط به النماذج المصنوعة لا لتصب فيه النماذج وتصاغ “ (النقد الادبي – ص 222-224).
وعن الناقد الادبي يقول ان له عملان اساسيان: ”عمله في الجو العام وعمله مع كل مؤلف على حدة. فاما عمله في الجو العام فهو التوجيه والتقويم ووضع الاسس وتشخيص المذاهب وتصوير أطوارها ومناهجها . واما عمله مع كل مؤلف فهو وضع مفتاحه في أيدي قرائه الذين يقرأون أعماله متفرقة ولايدركون الطبيعة الفنية التي تصدر عنها هذه الاعمال ولا يتعرفون الى شخصيته المميزة الكامنة وراء كل عمل “ ( كتب وشخصيات – ص 6-7).
* وقد أعد سيّد قطب لدراسة المذاهب الفنية كتابا" بعنوان ”المذاهب الفنية المعاصرة “ ( لم استطع العثور عليه وقد ورد ذكره في : (كتب وشخصيات ص 8). كما ان كتابه ”كتب وشخصيات “ يُعد من أهم مصادر النقد الادبي لمرحلة الثلاثينيات والاربعينيات. وفيه تعرّض سيّد لعمالقة الادب وتناول بالتحليل والنقد العديد من أعمال الادباء العرب في الشعر والرواية والقصة القصيرة والتراجم والتاريخ. فمن ”أحلام شهرزاد“ و ”شجرة البؤس“ لطه حسين الى ”بيجماليون“ و”الرباط المقدس“ لتوفيق الحكيم ، الى الرواية الشعرية بين أحمد شوقي وعزيز أباظة ، الى المقارنة والموازنة بين العقّاد وهيكل وطه حسين في دراسة الشخصيات ، وبين كتاب المازني (بشار بن برد) وكتاب عبد الرحمن صدقي (أبو نواس) وكتاب عبد الحليم عباس (أبو نواس)، الى المعارك النقدية مع محمد مندور حول الشعر المهموس ومع اسماعيل مظهر وطه حسين وعبد المنعم خلاف، الى الحماس لشاب يلج عالم الرواية والقصة بروح مصرية أصيلة ، هو نجيب محفوظ في خان الخليليي التي قال عنها سيّد قطب ”انها خطوة حاسمة في طريقنا الى أدب قومي واضح السمات متميّز المعالم ، ذي روح مصرية خالصة من تأثير الشوائب الاجنبية – مع انتفاعه بها – نستطيع ان نقدمه مع قوميته الخالصة ، على المائدة العالمية فلا يندغم فيها ولا يفقد طابعه وعنوانه، في الوقت الذي يؤدي رسالته الانسانية ، ويحمل الطابع الانساني العام ، ويساير نظائره في الآداب الاخرى“ ( كتب وشخصيات ص 159).

سيّد قطب .. والقرآن .. والفن

منذ معركته ضد ”الرافعيين“ حول الاعجاز في القرآن ، انشغل سيّد قطب بابداع اطروحة متكاملة حول الاعجاز القرآني تعيد الى القرآن مرجعيته في الفن والادب ..
يقول آلان روسيون فى مقدمته لكتاب سيّد قطب حول المجتمع المصري – ص 12-13) فان سيّد كان طموحا" ”اذ كان يريد ان يوظف الاعجاز القرآني ليؤسس عليه نظرية للبلاغة العربية وللتعبيرات لادبية العربية تتجاوز مرحلة المعارضة والتفرقة السطحية بين الشكل والمضمون“ . ومن استعراض لكتابات سيّد حول القرآن (التصوير الفني في القرآن 1945 - مشاهد القيامة في القرآن 1947) وايضا" لكتاباته في النقد الادبي المتعلقة بموضوع الصُور والظلال والتصوير الفني (وهي أبرز ما ركّز عليه كما سنرى لاحقا") نستخلص الفكرة التالية التي عارض فيها الرافعي والاسلاميين عموما" ، واستحق عليها لاحقا" غضب العديد من المشايخ وعلماء الدين .ذلك ان قوة القرآن حسب قطب لا تكمن في جملة أو كلمة معينة بل في كيفية نقل الرسالة القرآنية المحتواة في جميع القرآن . وان جمال القرآن يكمن في تناسقه وموضوعه المتكامل – وان ما يربط القرآن بعضه ببعض ليس الرواية التاريخية او تتابع السور بل هو استخدامه للصُور والاصوات ، واستخدامه لظلال روحية ونفسية لترسيخ رسالته .

وقد لازم هذا المعنى سيّد قطب حتى في مرحلته الاصولية اللاحقة حيث نتبيّنه في كتابه الرائع ” في ظلال القرآن“ ( كتب ونشر أثناء وجوده في السجن – 8 أجزاء ). لقد دعا سيّد قطب الى فهم القرآن عن طريق المحادثة والتصورات الروحية والفطرية والنفسية وليس عن طريق شرح التركيبات النحوية واللغوية . وقد اشتقّ سيّد من تحليله للتعبيرات البلاغية القرآنية نظرية للابداع الأدبي مؤسسة على ما أسماه ”التجارب الشعورية“ أو”التذوق الفطري“ أو ”التخيّل الحسّي“ ..
