حوار مع الشيخ راشد الغنوشي
بمناسبةالذكرى الثامنة والعشرين للإعلان عن
حركةالإتجاه الإسلامي بتونس
يونيو حزيران 1981 ـ 2009
الحوار.نت : نتقدم إليك بهذه المناسبة ( الذكرى الثامنة والعشرين للإعلان عن حركة الإتجاه الإسلامي ) بأحر التهاني. بما توحي إليك هذه المناسبة في هذا العام بالذات حيث تشهد تونس محطة إنتخابية رئاسية وبرلمانية ( هي الولاية الخامسة للرئيس الحالي) كما تشهد البلاد منذ سنوات نشوء صحوة إسلامية واسعة قد تكون ـ بحسب بعض المراقبين ـ وريثا شرعيا لحركة النهضة خاصة فيما يتعلق بقضية الهوية العربية الإسلامية للبلاد التي فشلت خطة تجفيف منابع التدين في إستئصالها.
الشيخ الغنوشي.بدء نحمد الله تبارك وتعالى حق حمده على أن هدانا لنعمة الاسلام "وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله" وأن ساق لنا هذه النعمة على يد أكرم خلقه وخير أنبيائه ورسله وخاتمهم ، محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه، تسليما كثيرا
* ولقد زادنا سبحانه فضلا ومنة أن حملنا شرف الدعوة الى تجديد دينه في زمن وبيئة سادهما الاعراض والتنكب عنه، فنفضنا غبار التاريخ عن العقائد حتى استقامت وعن بيوت الله حتى عمرت وعن القرآن فما عاد مهجورا، واقتحمنا بدعوة الاسلام قلاع الحداثة، تزاحم الدعوات المخالفة وتنتصر للقرآن بالحجة والبرهان حتى ظهرت عليها جميعا وعاد الاسلام بعد اغتراب وتهميش الى قلب التاريخ وقلب الصراع الحضاري، حتى أعجز أعداءه فما عادوا يمكلون سبيلا للصد عنه غير امتشاق حجة القوة للوقوف في وجه قوة الحجة.
* ونحن اليوم نحتفي بالذكرى الثامنة والعشرين للتأسيس الثاني للحركة الاسلامية في صيغة "حركة الاتجاه الاسلامي"خلفا للصيغة الاولى للحركة الاسلامية التونسية الحديثة ممثلة في "الجماعة الاسلامية"التي انبعثت في بدايات السبعينيات من القرن الماضي الاداري، بهذه المناسبة نترحم أولا على شهداء الحركة ممن لاقوا ربهم في هذا الطريق صابرين محتسبين سواء أكانوا على أعواد المشانق (مثل الشيخ أحمد الازرق وبودقة وبولبابة)أم كانوا يمارسون نشاطهم الدعوي فوجه الى صدورهم رصاص الغدر والاغتيال( الطالب عثمان ابن محمود والطالب الطيب الخماسي والطالب عدنان سعيد.. )أم كانوا تحت سياط الجلادين( الاستاذ عبد الرؤوف العريبي والرائد المنصوري...)أم كانوا ضحية القتل الممنهج في غياهب السجون( الاستاذ سحنون الجوهري والشيخ الزرن والاستاذ اسماعيل خميرة ..)ويلحق بهم الذين قذف بهم خارج السجن وهم على مشارف المنية.نحتسبهم عند الله شهداء ونهنئهم بما أعد الله لأمثالهم من مكرمات ومقامات، ونهنئ آباءهم وأمهاتهم وزوجاتهم وذرياتهم.
* كما نهنئ بهذه المناسبة البطل المقدام الدكتور الشيخ صادق شورو الرئيس السابق للحركة الذي زج به للمرة الثانية في غياهب السجون وكان قد أمضى في الاولى ثماني عشرة سنة لم يفصل بينهما غير ثلاثة أسابيع، وذلك بعد أن فشلوا في كسر شوكته والنيل من شموخه، نهنئه بصموده ونهنئ اسرته المناضلة كما نهنئ كل أبناء هذه الحركة المباركة حيثما كانت مواقعهم وما اختار الله لهم من البلاء، نهنئهم وعوائلهم وندعوهم جميعا الى المزيد من الصبر والثبات في هذا الهزيع الاخير من الليل الذي تمر بها بلادنا وأمتنا، ونبشرهم بأن الصبح قريب إن شاء الله" إن موعدهم الصبح ، اليس الصبح بقريب؟".
* كما نشكر بهذه المناسبة حلفاءنا في المعارضة وندعوهم الى المزيد من التضامن ورص الصفوف في مواجهة الاستبداد ، من أجل تونس حرة من دون قهر ولا وصاية ولا استثناء، فالحرية إما أن تكون للجميع او لن تكون لأحد. كما نشكر بهذه المناسبة كل من وقف معنا في محنتنا ومع شعبنا الأبيّ من قوى تحررية حقوقية وسياسية وإعلامية وأكادمية داخل البلاد وخارجها. كما نعبر بهذه المناسبة عن تضامننا الكامل مع كل ضحايا القمع سواء أكانوا من شباب الصحوة الاسلامية الذين تدور عليهم في صمت رهيب رحى القمع ، أم كانوا من أبناء الحوض المنجمي ونطالب بكف اليد عن الجميع وإفراغ السجون نهائيا من ضحايا القمع السياسي والديني والاقتصادي.وما ينبغي لنا أن نذهل لحظة عن أسرانا في فلسطين المحتلة ولا عن دعمنا الكامل لحركات المقاومة حيثما وجد احتلال.
*ونرى مناسبا في هذه الذكرى أن نلقي أضواء على سياقات الاعلان عن تاسيس حركة الاتجاه الاسلامي وما ترتب عن ذلك من آثار وردود أفعال وما خسرت تونس والمنطقة من وراء إقصاء الحركة الاسلامية.
سياقات التأسيس:
محليا:
جاء هذا التحول للحراك الاسلامي سنة1981 وكانت بداياته قبل عشرية دعوة اسلامية احيائية لإعادة الوصل بين الدين والحياة الحديثة التي صاغها عهد الاستقلال على أنقاض الاسلام أحيانا وبمعزل عنه أحيانا أخرى أو توظيفا له، جاء هذا التحول من دعوة إحيائية عامة لا تلامس السياسة إلا من بعيد، الى حركة سياسية ، جاء في سياق تحولات كبرى وقعت في البلاد، رغم تمظهراتها المتعددة إلا أنها كانت تعبيرا عن أزمة سلطة تشخصنت في زعيم، فتت في عضده امراض الشيخوخة وطالت شيخوخته فتمحورت الصراعات حول من سيخلفه ؟ورغم الطبيعة الاجتماعية الغالبة على الاحداث الكبرى التي حصلت في البلاد منذ نهاية الستينيات إلا أن مرض الزعيم والصراع على خلافته مثّلا العامل الرئيس وراء الاحداث الكبرى التي هزت كيان الدولة ومنها انتفاضة جانفي 1978 التي كانت زلزالا هز بشدة الثقة في النموذج التنموي السائد وفي زعامته وحزبه وما يتصل به من فكر وقيم ، وهو ما ادى غير بعيد الى تداعيات أخرى منها اندلاع العنف في قفصة جانفي1980على يد مجموعة من شباب تونس المهاجرتلقوا الدعم من جارتي البلد، ورغم أن وزنهم لم يكن يمثل تهديدا حقيقيا للدولة إلا أنها بسبب ما تعيشه من شبه فراغ في الزعامة استبد بها الهلع لدرجة استنجادها بالجيش الفرنسي والمغربي،بينما المتسللون أفراد معدودون بأسلحة خفيفة.وفي أجواء من الاضطراب الاجتماعي والحيرة المستبدة بالسلطة والرعب وكمخرج من حالة الانسداد طرح الوزير الاول الجديد مشروعا للاصلاح السياسي يفتح كوة لتنفيس الاحتقان من طريق السماح بتعددية سياسية محدودة، عبر عنها رئيس الدولة في مؤتمر حزبه في 9-4-1981أنه "لا يمانع من تاسيس جمعيات سياسية".
أ- لم يات هذا التطور دون سوابق سياسية وإعلامية وفكرية في البلاد هيأت له وضغطت من أجل حصوله رغم أن ولادته كانت قيصرية، سفحت فيها دماء غير قليلة. ومن تلك السوابق الممهدة ما كان قد حصل منذ بدايات السبعينيات من انشقاق داخل الحزب الحاكم قاده عدد من زعاماته المهمة رفضت ما أدمن عليه زعيم الحزب من انفراد مطلق بالسلطة. وكان على راس هؤلاء السيد أحمد المستيري أهم رواد المشروع الديمقراطي في تونس ، ولم يلبث هؤلاء أن أسسوا النواتات الاولى للغراس الديمقراطي في البلاد من طريق التاسيس للرابطة التونسية لحقوق الانسان ولجريدة الراي ثم الاعلان عن حركة الديمقراطيين الاشتراكيين فلم تأت نهايات السبعينيات حتى كان في البلاد قاعدة لمؤسسات مجتمع مدني جمعيات وأحزابا وصحفا ، بل مضى الامر اكثر من ذلك الى تطوير علاقات تنسيق بين جماعات معارضة ذات توجهات ايدولوجية مختلفة لبراليين ، اشتراكيين ، شيوعيين ،اسلاميين. حتى أن الحركة الاسلامية كانت تنشر بياناتها في الراي دون اسم عدا توقيع شيخيها مورو والغنوشي، ما حمل صاحب الجريدة السيد حسيب ابن عمار رحمه الله ، ضمن تصنيفه للبيانات أن يطلق اسم الاتجاه الاسلامي على بياناتنا فارتضيناه. وإنه من قبيل الاعتراف بالفضل لأهله اعتبار السيد أحمد المستيري أبا شرعيا للمشروع الديمقراطي في تونس والسيد حسيب ابن عمار ناطقا باسم هذا المشروع الذي تتلمذ فيه الكثير، منهم الجيل الاول من ابناء الحركة الاسلامية ، الذين ردوا بعض جميله، فاستجابوا لندائه لهم وهم في ردهات المحاكم صائفة1981أن يدعموه في معركته الانتخابية، فأوعزوا الى قواعدهم بذلك، ففعلوا، فتحقق فوز له باهر، لولا عودة حليمة الى عادتها القديمة في التزييف، شاهدة على نفسها بالفشل في أول اختبار.
ب- إن كل حديث في تونس عن بدايات الانفتاح الديمقراطي التي طالما تعرضت ولا تزال للإجهاض ما ينبغي أن يقلل من أهمية دور المنظمة الشغيلة التي ارتبطت منذ نشاتها بالاحداث الكبرى في البلاد، فاعلا أساسيا فيها، إيجابا أو سلبا، فقد كانت حاضرة في الاحداث الفاصلة. وحيثما ما مالت حسمت. كان دورها مشهودا في بلورة وتعميق فكرة الاستقلال وربطها بالنضال الاجتماعي . وفي المعركة داخل الحركة الوطنية بين جماعة الديوان السياسي(حزب وبرقيبة) وجماعة اللجنة التنفيذية(حزب الثعالبي)، مالت مع الاولى فرجحت كفتها وهمشت الاخرى. وفي المعركة بين ابن يوسف وبورقيبة انحازت الى الاخير، فسلّمته البلاد . وفي سياق معركتها لانتزاع استقلالها من براثينه خلال السبعينيات التقط المجتمع بعض أنفاسه فنشات نواتات لحياة اعلامية وسياسية وجمعياتية وأمكن للجامعة أن تحصل على قدر كبير من استقلالها وتخريج اجيال مسيسة والاسهام معها في الحد من طغيان الدولة، غير أن الاتحاد وفي خضم معركته مع السلطة في نهاية السبعينيات وكان زعيمه التاريخي المرحوم الحبيب عاشور في غياهب السجون أمكن للسلطة أن تنسج مع قيادته اليسارية خيوط تحالف لمواجهة العدو الجديد الذي أخذت حراب السلطة تتجه اليه،فتشكل زواج شاذ لأول وآخر مرة في تاريخ هذه العلاقة إعلانا عن جبهة انتخابية بينهما، بينما كانت الاعتقالات والمحاكمات في صفوف الاسلاميين على أشدها،وكان ذلك بداية لتحالف قطاع من اليسار ضد الحركة الاسلامية وضد الديمقراطية أسهم ولا يزال في إجهاضها رغم ما حصل من تطور ايجابي من خلال ولادة 18أكتوبر فرزا بين يسار مناضل ويسار انتهازي، كما هو موجود في كل التيارات للاسف.وما استطاعت المنظمة الشغيلة ان تقوم من تلك الوهدة منذ انزلقت اليها بل بقدر امعان السلطة في القمع ومصادرة الحريات ونهب حقوق الشغالين كلما أمعنت المنظمة في التذيل رغم سخط وتململ قواعدها، وذلك تحت لافتة خادعة مقاومة الأصولية- وما من أصولية في البلاد بل في العالم طرّا أقسى وأنكى من أصولية نظام السوق الذي يطيح كل يوم بالملايين، وأوقف البلاد على شفى الافلاس وحمل مواطنيها على البحث عن مفر ابتغاء ما به يتبلغون، حتى بالارتماء في لجج البحار أو هروبا الى البلاد المجاورة.والحقيقة أن ضرب الحركة الاسلامية جاء عقب ضرب الاتحاد سنة1986 خطوة ضرورية لفتح الطريق أمام الخطة التي اعتمدتها الدولة سنة1986، خطة دمج تونس في البوتقة الراسمالة فكان لزاما تجريد الجسم الاجتماعي من أقوى أجهزة دفاعه التي يمكن أن تتصدى لخطة الدمج:اتحاد الشغل والاتجاه الاسلامي.
ج ــ وافق هذا التطور الجاري في المجتمع توجها صوب تحول ديمقراطي مع أزمة عميقة وحالة انسداد يعيشها النظام، ما حمله ليقدم على اتخاذ اجراءات تنفيسية لم تمس من بنية الدولة التسلطية الشمولية المتمحورة حول زعيمها وحزبها، توافق مع وضع داخلي كانت "الجماعة الاسلامية" تمر به والمتمثل في انكشاف تنظيمها لأول مرة لدى أجهزة الامن بما لم يبق معه مبرر لاستمرار الإسرار به وعدم الاعلان عنه للناس سبيلا لتأمينه في الحضن الشعبي ، لا سيما والدولة قد فتحت الطريق الى ذلك. وتم بسرعة بلورة مشروع للاعلان عن الحركة وطرحه للحوار مع صفّها، وخلال شهرين أمكن إجراء استفتاء على مبدإ الاعلان، فحصل على أكثر من ثلثي الاصوات، فانعقد مؤتمر للحركة أقر الاعلان وترك لمجلس الشورى وضع التفاصيل والتراتيب، وفي صبيحة 5-6-1981 انعقدت الهيأة التأسيسية ل"حركة الاتجاه الاسلامي"(الاسم البديل للجماعة الاسلامية)بمنزل الشيخ المرحوم محمد الصالح النيفر وحضور الشيخ عبد القادر سلامة الى جانب ثلاثين مندوبا قدموا من جميع انحاء البلاد.وضمت الهيأة ثلاث نساء.وتم الاتفاق على البيان التاسيسي لحركة الاتجاه الاسلامي . وفي اليوم الموالي انعقدت بمكتب الاستاذ عبد الفتاح مورو ندوة صحفية تم الاعلان فيها عن ولادة حركة سياسية وعن مكتبها السياسي وهيأتها التأسيسية.
عربيا.
وكما أن هذا التطور للحركة الاسلامية لم يكن معزولا عن سياق التطورات الجارية بالبلاد ، لم يكن كذلك معزولا عن سياقات التطور في المنطقة العربية والاسلامية، وبالخصوص التطورات الجارية في مصر بعودة الاخوان المسلمين الى ساحات العمل.وإن احتاج هؤلاء الى وقت أطول حتى يستعيدوا علاقتهم بالوقائع الجديدة مرتضين العودة الى السياسة ولو من طريق التحالف مع عدوهم التاريخي الوفد. كما كان لاندلاع الثورة الاسلامية في ايران 1979- بالاضافة الى انتفاضة 1978العمالية والتواصل مع تنامي الحركة الديمقراطية- تأثير غير قليل في تسييس الحركة الاسلامية وتعميق رؤيتها الاجتماعية والسياسية باعتبار الاسلام غدا منظورا اليه أنه ثورة المستضعفين على الاستكبار الدولي وعملائه المحليين كما هو ثورة على الفراعين والمتألهين.
آثار الاعلان:
لقد كان للاعلان عن حركة الاتجاه الاسلامي والوثيقة التي صاحبته(البيان التأسيسي) ووقائع الندوة الصحفية آثار واسعة وعميقة ممتدة في كل الاتجاهات.
أ ــ لا نكون مغالين إذا اعتبرنا أنه على الصعيد الوطني لا تزال البلاد على نحو أو آخر لم تخرج عن سياقات ذلك الحدث وما أفضى اليه من تداعيات أفضت الى استدعاء ابن علي للانقاذ، إنقاذ تأكدت الحاجة اليه وخصوصا إزاء نتائج انتخابات 1989التي كانت النهضة هي الفائز فيها وفي الاقل حسب اعتراف السلطة هي زعيمة المعارضة ، بنسبة قاربت 20% النسبة التي قررت السلطة بعد أن أفاقت من ذهولها توزيعها رشاوى على كيانات لا تحصل مجتمعة حتى على 1%. لقد ظل ذلك الحدث حتى يومنا هذا العامل الاساسي الحاضر الغائب الموجه لمعظم سياسات السلطة الداخلية والخارجية هروبا من شبح الكابوس النهضوي.
ب- مثل الاعلان على الصعيد الثقافي الحضاري تجسيدا لعودة الاسلام المهمش الى قلب التاريخ فاعلا في مراكز الحداثة،في المعاهد والجامعات والنقابات ونوادي الثقافة فضلا عن المؤسسات التقليدية.
ج- مثل البيان التاسيسي أول وثيقة اسلامية حديثة على صعيد الحركة الاسلامية وبالخصوص في العالم العربي وثيقة تتبنى بوضوح وحسم الخيار الديمقراطي دون تلعثم ولا استثناء ولا تردد وترفض العنف سبيلا للتغيير وتعلن انحيازها للعمال والمستضعفين ولحركات التحرر بما فيها الكفاح ضد التمييز العنصري في جنوب افريقيا والمناصرة لحقوق النساء كما تأخذ على عاتقها الاسهام في مهام التجديد والاجتهاد. وعندما تحدى خلال ندوة الاعلان ، صحفي، رئيس الحركة لاختبار حدود التعددية في تصوره،ماذا سيكون موقفه لو أن غالبية التونسيين اختارت في انتخابات حرة الحزب الشيوعي؟ لم يتردد في التصريح انه لن يسعنا غير احترام إرادة الشعب. كان ذلك الموقف متقدما على صعيد الحركات ذات الخلفية الايدولوجية اسلامية وماركسية وقومية على حد سواء، فلا يزال معظمها يتطور في اتجاه تبني ديمقراطية حقيقية أي بلا إقصاء ولا وصاية على الشعب. وما احتسته النهضة كأسا واحدة ظل الآخرون يتجرعونه على دفعات. وكثير منهم لمّا يبلغوا النهاية، ومعظمهم لا يزال متشبثا بحق الوصاية على الشعب، وكلّ له استثناءاته وشياطينه التي تستحق الاقصاء. ولا يقتصر الامر على بعد واحد من أبعاد الديمقراطية القبول بالنظام التعددي دون اقصاء وإنما يتجاوزها الى الابعاد الاجتماعية انحيازا الى مبدأ العدالة الاجتماعية وما يقتضيه من انحياز للمستضعفين وللنقابات المدافعة عن حقوقهم ومناصرة لحقوق النساء وهن القطاع الاوسع من المستضعفين الى جانب الاطفال . ولقد ذكرت لي ناشطة اسلامية مغربية أن أدبيات النهضة المدافعة عن حقوق المراة مثل كتابنا "المراة بين القرآن والمجتمع"كن يتداولنه سرا ، لما حمله من دعوة للمساواة لم تكن يومئذ مستساغة في الوسط الاسلامي في نهاية السبعينيات والنصف الاول من الثمانينيات.لقد كان لتلك الادبيات ولا يزال تأثيراتها على الصعيد المحلي وعلى امتداد الاسلام، ولم يحد من ذلك التاثير غير ما تعرضت له التجربة ولا تزال من عمليات اجهاض واغتيال حرم تونس – كما ذكر مرة الزعيم محمد المصمودي- من تجربة ثرية كانت ستتعزز بها مكانتها في العالم وقد غدا الاسلام عنصرا فعالا في السياسات المحلية والدولية على نحو غدا معه الحكم على نظام يقوم بمدى ديمقراطيته ، وديمقراطيته في بلاد العرب والمسلمين تقاس بمدى قدرته على دمج اسلامييه، من هنا ارتفعت في الميزان الدولي حظوظ دول كالمغرب وتركيا بسبب نجاحها في اشراك اسلامييها في المنتظم الديمقراطي بينما غدت دول مثل تونس ومصر لا تذكر إذا ذكرت إلا في سياق التنديد بانتهاكات حقوق الانسان( يكفي للتاكد متباعة بسيطة لبرنامج الحصاد المغاربي في الجزيرة).
ماذا كان من آثار لتغييب النهضة؟
على غرار المؤلف المشهور للعلامة الهندي الكبير أبي الحسن الندوي"ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟"كان أخونا الكاتب الداعية الشيخ الهادي بريك قد كتب سلسلة من المقالات ناسجا على منوال مشابه:ماذا خسرت تونس بإقصاء النهضة؟ ولكم كان الزعيم صديقنا الاستاذ محمد المصمودي قد عبر عن حسرته على خسران تونس فرصة كانت مهيئة لها أن تقدم من خلال حركة الاتجاه الاسلامي تجربة متميزة في المزاوجة بين الاسلام والحداثة ، فضاعت عليها فرصة التقطتها دول أخرى فغدت مضرب الامثال في الديمقراطية من خلال التعايش بين اسلامييها وحداثييها ، بينما غدت تونس شغلا شاغلا وموضوعا لأكثف وأطول تقارير المنظمات الحقوقية. وهل تذكر تونس في الحصاد المغاربي اليومي لقناة الجزيرة- مثلا- خارج وقائع الاعتداء على حقوق الانسان. ويمكن في هذا الصدد الوقوف على النقاط التالية :
أولا- لم تكد تمر عشرية على ظهور الدعوة في السبعينيات حتى كانت قد تغلغلت في أعماق الشعب ومؤسساته بما يذكر بتغلغل الحركة الوطنية في مرحلة الكفاح ضد المستعمر، بل يفوقها بحكم عمق التدين لدى التونسي وما ولّده عهد الاستقلال من تعطش للدين وخشية مما أخذ يتفشى بأثر حركة التغريب الجارفة من أخطار على الاسرة وعلى القيم فوجد في الحركة الاسلامية المنسابة عبر جيل جديد هو محط آمال أهله في ارتقاء اجتماعي تعزز باستقامة خلقية مثل البر بالوالدين والاحسان الى الجيران ، فلم يعد العائد الى أهله في الريف يحمل اليهم من المدينة كما كان معتادا عادات غريبة عنهم بل غدا يعود اليهم حاملا دعوة الاسلام تجدد مخزونه في نفوسهم، فغدا الشاب العائد من المدينة يؤم والديه في الصلاة ويدعو اليها جيرانه وينفض الغبار عن مسجد القرية المهجور ويقيم فيه حلقات لتدريس القرآن والفقه والسيرة، نافضا عن التدين غبار الزمن، مادا جسرا بين الماضي بالحاضر، بين الدين والحياة.
ثانيا: تحويل الدولة ماكينة قمع خالصة:ماكان ممكنا لمخطط الدولة في تجفيف ينابيع التدين الذي تبنته الدولة ولمخطط استئصال النهضة أن يأخذ طريقه الى النفاذ دون إخضاع الجسم الاجتماعي كله لمخطط تطهير شاملة وتكييف جهاز الدولة وتحويله ماكينة رهيبة للقيام بهذه الامة فكانت عشرية التسعينيات كما دعاها بحق بعض الدارسين بسنوات الجمر،العشرية الحمراء، حيث دخلت الدولة كلها والقطاع الاوسع من نخبتها الحداثوية في حرب صليبية شاملة ليس على الحركة الاسلامية وحسب بل على الاسلام ذاته وعلى كل صوت معارض حقوقي او سياسي او ثقافي فكانت حربا على ابسط قيم الحداثة التي طالما بشرت بها مثل الحريات وحقوق الانسان وحقوق النساء، فتم تكييف برامج التعليم والثقافة والاعلام والامن والقضاء والعلاقات الخارجية لتنفيذ تلك الخطط.
ثالثا: عشرية من التطهير الديني والثقافي والسياسي: لقد كان ضرب النهضة قضاء مبرما على الخطوات المتواضعة التي قطعتها البلاد على طريق الديمقراطية والحداثة الحقيقية التي تتمحور حول قيمة الحرية، بما يؤكد أنك لا يمكن لك القضاء على معارضتك الاقوى وتبقى لك صلة بديمقراطية أو حداثة. وكانت النهضة بشهادة السلطة نفسها كما صرحت بها انتخابات 1989زعيمة المعارضة.واضح اليوم أنه في عالم الاسلام لا ديمقراطية دون الاسلاميين.
وكان طبيعيا أن تشهد سنوات التطهير الديني والثقافي والسياسي حالة تصحر للحقوق والحريات حتى حظيت تونس – حسب تعبير حازم صاغية- بأطول تقارير منظمة امنستي.فأجهضت بدايات التطور الديمقراطي التي بدأت بذورها الاولى في بداية السبعينيات، كممت افواه الإعلام المستقل والمعارض حتى اختفت جريدة الراي وامثالها,وتم وضع اليد على مؤسسات المجتمع المدني كالنقابات والرابطة والجامعة، لا مكان لشيء من ذلك في دولة بوليسية بأتم معنى الكلمة حيث صوت البوليس يعلو فيها كل صوت. أما الثقافة فقد تحولت مهرجانات للتسلية الرخيصة وتكفي متابعة بسيطة للتلفزة التونسية وللاعلام الدائر في فلك السلطة- للوقوف على حجم الكارثة التي حلت بالبلاد حتى الثقافة الهابطة التي كانت شبه محظورة في عهد بورقيبة فرضت هيمنتها .ولاحديث عن المساجد التي غدت مصايد بوليسية للشباب فهجروها وارتحلوا خارج الوطن يبحثون عن مصادر للتزود بالغذاء الديني فوجدوها في الفضائيات والانترنات . أما السياسة فكانت الضحية الاكبر إذ أعلن عن موتها جملة ، كانت مسرحية هابطة التاليف والاخراج استعادة للزمن الستاليني حيث البناء كله ينهض على مسمار وحيد هو الرئيس وحده يحدد كل شيء: كم نصيب المعارضة ومن يرتضيه منافسا هزيلا له ومن يرفضه.كان من الطبيعي أن تتحول البلاد في غياب حراس الحرية والدين والقيم الى ما يشبه حالة الاستباحة العامة وملهى في المتوسط ومركز لتبييض الاموال الوسخة والاتجار بالمخدرات مركزا يتمول من التنازل عن العرض والدين وما تبقى من استقلال البلاد.
رابعا: تصحر سكاني وخراب اخلاقي وتبخر" للمعجزة التنموية" التي حسبوا أنها الثمن المناسب للتضحية بالديمقراطية والاخلاق والدين والسيادة، إذ ما لبثت أن طلعت عليها شمس سنن الله في "إنه لا يفلح الظالمون"فشاعت أخبار زوارق الموت تحمل الهاربين من نعيم المعجزة الاقتصادية حتى تحول المتوسط الى قبر لشباب تونس.كما توالت موجات هروب عشائر الى الجوار الجزائري فرارا من الجوع. أما السياسة الاجتماعية القائمة على ما يسمى بتحرير المراة وكان من أهم فصولها التعيسة ما يسمى بتحديد النسل التي بدأ تطبيقها سنة1966 فقد أفضت خلال اربعين سنة فقط الى زلزلة اللبنة الاساسية في البناء الاجتماعي لبنة الاسرة فانتقل الخطاب الرسمي من التنويه بالتيجان التي اكتسبها وحصد من ورائها الجوائز الدولية من الممولين لتلك السياسة الى الحديث عن تصحر النسل ودخول المجتمع التونسي طور الشيخوخة جراء العزوف الجماعي عن الزواج حتى اجتاحت العنوسة نصف التونسيات، وبلغ الطلاق نسبا غير مسبوقة(حوالي خمسة عشر ألفا سنويا) وفشا الاجرام والعنف في كل المستويات والبذاءة.ومن ثمار تلك السياسات حصول ازمات خلقية حادة فشوا للفحش في الخطاب والعنف في السلوك والغش في المعاملة والاستهتار بالمصلحة العامة، بما يشبه حالة الزلزلة والانفجار.
