رسالة الى رفاق الدرب الطويل
سعود المولى
سيأتي زمان... القابض فيه على الذاكرة كالقابض على النار تحترق العينان وجمرات القلب رجع اّلام تحترق اليدان وأوتار الروح نبض لا ينام سيأتي زمان يتلوّن فيه الكون وتنحني القامات يموت الفكر في أتون الكلمات تتلوى الفتنة بين أضلع المفردات سيأتي زمان نكون فيه بقايا ملصق لرفيق
مشروع بيان كتبناه ذات يوم في غفلة من أهلنا والاحلام
اّه ايها الصديق
تقتلنا الحكايات كلما تمايلت الاحزان فوق الابتسامات
يقتلنا الحنين كلما حكينا أحلى ما في السنين
اّه ايها الصديق
يقتلنا الحب والورد والوجد والوجدان
اّه ايها الصديق
ماذا فعلنا لنكون نحن الزمان
يأتي او لا يأتي
ماذا فعلنا لنكون نحن المكان
قريب وبعيد
اّه ايها الصديق
أسمع هتافا على الطريق
اين المنتظر( بكسر الظاء)؟؟ اين المنتظر (بالفتحة)
اين الشاهد؟؟ اين الشهيد؟
الصفحات
▼
الجمعة، 5 يونيو 2009
في الشيعة والاندماج الوطني:مقاربة من منظور المصلحة
محمد حسين شمس الدين
المراد بالمصلحة ههنا ثلاثة مستويات: الشيعي الخاص، فاللبناني العام، فالعربي الأعمّ. أو قُل هي مصلحة الشيعة اللبنانيين في إطار حاضنيتَهم، أو دائرتي انتمائهم، اللبنانية والعربية. هذا من دون الوقوع في شرك التناقض المفتعل بين المستويات الثلاثة. والمقاربة تجنبت الاستناد الى "معيار المصلحة الإسلامية العامة"، لأن هذا المعيار، بالمعنى الجيوبوليتيكي، لم يعد قائماً منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية وخروج مصطلح "دار الإسلام" من التداول. وحتى من خارج الاعتبارات الجيوبوليتيكية، يبقى هذا المعيار خلافياً جداً اليوم بين المسلمين أنفسهم، فيكاد يكون في منزلة "الافتراضي"، على الرغم من وجود رابطة شكلية للعالم الإسلامي. ذلك بسبب الانشطار السني - الشيعي الذاهب الى مزيد من الشيء نفسه، فضلاً عن اصطفافَي التطرف والاعتدال داخل كل من التيارين المذهبيَين، وبسبب الانشطارات القومية المتجسدة في دول نهائية أو شبه نهائية، ناهيك عن أفول عصر الإمبراطوريات القائمة على الدين أو العرق. وبما هي مقاربة من منظور "المصلحة"، فالإيديولوجيا ليست إذن من بضاعتها؛ فلا هي تُهوّل بها، ولا هي تخضع ـ بطبيعة الحال ـ لابتزازها.
[ 1ـ ثلاث وقائع شيعية
ثمة في المشهد العربي الراهن ثلاث وقائع شيعية يصعب تجاهلها، كما لا يحسن تناولها بمنطق المكابرة.
[ هنالك أولاً ما يصحّ أن يسمى بـ"مسألة شيعية" باتت مطروحة بقوة في الواقع العربي غير المعزول عن جواره الإقليمي وأجندات الدول الكبرى. من تجليات هذه المسألة أن صار يُحكى، وبأصوات حكومية مرتفعة تجاوزت لغة الديبلوماسية الهادئة، عن اهتزاز ولاء بعض الشيعة العرب لدولهم الوطنية، جرّاء تأثرهم بمركزية إيرانية تسعى جاهدة لمدّ نفوذها في المنطقة العربية، مستغلة وجود ثغرات ومُحدثة أخرى في بنيان تلك الدول. ومن تجلياتها أيضاً توجيه اتهام الى الجمهورية الإسلامية الإيرانية بأنها تقود حركة دعوتية لنشر التشيّع الإمامي الإثني عشري، بنسخته الفارسية الجديدة، أي النسخة الخمينية، في البيئات السنية العربية. هذا في زمن أصبح "التقريب" هو قاعدة التعامل المقبولة بين المذاهب الإسلامية، وفيما اتفق العقلاء من مختلف الأديان والمذاهب على أنه لم يعد مسوّغ تاريخي أو أخلاقي أو معرفي لحركتي "الدعوة" و"التبشير" على حد سواء.
ربطاً بهذه الواقعة، يمكن القول أن الحكم الإيراني ـ باستثناء الفترة الخاتمية ـ لم يكلف نفسه عناء دفع التهمة، بل أقدم دائماً على ما يؤكدها. تكفي إشارتان بليغتان في هذا الصدد: فالإمام الخميني نفسه كان قد صرّح غداة انتصار ثورته بأنه "قد آن الأوان كي يقود الفرس العالم الإسلامي، بعدما قاده العرب فالكرد فالمماليك فالأتراك خلال حقب سالفة"؛ وها هو الرئيس الحالي أحمدي نجاد يطالعنا يومياً بمواعيد "صادقة" لقيام "الشرق الأوسط الإسلامي"، بقيادته الرشيدة وبعناية "صاحب العصر والزمان"!. مشكلتنا مع هذه النزعة الإيرانية التوسعية مزدوجة. فهي، بتطبيقاتها العملية، إنما تتم حكماً وبالضرورة على حساب المصالح الحيوية للإقليم العربي. وهي، بانعكاساتها على الشيعة العرب، تُظهرهم وكأنهم "طابور خامس" في مجتمعاتهم الوطنية. هذا بمعزل من حقيقة اختياراتهم، أو اختيارات سوادهم الأعظم. ولنا عودة الى هذه النقطة الأخيرة.
[ ثانية الوقائع أن لـ"حزب الله ـ لبنان"، ذي الارتباط العضوي بمرجعية السلطة في إيران على قاعدة "ولاية الفقيه العامة"، دوراً نشطاً في تأجيج تلك المسألة ـ المشكلة، وهو دور قد تعدى بيئته اللبنانية الى أقطار عربية أخرى، من العراق الى فلسطين والأردن، الى بعض دول الخليج، وصولاً الى مصر والمغرب. علماً أن هذا الدور لا يعفي أطرافاً مناوئة للنفود الإيراني من مسؤولية المساهمة في عملية التأجيج تلك.
وقد جاءت الأزمة الأخيرة بين الدولة المصرية وحزب الله لتظهّر المشكلة بصورة دراماتيكية تبدو حتى الآن عصيّة على الاحتواء، ولتجعل الحزب وجمهوره في وضع شديد الحرج، إذا شئنا عدم المكابرة. فذريعة مساندة "حماس" في غزة، عبر الحدود المصرية ومن دون إذن سلطاتها، لم تقنع إلا صاحب الذريعة وأنصاره الأقربين. أما القول بأن الرد المصري الشديد على حزب الله لم ينل من معنويات هذا الأخير ومكانته في المنطقة العربية فهو قول ـ إن صحّ ـ لا ينفي أن ما حصل قد "نال فعلاً" من مصالح الشيعة اللبنانيين العاملين في البلدان العربية. وإذا كان موقف الأمين العام للأمم المتحدة بخصوص تلك الازمة "قد وضع المنظمة الدولية في مواجهة حركات المقاومة في المنطقة" ـ بحسب تصريح السيد نصرالله ـ أفلا يمكن القول من زاوية نظر أخرى بأن مداخلات حزب الله غير العابئة بالقانون الدولي "قد تضع الشيعة اللبنانيين في مواجهة الشرعية الدولية"؟! أخيراً وليس آخراً، فإن تصريح السيد نصرالله بأن مقاومته "قادرة على أن تحكم بلداً أكبر من لبنان بمائة مرة" إنما كان تصريحاً يفتقر الى الرويّة والدراية. وإذا أردنا أن نُحسن الظن فيه نقول إنه كان "فلتة" نسأل الله أن يقينا شرّها. فقد أجاب وزير الخارجية المصري على الفور ـ بعدما فهم الرسالة ـ بأن مصر أقوى وأعزّ من أن يؤثّر فيها مائة حزب من وزن "حزب الله"!
[ الواقعة الثالثة أن حزب الله، بدعوته ونشاطه العابرين للوطنية اللبنانية، وبالوسائل المادية الاستثنائية المتوفرة له من المصدر الإيراني ذاته، بالإضافة الى تضحياته المعروفة في مجال المقاومة المسلحة ضد إسرائيل وفق استراتيجيته الخاصة وعقيدته الأكثر خصوصية.. هذا الحزب قد حقق لنفسه في العقد الأخير حضوراً طاغياً داخل الجماعة الشيعية اللبنانية، فبدا مختصراً هذه الجماعة بذاته، محتكراً النطق باسمها في المواقف المفصلية. ولقد كان لهذا الحضور الطاغي أن حجب، أو طمس، الخيارات التاريخية للجماعة على الصعيدين الوطني اللبناني والفقهي الشيعي، ما أثار شبهة التزاحم بين الولاء الوطني للشيعة اللبنانيين وبين وفائهم لرابطة التشيّع العامة، كما أظهرهم في عين اللبنانيين الآخرين عقبة أمام الاستقرار وعبئاً على "الصيغة" (نعتقد بقوة، لا بل نعرف، أن موقف العماد ميشال عون، غير المتحفظ حالياً عن توجهات حزب الله، لا يعبّر عن اطمئنان مسيحي فعلي لتلك التوجهات، وهو في تقديرنا موقف عابر، يصدر عن انتهازية وكيدية مكشوفتين، على قاعدة "ليس حباً بمعاوية بل كراهيةً بعليّ".. وبطبيعة الحال لا حاجة بنا الى تبيان الخشية السنية والدرزية من تلك التوجهات).
تلك الوقائع الثلاث باتت تشكل عبئاً مستجداً على الجماعات الشيعية في بيئاتها الوطنية العربية، بعدما كانت هذه الجماعات قد سعت، بشق النفس وعلى مدى قرن كامل، الى تجاوز مفاعيل الحقبة العثمانية بمحمولها التمييزي المذهبي. قد لا يكون ذاك التجاوز تاماً وناجزاً، ولكنه كان مُرضياً وقابلاً للتطور في الاتجاه السليم، بفضل مفاعيل الحداثة التي رفعت الكثير من مظالم القرون الخالية، وبفضل الخيارات العاقلة للشيعة العرب في دولهم الوطنية التي نشأت على أنقاض الحقبة العثمانية والكولونياليات الغربية.
[ 2 ـ الخيار التاريخي للشيعة اللبنانيين
لا جدال في أن الخيار التاريخي للشيعة اللبنانيين على الصعيد الوطني إنما كان الاندراج فالاندماج في الكيان السياسي اللبناني وعقيدته الوطنية، منذ تأسيس الكيان 1920 ثم الاستقلال 1943. وبهذا المعنى اعتُبرت الجماعة الشيعية، في نظر مؤرخي الحالة اللبنانية، "طائفة كيانية". هذا الخيار لم يكن ليتنافى مع سعيهم الدائم لتحسين شروط اندماجهم في الدولة، أي تحديداً لرفع الغبن السياسي والإداري والتنموي الذي كان قد لحق بهم ابتداء (جوهر حركة الإمام موسى الصدر والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى). علماً أن ذاك السعي قد نأى بنفسه دائماً عن السير في أي مشروع سياسي خاص، واستطراداً عن الارتباط بأي خارج إقليمي أو دولي.
لا جدال في ما تقدم، بوجه عام. نعم كان هنالك شيء من القلق صاحب اندماجهم في الكيان اللبناني لفترة نراها وجيزة ـ وقد يراها آخرون طويلة ـ نتيجة واقع الغبن من جهة، وانشداد كثرة منهم، من جهة ثانية، الى "تمامية عروبية" ظلت حتى عهد قريب تعتبر الكيانيات القطرية، الناجمة عن تقسيمات سايكس ـ بيكو، نشوزاً ينبغي "تصحيحه". بيد أن ذلك القلق تبدّد تدريجاً بفعل عوامل ثلاثة:
أ ـ التزام البيوت السياسية الشيعية التقليدية الفكرة اللبنانية على مدى عقود من تعاطيها السياسة (الأسعدية، الحمادية، العسيرانية، الخليلية، الزينية، البزّية، البيضونية، الفوّازية، التامِرية.. إلخ ـ الى بعض البيوت الدينية التي تعاطت السياسة). هذا بمعزل من تقييمنا لأداء تلك "الشيعية السياسية" على المستويات الأخرى، من اجتماعية وديموقراطية وما الى ذلك مما يدخل في نطاق "الحداثة".
ب ـ إحراز الجماعة الشيعية اللبنانية ترقياً ملحوظاً على الصعد الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية والتنموية، بفضل مجهودات ذاتية بالدرجة الأولى، وبحكم صيرورة التطور العام، من دون أن نهمل تقديمات الدولة تحت مسمّى "مجلس الجنوب"، ولا إشباع إداراتها بالموظفين الشيعة في العقدين الأخيرين، ومن دون أن نهمل ـ قبل ذلك ـ ثمرات الحقبة الشهابية على صعيدي التنمية الشاملة وتحديث مؤسسات الدولة. كل ذلك، الى ما سيأتي في الفقرة التالية، جعل مقولة "الحرمان الشيعي"، المعوّقة للاندماج الوطني، غير ذات موضوع Caduc (الملاحظ أن حزب الله يجتهد بصورة منهجية لإحلال "أسطورة المقاومة" مكان "أسطورة الحرمان"، كرافعة للحراك الشيعي السياسي ـ الاجتماعي. في المقابل بدت حركة "أمل" الشيعية مجرّدة من "أسطورتها" الأثيرة!).
ج ـ اتفاق الطائف الذي منح المسلمين اللبنانيين عموماً، بمن فيهم الشيعة، توازناً جديداً في السلطة، أكثر إنصافاً من ذي قبل، لقاء إقرارهم بنهائية الوطن اللبناني وباعتبار المسيحيين "نصف لبنان" في العقد الوطني ومترتباته الدولتيّة، بقطع النظر عن متغيرات الديموغرافيا. هذا الى محافظته على رمزية رأس الدولة، بصفته المسيحية المارونية.
وفي ذلك السياق التاريخي الاندماجي، كان هنالك دورٌ مشهود للمطالعات الفقهية والسياسية الشجاعة التي قدمها أعلامٌ من أئمة الشيعة اللبنانيين وقادة الرأي فيهم، لا سيما الأئمة محمد جواد مغنية وموسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين. وقد أوصى هذا الأخير أبناءه وإخوانه الشيعة العرب "أن يدمجوا أنفسهم في مجتمعاتهم وفي أوطانهم (...) وأن لا يخترعوا لأنفسهم مشروعاً خاصاً يميزهم عن غيرهم تحت أي ستار من العناوين"، مقدماً تجربة الاندماج الشيعي في الوطن اللبناني، خصوصاً بما آلت إليه مع اتفاق الطائف، باعتبارها "نموذجاً للنجاح الوحيد الذي تحقق في العصر الحديث لتصحيح وضع الشيعة في مجتمع متنوع" (الوصايا، ص 27 و31).
إن هذا الموقف/ الخيار، معطوفاً على توجيهات المراجع الشيعية العليا ما بين النجف وجبل عامل على مدى عقود، لا سيما رفضهم القول بـ"ولاية الفقيه العامة"، يؤكد من دون لبس أن مشروع الشيعة في أي بلد تعددي ينبغي أن يكون مشروع الدولة الوطنية ذاته في هذا البلد، بتعاقد مع سائر مكونات المجتمع ومن دون استقواء بالخارج. وعليه فإن الشيعة العرب، بمن فيهم الشيعة اللبنانيون، ينبغي أن يلتزموا نظامين للمصلحة غير متناقضين: نظام المصلحة الوطنية المؤسس على العقد الوطني، ونظام المصلحة العربية المتحصل من العمل العربي المشترك، في سياق التكامل الحر والديموقراطي، بعيداً عن أي نزعة وصائية أو إسقاطات ايديولوجية... ومن نافل القول أن التزامهم المصلحة العربية انما يمر، حتماً، بالشرعيات الدستورية في دولهم الوطنية (مع التشديد على هذا المعنى الأخير).
[ 3 ـ تأثير الخيار الفقهي على مسألة الاندماج الوطني
لدى سماعنا عبارة "ولاية الفقيه" يذهب تفكير الغالبية العظمى من السامعين الى إيران الخمينية على وجه الحصر، لكأن سائر الشيعة في العالم لا يأخذون بهذه النظرية. والحال أنه لا خلاف بين الشيعة الإمامية، ولا حتى بين أهل السنة والجماعة، على "ولاية" الفقيه، من حيث المبدأ ("العلماء ورثة الأنبياء")، بل الخلاف كل الخلاف هو على "حدود" هذه الولاية: بين أن تكون "ولاية عامة"، وهي ما يقول به الإمام الخميني ومقلّدوه في العالم ـ وبين أن تكون "ولاية خاصة" محدودة النطاق، وهي ما يقول به سائر الشيعة الإمامية منذ نحو ألف عام، من مقلدي المراجع الشيعية في النجف وجبل عامل، وحتى غالبية الشيعة في إيران نفسها ما قبل استتباب الأمر للجمهورية الإسلامية بقيادتها الخمينية (ثمة معارضة متنامية لفكرة "الولاية العامة" في إيران اليوم).