في موسوعته الجميلة ”في ظلال القرآن“ ، يؤكد سيّد قطب على ان ”التصوير الفني هو الطريقة المفضلة في التعبير القرآني . وكان قد عرض لذلك في ”الرائد التصوير الفني في القرآن“ ، الا انه توسع في الظلال في التفسير الجمالي التصويري للآيات ، بحيث يعتبر سيّد ان استخدام القرآن للتصوير أداة ووسيلة وطريقة وصلت الى درجة الاعجاز، هو دليل اضافي على مصدر القرآن الالهي . وكان سيّد كثيرا" ما يقف بعد الانتهاء من تفسيرآية من الآيات ليبيّن الجمال في السياق والعرض والتنسيق والاداء وفق منهجه الفريد في النظر الى نصوص القرآن من زاوية جمالية . . فهو في سورة الملك يتحدث عن الكون البديع المتناسق الذي خلقه الله جميلا".. والجمال في تصميم هذا الكون مقصود كالكمال بل انهما اعتباران لحقيقة واحدة . فالكمال يبلغ درجة الجمال .ومن ثم يوجه القرآن النظر الى جمال السموات بعد ان وجّه النظر الى كمالها ( الآيات 3-5) . ويصف سيّد مشاهد الجمال ونماذجها مؤكدا" على توجيه القرآن للنفس باتجاه جمال النجوم في السماء وجمال الليالي والساعات والمراصد والزوايا وجمال القمر الحالم الساهي ليلة والزاهي المزهو ليلة والمنكسر الخفيض ليلة والوليد المتفتح للحياة ليلةوالفاني الذي يدلف للفناء ليلة (الظلال – ج6: ص 3633) ويستنتج سيّد في كل ما يستعرضه ان القرآن يستخدم التصوير الفني لان المعنى الكلي المجرد يظل حائرا" في التصوّر البشري ومائعا" ، حتى يتمثل في صورة محسوسة. ومهما اوتي العقل البشري من القدرة على التجرد فانه يظل في حاجة الى تمثل المعنى المجرد في صُور واشكال وخصائص ونماذج.. لذلك يضرب القرآن الامثال للناس ويقرب الى حسّهم معانيه الكبرى بوضعها في صور ومشاهد ومحسوسات ذات مقومات وخصائص واشكال( الظلال 6: 2296-2297) ... وفي أماكن عديدة يتحدث سيّد عن الاعجاز القرآني في تصوير النماذج الانسانية في ” لمسات عجيبة من الريشة المعجزة في رسم ملامح النفوس“ .".ان كل كلمة أشبه بخط من خطوط الريشة في رسم الملامح وتحديد السمات .. وسرعان ما ينتفض النموذج المرسوم كائنا" حيا" ، مميز الشخصية ، حتى لتكاد تشير اليه باصبعك وتفرزه من بين ملايين الاشخاص وتقول : ”هذا هو الذي أراد اليه القرآن .. انها عملية خلق أشبه بعملية الخلق التي تخرج كل لحظة من يد الباري في عالم الأحياء “. (الظلال 1: 204).. وقد وقف سيّد أمام قصة يوسف ( في السورة التي تحمل اسمه) ولاحظ فيها انها وردت بتمامها وبطولها في سورة واحدة وهو طابع منفرد في السور القرآنية جميعا".. وبعد استعراض للقصة وسياقها وتحليلها ادبيا" وفنيا" قال عنها انها ” النموذج الكامل لمنهج الاسلام في الاداء الفني للقصة .. وهي المعرض المتخصص في عرض المنهج القرآني من الناحية الفنية للأداء “ .. وهو استخرج من القصة الدلالات الفنية والاجتماعية والتاريخية وجعلها مناسبة لنقض الافكار المعاصرة حول ”الصدق الفني “ و ” الواقعية“ في كتابة القصة المقبولة .( الظلال 4: 1951-1963)..
ومن وقفاته الجمالية الفنية ، تفسيره الجمالي لصُور سورة الرعد وظلالها ومشاهدها وموسيقاها وسياقها وخصائص الاداء الفنية فيها ، والتقابل الفني العجيب فيها ( الظلال 4: 2045-2053). الى الكثير الكثير مما لا يمكن حصره هنا . وانما يمكن القول ان قارئ الظلال يقف على تحليل جمالي بياني رائع للصور والمشاهد الفنية والتصويرية للآيات القرآنية..
وقي هذا السياق يمكن ان نفهم اهداء سيّد قطب آخر مؤلف خصصه للنقد الادبي الى ” روح الامام عبد القاهر الجرحاني ، أول ناقد عربي أقام النقد الادبي على اسس علمية نظرية ولم يطمس بذلك الروح الادبية الفنية وكان له من ذوقه الناقد وذهنه الواعي ما يُوّفق به بين هذا وذاك في وقت مبكر شديد التبكير وقد شغل القدماء أنفسهم بمباحث عقيمة حول اللفظ والمعنى ولم يلمسوا قضية التصوير الفني بالرغم من اقتراب البعض منه مثل الجاحظ وابن قتيبة وقدامة وابو هلال العسكري وأخيرا" عبد القاهر الجرحاني الذي وضع نظريته في التخيّل “ ( النقد الادبي : اصوله ومناهجه – القاهرة 1948- ص 3).
ولعل أخطروأهم ما في موقف سيد قطب ونظريته في الادب والنقد ، حريته وجرأته في تناول الكتب المقدسة من هذا المنظار.. ففي دراسة له بعنوان : ” الصُور والظلال في الفن “ يتعجب سيّد من ” ان يكون القرآن هو كتاب العرب الاول ثم لا يستفيد الادب العربي من طريقته الاساسية شيئا" بعد نزوله وتيسيره للذكر في أيديهم الا فلتات في ديوان كل شاعر هي امتداد للتصوير في الأدب الجاهلي وعلى طريقته لا على طريقة القرآن الرفيعة . .. ولعل مرد ذلك الى ان الحاسة الفنية عند اولئك الشعراء كانت أقل من ان تتطلع الى هذا الافق الرفيع ، فلعلّنا ان نكون اليوم أحق بهذا التطلع من جميع من مضوا من شعراء العربية خلال أربعة عشر قرنا" “ ( كتب وشخصيات – ص 28).
ومن النصوص الادبية التي يختارها سيّد ويبدي اعجابه بها وتقريظه لها ، مقاطع من ”نشيد الأنشاد“ في التوراة ، ينقلها ويعلّق عليها داعيا" الى فهم الصُور الحسية التي تتوالى في مقاطع على لسان الحبيب والحبيبة :
” كتفاح بين شجر الوعر ، كذلك حبيبي بين البنين ، تحت ظله اشتهيت ان أجلس ، وثمرته حلوة بحلقي ، أدخلني الى بيت الخمر ، ورايته فوقي محبة .... شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني“ ...
” ما أجملك وما أحلاك أيتها الحبيبة باللذات .. قامتك هذه شبيهة بالنخلة ، وثدياك بالعناقيد ، قلت اني أصعد الى النخلة وأمسك بعذوقها وتكون ثدياك كعناقيد الكرم ورائحة أنفك كالتفاح وضحكك كأجود الخمور السائغة المرقرقة السائحة على شفاه النائمين. “.( استخدم سيّد قطب الترجمة القديمة للتوراة – لترجمة جديدة أدق وأجمل : انظر دار المشرق 1989 – سفر نشيد الأنشاد – الصفحات 1381-1392).. ويُعلق سيّد على هذه الصُور الحسية ( دون ان تثور فيه الحمية القومية كما ثارت عند نواب الامة اللبنانية الاشاوس الذين منعوا تمثيل مقاطع من نشيد الأنشاد في قلعة بعلبك بعد أكثر من نصف قرن على موقف امام الاصولية الاسلامية من نص توراتي ) فيقول بانها صورة للحب الفطري ويعتبرها ”أعلى في آفاق الفن على كل ادعاء بالغزل على طريقة المعاني الذهنية التي يلجأ اليها شعراء العذرية “.. ويتحدث سيّد عن تأثير الشعراء الاوروبيين وانتفاعهم " بكتابهم المقدس" ، وذلك واضح ” في طريقة الاحساس وفي طريقة التعبير على السواء“ ويصل الى استنتاجه الخطير ( وهنا بيت القصيد ) بأن ” القرآن بين ايدينا وهو يتبع في التعبير طريقة التصوير الحي الذي يزوّد مساحة المعنى النفسية ويحيله صورة حية ، فلا ننتفع بها .. انني ادعو الى تملّي طريقة القرآن في التصوير والتظليل فهي أعلى طريقة فنية للأداء .. فان نقلها الى عالم الادب خليق بأن يرفع هذا الادب الى آفاق رفيعة لم نصل اليها الآن “.. ( كتب وشخصيات ص 37-40).
