ينتاب اللبنانيين اليوم خوف كبير على السلم الأهلي والميثاق الوطني جراء عودة فريق منهم الى التهديد بالاحتكام الى السلاح، واضعاً البلاد أمام معادلة ظالمة ومستحيلة: التنكر للحقيقة والعدالة والقانون الدولي... وإلا فالحرب الأهلية!
هذه في ظل عجز السلطة عن القيام بواجباتها في حماية المجتمع، وفشل "هيئة الحوار الوطني" – نتيجة الانقسام السياسي الحاد – في اقناع بعض الأطراف الأساسيين بالعودة الى كنف الدولة في ما يخص الأمن الوطني والاستقرار العام، وذلك رغم التعهدات الموثقة من طاولة الحوار وصولاً الى بيان الحكومة الحالية. وما يضاعف خطورة هذه الأزمة الداخلية ارتباطها الوثيق بأزمة السلام في المنطقة حيث يصر بعض القوى الاقليمية على استرهان لبنان لمآربه الخاصة واستخدامه ورقة وساحة.
إزاء هذا الوضع، تداعى عدد من العاملين في الشأن العام وتباحثوا في سبل مواجهة الأزمة ، رافضين فكرة الاستسلام للأمر الواقع وانتظار ما سيكون للتكيف مع نتائجه. وقد رأى المجتمعون أن مواجهة الأخطار المحدقة بلبنان- في ظلّ الإستعصاءات التي أدت وما تزال إلى تراجع مشروع الدولة - تقتضي عملاً عاجلاً لاطلاق "تعبئة مدنية" واسعة من شأنها أن تشكّل شبكة أمان مجتمعية لحماية اللبنانيين من تكرار التجارب المأساوية التي عاشوها على مدى أكثر من ثلاثة عقود، واستعادة حقهم بحياة آمنة وكريمة.
وفي هذا السبيل قرّر المجتمعون إطلاق "مبادرة بيروت"، إطاراً مفتوحاً للتواصل والحوار وتنسيق الجهود في الوطن والمهجر، يتخطّى الحواجز الفئوية على اختلاف مسمّياتها، وذلك بغية التوصل الى اتفاق حول "شرعة وطنية لحقوق اللبنانيين الأساسية"، وهي حقوق يجري استباحتها منذ عقود بحجج طائفية وعقائدية مختلفة. وتشكل هذه الشرعة منطلقاً لتوحيد طاقات المجتمع واستعادة فاعليته في هذا الظرف الخطير الذي يجتازه لبنان.
وسوف يتولى الموقعون على هذه المبادرة القيام بالاتصالات مع كل المعنيين والتحضير للقاء موسع يناقش ويقّر "الشرعة " ويضع خطة للتحرك من أجل تشكيل كتلة ضغط مجتمعية تستطيع – بالوسائل الشرعية - أن تفرض على الدولة التزام هذه الحقوق الأساسية التي من دونها لا مستقبل للبنانيين في وطنهم.
تتضمن "الشرعة الوطنية لحقوق اللبنانيين الأساسية" المقترحة البنود التالية:
أولاً حقُّ اللبنانيين في وطنٍ لا يكون ساحةً دائمة للحرب من أجل مصالح خارجية أو حزبية، وطنٍ تحتكر فيه الدولةُ القوةَ المسلحة، من دون شريك، وحيث سيادتُها مبسوطةٌ على جميع أراضيها والمقيمين، لا تحدُّها إعتبارات طائفية أو عشائرية. ذلك أن الدولة هي وحدها المخوَّلة عبر مؤسساتها الدستورية إتخاذ قرارات مُلزمة لجميع المواطنين.
ثانياً حقُّهم بالإنصاف، في إطار المواجهة العربية مع إسرائيل. فلا يُرغمون على تحمّل أعباء الصراع المسلح وحدهم، كما حدث في العقود الأربعة الماضية، حيث عقدت مصر والأردن معاهدتي سلامٍ مع اسرائيل، فيما حافظت سوريا على حدودٍ هادئة في الجولان منذ عام 1973، وهي تفاوض منذ سنوات من أجل معاهدةٍ مشابهة.
ثالثاً حقهم في أن يتحمل المجتمع الدولي مسؤولياته في الدفاع عن لبنان تطبيقاً للقرارات التي اتخذها، وفي أن يضع حداً لسياسة الكيل بمكيالين التي اعتمدها إزاء الصراع العربي الاسرائيلي على مدى عقود والتي غذّت حروباً متواصلة أدمت لبنان والمنطقة كما تسببت بتأزيم العلاقات بين المسلمين والغرب، الأمر الذي بدأ ينعكس سلباً داخل المجتمعات الغربية نفسها.
رابعاً حقُّهم بالعيش في بلدٍ لا يُختزل المواطنُ فيه بالبُعد الطائفي، مستوعَباً في جماعة تُعيِّنُ خياراتِها ومصالحَها أحزابٌ سياسية تدّعي احتكار تمثيلها من دون استشارته، وحقهم في أن يؤسسوا عيشهم المشترك على شروط الدولة التي ينتمون اليها لا على شروط طائفة بعينها.
خامساً حقٌّهم في العيش معاً بسلام، مستخلصين دروس الحرب، وداعمين عمل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، لئلا يتأسس سلمهم الأهلي على التنكُّر للحقيقة والعدالة. فالعدالة هي ضمانة السلم الدائم، والتنكُّر لها يضرب نظام القيم الذي يقوم عليه مجتمعنا ويؤسس لحروب جديدة.
سادساً حقًّهم بالعيش تحت جناح دولة الحق، حيث يتساوى المواطنون في الخضوع لسلطة القانون وليس لسلطة الحكام؛ وحيث العدالة تشمل كل فئات المجتمع بما في ذلك اصحاب السلطة؛ وحيث لا يُمكِّن أهل السياسة من توظيف الموارد العامة في معاركهم السياسية؛ وحيث لا تشكّل الإدارة العامة مرتعاً للزبائنية والمحسوبية، وحيث مشاركة المواطن في الحياة العامة مكفولةٌ بقانون انتخاب حديث، ولا مركزية إدارية...
سابعاً حقُّهم بالعيش في مجتمع حديث ومنفتح، يحترم نفسه، حيث مردود النمو الاقتصادي لا يتعارض والعدالة الاجتماعية، وحيث يستطيع الفرد أن يختار نظاماً مدنياً لأحواله الشخصية، وحيث لا تتعرض المرأة لأي شكل من أشكال التمييز، وحيث احترام الشخص الإنساني هو ذاته للميسورين كما للمعوزين، للعمال اللبنانيين كما للأجانب، وحيث تُصان حقوق الأطفال والعجزة والمعوَّقين، وحيث يَفرض القانون احترام الطبيعة ويمنع الإعتداء على البيئة ويحمي التراث الوطني مثلما يحمي صحَّة المستهلك.
ثامناً حقُّهم بالعيش في ظل دولة تحترم نظام قيمهم، وفي مجتمع لا يُستخدَم فيه الدين لتحقيق مآرب سياسية حزبية، ولرسم هويات مغلقة تبرّر استخدام العنف باسم "المقدَّس" – وهو عنفٌ لا يلبث أن يحوّلها إلى "هويات قاتلة"؛ مجتمع يدين الفساد، من دون تمييز بين فاسدٍ وآخر؛ مجتمع يؤمن بقيمة الحوار واحترام الرأي الآخر؛ مجتمع يسود فيه التضامن والشعور بالمسؤولية العامة، على حساب الأنانيات المفرطة، فرديّة أو فئوية؛ مجتمع يُدرك أنه مؤتمن على وطنٍ هو ملكٌ للأجيال الآتية.
تاسعاً حقُّهم في توحيد إنجازي الإستقلال والتحرير، بدلاً من وضعهما، كما هي الحالُ اليوم، في مواجهة بعضهما بعضاً. وهو ذاته حقُّهم في إجراء مصالحة طبيعية وضرورية بين من يعطون الأولوية المطلقة للحرية ولو على حساب العدالة وبين من يعطونها للعدالة ولو على حساب الاستقلال. إن هذا الأمر لا يتِمّ على قاعدة المبادلة بين فريقين، بل في إطار الدولة وبشروطها ، بوصفها (أي الدولة) التعبير الأرقى عن وحدة المجتمع.
عاشراً حقُّهم بأن تكون العلاقة مع سوريا علاقةً طبيعية بين دولتين سيّدتين، من دون أن تتدخّل إحداهما في الشؤون الداخلية للدولة الأخرى، مع احترامٍ كامل لعمل المؤسسات الدستورية في البلدين، وهو ما يمثّل شرطاً ضرورياً للأرتقاء بالعلاقة إلى مستوى التفكير المشترك في مشرقٍ عربي محرّر من عبوديات القرن الماضي وصراعاته التناحرية، ومن عنفٍ يسكن حاضره ويصادر مستقبله، مشرقٍ قادر على إستعادة دوره الريادي الذي لعبه أبّان عصر النهضة، ليشكل قطب تجدّد لمجمل العالم العربي.
حادي عشر حقُّهم بطيّ صفحة الماضي الأليم مع إخوتهم اللاجئين الفلسطينيين في لبنان من خلال مراجعة مسؤولة للتجربة المشتركة، وعلى قاعدة حقّ الدولة اللبنانية بممارسة سيادتها على المخيمات والتجمعات الفلسطينية، وواجبها في توفير الحقوق الإنسانية والإجتماعية للاجئين، من دون أي نوع من المقايضة أو الموازنة بين حق سيادي وحق إنساني.
ثاني عشر ثاني عشر حقُّهم – استناداً إلى كونهم "خبراء بالعيش المشترك" – بأن يساهموا في صَوغ رؤية جديدة إلى العروبة، مُبَرَّأة من أي محتوى يرمي إلى توظيفها في خدمة دين أو دولة أو حزب، عروبةٍ معاصرة تتّسع لمفاهيم التنوّع والتجدُّد والإنفتاح على الثقافات الأخرى، وتحتضن قيم الديمقراطية والإعتدال والتسامح والحوار وحقوق الانسان، عروبةٍ تعطي الأولوية لحل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً ولمشروع السلام في المنطقة على قاعدة أن لا بديل من السلام الّا السلام.
ثالث عشر حقُّهم، مسلمين ومسيحيين، وانطلاقاً من تجربتهم الانسانية المشتركة، بالمساهمة في تعزيز خط الإعتدال الإسلامي مقابل أصوليات عُنفيّة تقود العالم العربي اليوم إلى حروب أهلية. وهو حقُّهم، مسلمين ومسيحيين، بالمشاركة في النقاش الجاري حول مسببات الهجرة الآيلة الى ضمور الحضور المسيحي في الشرق واستعادة دور المسيحيين الأصيل في بناء عالم عربي جديد.
رابع عشر أخيراً حقّ اللبنانيين في أن يعتزّوا بتجربتهم الغنية في ممارسة الحرية والديموقراطية والعيش المشترك، وأن لا يخضعوا لابتزاز الديماغوجيات العالية النبرة التي تحطُّ من شأن تلك التجربة بدعوى الأزمات المتلاحقة التي رافقتها. فتجربتهم تلك، بما لها وما عليها، هي التي جعلت من لبنان محطّ أنظار التوّاقين في العالم العربي إلى عيش الحرية والتنوع والإنفتاح، كما شكّلت إسهاماً حقيقياً في تحديث مفهوم العروبة، وقدّمت نموذجاً نقيضاً لكلّ الأصوليات في المنطقة، بما فيها وعلى رأسها الأصولية الصهيونية العنصرية.
الصفحات
▼
الاثنين، 25 أكتوبر 2010
الشيعة والسنة ما بين النجف والأزهر
(تعقيباً على المبادرة الرائعة للصديق جهاد الزين في حواره مع المرجع الأعلى للشيعة الإمام علي السيستاني ومع شيخ الأزهر الإمام الدكتور أحمد الطيّب).
سعود المولى-النهار-السبت23 تشرين الأول 2010
خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، كنا نزور القاهرة برفقة الإمام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين ، مرة على الأقل سنوياً لحضور المؤتمر العالمي للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية (وهو ينعقد سنوياً قبيل عيد المولد النبوي الشريف ويختتم أعماله باحتفالية كبرى يشارك فيها الرئيس بكلمة عادة ما تكون شاملة ووافية حول موقف مصر في العالم الإسلامي)... وكنا نزور القاهرة مرات ومرات للقاءات ممتعة ومفيدة مع أهل الرأي والعلم والفكر ممن صاروا حلقة أصدقاء وحورايي الشيخ الراحل.. أذكر منهم المرحوم الشيخ محمد الغزالي، والشيخ يوسف القرضاوي، ود. محمد سليم العوا، والمرحومين د.عادل حسين ود.عبد الوهاب المسيري، والسادة الدكاترة طارق البشري وأحمد كمال أبو المجد ومحمد عمارة ومصطفى الشكعة وفريد عبد الخالق وإبراهيم المعلم ونبيل عبد الفتاح وأبو العلا ماضي وهبة رؤوف عزت، وكل شباب وشابات حزب الوسط (قيد التأسيس).وصار هذا اللقاء تقليداً ثابتاً ينعقد في منزل الدكتور العوا كلما زرنا القاهرة، إلى جانب لقاءات أخرى مع البابا شنودة ومثقفي الأقباط الكبار مثل المرحوم د. وليم سليمان قلادة، والأنبا موسى، والدكاترة الأعزاء سمير مرقس ونبيل مرقس وسمير غطاس ومنير عياد وحنا جريس وجورج إسحق وسامح فوزي...والمرحوم القس د. صموئيل حبيب الخ.. ناهيك عن اللقاء بأعلام مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وخصوصاً رئيسه د. عبد المنعم سعيد، والمرحوم د. محمد السيد سعيد، والدكتور وحيد عبد المجيد.. وصولاً إلى الجهات الرسمية وعلى رأسها وزير الأوقاف د. حمدي زقزوق، وشيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية..
وفي كل هذه اللقاءات كان الامام شمس الدين يستعيد سيرة الكبار من أعلام الشيعة في النجف وقم وجبل عامل في الوصل والتواصل مع مصر أم الدنيا والدين، منذ السيد جمال الدين الافغاني، وحتى الشيخ محمد جواد مغنية والسيد نواب صفي والسيد محمد تقي القمي وآية الله الكاشاني وآية الله البروجردي، وصولاً إلى الإمام السيد موسى الصدر..
في القاهرة 1996 ضجت الصحافة والناس بأخبار " القبض على تنظيم شيعي"، وخرجت أقلام سطحية موتورة تصف الشيعة بالخوارج وبأنهم أعداء مصر والعروبة والإسلام.. يومها طرق شمس الدين باب القاهرة وسمع الجواب الايجابي مباشرة في الافراج عن المعتقلين، ووقف الهذيان والسخف الإعلامي.. كما جرى إرساء ثوابت العلاقة بين الطرفين وصولاً إلى توقيع اتفاقية تعاون بين الجامعة الإسلامية (أنشأها شمس الدين في خلدة 1996) وكل من جامعة الأزهر ووزارتي التعليم العالي والأوقاف.
في القاهرة العام 2000 منح الرئيس مبارك وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى للإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين "تقديراً لخدماته ولجهوده في الدعوة الاسلامية"، وذلك خلال حفل المولد النبوي الشريف في ختام أعمال المؤتمر العالمي للفقه والبحوث الإسلامية لذلك العام..
وخلال الأعوام 1996 ( تاريخ قضية التنظيم الشيعي) ومطلع العام 2001 (تاريخ وفاة الامام شمس الدين) حمل الشيخ هّم ومسؤولية تنظيم وتطوير علاقة الشيعة العرب بأوطانهم وكياناتهم وتحقيق المساواة المواطنية لهم ومشاركتهم السياسية الوطنية الكاملة فكانت جولاته ما بين مصر والسعودية والبحرين والكويت والإمارات بداية طرح مشروعه في اندماج الشيعة العرب بأوطانهم ومشاركتهم الكاملة في المواطنة والكرامة والمساواة تحت سقف العدالة والقانون والمؤسسات.. كما حمل الشيخ همّ ومسؤولية تطبيع وتحسين العلاقات الإيرانية – المصرية والإيرانية- العربية على العموم، وأيضاً على أسس العدالة والكرامة والمساواة والمنفعة المتبادلة..
أثمرت جهود الامام الراحل انفتاحاً مصرياً كبيراً على الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ لحظة انتخاب الرئيس خاتمي (1997).. إلا أن مسار العلاقات الايجابية هذا شابه الكثير من العراقيل والمؤامرات والانتكاسات كان البعض في إيران يشارك في إنجازها منعاً لتحقيق السيد خاتمي أية نجاحات أو إنفراجات في سياسة إيران الخارجية (كما الداخلية).
أذكر من زياراتنا إلى القاهرة في تلك الأيام عتب المسؤولين المصريين والشارع المصري العفوي على إيران لأنها لم تذهب خطوات أقوى وأكبر في اتجاه ملاقاة التقارب المصري....في تلك الزيارات سمع الشيخ شمس الدين من الرئيس مبارك قوله إن مصر تريد تضامناً إسلامياً فاعلاً تحت سقف منظمة المؤتمر الإسلامي ( وكان يومذاك مقرها طهران ورئيسها هو الرئيس الإيراني خاتمي الداعي إلى حوار الحضارات) لتحقيق تعاون مثمر ولقيام منظومة فاعلة في العلاقات الدولية تسمح بتحقيق مصالح العرب وخدمة قضاياهم الكبرى وأولها فلسطين..... وعلى سيرة دعوة الرئيس خاتمي إلى حوارالحضارات ، فقد حصل أيضاً ما أساء إلى هذه الدعوة حين قام الإيرانيون بتوجيه دعوات إلى مؤتمر لحوار الحضارات وجاء في نص الدعوة "إن الحضارات المدعوة للحوار وللتفاعل هي الفرعونية والفارسية واليونانية والرومانية".. يومها سألهم الشيخ شمس الدين: "وهل في إحياء حضارات بائدة أية فائدة لحوار انساني تاريخي يهدف إلى التأثير في مستقبل البشرية ؟ ولماذا الفرعونية والفارسية وليس العربية الإسلامية في وقت تواجه فيه إيران حملة تعمل على إظهارها بمظهر المتعصبة فارسياً ضد العرب والعروبة؟"..(نتذكر اليوم تلك الدعوة مع عودة السيد مشائي، كبير مستشاري الرئيس نجاد ، إلى طرح القومية الفارسية على حساب الإسلامية وطرحه العلاقة مع الغرب واسرائيل على حساب العرب).. وقد لاقت مساعي الامام شمس الدين وجهود الرئيس خاتمي أذناً صاغية لدى المسؤولين المصريين فشهدت العلاقات المصرية- الإيرانية تحسناً كبيراً خلال عهد الرئيس خاتمي، رغم استمرار المنكدات والمنغصات.. وأتذكر هنا أيضاً قضية شارع خالد الإسلامبولي أو فيلم اغتيال فرعون.. وقد رحبت القاهرة بالشيخ محمد علي التسخيري ( أقرب معاوني السيد خامنئي) في مؤتمر البحوث الاسلامية (عام 2000) وحظي الشيخ التسخيري بحفاوة بالغة حيث أخذ الكلام عدة مرات على منصة المؤتمر كما شارك في حفل تكريم الشيخ شمس الدين..ويومها نقل لي الشيخ التسخيري تقديره الكبير لخطوة الرئيس مبارك في تكريم شمس الدين واعتبرها موقفاً سياسياً بالغ الخطورة تجاه الجهود الإسلامية للتقريب وللوحدة، الأمر الذي يستحق الثناء والتقدير كما التجاوب والتعاون...والتسخيري هو صاحب مبادرات التقريب الإسلامية في إيران..
سنوات عشر مرت على هذه الأحداث التي رويت بعض مجرياتها..سنوات حملت انقطاعاً في التواصل الشيعي- المصري والإيراني- المصري، وتوتراً في العلاقات أعاد مرة أخرى إنتاج أفلام وروايات "المؤامرات الشيعية المجوسية الفارسية".. والقبض على "تنظيمات وهمية" أو على "متسللين شيعة"..وفي تلك السنوات شهد العالم أحداث 11 أيلول ثم غزو واحتلال أفغانستان فالعراق..نعم: تأزمت العلاقات السنية-الشيعية منذ سقوط بغداد (نيسان 2003) وقد عاشها السنة العرب كصدمة شبيهة بسقوطها على يد المغول العام 1258 أو بسقوط الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى... غير أنه كان لأحداث لبنان منذ إغتيال الرئيس الحريري 2005 وحرب تموز 2006 الدور الأساس في انهيار العلاقات الصريحة الشفافة التي عمل الإمام شمس الدين على تطويرها ورعايتها بحدقات العيون.. وليس المقام هنا لفتح سجال حول المسؤول والمسؤوليات إنما خلاصة القول أن إيران مطالبة اليوم أكثر من غيرها بفتح آفاق إعادة بناء علاقاتها مع العالم العربي والإسلامي وخصوصاً مع مصر والسعودية.. كما أن مصر والسعودية مطالبتان أيضاً بفتح آفاق واضحة لهذه العلاقة من أجل مصلحة العرب وإيران ، ومصلحة الإسلام والمسلمين..
إن تدهور العلاقات السنية – الشيعية في العالم العربي ينذر بشر مستطير..ما لم تبادر المرجعيات الحاضنة للعقل والوجدان وللفكر والرأي، في الأزهر والنجف خصوصاً،إلى وقفة حق ووقفة ضمير تعيد الصفاء والنقاء إلى العلاقات الشيعية – السنية (والشيعية- المصرية تحديداً) وتعيد وصل ما انقطع وترميم ما انكسر.. قبل أن يجرفنا طوفان العصبيات الجاهلية...وفي هذا السياق فإن المبادرات الحوارية الجريئة والتاريخية التي بدأها الصديق جهاد الزين ما بين أسطنبول والنجف والأزهر تفتح أفقاً لحوار راشد عاقل موزون حول كيفية استعادة المبادرة والنهوض.
إن العالم العربي يتمزق داخلياً بين فئات تعيش هواجس الماضي وآلامه وترفض عودته وبين فئات اخرى تعيش قلق المستقبل وأخطاره وتريد إعادة الماضي.. وعلى المستوى الإقليمي يتمزق العالم العربي بين وجود صهيوني توسعي استيطاني واحتلال أميركي ودولي يهدد الأمن القومي للمنطقة وبلدانها ولاستقرارها وازدهارها، وبين صراع عربي- عربي، وعربي- إيراني وعربي- تركي، يلقي بظلاله القاسية والمدمّرة على أمن العرب ووحدتهم كما على أمن المنطقة واستقرارها وازدهارها.والى هذه الهواجس العربية المشروعة هناك هاجس الصعود الشيعي الذي يقلق دول المنطقة حيث للشيعة وزن وإن لم يكن لهم دور في الحكم والسلطة (السعودية، الكويت، البحرين، الامارات ،واليمن مؤخراً)، وهاجس الصعود الكردي أيضاً والذي يقلق دول المنطقة حيث للأكراد وزن ولا دور (تركيا، سوريا، إيران) .. فضلاً عن الخوف من المارد الشيعي في لبنان والعراق (وقنبلته النووية الإيرانية) وهو خرج من القمقم محدثاً زلزالاً في الواقع الجيو-استراتيجي الإقليمي كما في التوازنات الداخلية لكل بلد حيث يتواجد الشيعة العرب..
إلا أن كل هذه الهواجس والأخطار ليست ولا يجوز أن تكون من النوع الذي يهدد استقرار وأمن وأمان المنطقة العربية-الاسلامية الشرق أوسطية وإنما ينبغي أن تكون من نوع التحديات التي يتوجب أن نعمل جميعاً وكل من موقعه على وضعها في سياقاتها الفعلية وطرحها ضمن أطرها وإيجاد حلول لها تكون واقعية وعملية ولمصلحة العرب ودول الجوار أولاً ثم لمصلحة كل العرب والمسلمين ثانياً، ناهيك عن مصالح المجتمع الدولي والسلم العالمي..
إن على العرب والمسلمين اليوم المبادرة إلى العمل على تحييد وشل الصراعات الخارجية وضرب معادلة الغلبة والاستقواء التي أضعفت العرب كما أضعفت وأضرت دول الجوار، واستشراف مستقبل العرب من خلال صياغة خلاقة لدورهم في المنطقة وعلاقاتهم بدول الجوار والأخذ بالمثال التركي في هذا المجال.إن الحرص على العلاقات الاخوية والمميزة مع الجيران وفي طليعتهم الأخوة في الإسلام (تركيا-إيران) يتطلب أن يتم توضيح جملة حقائق أولها أن بلداناً مثل لبنان والعراق لا يجوز أن تبقى مسرحاً لتضارب السياسات الدولية والعربية وإنما يتوجب أن تكون ملتقى العرب والمسلمين لصياغة دور حضاري يليق بهم في عالم اليوم.. إن المطلوب اليوم هو الدعوة الى صياغة شراكة إقليمية استراتيجية حقيقية بين الدول العربية-الإسلامية الشرق أوسطية تشمل الأمن والاقتصاد والسياحة والزراعة والصناعة والخدمات وتضمن دوراً محدداً لكل دولة وحدوداً منطقية معقولة ومقبولة ومتعاهد عليها لكل دور، دون افتئات ولا طغيان، وعلى أسس الحوار الدائم، وحل المنازعات بالوسائل السلمية، والتحكيم في النزاعات، والاحترام المتبادل لمصالح الجميع، والتعاون والتضامن على البر والتقوى ورد الإثم والعدوان، وحسن الجوار، وعدم الاعتداء، وعدم التدخل..وبإمكان لبنان والعراق أن تلعب دور المحرّض والمحفّز لإقامة شرق أوسط جديد فعلاً هو شرق أوسط الشعوب والدول العربية-الاسلامية المتعايشة لا المتحاربة، المتعاونة لا المتضاربة...شرق أوسط تتحقق فيه وبواسطة شعوبه ودوله الحرية والكرامة والعدالة والمساواة والديمقراطية والتنمية والاستقرار والإزدهار لكل العرب والمسلمين...
إن دخولنا عالم الغد باعتبارنا شركاء ومسؤولين لا عملاء وتابعين مرهون بتنظيم شروط ذلك أي أن نغيّر ما بنا ليمكننا الله من تغيير وضعنا وما حولنا.
إن الشرط الداخلي للنهضة هو نحن: وحدتنا الداخلية وسلامنا الأهلي وديموقراطيتنا وحرياتنا.
وإن الشرط الخارجي للنهضة هو التوازن والعدل في السياسة الدولية. غير إن عدم تأمين الشرط الخارجي لا ينبغي أن يؤدي بنا إلى التضحية بالشرط الداخلي.
إن علينا المساهمة في إنخراط الأمة من خلال قياداتها كلها في مجال الفكر والمعرفة والسياسة والتنظيم لمواجهة التحديات، وإلى دمج القوى الكامنة في أمتنا عبر المصالحة والحوار الحي المفتوح بين مجموعاتنا دولاً وموارد وقوى سياسية وفئات ثقافية وإجتماعية؛ وعبر إطلاق طاقات الخير والبركة والحب والتضامن، وإعادة ترميم ذاكرة العيش المشترك وثقافة الوحدة، أي إعادة بناء الشخصية الحضارية السوية للفرد وللمجتمع.
سعود المولى-النهار-السبت23 تشرين الأول 2010
خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، كنا نزور القاهرة برفقة الإمام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين ، مرة على الأقل سنوياً لحضور المؤتمر العالمي للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية (وهو ينعقد سنوياً قبيل عيد المولد النبوي الشريف ويختتم أعماله باحتفالية كبرى يشارك فيها الرئيس بكلمة عادة ما تكون شاملة ووافية حول موقف مصر في العالم الإسلامي)... وكنا نزور القاهرة مرات ومرات للقاءات ممتعة ومفيدة مع أهل الرأي والعلم والفكر ممن صاروا حلقة أصدقاء وحورايي الشيخ الراحل.. أذكر منهم المرحوم الشيخ محمد الغزالي، والشيخ يوسف القرضاوي، ود. محمد سليم العوا، والمرحومين د.عادل حسين ود.عبد الوهاب المسيري، والسادة الدكاترة طارق البشري وأحمد كمال أبو المجد ومحمد عمارة ومصطفى الشكعة وفريد عبد الخالق وإبراهيم المعلم ونبيل عبد الفتاح وأبو العلا ماضي وهبة رؤوف عزت، وكل شباب وشابات حزب الوسط (قيد التأسيس).وصار هذا اللقاء تقليداً ثابتاً ينعقد في منزل الدكتور العوا كلما زرنا القاهرة، إلى جانب لقاءات أخرى مع البابا شنودة ومثقفي الأقباط الكبار مثل المرحوم د. وليم سليمان قلادة، والأنبا موسى، والدكاترة الأعزاء سمير مرقس ونبيل مرقس وسمير غطاس ومنير عياد وحنا جريس وجورج إسحق وسامح فوزي...والمرحوم القس د. صموئيل حبيب الخ.. ناهيك عن اللقاء بأعلام مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وخصوصاً رئيسه د. عبد المنعم سعيد، والمرحوم د. محمد السيد سعيد، والدكتور وحيد عبد المجيد.. وصولاً إلى الجهات الرسمية وعلى رأسها وزير الأوقاف د. حمدي زقزوق، وشيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية..
وفي كل هذه اللقاءات كان الامام شمس الدين يستعيد سيرة الكبار من أعلام الشيعة في النجف وقم وجبل عامل في الوصل والتواصل مع مصر أم الدنيا والدين، منذ السيد جمال الدين الافغاني، وحتى الشيخ محمد جواد مغنية والسيد نواب صفي والسيد محمد تقي القمي وآية الله الكاشاني وآية الله البروجردي، وصولاً إلى الإمام السيد موسى الصدر..
في القاهرة 1996 ضجت الصحافة والناس بأخبار " القبض على تنظيم شيعي"، وخرجت أقلام سطحية موتورة تصف الشيعة بالخوارج وبأنهم أعداء مصر والعروبة والإسلام.. يومها طرق شمس الدين باب القاهرة وسمع الجواب الايجابي مباشرة في الافراج عن المعتقلين، ووقف الهذيان والسخف الإعلامي.. كما جرى إرساء ثوابت العلاقة بين الطرفين وصولاً إلى توقيع اتفاقية تعاون بين الجامعة الإسلامية (أنشأها شمس الدين في خلدة 1996) وكل من جامعة الأزهر ووزارتي التعليم العالي والأوقاف.