بين "عامة" و"خاصة" ثمة فارق جوهري هو كل المسألة في موضوعنا (الاندماج الوطني)، كما سنحاول أن نبين باختصار وتبسيط لا يخلاّن بالمصطلح.
[ بحسب نظرية "ولاية الفقيه العامة" فإن الولي الفقيه هو "نائب الإمام الغائب ـ نائب المهدي المنتظر"، وهو يتمتع بصلاحيات هذا الأخير في الولاية على دماء الناس وأموالهم وخياراتهم السياسية على صعيد نظام الدولة.
هذه النظرية، كما بسطها الإمام الخميني، تدعو الى إقامة حكومة إسلامية في "عصر الغيبة" تمهد لقيام دولة المهدي المنتظر في "عصر الظهور" الذي بات وشيكاً وتوترات "علاماته". وبحسب هذه الأطروحة فإن الفقيه الذي ينجح في إقامة الحكومة الإسلامية في بلد ما، وفقاً لمعايير السلطة الإمامية، كما حصل في إيران منذ 1979، يكون ولي أمر المسلمين ونائب الإمام. وبالتالي ينبغي على سائر مراجع التقليد الشيعة في العالم أن يوالوه سياسياً، تحقيقاً لمصلحة المشروع المهدوي.
[ أما بحسب "ولاية الفقيه الخاصة" فإن سلطة الولي الفقيه ليس من شأنها أن تطاول دماء الناس وأموالهم وخياراتهم السياسية (فهذه كلها من صلاحيات المعصوم وحده، أو المأذون من قبله.. ولا مأذون من قبل المعصوم الغائب)، بل تبقى محصورة في أمور محددة، من قبيل الزواج والطلاق والإرث والأوقاف والمعاملات الجارية، وعلى من لا ولي له، وما الى ذلك مما يدخل في باب "المسائل الحسبية" و"الأحوال الشخصية".
فإذا نجح فقيه في إقامة حكومة إسلامية في بلد ما، فإن سلطته لا تتجاوز حدود ذلك البلد، كما أن سلطته هذه إنما تستمد شرعيتها من رضى المحكومين لا من أصل تشريعي ديني. وعليه فإن العمل بولاية الفقيه العامة من شأنه ـ بحسب هذا الرأي ـ أن "يستجر مفاسد عظيمة"، فضلاً عن كونه لا يملك سنداً فقهياً معتبراً، بل يقوم على مسوّغات سياسية ـ سلطوية لا غير.
غايتنا من المقارنة السريعة أعلاه هي القول بأن التقليد الفقهي الذي درج عليه الشيعة اللبنانيون منذ مئات السنين، أي "ولاية الفقيه الخاصة"، قد شجع اندماجهم في الدولة الوطنية اللبنانية، لأنه بكل بساطة لا يربطهم بأية مرجعية سياسية خارجية ولا يشكل قيداً على تعاقدهم مع سائر مكونات المجتمع. أما "الولاية العامة" التي يأخذ بها حزب الله، و"يحتجز" لها قسماً من الشيعة اللبنانيين، فتشكل عائقاً أمام اندماجهم الوطني، لأنها بكل بساطة أيضاً تربط قرارهم السياسي بمرجعية خارجية.
[ 4 ـ المقاومة.. من رافعة الى مشكلة!
كان يمكن للاختلاف المشار إليه في القسم III أن يبقى في حيز التعبير الديموقراطي، عن اجتهادين فقهيين وعن تعددية سياسية داخل الطائفة الشيعية، لولا أن حزب الله قد نشأ وبنى كل حيثيته على مشروع مقاومة مسلحة أتاحت له تضخماً وفائض قوة غير عاديين، في بلد قليل المساحة والسكان، شديد التنوع، مفتوح بتكوينه على المؤثرات الخارجية. وقد حصل التضخم وفائض القوة بفضل دعم ثابت على مدى عقدين حتى الآن من قبل دولتين إقليميتين هما إيران وسوريا. صحيح أن هذا الدعم الإقليمي وفّر للمقاومة المسلحة ضد إسرائيل زخماً غير مسبوق في تاريخ المقاومات اللبنانية، ومنحها صورة باهرة، ولكنه "فخّخها" بخطر ومأزق.
خطورة هذا الدعم تأتت من أهدافه وتوظيفاته وفق خطة من أربع نقاط أساسية بينتها وقائع التجربة ومآلات الأمور:
1 ـ أن ينفرد حزب الله، رغم تكوينه الأحادي المذهب، بالمقاومة المسلحة، وهو ما حصل بعد العام 1990 بضغط سوري شديد. وقد اقتضى الأمر إلغاء المقاومات المسلحة الأخرى، وبالقوة أحياناً، لا سيما "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية"، بحيث أصبحت المقاومة شيعية صافية، بمسمّى إسلامي لا يطابق واقعها الفعلي.
2 ـ أن تبقى هذه المقاومة مستقلة عن الدولة. وإذ تكفلت الوصاية السورية بإبقاء الدولة اللبنانية ضعيفة وفاقدة القرار السيادي، فقد غدت مقاومة حزب الله أقوى من الدولة اللبنانية.
3 ـ أن تلبي استراتيجية هذه المقاومة متطلبات الدولتين الداعمتين (إيران وسوريا) أولاً. أي أن يأتي لبنان "أخيراً" في أجندتها.
4 ـ وفي ذلك السياق استطاع حزب الله أن يتصدّر تمثيل الشيعة اللبنانيين، وأن ينفرد بقرارهم في القضايا المصيرية، بعد استتباعه حركة "أمل".
ظاهرُ القوة و"الأمتياز" لصالح حزب الله في هذه المعادلة ينطوي على "مأزق شيعي": فاستقلال حزب الله عن الدولة، واحتجازه الطائفة الشيعية في مخيمه، وتصديه لمهمات إقليمية عظمى دون استشارة أحد في لبنان... كل ذلك وضع الشيعة اللبنانيين ويضعهم في دائرة مجازفة كبرى، من حيث تكليفهم أعباء بطولة استثنائية، غير ممكنة وغير مطلوبة أصلاً.
يمكن التعبير عن هذا المأزق نفسه بطريقة أخرى: لما كان حزب الله مصمماً على التمادي في مراكمة القوة الذاتية، ومصمماً على رفض الاندراج في الدولة، ولما كان أفق المقاومة المسلحة قد بات مسدوداً على الصعيد الاستراتيجي القريب والبعيد (بسبب ترتيبات القرار 1701، بالإضافة الى نُضج القرارين الدولي والعربي لإنجاز التسوية السلمية في المنطقة)، فإن "تصريف" قوة الحزب العسكرية لم يعد يجد من سبيل أمامه سوى الداخل اللبناني، إن باستخدام العنف المسلح لحماية خياراته (نموذج 7 أيار 2008)، أو بتوظيف تلك القوة، ضغطاً وتهويلاً، لفرض صيغة "المثالثة" بدلاً من "المناصفة". ولا ضرورة لأن يكون الفرض دستورياً، بل يكفي أن يطبّق عملياً وبحكم الأمر الواقع. ومن هنا تمسك حزب الله باتفاق الدوحة و"الثلث المعطل" كصيغة للحكم مستمرة بعد الانتخابات النيابية المقبلة. بذلك يستطيع قرار الحزب أن يشكل قيداً على الدولة والمجتمع معاً.. الى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
هذا المأزق، بحسب قراءتنا، هو الذي حوّل المقاومة من "رافعة" الى "مشكلة": مشكلة للدولة وللمجتمع وللشيعة ولحزب الله نفسه! والمنطق السليم يقول بأن الخروج من المأزق لا يكون بالهروب الى الأمام.
[ 5 ـ سبيل الخروج من المأزق
إن طبيعة الاجتماع اللبناني ومصلحة العيش المشترك ـ في ضوء التجربة التاريخية ودورها، لا سيما تجربة المقاومات المسلحة على أرض لبنان منذ العام 1969 حتى الآن ـ تحتمان أن تتولى الدولة اللبنانية وحدها، دون شريك في القيادة والقرار، مهمات الدفاع الوطني، وأن تقوم باحتكار القوة المسلحة لنفسها.
لا يستند هذا الرأي الى مسلّمات القانون الدستوري فحسب، بل يستند أيضاً الى خصوصية في الحالة اللبنانية نراها كما يلي: إن مقاومةً بالحد الأدنى، تقوم بها الدولة بوسائلها المتعددة، لهي أكثر جدوى وأماناً من مقاومة بالحد الأقصى تغرّد خارج الدولة.
هذا الأمر كان ينبغي أن يكون موضع تطبيق صارم منذ العام 1990 (عودة الدولة بموجب اتفاق الطائف)، فكيف بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000، والانسحاب السوري عام 2005، ومع وجود قناعة قوية بأن تحرير مزارع شبعا متيسّر بالوسائل السياسية والديبلوماسية، خصوصاً إذا ما تعاونت الحكومة السورية في موضوع ترسيم الحدود بين البلدين؟!
الى ذلك جاء القرار الدولي 1701، على أثر حرب تموز 2006 التدميرية، ليشكل، بما يتوفر لديه من وسائل فعّالة، الحل العملي الأمثل لمعالجة "ضعف" الدولة اللبنانية إزاء العدوانية الإسرائيلية من جهة و"الغلوّ المقاومتي" من جهة ثانية.
ما تقدم يحملنا على القول بأن القرار الدولي 1701، بمندرجاته كافة ومجتمعة، يشكل أساساً صلباً لاستراتيجية دفاعية ناجعة في الحالة اللبنانية، لا تعرّض الاجتماع اللبناني لمجازفات (على نحو ما يعرّضه اقتراح "تعميم المقاومة الشعبية المسلحة" أو استمرار المقاومة حكراً على حزب طائفي)، كما ويحملنا على دعوة حزب الله الى المبادرة لحل مؤسسة "المقاومة الإسلامية" وتقديم سلاحه، عن رضى، الى الدولة اللبنانية، على غرار ما فعلت سابقاً أحزاب المقاومات الأخرى في لبنان.
إن الربط الضمني أو المعلن بين حيثية الطائفة الشيعية في المتحد اللبناني وبين سلاح "مقاومتها"، فضلاً عن كونه ربطاً تعسفياً، لهو مغامرة طائشة تُفضي الى تعميم المغامرة ذاتها على سائر الطوائف اللبنانية والى إسقاط مشروع الدولة الواحدة. ففي مثل هذا المضمار، كما علمتنا التجارب، ما من طائفة لبنانية أقل "شطارة" من أخواتها.. ولو بعد حين!
المراد بالمصلحة ههنا ثلاثة مستويات: الشيعي الخاص، فاللبناني العام، فالعربي الأعمّ. أو قُل هي مصلحة الشيعة اللبنانيين في إطار حاضنيتَهم، أو دائرتي انتمائهم، اللبنانية والعربية. هذا من دون الوقوع في شرك التناقض المفتعل بين المستويات الثلاثة. والمقاربة تجنبت الاستناد الى "معيار المصلحة الإسلامية العامة"، لأن هذا المعيار، بالمعنى الجيوبوليتيكي، لم يعد قائماً منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية وخروج مصطلح "دار الإسلام" من التداول. وحتى من خارج الاعتبارات الجيوبوليتيكية، يبقى هذا المعيار خلافياً جداً اليوم بين المسلمين أنفسهم، فيكاد يكون في منزلة "الافتراضي"، على الرغم من وجود رابطة شكلية للعالم الإسلامي. ذلك بسبب الانشطار السني - الشيعي الذاهب الى مزيد من الشيء نفسه، فضلاً عن اصطفافَي التطرف والاعتدال داخل كل من التيارين المذهبيَين، وبسبب الانشطارات القومية المتجسدة في دول نهائية أو شبه نهائية، ناهيك عن أفول عصر الإمبراطوريات القائمة على الدين أو العرق. وبما هي مقاربة من منظور "المصلحة"، فالإيديولوجيا ليست إذن من بضاعتها؛ فلا هي تُهوّل بها، ولا هي تخضع ـ بطبيعة الحال ـ لابتزازها.
[ 1ـ ثلاث وقائع شيعية
ثمة في المشهد العربي الراهن ثلاث وقائع شيعية يصعب تجاهلها، كما لا يحسن تناولها بمنطق المكابرة.
[ هنالك أولاً ما يصحّ أن يسمى بـ"مسألة شيعية" باتت مطروحة بقوة في الواقع العربي غير المعزول عن جواره الإقليمي وأجندات الدول الكبرى. من تجليات هذه المسألة أن صار يُحكى، وبأصوات حكومية مرتفعة تجاوزت لغة الديبلوماسية الهادئة، عن اهتزاز ولاء بعض الشيعة العرب لدولهم الوطنية، جرّاء تأثرهم بمركزية إيرانية تسعى جاهدة لمدّ نفوذها في المنطقة العربية، مستغلة وجود ثغرات ومُحدثة أخرى في بنيان تلك الدول. ومن تجلياتها أيضاً توجيه اتهام الى الجمهورية الإسلامية الإيرانية بأنها تقود حركة دعوتية لنشر التشيّع الإمامي الإثني عشري، بنسخته الفارسية الجديدة، أي النسخة الخمينية، في البيئات السنية العربية. هذا في زمن أصبح "التقريب" هو قاعدة التعامل المقبولة بين المذاهب الإسلامية، وفيما اتفق العقلاء من مختلف الأديان والمذاهب على أنه لم يعد مسوّغ تاريخي أو أخلاقي أو معرفي لحركتي "الدعوة" و"التبشير" على حد سواء.
ربطاً بهذه الواقعة، يمكن القول أن الحكم الإيراني ـ باستثناء الفترة الخاتمية ـ لم يكلف نفسه عناء دفع التهمة، بل أقدم دائماً على ما يؤكدها. تكفي إشارتان بليغتان في هذا الصدد: فالإمام الخميني نفسه كان قد صرّح غداة انتصار ثورته بأنه "قد آن الأوان كي يقود الفرس العالم الإسلامي، بعدما قاده العرب فالكرد فالمماليك فالأتراك خلال حقب سالفة"؛ وها هو الرئيس الحالي أحمدي نجاد يطالعنا يومياً بمواعيد "صادقة" لقيام "الشرق الأوسط الإسلامي"، بقيادته الرشيدة وبعناية "صاحب العصر والزمان"!. مشكلتنا مع هذه النزعة الإيرانية التوسعية مزدوجة. فهي، بتطبيقاتها العملية، إنما تتم حكماً وبالضرورة على حساب المصالح الحيوية للإقليم العربي. وهي، بانعكاساتها على الشيعة العرب، تُظهرهم وكأنهم "طابور خامس" في مجتمعاتهم الوطنية. هذا بمعزل من حقيقة اختياراتهم، أو اختيارات سوادهم الأعظم. ولنا عودة الى هذه النقطة الأخيرة.
[ ثانية الوقائع أن لـ"حزب الله ـ لبنان"، ذي الارتباط العضوي بمرجعية السلطة في إيران على قاعدة "ولاية الفقيه العامة"، دوراً نشطاً في تأجيج تلك المسألة ـ المشكلة، وهو دور قد تعدى بيئته اللبنانية الى أقطار عربية أخرى، من العراق الى فلسطين والأردن، الى بعض دول الخليج، وصولاً الى مصر والمغرب. علماً أن هذا الدور لا يعفي أطرافاً مناوئة للنفود الإيراني من مسؤولية المساهمة في عملية التأجيج تلك.
وقد جاءت الأزمة الأخيرة بين الدولة المصرية وحزب الله لتظهّر المشكلة بصورة دراماتيكية تبدو حتى الآن عصيّة على الاحتواء، ولتجعل الحزب وجمهوره في وضع شديد الحرج، إذا شئنا عدم المكابرة. فذريعة مساندة "حماس" في غزة، عبر الحدود المصرية ومن دون إذن سلطاتها، لم تقنع إلا صاحب الذريعة وأنصاره الأقربين. أما القول بأن الرد المصري الشديد على حزب الله لم ينل من معنويات هذا الأخير ومكانته في المنطقة العربية فهو قول ـ إن صحّ ـ لا ينفي أن ما حصل قد "نال فعلاً" من مصالح الشيعة اللبنانيين العاملين في البلدان العربية. وإذا كان موقف الأمين العام للأمم المتحدة بخصوص تلك الازمة "قد وضع المنظمة الدولية في مواجهة حركات المقاومة في المنطقة" ـ بحسب تصريح السيد نصرالله ـ أفلا يمكن القول من زاوية نظر أخرى بأن مداخلات حزب الله غير العابئة بالقانون الدولي "قد تضع الشيعة اللبنانيين في مواجهة الشرعية الدولية"؟! أخيراً وليس آخراً، فإن تصريح السيد نصرالله بأن مقاومته "قادرة على أن تحكم بلداً أكبر من لبنان بمائة مرة" إنما كان تصريحاً يفتقر الى الرويّة والدراية. وإذا أردنا أن نُحسن الظن فيه نقول إنه كان "فلتة" نسأل الله أن يقينا شرّها. فقد أجاب وزير الخارجية المصري على الفور ـ بعدما فهم الرسالة ـ بأن مصر أقوى وأعزّ من أن يؤثّر فيها مائة حزب من وزن "حزب الله"!