وفي دراسة اخرى بعنوان ” نفحات من فارس“ يستعرض سيّد غزليات الشاعر حافظ الشيرازي التي ترجمها ابراهيم أمين الشواربي ( وهي اربعماية وست وتسعون مقطوعة) ويتوقف كثيرا" عند الصُور الحسية حيث يختار بعض الابيات ( منها على سبيل المثال : ” أي شيء أجمل من رفقة الاحباب والتمتع باللهو والرياض والربيع الجميل؟. ان شفة الحبيب ياقوتة ظمأى الى الدماء ، وانا من أجل رؤيتها اضحّي بالروح … مبعثر الخصلات محمر الوجنات ، ضاحك الاسنان ، تلعب به الخمر ، سكران ممزق القميص ، يتغنى بالالحان ... ولقد شربنا ما صبّه الساقي في كؤوسنا .. سواء كانت خمرة من خمور العربدة او من خمور الفردوس والجنان “. قيعلّق عليها بعد ان يخلد ” مع حافظ الى الغناء العذب بروح صادقة لا تكدرها شوائب الحياة ولا هموم العيش ولا احقاد الناس ، ولا تفسرها كذلك غواشي القلق ولا هموم الفكر ولا الجدل الذهني العقيم “ (ص 68) ويقول ”انها لعجيبة مدهشة تلك التي تجعل القارئ يتابع حافظا" في لذة وارتياح فلا يمل ولا يسأم ذلك التكرار الذي لا ينتهي في الغزليات وذلك اللعب بالنكات اللفظية والتعبيرية التي تزحم الديوان والتي كانت نظائرها في شعر البديعيين في اللغة العربية كفيلة باسقاط هذا الشعر وكفيلة كذلك بالسأم والضجر الى حد الاختناق“ (ص 72) وفي ختام تعليقاته نقرأ جرأة سيّد حين يقول عن حافظ انه شاعر ” مستهتر في عشقه الصوفي او الغزلي، نشوان بخمره الالهية أو النواسية، وليقل من شاء كيف شاء فهو خير عند نفسه وعند الله من المرائين والمنافقين، ومن الوعاظ الثقلاء“ (ص 79) ‼ نعم .. هذا ما كتبه سيّد قطب ‼.
ولسيّد قطب رواية اسمها أشواك ( القاهرة 1947) هي قصة حب مهداة الى حبيبته التي لم يتزوجها ولعلها قصة حب واقعية اذ المعروف ان سيّد قطب مثله مثل استاذه العقّّاد لم يتزوج .
وهو كتب عن الحب والزواج وآلام العلاقة التي لا تنتهي بزواج وجروحها النفسية والعاطفية .. وفي أشواك كلام عن الانجذاب الجسدي بين الحبيبين ووصف دقيق غير معتاد لجمال الحبيبة ومحاسنها وملامحها المغرية وصدرها الظاهر الذي يفتن الناظر(ص 45) الخ...
كما ان له مواقف رددها كان يُعبّر فيها عن اعجابه بفن الطرب وحماسه له الى حد انه وصف ام كلثوم ومحمد عبد الوهاب بانهما ” من الظواهر الكونية التي لا تتكرر“ (سليمان فياض= مرجع سابق). وكان أبدى اعجابه في مقال شهير بأداء ” الفرقة القومية لألحان سيّد درويش “. وكتب في مقال آخر عن كون” مباهج الحياة عنصر أصيل في الاصلاح الاجتماعي “ (انظر مقالاته في مجلة الشؤون الاجتماعية بين 1940و1946 والتي جمعها ونشرها آلان روسيون)..

وباعتقادي فان المرحلة التي بدأت مع الحرب العالمية الثانية (1939-1940) وانتهت بنكبة فلسطين (1948) وسفر سيّد قطب الى أميركا ، قد شهدت تبلور الموقف الجديد لدى سيّد قطب ، كما لدى غيره من كبار مفكري وكتّاب عصره، وآيته الانتقال من الوقوف على أرض الحضارة الغربية الى البحث عن أرض جديدة ، شرقية ، تُعبّر عن روح مصر الحقيقية ، وهو ما رآه مثلا" في ” قنديل ام هاشم“ ليحيى حقي ، ” وخان الخليلي“ لنجيب محفوظ . ” لقد كانا مصريين دما" ولحما" وعاطفة وشعورا" في هذين العملين المعجبين.. وذلك هو الطريق “.. (من رسالة له الى توفيق الحكيم- مجلة الرسالة 16/5/1949). لقد عرف سيّد قطب نفس التحول الذي عرفه عباس العقّاد وطه حسين وغيرهما من رواد جيله. وهو تحوّل جرت تسميته عادة ”العودة الى الاسلام “ او”العودة الى الشرق والى مصر“ او حتى ”بعودة الروح “ نظرا" لتركيز كتـّّّّّّّاب ذلك العصر على تميّز الشرق عن الغرب بأهمية وقيمة الروح على حساب المادة ! وقد جاءت الحرب الوحشية المدمّرة لتكشف أسوأ ما في المادية الغربية من عناصر شر وهمجية ودمار.. ثم جاءت نكبة فلسطين لتكشف غياب ”المنطق“ وفقدان ”العدالة“ في المنظار الغربي الداعم لقيام اسرائيل والصامت عن مأساة القرن التي حلت بعرب فلسطين.. تلك كانت ” الصدمة “ التي أعادت ” الوعي والروح “ الى سيّد قطب .. ولكن عبر مسارٍٍ طويل متعرج(1940-1948) فبدأ مشواره الجديد من النقد الادبي، ومن القرآن تحديدا".