في القاهرة العام 2000 منح الرئيس مبارك وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى للإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين "تقديراً لخدماته ولجهوده في الدعوة الاسلامية"، وذلك خلال حفل المولد النبوي الشريف في ختام أعمال المؤتمر العالمي للفقه والبحوث الإسلامية لذلك العام..
وخلال الأعوام 1996 ( تاريخ قضية التنظيم الشيعي) ومطلع العام 2001 (تاريخ وفاة الامام شمس الدين) حمل الشيخ هّم ومسؤولية تنظيم وتطوير علاقة الشيعة العرب بأوطانهم وكياناتهم وتحقيق المساواة المواطنية لهم ومشاركتهم السياسية الوطنية الكاملة فكانت جولاته ما بين مصر والسعودية والبحرين والكويت والإمارات بداية طرح مشروعه في اندماج الشيعة العرب بأوطانهم ومشاركتهم الكاملة في المواطنة والكرامة والمساواة تحت سقف العدالة والقانون والمؤسسات.. كما حمل الشيخ همّ ومسؤولية تطبيع وتحسين العلاقات الإيرانية – المصرية والإيرانية- العربية على العموم، وأيضاً على أسس العدالة والكرامة والمساواة والمنفعة المتبادلة..
أثمرت جهود الامام الراحل انفتاحاً مصرياً كبيراً على الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ لحظة انتخاب الرئيس خاتمي (1997).. إلا أن مسار العلاقات الايجابية هذا شابه الكثير من العراقيل والمؤامرات والانتكاسات كان البعض في إيران يشارك في إنجازها منعاً لتحقيق السيد خاتمي أية نجاحات أو إنفراجات في سياسة إيران الخارجية (كما الداخلية).
أذكر من زياراتنا إلى القاهرة في تلك الأيام عتب المسؤولين المصريين والشارع المصري العفوي على إيران لأنها لم تذهب خطوات أقوى وأكبر في اتجاه ملاقاة التقارب المصري....في تلك الزيارات سمع الشيخ شمس الدين من الرئيس مبارك قوله إن مصر تريد تضامناً إسلامياً فاعلاً تحت سقف منظمة المؤتمر الإسلامي ( وكان يومذاك مقرها طهران ورئيسها هو الرئيس الإيراني خاتمي الداعي إلى حوار الحضارات) لتحقيق تعاون مثمر ولقيام منظومة فاعلة في العلاقات الدولية تسمح بتحقيق مصالح العرب وخدمة قضاياهم الكبرى وأولها فلسطين..... وعلى سيرة دعوة الرئيس خاتمي إلى حوارالحضارات ، فقد حصل أيضاً ما أساء إلى هذه الدعوة حين قام الإيرانيون بتوجيه دعوات إلى مؤتمر لحوار الحضارات وجاء في نص الدعوة "إن الحضارات المدعوة للحوار وللتفاعل هي الفرعونية والفارسية واليونانية والرومانية".. يومها سألهم الشيخ شمس الدين: "وهل في إحياء حضارات بائدة أية فائدة لحوار انساني تاريخي يهدف إلى التأثير في مستقبل البشرية ؟ ولماذا الفرعونية والفارسية وليس العربية الإسلامية في وقت تواجه فيه إيران حملة تعمل على إظهارها بمظهر المتعصبة فارسياً ضد العرب والعروبة؟"..(نتذكر اليوم تلك الدعوة مع عودة السيد مشائي، كبير مستشاري الرئيس نجاد ، إلى طرح القومية الفارسية على حساب الإسلامية وطرحه العلاقة مع الغرب واسرائيل على حساب العرب).. وقد لاقت مساعي الامام شمس الدين وجهود الرئيس خاتمي أذناً صاغية لدى المسؤولين المصريين فشهدت العلاقات المصرية- الإيرانية تحسناً كبيراً خلال عهد الرئيس خاتمي، رغم استمرار المنكدات والمنغصات.. وأتذكر هنا أيضاً قضية شارع خالد الإسلامبولي أو فيلم اغتيال فرعون.. وقد رحبت القاهرة بالشيخ محمد علي التسخيري ( أقرب معاوني السيد خامنئي) في مؤتمر البحوث الاسلامية (عام 2000) وحظي الشيخ التسخيري بحفاوة بالغة حيث أخذ الكلام عدة مرات على منصة المؤتمر كما شارك في حفل تكريم الشيخ شمس الدين..ويومها نقل لي الشيخ التسخيري تقديره الكبير لخطوة الرئيس مبارك في تكريم شمس الدين واعتبرها موقفاً سياسياً بالغ الخطورة تجاه الجهود الإسلامية للتقريب وللوحدة، الأمر الذي يستحق الثناء والتقدير كما التجاوب والتعاون...والتسخيري هو صاحب مبادرات التقريب الإسلامية في إيران..
سنوات عشر مرت على هذه الأحداث التي رويت بعض مجرياتها..سنوات حملت انقطاعاً في التواصل الشيعي- المصري والإيراني- المصري، وتوتراً في العلاقات أعاد مرة أخرى إنتاج أفلام وروايات "المؤامرات الشيعية المجوسية الفارسية".. والقبض على "تنظيمات وهمية" أو على "متسللين شيعة"..وفي تلك السنوات شهد العالم أحداث 11 أيلول ثم غزو واحتلال أفغانستان فالعراق..نعم: تأزمت العلاقات السنية-الشيعية منذ سقوط بغداد (نيسان 2003) وقد عاشها السنة العرب كصدمة شبيهة بسقوطها على يد المغول العام 1258 أو بسقوط الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى... غير أنه كان لأحداث لبنان منذ إغتيال الرئيس الحريري 2005 وحرب تموز 2006 الدور الأساس في انهيار العلاقات الصريحة الشفافة التي عمل الإمام شمس الدين على تطويرها ورعايتها بحدقات العيون.. وليس المقام هنا لفتح سجال حول المسؤول والمسؤوليات إنما خلاصة القول أن إيران مطالبة اليوم أكثر من غيرها بفتح آفاق إعادة بناء علاقاتها مع العالم العربي والإسلامي وخصوصاً مع مصر والسعودية.. كما أن مصر والسعودية مطالبتان أيضاً بفتح آفاق واضحة لهذه العلاقة من أجل مصلحة العرب وإيران ، ومصلحة الإسلام والمسلمين..
إن تدهور العلاقات السنية – الشيعية في العالم العربي ينذر بشر مستطير..ما لم تبادر المرجعيات الحاضنة للعقل والوجدان وللفكر والرأي، في الأزهر والنجف خصوصاً،إلى وقفة حق ووقفة ضمير تعيد الصفاء والنقاء إلى العلاقات الشيعية – السنية (والشيعية- المصرية تحديداً) وتعيد وصل ما انقطع وترميم ما انكسر.. قبل أن يجرفنا طوفان العصبيات الجاهلية...وفي هذا السياق فإن المبادرات الحوارية الجريئة والتاريخية التي بدأها الصديق جهاد الزين ما بين أسطنبول والنجف والأزهر تفتح أفقاً لحوار راشد عاقل موزون حول كيفية استعادة المبادرة والنهوض.
إن العالم العربي يتمزق داخلياً بين فئات تعيش هواجس الماضي وآلامه وترفض عودته وبين فئات اخرى تعيش قلق المستقبل وأخطاره وتريد إعادة الماضي.. وعلى المستوى الإقليمي يتمزق العالم العربي بين وجود صهيوني توسعي استيطاني واحتلال أميركي ودولي يهدد الأمن القومي للمنطقة وبلدانها ولاستقرارها وازدهارها، وبين صراع عربي- عربي، وعربي- إيراني وعربي- تركي، يلقي بظلاله القاسية والمدمّرة على أمن العرب ووحدتهم كما على أمن المنطقة واستقرارها وازدهارها.والى هذه الهواجس العربية المشروعة هناك هاجس الصعود الشيعي الذي يقلق دول المنطقة حيث للشيعة وزن وإن لم يكن لهم دور في الحكم والسلطة (السعودية، الكويت، البحرين، الامارات ،واليمن مؤخراً)، وهاجس الصعود الكردي أيضاً والذي يقلق دول المنطقة حيث للأكراد وزن ولا دور (تركيا، سوريا، إيران) .. فضلاً عن الخوف من المارد الشيعي في لبنان والعراق (وقنبلته النووية الإيرانية) وهو خرج من القمقم محدثاً زلزالاً في الواقع الجيو-استراتيجي الإقليمي كما في التوازنات الداخلية لكل بلد حيث يتواجد الشيعة العرب..
إلا أن كل هذه الهواجس والأخطار ليست ولا يجوز أن تكون من النوع الذي يهدد استقرار وأمن وأمان المنطقة العربية-الاسلامية الشرق أوسطية وإنما ينبغي أن تكون من نوع التحديات التي يتوجب أن نعمل جميعاً وكل من موقعه على وضعها في سياقاتها الفعلية وطرحها ضمن أطرها وإيجاد حلول لها تكون واقعية وعملية ولمصلحة العرب ودول الجوار أولاً ثم لمصلحة كل العرب والمسلمين ثانياً، ناهيك عن مصالح المجتمع الدولي والسلم العالمي..
إن على العرب والمسلمين اليوم المبادرة إلى العمل على تحييد وشل الصراعات الخارجية وضرب معادلة الغلبة والاستقواء التي أضعفت العرب كما أضعفت وأضرت دول الجوار، واستشراف مستقبل العرب من خلال صياغة خلاقة لدورهم في المنطقة وعلاقاتهم بدول الجوار والأخذ بالمثال التركي في هذا المجال.إن الحرص على العلاقات الاخوية والمميزة مع الجيران وفي طليعتهم الأخوة في الإسلام (تركيا-إيران) يتطلب أن يتم توضيح جملة حقائق أولها أن بلداناً مثل لبنان والعراق لا يجوز أن تبقى مسرحاً لتضارب السياسات الدولية والعربية وإنما يتوجب أن تكون ملتقى العرب والمسلمين لصياغة دور حضاري يليق بهم في عالم اليوم.. إن المطلوب اليوم هو الدعوة الى صياغة شراكة إقليمية استراتيجية حقيقية بين الدول العربية-الإسلامية الشرق أوسطية تشمل الأمن والاقتصاد والسياحة والزراعة والصناعة والخدمات وتضمن دوراً محدداً لكل دولة وحدوداً منطقية معقولة ومقبولة ومتعاهد عليها لكل دور، دون افتئات ولا طغيان، وعلى أسس الحوار الدائم، وحل المنازعات بالوسائل السلمية، والتحكيم في النزاعات، والاحترام المتبادل لمصالح الجميع، والتعاون والتضامن على البر والتقوى ورد الإثم والعدوان، وحسن الجوار، وعدم الاعتداء، وعدم التدخل..وبإمكان لبنان والعراق أن تلعب دور المحرّض والمحفّز لإقامة شرق أوسط جديد فعلاً هو شرق أوسط الشعوب والدول العربية-الاسلامية المتعايشة لا المتحاربة، المتعاونة لا المتضاربة...شرق أوسط تتحقق فيه وبواسطة شعوبه ودوله الحرية والكرامة والعدالة والمساواة والديمقراطية والتنمية والاستقرار والإزدهار لكل العرب والمسلمين...
إن دخولنا عالم الغد باعتبارنا شركاء ومسؤولين لا عملاء وتابعين مرهون بتنظيم شروط ذلك أي أن نغيّر ما بنا ليمكننا الله من تغيير وضعنا وما حولنا.
إن الشرط الداخلي للنهضة هو نحن: وحدتنا الداخلية وسلامنا الأهلي وديموقراطيتنا وحرياتنا.
وإن الشرط الخارجي للنهضة هو التوازن والعدل في السياسة الدولية. غير إن عدم تأمين الشرط الخارجي لا ينبغي أن يؤدي بنا إلى التضحية بالشرط الداخلي.
إن علينا المساهمة في إنخراط الأمة من خلال قياداتها كلها في مجال الفكر والمعرفة والسياسة والتنظيم لمواجهة التحديات، وإلى دمج القوى الكامنة في أمتنا عبر المصالحة والحوار الحي المفتوح بين مجموعاتنا دولاً وموارد وقوى سياسية وفئات ثقافية وإجتماعية؛ وعبر إطلاق طاقات الخير والبركة والحب والتضامن، وإعادة ترميم ذاكرة العيش المشترك وثقافة الوحدة، أي إعادة بناء الشخصية الحضارية السوية للفرد وللمجتمع.
شيخ الأزهـر يجـيب عـلى أسئلة آتية مـن بلد الفتنتين لبنان
أجرى الحوار في القاهرة جهاد الزين- النهار- الجمعة 15 تشرين الأول 2010.
استقبل شيخ الأزهر الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب يوم الاحد المنصرم الزميل جهاد الزين في مكتبه في مشيخة الأزهر في القاهرة. هنا النص الكامل لأجوبة الدكتور الطيب على أسئلة الزين. مع الاشارة الى انها المقابلة الاولى لشيخ الأزهر الجديد مع الصحافة اللبنانية.
• سأبدأ فضيلة الإمام من النقطة التي لفتت انتباهي في عدد من المقابلات التي جرت معك في "قناة دريم" و"الاهرام" و"الشرق الاوسط"، وأسعدني جداً فيها تركيزك على مستوى التعليم في "الأزهر". وأنت عبر هذا الموضوع لمست مباشرة قضية خطيرة تتجاوز المستوى التعليمي في العلوم الدينية في "الأزهر" والحواضر الدينية الاخرى. أنت يا صاحب الفضيلة تطرح مسألة تردي مستوى التعليم في الجامعات العربية الرسمية أو الوطنية كلها. فأين أصبحت مستويات التعليم في جامعة القاهرة التي كان رائدها أحمد لطفي السيد أو الجامعة السورية التي ترأسها الدكتور قسطنطين زريق والجامعة اللبنانية التي أطلقها الدكتور فؤاد أفرام البستاني والدكتور أحمد مكي والدكتور حسن مشرفيه وقلة غيرهم من الرواد؟ ألا تعتقد، وأنا أعتذر عن الإطالة في السؤال، انك عملياً تطرح الموضوع نفسه: تردي مستويات التعليم العربية في الجامعات الوطنية؟
- أولاً نرحب بسيادتك وسعدنا وشرفنا بسيادتك في مشيخة الأزهر صحافياً كبيراً ومخضرماً ولامعاً، وكثيراً ما نقرأ لك في الصحف ورغم امتناعي عن اللقاءات الصحافية في الفترة الاخيرة الا انني رحبت بالالتقاء بسيادتك.
ثانياً هذا اللقاء للحوار والحديث في بعض القضايا المطروحة على الساحة العربية، وهي ساحة ملبدة بغيوم كثيرة ومصابة بانهيارات وتشققات عديدة.
أما السؤال عن التعليم في الأزهر ربما أنا من القلائل الذين اتيح لهم حسن الحظ بأن أتعلم في الأزهر وكذلك سوء الحظ بأن أُعلّم بالأزهر.
المرحلة الاولى التي طلبنا فيها العلم كانت عام 1956 وهو تاريخ التحاقي بالأزهر وكان عمري وقتها عشر سنوات ونصف السنة بعد أن مررنا في التعليم بمرحلة ما يسمى بالكتاب، وحفظنا القرآن حفظاً جيداً وتعلمنا فيه قواعد الاملاء وقواعد الحساب الاربع الجمع والضرب والقسمة والطرح والأوليات والمعارف الاخرى، ودخلنا بعد ذلك الأزهر الذي كان وقتها تتكون مراحله التعليمية من الابتدائية 4 سنوات والثانوية 5 سنوات ثم مرحلة الجامعة قبل أن تتغير الامور بعد ذلك عام 1963م، فنزل التخفيض على سنوات الدراسة الثانوي (4 سنوات) ثم بعد ذلك الاعدادي (3 سنوات) والثانوي (3 سنوات) ليوازي التعليم العام. في ذلك الوقت كنا ندرس كتب التراث القديم مباشرة فكان يقرر علينا في اللغة العربية كتب قديمة بها المتون والحواشي ولك ان تتخيل ذلك، طالب ليس في جعبته إلا القرآن الكريم، ويتعرض لدراسة أمهات الكتب مباشرة. لكن حفظ القرآن الكريم وتلاوته وقدسيته في نفوسنا أضاء لنا هذه العلوم التي كان من المستحيل أن يفهمها طالب في هذه السن (10 سنوات)، وكذلك الامور في كتب النحو ثم درسنا الفقه المالكي.
• هل اخترت التخصص في الفقه المالكي بحكم اختيارك أم بحكم انتمائك الى المذهب المالكي؟
- التخصص في الفقه المالكي كان بحكم انتمائي الى أبي وجدي، ولدينا مكتبة في البيت بها جميع الكتب، فوالدي رفض ان أدرس المذهب الحنفي وأصر على ذلك حتى لا تختلف الفتوى بيننا بعد أن أكبر وحتى لا أفتي برأي وهو يفتي بآخر، فكان هناك حرص على وحدة الكلمة ووحدة الفتوى ووحدة الناس، وأذكر انه كان من المقرر علينا في الصف الرابع الابتدائي كتاب "شذور الذهب" والآن هذا الكتاب ينصح به كمرجع لطلاب كلية الآداب في أقسام اللغة العربية لطلاب الدراسات العليا والماجستير.
بعد ذلك انتقلنا الى المرحلة الثانوية وكان نظام الأزهر في ذلك الوقت ان تدرس في المرحلة الابتدائية أوائل العلوم وأوائل النصوص ثم بعد ذلك في المرحلة الثانوية ندرس المواد نفسها، ولكن بتعمق أكثر وبعد هذا يزداد التعمق في المرحلة الجامعية، وكنا نسمي الطالب في المرحلة الاولى بالشاي أو المبتدئ.
• هذه التعديلات الاخيرة جاءت بعد القانون المسمى "اصلاح الأزهر" عام 1960؟
- هذه التعديلات جاءت بعد القانون الجديد وجعلت الاعتماد على مذكرات تكتب بدلاً من النصوص القديمة، والحقيقة في هذا الموضوع أن العقلية الأزهرية في المقام الاول عقلية تراثية وما زلت أقول ان العلوم القديمة مكتوبة بنمط غير متكرر واستشهد بأصدقائي الفرنسيين الذين يدرسون في معهد الآباء الدومينيكان ويقومون بتحضير الماجستير والدكتوراه في علومنا مثل البلاغة، كنت أسألهم هل عندكم في تراثكم اذا أردتم أن ترجعوا الى اللغة الفرنسية في نحوها وصرفها هل ستجدون الشرح والمتون والتعاليق؟ وعرضت لهم كتب ابن سينا وما فيه من شروح.
• هل أنت تتكلم عن أسلوب لغوي أو عن عقلية تراثية؟ فلا أتخيل مؤسسة دينية كبيرة لا تكون عقليتها الاساسية تراثية بحكم التكوين؟
- لا أتحدث عن لغة بل عن نمط التأليف ومنهج التعلم في هذه الكتب وهذه الكتب لها مناهج يجب مراعاة التدرج فيها. التخصص له كتب والنهائيات لها كتب. هذه الامور ليست متوافرة الآن وهذا هو السبب الاساسي في تدهور التعليم. في الأزهر نحن نكاد نسابق الزمن للعودة لهذا النظام الذي تربينا عليه أو نفعل المستحيل لأننا درسنا على هذا النظام البلاغة ثلاث مرات مبسطة بأسلوب قديم ثم من كتب متوسطة ثم كتب متقدمة.
• اذاً يعتبر الإخلال بالمنهج التراثي للعلماء المسلمين هو مصدر الخلل؟
- الموضوع معقد. التراث أولاً يضمن لك الوسطية ويضمن لك تقبل الآخر. الذي لا يدرس التراث هو الذي يضيق عقله عن تقبل الآخر، لذلك عندما نقول بعودة تدريس كتب التراث يقولون هل ستعودون بنا الى العلوم التي تُكوِّن المتشددين! المسألة بالعكس تماماً: عدم التمتع بتنوع الآراء والنظريات والافكار وهذه خاصية التراث الاسلامي، وعندنا في التراث الاسلامي (اختلافهم رحمة) فالاختلاف موجود منذ عهد الصحابة وجميعهم على صواب. إذاً التراث كتراث للمسلمين داخلياً متنوع نجد فيه الرأي والرأي الآخر والثالث والرابع والا ما معنى المذاهب الاربعة مختلفة ومتعايشة في الاسلام، بل ان فقهاء المذاهب الواحد يختلفون ومع ذلك يتعايشون هذا بالنسبة للفقه وكذلك النحو: البصريون والكوفيون.
حينما ندرس في كتب التراث، فإننا أمام قال فلان وقال فلان ثم يأتي الترجيح، اذاً العقلية الاسلامية عقلية نقدية منذ البداية تنتظر الرأي والرأي الآخر، والفكرة والفكرة الأخرى وتفند النظرية وتنتقد، هذا هو عمل التراث في داخل العقلية الاسلامية، فالتراث يهيئنا عندما نتعامل مع غير المسلم على قبول الاختلاف. فالقرآن الكريم يوضح ان الاختلاف سنّة كونية، فالاختلاف في اللغة (اختلاف ألسنتكم وألوانكم) والاختلاف في الجنس والعقيدة (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) فالقرآن يقرر حقيقة الاختلاف (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولا يزالون مختلفين) فالاختلاف مقصد من مقاصد الخلق ودائماً نرى هذا ومتوقع ان هناك من يخالفنا في الدين ويختلف معي وانه موجود الى يوم القيامة. لذلك عندما ننظر للعولمة أو نحاول عولمة الثقافة أو عولمة الدين أو كما يقولون كثلكة العالم، فنحن لا ننكرها فقط بل نعتقد انها خرافة بنص القرآن الكريم، لأن الاختلاف في الدين سيظل لآخر لحظة في عمر الكون. في نص القرآن هذا الاختلاف دائماً موجود وايماني بأن الذي يخالفني موجود معي، جعل العلاقة بيني وبينه كما قررها القرآن هي التعارف - والعلاقات الدولية في القرآن الكريم قائمة على التعارف. اذاً التراث هو الضامن لعقلية الوسطية والحوار والرأي والرأي الآخر.
• كما عبَّرت فضيلتك بهذا المعنى فإن التعمق في التراث الاسلامي ضمانة للاستيعاب العميق لهذا التراث، ديناً وحضارة. لكن هناك سبب آخر لمعضلة تخلف التعليم الديني عند المسلمين وربما تخلف المسلمين هو نقص معرفة الآخر. سأعطي مثلاً كمراقب دون تطفل خارج اختصاصي. إذ أعرف بحكم المنشأ والتجربة معاً بيئات متعددة دينية لبنانية وعربية. أعرف عدداً من القساوسة والآباء الكاثوليك والارثوذكس والبروتستانت من دول عربية مختلفة متخصصين في الفكر الاسلامي، ناهيك عن رجال الدين المسيحيين الغربيين والمستشرقين عموماً، ولكني أكاد لا أعرف رجل دين واحداً من المسلمين، سنة وشيعة متخصصاً في اللاهوت المسيحي أو متخصصاً في التراث الديني اليهودي. ألا تعتقد ان هذه ظاهرة مقلقة وخطيرة وأنت نفسك سمعتك في إحدى المقابلات تتحدث عن ضرورة تطوير مستوى رجل الدين أو عالم الدين المسلم كأحد مشاريعك الاساسية في "الأزهر"؟
- ملاحظة صحيحة الى حد كبير، ولكن لا يعني هذا ان علماء المسلمين القدامى، حتى علماء الأزهر من جيلي انقطعوا تماماً ولا يعرفون شيئاً في هذه المقارنات بين الاديان أو علم مقارنة الاديان في اللغة الاوروبية. العلماء القدامى لهم عطاء مكتوب في هذا المجال في علوم الاديان المقارنة ونحن المسلمين أول من أنشأ علم الاديان المقارن في تراثنا. هذا موجود لدينا وبشكل معمق وفيه سبق تاريخي وسبق منهجي وفيه سبق رؤية، وربما السبب في اننا لسنا متخصصين في علوم اللاهوت في أوروبا سواء كانت مثلاً مقارنة الاديان اليهودية أو المسيحية انه ربما كثير منا يستنيم الى ما صدر أو ما كتب في هذه الاديان في التراث الاسلامي، وأنا معك في أن هذا خطأ. وأنا شخصياً تنبهت الى هذا وكنت أقول دائماً ان الذي يريد ان يكتب في المسيحية الآن يجب ان يذهب الى الغرب ويتتلمذ على أيدي اساتذة وعلماء من الغرب ثم يكتب ما يراه بعد ان يسمع ويرى. من اجل ذلك نحن حرصنا على ان ننشىء في اصول الدين والكليات الشرعية منذ كنت رئيسا للجامعة على مدى سبع سنوات قسما خاصا يعد صفوة من الطلاب اعداداً لغويا متميزا في الانكليزية وتعاقدنا مع المجلس الثقافي البريطاني والحمد لله اول ثلاثة طلاب سافروا هذا الصيف وحرصنا على ارسال ثمانية آخرين في الصيف المقبل نصفهم تم ابتعاثه ليتخصص في المسيحية والآخر في اليهودية ليرجع لنا عالما باليهودية والمسيحية من خلال الكتب والمصادر والمراجع بالمنهج اليهودي الغربي او المنهج المسيحي الغربي.
فقد وجدنا كل من يكتب في الفترة الأخيرة عن المسيحية يستند الى ما كتبه الشيخ ابو زهرة او الدكتور علي عبد الواحد وافي من المعاصرين او الامام الغزالي والشهرستاني من السلف. هناك رؤى جديدة لا نعلمها، ظهر نقد جديد للكتب المقدسة واصبح علماً واصبح له علماؤه والمتخصصون فيه، نحن نريد ان ننفتح على هذا وفي الجيل السابق كان الشيخ ابو زهرة يكتب جيدا في المسيحية والدكتور عبد الحليم محمود شيخنا رحمه الله كان يدرّس لنا مقارنة اديان في كلية اصول الدين وكان لديه نص باللغة الفرنسية يقرأ منه ويملي علينا وفي النهاية ترجم النص وكان عن المسيحية وشيخنا رحمه الله كان لا يعتبر نفسه متخصصا ولكن المتخصصين الحقيقيين سيكونون من بين الطلاب الذين يدرسون حاليا في جامعات الغرب.
• علمت ان "الجامعة الكاثوليكية" في باريس تدرّس رجال دين مسلمين وتخرّج بهذا المعنى ائمة مسلمين؟
- سأقول لسيادتك ان الذي يغري المستشرقين او الآباء بالكنيسة هو عمق تراثنا وهم يعتبرونه تراثاً انسانياً عالمياً وهذا ما اصابهم بشغف التخصص وخصصوا اعمارهم كاملة لهذا التراث سواء آمنوا بخلفياته ام لا، لكن يؤمنون بأن هذا التراث تراث عالمي ويجب ان يحافظ عليه وان يدرس لدرجة اننا للأسف نجد كثيرا من الباحثين المسلمين اذا ارادوا ان يكتبوا في موضوع اسلامي قد يولوا وجوههم شطر كتابات غربية ثم يترجمونها حتى يفهموا ماذا يقال في كثير من موارد ابحاثنا الاسلامية اضافة الى اننا كعلماء مسلمين لا نجد البعد الروحي او العمق الفلسفي الموجود في العقائد الاسلامية والتراث الاسلامي على الجانب الآخر بمعنى قد لا يكون الجانب الآخر جذاباً او مغرياً وكل ذلك حصيلة مناقشات مع كثير من المستشرقين في باريس من اليهود والكاثوليك، لكن لا اعني بالتراث الاقتصار عليه فقط بل لا بد من الحداثة ايضا فقد درست في اصول الدين علم النفس والاجتماع والفلسفة الحديثة اضافة الى التراث.
• هل تربط اذاً بين مستوى التعليم في الازهر وبين ازمة التعليم في جامعاتنا العربية؟
- نعم استطيع ان اقول هذا لأن ابنائي وابناء العائلة يدرسون في مختلف الجامعات الاخرى وانا دائم الحديث والحوار معهم واقيم المنهج الذي وراء هذا التشتت في التفكير او التبعثر. المشكلة الآن في نمط التفكير نفسه. فالطالب الآن او الذي يتخرج من الجامعة غير قادر على التفكير المنطقي، غير قادر على استنباط النتائج من القضايا وهذه مشكلة اخرى بل مشكلة اعمق. فقد اصبح العقل العربي في الشباب عقلا يحتاج الى تنظيم التفكير فكلامه يسبق تفكيره والمشكلة جاءت بسبب الاعلام، فما يربي العقل العربي الآن ليس التعليم او الجامعات على ضعفها فالجامعات على ضعفها لا تجد لها اثرا او بصمات لا في تكوين شخصية الشباب ولا في تكوين عقليته ايضا، انما الشباب الآن مرهون بدوائر اخرى تلح على ذهنه ليل نهار وللأسف نحن في واد وتاريخنا في واد واعلامنا في واد آخر.
والنتيجة اننا لم نعد عربا بثقافة عربية ولا مسلمين بثقافة اسلامية لذلك تتخطفنا بعض الافكار التافهة وتلبس معظمها عمامة الاسلام عن جهل وغرض وهذا معناه ان الساحة لا يوجد بها تأصيل على الاطلاق فلم نصبح اوروبيين كما يريدون. خسرنا على كل الجبهات فلا استطيع ان اقول من انا. الفرنسي مثلا يستطيع ان يقول من انا ضمن دائرة الاتحاد الاوروبي.
لا يوجد تعليم دقيق وحتى من يتولى مهمة التعليم قد لا يكون بينه وبين التعليم صلة قوية او هو قادر على ادارة العملية التعليمية وهذا خلق نوعا من الضياع على اكثر من مستوى وتستطيع ان تقارن بين الكتب التي كان تدرس للطلاب في سنة 1935 من القرن الماضي او حتى في الخمسينات وبين الكتب التي تدرس للطلاب الآن – اول من امس قرأت في مجلة (الكتاب) التي كانت تصدر عام 1947 مقالا لناظر مدرسة ثانوي كتب مقالا عن (السلام بين الفارابي وروسو وكانت) في حوالى 6 صفحات لا يكتبه متخصص في علوم السياسة الآن وما كتبه وكيل النيابة في محاكمة طه حسين قطعة ادبية رائعة توضح مدى ما كان عليه التعليم من عمق ورصانة.