[ الواقعة الثالثة أن حزب الله، بدعوته ونشاطه العابرين للوطنية اللبنانية، وبالوسائل المادية الاستثنائية المتوفرة له من المصدر الإيراني ذاته، بالإضافة الى تضحياته المعروفة في مجال المقاومة المسلحة ضد إسرائيل وفق استراتيجيته الخاصة وعقيدته الأكثر خصوصية.. هذا الحزب قد حقق لنفسه في العقد الأخير حضوراً طاغياً داخل الجماعة الشيعية اللبنانية، فبدا مختصراً هذه الجماعة بذاته، محتكراً النطق باسمها في المواقف المفصلية. ولقد كان لهذا الحضور الطاغي أن حجب، أو طمس، الخيارات التاريخية للجماعة على الصعيدين الوطني اللبناني والفقهي الشيعي، ما أثار شبهة التزاحم بين الولاء الوطني للشيعة اللبنانيين وبين وفائهم لرابطة التشيّع العامة، كما أظهرهم في عين اللبنانيين الآخرين عقبة أمام الاستقرار وعبئاً على "الصيغة" (نعتقد بقوة، لا بل نعرف، أن موقف العماد ميشال عون، غير المتحفظ حالياً عن توجهات حزب الله، لا يعبّر عن اطمئنان مسيحي فعلي لتلك التوجهات، وهو في تقديرنا موقف عابر، يصدر عن انتهازية وكيدية مكشوفتين، على قاعدة "ليس حباً بمعاوية بل كراهيةً بعليّ".. وبطبيعة الحال لا حاجة بنا الى تبيان الخشية السنية والدرزية من تلك التوجهات).
تلك الوقائع الثلاث باتت تشكل عبئاً مستجداً على الجماعات الشيعية في بيئاتها الوطنية العربية، بعدما كانت هذه الجماعات قد سعت، بشق النفس وعلى مدى قرن كامل، الى تجاوز مفاعيل الحقبة العثمانية بمحمولها التمييزي المذهبي. قد لا يكون ذاك التجاوز تاماً وناجزاً، ولكنه كان مُرضياً وقابلاً للتطور في الاتجاه السليم، بفضل مفاعيل الحداثة التي رفعت الكثير من مظالم القرون الخالية، وبفضل الخيارات العاقلة للشيعة العرب في دولهم الوطنية التي نشأت على أنقاض الحقبة العثمانية والكولونياليات الغربية.
[ 2 ـ الخيار التاريخي للشيعة اللبنانيين
لا جدال في أن الخيار التاريخي للشيعة اللبنانيين على الصعيد الوطني إنما كان الاندراج فالاندماج في الكيان السياسي اللبناني وعقيدته الوطنية، منذ تأسيس الكيان 1920 ثم الاستقلال 1943. وبهذا المعنى اعتُبرت الجماعة الشيعية، في نظر مؤرخي الحالة اللبنانية، "طائفة كيانية". هذا الخيار لم يكن ليتنافى مع سعيهم الدائم لتحسين شروط اندماجهم في الدولة، أي تحديداً لرفع الغبن السياسي والإداري والتنموي الذي كان قد لحق بهم ابتداء (جوهر حركة الإمام موسى الصدر والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى). علماً أن ذاك السعي قد نأى بنفسه دائماً عن السير في أي مشروع سياسي خاص، واستطراداً عن الارتباط بأي خارج إقليمي أو دولي.
لا جدال في ما تقدم، بوجه عام. نعم كان هنالك شيء من القلق صاحب اندماجهم في الكيان اللبناني لفترة نراها وجيزة ـ وقد يراها آخرون طويلة ـ نتيجة واقع الغبن من جهة، وانشداد كثرة منهم، من جهة ثانية، الى "تمامية عروبية" ظلت حتى عهد قريب تعتبر الكيانيات القطرية، الناجمة عن تقسيمات سايكس ـ بيكو، نشوزاً ينبغي "تصحيحه". بيد أن ذلك القلق تبدّد تدريجاً بفعل عوامل ثلاثة:
أ ـ التزام البيوت السياسية الشيعية التقليدية الفكرة اللبنانية على مدى عقود من تعاطيها السياسة (الأسعدية، الحمادية، العسيرانية، الخليلية، الزينية، البزّية، البيضونية، الفوّازية، التامِرية.. إلخ ـ الى بعض البيوت الدينية التي تعاطت السياسة). هذا بمعزل من تقييمنا لأداء تلك "الشيعية السياسية" على المستويات الأخرى، من اجتماعية وديموقراطية وما الى ذلك مما يدخل في نطاق "الحداثة".
ب ـ إحراز الجماعة الشيعية اللبنانية ترقياً ملحوظاً على الصعد الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية والتنموية، بفضل مجهودات ذاتية بالدرجة الأولى، وبحكم صيرورة التطور العام، من دون أن نهمل تقديمات الدولة تحت مسمّى "مجلس الجنوب"، ولا إشباع إداراتها بالموظفين الشيعة في العقدين الأخيرين، ومن دون أن نهمل ـ قبل ذلك ـ ثمرات الحقبة الشهابية على صعيدي التنمية الشاملة وتحديث مؤسسات الدولة. كل ذلك، الى ما سيأتي في الفقرة التالية، جعل مقولة "الحرمان الشيعي"، المعوّقة للاندماج الوطني، غير ذات موضوع Caduc (الملاحظ أن حزب الله يجتهد بصورة منهجية لإحلال "أسطورة المقاومة" مكان "أسطورة الحرمان"، كرافعة للحراك الشيعي السياسي ـ الاجتماعي. في المقابل بدت حركة "أمل" الشيعية مجرّدة من "أسطورتها" الأثيرة!).
ج ـ اتفاق الطائف الذي منح المسلمين اللبنانيين عموماً، بمن فيهم الشيعة، توازناً جديداً في السلطة، أكثر إنصافاً من ذي قبل، لقاء إقرارهم بنهائية الوطن اللبناني وباعتبار المسيحيين "نصف لبنان" في العقد الوطني ومترتباته الدولتيّة، بقطع النظر عن متغيرات الديموغرافيا. هذا الى محافظته على رمزية رأس الدولة، بصفته المسيحية المارونية.
وفي ذلك السياق التاريخي الاندماجي، كان هنالك دورٌ مشهود للمطالعات الفقهية والسياسية الشجاعة التي قدمها أعلامٌ من أئمة الشيعة اللبنانيين وقادة الرأي فيهم، لا سيما الأئمة محمد جواد مغنية وموسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين. وقد أوصى هذا الأخير أبناءه وإخوانه الشيعة العرب "أن يدمجوا أنفسهم في مجتمعاتهم وفي أوطانهم (...) وأن لا يخترعوا لأنفسهم مشروعاً خاصاً يميزهم عن غيرهم تحت أي ستار من العناوين"، مقدماً تجربة الاندماج الشيعي في الوطن اللبناني، خصوصاً بما آلت إليه مع اتفاق الطائف، باعتبارها "نموذجاً للنجاح الوحيد الذي تحقق في العصر الحديث لتصحيح وضع الشيعة في مجتمع متنوع" (الوصايا، ص 27 و31).
إن هذا الموقف/ الخيار، معطوفاً على توجيهات المراجع الشيعية العليا ما بين النجف وجبل عامل على مدى عقود، لا سيما رفضهم القول بـ"ولاية الفقيه العامة"، يؤكد من دون لبس أن مشروع الشيعة في أي بلد تعددي ينبغي أن يكون مشروع الدولة الوطنية ذاته في هذا البلد، بتعاقد مع سائر مكونات المجتمع ومن دون استقواء بالخارج. وعليه فإن الشيعة العرب، بمن فيهم الشيعة اللبنانيون، ينبغي أن يلتزموا نظامين للمصلحة غير متناقضين: نظام المصلحة الوطنية المؤسس على العقد الوطني، ونظام المصلحة العربية المتحصل من العمل العربي المشترك، في سياق التكامل الحر والديموقراطي، بعيداً عن أي نزعة وصائية أو إسقاطات ايديولوجية... ومن نافل القول أن التزامهم المصلحة العربية انما يمر، حتماً، بالشرعيات الدستورية في دولهم الوطنية (مع التشديد على هذا المعنى الأخير).
[ 3 ـ تأثير الخيار الفقهي على مسألة الاندماج الوطني
لدى سماعنا عبارة "ولاية الفقيه" يذهب تفكير الغالبية العظمى من السامعين الى إيران الخمينية على وجه الحصر، لكأن سائر الشيعة في العالم لا يأخذون بهذه النظرية. والحال أنه لا خلاف بين الشيعة الإمامية، ولا حتى بين أهل السنة والجماعة، على "ولاية" الفقيه، من حيث المبدأ ("العلماء ورثة الأنبياء")، بل الخلاف كل الخلاف هو على "حدود" هذه الولاية: بين أن تكون "ولاية عامة"، وهي ما يقول به الإمام الخميني ومقلّدوه في العالم ـ وبين أن تكون "ولاية خاصة" محدودة النطاق، وهي ما يقول به سائر الشيعة الإمامية منذ نحو ألف عام، من مقلدي المراجع الشيعية في النجف وجبل عامل، وحتى غالبية الشيعة في إيران نفسها ما قبل استتباب الأمر للجمهورية الإسلامية بقيادتها الخمينية (ثمة معارضة متنامية لفكرة "الولاية العامة" في إيران اليوم).
بين "عامة" و"خاصة" ثمة فارق جوهري هو كل المسألة في موضوعنا (الاندماج الوطني)، كما سنحاول أن نبين باختصار وتبسيط لا يخلاّن بالمصطلح.
[ بحسب نظرية "ولاية الفقيه العامة" فإن الولي الفقيه هو "نائب الإمام الغائب ـ نائب المهدي المنتظر"، وهو يتمتع بصلاحيات هذا الأخير في الولاية على دماء الناس وأموالهم وخياراتهم السياسية على صعيد نظام الدولة.
هذه النظرية، كما بسطها الإمام الخميني، تدعو الى إقامة حكومة إسلامية في "عصر الغيبة" تمهد لقيام دولة المهدي المنتظر في "عصر الظهور" الذي بات وشيكاً وتوترات "علاماته". وبحسب هذه الأطروحة فإن الفقيه الذي ينجح في إقامة الحكومة الإسلامية في بلد ما، وفقاً لمعايير السلطة الإمامية، كما حصل في إيران منذ 1979، يكون ولي أمر المسلمين ونائب الإمام. وبالتالي ينبغي على سائر مراجع التقليد الشيعة في العالم أن يوالوه سياسياً، تحقيقاً لمصلحة المشروع المهدوي.
[ أما بحسب "ولاية الفقيه الخاصة" فإن سلطة الولي الفقيه ليس من شأنها أن تطاول دماء الناس وأموالهم وخياراتهم السياسية (فهذه كلها من صلاحيات المعصوم وحده، أو المأذون من قبله.. ولا مأذون من قبل المعصوم الغائب)، بل تبقى محصورة في أمور محددة، من قبيل الزواج والطلاق والإرث والأوقاف والمعاملات الجارية، وعلى من لا ولي له، وما الى ذلك مما يدخل في باب "المسائل الحسبية" و"الأحوال الشخصية".
فإذا نجح فقيه في إقامة حكومة إسلامية في بلد ما، فإن سلطته لا تتجاوز حدود ذلك البلد، كما أن سلطته هذه إنما تستمد شرعيتها من رضى المحكومين لا من أصل تشريعي ديني. وعليه فإن العمل بولاية الفقيه العامة من شأنه ـ بحسب هذا الرأي ـ أن "يستجر مفاسد عظيمة"، فضلاً عن كونه لا يملك سنداً فقهياً معتبراً، بل يقوم على مسوّغات سياسية ـ سلطوية لا غير.
غايتنا من المقارنة السريعة أعلاه هي القول بأن التقليد الفقهي الذي درج عليه الشيعة اللبنانيون منذ مئات السنين، أي "ولاية الفقيه الخاصة"، قد شجع اندماجهم في الدولة الوطنية اللبنانية، لأنه بكل بساطة لا يربطهم بأية مرجعية سياسية خارجية ولا يشكل قيداً على تعاقدهم مع سائر مكونات المجتمع. أما "الولاية العامة" التي يأخذ بها حزب الله، و"يحتجز" لها قسماً من الشيعة اللبنانيين، فتشكل عائقاً أمام اندماجهم الوطني، لأنها بكل بساطة أيضاً تربط قرارهم السياسي بمرجعية خارجية.
[ 4 ـ المقاومة.. من رافعة الى مشكلة!
كان يمكن للاختلاف المشار إليه في القسم III أن يبقى في حيز التعبير الديموقراطي، عن اجتهادين فقهيين وعن تعددية سياسية داخل الطائفة الشيعية، لولا أن حزب الله قد نشأ وبنى كل حيثيته على مشروع مقاومة مسلحة أتاحت له تضخماً وفائض قوة غير عاديين، في بلد قليل المساحة والسكان، شديد التنوع، مفتوح بتكوينه على المؤثرات الخارجية. وقد حصل التضخم وفائض القوة بفضل دعم ثابت على مدى عقدين حتى الآن من قبل دولتين إقليميتين هما إيران وسوريا. صحيح أن هذا الدعم الإقليمي وفّر للمقاومة المسلحة ضد إسرائيل زخماً غير مسبوق في تاريخ المقاومات اللبنانية، ومنحها صورة باهرة، ولكنه "فخّخها" بخطر ومأزق.
خطورة هذا الدعم تأتت من أهدافه وتوظيفاته وفق خطة من أربع نقاط أساسية بينتها وقائع التجربة ومآلات الأمور:
1 ـ أن ينفرد حزب الله، رغم تكوينه الأحادي المذهب، بالمقاومة المسلحة، وهو ما حصل بعد العام 1990 بضغط سوري شديد. وقد اقتضى الأمر إلغاء المقاومات المسلحة الأخرى، وبالقوة أحياناً، لا سيما "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية"، بحيث أصبحت المقاومة شيعية صافية، بمسمّى إسلامي لا يطابق واقعها الفعلي.
2 ـ أن تبقى هذه المقاومة مستقلة عن الدولة. وإذ تكفلت الوصاية السورية بإبقاء الدولة اللبنانية ضعيفة وفاقدة القرار السيادي، فقد غدت مقاومة حزب الله أقوى من الدولة اللبنانية.
3 ـ أن تلبي استراتيجية هذه المقاومة متطلبات الدولتين الداعمتين (إيران وسوريا) أولاً. أي أن يأتي لبنان "أخيراً" في أجندتها.
4 ـ وفي ذلك السياق استطاع حزب الله أن يتصدّر تمثيل الشيعة اللبنانيين، وأن ينفرد بقرارهم في القضايا المصيرية، بعد استتباعه حركة "أمل".
ظاهرُ القوة و"الأمتياز" لصالح حزب الله في هذه المعادلة ينطوي على "مأزق شيعي": فاستقلال حزب الله عن الدولة، واحتجازه الطائفة الشيعية في مخيمه، وتصديه لمهمات إقليمية عظمى دون استشارة أحد في لبنان... كل ذلك وضع الشيعة اللبنانيين ويضعهم في دائرة مجازفة كبرى، من حيث تكليفهم أعباء بطولة استثنائية، غير ممكنة وغير مطلوبة أصلاً.
يمكن التعبير عن هذا المأزق نفسه بطريقة أخرى: لما كان حزب الله مصمماً على التمادي في مراكمة القوة الذاتية، ومصمماً على رفض الاندراج في الدولة، ولما كان أفق المقاومة المسلحة قد بات مسدوداً على الصعيد الاستراتيجي القريب والبعيد (بسبب ترتيبات القرار 1701، بالإضافة الى نُضج القرارين الدولي والعربي لإنجاز التسوية السلمية في المنطقة)، فإن "تصريف" قوة الحزب العسكرية لم يعد يجد من سبيل أمامه سوى الداخل اللبناني، إن باستخدام العنف المسلح لحماية خياراته (نموذج 7 أيار 2008)، أو بتوظيف تلك القوة، ضغطاً وتهويلاً، لفرض صيغة "المثالثة" بدلاً من "المناصفة". ولا ضرورة لأن يكون الفرض دستورياً، بل يكفي أن يطبّق عملياً وبحكم الأمر الواقع. ومن هنا تمسك حزب الله باتفاق الدوحة و"الثلث المعطل" كصيغة للحكم مستمرة بعد الانتخابات النيابية المقبلة. بذلك يستطيع قرار الحزب أن يشكل قيداً على الدولة والمجتمع معاً.. الى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
هذا المأزق، بحسب قراءتنا، هو الذي حوّل المقاومة من "رافعة" الى "مشكلة": مشكلة للدولة وللمجتمع وللشيعة ولحزب الله نفسه! والمنطق السليم يقول بأن الخروج من المأزق لا يكون بالهروب الى الأمام.
