الصفحات

الأحد، 15 مارس 2009

داود تركـي: بـاقٍ فـي حيفـا

بقلم صقر ابو فخر
لعل اسم داود تركي ليس مألوفا تماما للكثيرين منا في العالم العربي. وهذا أمر بدهي، فإسرائيل أرادت أن تهيل ركاما من الصمت على هذا الرجل وعلى تجربته السياسية المثيرة. لكن، هيهات لها ذلك! فهذه الكلمات التي أكتبها هنا اليوم، والتي من المحال أن تفي الرجل حقه، إنما هي محاولة لإعادة الاعتبار لهذا المناضل الفلسطيني الصلب الذي قبع في سجون الاحتلال ثلاث عشرة سنة من غير أن يهد السجن عزيمته وصفاءه وثباته على مبادئه.
[[[
سمع العالم العربي اسم داود تركي، أول مرة، في سنة 1972 عندما اقتحمت قوة من المخابرات الاسرائيلية منزله المتواضع في حيفا واعتقلته بتهمة التخطيط لشن عمليات عسكرية ضد إسرائيل. وعندما بدأت محاكمته فغر الاسرائيليون أفواههم ذاهلين، ودهشوا حينما اكتشفوا أن بين أعضاء المنظمة السرية التي أسسها داود تركي اثنين من اليهود الثوريين هما أودي أديف ودان فيرد، وراحوا يتساءلون عن هذا العربي المسيحي الذي تجرأ على حمل السلاح ضد الدولة الإسرائيلية.
[[[
ولد داود تركي لعائلة بسيطة كان عائلها يعمل مرابعاً في أراضي الغير. ولم يكد يبلغ الخامسة حتى اضطرت العائلة إلى الانتقال الى حيفا بسبب القحط المتواصل في القرية، واشتغل والده عامل نظافة في بلدية المدينة. وفي سنة 1938، إبان الثورة الفلسطينية الكبرى، أصيب والده برصاصة في رجله فأصبح معوقاً. وعند ذلك اضطرت والدته إلى العمل غاسلة في بيوت الناس. أما داود تركي فما إن بلغ الرابعة عشرة حتى طرد من المدرسة لغيابه المتكرر بسبب العمل يوما هنا ويوما هناك، وراح يتنقل في مهن بسيطة لإعالة والده ووالدته وشقيقيه. وفي خضم هذه المعاناة المرة كانت فلسطين نفسها قد بدأت تعاني أهوال الصهيونية ومشروعها الاستيطاني، وبدأ وعيه السياسي يتفتح على ضياع بلده وعلى الظلم الاجتماعي معا، واتجهت أفكاره الى التمرد على الفقر وعلى العسف والتسلط وعلى قساوة حياته، وظل في حداد على كارثة 1948 خمس سنوات متواصلة معتكفا في منزله لا يخرج الى السينما أو الى النزهة، وقاطع التنزه في الأحياء اليهودية. وبعد تجربة عاصفة في الحزب الشيوعي الاسرائيلي ثم في منظمة «ماتسبن» قرر داود تركي، بعد إعلان انطلاقة الكفاح المسلح الفلسطيني في مطلع سنة 1965، ان يباشر في تأليف منظمة سرية ثورية لمساندة الثورة الفلسطينية بالعمل المسلح. وتمكن من جذب عدد من اليساريين الثوريين الى منظمته، وكان يرسلهم الى دمشق للتدرب على السلاح. وتدرب هو نفسه على صنع المتفجرات على يدي الشهيد جواد أبو الشعر وفي بيروت بالتحديد. ومن بين الذين أرسلهم الى دمشق بعض اليهود مثل أودي أوديف. وهؤلاء، مع أقرانهم، شرعوا في وضع الخطط العملية لبدء الكفاح المسلح ضد اسرائيل، ومن داخل دولة اسرائيل نفسها. لكن، في 5/12/1972 اقتحمت المخابرات الاسرائيلية منزل داود تركي في حيفا واعتقلته بناء على ترصد سابق وعلى معلومات متراكمة عن أفكاره الكفاحية التي كانت جزءا من خلافه مع الحزب الشيوعي الاسرائيلي. وفي أثناء المحاكمة التي انعقدت في 3/2/1973 وقف معه في القفص كل من أودي أديف ودان فيرد وبقية رفاقه ليدينوا معا، ولا سيما اليهود منهم، الصهيونية وإسرائيل والاحتلال، ويعلنوا معا، ولا سيما العرب من بينهم، بأنهم ينتمون الى العروبة انتماء خالصا لا ريب فيه. لهذا لم يكن غريبا على داود تركي أن ينشر في صدر مذكراته التي أصدرها في سنة 2001 بعنوان «ثائر من الشرق العربي» وصية سلطان الأطرش المشهورة وهي آية في العروبة، وأن يصر على القول انه «ولد في قرية مغار حزور الواقعة في الجليل من سورية الجنوبية».