• انا اصلي وراء فضيلتك وفي هذا المجال تحديدا. لكن الاعلام العربي على تخلفه وحتى احيانا على فساده هو جزء من حالة اكبر سياسية واجتماعية واقتصادية. وهذا ما يدفعني الى طرح موضوع آخر متصل يتعلق بالنخبة المصرية ودورها المتراجع. صحيح كما يقال ان الدولة في مصر كانت قائدة للتأثير المصري في الخارج في العصور الحديثة من محمد علي الى عبد الناصر لكن لم يكن هناك يوما دور للدولة بدون ان يكون مترافقا ومتوازيا مع دور المثقف والاستاذ والباحث والرحالة ورجل الدين والصحافي المصري في المحيط العربي والاسلامي. هؤلاء كانوا الطليعة المصرية حتى لو كان بعضهم معارضا للدولة. الآن يغيب امثال هؤلاء الرياديين رغم الازمات الوجودية التي يتعرض لها العالم العربي. الا تعتقد فضيلتك ان المشكلة تتعلق بتراجع بنيوي عربي وتحديدا مصري ولا تنحصر بالاعلام؟
- اعلم ان سيادتك من رواد الاعلام وحينما انتقد الاعلام انا لا انتقد اشخاصا وانما انقد فترة ونمطا اعلاميا سائدا – وما حدث في مصر حدث في العالم العربي.
-السؤال الذي اطرحه على سيادتك اين النخب؟ حتى وان دللتني على النخب التي تتحدث عنها، على سبيل المثال طه حسين الذي كان يضرب به المثل في التطوير وهو جدير بذلك، ونقد التراث لكنه لم يسىء الى التراث لأنه درس التراث ويعرفه ولم يشترط في نهضته ان تكون هناك قطيعة مع التراث او قطيعة مع الماضي. لكن اليوم النخب التي تتحدث عنها تبدأ من القطيعة مع التراث، هذه الهاوية وقبل ان تتحرك تهوي فيها. والمشكلة ان هذه الشعوب لها تاريخ وحضارة، هذه الارض لها حضارة وتاريخ طويل جدا في احترام الدين واحترام النبوة واحترام الوحي، عندما تستنبت فيها نباتا لا يحترم هذا، بالضرورة ان يموت هذا النبات قبل ان ينمو على وجه الارض.
ان الحقيقة، دون الرجوع لنظرية التآمر هي الغرب بحربته اسرائيل وراء كل ذلك، لدينا الآن اسلاميون ينظرون بعين واحدة الى الماضي، او مثقفون، او تنويريون بعين واحدة الى الامام لكن الرؤية الحقيقية التي تبني على الماضي غائبة، يوم ان يوجد من النخب من يتحرك من هذا المنطلق ويسند ظهره الى الماضي ويتطلع الى الامام يستطيع ان يبني وان يقود وان يتقدم.
الحقيقة ان الحروب التي توالت في فترة عمري هذا (1948 – 1956 – 1967 – 1973) 4 حروب شاهدتها في حياتي وكانت كل واحدة منها ترجع بك 50 عاما الى الوراء في الثقافة والاقتصاد، المسألة كما قلت هي ان الغرب اراد بالشرق شرا وحينما خرج من بلادنا لم يتركنا وشأننا، لا تقل ان هذه نظرية المؤامرة ان اعرف ان الغرب جرب الحروب تماما وذاق مرارتها ودفع ثمنها غالياً وهو حريص على الا تحدث بينهم حرب لا في اوروبا ولا في اميركا من القرن الماضي. هذا يلزمه ان تكون الحروب في اماكن بعيدة ولا تغلق مصانع الاسلحة. هذا هو الاشكال، انا لا الوم القادة فقط بل الوم المفكرين والعلماء واساتذة الجامعات. ذكرت اننا غير مواكبين للتقدم العلمي لمَ لا يلام اساتذة كليات الهندسة والطب والزراعة هل وجدت نقدا يوجه الى هذا الفريق المنوط به التقدم العلمي مثل ما نجد نقدا يومياً ويملأ الصحف للاسلام والمهتمين بالاديان؟ هذه هي المشكلة، المشكلة ليست في الاسلام الآن ولا الاسلام عنده مشكلة، المشكلة في التخلف العلمي ومواجهة التخلف العلمي ليست مطلوبة مني كفقيه بل مطلوبة من علماء الطب والهندسة والزراعة.
• فكرة عالم الدين الطبيب او عالم الدين المهندس وهذا جذوره في التراث، هل تراودك في مشاريعك الاصلاحية في الازهر؟
- والله لا تراودني كثيرا فقد عشت التجديد منذ عام 1963 والذي طرأ جديدا هو ان يتخرج الطبيب الازهري الذي يحمل رسالة الازهر والدعوة الى الاسلام ضمن مهنته لكن التجربة ليست كاملة انما استفدنا والحمد لله في ان نخرج في كلية الطب بالجامعة (الازهر) من يحمل بصمات التراث الاسلامي، ووجدنا فرقاً بين الطبيب الازهري والطبيب الذي يتخرج من الجامعات الأخرى في المجتمع. فالطبيب الازهري له رسالة وهذه الرسالة تنشر رسالة الوسطية والخوف من الحرام، لا نجد طبيباً ازهرياً يتاجر بأرواح الناس او يسرق الاعضاء أو تستقطبه التيارات الاخرى على الجانب الفكري والعقلي فهو محصن لكن الآن نعد أنفسنا بأن يكون هناك داعية متمكن من التراث ومتمكن من العلوم الحديثة وان يكون هناك طبيب مسلم ممتاز يطور مجال الطب ولا مانع أن يدرس بعض العلوم الاسلامية اذا أراد أن يزاول الدعوة.
• في الحوار المهم الدائر حول العلمانية أو فصل الدين عن الدولة ويتناول دولاً مثل تركيا وفرنسا والولايات المتحدة الاميركية، بما فيه الفارق بين النموذجين الفرنسي والاميركي. في هذا الحوار والذي تجدد مؤخراً مع القانون الفرنسي بحظر الحجاب الكامل... ربما تحتل مصر موقعاً قوياً بحكم كونها تجمع بين تقاليد الليبرالية الاجتماعية والمحافظة الاجتماعية في الوقت نفسه. فحرية ارتداء الحجاب في مصر مثل حرية عدم ارتداء الحجاب.
سؤالي هو هنا: رغم معرفتي بموقفك من عدم التدخل في شؤون الدول الاخرى ألا تعتقد ان اعتراض بل نقد علماء الدين الايرانيين وعلماء الدين السعوديين للقانون الفرنسي هذا الاعتراض لديه نقطة ضعف اساسية هي انه في السعودية وإيران مقابل تقليد ارتداء الحجاب ليست هناك حرية عدم ارتداء الحجاب لمن تريد نزعه وبالتالي في ايران والسعودية لا يستطيعون ان ينتقدوا فرنسا على الفرض الذي يمارسونه هم ايضاً في اتجاه واحد انما معاكس؟
- خلع الحجاب مخالفة لنصوص اسلامية ومعروف ان الاسلام ليس علاقة بين العبد وربه فقط فلا استطيع أن أقول حينما الزم المرأة بإرتداء الحجاب انني أصادر على حقها، هنا أخالف شعيرة من شعائر الاسلام الموجودة، لكن هل المشكلة تصل الى حد الوجوب وحد الفرض، الاجابة على هذا السؤال تتعلق بالفقه أمام مسألة الحجاب، هل خلع الحجاب مخالفة عادية أم كبيرة من الكبائر نعتبره مثل شرب الخمر والزنا؟ اذا كانت كبيرة فيجب عليّ أن أفرضه واذا كانت مخالفة عادية فهو أمر مثل الغيبة اعتبره معصية ولا يحتاج الامر الى تدخل. كل ما علينا كعلماء أن ننكر هذا وننصح بإرتداء الحجاب وننكر على المرأة المسلمة ان تخلع حجابها فقط دون فرض أو تدخل، لأن هذا لم يحدث على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلم يحدث ان ضرب النبي امرأة كشفت عن رأسها. النقاب لا يوجد نص عليه في القرآن، أما الحجاب موجود. ومن هنا نرى ان خلعه معصية.
• آتيك، مولانا، من بلد الفتنتين لبنان. الفتنة القديمة المسيحية المسلمة والفتنة الجديدة السنية الشيعية. وهذا كثير جداً على بلد صغير مثل لبنان. تصور سيدي ان هذا اللبنان يحمل دفعة واحدة مشكلة الفتنة المسلمة المسيحية التي عادت تطل برأسها في مصر وجاء بيانك المشترك مع غبطة البابا شنودة حاسماً ضدها، ومشكلة الفتنة السنية الشيعية التي انطلقت من العراق. مصر أم الثمانين مليونا، والعراق أبو الثلاثين مليون نسمة. فكيف للبنان ذي الأربعة ملايين نسمة والرقعة الجغرافية الصغيرة ان يحمل على أكتافه ما تحمله مصر والعراق معاً.
في أوائل الصيف الماضي قال لي في النجف المرجع الشيعي الاعلى السيد علي السيستاني انه ليس قلقاً على العلاقات بين السنة والشيعة داخل العراق لو ترك الأمر للطائفتين ولكنه قلق من استمرار التوتر الايراني السعودي على المستوى الاقليمي في التأثير على تفاقم الفتنة الشيعية السنية بما يجعل السيطرة على مجرى الامور أصعب.
ما هو تعليقكم؟
- هذا الموضوع لا يحتاج لتفكير كثير أو تنظير أو متابعة لأن النذر واضحة هناك قلق يأتينا من خارج المنطقة ودعني أتحدث عن مجالي هنا فقط مثلاً حينما تجد في هذه الآونة الأخيرة بعض الشباب الذين يحاولون الدعوة للمذهب الشيعي (في مصر) ظاهرة جديدة لم تحدث من قبل بل الأمر يهولك عندما نجد بعض الشباب ينتقد السيدة عائشة أو الصحابة هذا يجعلني أقول ان فتنة يخطط لها ويراد لها ان تنبعث في بلاد أهل الاسلام. طبعاً حينما أرى ظاهرة كهذه فانني انكرها ودون الاتهام لأي دولة لأننا نحتاج الى وحدة الأمة الاسلامية لكل دولها وهذا شيء مهم وضروري ونحتاجه وبدونه لا نستطيع ان نرفع رؤوسنا في يوم من الأيام. أبحث عن المستفيد مما يحدث الآن. بعض البلدان الاسلامية، وبعض المتشددين يتحملون جزءاً من المسؤولية حول هذه الفتنة. حينما تكون هناك فضائيات تحكم بكفر الشيعة هذا شيء مرفوض وغير مقبول ولا نجد له مبرراً لا من كتاب ولا سنة ولا اسلام، نحن نصلي وراء الشيعة فلا يوجد عند الشيعة قرآن آخر كما تطلق الشائعات والا ما ترك المستشرقون هذا الأمر فهذا بالنسبة لهم صيد ثمين ولي بحث في هذا المجال وجميع مفسري أهل السنة من الطبري وحتى الآن لم يقل منهم أحد ان الشيعة لديهم قرآن آخر.
• هل هناك أخطر من موضوع "عصمة الأئمة" كخلاف عقائدي بين السنة والشيعة؟
- لا يوجد خلاف بين السني والشيعي يخرجه من الاسلام انما هي عملية استغلال السياسة لهذه الخلافات كما حدث بين المذاهب الفقهية (الأربعة) كل الفروق بيننا وبينهم هي مسألة الإمامة. فعندنا في السنة الامامة بالاختيار والرسول صلى الله عليه وسلم ترك للمسلمين اختيار ائمتهم وخلفائهم وهم يقولون ان النبي صلى الله عليه وسلم اوصى للامام علي (كرم الله وجهه) فلو اعتقدت ان سيدنا علي اولى بالخلافة ليست هناك مشكلة ولو اعتقدت ان الأمة اختارت سيدنا أبا بكر وهو أولى لا توجد مشكلة لكن المشكلة في التوظيف وهناك مشاكل عن عامتهم من سب لأبي بكر والبخاري والمشكلة هي في التوظيف المغرض للاختلاف لضرب وحدة الأمة.
• هل ستزور النجف؟
- اذا ذهبت للعراق سأزور النجف. الازهر واجبه الأول وحدة الأمة الاسلامية وكذلك تجميع المسلمين على رؤية واحدة مع اختلاف الاجتهاد ومستعد لزيارة أي مكان اجمع فيه المسلمين مع بعضهم والنجف بصفة خاصة.
وأتمنى ان تكون زيارتي بعد حسم مسألة الحكومة لأن ذلك من الأمور التي تؤذينا. قلت للوفد العراقي الذي زارني مؤخراً (وفد مشترك من الأوقاف السنية والاوقاف الشيعية) سآتيكم وأنا أب للسنة والشيعة بشرط ألا تفسر زيارتي لصالح طرف على آخر.
• قرأت ترجمتك عن الفرنسية لكتاب "الولاية والنبوة عن الشيخ الاكبر محي الدين ابن عربي" للباحث علي شوركفيتش. قرأته من الغلاف الى الغلاف بما فيه مقدمتك لما ترجمته. لقد استفدت كثيراً من هذا الكتاب لا سيما في الافق الذي يكشفه من حيث أهمية محاولات فتح المنظومة العقائدية عند السنة عبر "الولي" (كما فعل الشيعة عبر "الامام" وكما فعل المسيحيون عبر "الرسل" ثم "القديسين" ثم "الشهداء") وهذا ما استدعى حسب الكتاب هجوم الشيخ ابن تيمية العنيف على المتصوف الشيخ ابن عربي.
ما الذي أملى عليك هذه الترجمة؟
- المقصود هو انصاف الشيخ ابن عربي وتجلية البعد الفكري والفلسفي والروحي في كتاباته، والدعوة الى النظر في هذه الكتابات بعقل مفتوح وان تؤخذ في اجمالهاوكلياتها دون انتقاء او نظرة جزئية تبعدنا عن الفهم العميق والنقد الموضوعي بغير تحامل.
هذا ايضاً من الامور المحزنة، فالمؤلف الغربي تفرغ لدراسة اعمال ابن عربي لمدة خمسين عاماً بينما لدينا علماء يهاجمون ابن عربي دون قراءة كتاب واحد من كتبه ودون قراءة اسهل هذه الكتب وهو كتاب الفتوحات المكية، وكان من المفروض ان يكتب الباحث الغربي عن ابن عربي استناداً الى كتبنا نحن، ولكن المسألة قد قلبت فنحن ندرس ما يكتبه الغربيون.
• يصادف الآن على رأس الكنيسة الكاثوليكية بابا آت من عالم الأكاديميا وعلى رأس "مشيخة الازهر" رجل مثقف مثلك آت من العالم الأكاديمي. أظن هذه فرصة لحوار مهم لأن المثقفين يمكن لو جازفوا ان يحدثوا فرقاً مثيراً على المستوى الفكري؟
- ليس لدينا مانع في الحوار – كما قلت لحضرتك – الوحدة الوطنية في الداخل هدفنا وكذلك الوحدة العربية والاسلامية ثم السلام العالمي وهذه رسالة القرآن والرسول عليه الصلاة والسلام أرسل للعالمين رحمة وسلاماً حتى لغير المؤمن به ونحن نرث هذا الميراث النبوي الشريف ونعمل على حمله والالتزام به.
• الوثيقة التي أعدها الفاتيكان باشراف البابا بينيديكتوس حول كنائس الشرق الأوسط، ويجتمع حالياً اساقفة الشرق الاوسط لمناقشتها، هذه الوثيقة قالت في احدى فقراتها ان الشرق الأوسط أو ما تسميه الوثيقة "العالم العربي – التركي – الايراني" هذا العالم لا يعترف بـ"حرية الضمير" ويقصد بها حرية تغيير الدين. انه يعترف بحرية العبادة وليس "حرية الضمير" بما تعنيه من حرية تغيير الدين؟
- لقد درسنا هذه الوثيقة ونود بداية ان نقول اننا كمسلمين نحرص على بقاء المسيحيين في الشرق لأن بقاءهم وازدهارهم تعبير عن ثراء حضارة الشرق روحياً ومعنوياً وثقافياً ودليل على ان الاسلام دين التسامح والتعايش وقبول الآخر.
اما حرية العبادة فمكفولة و"حرية الضمير" يقررها الاسلام الذي يقول كتابه الكريم في محكم آياته "لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" ويقول سبحانه مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم "ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" ويقول سبحانه "فذكّر انما أنت مذكّر لست عليهم بمسيطر" واعتقد ان في هذه الآيات ابلغ رد على موقف الاسلام من حرية الضمير.
• قلت انك لا يمكن ان تصافح أي اسرائيلي رسمي طالما لم تعد اسرائيل الحقوق المشروعة للفلسطينيين، هل هذا يعبّر عن مساحتك الخاصة كشيخ للازهر أم عن تنسيق ما مع سياسة الدولة الرسمية التي لها اعتبارات مختلفة بمقتضى قواعد العلاقات الدولية؟
- الازهر الشريف جامع وجامعة، ومعبّر عن حكم الاسلام وعن ضمير المسلمين، وهو ليس سلطة سياسية وانما حامل رسالة ومكانة معنوية، ومن ثم فالاعتبارات التي تحكم الازهر الشريف ليست هي الاعتبارات التي تمليها الالتزامات الدولية على المسؤولين السياسيين، والازهر الشريف بحكم مسؤوليته الشرعية لا يستطيع الا ان يعبّر عن ضمير الجماهير الاسلامية تجاه العدوان الاسرائيلي الغاشم والاحتلال الآثم وتدنيس المقدسات، وحصار غزة الصامدة، وما يعانيه اخواننا من فلسطين في كل يوم، ومن هنا فإني أكرر موقفي بأنني لن أصافح مسؤولاً اسرائيلياً ما دامت الحقوق الشرعية للفلسطينيين مسلوبة، وهذا لا يعني موقفاً من اليهود كأصحاب ديانة نحترمها وكأهل كتاب، ويكفي ان تعرف ان رسالتي للدكتوراه كانت عن فيلسوف يهودي عاش في ظل حضارة الاسلام السمحة هو ابو البركات البغدادي.
استقبل شيخ الأزهر الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب يوم الاحد المنصرم الزميل جهاد الزين في مكتبه في مشيخة الأزهر في القاهرة. هنا النص الكامل لأجوبة الدكتور الطيب على أسئلة الزين. مع الاشارة الى انها المقابلة الاولى لشيخ الأزهر الجديد مع الصحافة اللبنانية.
• سأبدأ فضيلة الإمام من النقطة التي لفتت انتباهي في عدد من المقابلات التي جرت معك في "قناة دريم" و"الاهرام" و"الشرق الاوسط"، وأسعدني جداً فيها تركيزك على مستوى التعليم في "الأزهر". وأنت عبر هذا الموضوع لمست مباشرة قضية خطيرة تتجاوز المستوى التعليمي في العلوم الدينية في "الأزهر" والحواضر الدينية الاخرى. أنت يا صاحب الفضيلة تطرح مسألة تردي مستوى التعليم في الجامعات العربية الرسمية أو الوطنية كلها. فأين أصبحت مستويات التعليم في جامعة القاهرة التي كان رائدها أحمد لطفي السيد أو الجامعة السورية التي ترأسها الدكتور قسطنطين زريق والجامعة اللبنانية التي أطلقها الدكتور فؤاد أفرام البستاني والدكتور أحمد مكي والدكتور حسن مشرفيه وقلة غيرهم من الرواد؟ ألا تعتقد، وأنا أعتذر عن الإطالة في السؤال، انك عملياً تطرح الموضوع نفسه: تردي مستويات التعليم العربية في الجامعات الوطنية؟
- أولاً نرحب بسيادتك وسعدنا وشرفنا بسيادتك في مشيخة الأزهر صحافياً كبيراً ومخضرماً ولامعاً، وكثيراً ما نقرأ لك في الصحف ورغم امتناعي عن اللقاءات الصحافية في الفترة الاخيرة الا انني رحبت بالالتقاء بسيادتك.
ثانياً هذا اللقاء للحوار والحديث في بعض القضايا المطروحة على الساحة العربية، وهي ساحة ملبدة بغيوم كثيرة ومصابة بانهيارات وتشققات عديدة.
أما السؤال عن التعليم في الأزهر ربما أنا من القلائل الذين اتيح لهم حسن الحظ بأن أتعلم في الأزهر وكذلك سوء الحظ بأن أُعلّم بالأزهر.
المرحلة الاولى التي طلبنا فيها العلم كانت عام 1956 وهو تاريخ التحاقي بالأزهر وكان عمري وقتها عشر سنوات ونصف السنة بعد أن مررنا في التعليم بمرحلة ما يسمى بالكتاب، وحفظنا القرآن حفظاً جيداً وتعلمنا فيه قواعد الاملاء وقواعد الحساب الاربع الجمع والضرب والقسمة والطرح والأوليات والمعارف الاخرى، ودخلنا بعد ذلك الأزهر الذي كان وقتها تتكون مراحله التعليمية من الابتدائية 4 سنوات والثانوية 5 سنوات ثم مرحلة الجامعة قبل أن تتغير الامور بعد ذلك عام 1963م، فنزل التخفيض على سنوات الدراسة الثانوي (4 سنوات) ثم بعد ذلك الاعدادي (3 سنوات) والثانوي (3 سنوات) ليوازي التعليم العام. في ذلك الوقت كنا ندرس كتب التراث القديم مباشرة فكان يقرر علينا في اللغة العربية كتب قديمة بها المتون والحواشي ولك ان تتخيل ذلك، طالب ليس في جعبته إلا القرآن الكريم، ويتعرض لدراسة أمهات الكتب مباشرة. لكن حفظ القرآن الكريم وتلاوته وقدسيته في نفوسنا أضاء لنا هذه العلوم التي كان من المستحيل أن يفهمها طالب في هذه السن (10 سنوات)، وكذلك الامور في كتب النحو ثم درسنا الفقه المالكي.
• هل اخترت التخصص في الفقه المالكي بحكم اختيارك أم بحكم انتمائك الى المذهب المالكي؟
- التخصص في الفقه المالكي كان بحكم انتمائي الى أبي وجدي، ولدينا مكتبة في البيت بها جميع الكتب، فوالدي رفض ان أدرس المذهب الحنفي وأصر على ذلك حتى لا تختلف الفتوى بيننا بعد أن أكبر وحتى لا أفتي برأي وهو يفتي بآخر، فكان هناك حرص على وحدة الكلمة ووحدة الفتوى ووحدة الناس، وأذكر انه كان من المقرر علينا في الصف الرابع الابتدائي كتاب "شذور الذهب" والآن هذا الكتاب ينصح به كمرجع لطلاب كلية الآداب في أقسام اللغة العربية لطلاب الدراسات العليا والماجستير.
بعد ذلك انتقلنا الى المرحلة الثانوية وكان نظام الأزهر في ذلك الوقت ان تدرس في المرحلة الابتدائية أوائل العلوم وأوائل النصوص ثم بعد ذلك في المرحلة الثانوية ندرس المواد نفسها، ولكن بتعمق أكثر وبعد هذا يزداد التعمق في المرحلة الجامعية، وكنا نسمي الطالب في المرحلة الاولى بالشاي أو المبتدئ.
• هذه التعديلات الاخيرة جاءت بعد القانون المسمى "اصلاح الأزهر" عام 1960؟
- هذه التعديلات جاءت بعد القانون الجديد وجعلت الاعتماد على مذكرات تكتب بدلاً من النصوص القديمة، والحقيقة في هذا الموضوع أن العقلية الأزهرية في المقام الاول عقلية تراثية وما زلت أقول ان العلوم القديمة مكتوبة بنمط غير متكرر واستشهد بأصدقائي الفرنسيين الذين يدرسون في معهد الآباء الدومينيكان ويقومون بتحضير الماجستير والدكتوراه في علومنا مثل البلاغة، كنت أسألهم هل عندكم في تراثكم اذا أردتم أن ترجعوا الى اللغة الفرنسية في نحوها وصرفها هل ستجدون الشرح والمتون والتعاليق؟ وعرضت لهم كتب ابن سينا وما فيه من شروح.
• هل أنت تتكلم عن أسلوب لغوي أو عن عقلية تراثية؟ فلا أتخيل مؤسسة دينية كبيرة لا تكون عقليتها الاساسية تراثية بحكم التكوين؟
- لا أتحدث عن لغة بل عن نمط التأليف ومنهج التعلم في هذه الكتب وهذه الكتب لها مناهج يجب مراعاة التدرج فيها. التخصص له كتب والنهائيات لها كتب. هذه الامور ليست متوافرة الآن وهذا هو السبب الاساسي في تدهور التعليم. في الأزهر نحن نكاد نسابق الزمن للعودة لهذا النظام الذي تربينا عليه أو نفعل المستحيل لأننا درسنا على هذا النظام البلاغة ثلاث مرات مبسطة بأسلوب قديم ثم من كتب متوسطة ثم كتب متقدمة.
• اذاً يعتبر الإخلال بالمنهج التراثي للعلماء المسلمين هو مصدر الخلل؟
- الموضوع معقد. التراث أولاً يضمن لك الوسطية ويضمن لك تقبل الآخر. الذي لا يدرس التراث هو الذي يضيق عقله عن تقبل الآخر، لذلك عندما نقول بعودة تدريس كتب التراث يقولون هل ستعودون بنا الى العلوم التي تُكوِّن المتشددين! المسألة بالعكس تماماً: عدم التمتع بتنوع الآراء والنظريات والافكار وهذه خاصية التراث الاسلامي، وعندنا في التراث الاسلامي (اختلافهم رحمة) فالاختلاف موجود منذ عهد الصحابة وجميعهم على صواب. إذاً التراث كتراث للمسلمين داخلياً متنوع نجد فيه الرأي والرأي الآخر والثالث والرابع والا ما معنى المذاهب الاربعة مختلفة ومتعايشة في الاسلام، بل ان فقهاء المذاهب الواحد يختلفون ومع ذلك يتعايشون هذا بالنسبة للفقه وكذلك النحو: البصريون والكوفيون.
حينما ندرس في كتب التراث، فإننا أمام قال فلان وقال فلان ثم يأتي الترجيح، اذاً العقلية الاسلامية عقلية نقدية منذ البداية تنتظر الرأي والرأي الآخر، والفكرة والفكرة الأخرى وتفند النظرية وتنتقد، هذا هو عمل التراث في داخل العقلية الاسلامية، فالتراث يهيئنا عندما نتعامل مع غير المسلم على قبول الاختلاف. فالقرآن الكريم يوضح ان الاختلاف سنّة كونية، فالاختلاف في اللغة (اختلاف ألسنتكم وألوانكم) والاختلاف في الجنس والعقيدة (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) فالقرآن يقرر حقيقة الاختلاف (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولا يزالون مختلفين) فالاختلاف مقصد من مقاصد الخلق ودائماً نرى هذا ومتوقع ان هناك من يخالفنا في الدين ويختلف معي وانه موجود الى يوم القيامة. لذلك عندما ننظر للعولمة أو نحاول عولمة الثقافة أو عولمة الدين أو كما يقولون كثلكة العالم، فنحن لا ننكرها فقط بل نعتقد انها خرافة بنص القرآن الكريم، لأن الاختلاف في الدين سيظل لآخر لحظة في عمر الكون. في نص القرآن هذا الاختلاف دائماً موجود وايماني بأن الذي يخالفني موجود معي، جعل العلاقة بيني وبينه كما قررها القرآن هي التعارف - والعلاقات الدولية في القرآن الكريم قائمة على التعارف. اذاً التراث هو الضامن لعقلية الوسطية والحوار والرأي والرأي الآخر.
• كما عبَّرت فضيلتك بهذا المعنى فإن التعمق في التراث الاسلامي ضمانة للاستيعاب العميق لهذا التراث، ديناً وحضارة. لكن هناك سبب آخر لمعضلة تخلف التعليم الديني عند المسلمين وربما تخلف المسلمين هو نقص معرفة الآخر. سأعطي مثلاً كمراقب دون تطفل خارج اختصاصي. إذ أعرف بحكم المنشأ والتجربة معاً بيئات متعددة دينية لبنانية وعربية. أعرف عدداً من القساوسة والآباء الكاثوليك والارثوذكس والبروتستانت من دول عربية مختلفة متخصصين في الفكر الاسلامي، ناهيك عن رجال الدين المسيحيين الغربيين والمستشرقين عموماً، ولكني أكاد لا أعرف رجل دين واحداً من المسلمين، سنة وشيعة متخصصاً في اللاهوت المسيحي أو متخصصاً في التراث الديني اليهودي. ألا تعتقد ان هذه ظاهرة مقلقة وخطيرة وأنت نفسك سمعتك في إحدى المقابلات تتحدث عن ضرورة تطوير مستوى رجل الدين أو عالم الدين المسلم كأحد مشاريعك الاساسية في "الأزهر"؟
- ملاحظة صحيحة الى حد كبير، ولكن لا يعني هذا ان علماء المسلمين القدامى، حتى علماء الأزهر من جيلي انقطعوا تماماً ولا يعرفون شيئاً في هذه المقارنات بين الاديان أو علم مقارنة الاديان في اللغة الاوروبية. العلماء القدامى لهم عطاء مكتوب في هذا المجال في علوم الاديان المقارنة ونحن المسلمين أول من أنشأ علم الاديان المقارن في تراثنا. هذا موجود لدينا وبشكل معمق وفيه سبق تاريخي وسبق منهجي وفيه سبق رؤية، وربما السبب في اننا لسنا متخصصين في علوم اللاهوت في أوروبا سواء كانت مثلاً مقارنة الاديان اليهودية أو المسيحية انه ربما كثير منا يستنيم الى ما صدر أو ما كتب في هذه الاديان في التراث الاسلامي، وأنا معك في أن هذا خطأ. وأنا شخصياً تنبهت الى هذا وكنت أقول دائماً ان الذي يريد ان يكتب في المسيحية الآن يجب ان يذهب الى الغرب ويتتلمذ على أيدي اساتذة وعلماء من الغرب ثم يكتب ما يراه بعد ان يسمع ويرى. من اجل ذلك نحن حرصنا على ان ننشىء في اصول الدين والكليات الشرعية منذ كنت رئيسا للجامعة على مدى سبع سنوات قسما خاصا يعد صفوة من الطلاب اعداداً لغويا متميزا في الانكليزية وتعاقدنا مع المجلس الثقافي البريطاني والحمد لله اول ثلاثة طلاب سافروا هذا الصيف وحرصنا على ارسال ثمانية آخرين في الصيف المقبل نصفهم تم ابتعاثه ليتخصص في المسيحية والآخر في اليهودية ليرجع لنا عالما باليهودية والمسيحية من خلال الكتب والمصادر والمراجع بالمنهج اليهودي الغربي او المنهج المسيحي الغربي.