[ 5 ـ سبيل الخروج من المأزق
إن طبيعة الاجتماع اللبناني ومصلحة العيش المشترك ـ في ضوء التجربة التاريخية ودورها، لا سيما تجربة المقاومات المسلحة على أرض لبنان منذ العام 1969 حتى الآن ـ تحتمان أن تتولى الدولة اللبنانية وحدها، دون شريك في القيادة والقرار، مهمات الدفاع الوطني، وأن تقوم باحتكار القوة المسلحة لنفسها.
لا يستند هذا الرأي الى مسلّمات القانون الدستوري فحسب، بل يستند أيضاً الى خصوصية في الحالة اللبنانية نراها كما يلي: إن مقاومةً بالحد الأدنى، تقوم بها الدولة بوسائلها المتعددة، لهي أكثر جدوى وأماناً من مقاومة بالحد الأقصى تغرّد خارج الدولة.
هذا الأمر كان ينبغي أن يكون موضع تطبيق صارم منذ العام 1990 (عودة الدولة بموجب اتفاق الطائف)، فكيف بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000، والانسحاب السوري عام 2005، ومع وجود قناعة قوية بأن تحرير مزارع شبعا متيسّر بالوسائل السياسية والديبلوماسية، خصوصاً إذا ما تعاونت الحكومة السورية في موضوع ترسيم الحدود بين البلدين؟!
الى ذلك جاء القرار الدولي 1701، على أثر حرب تموز 2006 التدميرية، ليشكل، بما يتوفر لديه من وسائل فعّالة، الحل العملي الأمثل لمعالجة "ضعف" الدولة اللبنانية إزاء العدوانية الإسرائيلية من جهة و"الغلوّ المقاومتي" من جهة ثانية.
ما تقدم يحملنا على القول بأن القرار الدولي 1701، بمندرجاته كافة ومجتمعة، يشكل أساساً صلباً لاستراتيجية دفاعية ناجعة في الحالة اللبنانية، لا تعرّض الاجتماع اللبناني لمجازفات (على نحو ما يعرّضه اقتراح "تعميم المقاومة الشعبية المسلحة" أو استمرار المقاومة حكراً على حزب طائفي)، كما ويحملنا على دعوة حزب الله الى المبادرة لحل مؤسسة "المقاومة الإسلامية" وتقديم سلاحه، عن رضى، الى الدولة اللبنانية، على غرار ما فعلت سابقاً أحزاب المقاومات الأخرى في لبنان.
إن الربط الضمني أو المعلن بين حيثية الطائفة الشيعية في المتحد اللبناني وبين سلاح "مقاومتها"، فضلاً عن كونه ربطاً تعسفياً، لهو مغامرة طائشة تُفضي الى تعميم المغامرة ذاتها على سائر الطوائف اللبنانية والى إسقاط مشروع الدولة الواحدة. ففي مثل هذا المضمار، كما علمتنا التجارب، ما من طائفة لبنانية أقل "شطارة" من أخواتها.. ولو بعد حين!
راشد الغنوشي: معركةُ الْهُوُيَّةِ الإسلاميةِ انتَصَرتْ ببلاد الْمَغْرِبِ
راشد الغنوشي: معركةُ الْهُوُيَّةِ الإسلاميةِ انتَصَرتْ ببلاد الْمَغْرِبِ
يُبْدِي المفكرُ الإسلامي راشد الغنوشي الأمين العام لحركة النهضة الإسلامية التونسية يقينًا تامًّا بانتصارِ الحركة الإسلامية بدول المغرب العربي في معركة الهوية الإسلامية، بمواجهة حركة التغريب التي استهدفت شعوب تلك المنطقة. ويَلْفِتُ الغنوشي إلى أن تونس شهدت أعنف فصول تلك المعركة، في ظِلِّ استخدام نظام بورقيبة كافَّةَ أجهزة الدولةِ لِفَرْضِ نموذج تغريب فاشِيّ، ومع ذلك أثبتت الهوية الإسلامية أنها أَعْمَقُ وأرسخ قَدَمًا من تلك المشاريع.
وفيما يتعَلَّقُ بقيادته لحركة النهضة من منفاه الاختياري في لندن، يعتبر الغنوشي أنّ الهجرة في تاريخ الدعوات وحركات التحرر ليست بأمر غريبٍ أو شاذٍّ، ولذا جعل الله سبحانه لعباده الْمُهَدَّدِين بالاضطهاد في الهجرة مَخْرَجًا.
كما قسم المفكر الإسلامي مواقفَ الحكومات المغاربية من الحركات الإسلامية لصنفين: صنف معتدل في موقفه من الإسلام والثقافة العربية، حتى وإن وُجِد في النظام استئصاليون، بخاصة في الجزائر والمغرب؛ حيث توجد نخبة فرانكفونية ذات نفوذ واسع. أما الصنف الثاني، فهو نموذج استئصالي يكاد ينفرد به النموذج التونسي، مُتَأَثِّرا بِمُؤَسِّسِه الرئيس بورقيبة، ولئن كان هذا الصنف من النخبة له وجودٌ متنفِّذٌ في الجزائر والمغرب وموريتانيا، لكنه لا يتمتع بنفس النفوذ، وليس له نفس التراث الذي له في تونس.
هذه التفاصيل وغيرها الكثير جاءت في ثنايا الحوار مع المفكر الإسلامي راشد الغنوشي، فإلى نص الحوار.
ـ في البدء يلفت نظرنا أن حركة النهضة الإسلامية في تونس انطلقت من منحى مقاومة العلمانية، ومحاولة إعادة إحياء لنهج الإسلام في تونس, لماذا بعد ذلك كانت هذه النقلة المغايرة إلى العمل السياسي؟! أم أن لهذه الانتقالية حتميةً تُقَرِّرُها ظروف الحال في البلاد العربية؟
* لئن اشتركت الحركات الإسلامية في مرجعية الإسلام كتابًا وسُنَّةً وإجماعًا، فهي تختلف في الصبغة العامة التي تصطبغ بها كُلُّ واحدةٍ منها باختلاف الملابسات التي حفت بظهورها، ففي بلد خاضع للاحتلال الأجنبي، كان الْمُرَجَّحُ أن تكون هموم التحرير هي الغالبةَ عليها، بينما في بلد يعاني من تأثيرات الغزو الثقافي، والعلمنة الطاغية على هُوُيَّةِ البلاد الإسلامية، فمن المنتظر أن يكون الهم الأعظم للحركة الإسلامية الدفاع عن مقومات الشخصية الإسلامية، ومواجهة ضروب العلمنة السائدة مواجهةً فكريةً عقديةً وتربويةً، وهو ما كان عليه الأمر في نهايات الستينيات من القرن العشرين المنصرم؛ حيث تَبَدَّى المشروع البورقيبي على حقيقته، وأثمرت بذوره محاصيلها بعد عَقْدٍ ونصفٍ من "الاستقلال"، تم فيها استخدامُ أجهزة الدولة الحديثة شديدةِ التمركز، وزَخَمِ معركة التحرير، والزعامة التاريخية الطاغية، الاستخدامَ الْمُفْرِطَ في تفكيك الإسلام؛ عقائدَ وشعائِرَ وقِيمًا ومؤسساتٍ وحضارةً، باعتبارها عوائِقَ في طريق الاستراتيجية العليا للدولة، التي يُلَخِّصُها شعار بورقيبة الأثير: "اللَّحَاق بركب الأمم المتحضرة".
لقد وُلِدَتِ الحركة الإسلامية كأحد أهم دفاعات المجتمع التونسي عن مقومات شخصيته، ووجوده، واستمراره، عَرَبِيًّا مُسْلِمًا، وامتدادًا للأمة العربية والإسلامية، وليس تابعًا صغيرًا لأمم الغرب. ولأن الطلب كان قويًّا على مقومات هذه الهوية، بسبب تفاقم الشعور بالخطر، فقد نشأت ونمتْ بسرعة ، فأعادتْ بِفَضْلِ الله الحياةَ للمساجد، وللمصاحفِ، وللشَّعَائِرِ، ولقِيَمِ الإسلام ، تُجَسِّرُ العلاقة بينها وبين عالم الحداثة في معاهد التعليم والجامعة والإدارة، وتمتد بها تِبَاعًا إلى كل مؤسسات المجتمع ومناشِطِه النَّقَابِيّة والثقافيّة والسياسيّة، انطلاقًا من منظور الإسلام التوحيدي الشامل، الذي يدعو المؤمنين به إلى أن يعبدوا الله الواحد الأحد بكل نفوسهم وفِكْرِهِم وجَوَارِحِهم، مُخْلِصِين له الدين في كل مسالكهم ومناشطهم، وإلا فهو الشرك.
ولذلك رغم أن الحركة نشأت حركةً دعويةً ثقافيةً، إلا أنها ما إن حققتْ قدرًا من النمو، حتى تنَبَّهَتْ دولة الاستبداد إليها، فاستدارت لها، ووجهتْ إليها مدافِعَهَا، ولا تزال تفعل ذلك معها ومع غيرها، ممن رفض أن يكون معارضة مدجنة .
ليس في مثل هذا النوع من الأنظمة خيارٌ ولا منزلةٌ وُسْطَى بين الأمرين: التَّدْجِين، أو المواجهة، ولكِ أن تقولي المقاومة بتعبير أخينا الدكتور المرزوقي ، وليس المعارضة؛ لأن هذه مكانها في نظام ديمقراطي يَعْتَرِفُ بالتعدد، وتداوُلِ السلطة عبر صناديق الاقتراع.
أما حيث يسودُ الاستبدادُ فلا مكان للحديث عن مُعَارَضَةٍ، وإنما عن مقاومةٍ لمواجهة احتلال داخلي، هو أَشَدُّ نكالًا من الاحتلال الخارجي، بل هو نائب عنه.
إن الحديث عن مصالحةٍ مع هذا النوع من الاحتلال هو أقرب -إذا كان الداعون إليهِ مخلصين جادِّين وليسوا مخادعين- إلى التَّمَنِّي والافتراض.
ـ شهدتْ حركتكم انفصال بعض الشخصيات القيادة، وانتهاجها نهجًا آخر، منهم زياد كريشان، وصلاح الدين الجورشي، واحميدة النيفر, فما السبب وراء هذا الانفصال؟ وهل هناك جهاتٌ لها ضِلَعٌ في هذا الانفصال؟
* ربما كان ذلك نتيجةً من نتائج مرحلة التَّأَقْلُم مع البيئة التونسية- في نهاية السبعينيات- التي كان قد أخذ يَمُرُّ بها فِكْرُ الحركة، الوافدُ في معظمه من البيئات الشرقية.، وهو لم تتوفر له الرؤية الواضحة، والأدوات الكفيلة باستيعابه داخِلَ نفس الحركة، فحصل افتراق قبل أن تتضح الرؤيا، فلم تتحرَّر مواطن الاختلاف إلا لَاحِقًا، وانصبّت على الموقف من الشريعة، ما هو مُلْزِمٌ لِزَمَاننا وما هو غير ملزم؟
وهي عند التحقيق مسائِلُ لا يَنْبَنِي عليها في الواقع الراهن عَمَلٌ، ذلك أنّ مطالب الحركة السياسية في تونس- وربما في معظم بلاد الإسلام- على اختلاف مرجعياتها الأيدولوجية - تكاد تتمحور حول الحريات السياسية، أي على الهيكل العام للدولة؛ إذْ يلتقي الجميع حول النضال من أجل دولةٍ مَدَنِيَّةٍ ديمقراطية، مهما اختلفَتْ مرجِعِيَّتُها، وذلك في مقابل دولة الاستبداد القائمةِ، بصرف النظر عن مرجعيتها علمانيةً كانتْ أم دينيةً، وبصرف النظر عن نوعية القوانين التي ستَرْتَضِيها المؤسسات الديمقراطية المنتخبةُ عند قيامها، إذ لا وَصَايَةَ لأحدٍ على الشعوب، ولا مَصْدَرَ للإلزام غير ما تلتزم به.
وفي المحصلة، فإن ذلك الاختلاف، وإن تَأَثَّرَ بمرحلة طفولة الحركة من حيث قلة النضج، فقد أسهم في كَسْرِ الجمود، والرأي الواحد، وفي تأهيل الحركة للتفاعل مع بيئتها، وتجاوُزِ مرحلة التتلمُذِ، والتقليد الأعمى للبضاعة المشرقية الوافدة، بما هَيَّأَ لإنتاج ما يُمْكِن أن يُنْعَتَ بخصوصيات تونسية ضِمْنَ المدرسة الإسلامية الوَسَطِيَّة. فليس فيما حدث ما يُمْكِنُ أن يُشْتَمَّ منه رائحةٌ لتآمُرٍ ومكايدة.
ـ رغم التطور الحاصل في العالم إزاء الحريات الشخصية، لا زالت تونس تخضع للقانون الصادر عام 1981، والذي يحظر على المرأة التونسية ارتداء الحجاب في الجامعات، والمدارس، والدوائر الحكومية، بل يَحْظُرُ على التونسية أنْ تضع صورتها وهي مُحَجَّبَةٌ في وثيقة رسمية, هل من أمل في تغيير هذا القانون، أو التخفيف منه بعض الشيء؟
* مسألة حظر الخمار؛ أي غطاء الرأس على المرأة التونسية، فضيحة بجلاجل -كما يقال-، لنظامٍ يتبجح بتجربة تحديثٍ رائدة. فضيحة تكشف عن الطبيعة الجوهرية العميقة لشخصية بورقيبة، ولمدرسته، ودولته :الاستبداد، والغرور، والاحتقار للشعب، والنُّزُوع العارم للتحكم، والاستخدام الْمُنْفَلِت لأدوات الدولة، وللظهير الخارجي في فَرْضِ نموذج التغرب الفاشي، وليس التَغَرُّب الليبرالي الديمقراطي.
ولا عجب؛ فبورقيبة ينتمي لجيلٍ كان شديدَ التَّأَثُّر بالنماذج الفاشية والاشتراكية، التي كانت شديدةَ الإيمان بالقدرات التنموية الخارقة للدولة عبر الحزب الواحد، والزعيم الملهم، باعتبارها الطريقَ الأسرع للتحديث، بمعنى محاكاة النموذج الغربي، وبالخصوص في علاقته بالدين، ونموذَجُهُ الثورة الفرنسية .
والأمر كما يذكر ابن خلدون؛ أن المغلوب يميل إلى تقليد غالبه، في زِيِّهِ ونِحْلَتِهِ فيما يظن أنه سببُ قُوَّتِه؛ فهو تقليدٌ شكْلِيٌّ للغالِبِ، ومنه تَحَلُّلُهُ من الدين، فكانت هجمة دولة الاستقلال في عهد مُؤَسِّسِها، كعهد خلفائه على الإسلام، دينًا وحضارةً ومؤسساتٍ، ومن ذلك استهداف الحجاب باعتباره تَحَدِّيًا شكليًّا صارخًا لتحديثهم الشكلي مناطِ اعتزازهم، وكأنّ المرأةَ الماليزيةَ الحريصةَ جِدًّا على الحجاب أَقَلُّ حداثةً من التونسية، بينما لا وَجْهَ للمقارنة بين أصالة ونجاح الأولى، بالقياس إلى الأخرى، في حين أنهما انطلقتا في نفس الفترة.
ومن قِصَرِ نَظَرِ وغرور القائمين على هذا المشروع الأوتوقراطي، رِهَانُهُم على استبدال هُوُيَّةِ شعب تونس الإسلامية العربية، بِهُوُيَّةِ هَجِينة، لا هي غَرْبِيَّة بحق، ولا هي مَحَلِّيّة، وكأن الهُوُيَّاتِ عُلَبٌ يتم تصنيعها، مع أنّ كل التجارب الحديثة تشهد أنّ هُوُيَّاتِ الشعوب أَعْمَقُ وأرْسَخُ من أن تقتلعها الدول مهما عَتَتْ.
وعَوْدَةُ الشباب أفواجًا إلى بيوت الله بعد حرب ضروس على ظواهر التدين، وكذا العودةُ الكثيفة إلى الحجاب، رغم المقاومة الشرسة من أجهزة الحكم، شاهِدَةٌ على إفلاس مشروعهم للتحديث الفَجِّ، وعلى أصالة الإسلام، وعُمْقِ كسب الحركة الإسلامية، وأنهم مهما استمروا في العناد والغرور والاستبداد، فسيهزمهم الإسلام، وسَيَهْزِمُهُم الحجاب، فلم الإمعانُ في الطريق المسدود؟
ـ كيف تُقَيِّمُون تجربة الحركات والأحزاب الإسلامية في المغرب العربي، وبالتحديد في بلدكم تونس، وكيف تُقَيِّمُون تجربتكم في حركة النهضة الإسلامية، خاصةً بعد مرور أكثرَ من ثلاثين سنةً على انطلاقها؟
* ليس من اليسير في هذا الحيزِ المحدودِ تقييمُ مسيرةِ حوالي أربعة عقودٍ من الكدح الإسلامي في المنطقة المغارِبِيَّة عامةً، وفي تونس خاصة. وبنوعٍ من الإجمال والتَّجَوُّز يمكن أن نُسَجِّلَ بيقينٍ انتصارَ معركة الهُوُيَّةِ الإسلامية العربية في جملةِ هذه الأقطار الثغورِ، المحاطةِ بأمم غربية كبرى ذاتِ أطماع في هذه المنطقة، وحاولتْ أكثرَ من مرة استلحَاقَهَا وابتلاعها.
