الصفحات

الجمعة، 1 يناير 2010

نحو دولة مدنية لا دين ولا مذهب لها

الدكتور سعود المولى
في مطلع الثمانينات من القرن العشرين دعا الامام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين الى "دولة مدنية لا دين لها".. يومها "عوتب على هذا القول" وصدرت ضده "مواقف وتصريحات شديدة اللهجة" (بحسب تعبيره في ندوة له في 6/7/1995)... إلا أنه ظل يعيد ويكرر موقفه هذا حتى وفاته في 10 كانون الثاني/يناير 2001...واليوم ونحن أمام الذكرى التاسعة لرحيله لا يسعنا إلا ان نتذكر موقفه هذا بخصوص التجربة العراقية الجديدة والتي تحاول أن ترسم لنفسها أفقاً مختلفاً عن تاريخ العراق الدولة الشديدة المركزية أو المستبدة..والحقيقة أن الشيخ شمس الدين كان يستعيد موقف العظماء الكبار من مراجع النجف الأشرف من الشيخ حسين النائيني الى السيد محسن الحكيم في التعامل مع قضية الدين والسياسة من جهة، والدين والدولة من جهة أخرى.. وهو حين كان يدعو الى الاعتراف بالطوائفية (من جهة الميثاق التوافقي) فإنما كان يؤكد في الوقت نفسه على الفصل بين الطوائف والدولة من جهة سلطة الدستور المدني أوالدولة التي لا دين لها...أو دولة الحق والمؤسسات..... وحين يقول الامام شمس الدين دولة لا دين ولا مذهب لها فهو لا يعني مواطنين بلا دين أو مذهب، أو مجتمعاً بلا دين، وإنما يعني تحديداً دولة وسلطات حاكمة لا دين ولا مذهب لها... وهو هنا يميّز في الفقه السياسي بين اعتبارين للمجتمع، أي مجتمع: الاعتبار الأهلي-المدني، والاعتبار السياسي.المجتمع الأهلي- المدني لا علاقة له ببنية الدولة ولا حتى بوجودها أو عدم وجودها.. المجتمع الأهلي يحتضن ثقافة أهله وينوّع نفسه بحيث يحتضن تنوعاتهم وخصوصياتهم.. هو المجتمع المسلم أو المسيحي، السني او الشيعي أو الدرزي أو العلوي أو الأيزيدي أو الشبكي او الكاكائي، أو هو المجتمع الكوردي أو الاشوري أو الكلداني أو الصابئي أو الماروني أو الأرثوذوكسي أو السرياني أو..أو... هذا المجتمع هو باعتبار أهلي، وهو باعتبار آخر سياسي، نظّم نفسهفي مؤسسة كبرى لإدارة شؤون حياته وتطويرها هي مؤسسة الدولة.. بهذا المعنى فإن هذا المجتمع السياسي هو مجتمع بلا دين أو طائفة أو مذهب.. فبحسب اجتهادات الامام شمس الدين ، فإن الدولة (أية دولة) هي في جوهرها جهاز إدارة وضبط للنشاطات والمصالح المشتركة في المجتمع، وليس لها غاية تستمد منها شرعيتها... فالشرعية التي تمتلكها هي شرعية وظيفية محضة. ولا يمكن الحكم على هذه الدولة الا من خلال إعتماد مقاييس الفعالية والمردودية للنظر في نتائج إدارتها للنشاطات المشتركة في مجتمعها. وهذا هو معنى فصل الطوائف عن الدولة وجعلها جهاز إدارة للمصالح العامة وللحقوق والواجبات.. وأن لا يتدخل الدين في الدولة التي هي جهاز وظيفي لخدمة المصالح المشتركة أو الصالح العام.... فالدولة بحسب شمس الدين هي مؤسسة من مؤسسات المجتمع ، وإن كانت المؤسسة الكبرى بامتياز أو مؤسسة المؤسسات. وهي بهذا المعنى لا تستطيع أن تشكل اختزالاً للمجتمع أو تعبيراً صافياً متعالياً كلياً عليه اوإلغائياً له. وهذا المعنى يتأكد في المجتمعات التي لم تستطع الدولة فيها تفكيك النسيج الاجتماعي وإرساء علاقة بين أفراد وجهاز دولة متضخّم السطوة على الدوام. ولذا فإن الدولة المطلوبة هنا هي الدولة المتصلة بالمجتمع المتكاملة معه، في معادلة قيادة وانقياد في الوقت نفسه: قيادتها للصالح العام المشترك، وانقيادها للغايات التي يحدّدها المجتمع؛ فلا الدولة وصيّة على المجتمع تتصرف بمعزل عن توجهاته، ولا المجتمع قادر على أن يحلّ محلها...
