الصفحات

الأربعاء، 14 أكتوبر 2009

هل تُعيد إدارة أوباما النظر في "مبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط"؟

كتب رشيد خشانة – تونس : بتاريخ 10 - 10 - 2009
طوى مكتب "مبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط" في تونس أخيرا، الأعوام الخمسة الأولى من وجوده. وعكس إنشاء المكتب، الذي تشمل دائرة نشاطه ثمانِ دول، بينها إسرائيل والسلطة الفلسطينية، رغبة الإدارة الأمريكية السابقة بنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط.
وأنشأت إدارة الرئيس السابق جورج بوش في السنة نفسها مكتبا إقليميا مماثلا في أبو ظبي ليغطي منطقة الخليج والأردن واليمن وتُخصّص لكل مكتب موازنة سنوية تعادل مليوني دولار، لتمويل المشاريع المحلية.
ويتساءل المراقبون المتابعون للسياسة الخارجية الأمريكية، عمّـا إذا كان الرئيس أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون سيحافظان على هذا الاتجاه وربما يُعززانه، أم أنهما سيُلغيانه ويُلقيان به في صندوق أرشيف الإدارة السابقة؟
ما هي مبادرة "ميبي"؟ هي عملية سياسية تستهدف إقامة جسور مباشرة مع المنظمات الأهلية أو ما اصطُلح على تسميته بـ "المجتمع المدني"، أكان جمعيات أم أفراد، لمنحها مساعدات مالية تسهِّـل لها تحقيق برامجها، وتُوجّـه المساعدات إلى أربعة مجالات، هي الإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي والإصلاح التربوي وتحسين أوضاع المرأة، ولهذا الغرض أنشئ في ديسمبر 2002 مكتب خاص بالمبادرة في وزارة الخارجية، قوامه ثلاثين موظفا، على رأسهم مدير ومدير مساعد.
ثم أنشئ المكتبان الإقليميان في تونس وأبو ظبي وكُلِّـف نائب مساعد وزير الخارجية المكلَّـف بمكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل، بالإشراف على تلك المكاتب. وتُـفيد إحصاءات رسمية، أن الإدارة الأمريكية خصَّـصت للمبادرة 539.9 مليون دولار بين 2002 و2008.
وتم استخدام تلك الإعتمادات، لإعطاء مساعدات إلى منظمات أهلية محلية في البلدان العربية التي يُغطيها المكتب الرئيسي والمكتبان الإقليميان، وتتراوح المساعدات المُقدَّمة من المكتبيْـن بين 10 و25 ألف دولار فقط، أما المِـنح الأكبر حجما (300 ألف دولار فأكثر)، فتُعطى من مكتب واشنطن.
غير أن إعطاء المِـنح ليس الوجْـه الوحيد لمبادرة "ميبي"، فالوجه الثاني يتمثَّـل في مساعدة السفارات على تحسين أدائها في مجال "دبلوماسية الديمقراطية"، أي بلورة استراتيجيات ديمقراطية خاصة بكل بلد من بلدان المنطقة العربية. وبتعبير آخر، فإن "دبلوماسية الديمقراطية"، هي قناة اتِّـصال مع المجتمع، بالتوازي مع قناة الاتصال الرسمية مع المؤسسات الحكومية.
والملاحظ أن الأغلبية الجمهورية التي سيْـطرت على الكونغرس اعتبارا من سنة 2007، نغَّـصت حياة المُـشرفين على "ميبي" وتحفَّـظت على مشاريع تقدّموا بها أو عطّـلتها، انطلاقا من تشكيكها في جَـدْواها في المساهمة في التنمية الإقليمية.