لقد عرفت المرحلة ما بين 1940 و1946( مقالاته في مجلة الشؤون الاجتماعية) تبلوُر حسّ اصلاحي اجتماعي لدى سيّد قطب أقرب الى الفكر الليبرالي التقدمي والى التيار الاجتماعي الديمقراطي(الحركة الفابية بانكلترا) ركّز على معاني الديمقراطية الحقيقية واكتشف فيها قيمة العدالة الاجتماعية و”التسوية بين الجميع في فرص النجاح“ و” تيسير الحياة للفقراء“، ودعا الى قيام ”المجتمع المتوازن“، و”الوطنية الصادقة“، وتساءل فيها عن ” معنى الحضارة وهل نحن متحضرون“ وعن ”الفوارق السحيقة بين مظاهرنا وحقائقنا“ وعن ”ضعف تشكيلاتنا الاجتماعية، وهل نحن امة“، وعن ”عاطفة الخير والواجب لدى الجمهور“، وعن ”حيرة وضياع الجيل الجديد “، و” أزمة الزواج“، وكتب فيها عن” مُقومات المجتمع المصري“، و”عن الريف، والبيئة والارض والتقاليد“ وعن ”العقلية الاجتماعية“، وعن البحث العلمي”المعتمد على الاحصاء والتجربة“، وعن ”الفن والطرب والفنون الجميلة والمباهج والثقافة والتعليم للمرأة ومكافحة الامية والكتب المدرسية والطفولة والمبرّات الاجتماعية للمحرومين من الاطفال“ الخ .الخ. الخ. وكلها عناوين لمقالاته في تلك المرحلة والتي شكلت تيارا" عارما" في البلاد أدى به الى الاصطدام بالسلطات الملكية والى انتقاله الى خوض المعركة السياسية الصريحة ضد النظام وعلى صفحات الجرائد الوطنية. وطبيعي ان يكون تأثّره بأفكار عصره الوافدة عبر الكتب والمجلات التي كانت تصل من بيروت والتي ترجمت أروع الأدب الروسي والنقد الاجتماعي الاوروبي والاميركي، قد ظهر بوضوح في كتاباته يومذاك، كما ظهر ميله الى ايجاد طريق ثالثة ما بين روسيا واميركا المتطاحنتين في غزو فكري وثقافي كبير بعد الحرب العالمية.. الى ان صرخ صرخته المشهورة ” الحمد لله لقد وجدت القرآن “.. وكان قد نشر في 1939 مقالة في مجلة المقتطف عن التصوير الفني في القرآن .. وتحوّلت الى كتاب شهير حمل نفس العنوان وأهداه الى أمه (1945) عرض في صفحاته الاولى الى كيفية عودته او اهتدائه الى القرآن من باب النقد الادبي والبحث الجاد عن الصور والظلال الحسية التي تخاطب الحس والوجدان . فأعاد قراءة القرآن وكان قرأه مع أمه وهو صغير. ولكنه لم يجد فيما قرأه وسمعه وهو شاب ”ذلك القرآن اللذيذ“ الذي كان يجده في طفولته وصباه.. ” واأسفاه لقد طمست كل معالم الجمال فيه وخلا من اللذة والتشويق“.. فعاد الى قراءته لكي يجد ” قرآني الجميل الحبيب ! وأجد صوري المشوقة اللذيذة .. انها ليست في سذاجتها التي كانت هناك. لقد تغيّر فهمي لها، فعدت اليها الآن أجد مراميها وأغراضها ، وأعرف انها مثلٌ يُضرب لا حادث يقع.. ولكن سحرها ما يزال.. وجاذبيتها ما تزال.. الحمد لله لقد وجدت القرآن“.( التصوير الفني في القرآن - الطبعة السادسة- دار الشروق 1980- ص 7). ومن التصوير الفني ، ومشاهد القيامة في القرآن ، مزج حسه الاجتماعي الديمقراطي الليبرالي بواقع عصره وبلاده ، فكان كتابه السياسي الاسلامي الاول ”العدالة الاجتماعية في الاسلام“ (1948) الذي أعتقد انه كان السبب المباشر وراء قرار وزارة المعارف ارساله (أو نفيه) في بعثة دراسية الى أميركا. ان كتبه التي صدرت في أعوام 45-48 تدل على نظرة اسلامية اصلاحية ليبرالية متنوّرة لم تكن لتبعد كثيرا" عن نظرات كبار مفكري جيله ولا عن نظرة حسن البنّا وجماعة الاخوان المسلمين في تلك المرحلة.. تلك كانت فترة الاسلام الليبرالي المنفتح المعتدل الوسطي وهي انتهت بنكبة فلسطين وباغتيال حسن البنّا (1949) ثم بقيام مرحلة الانقلابات العسكرية في المشرق العربي .
في مقالة مدح فيها كتاب حسين فوزي ”سندباد عصري“ قدّم سيّد قطب تفسيره الممتع والعذب لاسطورة سندباد . وكأنه كان يحكي عن حاله : ” السندباد المخلوق الذي يناديه المجهول فيلبيه، ويجذبه الخطر فيستجيب اليه، ويتعرض للاهوال الشداد الجسام في كل رحلة من رحلاته، ثم يبلغ مأمنه بعد اليأس ، ويسترد ثروته بعد الفقدان .. ولكن المجهول يناديه ، والخطر يجذبه اليه، فما يلبث ان يودّع الأمن ويستصغرالثروة ويعود الى المجازفة من جديد وراء ذلك المجهول ، المحجوب ، وخلف هذا الخطر المحبوب ... ان في قرارة كل نفس انسانية سندباد او شعرة من السندباد ، ولو لم يطوف مثله في بحار الارض ويتعرض في طوافه لشتى الاخطار.. من منا لم يجذبه المجهول مرة او مرات.. ولم يستهوه الخطر للحظة او لحظات ، ولم يستعذب المعرفة ولو كلفته التضحية والتضحيات.. “ (كتب وشخصيات – ص 222) .. نعم .. من منا لم.. ولم؟.

