الصفحات

الاثنين، 9 مارس 2009

مرض الطائفية المزمن ومحاصرة أسبابه

أحمد بيضون يقرأ تاريخ لبنان المعاصر: مرض الطائفية المزمن ومحاصرة أسبابه
باريس - انطوان جوكي الحياة - 09/03/09//

صدر للمؤرّخ وعالم الاجتماع اللبناني أحمد بيضون كتابٌ جديد باللغة الفرنسية (دار «أكت سود» - سلسلة «سندباد») يحمل عنوان «انحطاط لبنان أو الإصلاح اليتيم» ويتألف من محاضرات ألقاها في فرنسا خلال شهر أيار (مايو) الماضي، وتشكّل قراءة جريئة لتاريخ لبنان المعاصر يتخللها تشخيص دقيق للمشاكل السياسية والاجتماعية التي يتخبّط بها هذا البلد منذ ولادته الى اليوم. من هنا أهميته البالغة.
في الفصل الأول، يُظهر بيضون أن طريقة تطبيق اتفاق الطائف لا تبرّر مقولة شائعة مفادها أن هذا الاتفاق متّن الطائفية السياسية عبر تكريسٍ دستوري للطابع الطائفي للتمثيل النيابي، نظراً إلى تضمّنه إشارة واضحة إلى ضرورة إلغاء الطائفية وفقاً لسيرورة محدّدة بدقة. وحدها تغيّر الظروف التي جاءت بهذا الاتفاق حالت دون تطبيقه كاملاً. أما بالنسبة إلى الطائفية «المدنية»، وبعد التوقف عند قوانينها الدستورية، يبيّن بيضون طابعها الجائر بحق المواطن، والمرأة في شكلٍ خاص، وضرورة استبدالها بقانون علماني وحيد يضمن حقوق الجميع، مشيراً إلى أن اتفاق الطائف يتضمن أيضاً قانوناً لتشريع الزواج المدني الذي لا يزال مجمّداً، ويلحظ مسألة انتخاب مجلسٍ دستوري وتأسيس المحكمة العليا (لمحاكمة رؤساء الجمهورية والوزراء) اللذين بقيا حبراً على ورق.
في الفصل الثاني، ينتقل بيضون إلى موضوع «الميثاق الوطني» الذي يُعتَبر على خطأ السبب في دفع المواطنين اللبنانيين إلى التقوقع داخل طوائفهم، مشيراً أولاً إلى أن كسل ذاكرتنا هو الذي يشرح تحديد تاريخه بعام 1943، بينما الحقيقة أنه لم يظهر داخل مفردات الطبقة السياسية إلا بعد أربعة أعوام من استقلال لبنان، مع تقليص مضمونه إلى النفيين الشهيرَين اللذين أشار إليهما جورج نقّاش وتحويله فيما بعد إلى «ميثاق العيش المشترك» وتجاهُل الفقرة التي وضعها رياض الصلح داخله كهدف وطني وتدعو إلى إلغاء الطائفية، وحاول عبثاً فتح فجوةٍ في جدار الطائفية خلال السنوات اللاحقة.
ويُبيّن بيضون أن التقاسم الطائفي للسلطة بسلسلة تعقيداته وأزماته، لا علاقة له بمضمون الميثاق المذكور، بل بما عُرف «بالصيغة» التي هي أقدم منه ومن دستور 1926 وأكثر تجذّراً في التقاليد السياسية، بالتالي أكثر فعالية، وقد استطاعت شل الدستور ومعه حقوق المواطنين ومنحت الطوائف الفرصة للتجهّز بمؤسسات مختلفة تسيطر عليها التشكيلات السياسية الطائفية، ما أدّى إلى نتيجتين: تقوقع متصاعد للطوائف وبلوغها نوعاً من الاكتفاء الذاتي، وتجميد انبثاق الدولة اللبنانية كسلطة وحيدة تلعب دور الحَكم أثناء الصراعات وانقسامات المجتمع السياسي، الأمر الذي ترك الباب مشرّعاً للتدخّلات الأجنبية المعروفة. ثم يندد بيضون بعبارة «إصلاح النفوس قبل النصوص» المستخدمة في لبنان للإيحاء بأنه لا بد من عقودٍ طويلة قبل التفكير بإصلاح هدفه تحرير مؤسسات الدولة من المنطق الطائفي، مظهراً أن هذه المؤسسات والقوانين التي تتحكّم بعملها هي الأكثر قدرة على بث روح المواطنة المفقودة، ومتوقفاً عند خطر تحوّل النظام التوافقي اللبناني خلال السنوات الثلاث الأخيرة إلى إجماعٍ إجباري يقود إلى حكومة وحدة وطنية تنحل داخلها المعارضة... والحكومة أيضاً!
في الفصل الثالث، يكشف بيضون الأسباب التاريخية التي أوصلت اللبنانيين إلى هذه الحال، بدءاً بمعركة ميسلون مروراً بزمن الانتداب الفرنسي ثم حلول بريطانيا مكان فرنسا عام 1940 فنكبة 1948 وثورة 1958 واتفاق القاهرة عام 1969 والحرب الأهلية اللبنانية، وانتهاءً بوضع سورية يدها على لبنان كاملاً بمباركة أميركية. بعد ذلك، يبيّن أن الأطراف التي رفضت الكيان اللبناني لدى تكوينه لم ترغب جدّياً في إلغائه بل شكّل سلوكها مناورة لتحسين موقعها داخل المعادلة اللبنانية. ومع الوقت، أدّت مناورات كل طائفة في هذا الاتجاه إلى استهلاك الدعوات إلى الأطراف الخارجية للتدخّل في لبنان وإلى التوقف عن تقديم هذا التدخّل كضرورة وطنية، كما أدّت الحرب الأهلية إلى حصر تمثيل كل طائفة بشخصيةٍ واحدة أو شخصيتين، بالتالي إلى تواري التنوع السياسي داخلها، مما أوصل النظام الطائفي إلى أزمةٍ مصيرية.