وقد نجحتْ حركة التغريبِ أو العلمنة في تهميش الإسلام وحضارته وحَصْرِهِ في العالم القديم، بينما قطع العالم الحديث، من مدارس وجامعات ومنتديات وإدارة ومال، شَوْطًا بعيدًا من "التفرنس"، واستكْمَلَ عهدُ الاستقلال في كُلٍّ من المغرب وتونس "فَرْنَسَتَها"، حتى كان الخطاب الطلابي في الجامعات خلال الستينيات، وشطرًا من السبعينيات، يُقَدَّمُ باللغة الفرنسية، إلا أنه منذ نهاية السبعينيات، وبدخول الاتجاه الإسلامي القوي، نجح في فرض العربِيَّةِ لغةً للخطاب الطلابي، وتمكَّنَتِ الحركة الإسلامية من إعادة الإسلام إلى قلب الحداثة؛ ليكون الموقف منه هو موضوعَ الحوار الرئيسِ، بينما ظل الحوار حتى نهايةِ السبعينيات دائرًا داخل المعسكر العلماني بين يساريين وليبراليين، ثم تَمَخَّض صراعٌ داخل المعسكر اليساري.
ومنذ الثمانينات عاد الإسلام بقوة، واستمرت عودته تتأكد في قَلْبِ ساحات الحداثة ومعارِكِهَا: الحداثة السياسية، والاجتماعية، والثقافية.
لقد استُهْدِفَ الإسلام بدرجات مختلفة في هذه المنطقة، وبلغ الاستهداف حَدَّ الاستئصال، ولكننا نقول بكل يقينٍ اليَوْمَ أنّ الإسلام قد كسب معركة الهوية، حتى عاد نظامٌ علمانِيٌّ شَرِسٌ -كالذي يحكم تونس- ينافس على الشَّرْعِيَّةِ الدينيةِ، ساعيًا للحصول على أسهم من الرصيد الإسلامي عبر فتح قنوات إعلامية إسلامية.
ومع ذلك لا تزال المعركة الثقافية محتدمةً بين دعاة التعريب، وحماة التفرنس، على امتداد المنطقة المغاربية عدا ليبيا. لا تكاد تُحْرِزُ تَقَدُّمًا خطوةً، حتى يتِمَّ التراجع عنها.
وبعد نصف قرن من الاستقلال لا تزال الفرنسية سيدةَ الموقف، حتى في التعليم الابتدائي، بل تم التراجع عن برنامج التعريب في الجزائر بعد الانقلاب على الجبهة الإسلامية 1992، ولم تنجح مشاركة إسلاميين آخرين في التشريعي والتنفيذي في المحافظة حتى على ما كان قد تَحَقَّقَ. ولعلهم يحتجون بأن التراجع في غياب مشاركتهم سيكون أفدح، ربما.
وفي المستوى السياسي، وهو الحاكم على ما دونه، ظلت المعركة محتدمةً بين التيار الإسلامي، وتيارات التغريب والدكتاتورية، وتأخذ أشكالًا مختلفةً، أشدُّهَا ما يحدث في تونس؛ حيث طبقت سياسةً استئصاليةً على التيار الإسلامي، وسياسة تجفيف الينابيع على كل ما يمت للإسلام، حتى تحولت الصلاة لسنوات طويلة إلى علامة تصنيف سياسي، وحُظِرَ الحجاب، ولا يزال، وصُودِرَتِ الكتابات الإسلامية حتى التراثية، وذلك بعد الانقلاب على نتائج انتخابات 1989، التي فازت فيها حركة النهضة بأغلبية الأصوات، فتقرر تزييف النتائج، ومعاقبة الفائزين بالاستئصال.
ولا يزال الوضع التونسي محكومًا بنتائج تلك الانتخابات التي رَجَّتِ النظام بقوة، وهو يتَلَمَّس خطاه نحو إحكام قبضته على البلاد، فلم يهضم تلك الطفرة، وأقدم وهو في حالة ذهول على شَطْبِ النتائج، والتضحية بشعارات التغيير التي يحملها، وقرّر تصفية هذا الخصم الْمُتَعَذَّرِ استيعابُهُ ضمن الأوعية الضيقة المعدّة.
وظلت تلك الصدمة تُمَثِّل كابوسًا مُتَحَكِّمًا في جملة سياسات السلطة؛ لتتحولَ عداوَتُهَا للتيار الإسلامي إلى عقيدة أساسية للدولة. وجاءت الأحداث الخارجية لِتُرَسِّخَ أقدامها على هذا الطريق، بدءًا بالانقلاب على الجبهة الإسلامية في الجزائر، وصولًا إلى 11سبتمبر، مرورًا بكل أحداث الإرهاب.
أما الجزائر، فهي الأخرى لا تزال محكومةً بكوابيس انتخابات 1992، التي انقلب عليها العسكر، زاجِّين البلاد في أتُّونٍ من الفتن، في مناخات اجتماعية تمور بالغضب، تتحرك على أرضية ثقافية مُشَبَّعَةٍ بثقافة ثورية متجذرة، طالما احتضنتها الجغرافيا الجبليَّةُ الشامخة، وأمدّتها بالحماية.
لقد مَرَّ أَزْيَدُ من عَقْدٍ ونِصْفٍ على ذلك الانقلاب المشئوم، تعرَّضَتْ فيها الجزائر إلى كوارِثَ عُظْمَى، بذريعة حِمَايَتِها من الخطر الإسلامي، ولا يزال الكابوس المتحكِّمُ في عسكرها المنقلبِ على إرادة الشعب وفي ملحقاته المدنية، هو الهروب من العودة إلى شبح الجبهة.
أما المغرب، فإن الرياح الانقلابية التونسية الجزائرية على الإسلاميين وعلى الديمقراطية لم تَهُزّه، ولم تَسْتَخِفَّه ، وذلك راجعٌ بعد توفيق الله إلى ما تتمتع به الدولة هناك من شرعية تاريخية ودينية مستقرة، فقد استوت العلاقة بين الملك والشعب على قدرٍ كبيرٍ من الاعتراف المتبادل، بما أمكن معه إرساء نظام سياسي يتمتَّعُ بِقَدْرٍ من الديمقراطية، تستوعِبُ معظم المكونات السياسية بمختلف اتجاهاتها، بما فيها المكونات الإسلامية، عدا جماعة العدل والإحسان، وفصيل البديل الحضاري، ومجموعات يسارية راديكالية، وأخرى سلفية جهادية؛ حيث يتم مع غير العنيف منها مثل العدل والإحسان تعايُشٌ قَلِقٌ، ولكِ أن تقولي "علاقة حذرة"، تشبه علاقة إخوان مصر بالسلطة، إلا أنّ سيف الدولة مسلولٌ على الجماعات السلفية المنتهجةِ سبيلَ العنف.
ويحتل هنا حزب العدالة والتنمية موقعًا وسَطًا أحَلَّهُ في الصف الأول من الأحزاب المتنافسة على الحكم، وذلك بعد رحلة طويلة من الراديكالية إلى الوسطية. ويبقى المشكل الاجتماعي مشكلَ التفاوت بين طبقة الحكم المحظوظة، المحتكرة للسلطة والثروة، بما فاقم أوضاع الفساد والفقر والبطالة والغضب الشعبي.
ويبقى الوضع في ليبيا ذا خصوصيات ، فبعد سنوات من المواجهة بين مجموعات تنتمي للتيار الإسلامي، بعضها إخواني، وبعضها تنتمي للتيارات الجهادية، بادرت مؤسسة القذافي التي يشرف عليها نجله سيف الإسلام بفتح حوار معهم، بدأ مع المجموعة الإخوانية في السجون وخارجها، انتهى إلى الإفراج عنهم، وإعادتهم إلى وظائفهم، وصرف مرتباتهم خلال سجنهم، وعودة الكثير من مهاجريهم؛ حيث الحوار جار معهم حول صيغة مناسبة لنشاطهم .
ولم يتوقف الحوار عند هؤلاء، بل تعداه إلى "مساجين الجماعة الإسلامية المسلحة"، ولا يزال جاريًا في اتجاه تسويةٍ تُنْهِي العمل العنيف، وتُحَرِّرُ بقية المساجين ليبحثوا، مثل غيرهم من المواطنين، عن السبل المتاحة للمشاركة في مشروع إصلاحي تقوده مؤسسة القذافي، في اتجاه إرساء وَضْعٍ دستوري عادي؛ حيث تَسْهَرُ مجموعةٌ من الخبراء، منهم بعض رجال الحركة الإسلامية، مثل الشيخ علي الصلابي، على إعدادِ وثيقةٍ دستوريةٍ لليبيا الغد . ولا يزال المشروع يتراوح بين قوى الدفع وقوى الجَذْبِ.
يتضح من المشهد العام للمنطقة من زاوية الوضع الإسلامي ما يلي:
أنه يمكن من الزاوية الثقافية تصنيف دول المنطقة إلى صنفين:
أ- صنف معتدل في موقفه من الإسلام والثقافة العربية، حتى وإن وُجِدَ في النظام استئصاليون، وبخاصة في الجزائر وفي المغرب؛ حيث توجد نخبة فرانكفونية ذات نفوذ واسع في الوسط الثقافي والإعلامي والسياسي، لكنهم قد لا يمثلون الاتجاه العام ، وهو ما يجعل الصراع مع الحركة الإسلامية -وإن يَكُ له وجه ثقافي- صراعًا بين الإسلام والعلمانية، ولكنه ليس وجهه الأبرز، فوجهه الأبرز هو الصراع السياسي. وهذا الصنف تُمَثِّلُه غالبية دول المغرب العربي، من موريتانيا إلى ليبيا .
ب- الصنف الثاني: نموذج استئصالي يكاد ينفرد به النموذج التونسي، مُتَأَثِّرًا بمؤسسه الرئيس بورقيبة، الذي انتزع قيادةَ الحركة الوطنية، بجهدٍ منه، وبعونٍ من المحتل، استبعادًا لبدائل أسوأ، فأسّس الدولة وفق خلفيته الفرنسية المتطرفة في موقفها الديني، كما كان شَدِيدَ الإعجاب بنموذج أتاتورك، وأُضِيفَ كُلُّ ذلك إلى عُقَدِهِ الشخصية وتَشَيْطُنه.
ولئن كان هذا الصنف من النخبة له وجود مُتَنَفِّذٌ في الجزائر وفي المغرب وفي موريتانيا، لكنه لا يتمتع بنفس النفوذ، ولا له نفس التراث الذي له في تونس، باعتباره هنا المؤسس للدولة، فصبغها بصبغته، وشن منذ انتصابه حملةً واسِعَةً على الإسلام؛ مؤسساتٍ وعقائِدَ وشرائِعَ وشعائِرَ، ما أورث قطاعًا واسعًا من النخبة التونسية أصوليةً علمانِيَّةً متطرفة ، حملت رسالة تهميش الإسلام، أو إعادةَ صياغته وَفْقَ النموذج الغربي.
ـ برأيكم، هل الحركات والأحزاب الإسلامية اليومَ مُؤَهَّلَةٌ للقيادة السياسية في بلدانها ؟
* رغم أن الحركة الإسلامية في معظم بلاد العرب والمسلمين قد كسبت معركة الرأي العام كما أسلفتُ بالنسبة للمغرب العربي، بما يُؤَهِّلُها من هذا الجانب لِلْحُكْم، إلا أنّ الرأي العام- وإن كان العنصر الأهم لاكتساب الحق في السلطة في نظام ديمقراطي- فهو شَرْطٌ واجب غيرُ كافٍ كما يقال، إذ التحديات المطروحة، وخاصةً تحدي التجزئة، تقتضي مواجهتها بنجاح قيامِ حكوماتٍ ائتلافيةٍ، يتعاون فيها الجميع على هذه المواجهة، لا سيما وعالم النخبة تَشُقُّهُ تناقضاتٌ شديدةٌ، يقتضي التعامُلُ الناجِحُ معها الكثيرَ من الصَّبْرِ والتدرج والإيثار لا الاستئثار.
والنموذج السوداني ناطِقٌ بضرر التَّعَجُّل والانفراد والإقصاء. وما يعانيه النموذج الإيراني من حصارٍ دَوْلِيّ، ومكائد إقليمية، لا يُغْرِي حركةً إسلاميةً بالمسارعة إلى السلطة منفردةً، ولا الزهد فيها كذلك، وإنما السير إليها ضمن جبهات وائتلافات. والله أعلم.
ـ كيف تنظرون إلى تجاربِ بعضِ الأحزاب والحركات الإسلامية في عالمنا العربي والإسلامي، وانخراطها في العملية السياسية، وأقصد بذلك تجربة حركة حماس في فلسطين، وتجربة الحزب الإسلامي العراقي في العراق، وحزب العدالة في تركيا، وهل هي تجارب ناجحة برأيكم ؟
* أوضح هذه التجارب وأنجحها حزبُ العدالة والتنمية، من حيثُ قُدْرَتُهُ على الجمع بين الواقع والمثال، الواقع المتمثل في إكراهات الواقع العلماني، وإكراهات العسكر، وإكراهات الاندراج ضمن التحالف الأطلسي الأروبي الصهيوني.. وبين المثال الإسلامي، ليس عبر رفع شعارات الإسلام، ولكن عبر المواقف والإنجاز؛ على الصعيد الاقتصادي- وهو التحدي الإسلامي بل الدولي الأول اليوم- والإنجاز على صعيد خدمة الفقراء، وعلى صعيد إرضاء المستثمرين. وكذلك الموقف من قضايا الأمة الكبرى، مثل القضية الفلسطينية، والموقف الرافض لعبور الجيوش الأمريكية لغزو العراق.
إن العدالة والتنمية قد تَوَفَّقَ من خلال الإنجاز والموقف، أن يقوم بالتبشير بالمشروع الإسلامي والشهادة للإسلام، بما يفوق أبْلَغَ الخطباء، وأعظمَ العلماء.
أما حماس فهي قبل كل شيء حَرَكُة تَحَرُّرٍ وطني، في بلد تحت الاحتلال، ما كان واردًا فيه أصلًا الحديثُ عن صراعٍ على حكم؛ إذ الأصل أن يكون لنا وَطَنٌ، لنا فيه وعليه سيادةٌ لِنَحْكُمَه، وقد نتنازع على حكمه، بينما الذي حصل أنّ وَطَنًا مُحْتَلًّا قام أهله يدفعون عنهم المحتل، فلما اشتدتْ مقاومتهم حتى أرْهَقَتْه، وعَجِز عن إخماد مقاومتهم، لجأ إلى الحيلة والإغراء، فاستدرج الثائرين إلى دهاليز المفاوضات، ولا يزال بهم يضغط ويُغْرِي ويُمَنِّي ويَعِد، حتى نقلهم من ثُوَّارٍ إلى حُرَّاسٍ لِأَمْنِهِ!! يستمدون شرعيتهم من مدى قدرتهم على إجادة تلك الحراسة، وإحباطِ كُلِّ مَسْعًى مقاومٍ، فقام على تمويلِهِم وتسليحِهِم وتدريبِهِم للقيام على تلك المهمة، وفَعَلَوُها، بما فرض على فريق المقاومة الذي حَلَّ مَحَلَّ الفريق السابِقِ أنْ يَتَّجِه إلى مصادر النيران لإسكاتها، فاقتحم ساحَةَ الانتخاباتِ للحَوْلِ دون تلك السلطة الْمُسْتَعْمَلَةِ وما استُعْمِلَتْ له.
إن نجاح "سلطة" مثل هذه، إنما يقاس بمدى نهوض الوسيلة بالمقصد. وكل الضغوط الرهيبة التي سُلِّطَتْ على حماس، وعلى شعب فلسطين، للفصل بينهما، هدفتْ إلى الفصل بين المقاومة والسلطة، ومَنْعِ الأخيرة أن تكون في خدمة الأولى، عن طريق انتزاع السلطة من حماس.
إن ما حقَّقَتْهُ حماس خلال سنتين من صمودٍ أُسْطُورِيّ في وجه الحصار، والمحافظة على السلطة، وحق المقاومة في الآن ذاته، وفَّرَ للمقاومة لأول مرةٍ في تاريخها فُرْصَةً للتخطيط والتدريب، وتطوير وسائلها وهي آمنة من "السلطة"، من ظلم ذوي القربى!! إذِ السُّلْطَةُ والمقاومة في خدمة المقاومة، بل هي ذاتها.