سيّد قطب .. وأميركا

في عام 1948 انتدبته وزارة المعارف في بعثة ” لدراسة المناهج التعليمية في الولايات المتحدة الاميركية “.. فقضى فيها عامين كاملين من آب- اغسطس 1948 وحتى آب- اغسطس 1950. ويقول هو في وصيته الشهيرة ( التي صدرت بعنوان لماذا أعدموني؟ عن جريدة الشرق الاوسط السعودية- وهي عبارة عن تقرير كتبه للمحققين الذين كانوا يستجوبونه في السجن الحربي في 22 أكتوبر 1965 ) انه سافر الى اميركا في ربيع عام 1948 ، ولم يكن يعرف الا القليل عن الاخوان المسلمين . وفي أميركا بدأ التحوّل الذي سيغيّر مجرى حياته لاحقا" . فهو كالكثيرين غيره من المثقفين الذين تحوّلوا من الماركسية او الليبرالية الى الاسلام ( عمار اوزيغان ومالك بن نبي في الجزائر، جلال آل أحمد في ايران والكثيرون في لبنان ومصر وفلسطين والعراق ...)، اكتشف الاسلام في الغرب ، وتبنّى نظرة اصولية الى الذات بسبب صدمة الاحتكاك بالآخر وما تركته من آثار سلبية.. ففي أميركا (وقبل رحلة السجون المصرية) بدأت أصولية سيّد قطب تتبلور من خلال نقد الآخر ، (الحضارة الاميركية الغربية المادية) ونقد ” انبهارنا بهذا الآخر وضياع هويتنا وتشتت قوانا “... وفي رسائله الى أصدقائه (توفيق الحكيم ، والناقد والكاتب شقيقه محمد قطب ، وزميله في دار العلوم محمد جبر ، وأنور المعداوي ، والاديب عباس خضر محرر باب المتابعات الثقافية في مجلة الرسالة ، والشاعر محمد أبو الوفا ، وغيرهم ، وهي رسائل نشرتها مجلة الرسالة) بدأت ملامح التكوين الفكري الجديد لسيّد قطب تتشكل وسِمتها الرئيسية توتر قلق العلاقة بالذات والآخر.. في رسالة مطوّلة الى صديقه توفيق الحكيم ( نشرتها مجلة الرسالة في عدديها 827 و 828 بتاريخ 9 و 16 أيار- مايو 1949) يقول سيّد قطب : ” صديقي الكبير الاستاذ توفيق الحكيم .. شكرا" لك على هديتك الكريمة: كتابك الجديد”الملك اوديب“، انها شيء عزيز ثمين بالقياس الى هنا في تلك الورشة الضخمة السخيفة التي يسمونها العالم الجديد. لقد استروحت في كلمة الاهداء ”ممن يذكرك دائما" “ نسمة رخيمة من روح الشرق الأليف . فالذكرى هي خلاصة الروح- وما كان أحوجني هنا الى تلك النسمة الرخيمة. ان شيئا" واحدا" ينقص هؤلاء الاميركيين – على حين تذخر أميركا بكل شيء – شيء واحد لا قيمة له عندهم.. الروح! “.. ” أشعر بأنني أرد لك بعض جميلك حين أُحدثك بصراحة كاملة عن عملك الفني الجديد، مؤثرا"هذه الطريقة على كتابة مقالة نقد. ليس بي الآن أقل رغبة لكتابة مقالات وليس لدي الوقت أيضا". انما يشجعني على الكتابة للحظة انني أستحضر شخصك في خيالي واُبادلك حديثا" بحديث ، ليس فيه كلفة التحضير ولا تعمّل الفكرة ولا اصطناع الاسلوب .. ما أحوجني هنا لمن أُبادله حديثا" بحديث في غير موضوع الدولارات ونجوم السينما وماركات السيارات. حديثا" في شؤون الانسان والفكر والروح “.. ( الى الاستاذ توفيق الحكيم – مجلة الرسالة العدد 827 – الاثنين 9- 5- 1949). اننا نجد هنا كل عناصر النقد الاسلامي المعاصر للحضارة الغربية المادية (والاميركية تحديدا") وهو نقد تبلور على يد سيّد قطب في رسائله في مجلة الرسالة ، وفي كتابه (الذي لم نعثر على أثر له) ” أمريكا التي رأيت “ (والذي نُشرت بعض حلقاته في مجلة الرسالة – الاعداد 957-959-961 بتاريخ 5 و 19 نوفمبر و 3 ديسمبر 1951).

ولقد حدثني الامام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين مرة عن تاثّره هو وأبناء جيله أثناء مرحلة الدراسة في النجف بمقالات سيّد قطب في مجلة الرسالة وبخاصة رسائله الى أصدقائه والتي نُشرت ما بين عامي 1949 و1951. ولعلنا نلحظ بوضوح أثرسيّد قطب ورؤيته الحضارية للمسألة الاميركية في مقالات وكتب الامام شمس الدين والسيد الشهيد محمد باقر الصدر والسيد محمد حسين فضل الله والسيد محمد حسن الامين والسيد هاني فحص وغيرهم ممن درس في النجف في سنوات الخمسين والستين ، وهم جميعا" كتبوا عن الحضارة الغربية وعن المادية في مواجهة الحضارة الاسلامية . ولعلي قرأت عند الامام شمس الدين وسمعت منه نفس المعاني ونفس الروح ، بل وربما نفس العبارات الواردة عند سيّد قطب حين يقول : ” أمريكا .. الدنيا الجديدة ، ذلك العالم المترامي الاطراف الذي يشغل من أذهان الناس وتصوراتهم أكثر مما تشغل من الارض رقعته الفسيحة وترف عليه أخيلتهم وأحلامهم بالاوهام والاعاجيب وتهوي اليه الافئدة من كل فج.. أمريكا تلك المساحات الشاسعة .. تلك الموارد التي لا تنضب.. تلك المعاهد والمعامل والمتاحف ... عبقرية الادارة والتنظيم ، ذلك الرخاء السابغ كأحلام الجنة الموعودة.. ذلك الجمال الساحر.. تلك اللذائذ الحرة المطلقة من كل قيد أو عُرف.. امريكا هذه كلها...ما الذي تساويه في ميزان القيم الانسانية وما الذي أضافته الى رصيد البشرية من القيم أو يبدو انها ستضيفه اليه في نهاية المطاف؟ أخشى الا يكون هناك تناسب بين عظمة الحضارة المادية في أمريكا وعظمة ”الانسان“ الذي ينشئ هذه الحضارة.. واخشى ان تمضي عجلة الحياة ويطوي سجل الزمن ، وأمريكا لم تضف شيئا" – او لم تضف الا اليسير الزهيد – الى رصيد الانسانية من تلك القيم التي تميّز بين الانسان والشيء ، ثم بين الانسان والحيوان .“..