خامسا: ضرب النهضة فتح المجال أمام الامعان في التبعية للخارج وتدخلاته :كان رهان السلطة على اقتلاع الحركة الاسلامية خصمها السياسي الالد من الجذور قد صادف هوى لا من قبل القطاع الاوسع من نخبة "الحداثة" في البلاد التي يزداد شعورها بحصار الاسلام العائد فحسب بل أيضا في الضفة الشمالية خصوصا وفي الغرب عامة طردا لكابوس الاصولية المتصاعد فلم يكن عجبا أن تقبل تونس أول شريك في جنوب المتوسط لدول الاتحاد، وذلك في خضم حربها على الاسلام وعلى الحركة الاسلامية فتفتح خزائن ابواب التمويل سخية من قبل الشريك الاروبي الذي حركت السلطة مخوزنه العدائي للاسلام وأغرته بالشراكة في إنجاز التجربة المغرية ، تجربة اقتلاع حركة اسلامية تقف على بوابة من أهم بوابات الغرب وتمثل إغراء خطرا على عشرات الملايين من المسلمين المهاجرين في الضفة الاخرى مسحوقين ينتظرون قدوم دعم معنوي ياتيهم من بلاد المنشإ، بينما يراد لهم غربيا هضمهم وتحويلهم سمادا في تربته.
نحن إذن لم نكن إزاء مجرد مخطط محلي لضرب حركة اسلامية بل إزاء مخطط شراكةلانجاز تلك المهمة، لا شك أن اللوبي الصهيوني كان في مقدمة الضالعين في تلك الشراكة والدافعين اليها. وبلغ الامر الى حد توجيه الدعوة الى سفاح صبرا وشاتيلا لزيارة تونس.
عودة الصحوة والحركة.
إن ما سلط على المجتمع التونسي من صنوف التفكيك والتدمير لمقومات شخصيته الدينية والحضارية سواء أكان على يد الاحتلال المباشر أم كان على يد خلفائه إذ تواصل معهم بشكل أفدح ، لو أنه سلط على سلالسل جبال لدكها دكا ولكن الله سلّم ، إذ ما لبث المجتمع التونسي أن استشعر الخطر الداهم على هويته وما يراد به من دمار حتى انبعثت من صلبه صحوة دينية واسعة باعتبار الدين الاساس الاعظم لشخصيته والحارس الامين لمصالحه الحيوية . ودل الانتشار السريع والاقبال الواسع على تلك الصحوة على عمق الحاجة المجتمعية اليها، فلم يكن عجبا أنه خلال عشرية واحدة من انبعاث تلك الصحوة عم موجها البلاد وزاحمت بجدارة تيارات التغريب على اختلافها،وتجاوزت مرحلة الدعوة العامة الى التعبير السياسي في شكل الاعلان عن حركة سياسية ذات مرجعية اسلامية، وذلك لأول مرة في تونس الحديثة، وبدل الترحيب بهذا التطور لأوسع تيار فكري سياسي في البلاد من طور السرية والراديكالية الى طور العلنية والعمل في نطاق القانون جوبهت بالرفض والاعتقال بداية لموجات من الملاحقة متصاعدة لا يفصل بين أشواطها غير فترات قليلة من الهدنة لا تلبث سلطة القمع والانفراد والتغريب أن تقطعا بهجمة أوسع . ورغم فشل النظام السابق ، فإن خليفته لم يلبث أن استانف نفس المسار ضمن حملة اوسع وتصميم أعظم على الاستئصال جمع فيها حوله قوى التحديث الإستئصالية المرعبة من عودة الاسلام الى جانب القوى الدولية.ومرة أخرى يثبت المجتمع التونسي أصالة عظيمة بديعة ذكية فبعد أن بدت حياة التونسيين في التسعينيات وكأن الاسلام لم يمر فلا مساجد عامرة ولا شباب متدينا ولا لحية ولا حجاب ولا حتى كتاتيب وخلا الجو لقوى التخريب والدمار، لم يلبث المجتمع التونسي أن استوعب الهجوم الصاعقة فدبت مجددا الحياة في المساجد ضمن صحوة تعاظمت بسرعة في مفاجأة مذهلة لكل من حدثته نفسه بأن المعركة مع الاسلام ومع تعبيره السياسي قد حسمت الى الابد وأنها صالحة للتصدير الى العالم المتلمظ على احتساء دماء الاسلام والمسلمين. وكما بدات الحركة الاسلامية صحوة دعوية لم تلبث أن أفرزت تعبيرها الحركي والسياسي يستانف المشروع الاسلامي مساره على نفس المنوال . ولا يشك اليوم متابع للحياة التونسية في أن ما يسمونه الاسلام السياسي عائد بإثر وموازاة خلفيته العقدية الصحوية جزء فاعلا في مؤسسات المجتمع المدني ليمثل قوة تصليب لعوده ودعما لقوة المعارضة؟
الى متى تستمر المكابرة؟: مع أن عينا تتمتع ولو ببصيص ضئيل من البصيرة ما يمكن أن ترتاب في أن النهضة فرضت نفسها أمرا واقعا عبر النشاط الفاعل في مؤسسات المجتمع وبالتعاون مع قوى المعارضة، ومع ذلك فإن سلطة القمع لا تزال تكابر في عناد جموح ومحاولة بائسة إنكار واقع تنطق شواهده بكل لسان ، فتعتقل العريض والدولاتلي وتنفي الزواري وتحاصر الجبالي وتكمم لمدة ثلاثين سنة أذكى وأفصح خطيب اسلامي عرفته تونس الحديثة لمدة ثلاثين سنة الشيخ عبد الفتاح مورو، وتشرد حوالي ألفين من أبناء وبنات تونس تشتتهم في حوالي خمسين دولة، فالى متى ستستمر هذه المكابرة؟ متى سينتزع ملف النهضة من يد رجال الامن ليوضع بين يدي السياسيين – إذا وجدوا-؟ولو كان الامر بالتمني لتمنينا أن يتم ذلك في عهد الرئيس الحالي،فذلك أدنى لوضع حد لمعاناة الناس التي طالت وتفاقمت ولا تزيد الايام جراحاتها إلا عمقا واتساعا ، إلا أن السنن غلابة وليس فيما يبدو من مسالك ما يرجح السير في هذا الاتجاه، اتجاه الاعتراف بوجود شعب له حقوق وطموحات تعبر عنها قوى سياسية وفكرية يجب أن تحترم ويستمع لها ويستجاب لمطالبها ولا تعامل بالاحتقار والقمع والخداع والاقصاء والتمييز، ومنها الاسلاميون الذين ظلوا منذ ثلاثة عقود وهم يدقون أبواب القانون ليفسح مجال العمل أمامهم في نطاق الشرعية فلا يتلقون غير الصد وإلإحالة على مؤسسات القمع الامنية والقضائية والاعلامية،لكأن الدولة جهاز لتسليم شهادات الولادة لقوم وشهادات الوفاة لآخرين، وليس التعامل مع المواليد الحقيقية للمجتمع. وإن ثبات وصمود أبناء وبنات النهضة في وجه الاهوال التي سلطت عليهم فلا هم استسلموا واندثروا ولا هم استدرجوا الى مخاضة العنف التي طالما استدرجوا اليها لدليل على أنهم مواليد حقيقية تعبر عن جاجة مجتمعية عميقة . كما أن اندلاع موجة التدين في البلاد واختراقها كل طبقات المجتمع كاف لإقناع من ظل يعاند ويحدث نفسه بإمكان اجتثاث الاسلاميين. أننا إزاء ظاهرة عميقة وحاجة متاصلة في المجتمع لا يمكن للمجتمع ان يستعيد توازنه المفقود دون الاعتراف بها فلم المكابرة وتبديد الجهود واللهاث وراء السراب؟
* خرجوا من سجن مضيق الى سجن موسع:استقبلت المعتقلات في اوائل التسعينيات عشرات الآلاف من قيادات وأعضاء النهضة والمتعاطفين معها وحتى أقاربهم، في أوسع وأشرس حملات قمع عرفها تاريخ البلاد،ورغم أنهم لم يبق منهم اليوم غير أخوين إلا أن السجون لم تعرف العطالة منذ"الاستقلال" فقد استقبلت منذ بدايات الالفية الجديدة أفواجا من شباب الصحوة، إلا أن من غادروا السجون ولم يقضوا فيها نحبهم غادروها بنفوس سامقة عملاقة تحملها هياكل منهكة، ومع ذلك أخضعوا لخطة محاصرة يشبه السجن المتنقل. ولم يصرفهم ذلك عن قضيتهم فقد أثبتوا أن السجون لا تفني العقائد كما يؤكد ذلك أحد رموزهم الاستاذ الصحبي عتيق" إنّ خروج مساجين النهضة في تونس لا يؤكد سوى أن السجون والمعتقلات لا تنهي ولا تمحو حركات فكرية واجتماعية وسياسية معبرة عن حاجات الشعب الحقيقية، وإنما تجذرها وتضفي عليها شرعية نضالية إضافية، مما يستدعي من السلطة مراجعة سياساتها وتمكين كل التيارات من التنافس الشريف باتجاه جعل تونس لكل ابنائها ويستدعي ذلك التخلي عن منطق المواجهة ودق طبول الحرب أو التخويف من الاسلاميين"أقلام اون لاين العدد23.
الحوار.نت : هل من رسالة بهذه المناسبة إلى كل من الرئيس الأسبق للحركة الدكتور الصادق شورو في سجنه وإلى الشعب في تونس وأبناء الحركة في داخل البلاد وفي المنافي وإلى أهالي الشهداء وضحايا التعذيب الذي خلف في بعض المساجين المسرحين عاهات بدنية وإلى شركاء مطلب الحريات وإلى من شئت بعد ذلك من أطراف في الحكم أو في المعارضة أو غير ذلك.
الشيخ الغنوشي اصبروا وصابروا، فالفجر قريب قريب:إنه ليس أمامكم ياأبناء وبنات النهضة وأمثالهم من القوى السياسية الفكرية المقموعة ، ليس أمامكم إزاء تصامم السلطة عن كل نداءات الاصلاح وإصرارها على متابعة سياسة القمع والخطاب الخشبي غير الاستعانة بالله للتزود بالمزيد من طاقات الصبر والمصابرة والثبات وتوحيد الجهود ورص الصفوف من أجل تحقيق آمال مجهضة لجيلين من أبناء وبنات هذا الوطن العزيز منذ تبلورت مطالبهم وتمركزت حول مطلب الحرية"برلمان تونسي"حيث حصدهم في ثلاثينيات القرن المنصرم رصاص الاحتلال وهم يهتفون بهذا الشعار،وملأوا الدنيا هتافا للاستقلال وزعمائه متوهمين أن تضحياتهم قد تكللت بالنجاح وأن آمالهم قد تحققت إلا أنه لم تمض القافلة بعيدا حتى أخذوا يتكشفون عن هول الخديعة ،فخلال نصف قرن شهدت البلاد من القمع على يد دولةالاستقلال ما لم يسجل له التاريخ مثيلا فاستقبلت السجون من أحرار البلاد على اختلاف اتجاهاتهم أضعاف أضعاف ما استقبلته من رجال الحركة الوطنية ونال هؤلاء من ضروب النكال ما لم ينل أؤلائك؟فأي استقلال هو هذا ؟والعبرة من ذلك أننا ما ينبغي أن تخدعنا الشعارات مرة أخرى.ينبغي رفض أن يتلخّص الوطن والقيادة ومصير البلاد في رجل أيا كان.وأن نرفض نهج الاقصاء لأي كان،والوصاية على الشعب من أي كان.الانفراد والاستبداد وادعاء الوصاية على الشعب وممارستها أسّ البلاء، فلنعمل على تغييره، وتأصيل ثقافة الشورى والديمقراطية والمساواة في المواطنة وإعلاء سلطة الشعب والقانون والتعددية واحترام حقوق الانسان وكرامة الشعب والعمل المشترك مع كل من يؤمن بهذه القيم ولنؤصلها أكثر فأكثر في ثقافتنا الاسلامية العربية وتراثها، موقنين بأصالة مبادئ الحق والعدل في النفس البشرية وفي بنية الكون وأنها منتصرة لا محالة بإذن الله لا سيما وقد تراكمت في شعوبنا تجارب مريرة من شانها أن تكسبه حصانة من الإنخداع مرة أخرى بمنطق"أنا ربكم الأعلى""ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد". يعزز هذا الامل ثورة الاعلام التي أخذت تعصف بحصون الدكتاتورية على امتداد العالم ولن تبقى منطقتنا العربية الاسلامية جزرا معزولة عن الأمواج المتصاعدة للتحررمن الدكتاتوريات.كفى انخداعا وتبديدا لآمال الاجيال .فلنجعل مطالبنا في تونس حرة بلا اقصاء ولا استثناء ، نصب أعيننا ونعض عليها بالنواجذ ولا نساوم عليها أو نتنازل عنها، فما بذل من زهرة شبابنا وأبداننا وارواحنا وارزاقنا وأسرنا أغلى من أن نؤوب بالانصاف والارباع والأسداس من الحقوق والحريات. ليس لنا في النهضة مطالب خاصة بنا ،مطالبنا هي مطالب الشعب هي مطالب الاجيال ما قبل "الاستقلال"وما بعده، حريات ديمقراطية غير منتقصة، أو بتعبير آبائنا ومطلبهم الذي ارتفعوا شهداء تحت لوائه ولماّ يتحقق "برلمان تونسي "منتخب انتخابا حرا نزيها.يكون منطلقا لإعادة البناء. إنه قد يبدو اليوم حلما بعيد المنال إن لم يكن ضربا من الخيال الجامح،وكذا كانت كثير من المشاريع الكبرى للشعوب التي تحققت.إن التونسيين اليوم على معاناة شبابهم وشاباتهم وارباب اسرهم ومناضليهم على اختلاف مواقعهم واتجاهاتهم هم من هذا الحلم الذي ناضلت من أجله اجيال هم اليه اقرب أكثر من أي وقت مضى بسبب ما تراكم عندهم من تجا رب وبسبب مناخات التحرر والديمقراطيية المنداحة في العالم.لن تبقى تونس جزيرة معزولة عن رياح الحرية التي تهب عاصفة.
وفي الاخير، نحن ابناء وبنات النهضة إذ نحتفي بالذكرى الثامنة والعشرين لتأسيس حركة الاتجاه الاسلامي نسجل بفخار أننا قد اجتزنا بنجاح - والفضل والمنة لله- امتحان الوجود وأنجزنا تقويم محنتنا ووقفنا على العبرة منها بعدما استهدفنا به من مخطط استئصال واستهدف به ديننا من مخطط تجفيف الينابيع ، فقد مني كلاهما بالفشل، فهاهي صحوة الاسلام تخترق كل الفئات ، وتتواصل حلقات الاصلاح، حقيقة ينطق بها كل شيء عدا جاحد مستكبر ذي بصر حسير.الثابت أن أنصار الاسلام والحرية على سلم صاعد على امتداد العالم وأن خصومهما في حالة اضطراب وتراجع، والى أن يبلغ الاتجاه الاول مداه والاتجاه الثاني مستقره من الانحدار بما يغير ميزان القوة لصالح الاول سيظل أصحاب النظر الحسير يمارون مرتابين. أما ذوو البصيرة فمصابرون واثقون من أن المسالة مسالة وقت، واتجاه التاريخ واضح."إن موعدهم الصبح اليس الصبح بقريب"؟
والى لقاء قريب على ارض الخضراء وقد استدار الهلال الذي أطل، فغدا بدرا، يبدد الظلمات أسودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه أيها الاخوة والاخوات والاصدقاء. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحوار.نت :نشكر للشيخ راشد الغنوشي ما أولانا به من حوار بهذه المناسبة
- نقلا عن موقع الحوار نت بتاريخ 5 جوان 2009
الصفحات
▼
الخميس، 11 يونيو 2009
السبت، 6 يونيو 2009
الإمام شمس الدين: عن الإمام الصدر الانسان القضية
محمد مهدي شمس الدين
كثيرون من الذين يعتبرون أنفسهم خارج المجال الذي كان يعمل فيه الإمام الصدر، لا يدركون الآن لماذا تحوّل إخفاؤه إلى قضية.القاسم المشترك بين هؤلاء، إنهم جميعاً يقفون خارج الدائرة الثقافية التي نحرك الإمام إنطلاقاً من قيمها وتقاليدها، وخارج الدائرة الإجتماعية التي تحرك الإمام إنطلاقاً من واقعها ومطالبها وحقوقها. لذلك فهم غير قادرين فعلاً على تقدير قيمة التحوّلات العميقة التي بدأها، والتي ما تزال تتفاعل مرتبطة بشخصه، رغم مرور هذا الزمن الطويل على إخفائه.
إن فهم هذه التحوّلات وتفاعلاتها في وعي وواقع الإنسان الآخر ( أي ذلك الذي يعتبر نفسه موضوعاً مباشراً لعمل الإمام ) يلزمنا بالعودة إلى فهم موقع عالم الدين المسلم من جمهوره، والمشكلة الإجتماعية المزمنة لهذا الجمهور، بالإضافة إلى تأثيرات الحرب الأهلية ومضاعفاتها، ودور الإمام في ذلك كله.
لم يكن عالم الدين القيادي، في كثير من الأحيان، بعيداً عن هموم الناس ومخاوفهم وآمالهم أن تربيته وثقافته وهدف حياته تدفعه إلى أن يكون إنساناً ملتزماً بقضايا مجتمعه .
وقد كان ثمة، ولا تزال حتى الآن، حالة ثقافية تتعارض مع هذه الوضعية لعالم الدين المسلم، هي بقية من الفهم الصوفي لوظيفة الدين وعلمائه .. هذا الفهم الذي كان سائداً في العالم الإسلامي في عصور إنحطاطه وإنهزامه وتوقف حركته التاريخية.
وقد جاء الفهم الغربي للدين مع الإستعمار وثقافته، ليعزز هذه الحالة الثقافية في العصر الحديث، ويعطيها مبررات ليست من الإسلام في شيء، وليست من الحقيقة في شيء.
هذه الحالة الثقافية تعفي عالم الدين من أي إلتزام سياسي، ومن أي إهتمام إجتماعي، بل لقد كان الإهتمام السياسي يشكل في بعض الحالات طعناً في مصداقية عالم الدين، وتعلم المجتمع أن يعفي عالم الدين من حمل هموم الناس ومخاوفهم وآمالهم. ولا نريد أن ننفي أن عالم الدين، في بعض الحالات، أو في كثير من الحالات، كان يستجيب لهذا الموقف فيعفي نفسه كما كان المجتمع، وفي كثير من الحالات أيضاً، يستجيب لهذه الثقافة، فيعفي عالم الدين من الإهتمام السياسي .
وبالمقابل، كانت هذه الحالة الثقافية تحصر وظيفة عالم الدين في أن يعد جمهوره إعداداً جيداً للآخرة، وأن يعالج المشكلات والنزاعات الصغيرة في نطاق العائلة والحي والقرية وأن يقوم بدور وعظي في الحياة العامة.. وكان يحدث أن يصطفي لنفسه، أو تصطفيه، جماعة من الناس تقل أو تكثر، تتخرج عليه وتتادب بأخلاقه، وقد تقتبس حتى عادات حياته اليومية وبعض أسلوبه في الحديث.
كان دور عالم الدين حقل تنافس بين هذه الحالة الثقافية، وبين روح الإسلام الحية المتحركة الجهادية.
وحين جاء الإمام الصدر إلى لبنا، كانت قد نضجت في وعي المسلم اللبناني،حالة ثقافية بالنسبة إلى دور عالم الدين المسلم أكثر صدقاً وأقرب إلى روح الإسلام وحقيقته الحية المتحركة. وكان الإمام عنوانها الكبير المتألق في لبنان، بل لقد كان أكثر عناوينها تألقاً ووهجاً وقوة على الإجتذاب والإستقطاب.
جاء الإمام إلى لبنان فاكتشف وضعية الإنسان في البقاع((بعلبك-الهرمل))((وفي الجنوب)) ((جبل عامل)) (( وامتداده البشري في ضواحي بيروت البائسة)). واكتشف أن هذا الإنسان مسحوق مستلب، يتمتع بحرية شكلية لا يستطيع أن يستخدمها في تغيير وضعه، بل لا يستطيع أن يستخدمها في الإعلان عن شكواه..و((يتمتع)) – إلى جانب هذه الحرية بإهمال مطلق من قبل الدولة.
فحاول أن يستجيب لهموم هذا الإنسان ومطامحه وحاجاته، وكانت تلك المرحلة مرحلة المؤسسات: مؤسسة جبل عامل المهنية، ومعهد التمريض، وبيت الفتاة.
ثم تنامى، وعيه لمشكلة هذا الإنسان على ضوء تجارب الطوائف اللبنانية الأخرى، وتأكدت لديه الحاجة إلى مستوى من التنظيم في مؤسسة لها أمثال كثيرة في لبنان، تكوّن ضمير هذا الإنسان ولسانه وأداته في السعي نحو المساواة والكرامة.. فكان المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى .
ثم تنامى وعيه هذا إلى مستوى أعمق، وأدرك ضرورة إيجاد مستوى آخر من التنظيم فكانت حركة المحرومين، ومن ثم حركة أمل والتي تترجم أعمق نزعات هذا الإنسان نحو الحرية والكرامة بما يتجاوز الإطار الطائفي والمذهبي .
وقد أدى به وعيه الموجع لمشكلة هذا الإنسان إلى أن يتحد مع قضايا المحرومين وتطلعاتهم، وإلى أن يجعل منهم قضية حياته.
وبالمقابل أدرك الإنسان المحروم وأدركت قياداته، وهي النخبة المستقبلية الواعية في الجنوب والبقاع وغيرها، من شتى الطوائف والمذاهب والمناطق في لبنان.. أدرك هؤلاء جميعاً أن موسى الصدر قد باع نفسه لقضية الإنسان هذه .. باعها بصدق وحرارة وإخلاص صوفي نابع من إسلامه وثقافته وأخلاقيته وحسه الإنساني الحاد المرهف. ومن هنا إكتسب الإمام هذه الصفة التمثيلية لأعرض قطاع من الشعب اللبناني، وهي صفة فاقت، وما تزال حتى الآن، ورغم كل شيء، ما نجده لدى أي قيادة أخرى .
حاول الإمام الصدر، في بداية تحسسه لمشكلة الإنسان في لبنان، أن يعمل على تحقيق مطامحه من خلال التعامل مع الوضع اللبناني( ولا ندخل في مكونات هذا الوضع وتبيان عناصره وخصوصياته). ولكنه أدرك في وقت مبكر أن هذا الوضع، بمنطقه الخاص، يحاول تدجينه وجعله جزءاً مه. ثار الإمام على هذا التفكير، ومضى يعمل على عقلنة الوضع وأنسنته، وجعله أكثر إدراكاً لحقيقة الأخطار التي كانت تتجمع ويمكن أن تنفجر لتعصف بالوطن كله. ولكن الوضع في لبنان كان ذا مزاج إفتراسي فبدأت محاولات تحطيم الإمام. وقد إشتركت قوى كثيرة في هذه المحاولات، بعضها من موقع الصديق، وبعضها من موقع الخصم، وبعضها الثالث من موقع رمادي. لأن الجميع رأوا في ظاهرة الإمام، الذي فشل الوضع اللبناني في تدجينه، خطراً عليهم، لأن الفهم الذي طرحه لقضية الإنسان المحروم ونمط التعامل الرسالي، هدد هؤلاء جميعاً بخسارة المواقع التي يحتلونها، على حساب الحرمان والمحرومين، سواء من كان منهم مستفيداً مباشراً أم من كان مستفيداً ثانوياً وبالواسطة، هؤلاء جميعاً وحّدتهم المصلحة في إطفاء الشعلة التي أضاءها الإمام، وإسكات الصرخة التي أطلقها .
ولكن محاولات التحطيم فشلت كلها لأن الإمام موسى الصدر لم يستند في وجوده إلى معادلة سياسية، أو توازنات بين القوى. وإنما إستند إلى الشعب إلى الإنسان المحروم الذي غدا الإمام قلبه الخافق وصوته وإحتجاجه على البؤس والحرمان.
نعم أحياناً كانت هذه الجماعة أو تلك، من جماعات هذا الإنسان المحروم، تقع أسيرة الإرهاب الفكري الجسدي، أو ضحية الدعاية المأجورة والإشاعات الباطلة. ولكن هذا الإنسان كان يدرك أنه ضحية إعتبار سياسي يقوده متنفذ صغير لمصلحة متزعم كبير، أو ضحية لإعتبار حزبي، ومن ثم فقد كان يجد نفسه في النهاية إلى جانب الإمام ووراءه وحوله. وهكذا بقي الإمام عصياً على التحطيم، بل نما وكبر وغدا في قلوب الناس البسطاء رمزاًُ لقضيتهم. وبقي هو موزّع القلب والعقل بين الإهتمام بالمسائل الصغيرة للمواطن، والإهتمام بالمسائل الكبرى للوطن، وهذه المسائل ذات الطابع المصيري.
وجاءت الفتنة اللبنانية الكبرى، فانغمست فيها قوى سياسية كثيرة إما عن قصد وتصميم، وإما عن جهالة لا تبرر النيات التي دفعت إليها الآثار الفاجعة التي نجمت عنها. ورفض الإمام، من خلال المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، أن يكون طرفاً في الفتنة، بل أعطى نفسه مهمة إستعادة السلام، مع العمل على تطوير النظام نحو وضع أكثر عدالة وإستجابة لمطالب المحرومين. من هنا غدا موسى الصدر موضوع كراهية وعداء ظاهر أو مستتر من قبل جميع أطراف الفتنة، أو الذين كانوا يعدون العدة للإستفادة من الفتنة، فقد عبر كثير من هذه الأطراف عن كراهيته بإعلان فاجر فقد كل قيمة اخلاقية ضد المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وخطه السياسي، وضد شخص الإمام نفسه، وضد دوره وتطلعاته .. ولكن هجمة البغضاء التي تجاوزت كل حد، لم تلن من قناته، بل مضى في مساعيه وتجاوز بها لبنان إلى المحيط العربي حاملاً هم لبنان ومصيره في قلبه وعقله، وأثمرت مساعيه، فإستطاع أن ينقل خوف الناس العاديين وعذابهم اليومي إلى وعي المسؤولين العرب، وأني يحرك بذلك القلوب والضمائر، لا بلغة السياسة واساليبها، وإنما بلغة الإنسانية، لغة القلب والضمير. ووضع حدّاً للفتنة المشتعلة، وهدأ بركان الدم قليلاً، وإمتلأ قلبه بالأمل في غد مشرق للبنان وغد سعيد للمحرومين .
ولكن الحرب الأهلية البشعة توقفت لتكشف الفتنة عن أبشع وأخطر نتائجها في مقياس قضايا المصير. لقد تعاظمت مأساة لبنان الجنوبي، وانكشفت أخطار الوجود التي تحيط به: أخطار الإحتلال الإسرائيلي والتجزئة، والتوطين، وما ينجم عن هذه الأخطار من تشريد للإنسان الجنوبي يضاف إلى حرمانه.
وعاد موسى الصدر إلى جهاده على الصعيد اللبناني وعلى الصعيد العربي، يتباحث مع الرؤساء والملوك، ومع القيادات السياسية، ومع الجماعات الحزبية، شارحاص الأخطار المحدقة بالجنوب، محذّراً من العواقب الوخيمة التي تتعدى الجنوب إلى لبنان كله، وتتعدى لبنان إلى المحيط العربي كله، محاوراً في صيغ الخلاص.
كل هذا والإنسان المحروم يسمع ويرى ويفهم. وكان كل ذلك يجعل هذا الإنسان يزداد توحداً مع الإمام الصدر وحبّاً له وثقة به وهكذا غدا الإمام حقيقة في كل بيت محروم، لم يعد شخصاً وإنما غدا ممثلاً لقضية الإنسان المحروم والجماعات المحرومة والمناطق المحرومة .. واستمر يطارد الفتن حيثما أطلت برأسها يطاردها في لبنان وخارجه .
وحمله تطوافه في مطاردة الفتنة ومطاردة الخطر إلى ليبيا. ليبيا التي دعته سلطته الرسمية العليا لزيارتها لتباحثه ويباحثها في شأن لبنان وطريق خلاصه وسبيل وأد الخطر المحدق بجنوبه.
وكانت الدعوة فخاً، وكان الطعم هو التلويح لموسى الصدر بالأمل في أن يجد عند حاكم ليبيا وأعوانه عوناً على الفتنة وعوناً على الخطر وهكذا إحتجز حكام ليبيا موسى الصدر ورفيقيه المجاهدين الشيخ محمد يعقوب والأستاذ عباس بدر الدين وأخفوا أثرهم، وزعموا – كذباً – انهم غادروا ليبيا.
وتكشفت الحقيقة الراغبة البشعة للإنسان المحروم في وقت قصير. أين الإمام؟ اخفته السلطات في ليبيا. لماذا ذهب إلى ليبيا؟ ينقذ لبنان .