فهل كان الديمقراطيون على حقّ أم أن الجمهوريين هم المُحقّـون؟ وإذا ثبَـت أن الإدارة الديمقراطية لم تُخطِـئ الهدف بإطلاقها تلك المبادرة، هل ستمضي فيها إدارة أوباما أم ستُعيد فيها النظر؟
إعادة نظر؟
تحاشى المسؤولون عن "ميبي" الردّ على أسئلة كتابية توجّـهت لهم بها swissinfo.ch لتقويم حصاد التجربة، لكن المدير السابق لمكتب تونس بيتر مولريان (الذي انتقل إلى العمل في منصب دبلوماسي في جنيف) تحدّث في الحفلة التي أقيمت في تونس في الذكرى الخامسة لتأسيس المكتب، فدافع عن المبادرة واعتبر أن المكتبيْـن الإقليمييْـن لعِـبا دورا إيجابيا في إعطاء دفْـع لمسار الإصلاح الديمقراطي، على رغم الصعوبات، فيما رأى المدير الجديد للمكتب شمونسيس، أن كثيرا من الأمور السابقة تحتاج إلى إعادة النظر فيها، من دون إعطاء إيضاحات أكثر.
لكن لا وجود لمؤشرات لدى الإدارة الحالية على التراجع عن تلك المبادرة. فمكتب تونس وافَـق على تمويل 51 مشروعا في العام الجاري بقيمة 2.42 مليون دولار، كما أن إدارة أوباما طلبت من الكونغرس رصْـد 86 مليون دولار للبرنامج في سنة 2010 بجميع فروعه.
وربما بسبب ما أثارته سياسة بوش الإبن في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية من مشاكل وجدل، سواء داخل الولايات المتحدة أم خارجها، ما زالت الإدارة الجديدة تبحث عن أقوَم السُّـبل للتوفيق بين مصالح الولايات المتحدة والقِـيم الكوْنية، التي تقول إنها تدافع عنها.
وكان أوباما قال في خطابه الافتتاحي لولايته الرئاسية: "ليعلم الذين يتشبّـثون بالحُـكم بواسطة الفساد والتضليل وإسكات التمرّد، أنهم على الجانب الخطأ من التاريخ"، ما يعني أنه سيمضي في سياسة نشر الديمقراطية. واقترح عليه بعض الباحثين الذين لديهم كلمة مسموعة في البيت الأبيض، إدخال لُـيونة على السياسة الأمريكية في هذا المجال، فيما أبدى آخرون الأمل بأن "تحني أمريكا قامتها قليلا، لكي تُبدِّد تدريجيا الرّبط بين تطوير الديمقراطية والحرب على العراق".
أما آخرون، فاقترحوا أن تنسحِـب الولايات المتحدة من الجبهة الأمامية لهذا الصِّـراع، لأن الديمقراطية ينبغي أن تنمُـو بدَفع من القِـوى الداخلية، وليس بزرعها من الخارج زرعا، وحتى إذا ما تحتَّـم تطويرها بدفع من قِـوى خارجية، فينبغي أن تكون هذه الأخيرة متعددة.
هذه هي الرُّؤى التي تردّدت في أوساط صُنّـاع القرار الأمريكي لدى مناقشة حصاد السنوات الخمس الأولى من تجربة "ميبي". ومن أهم النصوص التي صدرت في هذا المجال، دراسة شاملة أصدرها مركز "سابان" Saban لدراسات الشرق الأوسط في الفترة الأخيرة وحرّرها كل من تامارا كوفمان ويتسTamara Cofman Wittes، الأستاذة المبرزة في هذا المركز، وهي تدير برنامجا عن الديمقراطية والتنمية في الشرق الأوسط، وأندرو ماسلوسكيAndrew Masloski ، الباحث المساعد في المركز سابقا.
وكشفت الدراسة أن جديد هذه الدبلوماسية غير التقليدية، أنها لم تكتفِ بالتوجّـه إلى الحكومات من خلال مساعدات ثنائية تتولّـى الوكالة الأمريكية للتنمية الدوليةUSAID الإشراف على إيصالها إلى مستحقيها. ومعنى ذلك، أن هياكل "ميبي"، سواء المكتب الرئيسي في وزارة الخارجية أم المكتبين الإقليميين في تونس وأبو ظبي، هُـما القناة الرئيسية للمساعدات الموجّـهة إلى المجتمع المدني في المنطقة العربية.
