الصفحات

الأربعاء، 18 أغسطس 2010

الديمــاغـوجــيــا لا تصنــع وعـيــاً

بقلم محمود سويد
أظهر النشاط الأمني في حقل كشف شبكات التجسس لإسرائيل، في السنوات الأخيرة، أن البلد بكامله وبأدق تفاصيله ينبسط عارياً على كف إسرائيل تقرأه بيسر كما يقرأ الراشد المتعلم كتاب روضات الأطفال. وما ظهر حتى الآن من شبكات اخترقت الأجهزة الأمنية بما فيها الجيش، أي العمود الفقري لأمن البلد، حري بأن يطرح علينا جميعاً - نحن اللبنانيين - سؤالاً آخر يضاف إلى "كومة" الأسئلة المتراكمة التي لا يبحث أحد في لبنان بجد عن أجوبة عنها.
والسؤال هو: لماذا لم تتقدم الفئات التي شكلت لبنان منذ عام 1920 خطوة ملموسة على طريق الاندماج الوطني لبلوغ ما يصح أن يسمى: "الشعب اللبناني"؟ كما حصل لإسرائيل التي ولدت بعد لبنان بـ 28 سنة إذا اعتبرنا أن لبنان الواحد ولد عام 1920 أو بخمس سنوات إذا اعتبرنا أن لبنان الواحد بدأ فعلياً في سنة الاستقلال؟ فقد نجحت إسرائيل إلى حد بعيد في دمج "شعوب" قادمة من مختلف القارات، متفاوتة النمو، متباعدة الثقافات واللغات، والعادات الخ فأنشأت "وطناً" و"لغة" و"مجتمعاً" و"شعباً" ودولة، ونظام حكم، ونظام انتخابات، وجيشاً وصحافة "وطنية"، وأحزاباً الخ الخ؟
لعل السؤال الذي تسعى هذه المقالة إلى الإجابة عنه يضيء جانباً من السؤال الكبير أعلاه: لماذا هذه السهولة في امتهان العمالة لأخطر أعداء لبنان، وهي، على ما يبدو، "مهنة" عدد غير يسير من اللبنانيين؟
وإنصافاً للجواسيس اللبنانيين و"بيئاتهم" المتنوعة بتنوع طوائف لبنان ومناطقه، أسارع إلى القول إن في البلاد العربية ما هو مثيل وأدهى، وهو مستور بقبضات أنظمة معمرة ومستبدة تحترف إخافة الناس وإرهابهم وكم أفواههم وسجن مثقفيهم وكل ما يخطر على البال من أشكال القمع باستثناء: "توعيتهم". وهذا هو بيت القصيد.
منذ "النكبة" الأم (1948) والنكبات اللاحقة (1967 أراضي فلسطين وثلاث دول عربية؛ 1982 - لبنان، 2003 احتلال العراق وتدميره) والشعوب العربية (استخدام مصطلح الشعوب هنا مجازي وغير علمي تماماً) غارقة في بحر من النفاق ويضغط على عنقها "نيران" لا ثالث لهما: نير الديماغوجيا القومية، ونير الديماغوجيا الدينية. أعلنت الحركة الصهيونية برنامجها في أواخر القرن التاسع عشر، وشرعت في تنفيذه انطلاقاً من أوائل القرن العشرين حتى حقق إنجازه الأول: إعلان ولادة إسرائيل الصهيونية قريباً من منتصف القرن. ثم بعد 19 سنة ولدت نواة "إسرائيل الكبرى" في أعقاب النكبة الثانية عام 1967.
لم يبلغ وعي الخطر الصهيوني "العقل" العربي على الرغم من الهزائم والنكبات المتكررة باستثناء قلة من المفكرين أذكر بعض أعلامهم من العرب، فللفلسطينيين حديث آخر، قسطنطين زريق، وعبد الوهاب المسيري، وقدري حنفي، وياسين الحافظ، وصادق جلال العظم وغيرهم. ومن اللبنانيين لا أنسى ميشال شيحا، وجورج حنا، ورئيف خوري، وميشال أسمر في "الندوة اللبنانية"، وأسعد رزوق، ومؤسسي مؤسسة الدراسات الفلسطينية في أوائل الستينات: ادمون رباط، وموريس الجميل، وشارل حلو، ونجلا أبو عز الدين وغيرهم.