ولقد سمعت ايضا من الشيخ شمس الدين ان مصدر ذلك الموقف من الحضارة الاميركية يعود الى كتابات ارنولد توينبي وبرتراند راسل والتي كانت تتنبأ بنهاية عصر الرجل الابيض وحضارته التي لم يعد لديها ما تعطيه للبشرية.. ولقد أخذ سيّد قطب هذا المعنى حين قال بان كل حضارة انما تعيش بمقدار ما تملك ان تعطي البشرية من رصيد في ادراك الحياة وبمقدار ما يسمح هذا الرصيد للحياة بالامتداد والنمو والرقي .. ولقد انتهت الحضارة الاوروبية الاميركية الى ان تقصر همها على انتاج المصانع، اما في حقل المبادئ فانها ظلت تجتر مبادئ الثورة الفرنسية..(سيّد قطب – نحو مجتمع اسلامي – دار الشروق – ط3- 1978- ص 21-22) وحسب سيّد قطب فان منشأ الفكرة الشيوعية يعود الى احتلالها ” في عالم المبادئ مساحة اوسع من المساحة التي انتهت اليها مبادئ الثورة الفرنسية في العالم الغربي.. ان الشيوعية هي النهاية الطبيعية لحضارة خالية من الروح ، خاوية من المثل ، مجرّدة من الاحلام“...(نفس المصدر- ص 22-23)..ولكن الشيوعية نفسها ستقع هي الاخرى في ورطة ولن تستطيع سدّ جوع الانسان ” الى هدف انساني أكبر والى صلة بالكون اشمل من البيئة والى عقيدة في قوة اكبر من البشرية والى مستقبل دائم النمو لا يقف عند حد محدود“..(ص 29).. وهنا دور الاسلام ، الوارث الحضاري لقيادة البشرية .. وانه ” لو لم يكن الاسلام موجودا" لبحثت عنه الانسانية ولابتدعت نظاما يشبهه بعد انحسار الموجتين السابقتين“ ..(ص 33). اننا نجد نفس هذا المعنى لدى كل مفكري الحركة الاسلامية العربية المعاصرة وهو معنى تحول لاحقا الى طوطم عبر شعارات ”الاسلام هو الحل“ ، و”الاسلام هو البديل“، ففقد كل مصادر غناه وحيويته ومستواه النقدي الثوري التي كانت له على ايدي شمس الدين ومطهري وشريعتي ومالك بننبي .. خصوصا" وانه عند سيّد قطب لم يحجب رؤيته لمكامن الخلل والضعف في المجتمعات الاسلامية، ولم يجعله يمجّد الذات ويحطّم أو يشوّه الآخر... “ آه يا صديقي ، ليتك لم تذهب الى فرنسا .. ولكنك ما كنت بمستطيع الآن ان تقوم بدورك الاساسي في وضع القالب الفني الصحيح للتمثيلية ( المسرحية ) العربية اذا لم تذهب الى هناك .. فدراستك هناك للمسرح الاغريقي هي التي مكنتك من وضع القالب السليم .. ان الخير لا يمكن تمحيصه والشر لا يخلو من الخير بحال.. والآن يا صديقي، هل ادلك على النبع؟ لقد قال لك استاذك الفرنسي ، كما قلت في ” زهرة العمر“ وأنت تعرض عليه محاولاتك باللغة الفرنسية: ” اكتب بلغتك تبدع “. هذا هو نفسه ما أقوله لك: ”استوح ميراثك لتبدع‘‘(رسالة الى توفيق الحكيم- مجلة الرسالة- العدد 828- الاثنين 16/5/1949).
” اننا نملك أشياء ولكننا لا ننتفع بها ولا نستغلها .. اننا نملك طاقات من الذكاء الخارق حين نقارن شعبنا الى شعب كالامريكان، ولكننا نهمل هذه الكنوز بالجهل والامية والفقر المدقع القاتل لكل موهبة وذلك لتستمتع حفنة من الباشوات والكروش بترف لا تعرفه القرون الوسطى“.(من رسالته الى عباس خضر – مجلة الرسالة- العدد 887- الاثنين 3 يوليو- تموز 1950).
” انني حين أكتب عن أمريكا ما احسه من حقائق لا أعني انني راض عن الحياة في الشرق وما فيها، ولكن هناك شيئا" واحدا" لا يصح ان نغفله : ان امريكا تستخدم كل رصيدها الممكن واننا نهمل رصيدنا فنبدو مفلسين.. ان الحاضر الواقع في بلادنا لا يرضي احدا"ولكن الممكنات امامها كثيرة لو وثقنا في أنفسنا وفي رصيدنا المكنون وهذا هو مفترق الطريق .. ولو انك عشت في امريكا بعض الوقت كما عشت لحمدت للشرق روحه رغم هذا الخمول الذي يُعانيه“ (نفس المصدر).. وهو كان في مكان سابق من نفس الرسالة أطلق مقولته الفظيعة الدقة والامينة التشخيص حين قال: ” تصلح أمريكا ان تكون ورشة العالم فتؤدي وظيفتها على خير ما يكون . اما ان يكون العالم كله كأمريكا فتلك هي كارثة الانسانية بكل تأكيد“..(وما أشبه اليوم بالبارحة!).
لقد درس سيّد قطب المجتمع الاميركي وحضارته دراسة وافية نلحظها في ما ورد في كتبه اللاحقة مثل: ”الاسلام ومشكلات الحضارة“ (طبعة 1962) و” نحو مجتمع اسلامي“ (طبعة 1969) و” معركة الاسلام والرأسمالية“ (طبعة1951) و” المستقبل لهذا الدين“ (طبعة1961) و” الاسلام والسلام العالمي“ (طبعة1951) وهو يتحدث عن دراسته للمجتمع حين كان في أميركا فيقول: ” كنت ليلة في احدى الكنائس ببلدة جريلي بولاية كولورادو فقد كنت عضوا" في ناديها ، كما كنت عضوا" في عدة نواد كنسية في كل جهة عشت فيها ما بين واشنطن في الشرق وكاليفورنيا في الغرب، اذ كانت هذه ناحية هامة من نواحي المجتمع، تستحق الدراسة عن كثب ومن الباطن لا من الظاهر، وكنت معنيا" بدراسة المجتمع الامريكي “ (الاسلام ومشكلات الحضارة ص 82) وفي كتابه ” امريكا التي رأيت“ والذي قال انه سينشره في كتيّب في سلسلة اقرأ، ونشر بعض حلقاته في الرسالة كما سبقت الاشارة، يستعرض سيّد قطب ” معالم “ الحضارة الاميركية لينتقدها، ولكنه في استعراضه السريع يبدو عالم اجتماع وعالم نفس وعالم سياسة واسع الاطلاع عميق الثقافة دقيق الملاحظة متين التعبير: ” وانه ليبدو ان العبقرية الاميركية كلها قد تجمعت وتبلورت في حقل العمل والانتاج بحيث لم تبق فيها بقية تنتج شيئا" في حقل القيم الانسانية... شعب يبلغ في عالم العلم والعمل قمة النمو والارتقاء بينما في عالم الشعور والسلوك بدائي لم يفارق البشرية الاولى، بل أقل من بدائي في بعض نواحي الشعور والسلوك“...
وتحضرني هنا واقعة طريفة تبين مقدار معرفة سيد قطب بالمجتمع الاميركي (قبل 55 عاما)ومقدار جهل معظمنا اليوم رغم كل التقدم في وسائل الاتصال والاعلام والمعرفة! فقد نقل عادل حمودة في كتابه" سيد قطب من القرية الى المشنقة" مقاطع طويلة من رسائل سيد من اميركا والمنشورة في مجلة الرسالة معلقا على ما ورد في احداها من وصف سيد قطب لمباراة في لعبة "كرة القدم" فقال حمودة:"ادهشني ان يتابع سيد قطب مباريات الكرة ولكن فاته ان تلك اللعبة لا تسمى في امريكا كرة القدم(فوتبول) وانما تسمى بيسبول وهي لعبة امريكية خاصة لها شهرة كرة القدم في بلاد اخرى".(ص 100 من كتابه).والحقيقة ان عادل حمودة ،الصحفي الشهير،هو الذي اخطاْ ولم يفهم اسماْ العاب الكرة في اميركا كما عرفها ونقلها سيد قطب الذي كان على حق حين وصف اللعبة واسمها فعلا كرة قدم – فوتبول-وهي غير الفوتبول العالمية التي اسمها في اميركا سوكر(Soccer) وهي طبعا غير البيسبول.. وكان سيد قطب في ما كتبه عن اميركا مراقبا فطنا لا بل باحثا سوسيولوجيا وليس مجرد ناقل من غير علم او معرفة..