واعتمد إعطاء تلك المساعدات على معادلة، مفادها أن الحدّ من التطرّف والعُـنف ودعم التنمية المُـستدامة في الشرق الأوسط، يتطلّـبان تحرير السياسة والاقتصاد في البلدان المعنِـية، من قبْـضة الدولة، باعتبار أن جمودهما يشكِّـل مصدرا للاحتقان والغضب الشعبي، واستطرادا عدم الاستقرار الاجتماعي.
"دعم الإصلاح الديمقراطي"
وبدا أن الإدارة الأمريكية السابقة باشرت التخفيف من التركيز التقليدي على برامج المساعدات، واتجهت إلى نوعٍ جديدٍ من التّـعاطي مع النُّـخب في البلدان العربية، يندرج في إطار ما يُسمّـى بـ "دعم الإصلاح الديمقراطي في العالم العربي"، عن طريق إقامة شراكات بين "ميبي" ومجموعات غير حكومية، وحتى أفراد.
وكشفت تامارا كوفمان ويتس وأندرو ماسلوسكي في دراستهما عن أربع خصائص طبعت نشاط "ميبي" في السنوات الأخيرة هي الآتية:
• الانتقال من مشاريع تركِّـز على التنمية الاقتصادية، إلى أخرى تضع الإصلاح السياسي في الصدارة.
• تراجع مُـضطرد للبرامج الموجّـهة إلى المؤسسات الحكومية العربية والرسميين.
• مقابل زيادة قارّة في البرامج التي تستفيد منها منظمات المجتمع المدني المحلية بالدرجة الأولى.
• اهتمام مُـتزايد ببرامج التّـدريب والمساعدة الفنية.
ولاحظ المراقبون أن الإصلاح السياسي حاز على النّـصيب الأكبر في السنة الأولى (2002)، ثم تراجع في السنتيْـن المواليتيْـن، لصالح برامج الإصلاح الاقتصادي، ثم عاد مجدّدا إلى الصّـدارة، اعتبارا من 2005 وبلغ 45% و44% في سنتيْ 2006 و2007.
وبعدما واجهت "ميبي" صعوبات في العثور على "زبائن" في مرحلة الانطلاق بسبب ضغوط الحكومات على المنظمات المستقلّـة، تحسّـن التّـفاعل في السنوات اللاحقة، وإن بدرجات متفاوتة من بلد إلى آخر.
ومن الأمثلة على ذلك، حصول جمعية الصحفيين البحرينية على مساعدة لدعوة أساتذة إعلام وصحفيين أمريكيين، للقيام بدورات تدريبية لصحفيين محليين، كما حصل مركز "الأرض" لحقوق الإنسان في مصر على مساعدة من السفارة الأمريكية في القاهرة، لتوعية الفلاحين بحقوقهم وتقديم مساعدات قضائية لبعضهم. وفي تونس حصلت "دار الصباح" على مساعدة لإقامة موائِـد مستديرة حول العلاقات الأمريكية المغاربية.
وتطورت الأمور في بلدان أخرى إلى التعاون مع مؤسسات حكومية، على غِـرار تنظيم دورات تأهيلية للقُـضاة في المغرب، بالتعاون مع وزارة العدل، لكن يمكن القول أن القِـوى الفاعلة في المجتمع المدني العربي، حافظت على مسافة واضحة تُـجاه "ميبي"، انطلاقا من معارضتها لسياسة الإدارة الأمريكية في العراق وفلسطين.
وفي هذا السياق، قالت الرئيسة السابقة لـ "جمعية النساء الديمقراطيات" التونسية المستقلة خديجة الشريف لـ swissinfo.ch إن مسؤولين في "ميبي" اجتمعوا معها وعرضوا عليها برامج لمساعدة الجمعية، لكنها اعتذرت عن عدم قبول العرض، بعد استشارة أعضاء القيادة.