لم يصل الضوء المنبعث من هذه "المنارات" إلى الأرض العربية الشاسعة. وكان حاجز الجهل والتخلف الجدار الصلد الذي حال بينه وبين الشعوب العربية، فسادت الديماغوجيا وظل شعار "قضية العرب الأولى" واهياً وزائفاً ومتهافتاً وفارغاً من مضمونه الحقيقي.
وكان الشعب الفلسطيني الضحية الأولى للغزو الصهيوني، الوحيد بين الشعوب العربية الذي خاض تجارب نضالية جادة وفجَّر ثورات أهمها الثورة الحديثة عام 1965 التي وحدت الشعب الفلسطيني الممزق في الشتات وفي الداخل (مناطق 1967) وداخل الداخل (مناطق 1948) وكان لهذا الشعب أيضاً مناراته الفكرية التي كشفت المخططات الصهيونية وحذرت من أخطارها أمثال روحي الخالدي، ووليد الخالدي، وفايز صايغ، وبرهان الدجاني، وقدري حافظ طوقان، وموسى العلمي، وأنيس صايغ، وهنري كتن، وعزمي بشارة، ونور الدين مصالحة، وصبري جريس، وإدوارد سعيد، ويوسف صايغ، وعبد الوهاب الكيالي وغيرهم.
من الإجحاف إنكار تضحيات مصر وسوريا ولبنان والأردن ودول عربية أخرى في المواجهات مع إسرائيل والدفاع عن الحقوق العربية، لكن هذه التضحيات كانت تعبيراً عن مشاعر قومية ولم تجد مرجعية في المستوى الفكري والثقافي، فظلت مجرد حالة دفاع عن النفس في وجه غزو هو الأخطر بعد الغزو الفرنجي للمنطقة. ولم ينشأ فكر عربي قادر على عرض المشروع الصهيوني، بشكل حسي، يسير الفهم، مقنع، وشرح أخطاره على تواصل الوطن العربي الجيواستراتيجي وعلى ثقافته ومشروعه الحضاري النهضوي ومستقبله، وبأسلوب يأخذ به جمهور المثقفين العرب ويتحول مادة في برامج الأحزاب والمراكز الثقافية، وينبث في صلب الثقافة العامة لمختلف أوساط الرأي العام العربي، بما في ذلك منظمات وهيئات المجتمع المدني.
ولم يتمكــن أي نظــام حكــم عربــي مــن اســتيعاب حقائــق المشــروع الصهيوني وإدراك مخاطره (Perception intellectuelle / réalisation) بما يفرض إدراجه في برامج التعليم بمختلف مراحله. واستعيض عن هذا كله بالخطب الرنانة وإثارة العواطف وأحياناً الغرائز، والاستعانة بالصح والخطأ من مبررات المواجهة مع هذا المشروع (بروتوكولات حكماء صهيون، إنكار الهولوكوست، مقولات دينية غير صحيحة الخ).
لم تكن الجيوش العربية أفضل حالاً، فهي لم تعرف من التثقيف عن الصهيونية سوى الإيديولوجيا والديماغوجيا. فليس غريباً إذاً أن يتفاقم خطر الانكشاف أمام إسرائيل، انكشاف عسكري أمني: نتعرى أمامه في لبنان، وها نحن نتصدى له أكثر من أي بلد عربي آخر، في ظرف خاص مستمد من تحقيق المقاومة الإسلامية انتصارات جزئية وموضعية على إسرائيل في مرحلة بدء تراجع الحركة الصهيونية (إذا اعتبرنا أن مشروعها إقامة إسرائيل الكبرى) بعد أن بلغت أقصى ذروة كان يمكن أن تبلغها (هذا لا ينتقص من كفاءة مناضلي المقاومة وبسالتهم ولا من إنجازاتهم الكبيرة)، لأسباب كثيرة لا مجال هنا الآن للتبسط في عرضها وأهمها صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته وصمود الشعوب العربية وممانعتها ورفضها "التطبيع".