[[[
مهما يكن الأمر، فقد حُكم داود تركي بالسجن سبعة عشر عاما، وأدرجت سورية، في أثناء مفاوضات تبادل الأسرى بعد حرب تشرين الأول 1973 اسمه في قوائم أسراها، لكن اسرائيل رفضت ذلك بشدة بذريعة انه ليس سورياً بل فلسطيني. لكن في سنة 1985 اضطرت اسرائيل الى الإذعان وأطلقت سراحه في عملية النورس، فعاد إلى وادي النسناس بكبرياء وعنفوان. وظل يعيش في فلسطين، ومن أجل فلسطين، عنيدا في عروبته ثابتا على مبادئه، صلبا في مقارعة الاحتلال، رافضا، بقوة، جميع النتائج السياسية والجغرافية التي نجمت عن نكبة 1948.
[[[
كان داود تركي، منذ طفولته، عنيدا لا يلين، حتى أنه ترك المدرسة الكاثوليكية نهائيا لأنه، ببساطة، رفض طلب والدته ان يعتذر من مدير المدرسة يواكيم قرداحي بتقبيل يده. ولعل معاركته الحياة بكل قساوتها وفظاظتها، ووعيه مدى السحق القومي الذي تعرض لها شعبه في سنة 1948، رسخا فيه العنفوان وقيم التمرد، وقادته مصائره الى وعي سياسي، بل الى عمل سياسي مباشر في سبيل حركة التحرر العربي وأفكار العدالة والحرية التي كانت ساطعة في تلك المرحلة العاصفة من تاريخ هذه المنطقة.
[[[
نشأ داود تركي في عائلة كاثوليكية. لكن أفراد هذه العائلة ما كانوا يصلون، ولم تكن في منزلهم صور للمسيح أو مريم أو أي قديس. ومنذ طفولته كان شكاكا لجوجا، ولم يقتنع بأن الصلاة قادرة على حمايته من الشرور، ولم يقبل سطوة الكهنة وصلاحيتهم للحكم على الناس. وفي الثالثة عشرة توقف عن الاعتراف. وعندما اكتشف ما فعلته محاكم التفتيش في أوروبا وما جرى للبروتستانت وغاليلو ابتعد عن الدين. وعندما تعرف على الشيوعيين في سنة 1940 صار يحترمهم لأنهم يدافعون عن العمال والفلاحين. وقادته حساسيته بالعدالة وإحساسه بالحرية وتوقه الى المساواة الى «عصبة التحرر الوطني» التي انتمى اليها في سنة 1948. وهذه المؤثرات كلها ساهمت في تكوين وعيه السياسي. فهو ماركسي وقومي عربي ووطني فلسطيني معا. فتراه يسمي فلسطين «سورية الجنوبية»، ويصر على أن المنطقة الممتدة من العريش الى جبال طوروس، ومن البحر المتوسط حتى بادية الشام هي وحدة سياسية وجغرافية واحدة اسمها سورية، وهو يرى ان سورية وطنه وبلاده وشعبها شعبه. ويُقرن مولده في سنة 1927 بنهاية الثورة السورية الكبرى التي يكن إعجابا شديدا لقائدها سلطان الأطرش. وداود تركي اشتراكي لم يقر البتة باندحار الاشتراكية، فالذي اندحر هو دكتاتورية الحزب الواحد في الاتحاد السوفياتي ومنظومته، بحسب اعتقاده. وكتعبير عن وطنيته رفض اتفاق اوسلو في سنة 1993 لأنه رأى فيه موافقة على تقسيم فلسطين، وهو الأمر الذي ظل يرفضه منذ سنة 1947.