أننا حين نقرأ اليوم ” امريكا التي رأيت“ لسيّد قطب ، نفاجئ لدقة التحليل وعمق الرؤية وكأننا نقرأ النص اليوم في مطلع الالفية الثالثة (وبعد مرور نصف قرن على كتابته). في ”امريكا “هذه يتخلى سيّد قطب عن عقيدة ” ان الادب للادب“.. ورغم نقده وعدائه للشيوعية فانه صار يؤمن بنوع من ” الادب الملتزم“ المنبثق عن العقيدة وواقع الحياة وصدق العواطف.. وفي ذلك نلمس بداية الاصولية الشبيهة الى حد التماثل بالاصولية الشيوعية لمرحلة ستالين، والتي عبّر عنها جدانوف في خطابه الشهير والمنشور بعنوان: ” ان الادب كان مسؤولا" “(ترجمة رئيف خوري). وهي نظرية سادت حتى في الولايات المتحدة الاميركية الامر الذي جعل اهل الادب والفن والمسرح ” شيوعيين مارقين“ في نظر الادارة الاميركية الى ان شنت حملة التطهير الشهيرة أيام المرحلة المكارثية مطلع الخمسينات.
فالتحول الاصولي كان اجتماعيا" بداية وقد عرفه سيّد قطب بالاحتكاك بالتيارات المتناقضة إبّان وبعد الحرب العالمية الثانية حيث ماتت القيم وهلكت الروح.. ”ان المبادئ والافكار في ذاتها – بلا عقيدة دامغة- مجرد كلمات خاوية او على الاكثر معان ميتة! والذي يمنحها الحياة هي حرارة الايمان المشعّة من قلب انسان! لن يؤمن الآخرون بمبدأ او فكرة تنبت في ذهن بارد لا في قلب مشع.. لا حياة لفكرة لم تتقمص روح انسان ولم تصبح كائنا" حيا" دبّ على وجه الارض في صورة بشر! كذلك لا وجود لشخص – في هذا المجال- لا تعمر قلبه فكرة يؤمن بها في حرارة واخلاص. كل فكرة عاشت قد اقتاتت قلب انسان! اما الافكار التي لم تطعم هذا الغذاء المقدّس فقد ولدت ميتة ولم تدفع بالبشرية شبرا" واحدا" الى الامام“.. (أفراح الروح-ص 23-24).ان هذا التحول شبيه الى اقصى الحدود بتحولات مماثلة عرفتها البلدان العربية منتصف السبعينات من القرن العشرين حين انتقل قادة ومفكرون ماركسيون ماويون بارزون الى التيار الاسلامي على قواعد الاسلام الحضاري في مواجهة الغرب..
في أميركا يتوقف سيّد قطب عن الكتابة .. ” ولعل منشأ هذا العزوف هو الرغبة في تحقيق شيء اكبر من مجرد الكتابة . انني على ايمان بقوة الكلمة وامتدادها . كنت احس اننا في مصر وفي الشرق قد تكلمنا اكثر مما ينبغي وانه آن أوان ان نصنع شيئا" آخر وراء الكلام وغير الكلام“ . (مقالته في الادب والحياة- مجلة الكتاب – الجزء الرابع – المجلد العاشر- 1951). وهو يصل الى ذروة موقفه هذا في رسالته الى صديقه الناقد الادبي أنور المعداوي ( نشرها صلاح الخالدي: اميركا من الداخل بمنظار سيّد قطب – دار المنار- جدّة 1985- ص 158) ” تنتظر عودتي لأخذ مكاني في ميدان النقد الادبي ! أخشى ان أقول لك ان هذا لن يكون ، وانه من الأولى لك ان تعتمد على نفسك الى ان ينبثق ناقد جديد! انني ساُخصص ما بقي من حياتي وجهدي لبرنامج اجتماعي كامل يستغرق أعمار الكثيرين. ويكفي ان أجدك في ميدان النقد الادبي لأطمئن الى هذا الميدان“.
. ان قول سيّد قطب ” ببرنامج اجتماعي كامل يستغرق أعمار الكثيرين“ يفيد معنى القناعة بضرورة صياغة مشروع لنهضة حضارية شاملة لا ينحصر مداه في عمل جيل واحد ولا تتحدد اُطره في زاوية واحدة من النظر بل هو برنامج ” شامل" وهو "مشروع تاريخي" لا يلتزم العجلة والتسرع او النظرة الانقلابية النخبوية..ان في هذا ما يدحض نظرية المؤامرة الانقلابية القطبية ويطرح ضرورة اعادة النظر في كل المحاكمات التي اًجريت والادانات التي لحقت بمشروع سيّد قطب .