فقد وجدنا كل من يكتب في الفترة الأخيرة عن المسيحية يستند الى ما كتبه الشيخ ابو زهرة او الدكتور علي عبد الواحد وافي من المعاصرين او الامام الغزالي والشهرستاني من السلف. هناك رؤى جديدة لا نعلمها، ظهر نقد جديد للكتب المقدسة واصبح علماً واصبح له علماؤه والمتخصصون فيه، نحن نريد ان ننفتح على هذا وفي الجيل السابق كان الشيخ ابو زهرة يكتب جيدا في المسيحية والدكتور عبد الحليم محمود شيخنا رحمه الله كان يدرّس لنا مقارنة اديان في كلية اصول الدين وكان لديه نص باللغة الفرنسية يقرأ منه ويملي علينا وفي النهاية ترجم النص وكان عن المسيحية وشيخنا رحمه الله كان لا يعتبر نفسه متخصصا ولكن المتخصصين الحقيقيين سيكونون من بين الطلاب الذين يدرسون حاليا في جامعات الغرب.
• علمت ان "الجامعة الكاثوليكية" في باريس تدرّس رجال دين مسلمين وتخرّج بهذا المعنى ائمة مسلمين؟
- سأقول لسيادتك ان الذي يغري المستشرقين او الآباء بالكنيسة هو عمق تراثنا وهم يعتبرونه تراثاً انسانياً عالمياً وهذا ما اصابهم بشغف التخصص وخصصوا اعمارهم كاملة لهذا التراث سواء آمنوا بخلفياته ام لا، لكن يؤمنون بأن هذا التراث تراث عالمي ويجب ان يحافظ عليه وان يدرس لدرجة اننا للأسف نجد كثيرا من الباحثين المسلمين اذا ارادوا ان يكتبوا في موضوع اسلامي قد يولوا وجوههم شطر كتابات غربية ثم يترجمونها حتى يفهموا ماذا يقال في كثير من موارد ابحاثنا الاسلامية اضافة الى اننا كعلماء مسلمين لا نجد البعد الروحي او العمق الفلسفي الموجود في العقائد الاسلامية والتراث الاسلامي على الجانب الآخر بمعنى قد لا يكون الجانب الآخر جذاباً او مغرياً وكل ذلك حصيلة مناقشات مع كثير من المستشرقين في باريس من اليهود والكاثوليك، لكن لا اعني بالتراث الاقتصار عليه فقط بل لا بد من الحداثة ايضا فقد درست في اصول الدين علم النفس والاجتماع والفلسفة الحديثة اضافة الى التراث.
• هل تربط اذاً بين مستوى التعليم في الازهر وبين ازمة التعليم في جامعاتنا العربية؟
- نعم استطيع ان اقول هذا لأن ابنائي وابناء العائلة يدرسون في مختلف الجامعات الاخرى وانا دائم الحديث والحوار معهم واقيم المنهج الذي وراء هذا التشتت في التفكير او التبعثر. المشكلة الآن في نمط التفكير نفسه. فالطالب الآن او الذي يتخرج من الجامعة غير قادر على التفكير المنطقي، غير قادر على استنباط النتائج من القضايا وهذه مشكلة اخرى بل مشكلة اعمق. فقد اصبح العقل العربي في الشباب عقلا يحتاج الى تنظيم التفكير فكلامه يسبق تفكيره والمشكلة جاءت بسبب الاعلام، فما يربي العقل العربي الآن ليس التعليم او الجامعات على ضعفها فالجامعات على ضعفها لا تجد لها اثرا او بصمات لا في تكوين شخصية الشباب ولا في تكوين عقليته ايضا، انما الشباب الآن مرهون بدوائر اخرى تلح على ذهنه ليل نهار وللأسف نحن في واد وتاريخنا في واد واعلامنا في واد آخر.
والنتيجة اننا لم نعد عربا بثقافة عربية ولا مسلمين بثقافة اسلامية لذلك تتخطفنا بعض الافكار التافهة وتلبس معظمها عمامة الاسلام عن جهل وغرض وهذا معناه ان الساحة لا يوجد بها تأصيل على الاطلاق فلم نصبح اوروبيين كما يريدون. خسرنا على كل الجبهات فلا استطيع ان اقول من انا. الفرنسي مثلا يستطيع ان يقول من انا ضمن دائرة الاتحاد الاوروبي.
لا يوجد تعليم دقيق وحتى من يتولى مهمة التعليم قد لا يكون بينه وبين التعليم صلة قوية او هو قادر على ادارة العملية التعليمية وهذا خلق نوعا من الضياع على اكثر من مستوى وتستطيع ان تقارن بين الكتب التي كان تدرس للطلاب في سنة 1935 من القرن الماضي او حتى في الخمسينات وبين الكتب التي تدرس للطلاب الآن – اول من امس قرأت في مجلة (الكتاب) التي كانت تصدر عام 1947 مقالا لناظر مدرسة ثانوي كتب مقالا عن (السلام بين الفارابي وروسو وكانت) في حوالى 6 صفحات لا يكتبه متخصص في علوم السياسة الآن وما كتبه وكيل النيابة في محاكمة طه حسين قطعة ادبية رائعة توضح مدى ما كان عليه التعليم من عمق ورصانة.
• انا اصلي وراء فضيلتك وفي هذا المجال تحديدا. لكن الاعلام العربي على تخلفه وحتى احيانا على فساده هو جزء من حالة اكبر سياسية واجتماعية واقتصادية. وهذا ما يدفعني الى طرح موضوع آخر متصل يتعلق بالنخبة المصرية ودورها المتراجع. صحيح كما يقال ان الدولة في مصر كانت قائدة للتأثير المصري في الخارج في العصور الحديثة من محمد علي الى عبد الناصر لكن لم يكن هناك يوما دور للدولة بدون ان يكون مترافقا ومتوازيا مع دور المثقف والاستاذ والباحث والرحالة ورجل الدين والصحافي المصري في المحيط العربي والاسلامي. هؤلاء كانوا الطليعة المصرية حتى لو كان بعضهم معارضا للدولة. الآن يغيب امثال هؤلاء الرياديين رغم الازمات الوجودية التي يتعرض لها العالم العربي. الا تعتقد فضيلتك ان المشكلة تتعلق بتراجع بنيوي عربي وتحديدا مصري ولا تنحصر بالاعلام؟
- اعلم ان سيادتك من رواد الاعلام وحينما انتقد الاعلام انا لا انتقد اشخاصا وانما انقد فترة ونمطا اعلاميا سائدا – وما حدث في مصر حدث في العالم العربي.
-السؤال الذي اطرحه على سيادتك اين النخب؟ حتى وان دللتني على النخب التي تتحدث عنها، على سبيل المثال طه حسين الذي كان يضرب به المثل في التطوير وهو جدير بذلك، ونقد التراث لكنه لم يسىء الى التراث لأنه درس التراث ويعرفه ولم يشترط في نهضته ان تكون هناك قطيعة مع التراث او قطيعة مع الماضي. لكن اليوم النخب التي تتحدث عنها تبدأ من القطيعة مع التراث، هذه الهاوية وقبل ان تتحرك تهوي فيها. والمشكلة ان هذه الشعوب لها تاريخ وحضارة، هذه الارض لها حضارة وتاريخ طويل جدا في احترام الدين واحترام النبوة واحترام الوحي، عندما تستنبت فيها نباتا لا يحترم هذا، بالضرورة ان يموت هذا النبات قبل ان ينمو على وجه الارض.
ان الحقيقة، دون الرجوع لنظرية التآمر هي الغرب بحربته اسرائيل وراء كل ذلك، لدينا الآن اسلاميون ينظرون بعين واحدة الى الماضي، او مثقفون، او تنويريون بعين واحدة الى الامام لكن الرؤية الحقيقية التي تبني على الماضي غائبة، يوم ان يوجد من النخب من يتحرك من هذا المنطلق ويسند ظهره الى الماضي ويتطلع الى الامام يستطيع ان يبني وان يقود وان يتقدم.
الحقيقة ان الحروب التي توالت في فترة عمري هذا (1948 – 1956 – 1967 – 1973) 4 حروب شاهدتها في حياتي وكانت كل واحدة منها ترجع بك 50 عاما الى الوراء في الثقافة والاقتصاد، المسألة كما قلت هي ان الغرب اراد بالشرق شرا وحينما خرج من بلادنا لم يتركنا وشأننا، لا تقل ان هذه نظرية المؤامرة ان اعرف ان الغرب جرب الحروب تماما وذاق مرارتها ودفع ثمنها غالياً وهو حريص على الا تحدث بينهم حرب لا في اوروبا ولا في اميركا من القرن الماضي. هذا يلزمه ان تكون الحروب في اماكن بعيدة ولا تغلق مصانع الاسلحة. هذا هو الاشكال، انا لا الوم القادة فقط بل الوم المفكرين والعلماء واساتذة الجامعات. ذكرت اننا غير مواكبين للتقدم العلمي لمَ لا يلام اساتذة كليات الهندسة والطب والزراعة هل وجدت نقدا يوجه الى هذا الفريق المنوط به التقدم العلمي مثل ما نجد نقدا يومياً ويملأ الصحف للاسلام والمهتمين بالاديان؟ هذه هي المشكلة، المشكلة ليست في الاسلام الآن ولا الاسلام عنده مشكلة، المشكلة في التخلف العلمي ومواجهة التخلف العلمي ليست مطلوبة مني كفقيه بل مطلوبة من علماء الطب والهندسة والزراعة.
• فكرة عالم الدين الطبيب او عالم الدين المهندس وهذا جذوره في التراث، هل تراودك في مشاريعك الاصلاحية في الازهر؟
- والله لا تراودني كثيرا فقد عشت التجديد منذ عام 1963 والذي طرأ جديدا هو ان يتخرج الطبيب الازهري الذي يحمل رسالة الازهر والدعوة الى الاسلام ضمن مهنته لكن التجربة ليست كاملة انما استفدنا والحمد لله في ان نخرج في كلية الطب بالجامعة (الازهر) من يحمل بصمات التراث الاسلامي، ووجدنا فرقاً بين الطبيب الازهري والطبيب الذي يتخرج من الجامعات الأخرى في المجتمع. فالطبيب الازهري له رسالة وهذه الرسالة تنشر رسالة الوسطية والخوف من الحرام، لا نجد طبيباً ازهرياً يتاجر بأرواح الناس او يسرق الاعضاء أو تستقطبه التيارات الاخرى على الجانب الفكري والعقلي فهو محصن لكن الآن نعد أنفسنا بأن يكون هناك داعية متمكن من التراث ومتمكن من العلوم الحديثة وان يكون هناك طبيب مسلم ممتاز يطور مجال الطب ولا مانع أن يدرس بعض العلوم الاسلامية اذا أراد أن يزاول الدعوة.
• في الحوار المهم الدائر حول العلمانية أو فصل الدين عن الدولة ويتناول دولاً مثل تركيا وفرنسا والولايات المتحدة الاميركية، بما فيه الفارق بين النموذجين الفرنسي والاميركي. في هذا الحوار والذي تجدد مؤخراً مع القانون الفرنسي بحظر الحجاب الكامل... ربما تحتل مصر موقعاً قوياً بحكم كونها تجمع بين تقاليد الليبرالية الاجتماعية والمحافظة الاجتماعية في الوقت نفسه. فحرية ارتداء الحجاب في مصر مثل حرية عدم ارتداء الحجاب.
سؤالي هو هنا: رغم معرفتي بموقفك من عدم التدخل في شؤون الدول الاخرى ألا تعتقد ان اعتراض بل نقد علماء الدين الايرانيين وعلماء الدين السعوديين للقانون الفرنسي هذا الاعتراض لديه نقطة ضعف اساسية هي انه في السعودية وإيران مقابل تقليد ارتداء الحجاب ليست هناك حرية عدم ارتداء الحجاب لمن تريد نزعه وبالتالي في ايران والسعودية لا يستطيعون ان ينتقدوا فرنسا على الفرض الذي يمارسونه هم ايضاً في اتجاه واحد انما معاكس؟
- خلع الحجاب مخالفة لنصوص اسلامية ومعروف ان الاسلام ليس علاقة بين العبد وربه فقط فلا استطيع أن أقول حينما الزم المرأة بإرتداء الحجاب انني أصادر على حقها، هنا أخالف شعيرة من شعائر الاسلام الموجودة، لكن هل المشكلة تصل الى حد الوجوب وحد الفرض، الاجابة على هذا السؤال تتعلق بالفقه أمام مسألة الحجاب، هل خلع الحجاب مخالفة عادية أم كبيرة من الكبائر نعتبره مثل شرب الخمر والزنا؟ اذا كانت كبيرة فيجب عليّ أن أفرضه واذا كانت مخالفة عادية فهو أمر مثل الغيبة اعتبره معصية ولا يحتاج الامر الى تدخل. كل ما علينا كعلماء أن ننكر هذا وننصح بإرتداء الحجاب وننكر على المرأة المسلمة ان تخلع حجابها فقط دون فرض أو تدخل، لأن هذا لم يحدث على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلم يحدث ان ضرب النبي امرأة كشفت عن رأسها. النقاب لا يوجد نص عليه في القرآن، أما الحجاب موجود. ومن هنا نرى ان خلعه معصية.
• آتيك، مولانا، من بلد الفتنتين لبنان. الفتنة القديمة المسيحية المسلمة والفتنة الجديدة السنية الشيعية. وهذا كثير جداً على بلد صغير مثل لبنان. تصور سيدي ان هذا اللبنان يحمل دفعة واحدة مشكلة الفتنة المسلمة المسيحية التي عادت تطل برأسها في مصر وجاء بيانك المشترك مع غبطة البابا شنودة حاسماً ضدها، ومشكلة الفتنة السنية الشيعية التي انطلقت من العراق. مصر أم الثمانين مليونا، والعراق أبو الثلاثين مليون نسمة. فكيف للبنان ذي الأربعة ملايين نسمة والرقعة الجغرافية الصغيرة ان يحمل على أكتافه ما تحمله مصر والعراق معاً.
في أوائل الصيف الماضي قال لي في النجف المرجع الشيعي الاعلى السيد علي السيستاني انه ليس قلقاً على العلاقات بين السنة والشيعة داخل العراق لو ترك الأمر للطائفتين ولكنه قلق من استمرار التوتر الايراني السعودي على المستوى الاقليمي في التأثير على تفاقم الفتنة الشيعية السنية بما يجعل السيطرة على مجرى الامور أصعب.
ما هو تعليقكم؟
- هذا الموضوع لا يحتاج لتفكير كثير أو تنظير أو متابعة لأن النذر واضحة هناك قلق يأتينا من خارج المنطقة ودعني أتحدث عن مجالي هنا فقط مثلاً حينما تجد في هذه الآونة الأخيرة بعض الشباب الذين يحاولون الدعوة للمذهب الشيعي (في مصر) ظاهرة جديدة لم تحدث من قبل بل الأمر يهولك عندما نجد بعض الشباب ينتقد السيدة عائشة أو الصحابة هذا يجعلني أقول ان فتنة يخطط لها ويراد لها ان تنبعث في بلاد أهل الاسلام. طبعاً حينما أرى ظاهرة كهذه فانني انكرها ودون الاتهام لأي دولة لأننا نحتاج الى وحدة الأمة الاسلامية لكل دولها وهذا شيء مهم وضروري ونحتاجه وبدونه لا نستطيع ان نرفع رؤوسنا في يوم من الأيام. أبحث عن المستفيد مما يحدث الآن. بعض البلدان الاسلامية، وبعض المتشددين يتحملون جزءاً من المسؤولية حول هذه الفتنة. حينما تكون هناك فضائيات تحكم بكفر الشيعة هذا شيء مرفوض وغير مقبول ولا نجد له مبرراً لا من كتاب ولا سنة ولا اسلام، نحن نصلي وراء الشيعة فلا يوجد عند الشيعة قرآن آخر كما تطلق الشائعات والا ما ترك المستشرقون هذا الأمر فهذا بالنسبة لهم صيد ثمين ولي بحث في هذا المجال وجميع مفسري أهل السنة من الطبري وحتى الآن لم يقل منهم أحد ان الشيعة لديهم قرآن آخر.
• هل هناك أخطر من موضوع "عصمة الأئمة" كخلاف عقائدي بين السنة والشيعة؟
- لا يوجد خلاف بين السني والشيعي يخرجه من الاسلام انما هي عملية استغلال السياسة لهذه الخلافات كما حدث بين المذاهب الفقهية (الأربعة) كل الفروق بيننا وبينهم هي مسألة الإمامة. فعندنا في السنة الامامة بالاختيار والرسول صلى الله عليه وسلم ترك للمسلمين اختيار ائمتهم وخلفائهم وهم يقولون ان النبي صلى الله عليه وسلم اوصى للامام علي (كرم الله وجهه) فلو اعتقدت ان سيدنا علي اولى بالخلافة ليست هناك مشكلة ولو اعتقدت ان الأمة اختارت سيدنا أبا بكر وهو أولى لا توجد مشكلة لكن المشكلة في التوظيف وهناك مشاكل عن عامتهم من سب لأبي بكر والبخاري والمشكلة هي في التوظيف المغرض للاختلاف لضرب وحدة الأمة.
• هل ستزور النجف؟
- اذا ذهبت للعراق سأزور النجف. الازهر واجبه الأول وحدة الأمة الاسلامية وكذلك تجميع المسلمين على رؤية واحدة مع اختلاف الاجتهاد ومستعد لزيارة أي مكان اجمع فيه المسلمين مع بعضهم والنجف بصفة خاصة.
وأتمنى ان تكون زيارتي بعد حسم مسألة الحكومة لأن ذلك من الأمور التي تؤذينا. قلت للوفد العراقي الذي زارني مؤخراً (وفد مشترك من الأوقاف السنية والاوقاف الشيعية) سآتيكم وأنا أب للسنة والشيعة بشرط ألا تفسر زيارتي لصالح طرف على آخر.
• قرأت ترجمتك عن الفرنسية لكتاب "الولاية والنبوة عن الشيخ الاكبر محي الدين ابن عربي" للباحث علي شوركفيتش. قرأته من الغلاف الى الغلاف بما فيه مقدمتك لما ترجمته. لقد استفدت كثيراً من هذا الكتاب لا سيما في الافق الذي يكشفه من حيث أهمية محاولات فتح المنظومة العقائدية عند السنة عبر "الولي" (كما فعل الشيعة عبر "الامام" وكما فعل المسيحيون عبر "الرسل" ثم "القديسين" ثم "الشهداء") وهذا ما استدعى حسب الكتاب هجوم الشيخ ابن تيمية العنيف على المتصوف الشيخ ابن عربي.
ما الذي أملى عليك هذه الترجمة؟
- المقصود هو انصاف الشيخ ابن عربي وتجلية البعد الفكري والفلسفي والروحي في كتاباته، والدعوة الى النظر في هذه الكتابات بعقل مفتوح وان تؤخذ في اجمالهاوكلياتها دون انتقاء او نظرة جزئية تبعدنا عن الفهم العميق والنقد الموضوعي بغير تحامل.
هذا ايضاً من الامور المحزنة، فالمؤلف الغربي تفرغ لدراسة اعمال ابن عربي لمدة خمسين عاماً بينما لدينا علماء يهاجمون ابن عربي دون قراءة كتاب واحد من كتبه ودون قراءة اسهل هذه الكتب وهو كتاب الفتوحات المكية، وكان من المفروض ان يكتب الباحث الغربي عن ابن عربي استناداً الى كتبنا نحن، ولكن المسألة قد قلبت فنحن ندرس ما يكتبه الغربيون.
• يصادف الآن على رأس الكنيسة الكاثوليكية بابا آت من عالم الأكاديميا وعلى رأس "مشيخة الازهر" رجل مثقف مثلك آت من العالم الأكاديمي. أظن هذه فرصة لحوار مهم لأن المثقفين يمكن لو جازفوا ان يحدثوا فرقاً مثيراً على المستوى الفكري؟
- ليس لدينا مانع في الحوار – كما قلت لحضرتك – الوحدة الوطنية في الداخل هدفنا وكذلك الوحدة العربية والاسلامية ثم السلام العالمي وهذه رسالة القرآن والرسول عليه الصلاة والسلام أرسل للعالمين رحمة وسلاماً حتى لغير المؤمن به ونحن نرث هذا الميراث النبوي الشريف ونعمل على حمله والالتزام به.
• الوثيقة التي أعدها الفاتيكان باشراف البابا بينيديكتوس حول كنائس الشرق الأوسط، ويجتمع حالياً اساقفة الشرق الاوسط لمناقشتها، هذه الوثيقة قالت في احدى فقراتها ان الشرق الأوسط أو ما تسميه الوثيقة "العالم العربي – التركي – الايراني" هذا العالم لا يعترف بـ"حرية الضمير" ويقصد بها حرية تغيير الدين. انه يعترف بحرية العبادة وليس "حرية الضمير" بما تعنيه من حرية تغيير الدين؟
- لقد درسنا هذه الوثيقة ونود بداية ان نقول اننا كمسلمين نحرص على بقاء المسيحيين في الشرق لأن بقاءهم وازدهارهم تعبير عن ثراء حضارة الشرق روحياً ومعنوياً وثقافياً ودليل على ان الاسلام دين التسامح والتعايش وقبول الآخر.
اما حرية العبادة فمكفولة و"حرية الضمير" يقررها الاسلام الذي يقول كتابه الكريم في محكم آياته "لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" ويقول سبحانه مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم "ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" ويقول سبحانه "فذكّر انما أنت مذكّر لست عليهم بمسيطر" واعتقد ان في هذه الآيات ابلغ رد على موقف الاسلام من حرية الضمير.
• قلت انك لا يمكن ان تصافح أي اسرائيلي رسمي طالما لم تعد اسرائيل الحقوق المشروعة للفلسطينيين، هل هذا يعبّر عن مساحتك الخاصة كشيخ للازهر أم عن تنسيق ما مع سياسة الدولة الرسمية التي لها اعتبارات مختلفة بمقتضى قواعد العلاقات الدولية؟
- الازهر الشريف جامع وجامعة، ومعبّر عن حكم الاسلام وعن ضمير المسلمين، وهو ليس سلطة سياسية وانما حامل رسالة ومكانة معنوية، ومن ثم فالاعتبارات التي تحكم الازهر الشريف ليست هي الاعتبارات التي تمليها الالتزامات الدولية على المسؤولين السياسيين، والازهر الشريف بحكم مسؤوليته الشرعية لا يستطيع الا ان يعبّر عن ضمير الجماهير الاسلامية تجاه العدوان الاسرائيلي الغاشم والاحتلال الآثم وتدنيس المقدسات، وحصار غزة الصامدة، وما يعانيه اخواننا من فلسطين في كل يوم، ومن هنا فإني أكرر موقفي بأنني لن أصافح مسؤولاً اسرائيلياً ما دامت الحقوق الشرعية للفلسطينيين مسلوبة، وهذا لا يعني موقفاً من اليهود كأصحاب ديانة نحترمها وكأهل كتاب، ويكفي ان تعرف ان رسالتي للدكتوراه كانت عن فيلسوف يهودي عاش في ظل حضارة الاسلام السمحة هو ابو البركات البغدادي.
رسالة مفتوحة إلى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله
وجه رئيس حزب "جبهة المشاركة " المنحل ، السيد محمد رضا خاتمي، رسالة مفتوحة إلى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بمناسبة زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد للبنان.
عزيزي السيد حسن نصرالله يما تستقبلون في بلدكم لبنان السيد محمود أحمدي نجاد إستقبالا حارا باعتبار أنه رئيس الجمهورية الإسلامية، ونظرا للروابط العميقة التي تجمع شعبينا، نحن شعب إيران يهمنا أن يكون استقالبكم له كممثل للجمهورية الإسلامية على أساس سياسة عدم التدخل في شؤون بلدكم الداخلية، ومن أجل المصالح الوطنية اللبنانية ودعم المقاومة. ونتمنى عليكم كما على كل خبير بالسياسة أن تعرفوا حق المعرفة إلى أين وصلت مكانته في نظر شعب إيران.
حضرة الأمين العام ما جعلني أختارك من بين جميع مستضيفيه يعود إلى إرتباطك الوثيق بالمثل العليا والشعارات الأساسية التي تبنتها الثورة الإسلامية في إيران وما تزال.أخاطبك أنت لأن مصير الجمهورية الإسلامية مهم بالنسبة إليك كما مصير المقاومة الإسلامية. ولزاما علي أن أذكرك بالواقع المر الذي وصلنا إليه هذه الأيام في إيران، هذا الواقع الذي يتحمل مسؤوليته من قاد الثورة يوما من الأيام وعاد فأفرغها اليوم من شعبويتها واحتكر إنجازاتها لنفسه.تعلمون جيدا ولا داعي لتذكيركم أن حافظي إرث الإمام الخميني قد أصبحوا قلة قليلة في إيران هذه الأيام. فالسابقون السابقون من ورثة فقيدنا الراحل الحقيقيون يتعرضون، بجرم الحفاظ على مبادئ الثورة الأساسية، لأصعب الضغوطات و وأقسى حملات التضييق. كما أن مئات الأشخاص من الرعيل الأول لثورتنا العظيمة الذين لم ينحرفوا عن خطها الأساسي وشعاراتها الأصيلة، يقبعون في السجون في أسوأ الظروف الإنسانية.وآخرها كان إعتقال أبرز الداعمين للمقاومة الإسلامية في لبنان كما تعرفون، "الدكتور علي شكوري"، والذي جرى عشية زيارة السيد أحمدي نجاد لكم في لبنان.وهنا أسألكم كيف يمكن لشخص مثله أن يتكلم عن مقاومة نظام غاصب وهو في الوقت ذاته يزج في السجون بآلاف المخلصين ممن أمضوا سحابة عمرهم يجاهدون في سبيل إعلاء كلمة الله ودعم الثورة وتأسيس الجمهورية الإسلامية. لا يمكن لأحمدي نجاد ان يدعي محاربة الكيان الصهيوني من جهة وهو يظلم ثوريين حقيقيين من جهة أخرى. هل يمكن للإثم أن يكون مرادفا للبراءة، كما أن السكوت عن الظلم هو تأييد له.ينتظر شعبنا من كل من يدعي أنه يجاهد ضد الظلم والتسلط أن يمد يده لمساعدتنا في رفع الظلم عن جميع المعتقلين في سجون أحمدي نجاد. كما كان شعب إيران داعما أساسيا للبنان وشعبه وللطائفة الشيعية على وجه الخصوص، نتمنى منكم ان تبادلونا الوفاء بالوفاء وتساعدونا في رفع الظلم عن كاهل شعبنا.
عزيزي السيد حسن نصرالله يما تستقبلون في بلدكم لبنان السيد محمود أحمدي نجاد إستقبالا حارا باعتبار أنه رئيس الجمهورية الإسلامية، ونظرا للروابط العميقة التي تجمع شعبينا، نحن شعب إيران يهمنا أن يكون استقالبكم له كممثل للجمهورية الإسلامية على أساس سياسة عدم التدخل في شؤون بلدكم الداخلية، ومن أجل المصالح الوطنية اللبنانية ودعم المقاومة. ونتمنى عليكم كما على كل خبير بالسياسة أن تعرفوا حق المعرفة إلى أين وصلت مكانته في نظر شعب إيران.
حضرة الأمين العام ما جعلني أختارك من بين جميع مستضيفيه يعود إلى إرتباطك الوثيق بالمثل العليا والشعارات الأساسية التي تبنتها الثورة الإسلامية في إيران وما تزال.أخاطبك أنت لأن مصير الجمهورية الإسلامية مهم بالنسبة إليك كما مصير المقاومة الإسلامية. ولزاما علي أن أذكرك بالواقع المر الذي وصلنا إليه هذه الأيام في إيران، هذا الواقع الذي يتحمل مسؤوليته من قاد الثورة يوما من الأيام وعاد فأفرغها اليوم من شعبويتها واحتكر إنجازاتها لنفسه.تعلمون جيدا ولا داعي لتذكيركم أن حافظي إرث الإمام الخميني قد أصبحوا قلة قليلة في إيران هذه الأيام. فالسابقون السابقون من ورثة فقيدنا الراحل الحقيقيون يتعرضون، بجرم الحفاظ على مبادئ الثورة الأساسية، لأصعب الضغوطات و وأقسى حملات التضييق. كما أن مئات الأشخاص من الرعيل الأول لثورتنا العظيمة الذين لم ينحرفوا عن خطها الأساسي وشعاراتها الأصيلة، يقبعون في السجون في أسوأ الظروف الإنسانية.وآخرها كان إعتقال أبرز الداعمين للمقاومة الإسلامية في لبنان كما تعرفون، "الدكتور علي شكوري"، والذي جرى عشية زيارة السيد أحمدي نجاد لكم في لبنان.وهنا أسألكم كيف يمكن لشخص مثله أن يتكلم عن مقاومة نظام غاصب وهو في الوقت ذاته يزج في السجون بآلاف المخلصين ممن أمضوا سحابة عمرهم يجاهدون في سبيل إعلاء كلمة الله ودعم الثورة وتأسيس الجمهورية الإسلامية. لا يمكن لأحمدي نجاد ان يدعي محاربة الكيان الصهيوني من جهة وهو يظلم ثوريين حقيقيين من جهة أخرى. هل يمكن للإثم أن يكون مرادفا للبراءة، كما أن السكوت عن الظلم هو تأييد له.ينتظر شعبنا من كل من يدعي أنه يجاهد ضد الظلم والتسلط أن يمد يده لمساعدتنا في رفع الظلم عن جميع المعتقلين في سجون أحمدي نجاد. كما كان شعب إيران داعما أساسيا للبنان وشعبه وللطائفة الشيعية على وجه الخصوص، نتمنى منكم ان تبادلونا الوفاء بالوفاء وتساعدونا في رفع الظلم عن كاهل شعبنا.
الخميس، 21 أكتوبر 2010
العراق: طبقة سياسية فوق القانون
المستقبل - الاحد 19 أيلول 2010 - العدد 3775 -
بغداد ـ شاكر الأنباري
مشكلة تشكيل الحكومة العراقية ليست الوحيدة من بين مشاكل هذا البلد، بل قد تكون مظهرا من مظاهر أشد خطرا، أبرزها مشكلة الفساد، وقد بدا الفساد فايروسا مستعصيا، ينخر في جسد الدولة والمجتمع مثل وباء فتاك. يجده المرء في الوزارات، والجيش، والشرطة، والقضاء، والهيئات المستقلة، ومجالس المحافظات، وفي أصغر وحدة إدارية لها تماس بحياة المواطنين. لم تنفع معه أجهزة الرقابة ولا هيئة النزاهة التي تشكلت لمحاربة الفساد في أجهزة الدولة. صار يعترف بوجوده الجميع، سواء كانوا في دست الحكم كرئيس الوزراء، أو معارضين، خارج العراق أو داخله. انه يبث سمومه في نسيج المجتمع ذاته فيخرب نفوس العامة من الشعب، وقد فشلت لحد الآن كل الحلول المطروحة والمعالجات.