وكما يحدث في كل لحظات الصدمة .. إستعاد الإنسان المحروم كل ما يعرفه عن موسى الصدر، كل جهاده وجهوده، فرأى فيه قضيته هو .. رأى فيه رزقه الشريف، وأمنه وبيته،وكرامته، ومدرسة ولده، ومستشفى مريضه، ومعونة بائسه. رأى فيه مستقبل لبنان. رأى فيه حقول الجنوب المحروقة، ومدنه وقراه التي تنزف أيتاماً وأرامل ومشردين، وبيوته الخالية من أهلها، ودروبه المشتاقة إلى وقع أقدامه، والأمل في غد مشرق. ولن يستطيع أحد أن ينتزع من كل هؤلاء الحق في الأمل …
تقديم لكتاب دراسات في الميثاق عن مكتب العقيدة والثقافة/ حركة امل
كثيرون من الذين يعتبرون أنفسهم خارج المجال الذي كان يعمل فيه الإمام الصدر، لا يدركون الآن لماذا تحوّل إخفاؤه إلى قضية.القاسم المشترك بين هؤلاء، إنهم جميعاً يقفون خارج الدائرة الثقافية التي نحرك الإمام إنطلاقاً من قيمها وتقاليدها، وخارج الدائرة الإجتماعية التي تحرك الإمام إنطلاقاً من واقعها ومطالبها وحقوقها. لذلك فهم غير قادرين فعلاً على تقدير قيمة التحوّلات العميقة التي بدأها، والتي ما تزال تتفاعل مرتبطة بشخصه، رغم مرور هذا الزمن الطويل على إخفائه.
إن فهم هذه التحوّلات وتفاعلاتها في وعي وواقع الإنسان الآخر ( أي ذلك الذي يعتبر نفسه موضوعاً مباشراً لعمل الإمام ) يلزمنا بالعودة إلى فهم موقع عالم الدين المسلم من جمهوره، والمشكلة الإجتماعية المزمنة لهذا الجمهور، بالإضافة إلى تأثيرات الحرب الأهلية ومضاعفاتها، ودور الإمام في ذلك كله.
لم يكن عالم الدين القيادي، في كثير من الأحيان، بعيداً عن هموم الناس ومخاوفهم وآمالهم أن تربيته وثقافته وهدف حياته تدفعه إلى أن يكون إنساناً ملتزماً بقضايا مجتمعه .
وقد كان ثمة، ولا تزال حتى الآن، حالة ثقافية تتعارض مع هذه الوضعية لعالم الدين المسلم، هي بقية من الفهم الصوفي لوظيفة الدين وعلمائه .. هذا الفهم الذي كان سائداً في العالم الإسلامي في عصور إنحطاطه وإنهزامه وتوقف حركته التاريخية.
وقد جاء الفهم الغربي للدين مع الإستعمار وثقافته، ليعزز هذه الحالة الثقافية في العصر الحديث، ويعطيها مبررات ليست من الإسلام في شيء، وليست من الحقيقة في شيء.
هذه الحالة الثقافية تعفي عالم الدين من أي إلتزام سياسي، ومن أي إهتمام إجتماعي، بل لقد كان الإهتمام السياسي يشكل في بعض الحالات طعناً في مصداقية عالم الدين، وتعلم المجتمع أن يعفي عالم الدين من حمل هموم الناس ومخاوفهم وآمالهم. ولا نريد أن ننفي أن عالم الدين، في بعض الحالات، أو في كثير من الحالات، كان يستجيب لهذا الموقف فيعفي نفسه كما كان المجتمع، وفي كثير من الحالات أيضاً، يستجيب لهذه الثقافة، فيعفي عالم الدين من الإهتمام السياسي .
وبالمقابل، كانت هذه الحالة الثقافية تحصر وظيفة عالم الدين في أن يعد جمهوره إعداداً جيداً للآخرة، وأن يعالج المشكلات والنزاعات الصغيرة في نطاق العائلة والحي والقرية وأن يقوم بدور وعظي في الحياة العامة.. وكان يحدث أن يصطفي لنفسه، أو تصطفيه، جماعة من الناس تقل أو تكثر، تتخرج عليه وتتادب بأخلاقه، وقد تقتبس حتى عادات حياته اليومية وبعض أسلوبه في الحديث.
كان دور عالم الدين حقل تنافس بين هذه الحالة الثقافية، وبين روح الإسلام الحية المتحركة الجهادية.
وحين جاء الإمام الصدر إلى لبنا، كانت قد نضجت في وعي المسلم اللبناني،حالة ثقافية بالنسبة إلى دور عالم الدين المسلم أكثر صدقاً وأقرب إلى روح الإسلام وحقيقته الحية المتحركة. وكان الإمام عنوانها الكبير المتألق في لبنان، بل لقد كان أكثر عناوينها تألقاً ووهجاً وقوة على الإجتذاب والإستقطاب.
جاء الإمام إلى لبنان فاكتشف وضعية الإنسان في البقاع((بعلبك-الهرمل))((وفي الجنوب)) ((جبل عامل)) (( وامتداده البشري في ضواحي بيروت البائسة)). واكتشف أن هذا الإنسان مسحوق مستلب، يتمتع بحرية شكلية لا يستطيع أن يستخدمها في تغيير وضعه، بل لا يستطيع أن يستخدمها في الإعلان عن شكواه..و((يتمتع)) – إلى جانب هذه الحرية بإهمال مطلق من قبل الدولة.
فحاول أن يستجيب لهموم هذا الإنسان ومطامحه وحاجاته، وكانت تلك المرحلة مرحلة المؤسسات: مؤسسة جبل عامل المهنية، ومعهد التمريض، وبيت الفتاة.
ثم تنامى، وعيه لمشكلة هذا الإنسان على ضوء تجارب الطوائف اللبنانية الأخرى، وتأكدت لديه الحاجة إلى مستوى من التنظيم في مؤسسة لها أمثال كثيرة في لبنان، تكوّن ضمير هذا الإنسان ولسانه وأداته في السعي نحو المساواة والكرامة.. فكان المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى .
ثم تنامى وعيه هذا إلى مستوى أعمق، وأدرك ضرورة إيجاد مستوى آخر من التنظيم فكانت حركة المحرومين، ومن ثم حركة أمل والتي تترجم أعمق نزعات هذا الإنسان نحو الحرية والكرامة بما يتجاوز الإطار الطائفي والمذهبي .
وقد أدى به وعيه الموجع لمشكلة هذا الإنسان إلى أن يتحد مع قضايا المحرومين وتطلعاتهم، وإلى أن يجعل منهم قضية حياته.
وبالمقابل أدرك الإنسان المحروم وأدركت قياداته، وهي النخبة المستقبلية الواعية في الجنوب والبقاع وغيرها، من شتى الطوائف والمذاهب والمناطق في لبنان.. أدرك هؤلاء جميعاً أن موسى الصدر قد باع نفسه لقضية الإنسان هذه .. باعها بصدق وحرارة وإخلاص صوفي نابع من إسلامه وثقافته وأخلاقيته وحسه الإنساني الحاد المرهف. ومن هنا إكتسب الإمام هذه الصفة التمثيلية لأعرض قطاع من الشعب اللبناني، وهي صفة فاقت، وما تزال حتى الآن، ورغم كل شيء، ما نجده لدى أي قيادة أخرى .
حاول الإمام الصدر، في بداية تحسسه لمشكلة الإنسان في لبنان، أن يعمل على تحقيق مطامحه من خلال التعامل مع الوضع اللبناني( ولا ندخل في مكونات هذا الوضع وتبيان عناصره وخصوصياته). ولكنه أدرك في وقت مبكر أن هذا الوضع، بمنطقه الخاص، يحاول تدجينه وجعله جزءاً مه. ثار الإمام على هذا التفكير، ومضى يعمل على عقلنة الوضع وأنسنته، وجعله أكثر إدراكاً لحقيقة الأخطار التي كانت تتجمع ويمكن أن تنفجر لتعصف بالوطن كله. ولكن الوضع في لبنان كان ذا مزاج إفتراسي فبدأت محاولات تحطيم الإمام. وقد إشتركت قوى كثيرة في هذه المحاولات، بعضها من موقع الصديق، وبعضها من موقع الخصم، وبعضها الثالث من موقع رمادي. لأن الجميع رأوا في ظاهرة الإمام، الذي فشل الوضع اللبناني في تدجينه، خطراً عليهم، لأن الفهم الذي طرحه لقضية الإنسان المحروم ونمط التعامل الرسالي، هدد هؤلاء جميعاً بخسارة المواقع التي يحتلونها، على حساب الحرمان والمحرومين، سواء من كان منهم مستفيداً مباشراً أم من كان مستفيداً ثانوياً وبالواسطة، هؤلاء جميعاً وحّدتهم المصلحة في إطفاء الشعلة التي أضاءها الإمام، وإسكات الصرخة التي أطلقها .
ولكن محاولات التحطيم فشلت كلها لأن الإمام موسى الصدر لم يستند في وجوده إلى معادلة سياسية، أو توازنات بين القوى. وإنما إستند إلى الشعب إلى الإنسان المحروم الذي غدا الإمام قلبه الخافق وصوته وإحتجاجه على البؤس والحرمان.
نعم أحياناً كانت هذه الجماعة أو تلك، من جماعات هذا الإنسان المحروم، تقع أسيرة الإرهاب الفكري الجسدي، أو ضحية الدعاية المأجورة والإشاعات الباطلة. ولكن هذا الإنسان كان يدرك أنه ضحية إعتبار سياسي يقوده متنفذ صغير لمصلحة متزعم كبير، أو ضحية لإعتبار حزبي، ومن ثم فقد كان يجد نفسه في النهاية إلى جانب الإمام ووراءه وحوله. وهكذا بقي الإمام عصياً على التحطيم، بل نما وكبر وغدا في قلوب الناس البسطاء رمزاًُ لقضيتهم. وبقي هو موزّع القلب والعقل بين الإهتمام بالمسائل الصغيرة للمواطن، والإهتمام بالمسائل الكبرى للوطن، وهذه المسائل ذات الطابع المصيري.
وجاءت الفتنة اللبنانية الكبرى، فانغمست فيها قوى سياسية كثيرة إما عن قصد وتصميم، وإما عن جهالة لا تبرر النيات التي دفعت إليها الآثار الفاجعة التي نجمت عنها. ورفض الإمام، من خلال المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، أن يكون طرفاً في الفتنة، بل أعطى نفسه مهمة إستعادة السلام، مع العمل على تطوير النظام نحو وضع أكثر عدالة وإستجابة لمطالب المحرومين. من هنا غدا موسى الصدر موضوع كراهية وعداء ظاهر أو مستتر من قبل جميع أطراف الفتنة، أو الذين كانوا يعدون العدة للإستفادة من الفتنة، فقد عبر كثير من هذه الأطراف عن كراهيته بإعلان فاجر فقد كل قيمة اخلاقية ضد المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وخطه السياسي، وضد شخص الإمام نفسه، وضد دوره وتطلعاته .. ولكن هجمة البغضاء التي تجاوزت كل حد، لم تلن من قناته، بل مضى في مساعيه وتجاوز بها لبنان إلى المحيط العربي حاملاً هم لبنان ومصيره في قلبه وعقله، وأثمرت مساعيه، فإستطاع أن ينقل خوف الناس العاديين وعذابهم اليومي إلى وعي المسؤولين العرب، وأني يحرك بذلك القلوب والضمائر، لا بلغة السياسة واساليبها، وإنما بلغة الإنسانية، لغة القلب والضمير. ووضع حدّاً للفتنة المشتعلة، وهدأ بركان الدم قليلاً، وإمتلأ قلبه بالأمل في غد مشرق للبنان وغد سعيد للمحرومين .
ولكن الحرب الأهلية البشعة توقفت لتكشف الفتنة عن أبشع وأخطر نتائجها في مقياس قضايا المصير. لقد تعاظمت مأساة لبنان الجنوبي، وانكشفت أخطار الوجود التي تحيط به: أخطار الإحتلال الإسرائيلي والتجزئة، والتوطين، وما ينجم عن هذه الأخطار من تشريد للإنسان الجنوبي يضاف إلى حرمانه.
وعاد موسى الصدر إلى جهاده على الصعيد اللبناني وعلى الصعيد العربي، يتباحث مع الرؤساء والملوك، ومع القيادات السياسية، ومع الجماعات الحزبية، شارحاص الأخطار المحدقة بالجنوب، محذّراً من العواقب الوخيمة التي تتعدى الجنوب إلى لبنان كله، وتتعدى لبنان إلى المحيط العربي كله، محاوراً في صيغ الخلاص.
كل هذا والإنسان المحروم يسمع ويرى ويفهم. وكان كل ذلك يجعل هذا الإنسان يزداد توحداً مع الإمام الصدر وحبّاً له وثقة به وهكذا غدا الإمام حقيقة في كل بيت محروم، لم يعد شخصاً وإنما غدا ممثلاً لقضية الإنسان المحروم والجماعات المحرومة والمناطق المحرومة .. واستمر يطارد الفتن حيثما أطلت برأسها يطاردها في لبنان وخارجه .
وحمله تطوافه في مطاردة الفتنة ومطاردة الخطر إلى ليبيا. ليبيا التي دعته سلطته الرسمية العليا لزيارتها لتباحثه ويباحثها في شأن لبنان وطريق خلاصه وسبيل وأد الخطر المحدق بجنوبه.
وكانت الدعوة فخاً، وكان الطعم هو التلويح لموسى الصدر بالأمل في أن يجد عند حاكم ليبيا وأعوانه عوناً على الفتنة وعوناً على الخطر وهكذا إحتجز حكام ليبيا موسى الصدر ورفيقيه المجاهدين الشيخ محمد يعقوب والأستاذ عباس بدر الدين وأخفوا أثرهم، وزعموا – كذباً – انهم غادروا ليبيا.
وتكشفت الحقيقة الراغبة البشعة للإنسان المحروم في وقت قصير. أين الإمام؟ اخفته السلطات في ليبيا. لماذا ذهب إلى ليبيا؟ ينقذ لبنان .
وكما يحدث في كل لحظات الصدمة .. إستعاد الإنسان المحروم كل ما يعرفه عن موسى الصدر، كل جهاده وجهوده، فرأى فيه قضيته هو .. رأى فيه رزقه الشريف، وأمنه وبيته،وكرامته، ومدرسة ولده، ومستشفى مريضه، ومعونة بائسه. رأى فيه مستقبل لبنان. رأى فيه حقول الجنوب المحروقة، ومدنه وقراه التي تنزف أيتاماً وأرامل ومشردين، وبيوته الخالية من أهلها، ودروبه المشتاقة إلى وقع أقدامه، والأمل في غد مشرق. ولن يستطيع أحد أن ينتزع من كل هؤلاء الحق في الأمل …
تقديم لكتاب دراسات في الميثاق عن مكتب العقيدة والثقافة/ حركة امل
فيصل الحسيني.. القدس صبره وقبره
فيصل الحسيني.. القدس صبره وقبره
مصطفى عاشور
"فيصل الحسيني" زعيم فلسطيني، وهب حياته لقضية القدس والدفاع عن عروبة المدينة، وكانت أسلحته: الحجج، والوثائق، والصمود. تصدى للممارسات الإسرائيلية الهادفة لتهويد المدينة، واستصرخ العرب والمسلمين، وكانت صرخته الشهيرة "واقدساه". كان حلمه دولة فلسطينية عاصمتها "القدس"، القدس الموحدة والمفتوحة للجميع.
ينتمي لعائلة الحسيني، أشهر وأعرق العائلات الفلسطينية، والتي ضربت أروع الأمثلة في النضال الوطني والدفاع عن القدس. فجده موسى كاظم الحسيني، الذي عينه الإنجليز رئيسًا لبلدية القدس، واشترطوا عليه ألا يشتغل بالسياسة. إلا أن السياسة عنده كانت مرادفًا للوطنية، فاستقال من منصبه، ورأس "المؤتمر العربي الفلسطيني" أول تنظيم فلسطيني للمقاومة بعد وعد بلفور، وقاد مظاهرات كبرى ضد الإنجليز في القدس، وأصيب بجروح في إحدى المظاهرات سنة 1933، وهو في الثمانين من عمره ما لبث أن توفي بعدها. أما والده عبد القادر؛ فحمل لواء الجهاد ضد الإنجليز واليهود، وكان قائدا لجيش الجهاد المقدس؛ حتى استشهد في معركة القسطل 8/4/1948. أما عمه فهو أمين الحسيني مفتي القدس، الذي حمل لواء القضية الفلسطينية لسنوات عديدة داخل وخارج فلسطين حتى وفاته 1974م.
النشأة
انتقل والده للعيش في بغداد سنة 1939، بعد فشل ثورة 1936 ضد الانتداب البريطاني. وشاءت الأقدار أن يرى فيصل نور الحياة في 17 يوليو 1940، وأبوه في ظلمات السجن، بعدما اعتقلته السلطة العراقية، التي لم تفرج عنه إلا إذا أبدى بلد آخر استعداده لاستقباله كلاجئ سياسي، فأبدى الملك "عبد العزيز آل سعود" استعداده لاستقبال عبد القادر وأسرته، فانتقلوا إلى السعودية. تعلم خلالها فيصل مبادئ القراءة والكتابة على يد والده، الذي كان يهتم بتنشئة ابنه، فكان يصطحبه معه في رحلات؛ لتسلق الجبال، والتعرف على أنواع الصخور. واستفاد من والدته ذات الذوق الرفيع، التي كانت تهتم بالرسوم التوضيحية المزينة بالفسفور؛ حتى تكوّن مادة شيقة في تعليم أطفالها.
انتقل مع والده إلى القاهرة، الذي اهتم بتنمية الوعي السياسي عند ابنه؛ فكان يُحفّظه القصائد الشعرية الوطنية، ويدربه على التحدث أمام الجمهور. ولما استشهد عبد القادر كان فيصل في القاهرة، وقرأ نبأ استشهاد والده في الصحف، وكان وقع النبأ مؤثرا على الطفل، وهو في الثامنة من عمره. لكن المأساة غرست فيه قوة الإرادة والصمود، فأصبح يُختار دائما لإلقاء كلمة أُسر الشهداء في حفلات التأبين التي كانت تقام آنذاك، وكأنه يناجي والده الشهيد لا جمهور الحاضرين.
وفي القاهرة حصل على الابتدائية والثانوية، وتعرف على ياسر عرفات. وعندما وقع العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 تقدّم بطلب للانضمام للقوات المسلحة المصرية، واشترك في حركة القوميين العرب عام 1957. كذلك شارك في إنشاء وتأسيس المنظمة الطلابية الفلسطينية عام 1959، والتي أصبحت فيما بعد نواة لمنظمة التحرير الفلسطينية.
كان الجهاد والتضحية والرغبة في الاقتداء بوالده الشهيد عوامل دفعته للانخراط في التدريب العسكري، فحاول الالتحاق بكلية سلاح الطيران المصرية، لكنه أخفق في اختبارات اللياقة البدنية، فانتقل إلى سوريا ودرس الهندسة في الأكاديمية العسكرية بحلب، وحصل على شهادة العلوم العسكرية سنة 1966.
وقد انضم إلى صفوف حركة "فتح" منذ بدايتها الأولى في عام 1964، ثم انضم إلى قوات جيش التحرير الفلسطيني المرابط في سوريا، أوائل عام 1967، وكان قبلها يعمل في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في القدس حتى عام 1966، في قسم التوجيه الشعبي.
العودة للقدس
وبعد حرب حزيران "يونيو" 1967، وقعت القدس تحت الاحتلال الإسرائيلي، فقرر فيصل العودة إلى معشوقته "القدس" بعد شهر ونصف من الحرب، عبر نهر الأردن، واستقر في حي "الصوانة" بالقدس الشرقية المحتلة، وأهّلته المرحلة المبكرة من العمل الوطني إلى قيادة العمل السياسي في القدس، فاعتقل لأول مرة في أكتوبر 1967، ثم حُكم عليه بالسجن لمدة عام بتهمة حيازة أسلحة. وبعد خروجه تعرض للحبس والمضايقة والاعتقال من جانب السلطات الإسرائيلية لصلاته بمنظمة التحرير الفلسطينية. لكن ذلك لم يمنعه من مواصلة النضال والعمل الوطني، رغم تنقله بين مهن مختلفة، حتى إنه عمل فني أشعة في مستشفى المقاصد الخيرية.
معهد الدراسات العربية
انخرط في العمل السياسي والأكاديمي، فأسس عام 1979 معهد الدراسات العربية في "بيت الشرق" بالقدس المحتلة، وبيت الشرق هو المقر غير الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية في القدس الشرقية. ونذر جهده البحثي في التنقيب عن التراث الفلسطيني، وإعداد الخرائط التي تثبت أحقية الفلسطينيين في القدس، وكذلك التنقيب عن المستندات الدالة على ملكية الفلسطينيين للمباني والمنازل والأراضي، وخاصة تلك التي في القدس الغربية؛ لذا حظي بشعبية كبيرة في الأوساط العربية في القدس، ودرس العبرية حتى أتقنها كسبيل للتفاهم والتعامل مع الإسرائيليين.
وكان الإسرائيليون يصفونه "بالإرهابي الكبير"، و"الإرهابي ابن الإرهابي"؛ لذا كان يتعرض للسجن والضرب وتحديد الإقامة. كما أن نشاطه لم يتوقف أثناء اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987م، فاتُّهم بالقيام بدور رئيسي في توجيه النضال الفلسطيني، وقضى عامين في السجن.
مفاوضات السلام
أجرى مباحثات مبكرة مع بعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية لوضع أسس التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولأول مرة تخرج من مكتبه وثيقة استقلال فلسطين سنة 1988. كما رأس الوفد الفلسطيني الذي اجتمع مع وزير الخارجية الأمريكي "جيمس بيكر"، وهو الاجتماع الذي مهد لبدء محادثات السلام في مدريد في أكتوبر 1991م. وعندما قام فيصل بتشكيل وفد فلسطيني من الضفة الغربية للذهاب إلى مدريد، فاجأه "ياسر عرفات" بتعيين الدكتور "حيدر عبد الشافي" رئيسًا لوفد التفاوض الفلسطيني.
وفي إبريل 1993 أصبح رئيسا للوفد الفلسطيني في محادثات واشنطن، خلفا "لحيدر عبد الشافي". وبعد اتفاقات أوسلو رفضت إسرائيل أن ينضم إلى زعامة السلطة الفلسطينية، بحجة أنه يعيش في القدس.
وقد عُين الحسيني عام 1996 في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية مسئولا عن ملف القدس. ومن هذا الموقع ساهم في اجتماعات مجلس وزراء السلطة الفلسطينية، وشهدت علاقته بالرئيس "عرفات" بعض التوترات، فكان "عرفات" دائم الانتقاد له في اجتماعات المجلس، ونشبت بين الاثنين مشادة كلامية، قام خلالها عرفات بتجميد تمويل مكتب "فيصل" في بيت الشرق، وتعيين وزير لشئون القدس في السلطة الفلسطينية هو "زياد أبو زياد". ورغم ذلك لم تتوقف نشاطات فيصل الخيرية والاجتماعية؛ فكان يقدم المساعدة للعائلات المحتاجة في القدس، ويساعد في توظيف الشباب في بعض المشروعات.
وتعرض لبعض محاولات الاغتيال من جانب المستوطنين اليهود؛ ففي صيف 1995م أطلقوا الرصاص على منزله، وهو بداخله؛ فحطموا بعض السيارات، كما أن سيارة إسرائيلية حاولت أن تصطدم بسيارته، لكنه نجا من المحاولتين. وعندما اتخذت الحكومة الإسرائيلية بزعامة "بنيامين نتنياهو" قرارا ببناء مستوطنة إسرائيلية في" جبل أبو غنيم" بالقدس، تصدّى فيصل لهذا القرار، وقاد مظاهرة ومسيرة انتهت إلى الموقع الذي تبني فيه إسرائيل المستعمرة، فتعرض هو ومن معه لضرب مبرح من القوات الإسرائيلية، وكان يكفي وجود فيصل الحسيني في أي مسيرة؛ حتى تنتفض السلطات الإسرائيلية لمنع هذه المسيرة ووقفها.
كان فيصل الشخصية الفلسطينية المحورية، التي يروق لكثير من القيادات الدولية التحدث إليها والتباحث معها، عندما يزورون القدس. وعُرف عن الرجل تسامحه في التعامل، والصلابة في الإرادة؛ فكانت نفسه طيبة كوجهه المشرق، وقد أجمعت الآراء على أنه كان مثالا للأخلاق العالية.
استولى حب القدس على قلبه وعقله، فوهب حياته لها، وعشق فيها المكان والتاريخ والمقدس، فكان لا يصبر على فراقها، ويشعر بالحنين إذا غادرها. فبالرغم من أنه يمتلك منزلاً أنيقًا في "عين سينيا" القريبة من القدس، فإنه فضل أن يعيش في بيت مستأجر بالمدينة القديمة، وكأنه يرى أن الوجود في القدس هو الصمود في وجه المحتل؛ لذلك كان يقول: لم أعد أشعر باستقرار إلا في القدس.
ودافع عن القدس وعروبتها. وأكد مرارا أن القدس الغربية عربية. وطالب بتوحيد المدينة بشطريها الشرقي والغربي، وفتحها أمام المجتمع. واعتبر الاستيطان اليهودي في المدينة إعلانًا للحرب على الشعب الفلسطيني.
الكويت والوفاة
مات فيصل الحسيني في الكويت في 31 مايو 2001؛ حيث كان يقوم بأول محاولة من نوعها لإنهاء الخصومة بين الكويت والسلطة الفلسطينية، وهي الخصومة القائمة منذ عام 1990، إلا أنه أصيب بأزمة قلبية ووافته المنية. وذكر الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات أن الحسيني كان مصابا بمرض الربو، وأنه تعرض- من أيام قبل سفره للكويت- للغازات التي يطلقها الجيش الإسرائيلي في القدس، وأنه توفي بسببها.
وحُمل جثمانه إلى القدس، وشيعه إلى مثواه الأخير 20 ألفًا من أبناء القدس في جنازة مهيبة؛ حيث دُفن في باحة الحرم القدسي الشريف بجوار أبيه وجده. وهذه هي المرة الأولى التي يُدفن فيها فلسطيني في هذا المكان منذ احتلال إسرائيل للقدس عام 1967.
ورفضت الحكومة العليا في إسرائيل طلبًا تقدم به زعيم حركة "أمناء جبل الهيكل" وأحد المسئولين في حركة "كاخ" المتطرفة، بمنع دفنه في باحة المسجد الأقصى، بحجة أن ذلك انتهاك للوضع القائم في المكان المقدس، وانتهاك للقانون. وبررت المحكمة حكمها بأن أي عراقيل أمام مراسم التشييع سيكون من شأنه إثارة حوادث خطيرة. وهكذا شاء القدر أن يولد "فيصل الحسيني" في بغداد، ويتعلم في القاهرة، ويعيش في القدس، ويموت في الكويت، ويدفن في باحة المسجد والحرم المقدس، بجوار أبيه وجده.
مصطفى عاشور
"فيصل الحسيني" زعيم فلسطيني، وهب حياته لقضية القدس والدفاع عن عروبة المدينة، وكانت أسلحته: الحجج، والوثائق، والصمود. تصدى للممارسات الإسرائيلية الهادفة لتهويد المدينة، واستصرخ العرب والمسلمين، وكانت صرخته الشهيرة "واقدساه". كان حلمه دولة فلسطينية عاصمتها "القدس"، القدس الموحدة والمفتوحة للجميع.
ينتمي لعائلة الحسيني، أشهر وأعرق العائلات الفلسطينية، والتي ضربت أروع الأمثلة في النضال الوطني والدفاع عن القدس. فجده موسى كاظم الحسيني، الذي عينه الإنجليز رئيسًا لبلدية القدس، واشترطوا عليه ألا يشتغل بالسياسة. إلا أن السياسة عنده كانت مرادفًا للوطنية، فاستقال من منصبه، ورأس "المؤتمر العربي الفلسطيني" أول تنظيم فلسطيني للمقاومة بعد وعد بلفور، وقاد مظاهرات كبرى ضد الإنجليز في القدس، وأصيب بجروح في إحدى المظاهرات سنة 1933، وهو في الثمانين من عمره ما لبث أن توفي بعدها. أما والده عبد القادر؛ فحمل لواء الجهاد ضد الإنجليز واليهود، وكان قائدا لجيش الجهاد المقدس؛ حتى استشهد في معركة القسطل 8/4/1948. أما عمه فهو أمين الحسيني مفتي القدس، الذي حمل لواء القضية الفلسطينية لسنوات عديدة داخل وخارج فلسطين حتى وفاته 1974م.
النشأة
انتقل والده للعيش في بغداد سنة 1939، بعد فشل ثورة 1936 ضد الانتداب البريطاني. وشاءت الأقدار أن يرى فيصل نور الحياة في 17 يوليو 1940، وأبوه في ظلمات السجن، بعدما اعتقلته السلطة العراقية، التي لم تفرج عنه إلا إذا أبدى بلد آخر استعداده لاستقباله كلاجئ سياسي، فأبدى الملك "عبد العزيز آل سعود" استعداده لاستقبال عبد القادر وأسرته، فانتقلوا إلى السعودية. تعلم خلالها فيصل مبادئ القراءة والكتابة على يد والده، الذي كان يهتم بتنشئة ابنه، فكان يصطحبه معه في رحلات؛ لتسلق الجبال، والتعرف على أنواع الصخور. واستفاد من والدته ذات الذوق الرفيع، التي كانت تهتم بالرسوم التوضيحية المزينة بالفسفور؛ حتى تكوّن مادة شيقة في تعليم أطفالها.