إنّ ما سُمِّيَ الحَسْمَ، والمقصود به تَطْهِيرُ شِبْرٍ من أرض فلسطين غزة من حراس إسرائيل، وهذا الحسم هو الأب الحقيقي لصمود غزة الأسطوري، في وجه أعتى جيوش الأرض بَأْسًا وتَوَحُّشًا، وردَّهُ على أعقابه بعد أزْيَدَ من ثلاثة أسابيع من التدمير الرهيب، ولكنه فَشِلَ في أن يقتحم قلعة غزة.
حماس بهذا الاعتبار قد حقَّقَتْ، ليس مجرد نجاح، بل ما يشبه خوارق العادات؛ إذ صَمَدَتْ في كل المواجهات؛ مواجهة المساومة، والحصار، والاغتيال، والاختراق، والكيد، وأخيرًا الحرب الشاملة، وهي اليوم تَخُوضُ المعركة على الطاولة مع عتاولة السلطة، ومَنْ ورائِهم رومٌ، ومِنْ ورائهِمْ رومٌ- حَسَبَ تَعْبِيرِ الْمُتَنَبِّي- أعانهم الله بمددٍ منه وثبّتهم.
وإذا كان من نُصْحٍ لهم، فهو المزيد من التَّحَامُلِ على أنفسهم ومجاهدتِهَا؛ ليتصرفوا من مَوْقِع أُمِّ الولدِ حامِلِ المشروع الوطني، وليس مُمَثِّلًا لفصيل، فإذا جاز ذلك قبل غزة، فليس جائزًا بعدها.
أما عن السُّنَّة العرب فهم يتامى العراق. لقد تُرِكُوا لأنفسهم في معركةٍ يَخُوضُهَا أقطابٌ دولِيُّونَ وإقلِيمِيُّون كبار، ونُظِرَ إليهم على أنهم جزءٌ من زَمَنٍ وَلَّى، وعهد بائد، فكانوا يخوضون معركةَ بقاءٍ، وقد دارت عليهم الدوائر، فكان مفهومًا أنْ يضطَرِبَ موقفهم، يشاركون ثم يقاطعون، ثم يشاركون. إن دول الخليج ومصر يتحملون مسئوليةً عُظْمَى فيما آلت إليه أوضاع العراق، والسودان، والصومال، وفلسطين، وعموم أوضاع العرب.
ـ يرى بعض المحللين أن تواجُدَكُم في بلاد أجنبية حَصَرَ نشاط حركة النهضة، فما هو دوركم الآن كحركة معارضة للحكومة في تونس؟ وهل هناك بوادر لإصلاح وجهات النظر بينكم وبين الحكومة في تونس ؟
* ليست الهجرة في تاريخ الدعوات وحركات التحرر بأمرٍ غريبٍ أو شاذٍّ، فقد هاجر الأنبياء والرسل، وهاجر زعماء الحركات الوطنية، ولذلك اعترف القانون الدولي بحقوقٍ للمهاجرين السياسيين ضمن اتفاقيات معروفة.
وهِجْرَتِي وآلافٍ من أخواني هجرةٌ إجبارية، ولم تَخْلُ المهاجر منذ "الاستقلال"من مهاجرين، كما لم تَخْلُ السجون من ضيوف، وتداولت تيارات المعارضة على السجون كما تداولت على المهاجر!
ولقد جعل الله سبحانه لعباده الْمُهَدَّدِين بالاضطهاد في الهجرة مخرجًا. والحقيقة أني غادرت البلد الحبيب بعد فترتين من السجن، (خمس سنوات ونصفا) وذلك إِثْرَ انتخابات 1989، التي فازتْ فيها النهضة فوزًا عظيمًا، فما كان من السلطة المتحكمة منذ 1956إلا أن أقدمت كعادتها على التزييف الواسِع للنتائج
ورغم اعترافها للقوائم المستقلة، التي كانت وراءها النهضة، بما يقرب من 20%، بما يجعلها زعيمةَ المعارضة، إلا أنها قررتْ إقصاءَهَا واستئصالها جُمْلَةً؛ حتى تخلو لها الساحة، مكتفيةً بمعارضة صوريةٍ ..وعلى إثر ذلك خرجت من البلاد، تلبيةً لجمعية طلابية فلسطينية بألمانيا لألقي محاضرة في مؤتمرها، ولم تكن حملة السلطة على الحركة قد بدأتْ، ولأن الجوَّ خانِقٌ في البلاد، وكان الحصار مَضْرُوبًا عليّ، فقد استجبت للدعوات الكثيرة في أرجاء العالم، التي أخذتْ تُوَجَّهُ لإلقاء محاضرات، والمشاركة في مؤتمرات ، وخلال ذلك تصاعَدَ التوتُّرُ في البلاد، وبدأتْ حملات الاعتقال، فطلب إليّ الأخوة في الداخل الانتظارَ حتى تنْجَلِي الغمامة، إلا أن الأوضاع اتجهتْ إلى الأسوأ ضِمْنَ خطة استئصاليه شاملة تُشَنُّ على الحركة، فلم تَعُدْ عَوْدَتِي مُسْتَسَاغَة.
وهكذا طلبتُ اللجوءَ السياسِيَّ في بريطانيا منذ سنة1991، ولم يكن أمامي خِيَارٌ آخَرُ غير وضع نفسي طائعًا مختارًا تحت رحمة أعدائي، مما لم يأمر به دِينٌ ولا مصلحة.
ما المصلحة في أن أُضِيفَ سجيًنا إلى آلاف السجناء، فأخمد صوتي بنفسي، وهو ما يسعى في أثره الأعداء؟!
صحيح أني لست أزعم أني أُنْجِزُ في الْمَهْجَرِ شيئًا عظيمًا، ولكن ماذا عساي كنت سأُنْجِزُ في الداخل ضمن الأوضاع القائمة؛ حيث الخيار لأمثالي بين سجنٍ مُضَيَّقٍ، هو السجن المعروف الذي كان يضم عشرات الآلاف من إخواني في بداية المحنة، وهو يضم اليوم بضعة آلاف، منهم نفرٌ قليلٌ من جيل الصحوة الأولى، كالدكتور الصادق شورو، الرئيس السابق للحركة، الذي يقضي سنته التاسعة عشرة وراء القضبان! وآلاف من شباب الصحوة الجديدة!
والخيار الآخر كان سجنًا مُوَسَّعًا أو متحركًا، شأن الآلاف من إخواني الذين أَتَمُّوا محكوميتهم، لكنْ استقبلتهم البطالة، والمحاصرة الأمنية، ومَنْعُ السفر إلى خارج البلاد وحتى داخلها إلا بإذن!
فالحصار لا يزال مضروبًا على الحركة، رغم حضورها في الساحة بِمُنَاضِلِيهَا الأفذاذ، كما أن الحصار مضروبٌ على التَّدَيُّن، والْمَنْعَ مُسَلَّطٌ على الحجاب، وذلك رغم الاتجاه العارمِ لشعب تونس وشبابِه وشابَّاتِهِ صَوْبَ التدين.
ما المصلحة في إضافة سجين آخر إلى السجن المضيق أو المتحرك؟!
صحيح أنني لا أقوم بشيء عظيم من خارج البلاد، ولكن المسافة بين " الداخل" و"الخارج" قد تقاصرت في هذا الزمن.
إن مساحة الإعلام العربي في لندن، المتوجّه إلى العالم العربي، يربو عمّا هو في أكثرَ من أي عاصمةٍ عربية، فأنْ تُخَاطِبِي تونس من لندن هو أَيْسَرُ َبكثيرٍ من مخاطبتها من داخلها، ولذلك نرى المعارضين، وحتى جماعة السلطة، يَبْحَثُون عن فُرَصٍ في الخارج لمخاطبة الداخل. ولْأَضْرِب مثلا، فإن معاركنا مع السلطة كُلَّهَا انطلقت من المساجد، وهي تُصِرُّ على أن المسجد مُلْكٌ لها، تُسَخِّرُه لدعاياتها، ونحن كنا نُصِرُّ على أن الله ملَّكه للأمة، فلا يحتاج مُؤْمِنٌ للاستئذان من أحد ليأمر بمعروف، أو يَنْهَى عن منكر.
وانتهى الأمر إلى اعتقالي وإخواني مراتٍ، كُلُّها من المساجد، بينما أنا اليوم لا أحتاج لاستئذان أحد؛ لألقي درسًا أو موعظةً في أي مسجد هنا، بل أكثر من ذلك أستطيع أن أنقل ذلك الدرس إلى ملايين من الناس عبر الإنترنت والفضائيات.
وعلى كل حال أنا لا أزال مُجَرَّدَ لاجئ في هذا البلد، لم أَتَوَطَّن، في انتظار أولِ فُرْصَةِ انفراجٍ؛ لأعود إلى موقعي الطبيعي بين أهلي وإخواني.وعساه يكون قريبًا.
أما عن السلطة، فرغم نداءاتنا ونداءاتِ غَيْرِنَا الموجهةِ إليها، دعوةً إلى الانفتاح والتَّصَالُحِ مع شعبها، معنا ومع غيرنا، إلا أنها لم تُلْقِ لذلك بالًا، بل أَوْغَلَتْ فيما أدمنتْ عليه من تعامُلٍ أَمْنِيٍّ مع كل الملفات، بما فيها ملفات المعارضة، ما أَفْضَى بالبلاد إلى حالةِ جمودٍ وانسدادٍ وتصاعُدٍ للاحتقان، بدأتْ طلائعه تتفَجَّر أحداثَ عُنْفٍ وهِزَّاتٍ اجتماعيةً وإضراباتٍ، بما يُرَجِّحُ أن التطور في البلاد ليس مُتَّجِهًا إلى مصالحةٍ وانفراجٍ، بِقَدْرِ ما هو مُتَّجِهٌ أكثرَ صَوْبَ الانفجارات الاجتماعية والعنيفة.
وربما يكون ذلك جزءًَا من الوضع العربي العامِّ الذي تتضاءَلُ الآمال في تَطَوُّرِهِ إلى الديمقراطية، عَبْرَ الوفاق مع الأنظمة القائمة. والمرجح أكثر هو التطور عبر انتفاضات الشوارع، والإضرابات، والاعتصامات، تقودها جبهاتٌ وطَنِيَّةٌ، قد نفض مؤسسوها أيديَهُم، وغسلوها يَأْسًا من إصلاح أنظمةٍ تَحَوَّلَتْ إلى أجهزة قَمْعٍ في حراسة مافيات.
يُبْدِي المفكرُ الإسلامي راشد الغنوشي الأمين العام لحركة النهضة الإسلامية التونسية يقينًا تامًّا بانتصارِ الحركة الإسلامية بدول المغرب العربي في معركة الهوية الإسلامية، بمواجهة حركة التغريب التي استهدفت شعوب تلك المنطقة. ويَلْفِتُ الغنوشي إلى أن تونس شهدت أعنف فصول تلك المعركة، في ظِلِّ استخدام نظام بورقيبة كافَّةَ أجهزة الدولةِ لِفَرْضِ نموذج تغريب فاشِيّ، ومع ذلك أثبتت الهوية الإسلامية أنها أَعْمَقُ وأرسخ قَدَمًا من تلك المشاريع.
وفيما يتعَلَّقُ بقيادته لحركة النهضة من منفاه الاختياري في لندن، يعتبر الغنوشي أنّ الهجرة في تاريخ الدعوات وحركات التحرر ليست بأمر غريبٍ أو شاذٍّ، ولذا جعل الله سبحانه لعباده الْمُهَدَّدِين بالاضطهاد في الهجرة مَخْرَجًا.
كما قسم المفكر الإسلامي مواقفَ الحكومات المغاربية من الحركات الإسلامية لصنفين: صنف معتدل في موقفه من الإسلام والثقافة العربية، حتى وإن وُجِد في النظام استئصاليون، بخاصة في الجزائر والمغرب؛ حيث توجد نخبة فرانكفونية ذات نفوذ واسع. أما الصنف الثاني، فهو نموذج استئصالي يكاد ينفرد به النموذج التونسي، مُتَأَثِّرا بِمُؤَسِّسِه الرئيس بورقيبة، ولئن كان هذا الصنف من النخبة له وجودٌ متنفِّذٌ في الجزائر والمغرب وموريتانيا، لكنه لا يتمتع بنفس النفوذ، وليس له نفس التراث الذي له في تونس.
هذه التفاصيل وغيرها الكثير جاءت في ثنايا الحوار مع المفكر الإسلامي راشد الغنوشي، فإلى نص الحوار.
ـ في البدء يلفت نظرنا أن حركة النهضة الإسلامية في تونس انطلقت من منحى مقاومة العلمانية، ومحاولة إعادة إحياء لنهج الإسلام في تونس, لماذا بعد ذلك كانت هذه النقلة المغايرة إلى العمل السياسي؟! أم أن لهذه الانتقالية حتميةً تُقَرِّرُها ظروف الحال في البلاد العربية؟
* لئن اشتركت الحركات الإسلامية في مرجعية الإسلام كتابًا وسُنَّةً وإجماعًا، فهي تختلف في الصبغة العامة التي تصطبغ بها كُلُّ واحدةٍ منها باختلاف الملابسات التي حفت بظهورها، ففي بلد خاضع للاحتلال الأجنبي، كان الْمُرَجَّحُ أن تكون هموم التحرير هي الغالبةَ عليها، بينما في بلد يعاني من تأثيرات الغزو الثقافي، والعلمنة الطاغية على هُوُيَّةِ البلاد الإسلامية، فمن المنتظر أن يكون الهم الأعظم للحركة الإسلامية الدفاع عن مقومات الشخصية الإسلامية، ومواجهة ضروب العلمنة السائدة مواجهةً فكريةً عقديةً وتربويةً، وهو ما كان عليه الأمر في نهايات الستينيات من القرن العشرين المنصرم؛ حيث تَبَدَّى المشروع البورقيبي على حقيقته، وأثمرت بذوره محاصيلها بعد عَقْدٍ ونصفٍ من "الاستقلال"، تم فيها استخدامُ أجهزة الدولة الحديثة شديدةِ التمركز، وزَخَمِ معركة التحرير، والزعامة التاريخية الطاغية، الاستخدامَ الْمُفْرِطَ في تفكيك الإسلام؛ عقائدَ وشعائِرَ وقِيمًا ومؤسساتٍ وحضارةً، باعتبارها عوائِقَ في طريق الاستراتيجية العليا للدولة، التي يُلَخِّصُها شعار بورقيبة الأثير: "اللَّحَاق بركب الأمم المتحضرة".
لقد وُلِدَتِ الحركة الإسلامية كأحد أهم دفاعات المجتمع التونسي عن مقومات شخصيته، ووجوده، واستمراره، عَرَبِيًّا مُسْلِمًا، وامتدادًا للأمة العربية والإسلامية، وليس تابعًا صغيرًا لأمم الغرب. ولأن الطلب كان قويًّا على مقومات هذه الهوية، بسبب تفاقم الشعور بالخطر، فقد نشأت ونمتْ بسرعة ، فأعادتْ بِفَضْلِ الله الحياةَ للمساجد، وللمصاحفِ، وللشَّعَائِرِ، ولقِيَمِ الإسلام ، تُجَسِّرُ العلاقة بينها وبين عالم الحداثة في معاهد التعليم والجامعة والإدارة، وتمتد بها تِبَاعًا إلى كل مؤسسات المجتمع ومناشِطِه النَّقَابِيّة والثقافيّة والسياسيّة، انطلاقًا من منظور الإسلام التوحيدي الشامل، الذي يدعو المؤمنين به إلى أن يعبدوا الله الواحد الأحد بكل نفوسهم وفِكْرِهِم وجَوَارِحِهم، مُخْلِصِين له الدين في كل مسالكهم ومناشطهم، وإلا فهو الشرك.
ولذلك رغم أن الحركة نشأت حركةً دعويةً ثقافيةً، إلا أنها ما إن حققتْ قدرًا من النمو، حتى تنَبَّهَتْ دولة الاستبداد إليها، فاستدارت لها، ووجهتْ إليها مدافِعَهَا، ولا تزال تفعل ذلك معها ومع غيرها، ممن رفض أن يكون معارضة مدجنة .
ليس في مثل هذا النوع من الأنظمة خيارٌ ولا منزلةٌ وُسْطَى بين الأمرين: التَّدْجِين، أو المواجهة، ولكِ أن تقولي المقاومة بتعبير أخينا الدكتور المرزوقي ، وليس المعارضة؛ لأن هذه مكانها في نظام ديمقراطي يَعْتَرِفُ بالتعدد، وتداوُلِ السلطة عبر صناديق الاقتراع.
أما حيث يسودُ الاستبدادُ فلا مكان للحديث عن مُعَارَضَةٍ، وإنما عن مقاومةٍ لمواجهة احتلال داخلي، هو أَشَدُّ نكالًا من الاحتلال الخارجي، بل هو نائب عنه.
إن الحديث عن مصالحةٍ مع هذا النوع من الاحتلال هو أقرب -إذا كان الداعون إليهِ مخلصين جادِّين وليسوا مخادعين- إلى التَّمَنِّي والافتراض.