عقود وهمية، ورشاوى، وتزوير وثائق، واستخدام النفوذ السياسي والحزبي والعشائري، ومحسوبيات، وولاءات، وقرابات، وتصفيات، كل هذا في ظل غياب قانون حقيقي يطبق على الجميع، وفي ظل فوضى عارمة هيمنت على كل منحى من مناحي الحياة. حتى اصبح من الصعب وجود منصب يتيح الفساد فلا يستغل من صاحبه. ولعل أخطر ما ينتجه الفساد هو سايكولوجيا محاربة النزيهين وأصحاب الأيادي البيض، ممن يكشفون الفساد وطرقه ودروبه، ويقاومون اغراءات فائقة الجاذبية. ولهذا ان لم ينصع النظيف لبيئة الفساد تلك فسرعان ما يقتل، بكاتم صوت او عبوة لاصقة او ناسفة، هذا ان لم يدفع عن طريق التهديد والضغط لمغادرة البلد. استشراس الفساد جاء بسبب وجود ثروة هائلة يتنافس عليها المفسدون، يدخل الخزينة يوميا من عوائد النفط ما يقرب من ربع مليار دولار، وهي ثروة تنفق دون تخطيط حقيقي، ودون متابعة صارمة، ودون ردع قانوني. بواسطة النقود يحل كل منغلق ومستعص، ومن لا ينصاع لإغراء المال يرسل إلى طريق لا عودة منه. وحين تبدأ التحقيقات تصاحبها ضجة إعلامية مؤقتة لا تلبث أن تنزوي ثم تموت، وتوضع الملفات على الرفوف أو تحرق بحادثة توصف بالعرضية، ثم يطوي النسيان كل شيء.
عن ذلك الجو الغامض، جو الفساد، صرح القاضي رحيم العكيلي، رئيس هيئة النزاهة، لبرنامج (سحور سياسي) الذي تبثه قناة البغدادية الفضائية، بحقائق مرعبة. قال ان هناك طبقة سياسية في العراق هي فوق القانون، بمعنى تفعل ما تريد دون أن يطالها أحد. لا هيئة النزاهة ولا ديوان الرقابة والتفتيش، ولا القضاء. والمعروف أن هذه الطبقة تتمثل برؤساء أحزاب، وقادة سياسيين، ووجهاء دينيين واجتماعيين، وحولهم من المستشارين والوزراء والمدراء العامين وقادة الميليشيات السابقين. مصنع الطبقة تلك بدأ بعد سقوط النظام، وازاه فساد آخر في جبهة القوى التي احتلت البلد من أميركيين وبريطانيين وسواهم، واستمر وتفاقم طوال سنوات الصراع السياسي والاجتماعي والحزبي. واذا سار الوضع كما هو عليه فسوف تنتج بطانة ستكون أسوأ حتى من بطانة صدام حسين كما قال العكيلي.
فعلا شهد الشارع العراقي أفظع قضية للفساد حدثت في وزارة التجارة، وكان الاتهام موجها لوزيرها عبد الفلاح السوداني المقرب من المالكي، وقد اثبتت التحقيقات وجود تلاعبات هائلة في قضية الحصة التموينية. والحصة التموينية هي توزيع مواد غذائية بأسعار رمزية على الأسر العراقية، واستحدث هذا النظام منذ الحصار في التسعينيات، واستطاعت الحصة التموينية انقاذ ملايين المعدمين من غائلة الجوع في ظل بطالة عالية، وانعدام للخدمات، وتفكك المؤسسات الاجتماعية، والتهجير المذهبي. ورغم وجود تلاعب بالمال العام وصل إلى مليارات الدولارات لم يعاقب الوزير والمدراء العامون المتورطون، وبرئوا جميعا من تهمة الفساد، وكان تسيس القضاء، وممارسة الضغط السياسي لغلق الملف، واضحا لجميع المراقبين.
وحدث أمر مشابه في عقود وزارة الدفاع ايام الوزير حازم الشعلان وزير الدفاع في حكومة اياد علاوي، اذ وصلت الأموال المنهوبة حوالي المليار دولار، واستطاع الشعلان الهروب إلى الخارج وتحصن بجنسيته الأجنبية (بريطانية) التي لا تبيح تسليم المواطنين إلى دولة ثانية. وكذلك الأمر مع ايهم السامرائي، وهو وزير كهرباء سابق، اعتقل في المنطقة الخضراء فدخلت عليه قوة أمنية تابعة للجيش الأميركي وأخرجته من السجن وسُفّر إلى خارج العراق، كونه يحمل الجنسية الأميركية. هذه الحوادث وغيرها يتذكرها الشارع العراقي بدقة، لأنها كانت مدار حديث الصحافة والإعلام، وتحولت إلى فضائح لم يعد احد يستطيع الدفاع عنها، او السكوت عليها. فوجود عدد من السياسيين العراقيين يحملون جنسية ثانية هي واحدة من العقبات التي لا تسمح بمعاقبة المتهمين بالفساد كما يقول القاضي رحيم العكيلي.
هناك كثير من الموظفين الكبار نهبوا وزوروا، ثم تركوا مناصبهم وعادوا إلى بلدان يحملون جنسيتها فلم يعد بالامكان استردادهم. اذ عادة ما يفسر قرار الاتهام او الاسترداد بالقرار السياسي، وهي وجهة نظر تبدو مقبولة، اذ ان هناك كثيرا من الفاسدين والقتلة وقادة الميليشيات ممن ارتكبوا جرائم معروفة، الا انهم لم يقدموا للمحاكمة بسبب دعم أحزابهم السياسية ووقوفها خلفهم. وثمة قادة سياسيون يتصدرون اليوم واجهة المشهد كانوا حتى الأمس القريب ممن قادوا مباشرة، أو من خلف الستار، العمل الميداني للتصفيات المذهبية، والتهجير، والتفخيخ، والقتل على الهوية، والسرقات، وتهريب النفط، وهم موجودون في عدد من الحركات والأحزاب الحالية. فمن بين حوالى خمسة آلاف موظف كبير، بدرجة وزير ومدير عام ومستشار ووكيل وزير، هناك حوالى مئة وسبعين شخصا متهمين بقضايا فساد كبيرة، ومن بين هؤلاء خمسة وزراء، كما يقول القاضي رحيم العكيلي رئيس هيئة النزاهة. لكن الملاحقات عادة معطلة لأن بعضهم ينتمون إلى الطبقة السياسية التي وصفها بأنها فوق القانون.
هذه الحقائق ربما توضح الكثير مما يجري في الساحة، على الصعيد السياسي والاقتصادي. والا أين ذهبت ثلاثمئة مليار دولار خلال السنوات السبع الماضية؟ لا سيما أن آثارها لم تلمس في تطوير الواقع الاجتماعي؟ في الواقع الرث على كل المستويات؟ الجميع يعرف ان مجالس المحافظات، على سبيل المثال، أصبحت امبراطوريات شبه مستقلة، تتلاعب بالمال العام، وتصدر احيانا قرارات تتناقض مع الدستور، وتستطيع التأثير على القضاء المحلي بالشكل الذي يلائم نزواتها في جمع المال، وتسيس التعليم والشارع والتقاليد الاجتماعية. ولعل أخطر ما قيل في هذا المجال هو وجود عصابات في السجون العراقية تتقاضى مبالغ ضخمة لإطلاق سراح المجرمين، بمن فيهم معتقلو القاعدة او عصابات التزوير وبقايا الميليشيات، ويدير هذه العصابات ضباط كبار وموظفون في أماكن حساسة. اما قطاع المقاولات فهناك قصص حولها تدخل في اطار الحكايات السوريالية التي لا يصدقها عقل. عقود تباع أكثر من مرة، وتنفيذ رديء للشوارع والأبنية والجسور، وصفقات تتم احيانا خارج العراق لمقاولين يقطنون في بيروت او عمان او الدول الأوروبية، لهم امتدادات مع مسؤولين في أجهزة الدولة المختلفة، أغذية مستوردة منتهية الصلاحية، وأدوية غير صالحة، تتسرب من هكذا صفقات مئات ملايين الدولارات إلى الخارج.
والفساد لا يشمل نهب المال العام فقط، انما يمتد إلى الوظائف العليا، التي استأثرت بها الأحزاب الحاكمة. فأغلب مفاصل الدولة الحساسة يشرف عليها ويديرها أشخاص قريبون لهذا الحزب أو ذاك، وفي السنوات الأربع تفاقمت هذه الظاهرة بشكل كبير حتى بدأت الأحزاب تلك تعاني هي الأخرى من التهميش بعد أن سارت سلسلة التعيينات لتنحصر في حزب واحد أو حزبين، وعادة ما يكون الولاء لا الكفاءة هو ما يحدد أولئك الأشخاص. وتم التلاعب حتى في قانون المساءلة والعدالة، ليسري على البعض من الأبعدين دون أن يطبق على الموالين. وواحدة من معضلات التفاهمات بين القوى السياسية في تشكيل الحكومة هي اختلاف رؤيتها على فتح ملفات الفساد المالي، والإداري، والسياسي، للسبع سنوات السابقة. ثمة اعتراض صريح من قبل الأحزاب الحاكمة، وبعض الرموز المتنفذة، أباطرة السنوات العجاف، على فتح تلك الملفات، وهي ملفات قد تقود إلى فضح جرائم جنائية، وسياسية، ومالية، وحزبية.
في انتخابات مجالس المحافظات السابقة تعهد المرشحون الجدد أثناء الانتخابات بفتح ملفات الفساد للمجالس السابقة. لكنهم ما ان فازوا في الانتخابات، واحتلوا مقاعدهم الوثيرة التي تبيض ذهبا، حتى نسوا تعهداتهم، وانشغلوا بتلقف الميزانية الدسمة، والسفرات خارج البلد، وابتكار طرق جديدة لجمع الثروات وخلق البطانات. وأخذ المواطنون في بعض تلك المحافظات يترحمون على المجالس السابقة. وظلت الجرائم وقضايا الفساد والفضائح الكبيرة طي الكتمان. ولم يحاكم أي مسؤول بشكل صريح ومباشر عن تلك الجرائم، فآخر المحاكمات العلنية كانت لأركان نظام صدام حسين، التي فقدت الاهتمام هي الأخرى، لأن ما يحاكم عليه اولئك من جرائم قد لا يصل بعضها إلى الجرائم التي ارتكبت من أغلب الأطراف في العهد الجديد. لكل ذلك صنف العراق عالميا بأنه يحتل رأس القائمة في الدول الأكثر فسادا في العالم، والأكثر انتهاكا لحقوق الإنسان، كون القانون لم يعد يسري الا على الضعفاء من الموظفين والمواطنين الذين لا حول ولا قوة لهم سوى الدعاء إلى السماء.
بغداد ـ شاكر الأنباري
مشكلة تشكيل الحكومة العراقية ليست الوحيدة من بين مشاكل هذا البلد، بل قد تكون مظهرا من مظاهر أشد خطرا، أبرزها مشكلة الفساد، وقد بدا الفساد فايروسا مستعصيا، ينخر في جسد الدولة والمجتمع مثل وباء فتاك. يجده المرء في الوزارات، والجيش، والشرطة، والقضاء، والهيئات المستقلة، ومجالس المحافظات، وفي أصغر وحدة إدارية لها تماس بحياة المواطنين. لم تنفع معه أجهزة الرقابة ولا هيئة النزاهة التي تشكلت لمحاربة الفساد في أجهزة الدولة. صار يعترف بوجوده الجميع، سواء كانوا في دست الحكم كرئيس الوزراء، أو معارضين، خارج العراق أو داخله. انه يبث سمومه في نسيج المجتمع ذاته فيخرب نفوس العامة من الشعب، وقد فشلت لحد الآن كل الحلول المطروحة والمعالجات.
عقود وهمية، ورشاوى، وتزوير وثائق، واستخدام النفوذ السياسي والحزبي والعشائري، ومحسوبيات، وولاءات، وقرابات، وتصفيات، كل هذا في ظل غياب قانون حقيقي يطبق على الجميع، وفي ظل فوضى عارمة هيمنت على كل منحى من مناحي الحياة. حتى اصبح من الصعب وجود منصب يتيح الفساد فلا يستغل من صاحبه. ولعل أخطر ما ينتجه الفساد هو سايكولوجيا محاربة النزيهين وأصحاب الأيادي البيض، ممن يكشفون الفساد وطرقه ودروبه، ويقاومون اغراءات فائقة الجاذبية. ولهذا ان لم ينصع النظيف لبيئة الفساد تلك فسرعان ما يقتل، بكاتم صوت او عبوة لاصقة او ناسفة، هذا ان لم يدفع عن طريق التهديد والضغط لمغادرة البلد. استشراس الفساد جاء بسبب وجود ثروة هائلة يتنافس عليها المفسدون، يدخل الخزينة يوميا من عوائد النفط ما يقرب من ربع مليار دولار، وهي ثروة تنفق دون تخطيط حقيقي، ودون متابعة صارمة، ودون ردع قانوني. بواسطة النقود يحل كل منغلق ومستعص، ومن لا ينصاع لإغراء المال يرسل إلى طريق لا عودة منه. وحين تبدأ التحقيقات تصاحبها ضجة إعلامية مؤقتة لا تلبث أن تنزوي ثم تموت، وتوضع الملفات على الرفوف أو تحرق بحادثة توصف بالعرضية، ثم يطوي النسيان كل شيء.
عن ذلك الجو الغامض، جو الفساد، صرح القاضي رحيم العكيلي، رئيس هيئة النزاهة، لبرنامج (سحور سياسي) الذي تبثه قناة البغدادية الفضائية، بحقائق مرعبة. قال ان هناك طبقة سياسية في العراق هي فوق القانون، بمعنى تفعل ما تريد دون أن يطالها أحد. لا هيئة النزاهة ولا ديوان الرقابة والتفتيش، ولا القضاء. والمعروف أن هذه الطبقة تتمثل برؤساء أحزاب، وقادة سياسيين، ووجهاء دينيين واجتماعيين، وحولهم من المستشارين والوزراء والمدراء العامين وقادة الميليشيات السابقين. مصنع الطبقة تلك بدأ بعد سقوط النظام، وازاه فساد آخر في جبهة القوى التي احتلت البلد من أميركيين وبريطانيين وسواهم، واستمر وتفاقم طوال سنوات الصراع السياسي والاجتماعي والحزبي. واذا سار الوضع كما هو عليه فسوف تنتج بطانة ستكون أسوأ حتى من بطانة صدام حسين كما قال العكيلي.
فعلا شهد الشارع العراقي أفظع قضية للفساد حدثت في وزارة التجارة، وكان الاتهام موجها لوزيرها عبد الفلاح السوداني المقرب من المالكي، وقد اثبتت التحقيقات وجود تلاعبات هائلة في قضية الحصة التموينية. والحصة التموينية هي توزيع مواد غذائية بأسعار رمزية على الأسر العراقية، واستحدث هذا النظام منذ الحصار في التسعينيات، واستطاعت الحصة التموينية انقاذ ملايين المعدمين من غائلة الجوع في ظل بطالة عالية، وانعدام للخدمات، وتفكك المؤسسات الاجتماعية، والتهجير المذهبي. ورغم وجود تلاعب بالمال العام وصل إلى مليارات الدولارات لم يعاقب الوزير والمدراء العامون المتورطون، وبرئوا جميعا من تهمة الفساد، وكان تسيس القضاء، وممارسة الضغط السياسي لغلق الملف، واضحا لجميع المراقبين.
وحدث أمر مشابه في عقود وزارة الدفاع ايام الوزير حازم الشعلان وزير الدفاع في حكومة اياد علاوي، اذ وصلت الأموال المنهوبة حوالي المليار دولار، واستطاع الشعلان الهروب إلى الخارج وتحصن بجنسيته الأجنبية (بريطانية) التي لا تبيح تسليم المواطنين إلى دولة ثانية. وكذلك الأمر مع ايهم السامرائي، وهو وزير كهرباء سابق، اعتقل في المنطقة الخضراء فدخلت عليه قوة أمنية تابعة للجيش الأميركي وأخرجته من السجن وسُفّر إلى خارج العراق، كونه يحمل الجنسية الأميركية. هذه الحوادث وغيرها يتذكرها الشارع العراقي بدقة، لأنها كانت مدار حديث الصحافة والإعلام، وتحولت إلى فضائح لم يعد احد يستطيع الدفاع عنها، او السكوت عليها. فوجود عدد من السياسيين العراقيين يحملون جنسية ثانية هي واحدة من العقبات التي لا تسمح بمعاقبة المتهمين بالفساد كما يقول القاضي رحيم العكيلي.
هناك كثير من الموظفين الكبار نهبوا وزوروا، ثم تركوا مناصبهم وعادوا إلى بلدان يحملون جنسيتها فلم يعد بالامكان استردادهم. اذ عادة ما يفسر قرار الاتهام او الاسترداد بالقرار السياسي، وهي وجهة نظر تبدو مقبولة، اذ ان هناك كثيرا من الفاسدين والقتلة وقادة الميليشيات ممن ارتكبوا جرائم معروفة، الا انهم لم يقدموا للمحاكمة بسبب دعم أحزابهم السياسية ووقوفها خلفهم. وثمة قادة سياسيون يتصدرون اليوم واجهة المشهد كانوا حتى الأمس القريب ممن قادوا مباشرة، أو من خلف الستار، العمل الميداني للتصفيات المذهبية، والتهجير، والتفخيخ، والقتل على الهوية، والسرقات، وتهريب النفط، وهم موجودون في عدد من الحركات والأحزاب الحالية. فمن بين حوالى خمسة آلاف موظف كبير، بدرجة وزير ومدير عام ومستشار ووكيل وزير، هناك حوالى مئة وسبعين شخصا متهمين بقضايا فساد كبيرة، ومن بين هؤلاء خمسة وزراء، كما يقول القاضي رحيم العكيلي رئيس هيئة النزاهة. لكن الملاحقات عادة معطلة لأن بعضهم ينتمون إلى الطبقة السياسية التي وصفها بأنها فوق القانون.
هذه الحقائق ربما توضح الكثير مما يجري في الساحة، على الصعيد السياسي والاقتصادي. والا أين ذهبت ثلاثمئة مليار دولار خلال السنوات السبع الماضية؟ لا سيما أن آثارها لم تلمس في تطوير الواقع الاجتماعي؟ في الواقع الرث على كل المستويات؟ الجميع يعرف ان مجالس المحافظات، على سبيل المثال، أصبحت امبراطوريات شبه مستقلة، تتلاعب بالمال العام، وتصدر احيانا قرارات تتناقض مع الدستور، وتستطيع التأثير على القضاء المحلي بالشكل الذي يلائم نزواتها في جمع المال، وتسيس التعليم والشارع والتقاليد الاجتماعية. ولعل أخطر ما قيل في هذا المجال هو وجود عصابات في السجون العراقية تتقاضى مبالغ ضخمة لإطلاق سراح المجرمين، بمن فيهم معتقلو القاعدة او عصابات التزوير وبقايا الميليشيات، ويدير هذه العصابات ضباط كبار وموظفون في أماكن حساسة. اما قطاع المقاولات فهناك قصص حولها تدخل في اطار الحكايات السوريالية التي لا يصدقها عقل. عقود تباع أكثر من مرة، وتنفيذ رديء للشوارع والأبنية والجسور، وصفقات تتم احيانا خارج العراق لمقاولين يقطنون في بيروت او عمان او الدول الأوروبية، لهم امتدادات مع مسؤولين في أجهزة الدولة المختلفة، أغذية مستوردة منتهية الصلاحية، وأدوية غير صالحة، تتسرب من هكذا صفقات مئات ملايين الدولارات إلى الخارج.
والفساد لا يشمل نهب المال العام فقط، انما يمتد إلى الوظائف العليا، التي استأثرت بها الأحزاب الحاكمة. فأغلب مفاصل الدولة الحساسة يشرف عليها ويديرها أشخاص قريبون لهذا الحزب أو ذاك، وفي السنوات الأربع تفاقمت هذه الظاهرة بشكل كبير حتى بدأت الأحزاب تلك تعاني هي الأخرى من التهميش بعد أن سارت سلسلة التعيينات لتنحصر في حزب واحد أو حزبين، وعادة ما يكون الولاء لا الكفاءة هو ما يحدد أولئك الأشخاص. وتم التلاعب حتى في قانون المساءلة والعدالة، ليسري على البعض من الأبعدين دون أن يطبق على الموالين. وواحدة من معضلات التفاهمات بين القوى السياسية في تشكيل الحكومة هي اختلاف رؤيتها على فتح ملفات الفساد المالي، والإداري، والسياسي، للسبع سنوات السابقة. ثمة اعتراض صريح من قبل الأحزاب الحاكمة، وبعض الرموز المتنفذة، أباطرة السنوات العجاف، على فتح تلك الملفات، وهي ملفات قد تقود إلى فضح جرائم جنائية، وسياسية، ومالية، وحزبية.
في انتخابات مجالس المحافظات السابقة تعهد المرشحون الجدد أثناء الانتخابات بفتح ملفات الفساد للمجالس السابقة. لكنهم ما ان فازوا في الانتخابات، واحتلوا مقاعدهم الوثيرة التي تبيض ذهبا، حتى نسوا تعهداتهم، وانشغلوا بتلقف الميزانية الدسمة، والسفرات خارج البلد، وابتكار طرق جديدة لجمع الثروات وخلق البطانات. وأخذ المواطنون في بعض تلك المحافظات يترحمون على المجالس السابقة. وظلت الجرائم وقضايا الفساد والفضائح الكبيرة طي الكتمان. ولم يحاكم أي مسؤول بشكل صريح ومباشر عن تلك الجرائم، فآخر المحاكمات العلنية كانت لأركان نظام صدام حسين، التي فقدت الاهتمام هي الأخرى، لأن ما يحاكم عليه اولئك من جرائم قد لا يصل بعضها إلى الجرائم التي ارتكبت من أغلب الأطراف في العهد الجديد. لكل ذلك صنف العراق عالميا بأنه يحتل رأس القائمة في الدول الأكثر فسادا في العالم، والأكثر انتهاكا لحقوق الإنسان، كون القانون لم يعد يسري الا على الضعفاء من الموظفين والمواطنين الذين لا حول ولا قوة لهم سوى الدعاء إلى السماء.
آداب الحوار والمناظرة عند الأقدمين...فهل نتعلم؟
إعداد سعود المولى
قال الكفوي في الكليات: "المناظرة هي النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشيئين إظهاراً للصواب. والمجادَلة:هي المنازعة في المسألة العلمية لإلزام الخصم سواء كان كلامه في نفسه فاسداً أم لا. وإذا علم بفساد كلامه، وصحة كلام خصمه فنازعه فهي المكابرة، ومع عدم العلم
بكلامه وكلام صاحبه فنازعه فهي المعاندة، وأمّا المغالطة: فهي قياسٌ مركّب من
مقدمات شبيهة بالحق، ويسمى سفسطة، أو شبيهة بالمقدمات المشهورة، ويسمى مشاغبة،
وأما المناقضة ـ في علم الجدل ـ فهي منع مقدمة معينة من الدليل إما قبل تمامه
وإما بعده. والمعارضة هي في اللغة عبارة عن المقابلة على سبيل الممانعة
والمدافعة." (الكليات:معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، لأبي البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي،مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1998).
وقد أورد ابن وهب الكاتب (أبي الحسين إسحاق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب) في كتابه (البرهان في وجوه البيان) ( تقديم وتحقيق حفني محمد شرف، القاهرة، مكتبة الشباب، 1969)
مبادىء القدماء في (أدبيات الحوار) أو (أدب الجدل) ، وهذه أهمها:
1ـ على المرء ألا يفرط في الإعجاب برأيه، وما تسوّل لـه نفسه، حتى يُفضي بذلك
إلى نصحائه، ويلقيه إلى أعدائه فيصدقونه عن عيوبه، ويجادلونه. ويقيمون الحجة
عليه فيعرف مقدار ما في يده إذا خولف فيه.
2ـ أن يكون منصفاً غير مكابر؛ لأنه إنما يطلب الإنصاف من خصمه، ويقصده بقوله
وحجته. فإذا طلب الإنصاف بغير الإنصاف فقد طلب الشيء بضده.
3ـ أن يتجنب الضجر وقلة الصبر، لأن عمدة الأمر في استخراج الغوامض، وإثارة
المعاني، وعماد كل ذلك الصبر على التأمل والتفكر.
4ـ وأن يحلم عما يسمع من الأذى والنبز.
5ـ أن يتحرز من مغالطات المخالفين، ومشبهات المموهين.
6ـ وألا يشغب إذا شاغبه خصمه، ولا يرد عليه إذا أربى في كلامه، بل يستعمل
الهدوء والوقار، ويقصد مع ذلك، لوضع الحجة في موضعها.
7ـ وألا يستصغر خصمه، ولا يتهاون به، وإن كان الخصم صغير المحلّ في الجدال، فقد
يجوز أن يقع لمن لا يؤبه به لـه الخاطر الذي لا يقع لمن هو فوقه في الصناعة.
8ـ وأن يصرف همته إلى حفظ النكت التي في كلام خصمه مما يبني منها مقدماته
ويُنتج منها نتائجه، ويصحح ذلك في نفسه، ولا يشغل قلبه بتحفظ جميع كلام خصمه،
فإنه متى اشتغل بذلك أضاع ما هو أحوج إليه منه.
9ـ وألا يجيب قبل فراغ السائل من سؤاله، ولا يبادر بالجواب قبل تدبره، واستعمال
الروية فيه.
10ـ وأن يعتزل الهوى فيما يريد إصابة الحق فيه، فإن الله، عز وجل، يقول: (ولا
تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله).
11ـ وألا يجادل ويبحث في الأوقات التي يتغير فيها مزاجه ويخرج عن الاعتدال؛ لأن
المزاج إذا زاد على حد الاعتدال في الحرارة كان معه العجلة، وقلة التوقف، وعدم
الصبر، وسرعة الضجر، وإذا زاد في البرودة على حال الاعتدال أَوْرَث السهو
والبلادة، وقلة الفطنة، وإبطاء الفهم, وقد قال جالينوس: إن مزاج النفس تابع
لمزاج البدن.
12ـ وألا يستعمل اللجاج والمَحْك، فإن العصبية تغلب على مستعملها فتبعده عن
الحق وتصده عنه.
13ـ وأن يتجنب العجلة، ويأخذ بالتثبت، فإن مع العملِ الزلل.
قال الكفوي في الكليات: "المناظرة هي النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشيئين إظهاراً للصواب. والمجادَلة:هي المنازعة في المسألة العلمية لإلزام الخصم سواء كان كلامه في نفسه فاسداً أم لا. وإذا علم بفساد كلامه، وصحة كلام خصمه فنازعه فهي المكابرة، ومع عدم العلم
بكلامه وكلام صاحبه فنازعه فهي المعاندة، وأمّا المغالطة: فهي قياسٌ مركّب من
مقدمات شبيهة بالحق، ويسمى سفسطة، أو شبيهة بالمقدمات المشهورة، ويسمى مشاغبة،
وأما المناقضة ـ في علم الجدل ـ فهي منع مقدمة معينة من الدليل إما قبل تمامه
وإما بعده. والمعارضة هي في اللغة عبارة عن المقابلة على سبيل الممانعة
والمدافعة." (الكليات:معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، لأبي البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي،مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1998).
وقد أورد ابن وهب الكاتب (أبي الحسين إسحاق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب) في كتابه (البرهان في وجوه البيان) ( تقديم وتحقيق حفني محمد شرف، القاهرة، مكتبة الشباب، 1969)
مبادىء القدماء في (أدبيات الحوار) أو (أدب الجدل) ، وهذه أهمها:
1ـ على المرء ألا يفرط في الإعجاب برأيه، وما تسوّل لـه نفسه، حتى يُفضي بذلك
إلى نصحائه، ويلقيه إلى أعدائه فيصدقونه عن عيوبه، ويجادلونه. ويقيمون الحجة
عليه فيعرف مقدار ما في يده إذا خولف فيه.
2ـ أن يكون منصفاً غير مكابر؛ لأنه إنما يطلب الإنصاف من خصمه، ويقصده بقوله
وحجته. فإذا طلب الإنصاف بغير الإنصاف فقد طلب الشيء بضده.
3ـ أن يتجنب الضجر وقلة الصبر، لأن عمدة الأمر في استخراج الغوامض، وإثارة
المعاني، وعماد كل ذلك الصبر على التأمل والتفكر.
4ـ وأن يحلم عما يسمع من الأذى والنبز.
5ـ أن يتحرز من مغالطات المخالفين، ومشبهات المموهين.
6ـ وألا يشغب إذا شاغبه خصمه، ولا يرد عليه إذا أربى في كلامه، بل يستعمل
الهدوء والوقار، ويقصد مع ذلك، لوضع الحجة في موضعها.
7ـ وألا يستصغر خصمه، ولا يتهاون به، وإن كان الخصم صغير المحلّ في الجدال، فقد
يجوز أن يقع لمن لا يؤبه به لـه الخاطر الذي لا يقع لمن هو فوقه في الصناعة.
8ـ وأن يصرف همته إلى حفظ النكت التي في كلام خصمه مما يبني منها مقدماته
ويُنتج منها نتائجه، ويصحح ذلك في نفسه، ولا يشغل قلبه بتحفظ جميع كلام خصمه،
فإنه متى اشتغل بذلك أضاع ما هو أحوج إليه منه.
9ـ وألا يجيب قبل فراغ السائل من سؤاله، ولا يبادر بالجواب قبل تدبره، واستعمال
الروية فيه.
10ـ وأن يعتزل الهوى فيما يريد إصابة الحق فيه، فإن الله، عز وجل، يقول: (ولا
تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله).
11ـ وألا يجادل ويبحث في الأوقات التي يتغير فيها مزاجه ويخرج عن الاعتدال؛ لأن
المزاج إذا زاد على حد الاعتدال في الحرارة كان معه العجلة، وقلة التوقف، وعدم
الصبر، وسرعة الضجر، وإذا زاد في البرودة على حال الاعتدال أَوْرَث السهو
والبلادة، وقلة الفطنة، وإبطاء الفهم, وقد قال جالينوس: إن مزاج النفس تابع
لمزاج البدن.