انتقل مع والده إلى القاهرة، الذي اهتم بتنمية الوعي السياسي عند ابنه؛ فكان يُحفّظه القصائد الشعرية الوطنية، ويدربه على التحدث أمام الجمهور. ولما استشهد عبد القادر كان فيصل في القاهرة، وقرأ نبأ استشهاد والده في الصحف، وكان وقع النبأ مؤثرا على الطفل، وهو في الثامنة من عمره. لكن المأساة غرست فيه قوة الإرادة والصمود، فأصبح يُختار دائما لإلقاء كلمة أُسر الشهداء في حفلات التأبين التي كانت تقام آنذاك، وكأنه يناجي والده الشهيد لا جمهور الحاضرين.
وفي القاهرة حصل على الابتدائية والثانوية، وتعرف على ياسر عرفات. وعندما وقع العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 تقدّم بطلب للانضمام للقوات المسلحة المصرية، واشترك في حركة القوميين العرب عام 1957. كذلك شارك في إنشاء وتأسيس المنظمة الطلابية الفلسطينية عام 1959، والتي أصبحت فيما بعد نواة لمنظمة التحرير الفلسطينية.
كان الجهاد والتضحية والرغبة في الاقتداء بوالده الشهيد عوامل دفعته للانخراط في التدريب العسكري، فحاول الالتحاق بكلية سلاح الطيران المصرية، لكنه أخفق في اختبارات اللياقة البدنية، فانتقل إلى سوريا ودرس الهندسة في الأكاديمية العسكرية بحلب، وحصل على شهادة العلوم العسكرية سنة 1966.
وقد انضم إلى صفوف حركة "فتح" منذ بدايتها الأولى في عام 1964، ثم انضم إلى قوات جيش التحرير الفلسطيني المرابط في سوريا، أوائل عام 1967، وكان قبلها يعمل في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في القدس حتى عام 1966، في قسم التوجيه الشعبي.
العودة للقدس
وبعد حرب حزيران "يونيو" 1967، وقعت القدس تحت الاحتلال الإسرائيلي، فقرر فيصل العودة إلى معشوقته "القدس" بعد شهر ونصف من الحرب، عبر نهر الأردن، واستقر في حي "الصوانة" بالقدس الشرقية المحتلة، وأهّلته المرحلة المبكرة من العمل الوطني إلى قيادة العمل السياسي في القدس، فاعتقل لأول مرة في أكتوبر 1967، ثم حُكم عليه بالسجن لمدة عام بتهمة حيازة أسلحة. وبعد خروجه تعرض للحبس والمضايقة والاعتقال من جانب السلطات الإسرائيلية لصلاته بمنظمة التحرير الفلسطينية. لكن ذلك لم يمنعه من مواصلة النضال والعمل الوطني، رغم تنقله بين مهن مختلفة، حتى إنه عمل فني أشعة في مستشفى المقاصد الخيرية.
معهد الدراسات العربية
انخرط في العمل السياسي والأكاديمي، فأسس عام 1979 معهد الدراسات العربية في "بيت الشرق" بالقدس المحتلة، وبيت الشرق هو المقر غير الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية في القدس الشرقية. ونذر جهده البحثي في التنقيب عن التراث الفلسطيني، وإعداد الخرائط التي تثبت أحقية الفلسطينيين في القدس، وكذلك التنقيب عن المستندات الدالة على ملكية الفلسطينيين للمباني والمنازل والأراضي، وخاصة تلك التي في القدس الغربية؛ لذا حظي بشعبية كبيرة في الأوساط العربية في القدس، ودرس العبرية حتى أتقنها كسبيل للتفاهم والتعامل مع الإسرائيليين.
وكان الإسرائيليون يصفونه "بالإرهابي الكبير"، و"الإرهابي ابن الإرهابي"؛ لذا كان يتعرض للسجن والضرب وتحديد الإقامة. كما أن نشاطه لم يتوقف أثناء اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987م، فاتُّهم بالقيام بدور رئيسي في توجيه النضال الفلسطيني، وقضى عامين في السجن.
مفاوضات السلام
أجرى مباحثات مبكرة مع بعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية لوضع أسس التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولأول مرة تخرج من مكتبه وثيقة استقلال فلسطين سنة 1988. كما رأس الوفد الفلسطيني الذي اجتمع مع وزير الخارجية الأمريكي "جيمس بيكر"، وهو الاجتماع الذي مهد لبدء محادثات السلام في مدريد في أكتوبر 1991م. وعندما قام فيصل بتشكيل وفد فلسطيني من الضفة الغربية للذهاب إلى مدريد، فاجأه "ياسر عرفات" بتعيين الدكتور "حيدر عبد الشافي" رئيسًا لوفد التفاوض الفلسطيني.
وفي إبريل 1993 أصبح رئيسا للوفد الفلسطيني في محادثات واشنطن، خلفا "لحيدر عبد الشافي". وبعد اتفاقات أوسلو رفضت إسرائيل أن ينضم إلى زعامة السلطة الفلسطينية، بحجة أنه يعيش في القدس.
وقد عُين الحسيني عام 1996 في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية مسئولا عن ملف القدس. ومن هذا الموقع ساهم في اجتماعات مجلس وزراء السلطة الفلسطينية، وشهدت علاقته بالرئيس "عرفات" بعض التوترات، فكان "عرفات" دائم الانتقاد له في اجتماعات المجلس، ونشبت بين الاثنين مشادة كلامية، قام خلالها عرفات بتجميد تمويل مكتب "فيصل" في بيت الشرق، وتعيين وزير لشئون القدس في السلطة الفلسطينية هو "زياد أبو زياد". ورغم ذلك لم تتوقف نشاطات فيصل الخيرية والاجتماعية؛ فكان يقدم المساعدة للعائلات المحتاجة في القدس، ويساعد في توظيف الشباب في بعض المشروعات.
وتعرض لبعض محاولات الاغتيال من جانب المستوطنين اليهود؛ ففي صيف 1995م أطلقوا الرصاص على منزله، وهو بداخله؛ فحطموا بعض السيارات، كما أن سيارة إسرائيلية حاولت أن تصطدم بسيارته، لكنه نجا من المحاولتين. وعندما اتخذت الحكومة الإسرائيلية بزعامة "بنيامين نتنياهو" قرارا ببناء مستوطنة إسرائيلية في" جبل أبو غنيم" بالقدس، تصدّى فيصل لهذا القرار، وقاد مظاهرة ومسيرة انتهت إلى الموقع الذي تبني فيه إسرائيل المستعمرة، فتعرض هو ومن معه لضرب مبرح من القوات الإسرائيلية، وكان يكفي وجود فيصل الحسيني في أي مسيرة؛ حتى تنتفض السلطات الإسرائيلية لمنع هذه المسيرة ووقفها.
كان فيصل الشخصية الفلسطينية المحورية، التي يروق لكثير من القيادات الدولية التحدث إليها والتباحث معها، عندما يزورون القدس. وعُرف عن الرجل تسامحه في التعامل، والصلابة في الإرادة؛ فكانت نفسه طيبة كوجهه المشرق، وقد أجمعت الآراء على أنه كان مثالا للأخلاق العالية.
استولى حب القدس على قلبه وعقله، فوهب حياته لها، وعشق فيها المكان والتاريخ والمقدس، فكان لا يصبر على فراقها، ويشعر بالحنين إذا غادرها. فبالرغم من أنه يمتلك منزلاً أنيقًا في "عين سينيا" القريبة من القدس، فإنه فضل أن يعيش في بيت مستأجر بالمدينة القديمة، وكأنه يرى أن الوجود في القدس هو الصمود في وجه المحتل؛ لذلك كان يقول: لم أعد أشعر باستقرار إلا في القدس.
ودافع عن القدس وعروبتها. وأكد مرارا أن القدس الغربية عربية. وطالب بتوحيد المدينة بشطريها الشرقي والغربي، وفتحها أمام المجتمع. واعتبر الاستيطان اليهودي في المدينة إعلانًا للحرب على الشعب الفلسطيني.
الكويت والوفاة
مات فيصل الحسيني في الكويت في 31 مايو 2001؛ حيث كان يقوم بأول محاولة من نوعها لإنهاء الخصومة بين الكويت والسلطة الفلسطينية، وهي الخصومة القائمة منذ عام 1990، إلا أنه أصيب بأزمة قلبية ووافته المنية. وذكر الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات أن الحسيني كان مصابا بمرض الربو، وأنه تعرض- من أيام قبل سفره للكويت- للغازات التي يطلقها الجيش الإسرائيلي في القدس، وأنه توفي بسببها.
وحُمل جثمانه إلى القدس، وشيعه إلى مثواه الأخير 20 ألفًا من أبناء القدس في جنازة مهيبة؛ حيث دُفن في باحة الحرم القدسي الشريف بجوار أبيه وجده. وهذه هي المرة الأولى التي يُدفن فيها فلسطيني في هذا المكان منذ احتلال إسرائيل للقدس عام 1967.
ورفضت الحكومة العليا في إسرائيل طلبًا تقدم به زعيم حركة "أمناء جبل الهيكل" وأحد المسئولين في حركة "كاخ" المتطرفة، بمنع دفنه في باحة المسجد الأقصى، بحجة أن ذلك انتهاك للوضع القائم في المكان المقدس، وانتهاك للقانون. وبررت المحكمة حكمها بأن أي عراقيل أمام مراسم التشييع سيكون من شأنه إثارة حوادث خطيرة. وهكذا شاء القدر أن يولد "فيصل الحسيني" في بغداد، ويتعلم في القاهرة، ويعيش في القدس، ويموت في الكويت، ويدفن في باحة المسجد والحرم المقدس، بجوار أبيه وجده.
الجمعة، 5 يونيو 2009
رسالة الى رفاق الدرب الطويل
رسالة الى رفاق الدرب الطويل
سعود المولى
سيأتي زمان... القابض فيه على الذاكرة كالقابض على النار تحترق العينان وجمرات القلب رجع اّلام تحترق اليدان وأوتار الروح نبض لا ينام سيأتي زمان يتلوّن فيه الكون وتنحني القامات يموت الفكر في أتون الكلمات تتلوى الفتنة بين أضلع المفردات سيأتي زمان نكون فيه بقايا ملصق لرفيق
مشروع بيان كتبناه ذات يوم في غفلة من أهلنا والاحلام
اّه ايها الصديق
تقتلنا الحكايات كلما تمايلت الاحزان فوق الابتسامات
يقتلنا الحنين كلما حكينا أحلى ما في السنين
اّه ايها الصديق
يقتلنا الحب والورد والوجد والوجدان
اّه ايها الصديق
ماذا فعلنا لنكون نحن الزمان
يأتي او لا يأتي
ماذا فعلنا لنكون نحن المكان
قريب وبعيد
اّه ايها الصديق
أسمع هتافا على الطريق
اين المنتظر( بكسر الظاء)؟؟ اين المنتظر (بالفتحة)
اين الشاهد؟؟ اين الشهيد؟
سعود المولى
سيأتي زمان... القابض فيه على الذاكرة كالقابض على النار تحترق العينان وجمرات القلب رجع اّلام تحترق اليدان وأوتار الروح نبض لا ينام سيأتي زمان يتلوّن فيه الكون وتنحني القامات يموت الفكر في أتون الكلمات تتلوى الفتنة بين أضلع المفردات سيأتي زمان نكون فيه بقايا ملصق لرفيق
مشروع بيان كتبناه ذات يوم في غفلة من أهلنا والاحلام
اّه ايها الصديق
تقتلنا الحكايات كلما تمايلت الاحزان فوق الابتسامات
يقتلنا الحنين كلما حكينا أحلى ما في السنين
اّه ايها الصديق
يقتلنا الحب والورد والوجد والوجدان
اّه ايها الصديق
ماذا فعلنا لنكون نحن الزمان
يأتي او لا يأتي
ماذا فعلنا لنكون نحن المكان
قريب وبعيد
اّه ايها الصديق
أسمع هتافا على الطريق
اين المنتظر( بكسر الظاء)؟؟ اين المنتظر (بالفتحة)
اين الشاهد؟؟ اين الشهيد؟
في الشيعة والاندماج الوطني:مقاربة من منظور المصلحة
محمد حسين شمس الدين
المراد بالمصلحة ههنا ثلاثة مستويات: الشيعي الخاص، فاللبناني العام، فالعربي الأعمّ. أو قُل هي مصلحة الشيعة اللبنانيين في إطار حاضنيتَهم، أو دائرتي انتمائهم، اللبنانية والعربية. هذا من دون الوقوع في شرك التناقض المفتعل بين المستويات الثلاثة. والمقاربة تجنبت الاستناد الى "معيار المصلحة الإسلامية العامة"، لأن هذا المعيار، بالمعنى الجيوبوليتيكي، لم يعد قائماً منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية وخروج مصطلح "دار الإسلام" من التداول. وحتى من خارج الاعتبارات الجيوبوليتيكية، يبقى هذا المعيار خلافياً جداً اليوم بين المسلمين أنفسهم، فيكاد يكون في منزلة "الافتراضي"، على الرغم من وجود رابطة شكلية للعالم الإسلامي. ذلك بسبب الانشطار السني - الشيعي الذاهب الى مزيد من الشيء نفسه، فضلاً عن اصطفافَي التطرف والاعتدال داخل كل من التيارين المذهبيَين، وبسبب الانشطارات القومية المتجسدة في دول نهائية أو شبه نهائية، ناهيك عن أفول عصر الإمبراطوريات القائمة على الدين أو العرق. وبما هي مقاربة من منظور "المصلحة"، فالإيديولوجيا ليست إذن من بضاعتها؛ فلا هي تُهوّل بها، ولا هي تخضع ـ بطبيعة الحال ـ لابتزازها.
[ 1ـ ثلاث وقائع شيعية
ثمة في المشهد العربي الراهن ثلاث وقائع شيعية يصعب تجاهلها، كما لا يحسن تناولها بمنطق المكابرة.
[ هنالك أولاً ما يصحّ أن يسمى بـ"مسألة شيعية" باتت مطروحة بقوة في الواقع العربي غير المعزول عن جواره الإقليمي وأجندات الدول الكبرى. من تجليات هذه المسألة أن صار يُحكى، وبأصوات حكومية مرتفعة تجاوزت لغة الديبلوماسية الهادئة، عن اهتزاز ولاء بعض الشيعة العرب لدولهم الوطنية، جرّاء تأثرهم بمركزية إيرانية تسعى جاهدة لمدّ نفوذها في المنطقة العربية، مستغلة وجود ثغرات ومُحدثة أخرى في بنيان تلك الدول. ومن تجلياتها أيضاً توجيه اتهام الى الجمهورية الإسلامية الإيرانية بأنها تقود حركة دعوتية لنشر التشيّع الإمامي الإثني عشري، بنسخته الفارسية الجديدة، أي النسخة الخمينية، في البيئات السنية العربية. هذا في زمن أصبح "التقريب" هو قاعدة التعامل المقبولة بين المذاهب الإسلامية، وفيما اتفق العقلاء من مختلف الأديان والمذاهب على أنه لم يعد مسوّغ تاريخي أو أخلاقي أو معرفي لحركتي "الدعوة" و"التبشير" على حد سواء.
ربطاً بهذه الواقعة، يمكن القول أن الحكم الإيراني ـ باستثناء الفترة الخاتمية ـ لم يكلف نفسه عناء دفع التهمة، بل أقدم دائماً على ما يؤكدها. تكفي إشارتان بليغتان في هذا الصدد: فالإمام الخميني نفسه كان قد صرّح غداة انتصار ثورته بأنه "قد آن الأوان كي يقود الفرس العالم الإسلامي، بعدما قاده العرب فالكرد فالمماليك فالأتراك خلال حقب سالفة"؛ وها هو الرئيس الحالي أحمدي نجاد يطالعنا يومياً بمواعيد "صادقة" لقيام "الشرق الأوسط الإسلامي"، بقيادته الرشيدة وبعناية "صاحب العصر والزمان"!. مشكلتنا مع هذه النزعة الإيرانية التوسعية مزدوجة. فهي، بتطبيقاتها العملية، إنما تتم حكماً وبالضرورة على حساب المصالح الحيوية للإقليم العربي. وهي، بانعكاساتها على الشيعة العرب، تُظهرهم وكأنهم "طابور خامس" في مجتمعاتهم الوطنية. هذا بمعزل من حقيقة اختياراتهم، أو اختيارات سوادهم الأعظم. ولنا عودة الى هذه النقطة الأخيرة.
[ ثانية الوقائع أن لـ"حزب الله ـ لبنان"، ذي الارتباط العضوي بمرجعية السلطة في إيران على قاعدة "ولاية الفقيه العامة"، دوراً نشطاً في تأجيج تلك المسألة ـ المشكلة، وهو دور قد تعدى بيئته اللبنانية الى أقطار عربية أخرى، من العراق الى فلسطين والأردن، الى بعض دول الخليج، وصولاً الى مصر والمغرب. علماً أن هذا الدور لا يعفي أطرافاً مناوئة للنفود الإيراني من مسؤولية المساهمة في عملية التأجيج تلك.
وقد جاءت الأزمة الأخيرة بين الدولة المصرية وحزب الله لتظهّر المشكلة بصورة دراماتيكية تبدو حتى الآن عصيّة على الاحتواء، ولتجعل الحزب وجمهوره في وضع شديد الحرج، إذا شئنا عدم المكابرة. فذريعة مساندة "حماس" في غزة، عبر الحدود المصرية ومن دون إذن سلطاتها، لم تقنع إلا صاحب الذريعة وأنصاره الأقربين. أما القول بأن الرد المصري الشديد على حزب الله لم ينل من معنويات هذا الأخير ومكانته في المنطقة العربية فهو قول ـ إن صحّ ـ لا ينفي أن ما حصل قد "نال فعلاً" من مصالح الشيعة اللبنانيين العاملين في البلدان العربية. وإذا كان موقف الأمين العام للأمم المتحدة بخصوص تلك الازمة "قد وضع المنظمة الدولية في مواجهة حركات المقاومة في المنطقة" ـ بحسب تصريح السيد نصرالله ـ أفلا يمكن القول من زاوية نظر أخرى بأن مداخلات حزب الله غير العابئة بالقانون الدولي "قد تضع الشيعة اللبنانيين في مواجهة الشرعية الدولية"؟! أخيراً وليس آخراً، فإن تصريح السيد نصرالله بأن مقاومته "قادرة على أن تحكم بلداً أكبر من لبنان بمائة مرة" إنما كان تصريحاً يفتقر الى الرويّة والدراية. وإذا أردنا أن نُحسن الظن فيه نقول إنه كان "فلتة" نسأل الله أن يقينا شرّها. فقد أجاب وزير الخارجية المصري على الفور ـ بعدما فهم الرسالة ـ بأن مصر أقوى وأعزّ من أن يؤثّر فيها مائة حزب من وزن "حزب الله"!
[ الواقعة الثالثة أن حزب الله، بدعوته ونشاطه العابرين للوطنية اللبنانية، وبالوسائل المادية الاستثنائية المتوفرة له من المصدر الإيراني ذاته، بالإضافة الى تضحياته المعروفة في مجال المقاومة المسلحة ضد إسرائيل وفق استراتيجيته الخاصة وعقيدته الأكثر خصوصية.. هذا الحزب قد حقق لنفسه في العقد الأخير حضوراً طاغياً داخل الجماعة الشيعية اللبنانية، فبدا مختصراً هذه الجماعة بذاته، محتكراً النطق باسمها في المواقف المفصلية. ولقد كان لهذا الحضور الطاغي أن حجب، أو طمس، الخيارات التاريخية للجماعة على الصعيدين الوطني اللبناني والفقهي الشيعي، ما أثار شبهة التزاحم بين الولاء الوطني للشيعة اللبنانيين وبين وفائهم لرابطة التشيّع العامة، كما أظهرهم في عين اللبنانيين الآخرين عقبة أمام الاستقرار وعبئاً على "الصيغة" (نعتقد بقوة، لا بل نعرف، أن موقف العماد ميشال عون، غير المتحفظ حالياً عن توجهات حزب الله، لا يعبّر عن اطمئنان مسيحي فعلي لتلك التوجهات، وهو في تقديرنا موقف عابر، يصدر عن انتهازية وكيدية مكشوفتين، على قاعدة "ليس حباً بمعاوية بل كراهيةً بعليّ".. وبطبيعة الحال لا حاجة بنا الى تبيان الخشية السنية والدرزية من تلك التوجهات).
تلك الوقائع الثلاث باتت تشكل عبئاً مستجداً على الجماعات الشيعية في بيئاتها الوطنية العربية، بعدما كانت هذه الجماعات قد سعت، بشق النفس وعلى مدى قرن كامل، الى تجاوز مفاعيل الحقبة العثمانية بمحمولها التمييزي المذهبي. قد لا يكون ذاك التجاوز تاماً وناجزاً، ولكنه كان مُرضياً وقابلاً للتطور في الاتجاه السليم، بفضل مفاعيل الحداثة التي رفعت الكثير من مظالم القرون الخالية، وبفضل الخيارات العاقلة للشيعة العرب في دولهم الوطنية التي نشأت على أنقاض الحقبة العثمانية والكولونياليات الغربية.
[ 2 ـ الخيار التاريخي للشيعة اللبنانيين
لا جدال في أن الخيار التاريخي للشيعة اللبنانيين على الصعيد الوطني إنما كان الاندراج فالاندماج في الكيان السياسي اللبناني وعقيدته الوطنية، منذ تأسيس الكيان 1920 ثم الاستقلال 1943. وبهذا المعنى اعتُبرت الجماعة الشيعية، في نظر مؤرخي الحالة اللبنانية، "طائفة كيانية". هذا الخيار لم يكن ليتنافى مع سعيهم الدائم لتحسين شروط اندماجهم في الدولة، أي تحديداً لرفع الغبن السياسي والإداري والتنموي الذي كان قد لحق بهم ابتداء (جوهر حركة الإمام موسى الصدر والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى). علماً أن ذاك السعي قد نأى بنفسه دائماً عن السير في أي مشروع سياسي خاص، واستطراداً عن الارتباط بأي خارج إقليمي أو دولي.
لا جدال في ما تقدم، بوجه عام. نعم كان هنالك شيء من القلق صاحب اندماجهم في الكيان اللبناني لفترة نراها وجيزة ـ وقد يراها آخرون طويلة ـ نتيجة واقع الغبن من جهة، وانشداد كثرة منهم، من جهة ثانية، الى "تمامية عروبية" ظلت حتى عهد قريب تعتبر الكيانيات القطرية، الناجمة عن تقسيمات سايكس ـ بيكو، نشوزاً ينبغي "تصحيحه". بيد أن ذلك القلق تبدّد تدريجاً بفعل عوامل ثلاثة:
أ ـ التزام البيوت السياسية الشيعية التقليدية الفكرة اللبنانية على مدى عقود من تعاطيها السياسة (الأسعدية، الحمادية، العسيرانية، الخليلية، الزينية، البزّية، البيضونية، الفوّازية، التامِرية.. إلخ ـ الى بعض البيوت الدينية التي تعاطت السياسة). هذا بمعزل من تقييمنا لأداء تلك "الشيعية السياسية" على المستويات الأخرى، من اجتماعية وديموقراطية وما الى ذلك مما يدخل في نطاق "الحداثة".
ب ـ إحراز الجماعة الشيعية اللبنانية ترقياً ملحوظاً على الصعد الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية والتنموية، بفضل مجهودات ذاتية بالدرجة الأولى، وبحكم صيرورة التطور العام، من دون أن نهمل تقديمات الدولة تحت مسمّى "مجلس الجنوب"، ولا إشباع إداراتها بالموظفين الشيعة في العقدين الأخيرين، ومن دون أن نهمل ـ قبل ذلك ـ ثمرات الحقبة الشهابية على صعيدي التنمية الشاملة وتحديث مؤسسات الدولة. كل ذلك، الى ما سيأتي في الفقرة التالية، جعل مقولة "الحرمان الشيعي"، المعوّقة للاندماج الوطني، غير ذات موضوع Caduc (الملاحظ أن حزب الله يجتهد بصورة منهجية لإحلال "أسطورة المقاومة" مكان "أسطورة الحرمان"، كرافعة للحراك الشيعي السياسي ـ الاجتماعي. في المقابل بدت حركة "أمل" الشيعية مجرّدة من "أسطورتها" الأثيرة!).
ج ـ اتفاق الطائف الذي منح المسلمين اللبنانيين عموماً، بمن فيهم الشيعة، توازناً جديداً في السلطة، أكثر إنصافاً من ذي قبل، لقاء إقرارهم بنهائية الوطن اللبناني وباعتبار المسيحيين "نصف لبنان" في العقد الوطني ومترتباته الدولتيّة، بقطع النظر عن متغيرات الديموغرافيا. هذا الى محافظته على رمزية رأس الدولة، بصفته المسيحية المارونية.
وفي ذلك السياق التاريخي الاندماجي، كان هنالك دورٌ مشهود للمطالعات الفقهية والسياسية الشجاعة التي قدمها أعلامٌ من أئمة الشيعة اللبنانيين وقادة الرأي فيهم، لا سيما الأئمة محمد جواد مغنية وموسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين. وقد أوصى هذا الأخير أبناءه وإخوانه الشيعة العرب "أن يدمجوا أنفسهم في مجتمعاتهم وفي أوطانهم (...) وأن لا يخترعوا لأنفسهم مشروعاً خاصاً يميزهم عن غيرهم تحت أي ستار من العناوين"، مقدماً تجربة الاندماج الشيعي في الوطن اللبناني، خصوصاً بما آلت إليه مع اتفاق الطائف، باعتبارها "نموذجاً للنجاح الوحيد الذي تحقق في العصر الحديث لتصحيح وضع الشيعة في مجتمع متنوع" (الوصايا، ص 27 و31).
إن هذا الموقف/ الخيار، معطوفاً على توجيهات المراجع الشيعية العليا ما بين النجف وجبل عامل على مدى عقود، لا سيما رفضهم القول بـ"ولاية الفقيه العامة"، يؤكد من دون لبس أن مشروع الشيعة في أي بلد تعددي ينبغي أن يكون مشروع الدولة الوطنية ذاته في هذا البلد، بتعاقد مع سائر مكونات المجتمع ومن دون استقواء بالخارج. وعليه فإن الشيعة العرب، بمن فيهم الشيعة اللبنانيون، ينبغي أن يلتزموا نظامين للمصلحة غير متناقضين: نظام المصلحة الوطنية المؤسس على العقد الوطني، ونظام المصلحة العربية المتحصل من العمل العربي المشترك، في سياق التكامل الحر والديموقراطي، بعيداً عن أي نزعة وصائية أو إسقاطات ايديولوجية... ومن نافل القول أن التزامهم المصلحة العربية انما يمر، حتماً، بالشرعيات الدستورية في دولهم الوطنية (مع التشديد على هذا المعنى الأخير).
[ 3 ـ تأثير الخيار الفقهي على مسألة الاندماج الوطني
لدى سماعنا عبارة "ولاية الفقيه" يذهب تفكير الغالبية العظمى من السامعين الى إيران الخمينية على وجه الحصر، لكأن سائر الشيعة في العالم لا يأخذون بهذه النظرية. والحال أنه لا خلاف بين الشيعة الإمامية، ولا حتى بين أهل السنة والجماعة، على "ولاية" الفقيه، من حيث المبدأ ("العلماء ورثة الأنبياء")، بل الخلاف كل الخلاف هو على "حدود" هذه الولاية: بين أن تكون "ولاية عامة"، وهي ما يقول به الإمام الخميني ومقلّدوه في العالم ـ وبين أن تكون "ولاية خاصة" محدودة النطاق، وهي ما يقول به سائر الشيعة الإمامية منذ نحو ألف عام، من مقلدي المراجع الشيعية في النجف وجبل عامل، وحتى غالبية الشيعة في إيران نفسها ما قبل استتباب الأمر للجمهورية الإسلامية بقيادتها الخمينية (ثمة معارضة متنامية لفكرة "الولاية العامة" في إيران اليوم).
بين "عامة" و"خاصة" ثمة فارق جوهري هو كل المسألة في موضوعنا (الاندماج الوطني)، كما سنحاول أن نبين باختصار وتبسيط لا يخلاّن بالمصطلح.
[ بحسب نظرية "ولاية الفقيه العامة" فإن الولي الفقيه هو "نائب الإمام الغائب ـ نائب المهدي المنتظر"، وهو يتمتع بصلاحيات هذا الأخير في الولاية على دماء الناس وأموالهم وخياراتهم السياسية على صعيد نظام الدولة.
هذه النظرية، كما بسطها الإمام الخميني، تدعو الى إقامة حكومة إسلامية في "عصر الغيبة" تمهد لقيام دولة المهدي المنتظر في "عصر الظهور" الذي بات وشيكاً وتوترات "علاماته". وبحسب هذه الأطروحة فإن الفقيه الذي ينجح في إقامة الحكومة الإسلامية في بلد ما، وفقاً لمعايير السلطة الإمامية، كما حصل في إيران منذ 1979، يكون ولي أمر المسلمين ونائب الإمام. وبالتالي ينبغي على سائر مراجع التقليد الشيعة في العالم أن يوالوه سياسياً، تحقيقاً لمصلحة المشروع المهدوي.