ـ شهدتْ حركتكم انفصال بعض الشخصيات القيادة، وانتهاجها نهجًا آخر، منهم زياد كريشان، وصلاح الدين الجورشي، واحميدة النيفر, فما السبب وراء هذا الانفصال؟ وهل هناك جهاتٌ لها ضِلَعٌ في هذا الانفصال؟
* ربما كان ذلك نتيجةً من نتائج مرحلة التَّأَقْلُم مع البيئة التونسية- في نهاية السبعينيات- التي كان قد أخذ يَمُرُّ بها فِكْرُ الحركة، الوافدُ في معظمه من البيئات الشرقية.، وهو لم تتوفر له الرؤية الواضحة، والأدوات الكفيلة باستيعابه داخِلَ نفس الحركة، فحصل افتراق قبل أن تتضح الرؤيا، فلم تتحرَّر مواطن الاختلاف إلا لَاحِقًا، وانصبّت على الموقف من الشريعة، ما هو مُلْزِمٌ لِزَمَاننا وما هو غير ملزم؟
وهي عند التحقيق مسائِلُ لا يَنْبَنِي عليها في الواقع الراهن عَمَلٌ، ذلك أنّ مطالب الحركة السياسية في تونس- وربما في معظم بلاد الإسلام- على اختلاف مرجعياتها الأيدولوجية - تكاد تتمحور حول الحريات السياسية، أي على الهيكل العام للدولة؛ إذْ يلتقي الجميع حول النضال من أجل دولةٍ مَدَنِيَّةٍ ديمقراطية، مهما اختلفَتْ مرجِعِيَّتُها، وذلك في مقابل دولة الاستبداد القائمةِ، بصرف النظر عن مرجعيتها علمانيةً كانتْ أم دينيةً، وبصرف النظر عن نوعية القوانين التي ستَرْتَضِيها المؤسسات الديمقراطية المنتخبةُ عند قيامها، إذ لا وَصَايَةَ لأحدٍ على الشعوب، ولا مَصْدَرَ للإلزام غير ما تلتزم به.
وفي المحصلة، فإن ذلك الاختلاف، وإن تَأَثَّرَ بمرحلة طفولة الحركة من حيث قلة النضج، فقد أسهم في كَسْرِ الجمود، والرأي الواحد، وفي تأهيل الحركة للتفاعل مع بيئتها، وتجاوُزِ مرحلة التتلمُذِ، والتقليد الأعمى للبضاعة المشرقية الوافدة، بما هَيَّأَ لإنتاج ما يُمْكِن أن يُنْعَتَ بخصوصيات تونسية ضِمْنَ المدرسة الإسلامية الوَسَطِيَّة. فليس فيما حدث ما يُمْكِنُ أن يُشْتَمَّ منه رائحةٌ لتآمُرٍ ومكايدة.
ـ رغم التطور الحاصل في العالم إزاء الحريات الشخصية، لا زالت تونس تخضع للقانون الصادر عام 1981، والذي يحظر على المرأة التونسية ارتداء الحجاب في الجامعات، والمدارس، والدوائر الحكومية، بل يَحْظُرُ على التونسية أنْ تضع صورتها وهي مُحَجَّبَةٌ في وثيقة رسمية, هل من أمل في تغيير هذا القانون، أو التخفيف منه بعض الشيء؟
* مسألة حظر الخمار؛ أي غطاء الرأس على المرأة التونسية، فضيحة بجلاجل -كما يقال-، لنظامٍ يتبجح بتجربة تحديثٍ رائدة. فضيحة تكشف عن الطبيعة الجوهرية العميقة لشخصية بورقيبة، ولمدرسته، ودولته :الاستبداد، والغرور، والاحتقار للشعب، والنُّزُوع العارم للتحكم، والاستخدام الْمُنْفَلِت لأدوات الدولة، وللظهير الخارجي في فَرْضِ نموذج التغرب الفاشي، وليس التَغَرُّب الليبرالي الديمقراطي.
ولا عجب؛ فبورقيبة ينتمي لجيلٍ كان شديدَ التَّأَثُّر بالنماذج الفاشية والاشتراكية، التي كانت شديدةَ الإيمان بالقدرات التنموية الخارقة للدولة عبر الحزب الواحد، والزعيم الملهم، باعتبارها الطريقَ الأسرع للتحديث، بمعنى محاكاة النموذج الغربي، وبالخصوص في علاقته بالدين، ونموذَجُهُ الثورة الفرنسية .
والأمر كما يذكر ابن خلدون؛ أن المغلوب يميل إلى تقليد غالبه، في زِيِّهِ ونِحْلَتِهِ فيما يظن أنه سببُ قُوَّتِه؛ فهو تقليدٌ شكْلِيٌّ للغالِبِ، ومنه تَحَلُّلُهُ من الدين، فكانت هجمة دولة الاستقلال في عهد مُؤَسِّسِها، كعهد خلفائه على الإسلام، دينًا وحضارةً ومؤسساتٍ، ومن ذلك استهداف الحجاب باعتباره تَحَدِّيًا شكليًّا صارخًا لتحديثهم الشكلي مناطِ اعتزازهم، وكأنّ المرأةَ الماليزيةَ الحريصةَ جِدًّا على الحجاب أَقَلُّ حداثةً من التونسية، بينما لا وَجْهَ للمقارنة بين أصالة ونجاح الأولى، بالقياس إلى الأخرى، في حين أنهما انطلقتا في نفس الفترة.
ومن قِصَرِ نَظَرِ وغرور القائمين على هذا المشروع الأوتوقراطي، رِهَانُهُم على استبدال هُوُيَّةِ شعب تونس الإسلامية العربية، بِهُوُيَّةِ هَجِينة، لا هي غَرْبِيَّة بحق، ولا هي مَحَلِّيّة، وكأن الهُوُيَّاتِ عُلَبٌ يتم تصنيعها، مع أنّ كل التجارب الحديثة تشهد أنّ هُوُيَّاتِ الشعوب أَعْمَقُ وأرْسَخُ من أن تقتلعها الدول مهما عَتَتْ.
وعَوْدَةُ الشباب أفواجًا إلى بيوت الله بعد حرب ضروس على ظواهر التدين، وكذا العودةُ الكثيفة إلى الحجاب، رغم المقاومة الشرسة من أجهزة الحكم، شاهِدَةٌ على إفلاس مشروعهم للتحديث الفَجِّ، وعلى أصالة الإسلام، وعُمْقِ كسب الحركة الإسلامية، وأنهم مهما استمروا في العناد والغرور والاستبداد، فسيهزمهم الإسلام، وسَيَهْزِمُهُم الحجاب، فلم الإمعانُ في الطريق المسدود؟
ـ كيف تُقَيِّمُون تجربة الحركات والأحزاب الإسلامية في المغرب العربي، وبالتحديد في بلدكم تونس، وكيف تُقَيِّمُون تجربتكم في حركة النهضة الإسلامية، خاصةً بعد مرور أكثرَ من ثلاثين سنةً على انطلاقها؟
* ليس من اليسير في هذا الحيزِ المحدودِ تقييمُ مسيرةِ حوالي أربعة عقودٍ من الكدح الإسلامي في المنطقة المغارِبِيَّة عامةً، وفي تونس خاصة. وبنوعٍ من الإجمال والتَّجَوُّز يمكن أن نُسَجِّلَ بيقينٍ انتصارَ معركة الهُوُيَّةِ الإسلامية العربية في جملةِ هذه الأقطار الثغورِ، المحاطةِ بأمم غربية كبرى ذاتِ أطماع في هذه المنطقة، وحاولتْ أكثرَ من مرة استلحَاقَهَا وابتلاعها.
وقد نجحتْ حركة التغريبِ أو العلمنة في تهميش الإسلام وحضارته وحَصْرِهِ في العالم القديم، بينما قطع العالم الحديث، من مدارس وجامعات ومنتديات وإدارة ومال، شَوْطًا بعيدًا من "التفرنس"، واستكْمَلَ عهدُ الاستقلال في كُلٍّ من المغرب وتونس "فَرْنَسَتَها"، حتى كان الخطاب الطلابي في الجامعات خلال الستينيات، وشطرًا من السبعينيات، يُقَدَّمُ باللغة الفرنسية، إلا أنه منذ نهاية السبعينيات، وبدخول الاتجاه الإسلامي القوي، نجح في فرض العربِيَّةِ لغةً للخطاب الطلابي، وتمكَّنَتِ الحركة الإسلامية من إعادة الإسلام إلى قلب الحداثة؛ ليكون الموقف منه هو موضوعَ الحوار الرئيسِ، بينما ظل الحوار حتى نهايةِ السبعينيات دائرًا داخل المعسكر العلماني بين يساريين وليبراليين، ثم تَمَخَّض صراعٌ داخل المعسكر اليساري.
ومنذ الثمانينات عاد الإسلام بقوة، واستمرت عودته تتأكد في قَلْبِ ساحات الحداثة ومعارِكِهَا: الحداثة السياسية، والاجتماعية، والثقافية.
لقد استُهْدِفَ الإسلام بدرجات مختلفة في هذه المنطقة، وبلغ الاستهداف حَدَّ الاستئصال، ولكننا نقول بكل يقينٍ اليَوْمَ أنّ الإسلام قد كسب معركة الهوية، حتى عاد نظامٌ علمانِيٌّ شَرِسٌ -كالذي يحكم تونس- ينافس على الشَّرْعِيَّةِ الدينيةِ، ساعيًا للحصول على أسهم من الرصيد الإسلامي عبر فتح قنوات إعلامية إسلامية.
ومع ذلك لا تزال المعركة الثقافية محتدمةً بين دعاة التعريب، وحماة التفرنس، على امتداد المنطقة المغاربية عدا ليبيا. لا تكاد تُحْرِزُ تَقَدُّمًا خطوةً، حتى يتِمَّ التراجع عنها.
وبعد نصف قرن من الاستقلال لا تزال الفرنسية سيدةَ الموقف، حتى في التعليم الابتدائي، بل تم التراجع عن برنامج التعريب في الجزائر بعد الانقلاب على الجبهة الإسلامية 1992، ولم تنجح مشاركة إسلاميين آخرين في التشريعي والتنفيذي في المحافظة حتى على ما كان قد تَحَقَّقَ. ولعلهم يحتجون بأن التراجع في غياب مشاركتهم سيكون أفدح، ربما.
وفي المستوى السياسي، وهو الحاكم على ما دونه، ظلت المعركة محتدمةً بين التيار الإسلامي، وتيارات التغريب والدكتاتورية، وتأخذ أشكالًا مختلفةً، أشدُّهَا ما يحدث في تونس؛ حيث طبقت سياسةً استئصاليةً على التيار الإسلامي، وسياسة تجفيف الينابيع على كل ما يمت للإسلام، حتى تحولت الصلاة لسنوات طويلة إلى علامة تصنيف سياسي، وحُظِرَ الحجاب، ولا يزال، وصُودِرَتِ الكتابات الإسلامية حتى التراثية، وذلك بعد الانقلاب على نتائج انتخابات 1989، التي فازت فيها حركة النهضة بأغلبية الأصوات، فتقرر تزييف النتائج، ومعاقبة الفائزين بالاستئصال.
ولا يزال الوضع التونسي محكومًا بنتائج تلك الانتخابات التي رَجَّتِ النظام بقوة، وهو يتَلَمَّس خطاه نحو إحكام قبضته على البلاد، فلم يهضم تلك الطفرة، وأقدم وهو في حالة ذهول على شَطْبِ النتائج، والتضحية بشعارات التغيير التي يحملها، وقرّر تصفية هذا الخصم الْمُتَعَذَّرِ استيعابُهُ ضمن الأوعية الضيقة المعدّة.
وظلت تلك الصدمة تُمَثِّل كابوسًا مُتَحَكِّمًا في جملة سياسات السلطة؛ لتتحولَ عداوَتُهَا للتيار الإسلامي إلى عقيدة أساسية للدولة. وجاءت الأحداث الخارجية لِتُرَسِّخَ أقدامها على هذا الطريق، بدءًا بالانقلاب على الجبهة الإسلامية في الجزائر، وصولًا إلى 11سبتمبر، مرورًا بكل أحداث الإرهاب.
أما الجزائر، فهي الأخرى لا تزال محكومةً بكوابيس انتخابات 1992، التي انقلب عليها العسكر، زاجِّين البلاد في أتُّونٍ من الفتن، في مناخات اجتماعية تمور بالغضب، تتحرك على أرضية ثقافية مُشَبَّعَةٍ بثقافة ثورية متجذرة، طالما احتضنتها الجغرافيا الجبليَّةُ الشامخة، وأمدّتها بالحماية.
لقد مَرَّ أَزْيَدُ من عَقْدٍ ونِصْفٍ على ذلك الانقلاب المشئوم، تعرَّضَتْ فيها الجزائر إلى كوارِثَ عُظْمَى، بذريعة حِمَايَتِها من الخطر الإسلامي، ولا يزال الكابوس المتحكِّمُ في عسكرها المنقلبِ على إرادة الشعب وفي ملحقاته المدنية، هو الهروب من العودة إلى شبح الجبهة.
أما المغرب، فإن الرياح الانقلابية التونسية الجزائرية على الإسلاميين وعلى الديمقراطية لم تَهُزّه، ولم تَسْتَخِفَّه ، وذلك راجعٌ بعد توفيق الله إلى ما تتمتع به الدولة هناك من شرعية تاريخية ودينية مستقرة، فقد استوت العلاقة بين الملك والشعب على قدرٍ كبيرٍ من الاعتراف المتبادل، بما أمكن معه إرساء نظام سياسي يتمتَّعُ بِقَدْرٍ من الديمقراطية، تستوعِبُ معظم المكونات السياسية بمختلف اتجاهاتها، بما فيها المكونات الإسلامية، عدا جماعة العدل والإحسان، وفصيل البديل الحضاري، ومجموعات يسارية راديكالية، وأخرى سلفية جهادية؛ حيث يتم مع غير العنيف منها مثل العدل والإحسان تعايُشٌ قَلِقٌ، ولكِ أن تقولي "علاقة حذرة"، تشبه علاقة إخوان مصر بالسلطة، إلا أنّ سيف الدولة مسلولٌ على الجماعات السلفية المنتهجةِ سبيلَ العنف.
ويحتل هنا حزب العدالة والتنمية موقعًا وسَطًا أحَلَّهُ في الصف الأول من الأحزاب المتنافسة على الحكم، وذلك بعد رحلة طويلة من الراديكالية إلى الوسطية. ويبقى المشكل الاجتماعي مشكلَ التفاوت بين طبقة الحكم المحظوظة، المحتكرة للسلطة والثروة، بما فاقم أوضاع الفساد والفقر والبطالة والغضب الشعبي.
ويبقى الوضع في ليبيا ذا خصوصيات ، فبعد سنوات من المواجهة بين مجموعات تنتمي للتيار الإسلامي، بعضها إخواني، وبعضها تنتمي للتيارات الجهادية، بادرت مؤسسة القذافي التي يشرف عليها نجله سيف الإسلام بفتح حوار معهم، بدأ مع المجموعة الإخوانية في السجون وخارجها، انتهى إلى الإفراج عنهم، وإعادتهم إلى وظائفهم، وصرف مرتباتهم خلال سجنهم، وعودة الكثير من مهاجريهم؛ حيث الحوار جار معهم حول صيغة مناسبة لنشاطهم .
ولم يتوقف الحوار عند هؤلاء، بل تعداه إلى "مساجين الجماعة الإسلامية المسلحة"، ولا يزال جاريًا في اتجاه تسويةٍ تُنْهِي العمل العنيف، وتُحَرِّرُ بقية المساجين ليبحثوا، مثل غيرهم من المواطنين، عن السبل المتاحة للمشاركة في مشروع إصلاحي تقوده مؤسسة القذافي، في اتجاه إرساء وَضْعٍ دستوري عادي؛ حيث تَسْهَرُ مجموعةٌ من الخبراء، منهم بعض رجال الحركة الإسلامية، مثل الشيخ علي الصلابي، على إعدادِ وثيقةٍ دستوريةٍ لليبيا الغد . ولا يزال المشروع يتراوح بين قوى الدفع وقوى الجَذْبِ.
يتضح من المشهد العام للمنطقة من زاوية الوضع الإسلامي ما يلي:
أنه يمكن من الزاوية الثقافية تصنيف دول المنطقة إلى صنفين:
أ- صنف معتدل في موقفه من الإسلام والثقافة العربية، حتى وإن وُجِدَ في النظام استئصاليون، وبخاصة في الجزائر وفي المغرب؛ حيث توجد نخبة فرانكفونية ذات نفوذ واسع في الوسط الثقافي والإعلامي والسياسي، لكنهم قد لا يمثلون الاتجاه العام ، وهو ما يجعل الصراع مع الحركة الإسلامية -وإن يَكُ له وجه ثقافي- صراعًا بين الإسلام والعلمانية، ولكنه ليس وجهه الأبرز، فوجهه الأبرز هو الصراع السياسي. وهذا الصنف تُمَثِّلُه غالبية دول المغرب العربي، من موريتانيا إلى ليبيا .