12ـ وألا يستعمل اللجاج والمَحْك، فإن العصبية تغلب على مستعملها فتبعده عن
الحق وتصده عنه.
13ـ وأن يتجنب العجلة، ويأخذ بالتثبت، فإن مع العملِ الزلل.
المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية: الثابت والمتحول
إعداد: رندى حيدر
تغييرات كثيرة طرأت منذ محادثات "واي ريفر" التي أجراها بنيامين نتنياهو في تشرين الأول من عام 1998 بصفته رئيساً للحكومة الإسرائيلية آنذاك، مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، بوساطة فعالة من الرئيس الأميركي بيل كلينتون.
يومها لعب الرئيس الأميركي دوراً أساسياً في اقناع نتنياهو الذي كان كثير الشكوك والتردد، بالتوقيع على اتفاق الإنسحاب من الخليل الذي سمح للسلطة الفلسطينية باسترجاع نحو 7 في المئة من أراضي الضفة وجعلها تحت سيطرتها الكاملة.
أدرك نتنياهو منذ مجيء باراك أوباما الى الرئاسة الأميركية، بأن لا مفر له من القبول برؤية حل الدولتين، وهي رؤية ورثها أوباما عن سلفه جورج بوش الذي سعى هو ايضاً الى تحقيقها، لكنه لم ينجح سوى في اطلاق خطة خريطة الطريق عام 2003 التي سرعان ما تعثر تطبيقها، وعقد مؤتمر أنابوليس في عام 2007 الذي فتح المجال أمام مفاوضات سياسية بين الفلسطينيين والاسرائيليين أيام حكومة إيهود أولمرت. وكان أولمرت قد سعى في الفترة الأخيرة لحكمه الى التعويض عن اخفاقاته العسكرية في حرب تموز على لبنان وعن فضائحه المالية وقضية الفساد والرشى التي تورط فيها، من خلال تحقيق انجاز سياسي أخير عبر تحفيز المفاوضات مع الفلسطينيين.
لكن كل ذلك لم يثمر عن تفاهمات حقيقية على الرغم من الساعات الطويلة التي قضاها المفاوضون الفلسطينيون والاسرائيليون. وتبخر بعد تنحي أولمرت عن زعامة حزب كاديما، وبعد فوز الليكود بزعامة نتنياهو برئاسة الحكومة في الانتخابات المبكرة التي جرت في شباط 2009.
اليوم يفتتح بنيامين نتنياهو صفحة جديدة من المفاوضات مع الفلسطينيين بإدارة أميركية وبإشرافه ورقابته الشخصية. وما يميز هذه المفاوضات عن غيرها المدة الطويلة التي استغرقها الاعداد لها، والجهد الكبير الذي بذله الموفد الأميركي الخاص الى الشرق الأوسط جورج ميتشل في ردم الهوات بين الطرفين، وفي صوغ التسوية للمشكلات المطروحة.
ولم يسبق أن شهدت المفاوضات الفلسطينية –الإسرائيلية هذا الحجم من الاعداد والتحضير، سواء على المستوى الفلسطيني أم على المستويين الإسرائيلي والأميركي. ومن يقرأ تفاصيل الجولات التفاوضية الماضية يرى أن عدم وجود تصور واضح وتفصيلي ودقيق للحلول المقترحة للمشكلات،كان دائماً أحد الأسباب الأساسية في إفشال هذه المفاوضات.
ويقال إن طاقم المفاوضين الإسرائيلي المحدود العدد الذي يترأسه المحامي إسحق مولخو، وهو أحد أقرب المستشارين السياسيين الى نتنياهو، على الرغم من أنه ليس عضواً في حزب الليكود، يحمل معه التصور الإسرائيلي للحل، أو لإتفاق سلام "ثابت ودائم" مع الفلسطينيين وليس "هدنة بين حربين" بحسب قول نتنياهو.
ثمة عدد من المشكلات الأساسية المطروحة على جدول الأعمال، سيحاول المجتمعون التوصل الى تسوية بشأنها بمساعدة الأميركيين الذين ستكون مهمتهم ردم الهوات بين الطرفين، واقتراح صيغ للحل، والضغط على كلا الطرفين حين تبرز الحاجة. في طليعة هذه المشكلات: ترسيم الحدود بين الدولتين ومستقبل المستوطنات اليهودية، والترتيبات الأمنية، ومستقبل مدينة القدس، وحل مشكلة اللاجئين. هنا تتباين مواقف الطرفين وتختلف (أنظر الجدول)، وسيحاول الوسطاء الأميركيون تسويق تسوية مقبولة من الطرفين.
المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية التي بدأت هي حلقة من سلسلة جولات تفاوضية شهدتها الأعوام الماضية (أنظر كرونولوجيا المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين). ولكنها تختلف عن سابقاتها بأنها تأتي في ظل ظروف فلسطينية وإسرائيلية مختلفة.
فعلى الصعيد الفلسطيني أحدثت وفاة ياسر عرفات، فراغاَ كبيراً على صعيد التمثيل الفلسطيني. فاقم ذلك واقع الانقسام الداخلي في ظل سيطرة حركة"حماس" بالقوة على قطاع غزة، والخلاف الحاد بين قيادة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وزعامة "حماس" في القطاع، والتي باتت تنكر على قادة السلطة تمثيلها الأوحد للشعب الفلسطيني، وتطالب بأن تكون شريكاً في أي اتفاقات يجري التوصل اليها. هذا مع العلم بأن "حماس" ترفض مبدأ التفاوض مع اسرائيل.
والهجمات الأخيرة التي قام بها أنصار الحركة في الضفة الغربية ضد مستوطنين يهود أبرز دليل على هذا الرفض. ومن المنتظر أن يلاقي محمود عباس معارضة قوية من جانب "حماس" وسائر الأطراف الفلسطينية المتشددة لأي اتفاق يتم التوصل اليه، الأمر الذي سيشكل اختباراً حقيقياً لزعامته السياسية، وعقبة أمام قدرة السلطة الفلسطينية على الالتزام بتطبيق الاتفاقات.
على الصعيد الإسرائيلي، شهد الرأي العام تحولاً مهماً نحو اليمين برز في الانتخابات الأخيرة للكنيست، وفي الأصوات الكبيرة التي حصدها حزب أفيغدور ليبرمان المناهض للتسوية مع الفلسطينيين والمؤيد لبقاء المستوطنات. كما أن الجمهور الإسرائيلي يبدو وكأنه يئس من امكانية التوصل الى تسوية مع الفلسطينيين بعد استيلاء "حماس" على السلطة في غزة، وبعد صورايخ القسام التي أخذت تتساقط على المستوطنات المتاخمة للقطاع. ويتمتع اليمين القومي المتشدد اليوم بنفوذ كبير داخل الائتلاف الحكومي الذي يتزعمه بنيامين نتنياهو.
وعلى الرغم من تأييد أعضاء الإئتلاف مبدأ المشاركة في المفاوضات، إلا أنهم وضعوا قيوداً كثيرة على رئيسهم، وطالبوه بوضعهم في صورة المحادثات، وألحوا عليه عدم التوقيع على أي شيء من دون العودة اليهم. وعملياً يمكن اعتبار تمسك اكثرية وزراء الحكومة باستئناف البناء في المستوطنات بعد 26 أيلول تاريخ انتهاء قرار التجميد مؤشراً على ما ستؤول اليه الأمور. فإذا أصر وزراء اليمين على ذلك، فإنهم سيضعون نتنياهو أمام خيارين إما الرضوخ لهم، وتالياً تفجير المفاوضات؛ أو التمسك بالصيغة التي اقترحها الوزير مريدور بتجميد البناء في المستوطنات المعزولة فقط، والتي لا يوافق عليها المفاوض الفلسطيني، علماً أن هذا القرار قد يضعه في مواجهة ليس فقط مع اليمين القومي المتشدد، وإنما ايضاً مع صقور حزب الليكود الذين لا يقلون تشدداً عن هؤلاء. إن الطريقة التي سيتصرف بها نتنياهو ستشكل دليلاً واضحاً على توجهاته الحقيقية التي لم يكشف عنها علناً حتى الآن.
على صعيد الكنيست الإسرائيلية، يمكن رسم الصورة التالية: في حال طُرح اقتراح الإتفاق مع الفلسطينيين على التصويت فإنه على الأرجح سينال موافقة حزب المعارضة كاديما(28 صوتاً) وحزب العمل (13)، بالإضافة إلى أصوات أحزاب اليسار والأحزاب العربية (14 صوتاً). أما على جبهة أحزاب اليمين، من المعلوم أن هناك عدداً من أعضاء حزب الليكود في الكنيست يعارضون مبدأ تقسيم القدس وتفكيك المستوطنات اليهودية، وهؤلاء قد يتمردون على قرار زعيمهم، ولكن من ناحية أخرى المعارضون الشرسون لأي تنازلات للفلسطينيين هم حزب "إسرائيل بيتنا"(15 صوتاً)، وحزب الاتحاد القومي (4)، وحزب البيت اليهودي –المفدال الجديد(3).
أما تصويت الأحزاب الدينية مثل "شاس"(11 صوتاً) و"يهودوت هاتوراه"(4)، فليس محسوماً منذ الآن وهو عرضة لمقايضات سياسية داخلية.
لكن الثابت في هذه المفاوضات كما في كل سابقاتها، الهجمة التي تتعرض لها من جانب كل الأطراف الراديكالية الفلسطينية والإسرائيلية على حد سواء، والتي تأخذ شكل هجمات وحملات تحريض من كلا الطرفين. ناهيك بتأثير دول "الممانعة" العربية التي بدأت منذ الآن حملتها ضد المفاوضات.
أكثر من 19 عاماً مرت منذ انعقاد مؤتمر مدريد، وبدء العملية التفاوضية بين إسرائيل والعرب. المفاوضات الدائرة حالياً في واشنطن قد تشكل فرصة للطرفين الفلسطيني والإسرائيلي من أجل تسوية نهائية للنزاع. ووجود رئيس مثل باراك أوباما على رأس الإدارة الأميركية، واجماع الرأي العام الدولي على تسوية النزاع يشكل ايضاً حافزاً مهماً من اجل نجاح الطرفين في مهمتهما.
كرونولوجيا المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية
- 1/9/1993: التوقيع في واشنطن على اتفاق أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.
- 4/5/1994: التوقيع في القاهرة على اتفاق الحكم الذاتي في غزة وأريحا.
- 28/9/1995: التوقيع في واشنطن على الإتفاق الانتقالي بين إسرائيل ومنظمة التحرير.
- 4/11/1995: اغتيال اسحاق رابين، على يد يهودي متدين هو ريغال عمير.
-23/10/1998: اتفاق واي ريفر بين نتنياهو وعرفات.
- 17/5/1999: انتخاب إيهودا باراك رئيساً للحكومة الإسرائيلية.
- 4/9/1999: التوقيع على مذكرة شرم الشيخ بين ياسر عرفات، وإيهود باراك.
- 8/11/1999: بدء المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية في رام الله.
- 10/5/2000: مفاوضات سرية إسرائيلية-فلسطينية في السويد.
- 11- 25/7/2000: قمة كمب ديفيد بين كلينتون وعرفات وباراك.
- 29/9/2000: بداية انتفاضة الأقصى.
- 23/12/2000: خطة كلينتون لإتفاق فلسطيني - إسرائيلي.
- 18/1/2001: مفاوضات إسرائيلية - فلسطينية في طابا.
- 6/2/2001: انتخاب أرييل شارون رئيساً للحكومة الإسرائيلية.
- 30/5/2003: اعلان البيت الأبيض عن خريطة الطريق لحل الدولتين، وحل النزاع حتى عام 2005.
- 3/6/2003: قمة شرم الشيخ بين الرئيس مبارك وجورج بوش ورئيس الحكومة الفلسطينية محمود عباس، ورئيس الحكومة الإسرائيلية أرييل شارون.
- حزيران 2005: أرييل شارون يعلن خطته للانفصال عن غزة. في أيلول من العام عينه ينهي شارون خطته باخلاء كل المستوطنات اليهودية في القطاع.
-27/11/2007: الرئيس جورج بوش يعقد مؤتمر أنا بوليس للبدء بالمفاوضات الاسرائيلية -الفلسطينية بمشاركة محمود عباس وإيهود أولمرت.
- 22/9/2009: لقاء مشترك بين باراك أوباما ومحمود عباس وبنيامين نتنياهو في نيويورك على هامش أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة.
-27/7/2010: لقاء سري في العاصمة الأردنية يجمع بين محمود عباس ونتنياهو.
"جدول أعمال" الاختلافات
قضية ترسيم الحدود
الموقف الفلسطيني
إنهاء الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية والعودة الى حدود الرابع من حزيران عام 1967، كشرط أساسي لدولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وقابلة للحياة. من المتوقع أن يرفض عباس إدخال مستوطنة أريئيل ضمن الكتل الاستيطانية، لأنها تقع على بعد 18 كلم من الخط الأخضر، وتقطع التواصل الجغرافي بين أنحاء الضفة. كما سيصر على نسبة متساوية لتبادل الأراضي.
الموقف الإسرائيلي
إعلان الفلسطينيين انهاء حالة النزاع والإعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، مقابل الإنسحاب الى ما وراء الخط الأخضر، وضم الكتل الاستيطانية اليهودية الكبرى الواقعة وراء هذا الخط، ومبادلة أراض مع السلطة الفلسطينية. إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح. تفكيك المستوطنات اليهودية المعزولة في الضفة ونقل سكانها الى داخل إسرائيل.
قضية الترتيبات الأمنية
الموقف الفلسطيني
المطالبة بدولة ذات سيادة، قادرة عن الدفاع عن أمن مواطنيها. مع رفض أي وجود عسكري إسرائيلي في الضفة وغور الأردن، ومع المطالبة بوجود قوات تابعة للحلف الأطلسي.
الموقف الاسرائيلي
تشدد إسرائيلي في المطالبة بدولة منزوعة السلاح، وبإبقاء منطقة غور الأدرن تحت السيطرة العسكرية لإسرائيل، والحصول على ضمانات أميركية تضمن سلامة وأمن إسرائيل.
قضية القدس
الموقف الفلسطيني
اعلان القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة، تفكيك المستوطنات اليهودية المقامة داخل المدينة، المطالبة بالسيادة على الحرم الشريف.
الموقف الإسرائيلي
الرسمي ليس واضحاً تماماً حتى الآن. ولكن يجري الحديث عن إمكان تقسيم القدس بحيث تكون الأحياء اليهودية خاضعة للسيادة الإسرائيلية، والأحياء العربية خاضعة للسيادة الفلسطينية؛ أما المدينة القديمة والأماكن المقدسة فتخضع لسلطة خاصة ويطبق عليها تفاهمات متفق عليها.
قضية اللاجئين
الموقف الفلسطيني
التمسك بحق اللاجئين بالعودة الى أراضيهم، مع إبقاء الباب مفتوحاً امام صيغ للحل.
الموقف الإسرائيلي
رفض عودة اللاجئين الفلسطينيين الى إسرائيل، والعمل على إيجاد حل لهم في الدولة الفلسطينية، أو التعويض عليهم، ودعوة دول العالم للمساعدة في ايجاد حل لهم.
البناء في المستوطنات
الموقف الفلسطيني
يطالب الفلسطينيون بتمديد قرار تجميد البناء بحيث يشمل كل المستوطنات الاسرائيلية بما في ذلك القدس.
الموقف الإسرائيلي
ثمة توجه الى الاستمرار في قرار تجميد البناء في المستوطنات المعزولة التي سيجري اخلاؤها في التسوية المقبلة، مع استئنافه في الكتل الاستيطانية الكبرى، وفي القدس التي ستبقى تابعة للسيادة الإسرائيلية.
تغييرات كثيرة طرأت منذ محادثات "واي ريفر" التي أجراها بنيامين نتنياهو في تشرين الأول من عام 1998 بصفته رئيساً للحكومة الإسرائيلية آنذاك، مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، بوساطة فعالة من الرئيس الأميركي بيل كلينتون.
يومها لعب الرئيس الأميركي دوراً أساسياً في اقناع نتنياهو الذي كان كثير الشكوك والتردد، بالتوقيع على اتفاق الإنسحاب من الخليل الذي سمح للسلطة الفلسطينية باسترجاع نحو 7 في المئة من أراضي الضفة وجعلها تحت سيطرتها الكاملة.
أدرك نتنياهو منذ مجيء باراك أوباما الى الرئاسة الأميركية، بأن لا مفر له من القبول برؤية حل الدولتين، وهي رؤية ورثها أوباما عن سلفه جورج بوش الذي سعى هو ايضاً الى تحقيقها، لكنه لم ينجح سوى في اطلاق خطة خريطة الطريق عام 2003 التي سرعان ما تعثر تطبيقها، وعقد مؤتمر أنابوليس في عام 2007 الذي فتح المجال أمام مفاوضات سياسية بين الفلسطينيين والاسرائيليين أيام حكومة إيهود أولمرت. وكان أولمرت قد سعى في الفترة الأخيرة لحكمه الى التعويض عن اخفاقاته العسكرية في حرب تموز على لبنان وعن فضائحه المالية وقضية الفساد والرشى التي تورط فيها، من خلال تحقيق انجاز سياسي أخير عبر تحفيز المفاوضات مع الفلسطينيين.
لكن كل ذلك لم يثمر عن تفاهمات حقيقية على الرغم من الساعات الطويلة التي قضاها المفاوضون الفلسطينيون والاسرائيليون. وتبخر بعد تنحي أولمرت عن زعامة حزب كاديما، وبعد فوز الليكود بزعامة نتنياهو برئاسة الحكومة في الانتخابات المبكرة التي جرت في شباط 2009.
اليوم يفتتح بنيامين نتنياهو صفحة جديدة من المفاوضات مع الفلسطينيين بإدارة أميركية وبإشرافه ورقابته الشخصية. وما يميز هذه المفاوضات عن غيرها المدة الطويلة التي استغرقها الاعداد لها، والجهد الكبير الذي بذله الموفد الأميركي الخاص الى الشرق الأوسط جورج ميتشل في ردم الهوات بين الطرفين، وفي صوغ التسوية للمشكلات المطروحة.
ولم يسبق أن شهدت المفاوضات الفلسطينية –الإسرائيلية هذا الحجم من الاعداد والتحضير، سواء على المستوى الفلسطيني أم على المستويين الإسرائيلي والأميركي. ومن يقرأ تفاصيل الجولات التفاوضية الماضية يرى أن عدم وجود تصور واضح وتفصيلي ودقيق للحلول المقترحة للمشكلات،كان دائماً أحد الأسباب الأساسية في إفشال هذه المفاوضات.
ويقال إن طاقم المفاوضين الإسرائيلي المحدود العدد الذي يترأسه المحامي إسحق مولخو، وهو أحد أقرب المستشارين السياسيين الى نتنياهو، على الرغم من أنه ليس عضواً في حزب الليكود، يحمل معه التصور الإسرائيلي للحل، أو لإتفاق سلام "ثابت ودائم" مع الفلسطينيين وليس "هدنة بين حربين" بحسب قول نتنياهو.
ثمة عدد من المشكلات الأساسية المطروحة على جدول الأعمال، سيحاول المجتمعون التوصل الى تسوية بشأنها بمساعدة الأميركيين الذين ستكون مهمتهم ردم الهوات بين الطرفين، واقتراح صيغ للحل، والضغط على كلا الطرفين حين تبرز الحاجة. في طليعة هذه المشكلات: ترسيم الحدود بين الدولتين ومستقبل المستوطنات اليهودية، والترتيبات الأمنية، ومستقبل مدينة القدس، وحل مشكلة اللاجئين. هنا تتباين مواقف الطرفين وتختلف (أنظر الجدول)، وسيحاول الوسطاء الأميركيون تسويق تسوية مقبولة من الطرفين.
المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية التي بدأت هي حلقة من سلسلة جولات تفاوضية شهدتها الأعوام الماضية (أنظر كرونولوجيا المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين). ولكنها تختلف عن سابقاتها بأنها تأتي في ظل ظروف فلسطينية وإسرائيلية مختلفة.
فعلى الصعيد الفلسطيني أحدثت وفاة ياسر عرفات، فراغاَ كبيراً على صعيد التمثيل الفلسطيني. فاقم ذلك واقع الانقسام الداخلي في ظل سيطرة حركة"حماس" بالقوة على قطاع غزة، والخلاف الحاد بين قيادة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وزعامة "حماس" في القطاع، والتي باتت تنكر على قادة السلطة تمثيلها الأوحد للشعب الفلسطيني، وتطالب بأن تكون شريكاً في أي اتفاقات يجري التوصل اليها. هذا مع العلم بأن "حماس" ترفض مبدأ التفاوض مع اسرائيل.
والهجمات الأخيرة التي قام بها أنصار الحركة في الضفة الغربية ضد مستوطنين يهود أبرز دليل على هذا الرفض. ومن المنتظر أن يلاقي محمود عباس معارضة قوية من جانب "حماس" وسائر الأطراف الفلسطينية المتشددة لأي اتفاق يتم التوصل اليه، الأمر الذي سيشكل اختباراً حقيقياً لزعامته السياسية، وعقبة أمام قدرة السلطة الفلسطينية على الالتزام بتطبيق الاتفاقات.
على الصعيد الإسرائيلي، شهد الرأي العام تحولاً مهماً نحو اليمين برز في الانتخابات الأخيرة للكنيست، وفي الأصوات الكبيرة التي حصدها حزب أفيغدور ليبرمان المناهض للتسوية مع الفلسطينيين والمؤيد لبقاء المستوطنات. كما أن الجمهور الإسرائيلي يبدو وكأنه يئس من امكانية التوصل الى تسوية مع الفلسطينيين بعد استيلاء "حماس" على السلطة في غزة، وبعد صورايخ القسام التي أخذت تتساقط على المستوطنات المتاخمة للقطاع. ويتمتع اليمين القومي المتشدد اليوم بنفوذ كبير داخل الائتلاف الحكومي الذي يتزعمه بنيامين نتنياهو.
وعلى الرغم من تأييد أعضاء الإئتلاف مبدأ المشاركة في المفاوضات، إلا أنهم وضعوا قيوداً كثيرة على رئيسهم، وطالبوه بوضعهم في صورة المحادثات، وألحوا عليه عدم التوقيع على أي شيء من دون العودة اليهم. وعملياً يمكن اعتبار تمسك اكثرية وزراء الحكومة باستئناف البناء في المستوطنات بعد 26 أيلول تاريخ انتهاء قرار التجميد مؤشراً على ما ستؤول اليه الأمور. فإذا أصر وزراء اليمين على ذلك، فإنهم سيضعون نتنياهو أمام خيارين إما الرضوخ لهم، وتالياً تفجير المفاوضات؛ أو التمسك بالصيغة التي اقترحها الوزير مريدور بتجميد البناء في المستوطنات المعزولة فقط، والتي لا يوافق عليها المفاوض الفلسطيني، علماً أن هذا القرار قد يضعه في مواجهة ليس فقط مع اليمين القومي المتشدد، وإنما ايضاً مع صقور حزب الليكود الذين لا يقلون تشدداً عن هؤلاء. إن الطريقة التي سيتصرف بها نتنياهو ستشكل دليلاً واضحاً على توجهاته الحقيقية التي لم يكشف عنها علناً حتى الآن.
على صعيد الكنيست الإسرائيلية، يمكن رسم الصورة التالية: في حال طُرح اقتراح الإتفاق مع الفلسطينيين على التصويت فإنه على الأرجح سينال موافقة حزب المعارضة كاديما(28 صوتاً) وحزب العمل (13)، بالإضافة إلى أصوات أحزاب اليسار والأحزاب العربية (14 صوتاً). أما على جبهة أحزاب اليمين، من المعلوم أن هناك عدداً من أعضاء حزب الليكود في الكنيست يعارضون مبدأ تقسيم القدس وتفكيك المستوطنات اليهودية، وهؤلاء قد يتمردون على قرار زعيمهم، ولكن من ناحية أخرى المعارضون الشرسون لأي تنازلات للفلسطينيين هم حزب "إسرائيل بيتنا"(15 صوتاً)، وحزب الاتحاد القومي (4)، وحزب البيت اليهودي –المفدال الجديد(3).
أما تصويت الأحزاب الدينية مثل "شاس"(11 صوتاً) و"يهودوت هاتوراه"(4)، فليس محسوماً منذ الآن وهو عرضة لمقايضات سياسية داخلية.
لكن الثابت في هذه المفاوضات كما في كل سابقاتها، الهجمة التي تتعرض لها من جانب كل الأطراف الراديكالية الفلسطينية والإسرائيلية على حد سواء، والتي تأخذ شكل هجمات وحملات تحريض من كلا الطرفين. ناهيك بتأثير دول "الممانعة" العربية التي بدأت منذ الآن حملتها ضد المفاوضات.
أكثر من 19 عاماً مرت منذ انعقاد مؤتمر مدريد، وبدء العملية التفاوضية بين إسرائيل والعرب. المفاوضات الدائرة حالياً في واشنطن قد تشكل فرصة للطرفين الفلسطيني والإسرائيلي من أجل تسوية نهائية للنزاع. ووجود رئيس مثل باراك أوباما على رأس الإدارة الأميركية، واجماع الرأي العام الدولي على تسوية النزاع يشكل ايضاً حافزاً مهماً من اجل نجاح الطرفين في مهمتهما.
كرونولوجيا المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية
- 1/9/1993: التوقيع في واشنطن على اتفاق أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.
- 4/5/1994: التوقيع في القاهرة على اتفاق الحكم الذاتي في غزة وأريحا.
- 28/9/1995: التوقيع في واشنطن على الإتفاق الانتقالي بين إسرائيل ومنظمة التحرير.
- 4/11/1995: اغتيال اسحاق رابين، على يد يهودي متدين هو ريغال عمير.
-23/10/1998: اتفاق واي ريفر بين نتنياهو وعرفات.
- 17/5/1999: انتخاب إيهودا باراك رئيساً للحكومة الإسرائيلية.
- 4/9/1999: التوقيع على مذكرة شرم الشيخ بين ياسر عرفات، وإيهود باراك.
- 8/11/1999: بدء المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية في رام الله.
- 10/5/2000: مفاوضات سرية إسرائيلية-فلسطينية في السويد.
- 11- 25/7/2000: قمة كمب ديفيد بين كلينتون وعرفات وباراك.
- 29/9/2000: بداية انتفاضة الأقصى.
- 23/12/2000: خطة كلينتون لإتفاق فلسطيني - إسرائيلي.
- 18/1/2001: مفاوضات إسرائيلية - فلسطينية في طابا.
- 6/2/2001: انتخاب أرييل شارون رئيساً للحكومة الإسرائيلية.
- 30/5/2003: اعلان البيت الأبيض عن خريطة الطريق لحل الدولتين، وحل النزاع حتى عام 2005.
- 3/6/2003: قمة شرم الشيخ بين الرئيس مبارك وجورج بوش ورئيس الحكومة الفلسطينية محمود عباس، ورئيس الحكومة الإسرائيلية أرييل شارون.
- حزيران 2005: أرييل شارون يعلن خطته للانفصال عن غزة. في أيلول من العام عينه ينهي شارون خطته باخلاء كل المستوطنات اليهودية في القطاع.
-27/11/2007: الرئيس جورج بوش يعقد مؤتمر أنا بوليس للبدء بالمفاوضات الاسرائيلية -الفلسطينية بمشاركة محمود عباس وإيهود أولمرت.
- 22/9/2009: لقاء مشترك بين باراك أوباما ومحمود عباس وبنيامين نتنياهو في نيويورك على هامش أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة.
-27/7/2010: لقاء سري في العاصمة الأردنية يجمع بين محمود عباس ونتنياهو.
"جدول أعمال" الاختلافات
قضية ترسيم الحدود
الموقف الفلسطيني
إنهاء الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية والعودة الى حدود الرابع من حزيران عام 1967، كشرط أساسي لدولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وقابلة للحياة. من المتوقع أن يرفض عباس إدخال مستوطنة أريئيل ضمن الكتل الاستيطانية، لأنها تقع على بعد 18 كلم من الخط الأخضر، وتقطع التواصل الجغرافي بين أنحاء الضفة. كما سيصر على نسبة متساوية لتبادل الأراضي.
الموقف الإسرائيلي
إعلان الفلسطينيين انهاء حالة النزاع والإعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، مقابل الإنسحاب الى ما وراء الخط الأخضر، وضم الكتل الاستيطانية اليهودية الكبرى الواقعة وراء هذا الخط، ومبادلة أراض مع السلطة الفلسطينية. إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح. تفكيك المستوطنات اليهودية المعزولة في الضفة ونقل سكانها الى داخل إسرائيل.
قضية الترتيبات الأمنية
الموقف الفلسطيني
المطالبة بدولة ذات سيادة، قادرة عن الدفاع عن أمن مواطنيها. مع رفض أي وجود عسكري إسرائيلي في الضفة وغور الأردن، ومع المطالبة بوجود قوات تابعة للحلف الأطلسي.
الموقف الاسرائيلي
تشدد إسرائيلي في المطالبة بدولة منزوعة السلاح، وبإبقاء منطقة غور الأدرن تحت السيطرة العسكرية لإسرائيل، والحصول على ضمانات أميركية تضمن سلامة وأمن إسرائيل.
قضية القدس
الموقف الفلسطيني
اعلان القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة، تفكيك المستوطنات اليهودية المقامة داخل المدينة، المطالبة بالسيادة على الحرم الشريف.
الموقف الإسرائيلي
الرسمي ليس واضحاً تماماً حتى الآن. ولكن يجري الحديث عن إمكان تقسيم القدس بحيث تكون الأحياء اليهودية خاضعة للسيادة الإسرائيلية، والأحياء العربية خاضعة للسيادة الفلسطينية؛ أما المدينة القديمة والأماكن المقدسة فتخضع لسلطة خاصة ويطبق عليها تفاهمات متفق عليها.
قضية اللاجئين
الموقف الفلسطيني
التمسك بحق اللاجئين بالعودة الى أراضيهم، مع إبقاء الباب مفتوحاً امام صيغ للحل.
الموقف الإسرائيلي
رفض عودة اللاجئين الفلسطينيين الى إسرائيل، والعمل على إيجاد حل لهم في الدولة الفلسطينية، أو التعويض عليهم، ودعوة دول العالم للمساعدة في ايجاد حل لهم.
البناء في المستوطنات
الموقف الفلسطيني
يطالب الفلسطينيون بتمديد قرار تجميد البناء بحيث يشمل كل المستوطنات الاسرائيلية بما في ذلك القدس.