[ أما بحسب "ولاية الفقيه الخاصة" فإن سلطة الولي الفقيه ليس من شأنها أن تطاول دماء الناس وأموالهم وخياراتهم السياسية (فهذه كلها من صلاحيات المعصوم وحده، أو المأذون من قبله.. ولا مأذون من قبل المعصوم الغائب)، بل تبقى محصورة في أمور محددة، من قبيل الزواج والطلاق والإرث والأوقاف والمعاملات الجارية، وعلى من لا ولي له، وما الى ذلك مما يدخل في باب "المسائل الحسبية" و"الأحوال الشخصية".
فإذا نجح فقيه في إقامة حكومة إسلامية في بلد ما، فإن سلطته لا تتجاوز حدود ذلك البلد، كما أن سلطته هذه إنما تستمد شرعيتها من رضى المحكومين لا من أصل تشريعي ديني. وعليه فإن العمل بولاية الفقيه العامة من شأنه ـ بحسب هذا الرأي ـ أن "يستجر مفاسد عظيمة"، فضلاً عن كونه لا يملك سنداً فقهياً معتبراً، بل يقوم على مسوّغات سياسية ـ سلطوية لا غير.
غايتنا من المقارنة السريعة أعلاه هي القول بأن التقليد الفقهي الذي درج عليه الشيعة اللبنانيون منذ مئات السنين، أي "ولاية الفقيه الخاصة"، قد شجع اندماجهم في الدولة الوطنية اللبنانية، لأنه بكل بساطة لا يربطهم بأية مرجعية سياسية خارجية ولا يشكل قيداً على تعاقدهم مع سائر مكونات المجتمع. أما "الولاية العامة" التي يأخذ بها حزب الله، و"يحتجز" لها قسماً من الشيعة اللبنانيين، فتشكل عائقاً أمام اندماجهم الوطني، لأنها بكل بساطة أيضاً تربط قرارهم السياسي بمرجعية خارجية.
[ 4 ـ المقاومة.. من رافعة الى مشكلة!
كان يمكن للاختلاف المشار إليه في القسم III أن يبقى في حيز التعبير الديموقراطي، عن اجتهادين فقهيين وعن تعددية سياسية داخل الطائفة الشيعية، لولا أن حزب الله قد نشأ وبنى كل حيثيته على مشروع مقاومة مسلحة أتاحت له تضخماً وفائض قوة غير عاديين، في بلد قليل المساحة والسكان، شديد التنوع، مفتوح بتكوينه على المؤثرات الخارجية. وقد حصل التضخم وفائض القوة بفضل دعم ثابت على مدى عقدين حتى الآن من قبل دولتين إقليميتين هما إيران وسوريا. صحيح أن هذا الدعم الإقليمي وفّر للمقاومة المسلحة ضد إسرائيل زخماً غير مسبوق في تاريخ المقاومات اللبنانية، ومنحها صورة باهرة، ولكنه "فخّخها" بخطر ومأزق.
خطورة هذا الدعم تأتت من أهدافه وتوظيفاته وفق خطة من أربع نقاط أساسية بينتها وقائع التجربة ومآلات الأمور:
1 ـ أن ينفرد حزب الله، رغم تكوينه الأحادي المذهب، بالمقاومة المسلحة، وهو ما حصل بعد العام 1990 بضغط سوري شديد. وقد اقتضى الأمر إلغاء المقاومات المسلحة الأخرى، وبالقوة أحياناً، لا سيما "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية"، بحيث أصبحت المقاومة شيعية صافية، بمسمّى إسلامي لا يطابق واقعها الفعلي.
2 ـ أن تبقى هذه المقاومة مستقلة عن الدولة. وإذ تكفلت الوصاية السورية بإبقاء الدولة اللبنانية ضعيفة وفاقدة القرار السيادي، فقد غدت مقاومة حزب الله أقوى من الدولة اللبنانية.
3 ـ أن تلبي استراتيجية هذه المقاومة متطلبات الدولتين الداعمتين (إيران وسوريا) أولاً. أي أن يأتي لبنان "أخيراً" في أجندتها.
4 ـ وفي ذلك السياق استطاع حزب الله أن يتصدّر تمثيل الشيعة اللبنانيين، وأن ينفرد بقرارهم في القضايا المصيرية، بعد استتباعه حركة "أمل".
ظاهرُ القوة و"الأمتياز" لصالح حزب الله في هذه المعادلة ينطوي على "مأزق شيعي": فاستقلال حزب الله عن الدولة، واحتجازه الطائفة الشيعية في مخيمه، وتصديه لمهمات إقليمية عظمى دون استشارة أحد في لبنان... كل ذلك وضع الشيعة اللبنانيين ويضعهم في دائرة مجازفة كبرى، من حيث تكليفهم أعباء بطولة استثنائية، غير ممكنة وغير مطلوبة أصلاً.
يمكن التعبير عن هذا المأزق نفسه بطريقة أخرى: لما كان حزب الله مصمماً على التمادي في مراكمة القوة الذاتية، ومصمماً على رفض الاندراج في الدولة، ولما كان أفق المقاومة المسلحة قد بات مسدوداً على الصعيد الاستراتيجي القريب والبعيد (بسبب ترتيبات القرار 1701، بالإضافة الى نُضج القرارين الدولي والعربي لإنجاز التسوية السلمية في المنطقة)، فإن "تصريف" قوة الحزب العسكرية لم يعد يجد من سبيل أمامه سوى الداخل اللبناني، إن باستخدام العنف المسلح لحماية خياراته (نموذج 7 أيار 2008)، أو بتوظيف تلك القوة، ضغطاً وتهويلاً، لفرض صيغة "المثالثة" بدلاً من "المناصفة". ولا ضرورة لأن يكون الفرض دستورياً، بل يكفي أن يطبّق عملياً وبحكم الأمر الواقع. ومن هنا تمسك حزب الله باتفاق الدوحة و"الثلث المعطل" كصيغة للحكم مستمرة بعد الانتخابات النيابية المقبلة. بذلك يستطيع قرار الحزب أن يشكل قيداً على الدولة والمجتمع معاً.. الى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
هذا المأزق، بحسب قراءتنا، هو الذي حوّل المقاومة من "رافعة" الى "مشكلة": مشكلة للدولة وللمجتمع وللشيعة ولحزب الله نفسه! والمنطق السليم يقول بأن الخروج من المأزق لا يكون بالهروب الى الأمام.
[ 5 ـ سبيل الخروج من المأزق
إن طبيعة الاجتماع اللبناني ومصلحة العيش المشترك ـ في ضوء التجربة التاريخية ودورها، لا سيما تجربة المقاومات المسلحة على أرض لبنان منذ العام 1969 حتى الآن ـ تحتمان أن تتولى الدولة اللبنانية وحدها، دون شريك في القيادة والقرار، مهمات الدفاع الوطني، وأن تقوم باحتكار القوة المسلحة لنفسها.
لا يستند هذا الرأي الى مسلّمات القانون الدستوري فحسب، بل يستند أيضاً الى خصوصية في الحالة اللبنانية نراها كما يلي: إن مقاومةً بالحد الأدنى، تقوم بها الدولة بوسائلها المتعددة، لهي أكثر جدوى وأماناً من مقاومة بالحد الأقصى تغرّد خارج الدولة.
هذا الأمر كان ينبغي أن يكون موضع تطبيق صارم منذ العام 1990 (عودة الدولة بموجب اتفاق الطائف)، فكيف بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000، والانسحاب السوري عام 2005، ومع وجود قناعة قوية بأن تحرير مزارع شبعا متيسّر بالوسائل السياسية والديبلوماسية، خصوصاً إذا ما تعاونت الحكومة السورية في موضوع ترسيم الحدود بين البلدين؟!
الى ذلك جاء القرار الدولي 1701، على أثر حرب تموز 2006 التدميرية، ليشكل، بما يتوفر لديه من وسائل فعّالة، الحل العملي الأمثل لمعالجة "ضعف" الدولة اللبنانية إزاء العدوانية الإسرائيلية من جهة و"الغلوّ المقاومتي" من جهة ثانية.
ما تقدم يحملنا على القول بأن القرار الدولي 1701، بمندرجاته كافة ومجتمعة، يشكل أساساً صلباً لاستراتيجية دفاعية ناجعة في الحالة اللبنانية، لا تعرّض الاجتماع اللبناني لمجازفات (على نحو ما يعرّضه اقتراح "تعميم المقاومة الشعبية المسلحة" أو استمرار المقاومة حكراً على حزب طائفي)، كما ويحملنا على دعوة حزب الله الى المبادرة لحل مؤسسة "المقاومة الإسلامية" وتقديم سلاحه، عن رضى، الى الدولة اللبنانية، على غرار ما فعلت سابقاً أحزاب المقاومات الأخرى في لبنان.
إن الربط الضمني أو المعلن بين حيثية الطائفة الشيعية في المتحد اللبناني وبين سلاح "مقاومتها"، فضلاً عن كونه ربطاً تعسفياً، لهو مغامرة طائشة تُفضي الى تعميم المغامرة ذاتها على سائر الطوائف اللبنانية والى إسقاط مشروع الدولة الواحدة. ففي مثل هذا المضمار، كما علمتنا التجارب، ما من طائفة لبنانية أقل "شطارة" من أخواتها.. ولو بعد حين!
المراد بالمصلحة ههنا ثلاثة مستويات: الشيعي الخاص، فاللبناني العام، فالعربي الأعمّ. أو قُل هي مصلحة الشيعة اللبنانيين في إطار حاضنيتَهم، أو دائرتي انتمائهم، اللبنانية والعربية. هذا من دون الوقوع في شرك التناقض المفتعل بين المستويات الثلاثة. والمقاربة تجنبت الاستناد الى "معيار المصلحة الإسلامية العامة"، لأن هذا المعيار، بالمعنى الجيوبوليتيكي، لم يعد قائماً منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية وخروج مصطلح "دار الإسلام" من التداول. وحتى من خارج الاعتبارات الجيوبوليتيكية، يبقى هذا المعيار خلافياً جداً اليوم بين المسلمين أنفسهم، فيكاد يكون في منزلة "الافتراضي"، على الرغم من وجود رابطة شكلية للعالم الإسلامي. ذلك بسبب الانشطار السني - الشيعي الذاهب الى مزيد من الشيء نفسه، فضلاً عن اصطفافَي التطرف والاعتدال داخل كل من التيارين المذهبيَين، وبسبب الانشطارات القومية المتجسدة في دول نهائية أو شبه نهائية، ناهيك عن أفول عصر الإمبراطوريات القائمة على الدين أو العرق. وبما هي مقاربة من منظور "المصلحة"، فالإيديولوجيا ليست إذن من بضاعتها؛ فلا هي تُهوّل بها، ولا هي تخضع ـ بطبيعة الحال ـ لابتزازها.
[ 1ـ ثلاث وقائع شيعية
ثمة في المشهد العربي الراهن ثلاث وقائع شيعية يصعب تجاهلها، كما لا يحسن تناولها بمنطق المكابرة.
[ هنالك أولاً ما يصحّ أن يسمى بـ"مسألة شيعية" باتت مطروحة بقوة في الواقع العربي غير المعزول عن جواره الإقليمي وأجندات الدول الكبرى. من تجليات هذه المسألة أن صار يُحكى، وبأصوات حكومية مرتفعة تجاوزت لغة الديبلوماسية الهادئة، عن اهتزاز ولاء بعض الشيعة العرب لدولهم الوطنية، جرّاء تأثرهم بمركزية إيرانية تسعى جاهدة لمدّ نفوذها في المنطقة العربية، مستغلة وجود ثغرات ومُحدثة أخرى في بنيان تلك الدول. ومن تجلياتها أيضاً توجيه اتهام الى الجمهورية الإسلامية الإيرانية بأنها تقود حركة دعوتية لنشر التشيّع الإمامي الإثني عشري، بنسخته الفارسية الجديدة، أي النسخة الخمينية، في البيئات السنية العربية. هذا في زمن أصبح "التقريب" هو قاعدة التعامل المقبولة بين المذاهب الإسلامية، وفيما اتفق العقلاء من مختلف الأديان والمذاهب على أنه لم يعد مسوّغ تاريخي أو أخلاقي أو معرفي لحركتي "الدعوة" و"التبشير" على حد سواء.
ربطاً بهذه الواقعة، يمكن القول أن الحكم الإيراني ـ باستثناء الفترة الخاتمية ـ لم يكلف نفسه عناء دفع التهمة، بل أقدم دائماً على ما يؤكدها. تكفي إشارتان بليغتان في هذا الصدد: فالإمام الخميني نفسه كان قد صرّح غداة انتصار ثورته بأنه "قد آن الأوان كي يقود الفرس العالم الإسلامي، بعدما قاده العرب فالكرد فالمماليك فالأتراك خلال حقب سالفة"؛ وها هو الرئيس الحالي أحمدي نجاد يطالعنا يومياً بمواعيد "صادقة" لقيام "الشرق الأوسط الإسلامي"، بقيادته الرشيدة وبعناية "صاحب العصر والزمان"!. مشكلتنا مع هذه النزعة الإيرانية التوسعية مزدوجة. فهي، بتطبيقاتها العملية، إنما تتم حكماً وبالضرورة على حساب المصالح الحيوية للإقليم العربي. وهي، بانعكاساتها على الشيعة العرب، تُظهرهم وكأنهم "طابور خامس" في مجتمعاتهم الوطنية. هذا بمعزل من حقيقة اختياراتهم، أو اختيارات سوادهم الأعظم. ولنا عودة الى هذه النقطة الأخيرة.
[ ثانية الوقائع أن لـ"حزب الله ـ لبنان"، ذي الارتباط العضوي بمرجعية السلطة في إيران على قاعدة "ولاية الفقيه العامة"، دوراً نشطاً في تأجيج تلك المسألة ـ المشكلة، وهو دور قد تعدى بيئته اللبنانية الى أقطار عربية أخرى، من العراق الى فلسطين والأردن، الى بعض دول الخليج، وصولاً الى مصر والمغرب. علماً أن هذا الدور لا يعفي أطرافاً مناوئة للنفود الإيراني من مسؤولية المساهمة في عملية التأجيج تلك.
وقد جاءت الأزمة الأخيرة بين الدولة المصرية وحزب الله لتظهّر المشكلة بصورة دراماتيكية تبدو حتى الآن عصيّة على الاحتواء، ولتجعل الحزب وجمهوره في وضع شديد الحرج، إذا شئنا عدم المكابرة. فذريعة مساندة "حماس" في غزة، عبر الحدود المصرية ومن دون إذن سلطاتها، لم تقنع إلا صاحب الذريعة وأنصاره الأقربين. أما القول بأن الرد المصري الشديد على حزب الله لم ينل من معنويات هذا الأخير ومكانته في المنطقة العربية فهو قول ـ إن صحّ ـ لا ينفي أن ما حصل قد "نال فعلاً" من مصالح الشيعة اللبنانيين العاملين في البلدان العربية. وإذا كان موقف الأمين العام للأمم المتحدة بخصوص تلك الازمة "قد وضع المنظمة الدولية في مواجهة حركات المقاومة في المنطقة" ـ بحسب تصريح السيد نصرالله ـ أفلا يمكن القول من زاوية نظر أخرى بأن مداخلات حزب الله غير العابئة بالقانون الدولي "قد تضع الشيعة اللبنانيين في مواجهة الشرعية الدولية"؟! أخيراً وليس آخراً، فإن تصريح السيد نصرالله بأن مقاومته "قادرة على أن تحكم بلداً أكبر من لبنان بمائة مرة" إنما كان تصريحاً يفتقر الى الرويّة والدراية. وإذا أردنا أن نُحسن الظن فيه نقول إنه كان "فلتة" نسأل الله أن يقينا شرّها. فقد أجاب وزير الخارجية المصري على الفور ـ بعدما فهم الرسالة ـ بأن مصر أقوى وأعزّ من أن يؤثّر فيها مائة حزب من وزن "حزب الله"!
[ الواقعة الثالثة أن حزب الله، بدعوته ونشاطه العابرين للوطنية اللبنانية، وبالوسائل المادية الاستثنائية المتوفرة له من المصدر الإيراني ذاته، بالإضافة الى تضحياته المعروفة في مجال المقاومة المسلحة ضد إسرائيل وفق استراتيجيته الخاصة وعقيدته الأكثر خصوصية.. هذا الحزب قد حقق لنفسه في العقد الأخير حضوراً طاغياً داخل الجماعة الشيعية اللبنانية، فبدا مختصراً هذه الجماعة بذاته، محتكراً النطق باسمها في المواقف المفصلية. ولقد كان لهذا الحضور الطاغي أن حجب، أو طمس، الخيارات التاريخية للجماعة على الصعيدين الوطني اللبناني والفقهي الشيعي، ما أثار شبهة التزاحم بين الولاء الوطني للشيعة اللبنانيين وبين وفائهم لرابطة التشيّع العامة، كما أظهرهم في عين اللبنانيين الآخرين عقبة أمام الاستقرار وعبئاً على "الصيغة" (نعتقد بقوة، لا بل نعرف، أن موقف العماد ميشال عون، غير المتحفظ حالياً عن توجهات حزب الله، لا يعبّر عن اطمئنان مسيحي فعلي لتلك التوجهات، وهو في تقديرنا موقف عابر، يصدر عن انتهازية وكيدية مكشوفتين، على قاعدة "ليس حباً بمعاوية بل كراهيةً بعليّ".. وبطبيعة الحال لا حاجة بنا الى تبيان الخشية السنية والدرزية من تلك التوجهات).
تلك الوقائع الثلاث باتت تشكل عبئاً مستجداً على الجماعات الشيعية في بيئاتها الوطنية العربية، بعدما كانت هذه الجماعات قد سعت، بشق النفس وعلى مدى قرن كامل، الى تجاوز مفاعيل الحقبة العثمانية بمحمولها التمييزي المذهبي. قد لا يكون ذاك التجاوز تاماً وناجزاً، ولكنه كان مُرضياً وقابلاً للتطور في الاتجاه السليم، بفضل مفاعيل الحداثة التي رفعت الكثير من مظالم القرون الخالية، وبفضل الخيارات العاقلة للشيعة العرب في دولهم الوطنية التي نشأت على أنقاض الحقبة العثمانية والكولونياليات الغربية.
[ 2 ـ الخيار التاريخي للشيعة اللبنانيين
لا جدال في أن الخيار التاريخي للشيعة اللبنانيين على الصعيد الوطني إنما كان الاندراج فالاندماج في الكيان السياسي اللبناني وعقيدته الوطنية، منذ تأسيس الكيان 1920 ثم الاستقلال 1943. وبهذا المعنى اعتُبرت الجماعة الشيعية، في نظر مؤرخي الحالة اللبنانية، "طائفة كيانية". هذا الخيار لم يكن ليتنافى مع سعيهم الدائم لتحسين شروط اندماجهم في الدولة، أي تحديداً لرفع الغبن السياسي والإداري والتنموي الذي كان قد لحق بهم ابتداء (جوهر حركة الإمام موسى الصدر والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى). علماً أن ذاك السعي قد نأى بنفسه دائماً عن السير في أي مشروع سياسي خاص، واستطراداً عن الارتباط بأي خارج إقليمي أو دولي.
لا جدال في ما تقدم، بوجه عام. نعم كان هنالك شيء من القلق صاحب اندماجهم في الكيان اللبناني لفترة نراها وجيزة ـ وقد يراها آخرون طويلة ـ نتيجة واقع الغبن من جهة، وانشداد كثرة منهم، من جهة ثانية، الى "تمامية عروبية" ظلت حتى عهد قريب تعتبر الكيانيات القطرية، الناجمة عن تقسيمات سايكس ـ بيكو، نشوزاً ينبغي "تصحيحه". بيد أن ذلك القلق تبدّد تدريجاً بفعل عوامل ثلاثة:
أ ـ التزام البيوت السياسية الشيعية التقليدية الفكرة اللبنانية على مدى عقود من تعاطيها السياسة (الأسعدية، الحمادية، العسيرانية، الخليلية، الزينية، البزّية، البيضونية، الفوّازية، التامِرية.. إلخ ـ الى بعض البيوت الدينية التي تعاطت السياسة). هذا بمعزل من تقييمنا لأداء تلك "الشيعية السياسية" على المستويات الأخرى، من اجتماعية وديموقراطية وما الى ذلك مما يدخل في نطاق "الحداثة".
ب ـ إحراز الجماعة الشيعية اللبنانية ترقياً ملحوظاً على الصعد الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية والتنموية، بفضل مجهودات ذاتية بالدرجة الأولى، وبحكم صيرورة التطور العام، من دون أن نهمل تقديمات الدولة تحت مسمّى "مجلس الجنوب"، ولا إشباع إداراتها بالموظفين الشيعة في العقدين الأخيرين، ومن دون أن نهمل ـ قبل ذلك ـ ثمرات الحقبة الشهابية على صعيدي التنمية الشاملة وتحديث مؤسسات الدولة. كل ذلك، الى ما سيأتي في الفقرة التالية، جعل مقولة "الحرمان الشيعي"، المعوّقة للاندماج الوطني، غير ذات موضوع Caduc (الملاحظ أن حزب الله يجتهد بصورة منهجية لإحلال "أسطورة المقاومة" مكان "أسطورة الحرمان"، كرافعة للحراك الشيعي السياسي ـ الاجتماعي. في المقابل بدت حركة "أمل" الشيعية مجرّدة من "أسطورتها" الأثيرة!).
ج ـ اتفاق الطائف الذي منح المسلمين اللبنانيين عموماً، بمن فيهم الشيعة، توازناً جديداً في السلطة، أكثر إنصافاً من ذي قبل، لقاء إقرارهم بنهائية الوطن اللبناني وباعتبار المسيحيين "نصف لبنان" في العقد الوطني ومترتباته الدولتيّة، بقطع النظر عن متغيرات الديموغرافيا. هذا الى محافظته على رمزية رأس الدولة، بصفته المسيحية المارونية.
وفي ذلك السياق التاريخي الاندماجي، كان هنالك دورٌ مشهود للمطالعات الفقهية والسياسية الشجاعة التي قدمها أعلامٌ من أئمة الشيعة اللبنانيين وقادة الرأي فيهم، لا سيما الأئمة محمد جواد مغنية وموسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين. وقد أوصى هذا الأخير أبناءه وإخوانه الشيعة العرب "أن يدمجوا أنفسهم في مجتمعاتهم وفي أوطانهم (...) وأن لا يخترعوا لأنفسهم مشروعاً خاصاً يميزهم عن غيرهم تحت أي ستار من العناوين"، مقدماً تجربة الاندماج الشيعي في الوطن اللبناني، خصوصاً بما آلت إليه مع اتفاق الطائف، باعتبارها "نموذجاً للنجاح الوحيد الذي تحقق في العصر الحديث لتصحيح وضع الشيعة في مجتمع متنوع" (الوصايا، ص 27 و31).
إن هذا الموقف/ الخيار، معطوفاً على توجيهات المراجع الشيعية العليا ما بين النجف وجبل عامل على مدى عقود، لا سيما رفضهم القول بـ"ولاية الفقيه العامة"، يؤكد من دون لبس أن مشروع الشيعة في أي بلد تعددي ينبغي أن يكون مشروع الدولة الوطنية ذاته في هذا البلد، بتعاقد مع سائر مكونات المجتمع ومن دون استقواء بالخارج. وعليه فإن الشيعة العرب، بمن فيهم الشيعة اللبنانيون، ينبغي أن يلتزموا نظامين للمصلحة غير متناقضين: نظام المصلحة الوطنية المؤسس على العقد الوطني، ونظام المصلحة العربية المتحصل من العمل العربي المشترك، في سياق التكامل الحر والديموقراطي، بعيداً عن أي نزعة وصائية أو إسقاطات ايديولوجية... ومن نافل القول أن التزامهم المصلحة العربية انما يمر، حتماً، بالشرعيات الدستورية في دولهم الوطنية (مع التشديد على هذا المعنى الأخير).
[ 3 ـ تأثير الخيار الفقهي على مسألة الاندماج الوطني
لدى سماعنا عبارة "ولاية الفقيه" يذهب تفكير الغالبية العظمى من السامعين الى إيران الخمينية على وجه الحصر، لكأن سائر الشيعة في العالم لا يأخذون بهذه النظرية. والحال أنه لا خلاف بين الشيعة الإمامية، ولا حتى بين أهل السنة والجماعة، على "ولاية" الفقيه، من حيث المبدأ ("العلماء ورثة الأنبياء")، بل الخلاف كل الخلاف هو على "حدود" هذه الولاية: بين أن تكون "ولاية عامة"، وهي ما يقول به الإمام الخميني ومقلّدوه في العالم ـ وبين أن تكون "ولاية خاصة" محدودة النطاق، وهي ما يقول به سائر الشيعة الإمامية منذ نحو ألف عام، من مقلدي المراجع الشيعية في النجف وجبل عامل، وحتى غالبية الشيعة في إيران نفسها ما قبل استتباب الأمر للجمهورية الإسلامية بقيادتها الخمينية (ثمة معارضة متنامية لفكرة "الولاية العامة" في إيران اليوم).
بين "عامة" و"خاصة" ثمة فارق جوهري هو كل المسألة في موضوعنا (الاندماج الوطني)، كما سنحاول أن نبين باختصار وتبسيط لا يخلاّن بالمصطلح.
[ بحسب نظرية "ولاية الفقيه العامة" فإن الولي الفقيه هو "نائب الإمام الغائب ـ نائب المهدي المنتظر"، وهو يتمتع بصلاحيات هذا الأخير في الولاية على دماء الناس وأموالهم وخياراتهم السياسية على صعيد نظام الدولة.
هذه النظرية، كما بسطها الإمام الخميني، تدعو الى إقامة حكومة إسلامية في "عصر الغيبة" تمهد لقيام دولة المهدي المنتظر في "عصر الظهور" الذي بات وشيكاً وتوترات "علاماته". وبحسب هذه الأطروحة فإن الفقيه الذي ينجح في إقامة الحكومة الإسلامية في بلد ما، وفقاً لمعايير السلطة الإمامية، كما حصل في إيران منذ 1979، يكون ولي أمر المسلمين ونائب الإمام. وبالتالي ينبغي على سائر مراجع التقليد الشيعة في العالم أن يوالوه سياسياً، تحقيقاً لمصلحة المشروع المهدوي.
[ أما بحسب "ولاية الفقيه الخاصة" فإن سلطة الولي الفقيه ليس من شأنها أن تطاول دماء الناس وأموالهم وخياراتهم السياسية (فهذه كلها من صلاحيات المعصوم وحده، أو المأذون من قبله.. ولا مأذون من قبل المعصوم الغائب)، بل تبقى محصورة في أمور محددة، من قبيل الزواج والطلاق والإرث والأوقاف والمعاملات الجارية، وعلى من لا ولي له، وما الى ذلك مما يدخل في باب "المسائل الحسبية" و"الأحوال الشخصية".
فإذا نجح فقيه في إقامة حكومة إسلامية في بلد ما، فإن سلطته لا تتجاوز حدود ذلك البلد، كما أن سلطته هذه إنما تستمد شرعيتها من رضى المحكومين لا من أصل تشريعي ديني. وعليه فإن العمل بولاية الفقيه العامة من شأنه ـ بحسب هذا الرأي ـ أن "يستجر مفاسد عظيمة"، فضلاً عن كونه لا يملك سنداً فقهياً معتبراً، بل يقوم على مسوّغات سياسية ـ سلطوية لا غير.
غايتنا من المقارنة السريعة أعلاه هي القول بأن التقليد الفقهي الذي درج عليه الشيعة اللبنانيون منذ مئات السنين، أي "ولاية الفقيه الخاصة"، قد شجع اندماجهم في الدولة الوطنية اللبنانية، لأنه بكل بساطة لا يربطهم بأية مرجعية سياسية خارجية ولا يشكل قيداً على تعاقدهم مع سائر مكونات المجتمع. أما "الولاية العامة" التي يأخذ بها حزب الله، و"يحتجز" لها قسماً من الشيعة اللبنانيين، فتشكل عائقاً أمام اندماجهم الوطني، لأنها بكل بساطة أيضاً تربط قرارهم السياسي بمرجعية خارجية.
[ 4 ـ المقاومة.. من رافعة الى مشكلة!
كان يمكن للاختلاف المشار إليه في القسم III أن يبقى في حيز التعبير الديموقراطي، عن اجتهادين فقهيين وعن تعددية سياسية داخل الطائفة الشيعية، لولا أن حزب الله قد نشأ وبنى كل حيثيته على مشروع مقاومة مسلحة أتاحت له تضخماً وفائض قوة غير عاديين، في بلد قليل المساحة والسكان، شديد التنوع، مفتوح بتكوينه على المؤثرات الخارجية. وقد حصل التضخم وفائض القوة بفضل دعم ثابت على مدى عقدين حتى الآن من قبل دولتين إقليميتين هما إيران وسوريا. صحيح أن هذا الدعم الإقليمي وفّر للمقاومة المسلحة ضد إسرائيل زخماً غير مسبوق في تاريخ المقاومات اللبنانية، ومنحها صورة باهرة، ولكنه "فخّخها" بخطر ومأزق.