وكان طبيعياً أن يتضخم وهج انتصارات المقاومة الإسلامية كونها بصيص أمل وسط ظلام مريع يهيمن على الفضاء العربي على اتساعه، بعد سلسلة الهزائم والانكسارات وانهيار مبرر قيام الأنظمة العربية التي قامت للرد على النكبات، لكن الأرض احتلت والمجتمعات دمرت وبقيت السلطة! فبعد عقود من الاستبداد والهيمنة بذريعة أن (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) تجد الشعوب العربية نفسها مجردة من أية إنجازات: لا جيوش ولا أمن ولا مدارس ولا جامعات ولا عناية وضمانات صحية ولا مياه ولا كهرباء ولا زراعة توفر الأمن الغذائي للحاضر والمستقبل ولا صناعة تضاهي صناعات الدول الأخرى التي لا تملك مثل ما يملك العرب من مصادر الثروة وسعة الأرض وأهمية الموقع الخ.
والأدهى أن هذه الأنظمة المعمرة قمعت على مدى عقود أي محاولات للتنظيم الحزبي والنقابي وقضت على الحريات الثقافية والعامة، وعجزت عن اللحاق بالتطور العلمي والتكنولوجي العالمي، وحالت بالتالي دون وجود بدائل لها في مؤسسات المجتمع، فأصبح استمرار هذه الأنظمة، عبر الأشخاص أنفسهم، أو الأبناء، أو ضمن الحلقة الضيقة حول الحاكم المتطبعة بسلوكه والمتربية في مدرسته، أمراً محتماً يفرض استمرار النهج نفسه.
في أوائل السبعينات من القرن الماضي، وبعد اتصالات وتبادل آراء بين قيادة الجيش اللبناني والمسؤولين في مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، تم تشكيل لجنة مشتركة أشرفت على إصدار كتاب أكاديمي باسم "القضية الفلسطينية والخطر الصهيوني". وكان يمكن أن يعتمد هذا الكتاب لتدريس هذه المادة في الجامعات العربية، وأن تستخلص من مادته عن الصهيونية ومخاطرها كتب مبسطة لمراحل الدراسة الثانوية. لكن هذا لم يحدث لا في لبنان ولا في أي بلد عربي. فموضوع التثقيف على أسس علمية موضوعية رصينة ليس هماً عربياً لا على مستوى الحكام ولا على مستوى المجتمعات. يقوم في إسرائيل العديد من المراكز العلمية المتخصصة لدراسة التاريخ العربي والحضارة العربية والسياسات العربية ومعاهد لدراسة دول كالعراق ومصر وسوريا ولبنان كلاً على حدة. في حين أن العالم العربي وبملايينه الأربعمئة وثرواته الخيالية يكاد يضيق ذرعاً بمؤسسة خاصة واحدة مستقلة تتلقى دعماً متقطعاً يكاد يسد الحاجات الأساسية من سنة إلى سنة لتبقى على قيد الحياة، أعني مؤسسة الدراسات الفلسطينية التي تقف وحيدة في مواجهة الآلة الصهيونية الجبارة ذات الأذرع المتعددة والمنتشرة في كل أنحاء العالم، إضافة إلى الدعم الغربي الثابت والمتواصل لها في مختلف المجالات.
يشير هذا الإهمال العربي الكامل لمقارعة الصهيونية على الصعيد الفكري والعلمي والثقافي والإعلامي الجامعي إلى خواء شعار "قضية العرب الأولى" وإلى سطحية وتفاهة انسكلوبيديا الكلامولوجيا العربية التي انفصمت عن اللغة العربية الأم التي يفترض أنها مثل باقي اللغات لكل كلمة فيها مدلول محدد تتسع آفاقه وأبعاده ويتطور بقدر ما تتطور الأمة صاحبة هذه اللغة. توقفت اللغة العربية عن النمو والتطور بسبب هيمنة الأمية والتخلف على المجتمعات العربية التي تتحرك عكس التطور بقوة استبداد الأنظمة وظلامية الحركات الدينية المتعصبة والمتطرفة بعد انكسار التنظيمات القومية أمام إسرائيل، فتجمدت اللغة محتفظة بسيل من الكلام المرصوف البعيد عن روح هذا العصر وإنجازاته، باستثناءات علمية وثقافية قليلة تقاوم الاضطهاد والفناء.