الموقف الإسرائيلي
ثمة توجه الى الاستمرار في قرار تجميد البناء في المستوطنات المعزولة التي سيجري اخلاؤها في التسوية المقبلة، مع استئنافه في الكتل الاستيطانية الكبرى، وفي القدس التي ستبقى تابعة للسيادة الإسرائيلية.
محمد أركون: "إعادة التفكير في الظاهرة الدينية..."
(محاضرة ألقاها المرحوم الدكتور محمد اركون في جامعة البلمند-شمال لبنان-2002
عنوان محاضرتي هو "الظاهرة الدينية بعد حادثة 11 أيلول"، وقد اخترت هذا العنوان لنعيد التفكير في الظاهرة الدينية بعد هذا الحدث اعتماداً على ما يمكننا أن نستنتجه من أفكار جديدة وبرامج جديدة للبحث العلمي عن الاديان وتفسيرها من منطلق كونها ظاهرة.
حادثة 11 أيلول كان يمكن أن تكون منطلقاً لتفكير آخر ولسياسة أخرى. ولأنها حصلت في الولايات المتحدة، ومسّت رموز الحضارة الغربية كما نسميها، فلقد أثارت في هذه الحضارة، وفي الولايات المتحدة تحديدًا، الردود التي نعرفها اليوم، والتي هي ردود القوة والحرب. ولكن لم نسمع إلى الآن ردودًا على صعيد المعاني الرمزية التي تحملها هذه الحادثة.
1. معاني الرمزية
لقد مسّت هذه الحادثة ما يسميه العلماء في أميركا ويصفوه بمفهوم "القيم الحضارية الغربية"، مسّت تلك القيم الغربية التي، باعتقادهم، غير موجودة في حضارات أخرى. ولطالما سمعنا علماء يكررون أن هناك اقتتالاً بين الحضارات، وصدامًا بين الثقافات، بسبب تفاوت بين الثقافات والحضارات تبعًا للقيم التي بنيت عليها.
ولذلك كان من المنتظر أن نسمع، من طرف العلماء الغربيين وأيضًا من طرف العلماء المسلمين، كلاماً على هذه القيم الحضارية. خاصة أن هذه الحادثة، على ما نعرفه وتعرفه وسائل الاعلام، قد قام بها طرف إسلامي، حركة إسلامية.
هناك في أميركا معهدٌ يحمل اسم "معهد القيم الأميركية". وقد صدر عنه بيان وقّعه ثمانون عالماً وباحثاً وكاتباً أميركيًا، يبررون فيه مفهوم الحق الذي يدافع عن العدل، والمبنيّ على فكرة الدفاع عن العدل (La guerre juste). هذا المفهوم يأتينا من القديس أوغسطينوس، وهو مفهوم لاهوتي قديم يترجم تماماً ما يسميه المسلمون "الجهاد".
غير أن المفارقة تكمن في أن هؤلاء العلماء، الذين يقدمون أنفسهم كعلمانيين يفكرون في إطار حديث، يرجعون إلى معجم ديني-لاهوتي لتبرير الحرب التي نحن فيها. وقد تكرّر هذا أثناء حرب الخليج. فالرئيسان، الفرنسي فرانسوا ميتران والأميركي جورج بوش الأب، استعملا المفهوم نفسه (La guerre juste) لتبرير الحرب حينذاك. من جهتنا كذلك، نحن العرب والمسلمين، نبرّر ما نقوم به، ونبرّر حادثة 11 أيلول، بالاعتماد على مفهوم "الجهاد" بالإحالة الى المعجم اللاهوتي إياه.
هذا الواقع يفرض علينا كباحثين، وكباحثين في البلدان العربية الإسلامية تحديدًا، أن نعيد النظر في المعجم الديني برمّته، لنسأل ما هي الخلافات التي تجعلنا ندخل في حروب مع الغرب، وتجعل الغرب من جهته في حروب ضدنا. إلى الآن لم نجد حلاً، ولم نوجِد معجماً آخر نعتمد عليه كي نفكر تفكيراً جديداً في ما نسميه "القيم".
كيف يمكننا أن نقوم بهذا العمل، وننتقل بالتالي من الاستعمال الإيديولوجي لما نسميه "القيم"، الغربية أو الإسلامية، إلى إيجاد معجم آخر، وإصدار دراسات أخرى، للكلام على الحضارات والثقافات؟
أقدم مثلاً يمكّننا من الانتقال من هذه المعاجم القديمة التي نستعملها، إلى معجم آخر، وهو معجم يعتمد على اللسانيات، والتاريخ المقارن للأديان، وعلى ما نسميه "انتروبولوجيا" الأديان.
أ) المقاربة التاريخية
للظاهرة الدينية
كيف ندرس الأديان دراسة مقارنة في فضاء البحر المتوسط. في هذا الفضاء، وفي إطار فكري واحد، ظهرت ديانات استعملت المعجم نفسه و"القيم" نفسها التي نجدها في الديانات الثلاث المنزلة. غير أن ثمة استعمال لمعجم آخر، منذ القرون الوسطى خاصة، مبني على الفكر الفلسفي كما كان يمارس في تلك المرحلة. حينذاك لم يكن الفكر الفلسفي يُعنى بالفلسفة فقط، وإنما بالعلوم جميعها.
والمقاربة التاريخية للظاهرة الدينية تمكّننا من أن نقارن العلاقات الفكرية والثقافية بين الأديان التي تطوّرت معاجمها وتغيرت أثناء التطور التاريخي منذ القرون الوسطى إلى يومنا هذا. هذا ما يجب أن نبدأ منه لتكون لنا أرضية للتحليل التاريخي لكل ما يتعلق بهذه الأديان، ولتكون لنا أيضاً نظرة تحليلية نقدية للمعاجم الدينية من جهة، وللمعاجم العلمية–الفلسفية من جهة أخرى. لذلك اخترت الخوض في مسألتي المعنى والهيمنة.
ب) البحث عن المعنى
وإرادة الهيمنة
هناك توتر، في كل ثقافة وإطار فكري، بين البحث عن معنى - وهو ما تقصده الأديان - وإرادة الهيمنة من خلال استعمال المعاني التي تأتي بها الأديان والفلسفات. والهيمنة معناها: هيمنة سياسية للمجتمعات. هنا يكمن الصراع الذي نعرفه بين الأديان والسياسية. وهذا صراع لم نتمكّن بعد من فهم العلاقات التي تجري بين مكوّناته، ولم ندرك الخلاف الذي يضع الظاهرة الدينية في وجه الظاهرة السياسية.
ثمة ضرورة لشرح جميع المراحل التاريخية، من المرحلة الإغريقية والرومانية القديمة من جهة، إلى المرحلة المعاصرة لأنبياء العهد القديم في ما نسميه "الشرق الأوسط القديم" من جهة أخرى. بقيت هذه الثقافات والمدنيات القديمة في الشرق الأوسط حيّة قروناً وقروناً، ونجد لها تأثيرًا حتى في النصوص المقدّسة، التوراة والأناجيل والقرآن. هنا يأخذ البحث منحىً أفقيًا، تاريخيًا–تحليليًا، في مقابل قراءة عمودية، اعتدنا عليها، لتطوّر الأديان كأن نقول إن النصوص منزلة من الله إلى الأرض. هناك إذًا قراءتان علينا القيام بهما: قراءة أفقية–تاريخية، وأخرى عمودية على حسب الاستعارة المستعملة في القرآن، "التنزيل"، تنزيل العزيز الرحيم.
على قراءتنا للكتب المنزلة جميعها أن تعتمد على التاريخ الديني الذي سبقها. مثلاً، إذا قرأنا سورة "الكهف" في القرآن، نجد فيها قصصاً تحيلنا إلى الثقافات القديمة: قصة تحيلنا إلى من يسميه القرآن "ذو القرنين"، وهو "الإسكندر"، وقصة تحيلنا إلى أهل "الكهف" وهم المسيحيون الذين اضطهدوا في عهد "ديوكلسيان"، وهذه قصة معروفة في جميع أنحاء العالم، يستعملها القرآن ليحكي عن الذين يستشهدون بحياتهم من أجل إيمانهم بالله. وفي هذا ما يبيّن لنا أن هناك في الشرق الأوسط وعيًا لثقافة لا تزال حيّة يُستشهد بها، ويُعتمد عليها في تقديم الحقائق الدينية من العهد القديم إلى القرآن.
جـ) أوروبا، والمسيحية الرومانية واليهودية والإسلام
لهذه الأديان الثلاثة تاريخها في القرون الوسطى، وهي تحتاج لمدى أوسع لشرح العلاقات بينها. ثمة فكرة مهمة جدًا في القرون الوسطى، امتدّت من القرن السابع إلى القرن الثالث عشر، تقول إن الثقافة الفلسفية في فضاء البحر المتوسط كانت تنطق باللغة العربية، وتزدهر وتنمو في إطار سياسي هو إطار الخلافة. هذه المرحلة التاريخية مهمة جداً، ولكنها لم تحظَ بعد بالدراسة اللازمة لكي نتحرّر من كثير من التأويلات التي كانت الأديان عرضة لها، وننعتق من النصوص القديمة التي فرضها علينا المفكرون، والمفسرون، والفقهاء، وأهل الكلام في هذه الحقبة من التاريخ. ونحن، في الإسلام خاصة، لم ندرس بعد هذه الحقبة دراسة تاريخية، ولذلك نلحّ على ضرورة وضع هذه الفكرة موضع التنفيذ في برنامج للبحوث والتعليم لكي نستخرج من هذه الحقبة ما لم نستخرجه بعد من معلومات محقّقة في الظاهرة الدينية.
د) أوروبا والغرب
أشدّد هنا على ضرورة التمييز اليوم بين ما نسميه الغرب، وما نسميه أوروبا. في خطابنا العربي، نركّز على الغرب أكثر مما نركّز على أوروبا. وفي الخطابات والمناقشات التي تلت حادثة 11 أيلول، نجد الكلام موجّهًا ضد الغرب، المستعمر المهيمن، أكثر منه ضد أوروبا، لا بل لا نتكلّم على أوروبا بتاتًا.
فأوروبا مفهوم جغرافي سياسي–تاريخي، وهو يختلف عن المفهوم الموازي والذي نسميه الغرب. بمصطلح "الغرب" نشير إلى الولايات المتحدة الأميركية لأنها هي الطرف المهيمن حتى على القارة الأوروبية التي، على غرار كل بلدان العالم وقاراته، بدأت تعاني وتشكو من هذه الهيمنة وتناضل ضدّها. الفارق بين "الغرب" و"أوروبا" كبير، وبالأخصّ اليوم، لأن أوروبا دخات مرحلة تاريخية جديدة، هي مرحلة الانتقال من "الدولة–الأمة" (Etat–Nation) إلى فضاء سياسي وفضاء للمواطنة أوسع من فضاء "الدولة الامة". علينا أن نهتم بهذه الثورة التاريخية ونفكّر فيها، لما لها من أبعاد فكرية، وقيمية، وسياسية لا نجدها في المفهوم الجغرافي–السياسي الذي نستعمله عادة: الغرب. هناك حوار بدأ يتأسّس بين أوروبا وأميركا. أين نحن، كمسلمين وكعرب، من هذا الحوار الذي يتمحور حول مسألة القيم التي بدأنا الكلام بها.
ما يُحكى عن صراع بين الأديان ليس بيننا وما نسميه الغرب. هناك صراع قيَم، صراع في النظرة الفلسفية لوجود البشر وأوضاعهم، صراع حول المنحى الذي يجب أن يسلكه التغيير في المسار التاريخي لوضعهم وتسييره، صراع بين الفلسفة التي تتبناها أوروبا في إرساء هذا الفضاء التاريخي الجديد، والفلسفة التي تدّعيها الولايات المتحدة وتعتمد عليها لفرضها على العالم أجمع من طريق ما يسمّى بـ"العولمة".
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، برزت أمم عُرفت بـ"العالم الثالث"، وقد اجتمعت هذه الأمم، التي استقلّت من الاستعمار، في "باندونغ" في الخمسينات من القرن الماضي. ضمن هذا السياق التاريخي، هناك ظاهرة لم نعطِها حقّها من التحليل والدراسة، وهي ما سميناه بـ"الثورة العربية الاشتراكية" التي خيض على أساسها نضال من أجل الوحدة العربية من العام 1952 وحتى وفاة جمال عبد الناصر. بعدئذ انتقلنا إلى "ثورة" أخرى غلبت عليها التيارات التي نصفها بـ"الأصولية"، والتي تلبّس بمعجم ديني كل النضالات التي نمرّ عليها، والتي هي نضالات سياسية.
ليس لي أن أشدّد كثيرًا على هذه المرحلة التاريخية في مقاربتي للبحوث والتدريس. ففي بالي دائماً، ما أستخرجه من فائدة فكرية وعلمية نبني عليها نظاماً تربوياً يختلف عن الأنظمة التربوية التي فرضتها الأنظمة السياسية في بلداننا منذ الخمسينات وحتى يومنا هذا. وكلنا يعلم أن هذه الأنظمة التربوية لم تتبنّ هذه المقاربة العلمية لتقدّم نظرة علمية مثبتة ومحقّقة مبنية على النقد العلمي إن في المرحلة الثانوية أو في الجامعات. نحن بحاجة ماسة إلى هذا النوع من التفكير، إلى هذا النوع من البحوث كي نهيّء، على المستوى الجامعي، المدرّسين الذين بمقدورهم أن يغيّروا فهمنا لدور الدين ولدور السياسة في مجتمعاتنا.
2. إبداع الأفكار والمجتمع
هنا ندخل في ميدان أوسع لأن هذا النوع من مقاربة الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية يعتمد على ما نسميه "Ideation & Society". فـ "Ideation" تعني بالعربية "إبداع الأفكار"، وتأهيل العقل البشري ودفعه نحو إيجاد أفكار وبناء مفاهيم تعبّر عن الواقع الاجتماعي والسياسي والديني في المجتمعات، وتعيد النظر في هذه الأفكار بشكل متواصل حتى لا توظّف في استعمال إيديولوجي.
علينا التشديد على هذه النقطة أيضًا. غالبًا ما تبدأ خطاباتنا بطرح الأفكار كأفكار، بإرادة التمييز بين هذا المفهوم وذاك، بإنتاج مفاهيم تمكّننا من تحليل الواقع. ولكن سرعان ما ننتقل من هذه العمليات إلى الإيديولوجيا، إلى الصراع الإيديولوجي والصراع السياسي. للحؤول دون هذا الانزلاق، علينا أن نبقى في العملية الإنتاجية–الإبداعية للأفكار والمفاهيم التي نستعملها كأدوات علمية لتفسير ما يجري في مجتمعاتنا وفهمها.
هناك أربعة مفاهيم:
• تكوين الدولة:
تكوين الدولة أو النظام السياسي الذي يجب أن نراقبه في حركته الديناميكية وفي تكوّنه المستمر من خلال التاريخ. لذلك لا يكفي أن نقول "الدولة"، ولا يكفي أن نقول "النظام السياسي". فهناك أنظمة سياسية لها تاريخ، وقد تطوّرت من النظام القبلي إلى الأنظمة الحديثة التي نجدها في مجتمعاتنا.
• الكتابة:
الكتابة دليل على نقلة مهمة في تاريخ الحضارات والثقافات. عندما نقول "الكتابة"، يجب أن نفترض وجود مقابل لها هو "الشفاهة" (Orality). وكذلك عندما نقول الثقافة العالمة (Learned Culture)، يجب أن نفترض في المقابل وجود "ثقافة شعبية". هذه المقابلات تنتج توترات جدليّة في المجتمعات لأن هناك افتراضاً بأن الدولة تعتمد على الكتابة، والكتابة العالمة تحديدًا، وعلى قوة أخرى نطلق عليها اسم "الأرثوذكسية". ليس لهذا المفهوم (الثقافة الأرثوذكسية) مرادف في العربية. وكلما طرحتُ هذا السؤال (المفهوم) ، تلقيت الجواب نفسه (السؤال): السنّية.
هناك في الإسلام مذاهب على غرار ما في المسيحية من مذاهب (أرثوذكسية وكاثوليكية وبروتستانتية)، ولكل فرع منها أرثوذكسيتها. "الأرثوذكسية" مفهوم اجتماعي–ثقافي، ينتج من طريق الصراعات السياسية والثقافية، والصراعات الرمزية (حل الرموز). هناك في المجتمع نزاع حول "الرأسمال الرمزي": من يهيمن على "الرأسمال الرمزي" ويستعمله ويستغلّه. نستمدّ من الأديان هذا "الرأسمال الرمزي"، ونعتمد عليه لتعيين الحقيقة و"الأصالة الأرثوذكسية" التي يجب أن تفرض على الجميع. هذا المفهوم الأرثوذكسي مرتبط بالمجتمع كقوة فاعلة، وبالثقافة العالمة التي تنتجها النخبة، وبالكتابة والأدب المكتوب. علمًا أن اللغة المكتوبة، أتتنا، نحن العرب، من اللهجات العامية.
• تكوين الدولة
(State formation)
مقابل "الدولة"، هناك ما نسميه "المجتمعات الانقسامية" (Segmentary Societies) التي هي النظام القبلي الذي لا يزال حيًّا عندنا وله تأثيره في المجتمعات، وهو في نزاع مع الدولة المركزية. هذا النظام القبلي يعتمد على الشفاهة والثقافة الشعبية، ويرتبط بالأمية التي لا تزال متفشّية في مجتمعاتنا.
هناك إذًا جدلية تشدّ هذه القوى إلى بعضها. ومقابل الأرثوذكسية، هناك الهيتروذوكسية أو ما نسمّيه الفرق أوالملل أوالنحل أو، كما في لبنان، الطوائف. ثمة أهمية كبرى للجدلية الاجتماعية، المستمرة في كل مجتمع، وفي إنتاج كل مجتمع. غير أن التاريخ الذي نعلّمه لأبنائنا في المدارس الثانوية لا يتبنّى هذا الديالكتيك، هذا العرض التحليلي لجميع القوى المتواجدة والمتساكنة في المجتمع لكي نفهم معاني الصراعات، وعلى ماذا تعتمد، وإلى أين تذهب بنا.
علينا التمييز بين الدين الذي نتعلمه على أيدي الفقهاء والدين المكتوب والثقافة العالمة من ناحية، والدين الشعبي من ناحية أخرى. علينا أخذ كلّ هذا في الاعتبار لندرس التوتّرات والتناقضات والصراعات المستمرة بين الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية.
إن تأريخًا يقتصر على ذكر الظاهرة السياسية بحوادثها المتعاقبة من جهة، والظاهرة الدينية من ناحية أخرى، قد يصوّر لنا وكأن هناك فرقًا بين الدين المتعالي الذي يعلمنا أشياء متسامية، والسياسة التي تعتني بأشياء بسيطة وسيئة ومهينة. هذه المقاربة التي تدّعي العلمية هي في الحقيقة مزيِّفة للواقع، وتجعلنا بعيدين من التعمّق والتحقيق في الظاهرة الدينية ومدى تأثيرها على الظاهرة السياسية والتصارع بينهما. هذا الصراع موجود في كل المجتمعات، من أقدمها إلى أحدثها، وهو موجود في الولايات المتحدة كما هو موجود في مجتمعاتنا. هذا الطرح للإشكاليات يهدف إلى البحث عن ماهية وظائف الأديان ووظائف السياسة وتعليلها. هذا العرض يسمى عرضًا تاريخيًا-أنثروبولوجيًا.
يعتني العلم الأنتروبولوجي بجميع القوى العاملة في المجتمع، والتي نجدها في كل زمان ومكان من دون استثناء. ولهذا السبب، نسمي هذا العلم "أنتروبولوجيا": "أنتروبوس" هو الإنسان، و"لوغوس" هو العلم. أي العلم الذي يبحث في الإنسان كإنسان، في الوضع البشري. هذا ما قصدته عندما بدأت بالقول إننا لن نتفهّم مقاصد الدين ومحتوياته ووظائفه في مجتمع من المجتمعات إلا إذا امتلكنا هذه الأرضية المفهومية والنهاجية لنطرح الأسئلة اللازمة. ومثلما تكوِّن المجتمعات وظائف الدين، يكيِّف الدين، إلى حدٍّ ما، مصير المجتمعات وقيمها التي تؤمن بها جماعة من الجماعات، و يشيّد لها الذاكرات الجماعية المختلفة.
هناك اختلاف بين الذاكرات الاجتماعية. وعلى أساس هذا الاختلاف، تنتج الصراعات الاجتماعية والسياسية والدينية التي غالبًا ما نخلط بينها.
قد يشكّل هذا برنامجًا شاملاً للعلوم التي يجب أن نعتني بها ونعلّمها في قسم لدراسة الأديان في كل جامعة من الجامعات الموجودة في بلداننا. وأنتم تعلمون أن العلم الأنثروبولوجي مجهول، ونادرًا ما يُعلّم.
يؤكّد بعض الأساتذة، لا بل كثيرون منهم، باسم "الأنتروبولوجيا" ما هو في الحقيقة علم إتنوغرافي. هناك فرق كبير بين " الإتنوغرافيا" و"الأنتروبولوجيا". التحليل الأنتروبولوجي للمجتمعات لا يمكن أن يبتعد عن البحث والتحليل التاريخيين، وكذلك بالنسبة إلى التحليل التاريخي لتطور المجتمعات، فهو لن يكون كاملاً ويبرز كل الحقائق والوقائع الموجودة في المجتمع إذا لم يرتبط بالإشكاليات الأنتروبولوجية للظاهرة الدينية والظاهرة السياسية.
أقول هذا لنعي المسافة التي تفصل بين ما نقوم به اليوم في جامعاتنا ومدارسنا الثانوية، والهدف الذي يجب أن نبلغه لنخرج من المآزق المعرفية التي نتخبط فيها، كلّما حاولنا فهم ماذا يحدث في مجتمعاتنا. وإذ لا نجد لهذه المآزق حلولا، فلأنّنا لم نتمكّن من إنشاء منظومات معرفية مختلفة تماما عن المنظومات التي لا تزال تكيّف إدراكنا وتفسيرنا للأوضاع التي نعيشها الآن.
إذًا المطلوب هو دراسة وتدريس ما نعني بـ"مجتمعات الكتاب" (La société du Livre). هذا يعني أن هناك ظاهرة الكتاب. تلاحظون أن عبارة " الظاهرة" تتكرر في خطابي. لماذا أقول ظاهرة الكتابة، الظاهرة السياسية، الظاهرة البيولوجية، الظاهرة الفيزيقية. لماذا الظاهرة؟ لأن هناك أشياء ندركها بأعيننا، بآذاننا، أشياء نراها، نلمسها، نجرّبها. هناك إذًا أشياء موجودة. غير أننا غير قادرين على تفسير وفهم كل ما يتعلق بهذه الظواهر. فعلى الرغم من أنها ظاهرة أمامنا، لا نملك بعد مفاتيح فهمها. نحن جاهلون للظاهرة الدينية. كان علينا أن نبدأ بالجهل. إننا جاهلون، ولكننا نتخاطب وكأننا عالمون علم اليقين في كلّ ما يخص الدين. نحن نجهل الكثير من الأشياء الأساسية التي يعبّر عنها الدين، وما يقوم به في المجتمع والتاريخ. لذلك أستعمل كلمة "الظاهرة"، "ظاهرة الكتاب" وغيرها من الظواهر. من بمقدوره أن يفسر الظاهرة في جميع تشعباتها وأبعادها؟ إلى الآن لم نقدّم طرحًا شاملاً لظاهرة الكتاب مثلاً.
هناك كتاب ألّفه عالم الأديان السويدي وندرغرن (Windergren) بعنوان "محمد رسول الله وظاهرة الكتاب السماوي" (Mohammad the Apostle of God and the Heavenly Book). هذه الفكرة، فكرة الكتاب السماوي، كانت موجودة ومنتشرة في منطقة الشرق الأوسط، وقد استعملها الناس واستعملتها الأديان المختلفة، وبقيت حيّة قرونًا وقرونًا إلى يومنا هذا. غير أن ما كتب عن هذه الظاهرة قليل جدًا، ولا يمكننا استخدامه استخدامًا محقّقا ومثبتًا علميًا.هذه الفكرة لا تزال في مجال "العلم الميتولوجي".
كيف نقارب الظاهرة القرآنية والظاهرة الإنجيلية أو الظاهرة التوراتية؟ يطبّق هذا البيان على القرآن طبعًا، و لكن أيضًا على جميع الكتب المؤسِّسة للأديان. أبعد من ذلك، فهذا البيان يطبق على جميع الكتب أو النصوص التي يستعملها مجتمع ما كمرجعية ملزمة، كالدستور مثلا. فالدستور مرجعية ملزمة، تلزم جميع المواطنين، وهو مرجعية لفصل الخلافات القائمة بين المواطنين في المجتمع. هذا أيضا طرح أنتروبولوجي لمفهوم ظاهرة الكتابة التي لا تخصّ القرآن فقط، أو الإنجيل فقط. هذا هو الفرق بين المقاربة التاريخية الأنتروبولوجية والإنسانية، والمقاربة اللاهوتية للموضوع نفسه. ماذا يقول اللاهوت؟ يقول إن هذا كتاب منزل، وإن اليهود شعب منتخب. بهذين القول والإيمان يحدث ما يحدث، ويعمل البشر ما يعملونه. في ما يتعلق باللاهوت المسيحي يقول الكاردينال راتسينغر[إنه البابا الحالي بينيدكتوس السادس عشر] في نص نشره بعنوان "Dominus Jesus" (السيد المسيح) وعنوان فرعي "Sur l’unicité et l’universalité salvifique de Jesus-Christ et de l’Eglise" (عن الوحدة والكونية المنقذة ليسوع المسيح والكنيسة)، الكلام الآتي:
"علينا التمييز بشدّة بين "الإيمان" اللاهوتي و"العقيدة" في الديانات الأخرى. فبينما "الإيمان" هو استقبال للنعمة الإلهية وللحقيقة المنزلة، تشكّل "العقيدة" في الديانات الأخرى مجموع التجارب والأفكار الإنسانية، هذه الثروة من الحكمة والتديّن التي بلغها الإنسان في بحثه عن الحقيقة وفي تفكيره لواقع العلاقة مع كل ما هو إلهي ومطلق".
تستحق هذه الجملة التحليل والتأويل لأنها تجمع في جملة واحدة مجمل القضايا اللاهوتية التي لم نعالجها بعد معالجة تنطلق من المناهج التي ذكرت. وإذا التمسنا هذه الجملة وترجمناها من منطلق إسلامي لاهوتي وقعنا في مشاكل ومآزق يستحيل علينا الخروج منها . وهذا ما حصل تاريخيًا. فنحن في مآزق بسبب مفاهيم أتتنا من القرون الوسطى، ولا نزال إلى يومنا هذا نعلّمها، ونكرّرها، ونعتمد عليها للتمييز بين ما نسميه الإيمان (La foi) المبني على نموذج لاهوتي، ومانسميه العقائد. فالعقائد موجودة أيضًا في الأديان الأخرى. أما الإيمان النموذجي فنجده في المسيحية حسب التفسير اللاهوتي. لا يحقّ لنا أن نرفضه أو نقبله. نأتي إلى هذا النوع من الخطاب بعد أن نكون قد عبرنا جميع المراحل التي ذكرتها في ما يتعلّق بالتقديم أو التمهيد لدراسة لبّ المشاكل في النصوص المنزلة نفسها.
هناك ما نسميه" المعطى المنزل". التنزيل أعطي، ونحن تلقيناه. أعطاه الله للبشر، وهو لدينا، في متناولنا. و لكن ماذا بإمكان العقل أن يقول اليوم عن هذا المعطى؟ وهو (أي العقل) يمرّ في أزمة معرفية تمس الفكر الديني كما تمسّ الفكر الأخلاقي والفلسفي والعلمي.
قد يغيّر هذا من طبيعة علاقتنا بالخطاب اللاهوتي الذي تلقيناه. وهذا هو المقصود من كل ما قلته عن ضرورة الطرح الجديد للظاهرة الدينية ودراستها بمنهج علمي. ذلك لأن الدراسة العلمية، كما وصفتها، لا تطلب من المسيحي أن يكون أرثوذكسيا أو كاثوليكياً حتى يشارك فيها، ولا تطلب من المسلم أن يكون سنّياً أو شيعيا كي يساهم فيها. هذا علم، نعمل عليه كما نعمل في العلم البيولوجي أو في المختبر. وهذا المفهوم لا يعارض ولا ينفي الدراسة والبحث اللاهوتيين. في كلّ مرّة عرضتُ فيها هذا المفهوم، كان الردّ بأن هذه البحوث لا تعطي أهمية للإيمان وللدين. لقد كان هذا صحيحاً في الممارسة "العلماوية" (Positiviste, Scientiste) التي كان يتبناها العقل في القرن التاسع عشر. أما اليوم، فنعطي الأديان والإيمان والقيم والعقائد الدينية جميع حقوقها، ونعترف بوظائفها في المجتمع. فالدين غير الإيديولوجيا، ولذلك وجب أن ندرسها.
عندما أذكر الإنجيل أو القرآن، أشير إلى شيء أظنه معروفاً وبديهياً. غير أن هذا النوع من استعمال اللفظ يغطي مشاكل غاية في الأهمية ويخفيها عنا كي لا ندرسها دراسة تحليلية وعلمية. هذه النقطة أهملناها، ولانزال، لأننا نتّهم العلوم الاجتماعية والإنسانية بأنها علوم معادية للأديان ونافية لها. وهذا غير صحيح.
ما عسانا نغطّي، وماذا نهمّش، وماذا نترك جانباً ومدفونا دون التفكير فيه في الفكر الإسلامي المعاصر كما في الفكر المسيحي المعاصر؟ ثمة ما يمكن التفكير فيه وما لا يمكن التفكير فيه. ونحن في مجتمعاتنا نعرف ماذا نعني بما لا يمكن التفكير فيه. لا في مجال السياسة فقط، ولكن في مجال الثقافة (الإيديولوجيا) التي نتثقف ونتخاطب بها في الميدان العام، في المجتمع. أما عندما نتخاطب في ما بيننا، فنستخدم لغة أخرى، وخطابا آخر.
• "كلام الله":
أثارت هذه العبارة-المفهوم في التاريخ الإسلامي والمسيحي منذ زمن طويل نقاشات مهمة. ماذا نفهم بعبارة "كلام الله"؟ في ما يخصّ الفكر الإسلامي، الجميع يعرف مساهمة المعتزلة في إشكالية القرآن: هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟ إنها إشكالية مهمة جداً. وطبعاً نرفض هذه الإشكالية اليوم بسبب "الأرثوذكسية".