خطورة هذا الدعم تأتت من أهدافه وتوظيفاته وفق خطة من أربع نقاط أساسية بينتها وقائع التجربة ومآلات الأمور:
1 ـ أن ينفرد حزب الله، رغم تكوينه الأحادي المذهب، بالمقاومة المسلحة، وهو ما حصل بعد العام 1990 بضغط سوري شديد. وقد اقتضى الأمر إلغاء المقاومات المسلحة الأخرى، وبالقوة أحياناً، لا سيما "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية"، بحيث أصبحت المقاومة شيعية صافية، بمسمّى إسلامي لا يطابق واقعها الفعلي.
2 ـ أن تبقى هذه المقاومة مستقلة عن الدولة. وإذ تكفلت الوصاية السورية بإبقاء الدولة اللبنانية ضعيفة وفاقدة القرار السيادي، فقد غدت مقاومة حزب الله أقوى من الدولة اللبنانية.
3 ـ أن تلبي استراتيجية هذه المقاومة متطلبات الدولتين الداعمتين (إيران وسوريا) أولاً. أي أن يأتي لبنان "أخيراً" في أجندتها.
4 ـ وفي ذلك السياق استطاع حزب الله أن يتصدّر تمثيل الشيعة اللبنانيين، وأن ينفرد بقرارهم في القضايا المصيرية، بعد استتباعه حركة "أمل".
ظاهرُ القوة و"الأمتياز" لصالح حزب الله في هذه المعادلة ينطوي على "مأزق شيعي": فاستقلال حزب الله عن الدولة، واحتجازه الطائفة الشيعية في مخيمه، وتصديه لمهمات إقليمية عظمى دون استشارة أحد في لبنان... كل ذلك وضع الشيعة اللبنانيين ويضعهم في دائرة مجازفة كبرى، من حيث تكليفهم أعباء بطولة استثنائية، غير ممكنة وغير مطلوبة أصلاً.
يمكن التعبير عن هذا المأزق نفسه بطريقة أخرى: لما كان حزب الله مصمماً على التمادي في مراكمة القوة الذاتية، ومصمماً على رفض الاندراج في الدولة، ولما كان أفق المقاومة المسلحة قد بات مسدوداً على الصعيد الاستراتيجي القريب والبعيد (بسبب ترتيبات القرار 1701، بالإضافة الى نُضج القرارين الدولي والعربي لإنجاز التسوية السلمية في المنطقة)، فإن "تصريف" قوة الحزب العسكرية لم يعد يجد من سبيل أمامه سوى الداخل اللبناني، إن باستخدام العنف المسلح لحماية خياراته (نموذج 7 أيار 2008)، أو بتوظيف تلك القوة، ضغطاً وتهويلاً، لفرض صيغة "المثالثة" بدلاً من "المناصفة". ولا ضرورة لأن يكون الفرض دستورياً، بل يكفي أن يطبّق عملياً وبحكم الأمر الواقع. ومن هنا تمسك حزب الله باتفاق الدوحة و"الثلث المعطل" كصيغة للحكم مستمرة بعد الانتخابات النيابية المقبلة. بذلك يستطيع قرار الحزب أن يشكل قيداً على الدولة والمجتمع معاً.. الى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
هذا المأزق، بحسب قراءتنا، هو الذي حوّل المقاومة من "رافعة" الى "مشكلة": مشكلة للدولة وللمجتمع وللشيعة ولحزب الله نفسه! والمنطق السليم يقول بأن الخروج من المأزق لا يكون بالهروب الى الأمام.
[ 5 ـ سبيل الخروج من المأزق
إن طبيعة الاجتماع اللبناني ومصلحة العيش المشترك ـ في ضوء التجربة التاريخية ودورها، لا سيما تجربة المقاومات المسلحة على أرض لبنان منذ العام 1969 حتى الآن ـ تحتمان أن تتولى الدولة اللبنانية وحدها، دون شريك في القيادة والقرار، مهمات الدفاع الوطني، وأن تقوم باحتكار القوة المسلحة لنفسها.
لا يستند هذا الرأي الى مسلّمات القانون الدستوري فحسب، بل يستند أيضاً الى خصوصية في الحالة اللبنانية نراها كما يلي: إن مقاومةً بالحد الأدنى، تقوم بها الدولة بوسائلها المتعددة، لهي أكثر جدوى وأماناً من مقاومة بالحد الأقصى تغرّد خارج الدولة.
هذا الأمر كان ينبغي أن يكون موضع تطبيق صارم منذ العام 1990 (عودة الدولة بموجب اتفاق الطائف)، فكيف بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000، والانسحاب السوري عام 2005، ومع وجود قناعة قوية بأن تحرير مزارع شبعا متيسّر بالوسائل السياسية والديبلوماسية، خصوصاً إذا ما تعاونت الحكومة السورية في موضوع ترسيم الحدود بين البلدين؟!
الى ذلك جاء القرار الدولي 1701، على أثر حرب تموز 2006 التدميرية، ليشكل، بما يتوفر لديه من وسائل فعّالة، الحل العملي الأمثل لمعالجة "ضعف" الدولة اللبنانية إزاء العدوانية الإسرائيلية من جهة و"الغلوّ المقاومتي" من جهة ثانية.
ما تقدم يحملنا على القول بأن القرار الدولي 1701، بمندرجاته كافة ومجتمعة، يشكل أساساً صلباً لاستراتيجية دفاعية ناجعة في الحالة اللبنانية، لا تعرّض الاجتماع اللبناني لمجازفات (على نحو ما يعرّضه اقتراح "تعميم المقاومة الشعبية المسلحة" أو استمرار المقاومة حكراً على حزب طائفي)، كما ويحملنا على دعوة حزب الله الى المبادرة لحل مؤسسة "المقاومة الإسلامية" وتقديم سلاحه، عن رضى، الى الدولة اللبنانية، على غرار ما فعلت سابقاً أحزاب المقاومات الأخرى في لبنان.
إن الربط الضمني أو المعلن بين حيثية الطائفة الشيعية في المتحد اللبناني وبين سلاح "مقاومتها"، فضلاً عن كونه ربطاً تعسفياً، لهو مغامرة طائشة تُفضي الى تعميم المغامرة ذاتها على سائر الطوائف اللبنانية والى إسقاط مشروع الدولة الواحدة. ففي مثل هذا المضمار، كما علمتنا التجارب، ما من طائفة لبنانية أقل "شطارة" من أخواتها.. ولو بعد حين!
راشد الغنوشي: معركةُ الْهُوُيَّةِ الإسلاميةِ انتَصَرتْ ببلاد الْمَغْرِبِ
راشد الغنوشي: معركةُ الْهُوُيَّةِ الإسلاميةِ انتَصَرتْ ببلاد الْمَغْرِبِ
يُبْدِي المفكرُ الإسلامي راشد الغنوشي الأمين العام لحركة النهضة الإسلامية التونسية يقينًا تامًّا بانتصارِ الحركة الإسلامية بدول المغرب العربي في معركة الهوية الإسلامية، بمواجهة حركة التغريب التي استهدفت شعوب تلك المنطقة. ويَلْفِتُ الغنوشي إلى أن تونس شهدت أعنف فصول تلك المعركة، في ظِلِّ استخدام نظام بورقيبة كافَّةَ أجهزة الدولةِ لِفَرْضِ نموذج تغريب فاشِيّ، ومع ذلك أثبتت الهوية الإسلامية أنها أَعْمَقُ وأرسخ قَدَمًا من تلك المشاريع.
وفيما يتعَلَّقُ بقيادته لحركة النهضة من منفاه الاختياري في لندن، يعتبر الغنوشي أنّ الهجرة في تاريخ الدعوات وحركات التحرر ليست بأمر غريبٍ أو شاذٍّ، ولذا جعل الله سبحانه لعباده الْمُهَدَّدِين بالاضطهاد في الهجرة مَخْرَجًا.
كما قسم المفكر الإسلامي مواقفَ الحكومات المغاربية من الحركات الإسلامية لصنفين: صنف معتدل في موقفه من الإسلام والثقافة العربية، حتى وإن وُجِد في النظام استئصاليون، بخاصة في الجزائر والمغرب؛ حيث توجد نخبة فرانكفونية ذات نفوذ واسع. أما الصنف الثاني، فهو نموذج استئصالي يكاد ينفرد به النموذج التونسي، مُتَأَثِّرا بِمُؤَسِّسِه الرئيس بورقيبة، ولئن كان هذا الصنف من النخبة له وجودٌ متنفِّذٌ في الجزائر والمغرب وموريتانيا، لكنه لا يتمتع بنفس النفوذ، وليس له نفس التراث الذي له في تونس.
هذه التفاصيل وغيرها الكثير جاءت في ثنايا الحوار مع المفكر الإسلامي راشد الغنوشي، فإلى نص الحوار.
ـ في البدء يلفت نظرنا أن حركة النهضة الإسلامية في تونس انطلقت من منحى مقاومة العلمانية، ومحاولة إعادة إحياء لنهج الإسلام في تونس, لماذا بعد ذلك كانت هذه النقلة المغايرة إلى العمل السياسي؟! أم أن لهذه الانتقالية حتميةً تُقَرِّرُها ظروف الحال في البلاد العربية؟
* لئن اشتركت الحركات الإسلامية في مرجعية الإسلام كتابًا وسُنَّةً وإجماعًا، فهي تختلف في الصبغة العامة التي تصطبغ بها كُلُّ واحدةٍ منها باختلاف الملابسات التي حفت بظهورها، ففي بلد خاضع للاحتلال الأجنبي، كان الْمُرَجَّحُ أن تكون هموم التحرير هي الغالبةَ عليها، بينما في بلد يعاني من تأثيرات الغزو الثقافي، والعلمنة الطاغية على هُوُيَّةِ البلاد الإسلامية، فمن المنتظر أن يكون الهم الأعظم للحركة الإسلامية الدفاع عن مقومات الشخصية الإسلامية، ومواجهة ضروب العلمنة السائدة مواجهةً فكريةً عقديةً وتربويةً، وهو ما كان عليه الأمر في نهايات الستينيات من القرن العشرين المنصرم؛ حيث تَبَدَّى المشروع البورقيبي على حقيقته، وأثمرت بذوره محاصيلها بعد عَقْدٍ ونصفٍ من "الاستقلال"، تم فيها استخدامُ أجهزة الدولة الحديثة شديدةِ التمركز، وزَخَمِ معركة التحرير، والزعامة التاريخية الطاغية، الاستخدامَ الْمُفْرِطَ في تفكيك الإسلام؛ عقائدَ وشعائِرَ وقِيمًا ومؤسساتٍ وحضارةً، باعتبارها عوائِقَ في طريق الاستراتيجية العليا للدولة، التي يُلَخِّصُها شعار بورقيبة الأثير: "اللَّحَاق بركب الأمم المتحضرة".
لقد وُلِدَتِ الحركة الإسلامية كأحد أهم دفاعات المجتمع التونسي عن مقومات شخصيته، ووجوده، واستمراره، عَرَبِيًّا مُسْلِمًا، وامتدادًا للأمة العربية والإسلامية، وليس تابعًا صغيرًا لأمم الغرب. ولأن الطلب كان قويًّا على مقومات هذه الهوية، بسبب تفاقم الشعور بالخطر، فقد نشأت ونمتْ بسرعة ، فأعادتْ بِفَضْلِ الله الحياةَ للمساجد، وللمصاحفِ، وللشَّعَائِرِ، ولقِيَمِ الإسلام ، تُجَسِّرُ العلاقة بينها وبين عالم الحداثة في معاهد التعليم والجامعة والإدارة، وتمتد بها تِبَاعًا إلى كل مؤسسات المجتمع ومناشِطِه النَّقَابِيّة والثقافيّة والسياسيّة، انطلاقًا من منظور الإسلام التوحيدي الشامل، الذي يدعو المؤمنين به إلى أن يعبدوا الله الواحد الأحد بكل نفوسهم وفِكْرِهِم وجَوَارِحِهم، مُخْلِصِين له الدين في كل مسالكهم ومناشطهم، وإلا فهو الشرك.
ولذلك رغم أن الحركة نشأت حركةً دعويةً ثقافيةً، إلا أنها ما إن حققتْ قدرًا من النمو، حتى تنَبَّهَتْ دولة الاستبداد إليها، فاستدارت لها، ووجهتْ إليها مدافِعَهَا، ولا تزال تفعل ذلك معها ومع غيرها، ممن رفض أن يكون معارضة مدجنة .
ليس في مثل هذا النوع من الأنظمة خيارٌ ولا منزلةٌ وُسْطَى بين الأمرين: التَّدْجِين، أو المواجهة، ولكِ أن تقولي المقاومة بتعبير أخينا الدكتور المرزوقي ، وليس المعارضة؛ لأن هذه مكانها في نظام ديمقراطي يَعْتَرِفُ بالتعدد، وتداوُلِ السلطة عبر صناديق الاقتراع.
أما حيث يسودُ الاستبدادُ فلا مكان للحديث عن مُعَارَضَةٍ، وإنما عن مقاومةٍ لمواجهة احتلال داخلي، هو أَشَدُّ نكالًا من الاحتلال الخارجي، بل هو نائب عنه.
إن الحديث عن مصالحةٍ مع هذا النوع من الاحتلال هو أقرب -إذا كان الداعون إليهِ مخلصين جادِّين وليسوا مخادعين- إلى التَّمَنِّي والافتراض.
ـ شهدتْ حركتكم انفصال بعض الشخصيات القيادة، وانتهاجها نهجًا آخر، منهم زياد كريشان، وصلاح الدين الجورشي، واحميدة النيفر, فما السبب وراء هذا الانفصال؟ وهل هناك جهاتٌ لها ضِلَعٌ في هذا الانفصال؟
* ربما كان ذلك نتيجةً من نتائج مرحلة التَّأَقْلُم مع البيئة التونسية- في نهاية السبعينيات- التي كان قد أخذ يَمُرُّ بها فِكْرُ الحركة، الوافدُ في معظمه من البيئات الشرقية.، وهو لم تتوفر له الرؤية الواضحة، والأدوات الكفيلة باستيعابه داخِلَ نفس الحركة، فحصل افتراق قبل أن تتضح الرؤيا، فلم تتحرَّر مواطن الاختلاف إلا لَاحِقًا، وانصبّت على الموقف من الشريعة، ما هو مُلْزِمٌ لِزَمَاننا وما هو غير ملزم؟
وهي عند التحقيق مسائِلُ لا يَنْبَنِي عليها في الواقع الراهن عَمَلٌ، ذلك أنّ مطالب الحركة السياسية في تونس- وربما في معظم بلاد الإسلام- على اختلاف مرجعياتها الأيدولوجية - تكاد تتمحور حول الحريات السياسية، أي على الهيكل العام للدولة؛ إذْ يلتقي الجميع حول النضال من أجل دولةٍ مَدَنِيَّةٍ ديمقراطية، مهما اختلفَتْ مرجِعِيَّتُها، وذلك في مقابل دولة الاستبداد القائمةِ، بصرف النظر عن مرجعيتها علمانيةً كانتْ أم دينيةً، وبصرف النظر عن نوعية القوانين التي ستَرْتَضِيها المؤسسات الديمقراطية المنتخبةُ عند قيامها، إذ لا وَصَايَةَ لأحدٍ على الشعوب، ولا مَصْدَرَ للإلزام غير ما تلتزم به.
وفي المحصلة، فإن ذلك الاختلاف، وإن تَأَثَّرَ بمرحلة طفولة الحركة من حيث قلة النضج، فقد أسهم في كَسْرِ الجمود، والرأي الواحد، وفي تأهيل الحركة للتفاعل مع بيئتها، وتجاوُزِ مرحلة التتلمُذِ، والتقليد الأعمى للبضاعة المشرقية الوافدة، بما هَيَّأَ لإنتاج ما يُمْكِن أن يُنْعَتَ بخصوصيات تونسية ضِمْنَ المدرسة الإسلامية الوَسَطِيَّة. فليس فيما حدث ما يُمْكِنُ أن يُشْتَمَّ منه رائحةٌ لتآمُرٍ ومكايدة.
ـ رغم التطور الحاصل في العالم إزاء الحريات الشخصية، لا زالت تونس تخضع للقانون الصادر عام 1981، والذي يحظر على المرأة التونسية ارتداء الحجاب في الجامعات، والمدارس، والدوائر الحكومية، بل يَحْظُرُ على التونسية أنْ تضع صورتها وهي مُحَجَّبَةٌ في وثيقة رسمية, هل من أمل في تغيير هذا القانون، أو التخفيف منه بعض الشيء؟
* مسألة حظر الخمار؛ أي غطاء الرأس على المرأة التونسية، فضيحة بجلاجل -كما يقال-، لنظامٍ يتبجح بتجربة تحديثٍ رائدة. فضيحة تكشف عن الطبيعة الجوهرية العميقة لشخصية بورقيبة، ولمدرسته، ودولته :الاستبداد، والغرور، والاحتقار للشعب، والنُّزُوع العارم للتحكم، والاستخدام الْمُنْفَلِت لأدوات الدولة، وللظهير الخارجي في فَرْضِ نموذج التغرب الفاشي، وليس التَغَرُّب الليبرالي الديمقراطي.
ولا عجب؛ فبورقيبة ينتمي لجيلٍ كان شديدَ التَّأَثُّر بالنماذج الفاشية والاشتراكية، التي كانت شديدةَ الإيمان بالقدرات التنموية الخارقة للدولة عبر الحزب الواحد، والزعيم الملهم، باعتبارها الطريقَ الأسرع للتحديث، بمعنى محاكاة النموذج الغربي، وبالخصوص في علاقته بالدين، ونموذَجُهُ الثورة الفرنسية .
والأمر كما يذكر ابن خلدون؛ أن المغلوب يميل إلى تقليد غالبه، في زِيِّهِ ونِحْلَتِهِ فيما يظن أنه سببُ قُوَّتِه؛ فهو تقليدٌ شكْلِيٌّ للغالِبِ، ومنه تَحَلُّلُهُ من الدين، فكانت هجمة دولة الاستقلال في عهد مُؤَسِّسِها، كعهد خلفائه على الإسلام، دينًا وحضارةً ومؤسساتٍ، ومن ذلك استهداف الحجاب باعتباره تَحَدِّيًا شكليًّا صارخًا لتحديثهم الشكلي مناطِ اعتزازهم، وكأنّ المرأةَ الماليزيةَ الحريصةَ جِدًّا على الحجاب أَقَلُّ حداثةً من التونسية، بينما لا وَجْهَ للمقارنة بين أصالة ونجاح الأولى، بالقياس إلى الأخرى، في حين أنهما انطلقتا في نفس الفترة.
ومن قِصَرِ نَظَرِ وغرور القائمين على هذا المشروع الأوتوقراطي، رِهَانُهُم على استبدال هُوُيَّةِ شعب تونس الإسلامية العربية، بِهُوُيَّةِ هَجِينة، لا هي غَرْبِيَّة بحق، ولا هي مَحَلِّيّة، وكأن الهُوُيَّاتِ عُلَبٌ يتم تصنيعها، مع أنّ كل التجارب الحديثة تشهد أنّ هُوُيَّاتِ الشعوب أَعْمَقُ وأرْسَخُ من أن تقتلعها الدول مهما عَتَتْ.
وعَوْدَةُ الشباب أفواجًا إلى بيوت الله بعد حرب ضروس على ظواهر التدين، وكذا العودةُ الكثيفة إلى الحجاب، رغم المقاومة الشرسة من أجهزة الحكم، شاهِدَةٌ على إفلاس مشروعهم للتحديث الفَجِّ، وعلى أصالة الإسلام، وعُمْقِ كسب الحركة الإسلامية، وأنهم مهما استمروا في العناد والغرور والاستبداد، فسيهزمهم الإسلام، وسَيَهْزِمُهُم الحجاب، فلم الإمعانُ في الطريق المسدود؟
ـ كيف تُقَيِّمُون تجربة الحركات والأحزاب الإسلامية في المغرب العربي، وبالتحديد في بلدكم تونس، وكيف تُقَيِّمُون تجربتكم في حركة النهضة الإسلامية، خاصةً بعد مرور أكثرَ من ثلاثين سنةً على انطلاقها؟
* ليس من اليسير في هذا الحيزِ المحدودِ تقييمُ مسيرةِ حوالي أربعة عقودٍ من الكدح الإسلامي في المنطقة المغارِبِيَّة عامةً، وفي تونس خاصة. وبنوعٍ من الإجمال والتَّجَوُّز يمكن أن نُسَجِّلَ بيقينٍ انتصارَ معركة الهُوُيَّةِ الإسلامية العربية في جملةِ هذه الأقطار الثغورِ، المحاطةِ بأمم غربية كبرى ذاتِ أطماع في هذه المنطقة، وحاولتْ أكثرَ من مرة استلحَاقَهَا وابتلاعها.
وقد نجحتْ حركة التغريبِ أو العلمنة في تهميش الإسلام وحضارته وحَصْرِهِ في العالم القديم، بينما قطع العالم الحديث، من مدارس وجامعات ومنتديات وإدارة ومال، شَوْطًا بعيدًا من "التفرنس"، واستكْمَلَ عهدُ الاستقلال في كُلٍّ من المغرب وتونس "فَرْنَسَتَها"، حتى كان الخطاب الطلابي في الجامعات خلال الستينيات، وشطرًا من السبعينيات، يُقَدَّمُ باللغة الفرنسية، إلا أنه منذ نهاية السبعينيات، وبدخول الاتجاه الإسلامي القوي، نجح في فرض العربِيَّةِ لغةً للخطاب الطلابي، وتمكَّنَتِ الحركة الإسلامية من إعادة الإسلام إلى قلب الحداثة؛ ليكون الموقف منه هو موضوعَ الحوار الرئيسِ، بينما ظل الحوار حتى نهايةِ السبعينيات دائرًا داخل المعسكر العلماني بين يساريين وليبراليين، ثم تَمَخَّض صراعٌ داخل المعسكر اليساري.
ومنذ الثمانينات عاد الإسلام بقوة، واستمرت عودته تتأكد في قَلْبِ ساحات الحداثة ومعارِكِهَا: الحداثة السياسية، والاجتماعية، والثقافية.
لقد استُهْدِفَ الإسلام بدرجات مختلفة في هذه المنطقة، وبلغ الاستهداف حَدَّ الاستئصال، ولكننا نقول بكل يقينٍ اليَوْمَ أنّ الإسلام قد كسب معركة الهوية، حتى عاد نظامٌ علمانِيٌّ شَرِسٌ -كالذي يحكم تونس- ينافس على الشَّرْعِيَّةِ الدينيةِ، ساعيًا للحصول على أسهم من الرصيد الإسلامي عبر فتح قنوات إعلامية إسلامية.
ومع ذلك لا تزال المعركة الثقافية محتدمةً بين دعاة التعريب، وحماة التفرنس، على امتداد المنطقة المغاربية عدا ليبيا. لا تكاد تُحْرِزُ تَقَدُّمًا خطوةً، حتى يتِمَّ التراجع عنها.
وبعد نصف قرن من الاستقلال لا تزال الفرنسية سيدةَ الموقف، حتى في التعليم الابتدائي، بل تم التراجع عن برنامج التعريب في الجزائر بعد الانقلاب على الجبهة الإسلامية 1992، ولم تنجح مشاركة إسلاميين آخرين في التشريعي والتنفيذي في المحافظة حتى على ما كان قد تَحَقَّقَ. ولعلهم يحتجون بأن التراجع في غياب مشاركتهم سيكون أفدح، ربما.
وفي المستوى السياسي، وهو الحاكم على ما دونه، ظلت المعركة محتدمةً بين التيار الإسلامي، وتيارات التغريب والدكتاتورية، وتأخذ أشكالًا مختلفةً، أشدُّهَا ما يحدث في تونس؛ حيث طبقت سياسةً استئصاليةً على التيار الإسلامي، وسياسة تجفيف الينابيع على كل ما يمت للإسلام، حتى تحولت الصلاة لسنوات طويلة إلى علامة تصنيف سياسي، وحُظِرَ الحجاب، ولا يزال، وصُودِرَتِ الكتابات الإسلامية حتى التراثية، وذلك بعد الانقلاب على نتائج انتخابات 1989، التي فازت فيها حركة النهضة بأغلبية الأصوات، فتقرر تزييف النتائج، ومعاقبة الفائزين بالاستئصال.
ولا يزال الوضع التونسي محكومًا بنتائج تلك الانتخابات التي رَجَّتِ النظام بقوة، وهو يتَلَمَّس خطاه نحو إحكام قبضته على البلاد، فلم يهضم تلك الطفرة، وأقدم وهو في حالة ذهول على شَطْبِ النتائج، والتضحية بشعارات التغيير التي يحملها، وقرّر تصفية هذا الخصم الْمُتَعَذَّرِ استيعابُهُ ضمن الأوعية الضيقة المعدّة.
وظلت تلك الصدمة تُمَثِّل كابوسًا مُتَحَكِّمًا في جملة سياسات السلطة؛ لتتحولَ عداوَتُهَا للتيار الإسلامي إلى عقيدة أساسية للدولة. وجاءت الأحداث الخارجية لِتُرَسِّخَ أقدامها على هذا الطريق، بدءًا بالانقلاب على الجبهة الإسلامية في الجزائر، وصولًا إلى 11سبتمبر، مرورًا بكل أحداث الإرهاب.
أما الجزائر، فهي الأخرى لا تزال محكومةً بكوابيس انتخابات 1992، التي انقلب عليها العسكر، زاجِّين البلاد في أتُّونٍ من الفتن، في مناخات اجتماعية تمور بالغضب، تتحرك على أرضية ثقافية مُشَبَّعَةٍ بثقافة ثورية متجذرة، طالما احتضنتها الجغرافيا الجبليَّةُ الشامخة، وأمدّتها بالحماية.
لقد مَرَّ أَزْيَدُ من عَقْدٍ ونِصْفٍ على ذلك الانقلاب المشئوم، تعرَّضَتْ فيها الجزائر إلى كوارِثَ عُظْمَى، بذريعة حِمَايَتِها من الخطر الإسلامي، ولا يزال الكابوس المتحكِّمُ في عسكرها المنقلبِ على إرادة الشعب وفي ملحقاته المدنية، هو الهروب من العودة إلى شبح الجبهة.
أما المغرب، فإن الرياح الانقلابية التونسية الجزائرية على الإسلاميين وعلى الديمقراطية لم تَهُزّه، ولم تَسْتَخِفَّه ، وذلك راجعٌ بعد توفيق الله إلى ما تتمتع به الدولة هناك من شرعية تاريخية ودينية مستقرة، فقد استوت العلاقة بين الملك والشعب على قدرٍ كبيرٍ من الاعتراف المتبادل، بما أمكن معه إرساء نظام سياسي يتمتَّعُ بِقَدْرٍ من الديمقراطية، تستوعِبُ معظم المكونات السياسية بمختلف اتجاهاتها، بما فيها المكونات الإسلامية، عدا جماعة العدل والإحسان، وفصيل البديل الحضاري، ومجموعات يسارية راديكالية، وأخرى سلفية جهادية؛ حيث يتم مع غير العنيف منها مثل العدل والإحسان تعايُشٌ قَلِقٌ، ولكِ أن تقولي "علاقة حذرة"، تشبه علاقة إخوان مصر بالسلطة، إلا أنّ سيف الدولة مسلولٌ على الجماعات السلفية المنتهجةِ سبيلَ العنف.
ويحتل هنا حزب العدالة والتنمية موقعًا وسَطًا أحَلَّهُ في الصف الأول من الأحزاب المتنافسة على الحكم، وذلك بعد رحلة طويلة من الراديكالية إلى الوسطية. ويبقى المشكل الاجتماعي مشكلَ التفاوت بين طبقة الحكم المحظوظة، المحتكرة للسلطة والثروة، بما فاقم أوضاع الفساد والفقر والبطالة والغضب الشعبي.
ويبقى الوضع في ليبيا ذا خصوصيات ، فبعد سنوات من المواجهة بين مجموعات تنتمي للتيار الإسلامي، بعضها إخواني، وبعضها تنتمي للتيارات الجهادية، بادرت مؤسسة القذافي التي يشرف عليها نجله سيف الإسلام بفتح حوار معهم، بدأ مع المجموعة الإخوانية في السجون وخارجها، انتهى إلى الإفراج عنهم، وإعادتهم إلى وظائفهم، وصرف مرتباتهم خلال سجنهم، وعودة الكثير من مهاجريهم؛ حيث الحوار جار معهم حول صيغة مناسبة لنشاطهم .
ولم يتوقف الحوار عند هؤلاء، بل تعداه إلى "مساجين الجماعة الإسلامية المسلحة"، ولا يزال جاريًا في اتجاه تسويةٍ تُنْهِي العمل العنيف، وتُحَرِّرُ بقية المساجين ليبحثوا، مثل غيرهم من المواطنين، عن السبل المتاحة للمشاركة في مشروع إصلاحي تقوده مؤسسة القذافي، في اتجاه إرساء وَضْعٍ دستوري عادي؛ حيث تَسْهَرُ مجموعةٌ من الخبراء، منهم بعض رجال الحركة الإسلامية، مثل الشيخ علي الصلابي، على إعدادِ وثيقةٍ دستوريةٍ لليبيا الغد . ولا يزال المشروع يتراوح بين قوى الدفع وقوى الجَذْبِ.