واقع الحال أن الدولة في مجتمعاتنا العربية أخفقت في الاتجاهين، فانفصلت عن المجتمع في ميداني المصالح العملية كما الغايات البعيدة، وتحوّلت إلى جسم يبدو دخيلاً، تقوم علاقته بالمجتمع على نصاب من الغربة والتنازع والغلبة. وفي حين قدّم الغرب في الماضي نموذج الدولة القويّة المكيِّفة لمجتمعها، وهو يقدّم اليوم نموذج الدولة الفدرالية اللامركزية المحققة للتنوع ضمن الوحدة، قدّمت تجاربنا العربية الحديثة نموذج الدولة الهجينة العاجزة والسلطة الاستبدادية الطائفية العشائرية في آن معاً..
ولئن بدا للبعض أن التعدد في المجتمع اللبناني (أو العراقي) حالة خاصة ينبغي تجاوزها لصالح "الدولة الحديثة" ، اللاطائفية ، العلمانية ، القوية ، القادرة على تذويب الاختلافات وتحقيق الانصهار الوطني ، فإن مسيرة العالم اليوم باتجاه اعتبار التنوع والتعدد ثروة حضارية (حسب قول الإمام موسى الصدر)، خصوصاً في المجتمعات الباحثة عن أسس جديدة لوحدتها وعن معنى ومضمون لهويتها ، قد أعاد الاعتبار إلى النقاش حول العلاقة بين الطائفية والتعدد الطائفي من جهة وبين صورة الدولة الحديثة المرتجاة من جهة أخرى .
وبالإجمال فإنه ينبغي الاعتراف أولاً بأنه لا يمكن في أي حال من الأحوال فصل الدين عن السياسة ، لا في لبنان ولا في العراق ولا في أي مجتمع آخر. فالمسلمون والمسيحيون والصابئة والإيزيديون، والسنة والشيعة، والعرب والكورد، يعيشون معاً في مجتمع سياسي، ولا بد أن يتحركوا في هذا المجتمع إنطلاقاً من أفكارهم ونصوصهم وتصوراتهم للعالم والكون والإنسان والمجتمع ، وهذه كلها أمور تختلط بالسياسة أو تؤثر فيها. ولعل هذا ما قصده المصلحون المجددون أمثال السيد محسن الحكيم والسيد موسى الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين في كلامهم عن دور عالم الدين في المجتمع وفي السياسة باعتبارها من شؤون المجتمع وليس من شؤون الدولة وحدها...والفصل المدعى بين الدين والسياسة ليس إلا فصلاً صورياً أو شكلياً، حصل في مرحلة من التاريخ، وتطبيقه الصارم لا يؤدي إلا الى مزيد من القمع ( قمع المجتمع ونفيه وتغريبه من جانب نخب الدولة، مثال تجربة الأنظمة العربية مع الحالة الاسلامية ومع المجتمع عموماً) أو الى تعسف في إستخدام القانون المدني (العلماني) (أنظر مثال تركيا الكمالية والنظام الإيرني الشاهنشاهي كما النظام الأفغاني في عشرينات القرن العشرين والنظام التونسي في أيامنا هذه، وأنظر أيضاً قضية مواجهة الحجاب في فرنسا اليوم من جانب بعض العلمانيين "المتعصبين")..