•••
سلكت التجربة اللبنانية طريقاً مختلفاً عن بقية الدول العربية التي خاضت حروباً نظامية في مواجهة إسرائيل. فلبنان لم يشارك في حروب نظامية (باستثناء حرب 1948) لكنه كان المحطة الثانية للثورة الفلسطينية - بعد الأردن - لنحو 14 عاماً (بين عامي 1968 و 1982) عرف خلالها وقبلها وبعدها اضطرابات وحروباً داخلية واحتلالاً إسرائيلياً مديداً قاومته في البداية مقاومة وطنية متنوعة تنوع المجتمع اللبناني، ثم مقاومة إسلامية متحدرة من "حزب الله" قادت الصراع حتى طرد المحتل الإسرائيلي عام 2000، وخاضت بعد ست سنوات حرباً زعزعت الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية، وأدخلت سلاح الصواريخ الموجهة إلى الجبهة الداخلية الإسرائيلية، فغيرت قواعد أية مواجهة عربية - إسرائيلية بعد حرب 2006 وأثارت لدى النخب السياسية والعسكرية في إسرائيل قلقاً على المستقبل. لكن المأساة تكمن في أن هذه التجربة محكومة بانعدام التواصل العربي المقاوم وانسداد أفقه، لأسباب كثيرة لا مجال هنا لمعالجتها.
خرج "حزب الله" ومقاومته الإسلامية من حرب تموز 2006 بحجم قوة إقليمية قادرة على الصمود في مجابهة إسرائيل وتكبيدها خسائر بشرية قاسية. توقفت منذ ذلك التاريخ المواجهة العسكرية مع إسرائيل، ومضى الحزب في تحويل المقاومة وسمتها الرئيسية الاختباء وسرعة التحرك، إلى التمركز وتكديس السلاح، في ما يشبه بنية الجيوش النظامية. وباستثناء الاستمرار في الاستعداد لأية مواجهة مقبلة مع إسرائيل، انصرف الحزب عملياً عن فعل المقاومة وتحول إلى الساحة الداخلية ليغرق في تفاصيل سياساتها، فكان 7 أيار 2008 السيئ الذكر، وكانت التظاهرات والصدامات المدمرة والدامية، والمعسكرات المخيمة في وسط البلد معطلةً دورة الحياة في بيروت، ومحاصرة القصر الحكومي في ما يشبه فرض الإقامة الجبرية أو الأسر على رئيس الحكومة وعدد كبير من الوزراء. واستطاع الحزب أن يملأ الإعلام والمنتديات والشارع السياسي بضجيج مبالغ فيه: مقاومة، مقاومة، مقاومة دون أن يمكّنه أسلوبه الإعلامي من كسب أية فئات أخرى إلى صفوفه. وغابت عن السمع مزارع شبعا وتلال كفر شوبا "مبرر" استمرار المقاومة - لمن أقنعه هذا التبرير - وتمكّن الحزب بآلته الإعلامية التي تشمل الخطب اليومية لقياداته والكلام اليومي لحوارييه وأنصاره من إعلاميين وسياسيين من رفع المقاومة من مستوى وسيلة كفاحية بين وسائل أخرى، إلى مستوى القداسة. فالمقاومة دعوة جهادية تنتج نصراً إلهياً (الإرادة الإلهية هي التي تعطي النصر). والقيادة التي تتولى قيادة العمل المقاوم بإرادة الله معصومة ومنزهة عن الخطأ، وهي بالتالي تسمو على النقد.
في مثل هذا الوضع تنتفي الحاجة إلى التثقيف العلمي بالصهيونية وإسرائيل، وما تحتاج إليه المقاومة الإسلامية هو استمرار حالة الشحن والتعبئة والاستعداد واليقظة الدائمة، وإلى استمرار تحلق الناس حولها لا إلى الانخراط في صفوفها، فهذه مقتصرة على نخبة مختارة من "أشرف الناس" وفق مواصفات حصرية.