يتضح من المشهد العام للمنطقة من زاوية الوضع الإسلامي ما يلي:
أنه يمكن من الزاوية الثقافية تصنيف دول المنطقة إلى صنفين:
أ- صنف معتدل في موقفه من الإسلام والثقافة العربية، حتى وإن وُجِدَ في النظام استئصاليون، وبخاصة في الجزائر وفي المغرب؛ حيث توجد نخبة فرانكفونية ذات نفوذ واسع في الوسط الثقافي والإعلامي والسياسي، لكنهم قد لا يمثلون الاتجاه العام ، وهو ما يجعل الصراع مع الحركة الإسلامية -وإن يَكُ له وجه ثقافي- صراعًا بين الإسلام والعلمانية، ولكنه ليس وجهه الأبرز، فوجهه الأبرز هو الصراع السياسي. وهذا الصنف تُمَثِّلُه غالبية دول المغرب العربي، من موريتانيا إلى ليبيا .
ب- الصنف الثاني: نموذج استئصالي يكاد ينفرد به النموذج التونسي، مُتَأَثِّرًا بمؤسسه الرئيس بورقيبة، الذي انتزع قيادةَ الحركة الوطنية، بجهدٍ منه، وبعونٍ من المحتل، استبعادًا لبدائل أسوأ، فأسّس الدولة وفق خلفيته الفرنسية المتطرفة في موقفها الديني، كما كان شَدِيدَ الإعجاب بنموذج أتاتورك، وأُضِيفَ كُلُّ ذلك إلى عُقَدِهِ الشخصية وتَشَيْطُنه.
ولئن كان هذا الصنف من النخبة له وجود مُتَنَفِّذٌ في الجزائر وفي المغرب وفي موريتانيا، لكنه لا يتمتع بنفس النفوذ، ولا له نفس التراث الذي له في تونس، باعتباره هنا المؤسس للدولة، فصبغها بصبغته، وشن منذ انتصابه حملةً واسِعَةً على الإسلام؛ مؤسساتٍ وعقائِدَ وشرائِعَ وشعائِرَ، ما أورث قطاعًا واسعًا من النخبة التونسية أصوليةً علمانِيَّةً متطرفة ، حملت رسالة تهميش الإسلام، أو إعادةَ صياغته وَفْقَ النموذج الغربي.
ـ برأيكم، هل الحركات والأحزاب الإسلامية اليومَ مُؤَهَّلَةٌ للقيادة السياسية في بلدانها ؟
* رغم أن الحركة الإسلامية في معظم بلاد العرب والمسلمين قد كسبت معركة الرأي العام كما أسلفتُ بالنسبة للمغرب العربي، بما يُؤَهِّلُها من هذا الجانب لِلْحُكْم، إلا أنّ الرأي العام- وإن كان العنصر الأهم لاكتساب الحق في السلطة في نظام ديمقراطي- فهو شَرْطٌ واجب غيرُ كافٍ كما يقال، إذ التحديات المطروحة، وخاصةً تحدي التجزئة، تقتضي مواجهتها بنجاح قيامِ حكوماتٍ ائتلافيةٍ، يتعاون فيها الجميع على هذه المواجهة، لا سيما وعالم النخبة تَشُقُّهُ تناقضاتٌ شديدةٌ، يقتضي التعامُلُ الناجِحُ معها الكثيرَ من الصَّبْرِ والتدرج والإيثار لا الاستئثار.
والنموذج السوداني ناطِقٌ بضرر التَّعَجُّل والانفراد والإقصاء. وما يعانيه النموذج الإيراني من حصارٍ دَوْلِيّ، ومكائد إقليمية، لا يُغْرِي حركةً إسلاميةً بالمسارعة إلى السلطة منفردةً، ولا الزهد فيها كذلك، وإنما السير إليها ضمن جبهات وائتلافات. والله أعلم.
ـ كيف تنظرون إلى تجاربِ بعضِ الأحزاب والحركات الإسلامية في عالمنا العربي والإسلامي، وانخراطها في العملية السياسية، وأقصد بذلك تجربة حركة حماس في فلسطين، وتجربة الحزب الإسلامي العراقي في العراق، وحزب العدالة في تركيا، وهل هي تجارب ناجحة برأيكم ؟
* أوضح هذه التجارب وأنجحها حزبُ العدالة والتنمية، من حيثُ قُدْرَتُهُ على الجمع بين الواقع والمثال، الواقع المتمثل في إكراهات الواقع العلماني، وإكراهات العسكر، وإكراهات الاندراج ضمن التحالف الأطلسي الأروبي الصهيوني.. وبين المثال الإسلامي، ليس عبر رفع شعارات الإسلام، ولكن عبر المواقف والإنجاز؛ على الصعيد الاقتصادي- وهو التحدي الإسلامي بل الدولي الأول اليوم- والإنجاز على صعيد خدمة الفقراء، وعلى صعيد إرضاء المستثمرين. وكذلك الموقف من قضايا الأمة الكبرى، مثل القضية الفلسطينية، والموقف الرافض لعبور الجيوش الأمريكية لغزو العراق.
إن العدالة والتنمية قد تَوَفَّقَ من خلال الإنجاز والموقف، أن يقوم بالتبشير بالمشروع الإسلامي والشهادة للإسلام، بما يفوق أبْلَغَ الخطباء، وأعظمَ العلماء.
أما حماس فهي قبل كل شيء حَرَكُة تَحَرُّرٍ وطني، في بلد تحت الاحتلال، ما كان واردًا فيه أصلًا الحديثُ عن صراعٍ على حكم؛ إذ الأصل أن يكون لنا وَطَنٌ، لنا فيه وعليه سيادةٌ لِنَحْكُمَه، وقد نتنازع على حكمه، بينما الذي حصل أنّ وَطَنًا مُحْتَلًّا قام أهله يدفعون عنهم المحتل، فلما اشتدتْ مقاومتهم حتى أرْهَقَتْه، وعَجِز عن إخماد مقاومتهم، لجأ إلى الحيلة والإغراء، فاستدرج الثائرين إلى دهاليز المفاوضات، ولا يزال بهم يضغط ويُغْرِي ويُمَنِّي ويَعِد، حتى نقلهم من ثُوَّارٍ إلى حُرَّاسٍ لِأَمْنِهِ!! يستمدون شرعيتهم من مدى قدرتهم على إجادة تلك الحراسة، وإحباطِ كُلِّ مَسْعًى مقاومٍ، فقام على تمويلِهِم وتسليحِهِم وتدريبِهِم للقيام على تلك المهمة، وفَعَلَوُها، بما فرض على فريق المقاومة الذي حَلَّ مَحَلَّ الفريق السابِقِ أنْ يَتَّجِه إلى مصادر النيران لإسكاتها، فاقتحم ساحَةَ الانتخاباتِ للحَوْلِ دون تلك السلطة الْمُسْتَعْمَلَةِ وما استُعْمِلَتْ له.
إن نجاح "سلطة" مثل هذه، إنما يقاس بمدى نهوض الوسيلة بالمقصد. وكل الضغوط الرهيبة التي سُلِّطَتْ على حماس، وعلى شعب فلسطين، للفصل بينهما، هدفتْ إلى الفصل بين المقاومة والسلطة، ومَنْعِ الأخيرة أن تكون في خدمة الأولى، عن طريق انتزاع السلطة من حماس.
إن ما حقَّقَتْهُ حماس خلال سنتين من صمودٍ أُسْطُورِيّ في وجه الحصار، والمحافظة على السلطة، وحق المقاومة في الآن ذاته، وفَّرَ للمقاومة لأول مرةٍ في تاريخها فُرْصَةً للتخطيط والتدريب، وتطوير وسائلها وهي آمنة من "السلطة"، من ظلم ذوي القربى!! إذِ السُّلْطَةُ والمقاومة في خدمة المقاومة، بل هي ذاتها.
إنّ ما سُمِّيَ الحَسْمَ، والمقصود به تَطْهِيرُ شِبْرٍ من أرض فلسطين غزة من حراس إسرائيل، وهذا الحسم هو الأب الحقيقي لصمود غزة الأسطوري، في وجه أعتى جيوش الأرض بَأْسًا وتَوَحُّشًا، وردَّهُ على أعقابه بعد أزْيَدَ من ثلاثة أسابيع من التدمير الرهيب، ولكنه فَشِلَ في أن يقتحم قلعة غزة.
حماس بهذا الاعتبار قد حقَّقَتْ، ليس مجرد نجاح، بل ما يشبه خوارق العادات؛ إذ صَمَدَتْ في كل المواجهات؛ مواجهة المساومة، والحصار، والاغتيال، والاختراق، والكيد، وأخيرًا الحرب الشاملة، وهي اليوم تَخُوضُ المعركة على الطاولة مع عتاولة السلطة، ومَنْ ورائِهم رومٌ، ومِنْ ورائهِمْ رومٌ- حَسَبَ تَعْبِيرِ الْمُتَنَبِّي- أعانهم الله بمددٍ منه وثبّتهم.
وإذا كان من نُصْحٍ لهم، فهو المزيد من التَّحَامُلِ على أنفسهم ومجاهدتِهَا؛ ليتصرفوا من مَوْقِع أُمِّ الولدِ حامِلِ المشروع الوطني، وليس مُمَثِّلًا لفصيل، فإذا جاز ذلك قبل غزة، فليس جائزًا بعدها.
أما عن السُّنَّة العرب فهم يتامى العراق. لقد تُرِكُوا لأنفسهم في معركةٍ يَخُوضُهَا أقطابٌ دولِيُّونَ وإقلِيمِيُّون كبار، ونُظِرَ إليهم على أنهم جزءٌ من زَمَنٍ وَلَّى، وعهد بائد، فكانوا يخوضون معركةَ بقاءٍ، وقد دارت عليهم الدوائر، فكان مفهومًا أنْ يضطَرِبَ موقفهم، يشاركون ثم يقاطعون، ثم يشاركون. إن دول الخليج ومصر يتحملون مسئوليةً عُظْمَى فيما آلت إليه أوضاع العراق، والسودان، والصومال، وفلسطين، وعموم أوضاع العرب.
ـ يرى بعض المحللين أن تواجُدَكُم في بلاد أجنبية حَصَرَ نشاط حركة النهضة، فما هو دوركم الآن كحركة معارضة للحكومة في تونس؟ وهل هناك بوادر لإصلاح وجهات النظر بينكم وبين الحكومة في تونس ؟
* ليست الهجرة في تاريخ الدعوات وحركات التحرر بأمرٍ غريبٍ أو شاذٍّ، فقد هاجر الأنبياء والرسل، وهاجر زعماء الحركات الوطنية، ولذلك اعترف القانون الدولي بحقوقٍ للمهاجرين السياسيين ضمن اتفاقيات معروفة.
وهِجْرَتِي وآلافٍ من أخواني هجرةٌ إجبارية، ولم تَخْلُ المهاجر منذ "الاستقلال"من مهاجرين، كما لم تَخْلُ السجون من ضيوف، وتداولت تيارات المعارضة على السجون كما تداولت على المهاجر!
ولقد جعل الله سبحانه لعباده الْمُهَدَّدِين بالاضطهاد في الهجرة مخرجًا. والحقيقة أني غادرت البلد الحبيب بعد فترتين من السجن، (خمس سنوات ونصفا) وذلك إِثْرَ انتخابات 1989، التي فازتْ فيها النهضة فوزًا عظيمًا، فما كان من السلطة المتحكمة منذ 1956إلا أن أقدمت كعادتها على التزييف الواسِع للنتائج
ورغم اعترافها للقوائم المستقلة، التي كانت وراءها النهضة، بما يقرب من 20%، بما يجعلها زعيمةَ المعارضة، إلا أنها قررتْ إقصاءَهَا واستئصالها جُمْلَةً؛ حتى تخلو لها الساحة، مكتفيةً بمعارضة صوريةٍ ..وعلى إثر ذلك خرجت من البلاد، تلبيةً لجمعية طلابية فلسطينية بألمانيا لألقي محاضرة في مؤتمرها، ولم تكن حملة السلطة على الحركة قد بدأتْ، ولأن الجوَّ خانِقٌ في البلاد، وكان الحصار مَضْرُوبًا عليّ، فقد استجبت للدعوات الكثيرة في أرجاء العالم، التي أخذتْ تُوَجَّهُ لإلقاء محاضرات، والمشاركة في مؤتمرات ، وخلال ذلك تصاعَدَ التوتُّرُ في البلاد، وبدأتْ حملات الاعتقال، فطلب إليّ الأخوة في الداخل الانتظارَ حتى تنْجَلِي الغمامة، إلا أن الأوضاع اتجهتْ إلى الأسوأ ضِمْنَ خطة استئصاليه شاملة تُشَنُّ على الحركة، فلم تَعُدْ عَوْدَتِي مُسْتَسَاغَة.
وهكذا طلبتُ اللجوءَ السياسِيَّ في بريطانيا منذ سنة1991، ولم يكن أمامي خِيَارٌ آخَرُ غير وضع نفسي طائعًا مختارًا تحت رحمة أعدائي، مما لم يأمر به دِينٌ ولا مصلحة.
ما المصلحة في أن أُضِيفَ سجيًنا إلى آلاف السجناء، فأخمد صوتي بنفسي، وهو ما يسعى في أثره الأعداء؟!
صحيح أني لست أزعم أني أُنْجِزُ في الْمَهْجَرِ شيئًا عظيمًا، ولكن ماذا عساي كنت سأُنْجِزُ في الداخل ضمن الأوضاع القائمة؛ حيث الخيار لأمثالي بين سجنٍ مُضَيَّقٍ، هو السجن المعروف الذي كان يضم عشرات الآلاف من إخواني في بداية المحنة، وهو يضم اليوم بضعة آلاف، منهم نفرٌ قليلٌ من جيل الصحوة الأولى، كالدكتور الصادق شورو، الرئيس السابق للحركة، الذي يقضي سنته التاسعة عشرة وراء القضبان! وآلاف من شباب الصحوة الجديدة!
والخيار الآخر كان سجنًا مُوَسَّعًا أو متحركًا، شأن الآلاف من إخواني الذين أَتَمُّوا محكوميتهم، لكنْ استقبلتهم البطالة، والمحاصرة الأمنية، ومَنْعُ السفر إلى خارج البلاد وحتى داخلها إلا بإذن!
فالحصار لا يزال مضروبًا على الحركة، رغم حضورها في الساحة بِمُنَاضِلِيهَا الأفذاذ، كما أن الحصار مضروبٌ على التَّدَيُّن، والْمَنْعَ مُسَلَّطٌ على الحجاب، وذلك رغم الاتجاه العارمِ لشعب تونس وشبابِه وشابَّاتِهِ صَوْبَ التدين.
ما المصلحة في إضافة سجين آخر إلى السجن المضيق أو المتحرك؟!
صحيح أنني لا أقوم بشيء عظيم من خارج البلاد، ولكن المسافة بين " الداخل" و"الخارج" قد تقاصرت في هذا الزمن.
إن مساحة الإعلام العربي في لندن، المتوجّه إلى العالم العربي، يربو عمّا هو في أكثرَ من أي عاصمةٍ عربية، فأنْ تُخَاطِبِي تونس من لندن هو أَيْسَرُ َبكثيرٍ من مخاطبتها من داخلها، ولذلك نرى المعارضين، وحتى جماعة السلطة، يَبْحَثُون عن فُرَصٍ في الخارج لمخاطبة الداخل. ولْأَضْرِب مثلا، فإن معاركنا مع السلطة كُلَّهَا انطلقت من المساجد، وهي تُصِرُّ على أن المسجد مُلْكٌ لها، تُسَخِّرُه لدعاياتها، ونحن كنا نُصِرُّ على أن الله ملَّكه للأمة، فلا يحتاج مُؤْمِنٌ للاستئذان من أحد ليأمر بمعروف، أو يَنْهَى عن منكر.
وانتهى الأمر إلى اعتقالي وإخواني مراتٍ، كُلُّها من المساجد، بينما أنا اليوم لا أحتاج لاستئذان أحد؛ لألقي درسًا أو موعظةً في أي مسجد هنا، بل أكثر من ذلك أستطيع أن أنقل ذلك الدرس إلى ملايين من الناس عبر الإنترنت والفضائيات.
وعلى كل حال أنا لا أزال مُجَرَّدَ لاجئ في هذا البلد، لم أَتَوَطَّن، في انتظار أولِ فُرْصَةِ انفراجٍ؛ لأعود إلى موقعي الطبيعي بين أهلي وإخواني.وعساه يكون قريبًا.
أما عن السلطة، فرغم نداءاتنا ونداءاتِ غَيْرِنَا الموجهةِ إليها، دعوةً إلى الانفتاح والتَّصَالُحِ مع شعبها، معنا ومع غيرنا، إلا أنها لم تُلْقِ لذلك بالًا، بل أَوْغَلَتْ فيما أدمنتْ عليه من تعامُلٍ أَمْنِيٍّ مع كل الملفات، بما فيها ملفات المعارضة، ما أَفْضَى بالبلاد إلى حالةِ جمودٍ وانسدادٍ وتصاعُدٍ للاحتقان، بدأتْ طلائعه تتفَجَّر أحداثَ عُنْفٍ وهِزَّاتٍ اجتماعيةً وإضراباتٍ، بما يُرَجِّحُ أن التطور في البلاد ليس مُتَّجِهًا إلى مصالحةٍ وانفراجٍ، بِقَدْرِ ما هو مُتَّجِهٌ أكثرَ صَوْبَ الانفجارات الاجتماعية والعنيفة.
وربما يكون ذلك جزءًَا من الوضع العربي العامِّ الذي تتضاءَلُ الآمال في تَطَوُّرِهِ إلى الديمقراطية، عَبْرَ الوفاق مع الأنظمة القائمة. والمرجح أكثر هو التطور عبر انتفاضات الشوارع، والإضرابات، والاعتصامات، تقودها جبهاتٌ وطَنِيَّةٌ، قد نفض مؤسسوها أيديَهُم، وغسلوها يَأْسًا من إصلاح أنظمةٍ تَحَوَّلَتْ إلى أجهزة قَمْعٍ في حراسة مافيات.
يُبْدِي المفكرُ الإسلامي راشد الغنوشي الأمين العام لحركة النهضة الإسلامية التونسية يقينًا تامًّا بانتصارِ الحركة الإسلامية بدول المغرب العربي في معركة الهوية الإسلامية، بمواجهة حركة التغريب التي استهدفت شعوب تلك المنطقة. ويَلْفِتُ الغنوشي إلى أن تونس شهدت أعنف فصول تلك المعركة، في ظِلِّ استخدام نظام بورقيبة كافَّةَ أجهزة الدولةِ لِفَرْضِ نموذج تغريب فاشِيّ، ومع ذلك أثبتت الهوية الإسلامية أنها أَعْمَقُ وأرسخ قَدَمًا من تلك المشاريع.
وفيما يتعَلَّقُ بقيادته لحركة النهضة من منفاه الاختياري في لندن، يعتبر الغنوشي أنّ الهجرة في تاريخ الدعوات وحركات التحرر ليست بأمر غريبٍ أو شاذٍّ، ولذا جعل الله سبحانه لعباده الْمُهَدَّدِين بالاضطهاد في الهجرة مَخْرَجًا.
كما قسم المفكر الإسلامي مواقفَ الحكومات المغاربية من الحركات الإسلامية لصنفين: صنف معتدل في موقفه من الإسلام والثقافة العربية، حتى وإن وُجِد في النظام استئصاليون، بخاصة في الجزائر والمغرب؛ حيث توجد نخبة فرانكفونية ذات نفوذ واسع. أما الصنف الثاني، فهو نموذج استئصالي يكاد ينفرد به النموذج التونسي، مُتَأَثِّرا بِمُؤَسِّسِه الرئيس بورقيبة، ولئن كان هذا الصنف من النخبة له وجودٌ متنفِّذٌ في الجزائر والمغرب وموريتانيا، لكنه لا يتمتع بنفس النفوذ، وليس له نفس التراث الذي له في تونس.
هذه التفاصيل وغيرها الكثير جاءت في ثنايا الحوار مع المفكر الإسلامي راشد الغنوشي، فإلى نص الحوار.
ـ في البدء يلفت نظرنا أن حركة النهضة الإسلامية في تونس انطلقت من منحى مقاومة العلمانية، ومحاولة إعادة إحياء لنهج الإسلام في تونس, لماذا بعد ذلك كانت هذه النقلة المغايرة إلى العمل السياسي؟! أم أن لهذه الانتقالية حتميةً تُقَرِّرُها ظروف الحال في البلاد العربية؟
* لئن اشتركت الحركات الإسلامية في مرجعية الإسلام كتابًا وسُنَّةً وإجماعًا، فهي تختلف في الصبغة العامة التي تصطبغ بها كُلُّ واحدةٍ منها باختلاف الملابسات التي حفت بظهورها، ففي بلد خاضع للاحتلال الأجنبي، كان الْمُرَجَّحُ أن تكون هموم التحرير هي الغالبةَ عليها، بينما في بلد يعاني من تأثيرات الغزو الثقافي، والعلمنة الطاغية على هُوُيَّةِ البلاد الإسلامية، فمن المنتظر أن يكون الهم الأعظم للحركة الإسلامية الدفاع عن مقومات الشخصية الإسلامية، ومواجهة ضروب العلمنة السائدة مواجهةً فكريةً عقديةً وتربويةً، وهو ما كان عليه الأمر في نهايات الستينيات من القرن العشرين المنصرم؛ حيث تَبَدَّى المشروع البورقيبي على حقيقته، وأثمرت بذوره محاصيلها بعد عَقْدٍ ونصفٍ من "الاستقلال"، تم فيها استخدامُ أجهزة الدولة الحديثة شديدةِ التمركز، وزَخَمِ معركة التحرير، والزعامة التاريخية الطاغية، الاستخدامَ الْمُفْرِطَ في تفكيك الإسلام؛ عقائدَ وشعائِرَ وقِيمًا ومؤسساتٍ وحضارةً، باعتبارها عوائِقَ في طريق الاستراتيجية العليا للدولة، التي يُلَخِّصُها شعار بورقيبة الأثير: "اللَّحَاق بركب الأمم المتحضرة".
لقد وُلِدَتِ الحركة الإسلامية كأحد أهم دفاعات المجتمع التونسي عن مقومات شخصيته، ووجوده، واستمراره، عَرَبِيًّا مُسْلِمًا، وامتدادًا للأمة العربية والإسلامية، وليس تابعًا صغيرًا لأمم الغرب. ولأن الطلب كان قويًّا على مقومات هذه الهوية، بسبب تفاقم الشعور بالخطر، فقد نشأت ونمتْ بسرعة ، فأعادتْ بِفَضْلِ الله الحياةَ للمساجد، وللمصاحفِ، وللشَّعَائِرِ، ولقِيَمِ الإسلام ، تُجَسِّرُ العلاقة بينها وبين عالم الحداثة في معاهد التعليم والجامعة والإدارة، وتمتد بها تِبَاعًا إلى كل مؤسسات المجتمع ومناشِطِه النَّقَابِيّة والثقافيّة والسياسيّة، انطلاقًا من منظور الإسلام التوحيدي الشامل، الذي يدعو المؤمنين به إلى أن يعبدوا الله الواحد الأحد بكل نفوسهم وفِكْرِهِم وجَوَارِحِهم، مُخْلِصِين له الدين في كل مسالكهم ومناشطهم، وإلا فهو الشرك.
ولذلك رغم أن الحركة نشأت حركةً دعويةً ثقافيةً، إلا أنها ما إن حققتْ قدرًا من النمو، حتى تنَبَّهَتْ دولة الاستبداد إليها، فاستدارت لها، ووجهتْ إليها مدافِعَهَا، ولا تزال تفعل ذلك معها ومع غيرها، ممن رفض أن يكون معارضة مدجنة .
ليس في مثل هذا النوع من الأنظمة خيارٌ ولا منزلةٌ وُسْطَى بين الأمرين: التَّدْجِين، أو المواجهة، ولكِ أن تقولي المقاومة بتعبير أخينا الدكتور المرزوقي ، وليس المعارضة؛ لأن هذه مكانها في نظام ديمقراطي يَعْتَرِفُ بالتعدد، وتداوُلِ السلطة عبر صناديق الاقتراع.
أما حيث يسودُ الاستبدادُ فلا مكان للحديث عن مُعَارَضَةٍ، وإنما عن مقاومةٍ لمواجهة احتلال داخلي، هو أَشَدُّ نكالًا من الاحتلال الخارجي، بل هو نائب عنه.
إن الحديث عن مصالحةٍ مع هذا النوع من الاحتلال هو أقرب -إذا كان الداعون إليهِ مخلصين جادِّين وليسوا مخادعين- إلى التَّمَنِّي والافتراض.
ـ شهدتْ حركتكم انفصال بعض الشخصيات القيادة، وانتهاجها نهجًا آخر، منهم زياد كريشان، وصلاح الدين الجورشي، واحميدة النيفر, فما السبب وراء هذا الانفصال؟ وهل هناك جهاتٌ لها ضِلَعٌ في هذا الانفصال؟
* ربما كان ذلك نتيجةً من نتائج مرحلة التَّأَقْلُم مع البيئة التونسية- في نهاية السبعينيات- التي كان قد أخذ يَمُرُّ بها فِكْرُ الحركة، الوافدُ في معظمه من البيئات الشرقية.، وهو لم تتوفر له الرؤية الواضحة، والأدوات الكفيلة باستيعابه داخِلَ نفس الحركة، فحصل افتراق قبل أن تتضح الرؤيا، فلم تتحرَّر مواطن الاختلاف إلا لَاحِقًا، وانصبّت على الموقف من الشريعة، ما هو مُلْزِمٌ لِزَمَاننا وما هو غير ملزم؟
وهي عند التحقيق مسائِلُ لا يَنْبَنِي عليها في الواقع الراهن عَمَلٌ، ذلك أنّ مطالب الحركة السياسية في تونس- وربما في معظم بلاد الإسلام- على اختلاف مرجعياتها الأيدولوجية - تكاد تتمحور حول الحريات السياسية، أي على الهيكل العام للدولة؛ إذْ يلتقي الجميع حول النضال من أجل دولةٍ مَدَنِيَّةٍ ديمقراطية، مهما اختلفَتْ مرجِعِيَّتُها، وذلك في مقابل دولة الاستبداد القائمةِ، بصرف النظر عن مرجعيتها علمانيةً كانتْ أم دينيةً، وبصرف النظر عن نوعية القوانين التي ستَرْتَضِيها المؤسسات الديمقراطية المنتخبةُ عند قيامها، إذ لا وَصَايَةَ لأحدٍ على الشعوب، ولا مَصْدَرَ للإلزام غير ما تلتزم به.
وفي المحصلة، فإن ذلك الاختلاف، وإن تَأَثَّرَ بمرحلة طفولة الحركة من حيث قلة النضج، فقد أسهم في كَسْرِ الجمود، والرأي الواحد، وفي تأهيل الحركة للتفاعل مع بيئتها، وتجاوُزِ مرحلة التتلمُذِ، والتقليد الأعمى للبضاعة المشرقية الوافدة، بما هَيَّأَ لإنتاج ما يُمْكِن أن يُنْعَتَ بخصوصيات تونسية ضِمْنَ المدرسة الإسلامية الوَسَطِيَّة. فليس فيما حدث ما يُمْكِنُ أن يُشْتَمَّ منه رائحةٌ لتآمُرٍ ومكايدة.
ـ رغم التطور الحاصل في العالم إزاء الحريات الشخصية، لا زالت تونس تخضع للقانون الصادر عام 1981، والذي يحظر على المرأة التونسية ارتداء الحجاب في الجامعات، والمدارس، والدوائر الحكومية، بل يَحْظُرُ على التونسية أنْ تضع صورتها وهي مُحَجَّبَةٌ في وثيقة رسمية, هل من أمل في تغيير هذا القانون، أو التخفيف منه بعض الشيء؟
* مسألة حظر الخمار؛ أي غطاء الرأس على المرأة التونسية، فضيحة بجلاجل -كما يقال-، لنظامٍ يتبجح بتجربة تحديثٍ رائدة. فضيحة تكشف عن الطبيعة الجوهرية العميقة لشخصية بورقيبة، ولمدرسته، ودولته :الاستبداد، والغرور، والاحتقار للشعب، والنُّزُوع العارم للتحكم، والاستخدام الْمُنْفَلِت لأدوات الدولة، وللظهير الخارجي في فَرْضِ نموذج التغرب الفاشي، وليس التَغَرُّب الليبرالي الديمقراطي.
ولا عجب؛ فبورقيبة ينتمي لجيلٍ كان شديدَ التَّأَثُّر بالنماذج الفاشية والاشتراكية، التي كانت شديدةَ الإيمان بالقدرات التنموية الخارقة للدولة عبر الحزب الواحد، والزعيم الملهم، باعتبارها الطريقَ الأسرع للتحديث، بمعنى محاكاة النموذج الغربي، وبالخصوص في علاقته بالدين، ونموذَجُهُ الثورة الفرنسية .
والأمر كما يذكر ابن خلدون؛ أن المغلوب يميل إلى تقليد غالبه، في زِيِّهِ ونِحْلَتِهِ فيما يظن أنه سببُ قُوَّتِه؛ فهو تقليدٌ شكْلِيٌّ للغالِبِ، ومنه تَحَلُّلُهُ من الدين، فكانت هجمة دولة الاستقلال في عهد مُؤَسِّسِها، كعهد خلفائه على الإسلام، دينًا وحضارةً ومؤسساتٍ، ومن ذلك استهداف الحجاب باعتباره تَحَدِّيًا شكليًّا صارخًا لتحديثهم الشكلي مناطِ اعتزازهم، وكأنّ المرأةَ الماليزيةَ الحريصةَ جِدًّا على الحجاب أَقَلُّ حداثةً من التونسية، بينما لا وَجْهَ للمقارنة بين أصالة ونجاح الأولى، بالقياس إلى الأخرى، في حين أنهما انطلقتا في نفس الفترة.