في الفصل الرابع، يشير بيضون إلى أن وجود انقساماتٍ عمودية داخل مجتمعٍ ما لا يفرض على أبنائه تبنّي النموذج الديموقراطي المطبّق في لبنان ويُعرف تحت تسمية «consociationnisme». فهذه الانقسامات موجودة في جميع المجتمعات، بأشكالٍ مختلفة. والمشكلة التي تستدعي الحل المذكور هي تسييس هذه الانقسامات. لكن تكريس هذا النموذج يؤدّي حتماً إلى ترسيخ الصيغة التوافقية والتمهيد إلى اضطرابات مدنية عند كل تغيير مهم في ميزان القوى بين الأطراف المتعايشة. ولهذا يعتبر بيضون أن التوافق بين أطرافٍ يكون تمثيلها ثمرة اندفاعٍ شعبي أو تقاليدٍ استبدادية لا يمكن نعته بالديموقراطي.
ففي الحال اللبنانية، أدّى توزيع المناصب النيابية والحقائب الوزارية وفقاً لحجم كل طائفة إلى تحصّن الطوائف، الواحدة ضد الأخرى، خلال المحن، وإلى ترسيخ الصبغة الطائفية على التشكيلات السياسية، وإلى تطويع المواطنين، طوعاً أو إكراهاً، داخل طوائفهم وإخضاع حقهم في الوجود السياسي إلى شرط قبولهم بهذا التطويع.
في الفصل الخامس، يستعرض بيضون الانجازات الثلاثة الكبيرة التي حققها اللبنانيون بعد الحرب الأهلية، أي إعادة إعمار البلد في التسعينات، تحرير الجنوب المحتل عام 2000 وفك قبضة النظام السوري عن لبنان عام 2005، ليبيّن أن كل واحد من هذه الانجازات مصبوغٌ طائفياً (ورشة الإعمار سنّية ومعركة التحرير شيعية ومواجهة النظام السوري مسيحية أوّلاً)، وأن ثمن هذه الانجازات وثمارها تم توزيعها بشكلٍ غير متساوٍ ووفقاً لمنطقٍ طائفي أيضاً.
في الفصل السادس، يتوقف بيضون عند المجتمع المدني اللبناني في مختلف وجوهه والناشط في المجال الاقتصادي - الاجتماعي وفي دفاعه عن الحقوق المدنية وحمايته الحرّيات الديموقراطية، كالمنظمات غير الحكومية (ONG) والحركات الاجتماعية وخصوصاً النقابات، مشيراً إلى الخطر الذي يتهدد هذه الحركات في تحويل مطاليبها لمصلحة مراكز تأثير سياسية - طائفية، كما حصل مع النقابات أثناء الوجود السوري في لبنان التي تم ترويضها واستيعابها من قبل التشكيلات السياسية - الطائفية.
في الفصل السابع، يكشف بيضون السبل الثلاثة التي اعتمدتها القوى الخارجية للإمساك بأحد أطراف المجتمع السياسي اللبناني: المساعدة المادية والتقنية التي تتخذ طابع الدعم المالي أو التجهيز والتدريب العسكري، وتصل أحياناً إلى حد التدخل العسكري المباشر، المساعدة السياسية عبر وضع في تصرّف الطرف اللبناني تأثير هذه القوى السياسية وشبكاتها المحلية والدولية، الإتباع التربوي أو الرمزي للطرف اللبناني عبر أنظمة قيَمٍ وطقوسٍ وسلوكٍ فكري وعاطفي مقولب. وفي هذا السياق، يتوقف بيضون عند العلاقة التي قامت خلال الحرب بين دولة إسرائيل ومنظمات مسلحة مسيحية أو ميليشيا لحد في جنوب لبنان، وعند العلاقة القائمة بين «حزب الله» والنظام الإيراني.
أما الفصل الثامن والأخير فخصصه بيضون لموضوع الإصلاح الديموقراطي الذي يبدو اليوم في نظره كحلمٍ بعيد المنال نظراً إلى استفحال الطائفية وإمساكها بجميع مفاصل المجتمع السياسي. ومع ذلك، يدعونا إلى العودة إلى اتفاق الطائف كونه ينصّ على ضرورة تأليف لجنة وطنية مهمتها إلغاء الطائفية، مذكّراً بالاقتراح الذي وضعه قبل سنوات لإنجاح مهمة هذه اللجنة ويتضمّن مجموعة نقاط لا بد من أخذها في الاعتبار، وهي: وضع قانون جديد للجنسية اللبنانية، إعادة إحياء مشروع القانون المدني المتعلق بالاحوال الشخصية بعد مراجعته وإكماله، القيام بتقسيمٍ إداري جديد للبلد، وضع قانون انتخابي جديد ينتفي فيه التوزيع الطائفي للمقاعد، إلغاء الصبغة الطائفية عن المناصب الرئاسية الثلاثة والمناصب الوزارية، اتخاذ إجراءات لتطبيق إلغاء الطائفية في الوظائف العامة، والعمل على المستويين الاجتماعي والسياسي لتقوية الرابط الوطني.