كذلك أفاد مسؤولون في رابطة حقوق الإنسان التونسية أنهم تلقَّـوا عرضا مُـماثلا من "ميبي"، إلا أن الهيئة الإدارية للرابطة رفضت العرض بعد درسه، ويُعتبر أعضاء المنظمتين من أشدّ المناهضين للحرب على العراق والمؤيدين للفلسطينيين.
مناكفة مع السفارات
غير أن مصاعب "ميبي" في السنوات الخمس المنقضية، لم تقتصر على شظايا الحرب في العراق وتداعيات الصِّـراع العربي الإسرائيلي، إذ جاءتها المُنغِّـصات من أقرب الناس إليها.
وأشار الباحثان ويتس وماسلوسكي، إلى أن بعض موظّـفي السفارات الأمريكية في المنطقة العربية، كانوا يتوجَّـسون منها ويعتبرون أنها قد تُعقِّـد العلاقات السياسية الثنائية، بسبب غضب الحكومات المحلية من دعم منظمات مستقلة، تعتبرها غريمة لها. ونتيجة لهذه الازدواجية، حاول بعض المسؤولين في السفارات توجيه برامج "ميبي" إلى مجالات ناعمة لا تسبب احتكاكات مع الحكومات، لا بل أكّـد المطَّـلعون على المساعدات الممنوحة خلال السنوات الماضية، أن منظمات مدعومة من الحكومات حصلت على قِـسم من التمويلات.
وظهرت آثار هذا التوجيه الخفي في التوزيع القطاعي للموازنة، خلال الفترة من 2002 إلى 2007، إذ خُصِّـص 43% منها لبرامج تدريب و29% للمساعدة الفنية و5% لرواتب الإداريين و4% للمِـنح، والباقي لعمليات تبادُل أو اقتناء تجهيزات.
في المحصِّـلة، توجد رُؤية متفائِـلة تعتقد أن هذه المبادرة حقّـقت إنجازا، تمثّـل في "إدماج الديمقراطية وحقوق الإنسان في الدبلوماسية الأمريكية اليومية، وطوّرت قُـدرة مكتب شؤون الشرق الأدنى في وزارة الخارجية، على إقناع صنّـاع القرار بضرورة وجود أجَـندة لحقوق الإنسان والإصلاح السياسي"، غير أن هذه الرؤية تُقلِّـل من أهمية جِـدار سوء التفاهم، الذي شيّـدته حرب بوش في العراق ودعمه غير المحدود للدولة العبرية بين الولايات المتحدة والمجتمعات العربية، واستطرادا مع النّـخب التي لا تريد أن تنقطِـع عن عمقها المجتمعي.
كذلك تتناسى هذه الرُّؤية المُـنطلقة من الرِّضا على النفس، العراقيل الكبيرة التي تواجِـه تلك المبادرة، ومنها اعتراض حكومات عربية على ظهور مجتمع مدني مستقِـل عنها، ما استدعى "تدخّـلا قويا من وزارة الخارجية، وحتى من مستشار الأمن القومي، للضّـغط على زعماء أوتوقراطيين"، مثلما ذكر ويتس وماسلوسكي، ومنها أيضا عدم ضبْـط الإيقاع بين "ميبي" والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، التي تعمل عادة على نزع التَّـسيِـيس عن البرامج الديمقراطية، كي لا تُـزعج الحكومات العربية الحليفة للولايات المتحدة في المنطقة وتُـثير حفيظتها.
ويعود السؤال المُلِـح: كيف ستتعامل إدارة أوباما في السنوات الأربع المقبلة مع هذا الإرث، الذي تركته الإدارة السابقة؟ لا مؤشرات تدُلّ على نوْع من التعاطي المُـرتقب مع هذه المسالة، وهو ما يُفسِّـر أن طاقم الإدارة الجديدة فضّـل الاستمرارية مؤقتا، ربَّـما في انتظار معاودة تقويم الوضع تقويما شاملا، وهذا يتطلّـب في الدرجة الأولى، إدراك ضرورة عدم الفصل بين السياسة الأمريكية في العراق وفلسطين وتجاوب النُّـخب العربية مع المبادرات السياسية، التي تطرحها واشنطن في مجال الإصلاح السياسي