ومن قِصَرِ نَظَرِ وغرور القائمين على هذا المشروع الأوتوقراطي، رِهَانُهُم على استبدال هُوُيَّةِ شعب تونس الإسلامية العربية، بِهُوُيَّةِ هَجِينة، لا هي غَرْبِيَّة بحق، ولا هي مَحَلِّيّة، وكأن الهُوُيَّاتِ عُلَبٌ يتم تصنيعها، مع أنّ كل التجارب الحديثة تشهد أنّ هُوُيَّاتِ الشعوب أَعْمَقُ وأرْسَخُ من أن تقتلعها الدول مهما عَتَتْ.
وعَوْدَةُ الشباب أفواجًا إلى بيوت الله بعد حرب ضروس على ظواهر التدين، وكذا العودةُ الكثيفة إلى الحجاب، رغم المقاومة الشرسة من أجهزة الحكم، شاهِدَةٌ على إفلاس مشروعهم للتحديث الفَجِّ، وعلى أصالة الإسلام، وعُمْقِ كسب الحركة الإسلامية، وأنهم مهما استمروا في العناد والغرور والاستبداد، فسيهزمهم الإسلام، وسَيَهْزِمُهُم الحجاب، فلم الإمعانُ في الطريق المسدود؟
ـ كيف تُقَيِّمُون تجربة الحركات والأحزاب الإسلامية في المغرب العربي، وبالتحديد في بلدكم تونس، وكيف تُقَيِّمُون تجربتكم في حركة النهضة الإسلامية، خاصةً بعد مرور أكثرَ من ثلاثين سنةً على انطلاقها؟
* ليس من اليسير في هذا الحيزِ المحدودِ تقييمُ مسيرةِ حوالي أربعة عقودٍ من الكدح الإسلامي في المنطقة المغارِبِيَّة عامةً، وفي تونس خاصة. وبنوعٍ من الإجمال والتَّجَوُّز يمكن أن نُسَجِّلَ بيقينٍ انتصارَ معركة الهُوُيَّةِ الإسلامية العربية في جملةِ هذه الأقطار الثغورِ، المحاطةِ بأمم غربية كبرى ذاتِ أطماع في هذه المنطقة، وحاولتْ أكثرَ من مرة استلحَاقَهَا وابتلاعها.
وقد نجحتْ حركة التغريبِ أو العلمنة في تهميش الإسلام وحضارته وحَصْرِهِ في العالم القديم، بينما قطع العالم الحديث، من مدارس وجامعات ومنتديات وإدارة ومال، شَوْطًا بعيدًا من "التفرنس"، واستكْمَلَ عهدُ الاستقلال في كُلٍّ من المغرب وتونس "فَرْنَسَتَها"، حتى كان الخطاب الطلابي في الجامعات خلال الستينيات، وشطرًا من السبعينيات، يُقَدَّمُ باللغة الفرنسية، إلا أنه منذ نهاية السبعينيات، وبدخول الاتجاه الإسلامي القوي، نجح في فرض العربِيَّةِ لغةً للخطاب الطلابي، وتمكَّنَتِ الحركة الإسلامية من إعادة الإسلام إلى قلب الحداثة؛ ليكون الموقف منه هو موضوعَ الحوار الرئيسِ، بينما ظل الحوار حتى نهايةِ السبعينيات دائرًا داخل المعسكر العلماني بين يساريين وليبراليين، ثم تَمَخَّض صراعٌ داخل المعسكر اليساري.
ومنذ الثمانينات عاد الإسلام بقوة، واستمرت عودته تتأكد في قَلْبِ ساحات الحداثة ومعارِكِهَا: الحداثة السياسية، والاجتماعية، والثقافية.
لقد استُهْدِفَ الإسلام بدرجات مختلفة في هذه المنطقة، وبلغ الاستهداف حَدَّ الاستئصال، ولكننا نقول بكل يقينٍ اليَوْمَ أنّ الإسلام قد كسب معركة الهوية، حتى عاد نظامٌ علمانِيٌّ شَرِسٌ -كالذي يحكم تونس- ينافس على الشَّرْعِيَّةِ الدينيةِ، ساعيًا للحصول على أسهم من الرصيد الإسلامي عبر فتح قنوات إعلامية إسلامية.
ومع ذلك لا تزال المعركة الثقافية محتدمةً بين دعاة التعريب، وحماة التفرنس، على امتداد المنطقة المغاربية عدا ليبيا. لا تكاد تُحْرِزُ تَقَدُّمًا خطوةً، حتى يتِمَّ التراجع عنها.
وبعد نصف قرن من الاستقلال لا تزال الفرنسية سيدةَ الموقف، حتى في التعليم الابتدائي، بل تم التراجع عن برنامج التعريب في الجزائر بعد الانقلاب على الجبهة الإسلامية 1992، ولم تنجح مشاركة إسلاميين آخرين في التشريعي والتنفيذي في المحافظة حتى على ما كان قد تَحَقَّقَ. ولعلهم يحتجون بأن التراجع في غياب مشاركتهم سيكون أفدح، ربما.
وفي المستوى السياسي، وهو الحاكم على ما دونه، ظلت المعركة محتدمةً بين التيار الإسلامي، وتيارات التغريب والدكتاتورية، وتأخذ أشكالًا مختلفةً، أشدُّهَا ما يحدث في تونس؛ حيث طبقت سياسةً استئصاليةً على التيار الإسلامي، وسياسة تجفيف الينابيع على كل ما يمت للإسلام، حتى تحولت الصلاة لسنوات طويلة إلى علامة تصنيف سياسي، وحُظِرَ الحجاب، ولا يزال، وصُودِرَتِ الكتابات الإسلامية حتى التراثية، وذلك بعد الانقلاب على نتائج انتخابات 1989، التي فازت فيها حركة النهضة بأغلبية الأصوات، فتقرر تزييف النتائج، ومعاقبة الفائزين بالاستئصال.
ولا يزال الوضع التونسي محكومًا بنتائج تلك الانتخابات التي رَجَّتِ النظام بقوة، وهو يتَلَمَّس خطاه نحو إحكام قبضته على البلاد، فلم يهضم تلك الطفرة، وأقدم وهو في حالة ذهول على شَطْبِ النتائج، والتضحية بشعارات التغيير التي يحملها، وقرّر تصفية هذا الخصم الْمُتَعَذَّرِ استيعابُهُ ضمن الأوعية الضيقة المعدّة.
وظلت تلك الصدمة تُمَثِّل كابوسًا مُتَحَكِّمًا في جملة سياسات السلطة؛ لتتحولَ عداوَتُهَا للتيار الإسلامي إلى عقيدة أساسية للدولة. وجاءت الأحداث الخارجية لِتُرَسِّخَ أقدامها على هذا الطريق، بدءًا بالانقلاب على الجبهة الإسلامية في الجزائر، وصولًا إلى 11سبتمبر، مرورًا بكل أحداث الإرهاب.
أما الجزائر، فهي الأخرى لا تزال محكومةً بكوابيس انتخابات 1992، التي انقلب عليها العسكر، زاجِّين البلاد في أتُّونٍ من الفتن، في مناخات اجتماعية تمور بالغضب، تتحرك على أرضية ثقافية مُشَبَّعَةٍ بثقافة ثورية متجذرة، طالما احتضنتها الجغرافيا الجبليَّةُ الشامخة، وأمدّتها بالحماية.
لقد مَرَّ أَزْيَدُ من عَقْدٍ ونِصْفٍ على ذلك الانقلاب المشئوم، تعرَّضَتْ فيها الجزائر إلى كوارِثَ عُظْمَى، بذريعة حِمَايَتِها من الخطر الإسلامي، ولا يزال الكابوس المتحكِّمُ في عسكرها المنقلبِ على إرادة الشعب وفي ملحقاته المدنية، هو الهروب من العودة إلى شبح الجبهة.
أما المغرب، فإن الرياح الانقلابية التونسية الجزائرية على الإسلاميين وعلى الديمقراطية لم تَهُزّه، ولم تَسْتَخِفَّه ، وذلك راجعٌ بعد توفيق الله إلى ما تتمتع به الدولة هناك من شرعية تاريخية ودينية مستقرة، فقد استوت العلاقة بين الملك والشعب على قدرٍ كبيرٍ من الاعتراف المتبادل، بما أمكن معه إرساء نظام سياسي يتمتَّعُ بِقَدْرٍ من الديمقراطية، تستوعِبُ معظم المكونات السياسية بمختلف اتجاهاتها، بما فيها المكونات الإسلامية، عدا جماعة العدل والإحسان، وفصيل البديل الحضاري، ومجموعات يسارية راديكالية، وأخرى سلفية جهادية؛ حيث يتم مع غير العنيف منها مثل العدل والإحسان تعايُشٌ قَلِقٌ، ولكِ أن تقولي "علاقة حذرة"، تشبه علاقة إخوان مصر بالسلطة، إلا أنّ سيف الدولة مسلولٌ على الجماعات السلفية المنتهجةِ سبيلَ العنف.
ويحتل هنا حزب العدالة والتنمية موقعًا وسَطًا أحَلَّهُ في الصف الأول من الأحزاب المتنافسة على الحكم، وذلك بعد رحلة طويلة من الراديكالية إلى الوسطية. ويبقى المشكل الاجتماعي مشكلَ التفاوت بين طبقة الحكم المحظوظة، المحتكرة للسلطة والثروة، بما فاقم أوضاع الفساد والفقر والبطالة والغضب الشعبي.
ويبقى الوضع في ليبيا ذا خصوصيات ، فبعد سنوات من المواجهة بين مجموعات تنتمي للتيار الإسلامي، بعضها إخواني، وبعضها تنتمي للتيارات الجهادية، بادرت مؤسسة القذافي التي يشرف عليها نجله سيف الإسلام بفتح حوار معهم، بدأ مع المجموعة الإخوانية في السجون وخارجها، انتهى إلى الإفراج عنهم، وإعادتهم إلى وظائفهم، وصرف مرتباتهم خلال سجنهم، وعودة الكثير من مهاجريهم؛ حيث الحوار جار معهم حول صيغة مناسبة لنشاطهم .
ولم يتوقف الحوار عند هؤلاء، بل تعداه إلى "مساجين الجماعة الإسلامية المسلحة"، ولا يزال جاريًا في اتجاه تسويةٍ تُنْهِي العمل العنيف، وتُحَرِّرُ بقية المساجين ليبحثوا، مثل غيرهم من المواطنين، عن السبل المتاحة للمشاركة في مشروع إصلاحي تقوده مؤسسة القذافي، في اتجاه إرساء وَضْعٍ دستوري عادي؛ حيث تَسْهَرُ مجموعةٌ من الخبراء، منهم بعض رجال الحركة الإسلامية، مثل الشيخ علي الصلابي، على إعدادِ وثيقةٍ دستوريةٍ لليبيا الغد . ولا يزال المشروع يتراوح بين قوى الدفع وقوى الجَذْبِ.
يتضح من المشهد العام للمنطقة من زاوية الوضع الإسلامي ما يلي:
أنه يمكن من الزاوية الثقافية تصنيف دول المنطقة إلى صنفين:
أ- صنف معتدل في موقفه من الإسلام والثقافة العربية، حتى وإن وُجِدَ في النظام استئصاليون، وبخاصة في الجزائر وفي المغرب؛ حيث توجد نخبة فرانكفونية ذات نفوذ واسع في الوسط الثقافي والإعلامي والسياسي، لكنهم قد لا يمثلون الاتجاه العام ، وهو ما يجعل الصراع مع الحركة الإسلامية -وإن يَكُ له وجه ثقافي- صراعًا بين الإسلام والعلمانية، ولكنه ليس وجهه الأبرز، فوجهه الأبرز هو الصراع السياسي. وهذا الصنف تُمَثِّلُه غالبية دول المغرب العربي، من موريتانيا إلى ليبيا .
ب- الصنف الثاني: نموذج استئصالي يكاد ينفرد به النموذج التونسي، مُتَأَثِّرًا بمؤسسه الرئيس بورقيبة، الذي انتزع قيادةَ الحركة الوطنية، بجهدٍ منه، وبعونٍ من المحتل، استبعادًا لبدائل أسوأ، فأسّس الدولة وفق خلفيته الفرنسية المتطرفة في موقفها الديني، كما كان شَدِيدَ الإعجاب بنموذج أتاتورك، وأُضِيفَ كُلُّ ذلك إلى عُقَدِهِ الشخصية وتَشَيْطُنه.
ولئن كان هذا الصنف من النخبة له وجود مُتَنَفِّذٌ في الجزائر وفي المغرب وفي موريتانيا، لكنه لا يتمتع بنفس النفوذ، ولا له نفس التراث الذي له في تونس، باعتباره هنا المؤسس للدولة، فصبغها بصبغته، وشن منذ انتصابه حملةً واسِعَةً على الإسلام؛ مؤسساتٍ وعقائِدَ وشرائِعَ وشعائِرَ، ما أورث قطاعًا واسعًا من النخبة التونسية أصوليةً علمانِيَّةً متطرفة ، حملت رسالة تهميش الإسلام، أو إعادةَ صياغته وَفْقَ النموذج الغربي.
ـ برأيكم، هل الحركات والأحزاب الإسلامية اليومَ مُؤَهَّلَةٌ للقيادة السياسية في بلدانها ؟
* رغم أن الحركة الإسلامية في معظم بلاد العرب والمسلمين قد كسبت معركة الرأي العام كما أسلفتُ بالنسبة للمغرب العربي، بما يُؤَهِّلُها من هذا الجانب لِلْحُكْم، إلا أنّ الرأي العام- وإن كان العنصر الأهم لاكتساب الحق في السلطة في نظام ديمقراطي- فهو شَرْطٌ واجب غيرُ كافٍ كما يقال، إذ التحديات المطروحة، وخاصةً تحدي التجزئة، تقتضي مواجهتها بنجاح قيامِ حكوماتٍ ائتلافيةٍ، يتعاون فيها الجميع على هذه المواجهة، لا سيما وعالم النخبة تَشُقُّهُ تناقضاتٌ شديدةٌ، يقتضي التعامُلُ الناجِحُ معها الكثيرَ من الصَّبْرِ والتدرج والإيثار لا الاستئثار.
والنموذج السوداني ناطِقٌ بضرر التَّعَجُّل والانفراد والإقصاء. وما يعانيه النموذج الإيراني من حصارٍ دَوْلِيّ، ومكائد إقليمية، لا يُغْرِي حركةً إسلاميةً بالمسارعة إلى السلطة منفردةً، ولا الزهد فيها كذلك، وإنما السير إليها ضمن جبهات وائتلافات. والله أعلم.
ـ كيف تنظرون إلى تجاربِ بعضِ الأحزاب والحركات الإسلامية في عالمنا العربي والإسلامي، وانخراطها في العملية السياسية، وأقصد بذلك تجربة حركة حماس في فلسطين، وتجربة الحزب الإسلامي العراقي في العراق، وحزب العدالة في تركيا، وهل هي تجارب ناجحة برأيكم ؟
* أوضح هذه التجارب وأنجحها حزبُ العدالة والتنمية، من حيثُ قُدْرَتُهُ على الجمع بين الواقع والمثال، الواقع المتمثل في إكراهات الواقع العلماني، وإكراهات العسكر، وإكراهات الاندراج ضمن التحالف الأطلسي الأروبي الصهيوني.. وبين المثال الإسلامي، ليس عبر رفع شعارات الإسلام، ولكن عبر المواقف والإنجاز؛ على الصعيد الاقتصادي- وهو التحدي الإسلامي بل الدولي الأول اليوم- والإنجاز على صعيد خدمة الفقراء، وعلى صعيد إرضاء المستثمرين. وكذلك الموقف من قضايا الأمة الكبرى، مثل القضية الفلسطينية، والموقف الرافض لعبور الجيوش الأمريكية لغزو العراق.
إن العدالة والتنمية قد تَوَفَّقَ من خلال الإنجاز والموقف، أن يقوم بالتبشير بالمشروع الإسلامي والشهادة للإسلام، بما يفوق أبْلَغَ الخطباء، وأعظمَ العلماء.
أما حماس فهي قبل كل شيء حَرَكُة تَحَرُّرٍ وطني، في بلد تحت الاحتلال، ما كان واردًا فيه أصلًا الحديثُ عن صراعٍ على حكم؛ إذ الأصل أن يكون لنا وَطَنٌ، لنا فيه وعليه سيادةٌ لِنَحْكُمَه، وقد نتنازع على حكمه، بينما الذي حصل أنّ وَطَنًا مُحْتَلًّا قام أهله يدفعون عنهم المحتل، فلما اشتدتْ مقاومتهم حتى أرْهَقَتْه، وعَجِز عن إخماد مقاومتهم، لجأ إلى الحيلة والإغراء، فاستدرج الثائرين إلى دهاليز المفاوضات، ولا يزال بهم يضغط ويُغْرِي ويُمَنِّي ويَعِد، حتى نقلهم من ثُوَّارٍ إلى حُرَّاسٍ لِأَمْنِهِ!! يستمدون شرعيتهم من مدى قدرتهم على إجادة تلك الحراسة، وإحباطِ كُلِّ مَسْعًى مقاومٍ، فقام على تمويلِهِم وتسليحِهِم وتدريبِهِم للقيام على تلك المهمة، وفَعَلَوُها، بما فرض على فريق المقاومة الذي حَلَّ مَحَلَّ الفريق السابِقِ أنْ يَتَّجِه إلى مصادر النيران لإسكاتها، فاقتحم ساحَةَ الانتخاباتِ للحَوْلِ دون تلك السلطة الْمُسْتَعْمَلَةِ وما استُعْمِلَتْ له.
إن نجاح "سلطة" مثل هذه، إنما يقاس بمدى نهوض الوسيلة بالمقصد. وكل الضغوط الرهيبة التي سُلِّطَتْ على حماس، وعلى شعب فلسطين، للفصل بينهما، هدفتْ إلى الفصل بين المقاومة والسلطة، ومَنْعِ الأخيرة أن تكون في خدمة الأولى، عن طريق انتزاع السلطة من حماس.
إن ما حقَّقَتْهُ حماس خلال سنتين من صمودٍ أُسْطُورِيّ في وجه الحصار، والمحافظة على السلطة، وحق المقاومة في الآن ذاته، وفَّرَ للمقاومة لأول مرةٍ في تاريخها فُرْصَةً للتخطيط والتدريب، وتطوير وسائلها وهي آمنة من "السلطة"، من ظلم ذوي القربى!! إذِ السُّلْطَةُ والمقاومة في خدمة المقاومة، بل هي ذاتها.
إنّ ما سُمِّيَ الحَسْمَ، والمقصود به تَطْهِيرُ شِبْرٍ من أرض فلسطين غزة من حراس إسرائيل، وهذا الحسم هو الأب الحقيقي لصمود غزة الأسطوري، في وجه أعتى جيوش الأرض بَأْسًا وتَوَحُّشًا، وردَّهُ على أعقابه بعد أزْيَدَ من ثلاثة أسابيع من التدمير الرهيب، ولكنه فَشِلَ في أن يقتحم قلعة غزة.
حماس بهذا الاعتبار قد حقَّقَتْ، ليس مجرد نجاح، بل ما يشبه خوارق العادات؛ إذ صَمَدَتْ في كل المواجهات؛ مواجهة المساومة، والحصار، والاغتيال، والاختراق، والكيد، وأخيرًا الحرب الشاملة، وهي اليوم تَخُوضُ المعركة على الطاولة مع عتاولة السلطة، ومَنْ ورائِهم رومٌ، ومِنْ ورائهِمْ رومٌ- حَسَبَ تَعْبِيرِ الْمُتَنَبِّي- أعانهم الله بمددٍ منه وثبّتهم.
وإذا كان من نُصْحٍ لهم، فهو المزيد من التَّحَامُلِ على أنفسهم ومجاهدتِهَا؛ ليتصرفوا من مَوْقِع أُمِّ الولدِ حامِلِ المشروع الوطني، وليس مُمَثِّلًا لفصيل، فإذا جاز ذلك قبل غزة، فليس جائزًا بعدها.
أما عن السُّنَّة العرب فهم يتامى العراق. لقد تُرِكُوا لأنفسهم في معركةٍ يَخُوضُهَا أقطابٌ دولِيُّونَ وإقلِيمِيُّون كبار، ونُظِرَ إليهم على أنهم جزءٌ من زَمَنٍ وَلَّى، وعهد بائد، فكانوا يخوضون معركةَ بقاءٍ، وقد دارت عليهم الدوائر، فكان مفهومًا أنْ يضطَرِبَ موقفهم، يشاركون ثم يقاطعون، ثم يشاركون. إن دول الخليج ومصر يتحملون مسئوليةً عُظْمَى فيما آلت إليه أوضاع العراق، والسودان، والصومال، وفلسطين، وعموم أوضاع العرب.
ـ يرى بعض المحللين أن تواجُدَكُم في بلاد أجنبية حَصَرَ نشاط حركة النهضة، فما هو دوركم الآن كحركة معارضة للحكومة في تونس؟ وهل هناك بوادر لإصلاح وجهات النظر بينكم وبين الحكومة في تونس ؟
* ليست الهجرة في تاريخ الدعوات وحركات التحرر بأمرٍ غريبٍ أو شاذٍّ، فقد هاجر الأنبياء والرسل، وهاجر زعماء الحركات الوطنية، ولذلك اعترف القانون الدولي بحقوقٍ للمهاجرين السياسيين ضمن اتفاقيات معروفة.
وهِجْرَتِي وآلافٍ من أخواني هجرةٌ إجبارية، ولم تَخْلُ المهاجر منذ "الاستقلال"من مهاجرين، كما لم تَخْلُ السجون من ضيوف، وتداولت تيارات المعارضة على السجون كما تداولت على المهاجر!
ولقد جعل الله سبحانه لعباده الْمُهَدَّدِين بالاضطهاد في الهجرة مخرجًا. والحقيقة أني غادرت البلد الحبيب بعد فترتين من السجن، (خمس سنوات ونصفا) وذلك إِثْرَ انتخابات 1989، التي فازتْ فيها النهضة فوزًا عظيمًا، فما كان من السلطة المتحكمة منذ 1956إلا أن أقدمت كعادتها على التزييف الواسِع للنتائج
ورغم اعترافها للقوائم المستقلة، التي كانت وراءها النهضة، بما يقرب من 20%، بما يجعلها زعيمةَ المعارضة، إلا أنها قررتْ إقصاءَهَا واستئصالها جُمْلَةً؛ حتى تخلو لها الساحة، مكتفيةً بمعارضة صوريةٍ ..وعلى إثر ذلك خرجت من البلاد، تلبيةً لجمعية طلابية فلسطينية بألمانيا لألقي محاضرة في مؤتمرها، ولم تكن حملة السلطة على الحركة قد بدأتْ، ولأن الجوَّ خانِقٌ في البلاد، وكان الحصار مَضْرُوبًا عليّ، فقد استجبت للدعوات الكثيرة في أرجاء العالم، التي أخذتْ تُوَجَّهُ لإلقاء محاضرات، والمشاركة في مؤتمرات ، وخلال ذلك تصاعَدَ التوتُّرُ في البلاد، وبدأتْ حملات الاعتقال، فطلب إليّ الأخوة في الداخل الانتظارَ حتى تنْجَلِي الغمامة، إلا أن الأوضاع اتجهتْ إلى الأسوأ ضِمْنَ خطة استئصاليه شاملة تُشَنُّ على الحركة، فلم تَعُدْ عَوْدَتِي مُسْتَسَاغَة.
وهكذا طلبتُ اللجوءَ السياسِيَّ في بريطانيا منذ سنة1991، ولم يكن أمامي خِيَارٌ آخَرُ غير وضع نفسي طائعًا مختارًا تحت رحمة أعدائي، مما لم يأمر به دِينٌ ولا مصلحة.
ما المصلحة في أن أُضِيفَ سجيًنا إلى آلاف السجناء، فأخمد صوتي بنفسي، وهو ما يسعى في أثره الأعداء؟!
صحيح أني لست أزعم أني أُنْجِزُ في الْمَهْجَرِ شيئًا عظيمًا، ولكن ماذا عساي كنت سأُنْجِزُ في الداخل ضمن الأوضاع القائمة؛ حيث الخيار لأمثالي بين سجنٍ مُضَيَّقٍ، هو السجن المعروف الذي كان يضم عشرات الآلاف من إخواني في بداية المحنة، وهو يضم اليوم بضعة آلاف، منهم نفرٌ قليلٌ من جيل الصحوة الأولى، كالدكتور الصادق شورو، الرئيس السابق للحركة، الذي يقضي سنته التاسعة عشرة وراء القضبان! وآلاف من شباب الصحوة الجديدة!
والخيار الآخر كان سجنًا مُوَسَّعًا أو متحركًا، شأن الآلاف من إخواني الذين أَتَمُّوا محكوميتهم، لكنْ استقبلتهم البطالة، والمحاصرة الأمنية، ومَنْعُ السفر إلى خارج البلاد وحتى داخلها إلا بإذن!
فالحصار لا يزال مضروبًا على الحركة، رغم حضورها في الساحة بِمُنَاضِلِيهَا الأفذاذ، كما أن الحصار مضروبٌ على التَّدَيُّن، والْمَنْعَ مُسَلَّطٌ على الحجاب، وذلك رغم الاتجاه العارمِ لشعب تونس وشبابِه وشابَّاتِهِ صَوْبَ التدين.
ما المصلحة في إضافة سجين آخر إلى السجن المضيق أو المتحرك؟!
صحيح أنني لا أقوم بشيء عظيم من خارج البلاد، ولكن المسافة بين " الداخل" و"الخارج" قد تقاصرت في هذا الزمن.
إن مساحة الإعلام العربي في لندن، المتوجّه إلى العالم العربي، يربو عمّا هو في أكثرَ من أي عاصمةٍ عربية، فأنْ تُخَاطِبِي تونس من لندن هو أَيْسَرُ َبكثيرٍ من مخاطبتها من داخلها، ولذلك نرى المعارضين، وحتى جماعة السلطة، يَبْحَثُون عن فُرَصٍ في الخارج لمخاطبة الداخل. ولْأَضْرِب مثلا، فإن معاركنا مع السلطة كُلَّهَا انطلقت من المساجد، وهي تُصِرُّ على أن المسجد مُلْكٌ لها، تُسَخِّرُه لدعاياتها، ونحن كنا نُصِرُّ على أن الله ملَّكه للأمة، فلا يحتاج مُؤْمِنٌ للاستئذان من أحد ليأمر بمعروف، أو يَنْهَى عن منكر.
وانتهى الأمر إلى اعتقالي وإخواني مراتٍ، كُلُّها من المساجد، بينما أنا اليوم لا أحتاج لاستئذان أحد؛ لألقي درسًا أو موعظةً في أي مسجد هنا، بل أكثر من ذلك أستطيع أن أنقل ذلك الدرس إلى ملايين من الناس عبر الإنترنت والفضائيات.
وعلى كل حال أنا لا أزال مُجَرَّدَ لاجئ في هذا البلد، لم أَتَوَطَّن، في انتظار أولِ فُرْصَةِ انفراجٍ؛ لأعود إلى موقعي الطبيعي بين أهلي وإخواني.وعساه يكون قريبًا.
أما عن السلطة، فرغم نداءاتنا ونداءاتِ غَيْرِنَا الموجهةِ إليها، دعوةً إلى الانفتاح والتَّصَالُحِ مع شعبها، معنا ومع غيرنا، إلا أنها لم تُلْقِ لذلك بالًا، بل أَوْغَلَتْ فيما أدمنتْ عليه من تعامُلٍ أَمْنِيٍّ مع كل الملفات، بما فيها ملفات المعارضة، ما أَفْضَى بالبلاد إلى حالةِ جمودٍ وانسدادٍ وتصاعُدٍ للاحتقان، بدأتْ طلائعه تتفَجَّر أحداثَ عُنْفٍ وهِزَّاتٍ اجتماعيةً وإضراباتٍ، بما يُرَجِّحُ أن التطور في البلاد ليس مُتَّجِهًا إلى مصالحةٍ وانفراجٍ، بِقَدْرِ ما هو مُتَّجِهٌ أكثرَ صَوْبَ الانفجارات الاجتماعية والعنيفة.
وربما يكون ذلك جزءًَا من الوضع العربي العامِّ الذي تتضاءَلُ الآمال في تَطَوُّرِهِ إلى الديمقراطية، عَبْرَ الوفاق مع الأنظمة القائمة. والمرجح أكثر هو التطور عبر انتفاضات الشوارع، والإضرابات، والاعتصامات، تقودها جبهاتٌ وطَنِيَّةٌ، قد نفض مؤسسوها أيديَهُم، وغسلوها يَأْسًا من إصلاح أنظمةٍ تَحَوَّلَتْ إلى أجهزة قَمْعٍ في حراسة مافيات.