وبدل الدعوة إلى الفصل، دعا الشيخ محمد مهدي شمس الدين، ومعه كبار المفكرين المسلمين أمثال الجزائري مالك بن نبي والعراقي النجفي حسين النائيني والإيراني مهدي بازركان والعراقي الكوردي فاضل رسول والمصري الإمام محمد عبده والسوداني حسن الترابي والتونسي راشد الغنوشي والمغربي علال الفاسي، إلى التمييز بين المستويين، بين السياسة والدين (وإلى الإنسجام بينهما كما في وثيقة الوفاق اللبناني في الطائف 1989، وكما في الدستور العراقي الجديد). ذلك "أن حداً فاصلاً دقيقاً ومرناً ومتحركاً يقوم بينهما، يمكن أن تعبّر عنه المعادلة الآتية: لا يمكن أن يتحول الدين سياسة، وإلا فقد جوهره الفطري الإنساني، وغابت قيمه العرفانية والأخلاقية، وضاعت ديناميته وحركتيه التي تتجاوز كل سياسة وضعية وذلك بفعل الضغط الإجتماعي وإحتمال الإنحراف البشري، ولا يمكن أن تتحول السياسة ديناً وإلا فقدت مبررها كسياسة مدنية وأصبحت أسيرة نص من النصوص أو مذهب من المذاهب أو طائفة من الطوائف" (بحسب الدكتور وجيه كوثراني).....
الأصل الذي تعلمناه من علماء النجف الكبار من الشيخ النائيني والسيد الحكيم الى السيد السيستاني مروراً بالسيد موسى الصدر والامام الخميني: أنه ينبغي ألا ينعزل الدين عن هموم المجتمع ومشاكله وقضاياه، بل أن يكون له كلمة ومشاركة في السياسة والعمل السياسي..
والأصل الذي تعلمناه من محمد مهدي شمس الدين أنه يجب على السياسة أن تستلهم الدين في أخلاقيته وقيمه في حركة أسماها التقوى الحوارية : تقوى الله وتقوى الأخوّة الإنسانية، وتقوى الشعب والأمة..
والأصل الذي تعلمناه من التجربة الايرانية انه يمكن تنظيم "الحد الفاصل بين الدين والسياسة"، (عنوان كتاب مهدي بازركان- ترجمه ونشره فاضل رسول، دار الكلمة، بيروت، 1979)..
أما الدولة فهي مجال آخر (ليس هو الدين وليس هو وحده السياسة) لا يجوز أن يرتهن للقيد الطائفي أو العشائري أو المناطقي.. الدولة ولاية من الولايات وليست الولاية الوحيدة وإن كانت الأكبر... والأصل الاسلامي هو أن لا تستبد الدولة بالولايات (كما يشرح بصورة رائعة السيد عادل عبد المهدي في كتابه: الثوابت والمتغيرات في الاجتماع العربي الاسلامي)، وأن لا يتشتت المجتمع دون حكومة (بالمعنى الاسلامي)..أي أن لا يطغى طرف الدولة بنخبها، وايديولوجية نخبها، على المجتمع (مثال الدول العربية الاستبدادية وعراق صدام حسين تحديداً) وأن لا يخترق المجتمع بما يختزنه من تعددية وتنوع وصراعات ومصالح وحدة الدولة فيفككها إلى زعامات ومراكز طائفية ومذهبية وجهوية وفئوية (مثال لبنان).هنا ينبغي أن تقدم لنا التجربة اللبنانية (كما العراقية اليوم) بكل عجرها وبجرها، صياغات نظرية عن التوازن بين الدولة والمجتمع يقوم على التعددية واللامركزية الموسّعة وعلى الانسجام بين الدين والسياسة في خدمة الانسان، وعلى تنظيم العلاقة بين الدولة والدين، وإحلال التناغم والانسجام بينهما، على أسس العدالة والكرامة والمساواة والحرية والديمقراطية للجميع وبين الجميع.
وفي هذا فليتنافس المتنافسون.