وقد قيل ان سيدا" بدأ التفكير في الاخوان المسلمين وهو في أميركا وخصوصا" بعد نكبة فلسطين ودور الاخوان في الجهاد والدفاع عن القرى والمدن في الحرب على الجبهة المصرية والاردنية ( راجع كتاب الاخوان المسلمون في حرب فلسطين). وقد ذكر سيّد قطب لشقيقه محمد ( بعد عودته من اميركا) انه اقترب من الاخوان عاطفيا" بعد اغتيال حسن البنّا ( شباط - فبراير 1949) حيث رأى الفرحة والشماتة تعم الاوساط الصحفية والاكاديمية الاميركية الامر الذي دفعه الى اعادة النظر في موقفه من دعاوى ”الحياد والموضوعية“ و”النزاهة العلمية“ ورؤيته للتحيّز في أسطع صوره. فهو تريَّث أولا" وانتهى ثانيا" من مقولة الادب للادب، وانتقل ثالثا" الى أدب الحياة والالتزام والمسؤولية قبل ان تطوُح به الاحداث والنكبات الى خندق السياسة.. ولعل أصدق وصف وتفسير لما حدث له نجده في وصيته الاخيرة قبل اعدامه وهي التي نشرتها جريدة الشرق الاوسط في كراس صغير بعنوان: لماذا أعدموني؟ - دون تاريخ نشر) اذ يقول فيها عن تلك المرحلة: ” لفت نظري بشدة بعد اغتيال حسن البنّا ما ابدته الصحف الاميركية وكذلك الانكليزية من اهتمام بالغ بالاخوان ومن شماتة وراحة واضحة في حل جماعتهم وضربها وفي قتل مرشدهم ، ومن حديث عن خطر هذه الجماعة على مصالح الغرب في المنطقة وعلى ثقافة الغرب وحضارته فيها“.. وانه صدرت كتب بهذا المعنى سنة 1950 يذكر منها كتابا" لجيمس هيوارث دن بعنوان ” التيارات السياسية والدينية في مصر الحديثة“ .. كل هذا لفت نظري الى أهمية هذه الجماعة عند الصهيونية والاستعمار الغربي. وفي الوقت ذاته صدر لي كتاب العدالة الاجتماعية في الاسلام سنة 1949 مصدرا" باهداء هذه الجملة : ” الى الفتية الذين المحهم في خيالي قادمين يردون هذا الدين جديدا" كما بدأ، يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم الخ .. “ ففهم الاخوان في مصر انني اعنيهم بهذا الاهداء ولم يكن الامر كذلك ولكنهم من جانبهم تبنوا الكتاب واعتبروا صاحبه صديقا" وبدأوا يهتمون بأمره. فلما عُدت في نهاية عام 1950 بدأ بعض شبابهم يزوروني ويتحدث معي عن الكتاب.. “ ( لماذا أعدموني- ص 10-11). في البداية عمل سيّد قطب منذ عودته الى مصر على محاولة اصلاح التعليم ومناهجه مقدما" الاقتراحات والنصائح الى وزارة المعارف التي كانت قد أوفدته الى اميركا خصيصا" لدراسة النظم التعليمية وامكانيات تطبيقها في مصر. وقد قيل الكثير حول اختلاف سيّد قطب و”رجال أميركا“ في وزارة المعارف وأبرز ما قيل جاء على لسان يوسف العظم الذي نسب الى سيّد قطب قوله بان” مناهج التربية الاميركية غريبة عنا ولا تنبع من أعماق جذور امتنا ولا ترتبط بأصالتها برباط “ . ودعا سيّد الى اتخاذ المنهاج الاسلامي الشامل المتكامل أساسا" للتربية في ديار الاسلام .. فقامت قيامة الابواق الامريكية في وزارة التربية والمعارف المصرية وكان على رأسها يومئذ الاستاذ اسماعيل القباني يغفر الله له.. “ ( الخالدي – ص 40).
وحسب العديدين ممن كتبوا سيرة حياته فان رفض اقتراحاته ومشاريعه أدى الى ترك سيّد قطب الوزارة وتقديم استقالته في أواخر عام 1952. الا انني أميل الى الاعتقاد ان انغماسه في العمل السياسي بعد عودته من اميركا، وصِلته بالظباط الاحرار اثناء التحضير لثورة يوليو وصداقته لابرز اركان الثورة لا بل وتتلمذهم عليه اذ كانوا يترددون الى منزله في حلوان ثم في شقته بالقاهرة ، وكان هو المدني الوحيد الذي يحضر اجتماعات مجلس قيادة الثورة اضافة الى قراره الانخراط في حركة الاخوان المسلمين وتسلمه مسؤوليات فيها كان السبب في استقالته من وزارة التربية..وفي ذلك يقول سيّد نفسه: ” واستغرقت أنا عام 1951 في صراع شديد بالقلم والخطابة والاجتماعات ضد الاوضاع الملكية القائمة والاقطاع والرأسمالية وأصدرتُ كتابين في الموضوع غير مئات المقالات في صحف الحزب الوطني الجديد والحزب الاشتراكي ومجلة الدعوة التي كان أَصدرها الاستاذ صالح عشماوي ومجلة الرسالة وكل جريدة او مجلة قبلتْ ان تنشر لي بلا انضمام لحزب او جماعة معينة . فظل الحال كذلك الى ان قامت ثورة 23 يوليو سنة 1952. ومرة أُخرى استغرقتُ كذلك في العمل مع رجال ثورة 23 يوليو حتى فبراير سنة 1953 عندما بدأ تفكيري وتفكيرهم يفترق حول هيئة التحرير ومنهج تكوينها... وفي الوقت نفسه كانت علاقاتي بجماعة الاخوان تتوثق باعتبارها في نظري حقلا" صالحا" للعمل للاسلام على نطاق واسع في المنطقة كلها بحركة احياء وبعث شاملة.. “ ( لماذا أعدموني؟- ص 11).
وكان سيّد يرى بانه ليس هناك من بديل يكافئ حركة الاخوان المسلمين للوقوف في وجه المخططات الصهيونية والصليبية الاستعمارية ” التي كان قد عرف عنها الكثير وبخاصة في فترة وجوده في أميركا “ ( المصدر نفسه). وكان من نتيجة ذلك انضمامه الى الاخوان في عام 1953 أي بعد خلافه مع الظباط الاحرار.. الا ان الاخوان مع ترحيبهم به فهم حدّدوا مجال عمله في الامور الثقافية لقسم نشر الدعوة ودرس الثلثاء والجريدة التي تولى رئاسة تحريرها وتعطلت بعد صدور اثني عشر عددا" منها .. وقد ظلّ سيّد بعيدا" عن الامور الحركية وهذا أمر مفهوم كون الاخوان تعاملوا معه كمثقف اسلامي وكونه حديث الصلة التنظيمية بهم .(* راجع كتابنا: من حسن البنّا الى حزب الوسط - دار العلا- بيروت 2000-)
ومن هنا فانه صادقٌ في قوله بانه ظلّ بعيدا" عن الامور الحركية وانه كان بريئا" من تهمة عضوية الجهاز السري ورئيسا" لقسم المنشورات فيه ..

لقد اعتقل سيّد مع من اعتقل من قيادات وكوادر الاخوان في يناير- كانون الثاني 1954 بعد اصطدام حصل في الجامعة بين الاخوان وهيئة التحرير ( وهي حزب الظباط الثوّار وقد رفض سيّد الانضمام له). ولكن قيادة الثورة أفرجت عن المعتقلين في آذار - مارس 1954 وأعادت اليهم الاعتبار كأبطال وكثوّار.. ثم عادت لتلقي القبض عليهم بعد حادث المنشية في 26 اكتوبر 1954(محاولة اغتيال عبد الناصر في الاسكندرية).. وبقي سيّد في السجن حتى عام 1964 ليفرج عنه مع من أُفرج عنهم يومها ، ثم ليعود مرّة اخرى واخيرة الى السجن في حملة اعتقالات صيف 1965 والتي أعلن عنها عبد الناصر في خطابه الشهير في موسكو يوم 30 آب / اغسطس 1965.. وبعد سنة، كان سيد قطب شهيدا" معلقا" على حبل المشنقة ليتحول اسطورة ما تزال حية راهنة...