ب- الصنف الثاني: نموذج استئصالي يكاد ينفرد به النموذج التونسي، مُتَأَثِّرًا بمؤسسه الرئيس بورقيبة، الذي انتزع قيادةَ الحركة الوطنية، بجهدٍ منه، وبعونٍ من المحتل، استبعادًا لبدائل أسوأ، فأسّس الدولة وفق خلفيته الفرنسية المتطرفة في موقفها الديني، كما كان شَدِيدَ الإعجاب بنموذج أتاتورك، وأُضِيفَ كُلُّ ذلك إلى عُقَدِهِ الشخصية وتَشَيْطُنه.
ولئن كان هذا الصنف من النخبة له وجود مُتَنَفِّذٌ في الجزائر وفي المغرب وفي موريتانيا، لكنه لا يتمتع بنفس النفوذ، ولا له نفس التراث الذي له في تونس، باعتباره هنا المؤسس للدولة، فصبغها بصبغته، وشن منذ انتصابه حملةً واسِعَةً على الإسلام؛ مؤسساتٍ وعقائِدَ وشرائِعَ وشعائِرَ، ما أورث قطاعًا واسعًا من النخبة التونسية أصوليةً علمانِيَّةً متطرفة ، حملت رسالة تهميش الإسلام، أو إعادةَ صياغته وَفْقَ النموذج الغربي.
ـ برأيكم، هل الحركات والأحزاب الإسلامية اليومَ مُؤَهَّلَةٌ للقيادة السياسية في بلدانها ؟
* رغم أن الحركة الإسلامية في معظم بلاد العرب والمسلمين قد كسبت معركة الرأي العام كما أسلفتُ بالنسبة للمغرب العربي، بما يُؤَهِّلُها من هذا الجانب لِلْحُكْم، إلا أنّ الرأي العام- وإن كان العنصر الأهم لاكتساب الحق في السلطة في نظام ديمقراطي- فهو شَرْطٌ واجب غيرُ كافٍ كما يقال، إذ التحديات المطروحة، وخاصةً تحدي التجزئة، تقتضي مواجهتها بنجاح قيامِ حكوماتٍ ائتلافيةٍ، يتعاون فيها الجميع على هذه المواجهة، لا سيما وعالم النخبة تَشُقُّهُ تناقضاتٌ شديدةٌ، يقتضي التعامُلُ الناجِحُ معها الكثيرَ من الصَّبْرِ والتدرج والإيثار لا الاستئثار.
والنموذج السوداني ناطِقٌ بضرر التَّعَجُّل والانفراد والإقصاء. وما يعانيه النموذج الإيراني من حصارٍ دَوْلِيّ، ومكائد إقليمية، لا يُغْرِي حركةً إسلاميةً بالمسارعة إلى السلطة منفردةً، ولا الزهد فيها كذلك، وإنما السير إليها ضمن جبهات وائتلافات. والله أعلم.
ـ كيف تنظرون إلى تجاربِ بعضِ الأحزاب والحركات الإسلامية في عالمنا العربي والإسلامي، وانخراطها في العملية السياسية، وأقصد بذلك تجربة حركة حماس في فلسطين، وتجربة الحزب الإسلامي العراقي في العراق، وحزب العدالة في تركيا، وهل هي تجارب ناجحة برأيكم ؟
* أوضح هذه التجارب وأنجحها حزبُ العدالة والتنمية، من حيثُ قُدْرَتُهُ على الجمع بين الواقع والمثال، الواقع المتمثل في إكراهات الواقع العلماني، وإكراهات العسكر، وإكراهات الاندراج ضمن التحالف الأطلسي الأروبي الصهيوني.. وبين المثال الإسلامي، ليس عبر رفع شعارات الإسلام، ولكن عبر المواقف والإنجاز؛ على الصعيد الاقتصادي- وهو التحدي الإسلامي بل الدولي الأول اليوم- والإنجاز على صعيد خدمة الفقراء، وعلى صعيد إرضاء المستثمرين. وكذلك الموقف من قضايا الأمة الكبرى، مثل القضية الفلسطينية، والموقف الرافض لعبور الجيوش الأمريكية لغزو العراق.
إن العدالة والتنمية قد تَوَفَّقَ من خلال الإنجاز والموقف، أن يقوم بالتبشير بالمشروع الإسلامي والشهادة للإسلام، بما يفوق أبْلَغَ الخطباء، وأعظمَ العلماء.
أما حماس فهي قبل كل شيء حَرَكُة تَحَرُّرٍ وطني، في بلد تحت الاحتلال، ما كان واردًا فيه أصلًا الحديثُ عن صراعٍ على حكم؛ إذ الأصل أن يكون لنا وَطَنٌ، لنا فيه وعليه سيادةٌ لِنَحْكُمَه، وقد نتنازع على حكمه، بينما الذي حصل أنّ وَطَنًا مُحْتَلًّا قام أهله يدفعون عنهم المحتل، فلما اشتدتْ مقاومتهم حتى أرْهَقَتْه، وعَجِز عن إخماد مقاومتهم، لجأ إلى الحيلة والإغراء، فاستدرج الثائرين إلى دهاليز المفاوضات، ولا يزال بهم يضغط ويُغْرِي ويُمَنِّي ويَعِد، حتى نقلهم من ثُوَّارٍ إلى حُرَّاسٍ لِأَمْنِهِ!! يستمدون شرعيتهم من مدى قدرتهم على إجادة تلك الحراسة، وإحباطِ كُلِّ مَسْعًى مقاومٍ، فقام على تمويلِهِم وتسليحِهِم وتدريبِهِم للقيام على تلك المهمة، وفَعَلَوُها، بما فرض على فريق المقاومة الذي حَلَّ مَحَلَّ الفريق السابِقِ أنْ يَتَّجِه إلى مصادر النيران لإسكاتها، فاقتحم ساحَةَ الانتخاباتِ للحَوْلِ دون تلك السلطة الْمُسْتَعْمَلَةِ وما استُعْمِلَتْ له.
إن نجاح "سلطة" مثل هذه، إنما يقاس بمدى نهوض الوسيلة بالمقصد. وكل الضغوط الرهيبة التي سُلِّطَتْ على حماس، وعلى شعب فلسطين، للفصل بينهما، هدفتْ إلى الفصل بين المقاومة والسلطة، ومَنْعِ الأخيرة أن تكون في خدمة الأولى، عن طريق انتزاع السلطة من حماس.
إن ما حقَّقَتْهُ حماس خلال سنتين من صمودٍ أُسْطُورِيّ في وجه الحصار، والمحافظة على السلطة، وحق المقاومة في الآن ذاته، وفَّرَ للمقاومة لأول مرةٍ في تاريخها فُرْصَةً للتخطيط والتدريب، وتطوير وسائلها وهي آمنة من "السلطة"، من ظلم ذوي القربى!! إذِ السُّلْطَةُ والمقاومة في خدمة المقاومة، بل هي ذاتها.
إنّ ما سُمِّيَ الحَسْمَ، والمقصود به تَطْهِيرُ شِبْرٍ من أرض فلسطين غزة من حراس إسرائيل، وهذا الحسم هو الأب الحقيقي لصمود غزة الأسطوري، في وجه أعتى جيوش الأرض بَأْسًا وتَوَحُّشًا، وردَّهُ على أعقابه بعد أزْيَدَ من ثلاثة أسابيع من التدمير الرهيب، ولكنه فَشِلَ في أن يقتحم قلعة غزة.
حماس بهذا الاعتبار قد حقَّقَتْ، ليس مجرد نجاح، بل ما يشبه خوارق العادات؛ إذ صَمَدَتْ في كل المواجهات؛ مواجهة المساومة، والحصار، والاغتيال، والاختراق، والكيد، وأخيرًا الحرب الشاملة، وهي اليوم تَخُوضُ المعركة على الطاولة مع عتاولة السلطة، ومَنْ ورائِهم رومٌ، ومِنْ ورائهِمْ رومٌ- حَسَبَ تَعْبِيرِ الْمُتَنَبِّي- أعانهم الله بمددٍ منه وثبّتهم.
وإذا كان من نُصْحٍ لهم، فهو المزيد من التَّحَامُلِ على أنفسهم ومجاهدتِهَا؛ ليتصرفوا من مَوْقِع أُمِّ الولدِ حامِلِ المشروع الوطني، وليس مُمَثِّلًا لفصيل، فإذا جاز ذلك قبل غزة، فليس جائزًا بعدها.
أما عن السُّنَّة العرب فهم يتامى العراق. لقد تُرِكُوا لأنفسهم في معركةٍ يَخُوضُهَا أقطابٌ دولِيُّونَ وإقلِيمِيُّون كبار، ونُظِرَ إليهم على أنهم جزءٌ من زَمَنٍ وَلَّى، وعهد بائد، فكانوا يخوضون معركةَ بقاءٍ، وقد دارت عليهم الدوائر، فكان مفهومًا أنْ يضطَرِبَ موقفهم، يشاركون ثم يقاطعون، ثم يشاركون. إن دول الخليج ومصر يتحملون مسئوليةً عُظْمَى فيما آلت إليه أوضاع العراق، والسودان، والصومال، وفلسطين، وعموم أوضاع العرب.
ـ يرى بعض المحللين أن تواجُدَكُم في بلاد أجنبية حَصَرَ نشاط حركة النهضة، فما هو دوركم الآن كحركة معارضة للحكومة في تونس؟ وهل هناك بوادر لإصلاح وجهات النظر بينكم وبين الحكومة في تونس ؟
* ليست الهجرة في تاريخ الدعوات وحركات التحرر بأمرٍ غريبٍ أو شاذٍّ، فقد هاجر الأنبياء والرسل، وهاجر زعماء الحركات الوطنية، ولذلك اعترف القانون الدولي بحقوقٍ للمهاجرين السياسيين ضمن اتفاقيات معروفة.
وهِجْرَتِي وآلافٍ من أخواني هجرةٌ إجبارية، ولم تَخْلُ المهاجر منذ "الاستقلال"من مهاجرين، كما لم تَخْلُ السجون من ضيوف، وتداولت تيارات المعارضة على السجون كما تداولت على المهاجر!
ولقد جعل الله سبحانه لعباده الْمُهَدَّدِين بالاضطهاد في الهجرة مخرجًا. والحقيقة أني غادرت البلد الحبيب بعد فترتين من السجن، (خمس سنوات ونصفا) وذلك إِثْرَ انتخابات 1989، التي فازتْ فيها النهضة فوزًا عظيمًا، فما كان من السلطة المتحكمة منذ 1956إلا أن أقدمت كعادتها على التزييف الواسِع للنتائج
ورغم اعترافها للقوائم المستقلة، التي كانت وراءها النهضة، بما يقرب من 20%، بما يجعلها زعيمةَ المعارضة، إلا أنها قررتْ إقصاءَهَا واستئصالها جُمْلَةً؛ حتى تخلو لها الساحة، مكتفيةً بمعارضة صوريةٍ ..وعلى إثر ذلك خرجت من البلاد، تلبيةً لجمعية طلابية فلسطينية بألمانيا لألقي محاضرة في مؤتمرها، ولم تكن حملة السلطة على الحركة قد بدأتْ، ولأن الجوَّ خانِقٌ في البلاد، وكان الحصار مَضْرُوبًا عليّ، فقد استجبت للدعوات الكثيرة في أرجاء العالم، التي أخذتْ تُوَجَّهُ لإلقاء محاضرات، والمشاركة في مؤتمرات ، وخلال ذلك تصاعَدَ التوتُّرُ في البلاد، وبدأتْ حملات الاعتقال، فطلب إليّ الأخوة في الداخل الانتظارَ حتى تنْجَلِي الغمامة، إلا أن الأوضاع اتجهتْ إلى الأسوأ ضِمْنَ خطة استئصاليه شاملة تُشَنُّ على الحركة، فلم تَعُدْ عَوْدَتِي مُسْتَسَاغَة.
وهكذا طلبتُ اللجوءَ السياسِيَّ في بريطانيا منذ سنة1991، ولم يكن أمامي خِيَارٌ آخَرُ غير وضع نفسي طائعًا مختارًا تحت رحمة أعدائي، مما لم يأمر به دِينٌ ولا مصلحة.
ما المصلحة في أن أُضِيفَ سجيًنا إلى آلاف السجناء، فأخمد صوتي بنفسي، وهو ما يسعى في أثره الأعداء؟!
صحيح أني لست أزعم أني أُنْجِزُ في الْمَهْجَرِ شيئًا عظيمًا، ولكن ماذا عساي كنت سأُنْجِزُ في الداخل ضمن الأوضاع القائمة؛ حيث الخيار لأمثالي بين سجنٍ مُضَيَّقٍ، هو السجن المعروف الذي كان يضم عشرات الآلاف من إخواني في بداية المحنة، وهو يضم اليوم بضعة آلاف، منهم نفرٌ قليلٌ من جيل الصحوة الأولى، كالدكتور الصادق شورو، الرئيس السابق للحركة، الذي يقضي سنته التاسعة عشرة وراء القضبان! وآلاف من شباب الصحوة الجديدة!
والخيار الآخر كان سجنًا مُوَسَّعًا أو متحركًا، شأن الآلاف من إخواني الذين أَتَمُّوا محكوميتهم، لكنْ استقبلتهم البطالة، والمحاصرة الأمنية، ومَنْعُ السفر إلى خارج البلاد وحتى داخلها إلا بإذن!
فالحصار لا يزال مضروبًا على الحركة، رغم حضورها في الساحة بِمُنَاضِلِيهَا الأفذاذ، كما أن الحصار مضروبٌ على التَّدَيُّن، والْمَنْعَ مُسَلَّطٌ على الحجاب، وذلك رغم الاتجاه العارمِ لشعب تونس وشبابِه وشابَّاتِهِ صَوْبَ التدين.
ما المصلحة في إضافة سجين آخر إلى السجن المضيق أو المتحرك؟!
صحيح أنني لا أقوم بشيء عظيم من خارج البلاد، ولكن المسافة بين " الداخل" و"الخارج" قد تقاصرت في هذا الزمن.
إن مساحة الإعلام العربي في لندن، المتوجّه إلى العالم العربي، يربو عمّا هو في أكثرَ من أي عاصمةٍ عربية، فأنْ تُخَاطِبِي تونس من لندن هو أَيْسَرُ َبكثيرٍ من مخاطبتها من داخلها، ولذلك نرى المعارضين، وحتى جماعة السلطة، يَبْحَثُون عن فُرَصٍ في الخارج لمخاطبة الداخل. ولْأَضْرِب مثلا، فإن معاركنا مع السلطة كُلَّهَا انطلقت من المساجد، وهي تُصِرُّ على أن المسجد مُلْكٌ لها، تُسَخِّرُه لدعاياتها، ونحن كنا نُصِرُّ على أن الله ملَّكه للأمة، فلا يحتاج مُؤْمِنٌ للاستئذان من أحد ليأمر بمعروف، أو يَنْهَى عن منكر.
وانتهى الأمر إلى اعتقالي وإخواني مراتٍ، كُلُّها من المساجد، بينما أنا اليوم لا أحتاج لاستئذان أحد؛ لألقي درسًا أو موعظةً في أي مسجد هنا، بل أكثر من ذلك أستطيع أن أنقل ذلك الدرس إلى ملايين من الناس عبر الإنترنت والفضائيات.
وعلى كل حال أنا لا أزال مُجَرَّدَ لاجئ في هذا البلد، لم أَتَوَطَّن، في انتظار أولِ فُرْصَةِ انفراجٍ؛ لأعود إلى موقعي الطبيعي بين أهلي وإخواني.وعساه يكون قريبًا.
أما عن السلطة، فرغم نداءاتنا ونداءاتِ غَيْرِنَا الموجهةِ إليها، دعوةً إلى الانفتاح والتَّصَالُحِ مع شعبها، معنا ومع غيرنا، إلا أنها لم تُلْقِ لذلك بالًا، بل أَوْغَلَتْ فيما أدمنتْ عليه من تعامُلٍ أَمْنِيٍّ مع كل الملفات، بما فيها ملفات المعارضة، ما أَفْضَى بالبلاد إلى حالةِ جمودٍ وانسدادٍ وتصاعُدٍ للاحتقان، بدأتْ طلائعه تتفَجَّر أحداثَ عُنْفٍ وهِزَّاتٍ اجتماعيةً وإضراباتٍ، بما يُرَجِّحُ أن التطور في البلاد ليس مُتَّجِهًا إلى مصالحةٍ وانفراجٍ، بِقَدْرِ ما هو مُتَّجِهٌ أكثرَ صَوْبَ الانفجارات الاجتماعية والعنيفة.
وربما يكون ذلك جزءًَا من الوضع العربي العامِّ الذي تتضاءَلُ الآمال في تَطَوُّرِهِ إلى الديمقراطية، عَبْرَ الوفاق مع الأنظمة القائمة. والمرجح أكثر هو التطور عبر انتفاضات الشوارع، والإضرابات، والاعتصامات، تقودها جبهاتٌ وطَنِيَّةٌ، قد نفض مؤسسوها أيديَهُم، وغسلوها يَأْسًا من إصلاح أنظمةٍ تَحَوَّلَتْ إلى أجهزة قَمْعٍ في حراسة مافيات.