[[[
لم ينشأ داود تركي كارهاً لليهود. ففي المدرسة الكاثوليكية كان أحد أصدقائه يهودياً. وفي سنة 1942 رأى بضع يهوديات ينتحبن بمرارة، فسألهن عن بكائهن، فأجبن أن جميع عائلاتهن أبادها النازيون. وقد أثر ذلك فيه كثيرا، ومنحه معرفة عن هتلر واستبداده وعنصريته. وعندما شاهد اليهود يصلون الى حيفا معدمين أذلاء أشفق عليهم كثيرا. وفي ما بعد، عندما تجذر وعيه السياسي، لم يتبلور لديه أي مشروع عنصري ضد اليهود، بل مشروع إنساني للتحرر الشامل، للعرب ولليهود معاً. وظاهرة داود تركي هي أخطر ظاهرة عرفتها إسرائيل منذ قيامها في سنة 1948 حتى سنة 1972 حينما قبضت عليه الأجهزة الأمنية الاسرائيلية. فقد عرفت اسرائيل حزب «راكح» الذي كان يناضل في سبيل مساواة العرب واليهود. وعرفت «حركة الفهود السود» التي ناضلت ضد التمييز العنصري بين اليهود أنفسهم، والتي استخدمت العنف أحيانا. وعرفت حركة «ماتسبن» (البوصلة) التي دعت الى تحطيم الصهيونية وإلغاء دولة اسرائيل والدول العربية المحيطة بها أيضا، في سبيل قيام شرق أوسط اشتراكي، لكن «ماتسبن» ظلت مجرد مجموعة صغيرة من المثقفين الحالمين. أما منظمة داود تركي فكانت أمرا مختلفا، فهي مجموعة من العرب واليهود يتدرب أفرادها على القتال في معسكرات فتح في سورية ولبنان لشن الكفاح المسلح ضد الدولة اليهودية. ويا لها من مجموعة في اسرائيل في ذلك الوقت!
[[[
اختار داود تركي ان يكون ثائرا في هذا الشرق العربي شبه الراكد، وحلم بمستقبل جميل لبلاده. لكنه، في ذروة أحلامه، كان يخطو نحو مصير فاجع. فابنته «عايدة» التي أحبها كثيرا، تشردت بعد القبض عليه، ثم استقرت في مدينة دمشق منذ نحو 37 سنة. لكن، لم يكن في إمكانها ان تعود الى مدينتها وإلى والدها ووالدتها وشقيقتيها في حيفا، فانشطر القلب الواحد بين مدينتين، وبقي الهاتف هو الشريان الأبهر الوحيد الذي يأبى هذا الانشطار، حتى تقطعت الذبذبات في 8 آذار 2009 فرحل داود تركي كأنه على موعد مع ذكرى المؤتمر السوري العام الذي اختار فيصل الأول ملكا على سورية في 8 آذار 1920، أو على موعد مع يوم المرأة العالمي حيث عايدة، تلك المرأة الوردة، غير قادرة على توديعه الوداع الأخير. وقد أيقنت، حينما وصلني خبر رحيله، أنني لن أسمع صوته عبر الهاتف من حيفا، وأن مواعيدنا الأسبوعية قد انتهت، وأن رنين كلماته قد انتهى واندثر.

السفير،السبت 14 آذار 2009