والثقافة الوحيدة التي تحتاجها المقاومة الإسلامية هي ثقافة "الثورة الإسلامية" الإيرانية بقيادة آية الله الخامنئي وذراعه التنفيذية بقيادة الرئيس الدكتور محمود أحمدي نجاد، "حارسها الثوري" الأمين.
هكذا تبدو صورة "حزب الله" والمقاومة الإسلامية من خلال خطب الأمين العام بعد حرب 2006، وخطب وتصريحات كبار قادة الحزب، من رجال دين ومدنيين، وهي صورة لم تحقق، كما هو معروف، لا الإجماع اللبناني ولا العربي ولا الإسلامي، فضلاً عن أنها وضعت الخلاف السني - الشيعي التاريخي على حافة منزلق مدمر تغذيه العصبيات السطحية والجهالة التي لا تضاهيها أية "ميزة" أخرى في صفوف عامة المسلمين!
لم يعرف تاريخ حركات التحرر في العالم مقاومة تتحول بعد التحرير والاستقلال، إلى جيش دائم ذي عقيدة خاصة وكيان مستقل تحيط به مؤسساته التعليمية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية بمعزل عن الدولة والسلطة والحكم وبقية عناصر المجتمع من مؤسسات وفئات وطوائف.
هيمن "حزب الله" بعد إلغاء مفاعيل الانتخابات النيابية التي تمت في 7 حزيران 2009 وفرض تشكيلة حكومة "الوحدة الوطنية" واستطاع تعميم مقولة: جيش، مقاومة، شعب، فتبنتها السلطة الرسمية وهي تعرف أو لا تعرف أن لبنان صار، بحكم هذا التصنيف، يتألف من ثلاثة كيانات (Entités) مستقلة عن بعضها البعض: هناك جيش قائم بذاته، وهناك مقاومة قائمة بذاتها. ليس ثمة خطة واحدة توزع المهمات بين الجيش والمقاومة ولا سلطة لأحدهما على الآخر، وما يحكم علاقتهما هو ميزان القوة بينهما. أما الشعب وهو أيضاً كيان ثالث مستقل وظيفته أن يحافظ على استعداده (العاطفي) لدعم أي من "صنويه" الجيش أو المقاومة في معركتـ"ـه"/ معركتـ "ـها".
وبدلاً من التثقيف العلمي بالصهيونية وإسرائيل وخطرهما على لبنان، وهو خطر يفوق مثيله على بقية البلاد العربية، لأنه خطر يتجاوز الطمع في الأرض والمياه والدور إلى صراع وجودي، فلبنان وإسرائيل الصهيونية نموذجان نقيضان لا بد، في نهاية المطاف، أن يبقى أحدهما ويزول الآخر لأن لبنان لا يستطيع أن يكون أحادياً كإسرائيل اليهودية، وإسرائيل لا تستطيع أن تكون متعددة كلبنان المتعدد والمتنوع سكاناً وثقافة. فواجب الوجود لإسرائيل الصهيونية أن تكون يهودية، وواجب الوجود للبنان الواحد أن يكون متعدداً.
بدلاً من التثقيف العلمي بالصهيونية وإسرائيل يغرق لبنان جيشاً ومقاومة وشعباً، بديماغوجية خطاب السلطة ومعظم السياسيين وبقايا الأحزاب القومية، وديماغوجية "الثورة الإسلامية" المحكومة بالعجز عن أن توحد حولها الجماهير العربية والإسلامية (لأسباب معروفة)، لا اليوم ولا غداً.
في هذا البؤس الحياتي والفكري والعلمي والسياسي الذي يرص صفوف الجماهير العربية ويوحدها، إرثاً شرعيا للإيديولوجيات القومية المنهارة بسبب طغيان الديماغوجيا في أدائها على العلم والمنطق والعقل، تتقدم الديماغوجيا الدينية لتتسلم راية القيادة فتساهم بدورها في إدامة ليل التخلف والانحطاط وتمد - دون أن تدري أو تقصد - في عمر الصهيونية المأزومة إذ يعيد التعصب والتطرف في هذا الجانب الروح إلى التعصب والتطرف في الجانب الآخر، وتؤخر بالتالي لحظة انتصار الشعب الفلسطيني، بإضاعة الطريق واختلاط الرؤية وتبديد الوقت والجهد.