لا يمكننا التخلّي عن هذا المستوى في البحث. فهو يتطلّب منّا أن نتسلح بأسلحة غير تلك التي لا يزال الخطاب اللاهوتي الرسمي يستعملها إلى يومنا هذا.
"كلام الله" هذا ظهر في مرحلة من مراحل التاريخ وكخطاب شفاهي. لم يظهر كخطاب مكتوب. سيكتب في ما بعد. والكتابة بحدّ ذاتها تثير مشاكل عديدة. مثلاً الحروف العربية، كالكوفية في القرن الأول للهجرة، كانت من دون تنقيط ومن دون حركات. وهذا ما أثار مشاكل. ولكن أهمية هذه المرحلة التاريخية تكمن في دور "الخطاب الشفاهي" في أداء المعنى وتبليغه للمستمع. مثلاً في الكلام الذي تسمعونه مني، لا أكتفي بالأرقام التي أستخدمها لكي أبلّغ ما أريد، بل أستعين بيدي وبوجهي وبصوتي لإضافة معانٍ تسهيلاً للتبليغ. علماء اللسانية المعاصرون يعطون أهمية كبرى لهذا التعبير الشفاهي ويسمونه "سيميولوجيا الخطاب".
أقول هذا من أجل المعنى لأن كل شيء مبني عليه. على أي معنى نبني العقائد؟ وما الذي سيصبح منها عقائد دوغمائية؟ إذا لم نؤمن بها، كما تفترض الخطابات اللاهوتية، نعاقب هنا، في الدنيا.
هذه مسألة مهمة للغاية، وهي لسانية محضة لا تمس العقائد، بل تسعى إلى توضيح ماهيتها التي تبنى على إرادة إبلاغ المعنى الصحيح والأصيل والمقصود في الخطاب الأول كما ألقي على جماعة ما. هذه مرحلة أساسية من حيث الجوهر، وليس فقط من حيث المنهاج. وهذا شامل لكل الأديان. ليس من نزاع بين المسيحية والإسلام اليوم. كلّنا في الوضع نفسه، الذي هو وضع لغوي وتاريخي. لا يمكننا استرجاعه. ما لا يعاد، وما لا تمكن إعادته للتاريخ، هو ثمين.
3. النصوص
ننتقل إلى المرحلة الثالثة أي إلى المجموع الرسمي المعلن من النصوص. هذه النصوص رسمية لأنها نابعة من إرادة رسمية، إرادة الكنيسة. إنها إرادة رسمية من البشر الذين قرّروا أن هناك أناجيل أصيلة وأخرى مختلقة انتشرت في القرنين الأول والثاني بعد المسيح. الأمر عينه حصل مع الأحاديث عند المسلمين، فمنها الصحيح ومنها المختلق. أُغلق الموضوع بعد أن تقرّر أن الأناجيل الأربعة التي يجب الاعتماد عليها هي الأناجيل الصحيحة، وأن المصحف العثماني هو المصحف الصحيح الذي يجب أن يُعتمد. ومن ثمّ أغلق النقاش.
ما معنى "أُغلق"؟ معناه أنه إذا جاء راوٍ من الرواة ليقول "بلغني عن فلان وفلان أن النبي قد قال كذا وكذا بصدد آية محددة"، فالجواب أن الأمر منتهٍ، مغلق. أكثر من ذلك. في تفسير الطبري للآية 12 من سورة النساء، قراءتان. وقد قرأ الطبري في قراءتيه 28 خبراً. أخبار تروي أشياء مختلفة. لذلك نقرأ اليوم النصوص في مجموعات مغلقة. في هذا ما يثير مشاكل في طرق التفسير، وتحديد محتوى النصوص ومعناها.
4. الخطاب الديني
المجموعات المفسّرة: تفسير الطبري كناية عن مجموعة بل موسوعة من العلوم تصحّ لتكون مرجعاً لكل من يفسر القرآن، فيستمد منها المعلومات التي جمعها الطبري. والشيء عينه في ما يتعلّق بالتوراة والأناجيل. هناك مجموعات تؤلّف، فيُعتمد عليها. إنها مجموعات لاهوتية بالنسبة إلى المسيحيين، ومجموعات شرعية في ما خصّ الشريعة عند المسلمين.
تاريخ التفسير كوّن تصوراتنا، وفهمنا، وكلّ ما نسميه عقائدنا في ما تؤلفه النصوص المنزلة. فالوصول إلى النص المنزل يكون من خلال المجموعات التي تراكمت منذ القرون الوسطى إلى يومنا هذا.
ما أقدّمه هنا هو برنامجاً للعلم والبحوث، لأننا لم نقُم ببحوث علمية عن كل مرحلة من هذه المراحل. نكتفي اليوم بالإحالة إلى المستوى الأول: هذا "كلام الله". أما المستوى الثاني، فهو ما سمعناه عن النبي أو عن المسيح. كل هذا نصل إليه من خلال الكتب التي لا نزال ندرّسها حسب القواعد والمناهج المتّبعة والموضوعة منذ زمن. إنها قضايا شائكة ومهمة، ولها تأثير في خطاباتنا إلى اليوم.
بدأت حديثي بأنه، حتى في أواخر القرن العشرين، استعمل كلٌّ من بوش وميتران المعجم الديني لتبرير الحروب، وذلك من أفواه تعتقد بالنظام العلماني وتؤيّده. في المجتمعات التي أحدثت ثورة في فصل الدين عن الدولة، نجد أن الظاهرة الدينية مهملة وغير مدروسة. والدليل على ذلك ان وزيراً في فرنسا هو جاك لانغ (Jack Lang) أسّس، ولأول مرّة، معهداً أوروبيا يُعنى بدراسة الأديان. هذه خطوة جديدة. وعندما أعلن عن ذلك، طُرح عليه السؤال الأول الذي هو: أين هم المعلمون والأساتذة الذين بإمكانهم أن يدرّسوا الأديان حسب الذهنية العلمية، العلمانية، الفلسفية، الأنتروبولوجية التي ذكرتموها في مقدمتكم؟
إذا كان هذا الكلام قد قيل في فرنسا، ولفرنسا المكانة المعروفة في مجال العلماء والجامعات، فماذا نقول عندنا عن جامعاتنا؟ الحمد للّه أن عندنا جامعة البلمند التي أتاحت لنا هذه الفرصة لنطرح هذه الأفكار راجين أن تلقى من يتبنّاها في هذا البلد، الثري بثقافاته وبما يسمّونه الطوائف، وأنا أسميها "الذاكرات الجماعية" الحاملة لثروة ثقافية. يجب أن تحظى هذه الذاكرات بما تستحقّه من اهتمام، وأن نتيح لها فرصة أن تنطق وتعبّر عن نفسها بلهجاتها لا باللغة العالمة، الفصحى. وذلك لأن التعرّف على كل ذاكرة لا يستقيم إلاّ من طريق اللهجة التي يتم التكلم بها في الأسرة، في الشارع، في الخطاب اليومي. هناك كتب كثيرة نقرأها، ولكن علينا أن نقرأ السطر الأول والثاني، وألاّ نكتف بالأول فقط.
عنوان محاضرتي هو "الظاهرة الدينية بعد حادثة 11 أيلول"، وقد اخترت هذا العنوان لنعيد التفكير في الظاهرة الدينية بعد هذا الحدث اعتماداً على ما يمكننا أن نستنتجه من أفكار جديدة وبرامج جديدة للبحث العلمي عن الاديان وتفسيرها من منطلق كونها ظاهرة.
حادثة 11 أيلول كان يمكن أن تكون منطلقاً لتفكير آخر ولسياسة أخرى. ولأنها حصلت في الولايات المتحدة، ومسّت رموز الحضارة الغربية كما نسميها، فلقد أثارت في هذه الحضارة، وفي الولايات المتحدة تحديدًا، الردود التي نعرفها اليوم، والتي هي ردود القوة والحرب. ولكن لم نسمع إلى الآن ردودًا على صعيد المعاني الرمزية التي تحملها هذه الحادثة.
1. معاني الرمزية
لقد مسّت هذه الحادثة ما يسميه العلماء في أميركا ويصفوه بمفهوم "القيم الحضارية الغربية"، مسّت تلك القيم الغربية التي، باعتقادهم، غير موجودة في حضارات أخرى. ولطالما سمعنا علماء يكررون أن هناك اقتتالاً بين الحضارات، وصدامًا بين الثقافات، بسبب تفاوت بين الثقافات والحضارات تبعًا للقيم التي بنيت عليها.
ولذلك كان من المنتظر أن نسمع، من طرف العلماء الغربيين وأيضًا من طرف العلماء المسلمين، كلاماً على هذه القيم الحضارية. خاصة أن هذه الحادثة، على ما نعرفه وتعرفه وسائل الاعلام، قد قام بها طرف إسلامي، حركة إسلامية.
هناك في أميركا معهدٌ يحمل اسم "معهد القيم الأميركية". وقد صدر عنه بيان وقّعه ثمانون عالماً وباحثاً وكاتباً أميركيًا، يبررون فيه مفهوم الحق الذي يدافع عن العدل، والمبنيّ على فكرة الدفاع عن العدل (La guerre juste). هذا المفهوم يأتينا من القديس أوغسطينوس، وهو مفهوم لاهوتي قديم يترجم تماماً ما يسميه المسلمون "الجهاد".
غير أن المفارقة تكمن في أن هؤلاء العلماء، الذين يقدمون أنفسهم كعلمانيين يفكرون في إطار حديث، يرجعون إلى معجم ديني-لاهوتي لتبرير الحرب التي نحن فيها. وقد تكرّر هذا أثناء حرب الخليج. فالرئيسان، الفرنسي فرانسوا ميتران والأميركي جورج بوش الأب، استعملا المفهوم نفسه (La guerre juste) لتبرير الحرب حينذاك. من جهتنا كذلك، نحن العرب والمسلمين، نبرّر ما نقوم به، ونبرّر حادثة 11 أيلول، بالاعتماد على مفهوم "الجهاد" بالإحالة الى المعجم اللاهوتي إياه.
هذا الواقع يفرض علينا كباحثين، وكباحثين في البلدان العربية الإسلامية تحديدًا، أن نعيد النظر في المعجم الديني برمّته، لنسأل ما هي الخلافات التي تجعلنا ندخل في حروب مع الغرب، وتجعل الغرب من جهته في حروب ضدنا. إلى الآن لم نجد حلاً، ولم نوجِد معجماً آخر نعتمد عليه كي نفكر تفكيراً جديداً في ما نسميه "القيم".
كيف يمكننا أن نقوم بهذا العمل، وننتقل بالتالي من الاستعمال الإيديولوجي لما نسميه "القيم"، الغربية أو الإسلامية، إلى إيجاد معجم آخر، وإصدار دراسات أخرى، للكلام على الحضارات والثقافات؟
أقدم مثلاً يمكّننا من الانتقال من هذه المعاجم القديمة التي نستعملها، إلى معجم آخر، وهو معجم يعتمد على اللسانيات، والتاريخ المقارن للأديان، وعلى ما نسميه "انتروبولوجيا" الأديان.
أ) المقاربة التاريخية
للظاهرة الدينية
كيف ندرس الأديان دراسة مقارنة في فضاء البحر المتوسط. في هذا الفضاء، وفي إطار فكري واحد، ظهرت ديانات استعملت المعجم نفسه و"القيم" نفسها التي نجدها في الديانات الثلاث المنزلة. غير أن ثمة استعمال لمعجم آخر، منذ القرون الوسطى خاصة، مبني على الفكر الفلسفي كما كان يمارس في تلك المرحلة. حينذاك لم يكن الفكر الفلسفي يُعنى بالفلسفة فقط، وإنما بالعلوم جميعها.
والمقاربة التاريخية للظاهرة الدينية تمكّننا من أن نقارن العلاقات الفكرية والثقافية بين الأديان التي تطوّرت معاجمها وتغيرت أثناء التطور التاريخي منذ القرون الوسطى إلى يومنا هذا. هذا ما يجب أن نبدأ منه لتكون لنا أرضية للتحليل التاريخي لكل ما يتعلق بهذه الأديان، ولتكون لنا أيضاً نظرة تحليلية نقدية للمعاجم الدينية من جهة، وللمعاجم العلمية–الفلسفية من جهة أخرى. لذلك اخترت الخوض في مسألتي المعنى والهيمنة.
ب) البحث عن المعنى
وإرادة الهيمنة
هناك توتر، في كل ثقافة وإطار فكري، بين البحث عن معنى - وهو ما تقصده الأديان - وإرادة الهيمنة من خلال استعمال المعاني التي تأتي بها الأديان والفلسفات. والهيمنة معناها: هيمنة سياسية للمجتمعات. هنا يكمن الصراع الذي نعرفه بين الأديان والسياسية. وهذا صراع لم نتمكّن بعد من فهم العلاقات التي تجري بين مكوّناته، ولم ندرك الخلاف الذي يضع الظاهرة الدينية في وجه الظاهرة السياسية.
ثمة ضرورة لشرح جميع المراحل التاريخية، من المرحلة الإغريقية والرومانية القديمة من جهة، إلى المرحلة المعاصرة لأنبياء العهد القديم في ما نسميه "الشرق الأوسط القديم" من جهة أخرى. بقيت هذه الثقافات والمدنيات القديمة في الشرق الأوسط حيّة قروناً وقروناً، ونجد لها تأثيرًا حتى في النصوص المقدّسة، التوراة والأناجيل والقرآن. هنا يأخذ البحث منحىً أفقيًا، تاريخيًا–تحليليًا، في مقابل قراءة عمودية، اعتدنا عليها، لتطوّر الأديان كأن نقول إن النصوص منزلة من الله إلى الأرض. هناك إذًا قراءتان علينا القيام بهما: قراءة أفقية–تاريخية، وأخرى عمودية على حسب الاستعارة المستعملة في القرآن، "التنزيل"، تنزيل العزيز الرحيم.
على قراءتنا للكتب المنزلة جميعها أن تعتمد على التاريخ الديني الذي سبقها. مثلاً، إذا قرأنا سورة "الكهف" في القرآن، نجد فيها قصصاً تحيلنا إلى الثقافات القديمة: قصة تحيلنا إلى من يسميه القرآن "ذو القرنين"، وهو "الإسكندر"، وقصة تحيلنا إلى أهل "الكهف" وهم المسيحيون الذين اضطهدوا في عهد "ديوكلسيان"، وهذه قصة معروفة في جميع أنحاء العالم، يستعملها القرآن ليحكي عن الذين يستشهدون بحياتهم من أجل إيمانهم بالله. وفي هذا ما يبيّن لنا أن هناك في الشرق الأوسط وعيًا لثقافة لا تزال حيّة يُستشهد بها، ويُعتمد عليها في تقديم الحقائق الدينية من العهد القديم إلى القرآن.
جـ) أوروبا، والمسيحية الرومانية واليهودية والإسلام
لهذه الأديان الثلاثة تاريخها في القرون الوسطى، وهي تحتاج لمدى أوسع لشرح العلاقات بينها. ثمة فكرة مهمة جدًا في القرون الوسطى، امتدّت من القرن السابع إلى القرن الثالث عشر، تقول إن الثقافة الفلسفية في فضاء البحر المتوسط كانت تنطق باللغة العربية، وتزدهر وتنمو في إطار سياسي هو إطار الخلافة. هذه المرحلة التاريخية مهمة جداً، ولكنها لم تحظَ بعد بالدراسة اللازمة لكي نتحرّر من كثير من التأويلات التي كانت الأديان عرضة لها، وننعتق من النصوص القديمة التي فرضها علينا المفكرون، والمفسرون، والفقهاء، وأهل الكلام في هذه الحقبة من التاريخ. ونحن، في الإسلام خاصة، لم ندرس بعد هذه الحقبة دراسة تاريخية، ولذلك نلحّ على ضرورة وضع هذه الفكرة موضع التنفيذ في برنامج للبحوث والتعليم لكي نستخرج من هذه الحقبة ما لم نستخرجه بعد من معلومات محقّقة في الظاهرة الدينية.
د) أوروبا والغرب
أشدّد هنا على ضرورة التمييز اليوم بين ما نسميه الغرب، وما نسميه أوروبا. في خطابنا العربي، نركّز على الغرب أكثر مما نركّز على أوروبا. وفي الخطابات والمناقشات التي تلت حادثة 11 أيلول، نجد الكلام موجّهًا ضد الغرب، المستعمر المهيمن، أكثر منه ضد أوروبا، لا بل لا نتكلّم على أوروبا بتاتًا.
فأوروبا مفهوم جغرافي سياسي–تاريخي، وهو يختلف عن المفهوم الموازي والذي نسميه الغرب. بمصطلح "الغرب" نشير إلى الولايات المتحدة الأميركية لأنها هي الطرف المهيمن حتى على القارة الأوروبية التي، على غرار كل بلدان العالم وقاراته، بدأت تعاني وتشكو من هذه الهيمنة وتناضل ضدّها. الفارق بين "الغرب" و"أوروبا" كبير، وبالأخصّ اليوم، لأن أوروبا دخات مرحلة تاريخية جديدة، هي مرحلة الانتقال من "الدولة–الأمة" (Etat–Nation) إلى فضاء سياسي وفضاء للمواطنة أوسع من فضاء "الدولة الامة". علينا أن نهتم بهذه الثورة التاريخية ونفكّر فيها، لما لها من أبعاد فكرية، وقيمية، وسياسية لا نجدها في المفهوم الجغرافي–السياسي الذي نستعمله عادة: الغرب. هناك حوار بدأ يتأسّس بين أوروبا وأميركا. أين نحن، كمسلمين وكعرب، من هذا الحوار الذي يتمحور حول مسألة القيم التي بدأنا الكلام بها.
ما يُحكى عن صراع بين الأديان ليس بيننا وما نسميه الغرب. هناك صراع قيَم، صراع في النظرة الفلسفية لوجود البشر وأوضاعهم، صراع حول المنحى الذي يجب أن يسلكه التغيير في المسار التاريخي لوضعهم وتسييره، صراع بين الفلسفة التي تتبناها أوروبا في إرساء هذا الفضاء التاريخي الجديد، والفلسفة التي تدّعيها الولايات المتحدة وتعتمد عليها لفرضها على العالم أجمع من طريق ما يسمّى بـ"العولمة".
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، برزت أمم عُرفت بـ"العالم الثالث"، وقد اجتمعت هذه الأمم، التي استقلّت من الاستعمار، في "باندونغ" في الخمسينات من القرن الماضي. ضمن هذا السياق التاريخي، هناك ظاهرة لم نعطِها حقّها من التحليل والدراسة، وهي ما سميناه بـ"الثورة العربية الاشتراكية" التي خيض على أساسها نضال من أجل الوحدة العربية من العام 1952 وحتى وفاة جمال عبد الناصر. بعدئذ انتقلنا إلى "ثورة" أخرى غلبت عليها التيارات التي نصفها بـ"الأصولية"، والتي تلبّس بمعجم ديني كل النضالات التي نمرّ عليها، والتي هي نضالات سياسية.
ليس لي أن أشدّد كثيرًا على هذه المرحلة التاريخية في مقاربتي للبحوث والتدريس. ففي بالي دائماً، ما أستخرجه من فائدة فكرية وعلمية نبني عليها نظاماً تربوياً يختلف عن الأنظمة التربوية التي فرضتها الأنظمة السياسية في بلداننا منذ الخمسينات وحتى يومنا هذا. وكلنا يعلم أن هذه الأنظمة التربوية لم تتبنّ هذه المقاربة العلمية لتقدّم نظرة علمية مثبتة ومحقّقة مبنية على النقد العلمي إن في المرحلة الثانوية أو في الجامعات. نحن بحاجة ماسة إلى هذا النوع من التفكير، إلى هذا النوع من البحوث كي نهيّء، على المستوى الجامعي، المدرّسين الذين بمقدورهم أن يغيّروا فهمنا لدور الدين ولدور السياسة في مجتمعاتنا.
2. إبداع الأفكار والمجتمع
هنا ندخل في ميدان أوسع لأن هذا النوع من مقاربة الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية يعتمد على ما نسميه "Ideation & Society". فـ "Ideation" تعني بالعربية "إبداع الأفكار"، وتأهيل العقل البشري ودفعه نحو إيجاد أفكار وبناء مفاهيم تعبّر عن الواقع الاجتماعي والسياسي والديني في المجتمعات، وتعيد النظر في هذه الأفكار بشكل متواصل حتى لا توظّف في استعمال إيديولوجي.
علينا التشديد على هذه النقطة أيضًا. غالبًا ما تبدأ خطاباتنا بطرح الأفكار كأفكار، بإرادة التمييز بين هذا المفهوم وذاك، بإنتاج مفاهيم تمكّننا من تحليل الواقع. ولكن سرعان ما ننتقل من هذه العمليات إلى الإيديولوجيا، إلى الصراع الإيديولوجي والصراع السياسي. للحؤول دون هذا الانزلاق، علينا أن نبقى في العملية الإنتاجية–الإبداعية للأفكار والمفاهيم التي نستعملها كأدوات علمية لتفسير ما يجري في مجتمعاتنا وفهمها.
هناك أربعة مفاهيم:
• تكوين الدولة:
تكوين الدولة أو النظام السياسي الذي يجب أن نراقبه في حركته الديناميكية وفي تكوّنه المستمر من خلال التاريخ. لذلك لا يكفي أن نقول "الدولة"، ولا يكفي أن نقول "النظام السياسي". فهناك أنظمة سياسية لها تاريخ، وقد تطوّرت من النظام القبلي إلى الأنظمة الحديثة التي نجدها في مجتمعاتنا.
• الكتابة:
الكتابة دليل على نقلة مهمة في تاريخ الحضارات والثقافات. عندما نقول "الكتابة"، يجب أن نفترض وجود مقابل لها هو "الشفاهة" (Orality). وكذلك عندما نقول الثقافة العالمة (Learned Culture)، يجب أن نفترض في المقابل وجود "ثقافة شعبية". هذه المقابلات تنتج توترات جدليّة في المجتمعات لأن هناك افتراضاً بأن الدولة تعتمد على الكتابة، والكتابة العالمة تحديدًا، وعلى قوة أخرى نطلق عليها اسم "الأرثوذكسية". ليس لهذا المفهوم (الثقافة الأرثوذكسية) مرادف في العربية. وكلما طرحتُ هذا السؤال (المفهوم) ، تلقيت الجواب نفسه (السؤال): السنّية.
هناك في الإسلام مذاهب على غرار ما في المسيحية من مذاهب (أرثوذكسية وكاثوليكية وبروتستانتية)، ولكل فرع منها أرثوذكسيتها. "الأرثوذكسية" مفهوم اجتماعي–ثقافي، ينتج من طريق الصراعات السياسية والثقافية، والصراعات الرمزية (حل الرموز). هناك في المجتمع نزاع حول "الرأسمال الرمزي": من يهيمن على "الرأسمال الرمزي" ويستعمله ويستغلّه. نستمدّ من الأديان هذا "الرأسمال الرمزي"، ونعتمد عليه لتعيين الحقيقة و"الأصالة الأرثوذكسية" التي يجب أن تفرض على الجميع. هذا المفهوم الأرثوذكسي مرتبط بالمجتمع كقوة فاعلة، وبالثقافة العالمة التي تنتجها النخبة، وبالكتابة والأدب المكتوب. علمًا أن اللغة المكتوبة، أتتنا، نحن العرب، من اللهجات العامية.
• تكوين الدولة
(State formation)
مقابل "الدولة"، هناك ما نسميه "المجتمعات الانقسامية" (Segmentary Societies) التي هي النظام القبلي الذي لا يزال حيًّا عندنا وله تأثيره في المجتمعات، وهو في نزاع مع الدولة المركزية. هذا النظام القبلي يعتمد على الشفاهة والثقافة الشعبية، ويرتبط بالأمية التي لا تزال متفشّية في مجتمعاتنا.
هناك إذًا جدلية تشدّ هذه القوى إلى بعضها. ومقابل الأرثوذكسية، هناك الهيتروذوكسية أو ما نسمّيه الفرق أوالملل أوالنحل أو، كما في لبنان، الطوائف. ثمة أهمية كبرى للجدلية الاجتماعية، المستمرة في كل مجتمع، وفي إنتاج كل مجتمع. غير أن التاريخ الذي نعلّمه لأبنائنا في المدارس الثانوية لا يتبنّى هذا الديالكتيك، هذا العرض التحليلي لجميع القوى المتواجدة والمتساكنة في المجتمع لكي نفهم معاني الصراعات، وعلى ماذا تعتمد، وإلى أين تذهب بنا.
علينا التمييز بين الدين الذي نتعلمه على أيدي الفقهاء والدين المكتوب والثقافة العالمة من ناحية، والدين الشعبي من ناحية أخرى. علينا أخذ كلّ هذا في الاعتبار لندرس التوتّرات والتناقضات والصراعات المستمرة بين الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية.
إن تأريخًا يقتصر على ذكر الظاهرة السياسية بحوادثها المتعاقبة من جهة، والظاهرة الدينية من ناحية أخرى، قد يصوّر لنا وكأن هناك فرقًا بين الدين المتعالي الذي يعلمنا أشياء متسامية، والسياسة التي تعتني بأشياء بسيطة وسيئة ومهينة. هذه المقاربة التي تدّعي العلمية هي في الحقيقة مزيِّفة للواقع، وتجعلنا بعيدين من التعمّق والتحقيق في الظاهرة الدينية ومدى تأثيرها على الظاهرة السياسية والتصارع بينهما. هذا الصراع موجود في كل المجتمعات، من أقدمها إلى أحدثها، وهو موجود في الولايات المتحدة كما هو موجود في مجتمعاتنا. هذا الطرح للإشكاليات يهدف إلى البحث عن ماهية وظائف الأديان ووظائف السياسة وتعليلها. هذا العرض يسمى عرضًا تاريخيًا-أنثروبولوجيًا.
يعتني العلم الأنتروبولوجي بجميع القوى العاملة في المجتمع، والتي نجدها في كل زمان ومكان من دون استثناء. ولهذا السبب، نسمي هذا العلم "أنتروبولوجيا": "أنتروبوس" هو الإنسان، و"لوغوس" هو العلم. أي العلم الذي يبحث في الإنسان كإنسان، في الوضع البشري. هذا ما قصدته عندما بدأت بالقول إننا لن نتفهّم مقاصد الدين ومحتوياته ووظائفه في مجتمع من المجتمعات إلا إذا امتلكنا هذه الأرضية المفهومية والنهاجية لنطرح الأسئلة اللازمة. ومثلما تكوِّن المجتمعات وظائف الدين، يكيِّف الدين، إلى حدٍّ ما، مصير المجتمعات وقيمها التي تؤمن بها جماعة من الجماعات، و يشيّد لها الذاكرات الجماعية المختلفة.
هناك اختلاف بين الذاكرات الاجتماعية. وعلى أساس هذا الاختلاف، تنتج الصراعات الاجتماعية والسياسية والدينية التي غالبًا ما نخلط بينها.
قد يشكّل هذا برنامجًا شاملاً للعلوم التي يجب أن نعتني بها ونعلّمها في قسم لدراسة الأديان في كل جامعة من الجامعات الموجودة في بلداننا. وأنتم تعلمون أن العلم الأنثروبولوجي مجهول، ونادرًا ما يُعلّم.
يؤكّد بعض الأساتذة، لا بل كثيرون منهم، باسم "الأنتروبولوجيا" ما هو في الحقيقة علم إتنوغرافي. هناك فرق كبير بين " الإتنوغرافيا" و"الأنتروبولوجيا". التحليل الأنتروبولوجي للمجتمعات لا يمكن أن يبتعد عن البحث والتحليل التاريخيين، وكذلك بالنسبة إلى التحليل التاريخي لتطور المجتمعات، فهو لن يكون كاملاً ويبرز كل الحقائق والوقائع الموجودة في المجتمع إذا لم يرتبط بالإشكاليات الأنتروبولوجية للظاهرة الدينية والظاهرة السياسية.
أقول هذا لنعي المسافة التي تفصل بين ما نقوم به اليوم في جامعاتنا ومدارسنا الثانوية، والهدف الذي يجب أن نبلغه لنخرج من المآزق المعرفية التي نتخبط فيها، كلّما حاولنا فهم ماذا يحدث في مجتمعاتنا. وإذ لا نجد لهذه المآزق حلولا، فلأنّنا لم نتمكّن من إنشاء منظومات معرفية مختلفة تماما عن المنظومات التي لا تزال تكيّف إدراكنا وتفسيرنا للأوضاع التي نعيشها الآن.
إذًا المطلوب هو دراسة وتدريس ما نعني بـ"مجتمعات الكتاب" (La société du Livre). هذا يعني أن هناك ظاهرة الكتاب. تلاحظون أن عبارة " الظاهرة" تتكرر في خطابي. لماذا أقول ظاهرة الكتابة، الظاهرة السياسية، الظاهرة البيولوجية، الظاهرة الفيزيقية. لماذا الظاهرة؟ لأن هناك أشياء ندركها بأعيننا، بآذاننا، أشياء نراها، نلمسها، نجرّبها. هناك إذًا أشياء موجودة. غير أننا غير قادرين على تفسير وفهم كل ما يتعلق بهذه الظواهر. فعلى الرغم من أنها ظاهرة أمامنا، لا نملك بعد مفاتيح فهمها. نحن جاهلون للظاهرة الدينية. كان علينا أن نبدأ بالجهل. إننا جاهلون، ولكننا نتخاطب وكأننا عالمون علم اليقين في كلّ ما يخص الدين. نحن نجهل الكثير من الأشياء الأساسية التي يعبّر عنها الدين، وما يقوم به في المجتمع والتاريخ. لذلك أستعمل كلمة "الظاهرة"، "ظاهرة الكتاب" وغيرها من الظواهر. من بمقدوره أن يفسر الظاهرة في جميع تشعباتها وأبعادها؟ إلى الآن لم نقدّم طرحًا شاملاً لظاهرة الكتاب مثلاً.
هناك كتاب ألّفه عالم الأديان السويدي وندرغرن (Windergren) بعنوان "محمد رسول الله وظاهرة الكتاب السماوي" (Mohammad the Apostle of God and the Heavenly Book). هذه الفكرة، فكرة الكتاب السماوي، كانت موجودة ومنتشرة في منطقة الشرق الأوسط، وقد استعملها الناس واستعملتها الأديان المختلفة، وبقيت حيّة قرونًا وقرونًا إلى يومنا هذا. غير أن ما كتب عن هذه الظاهرة قليل جدًا، ولا يمكننا استخدامه استخدامًا محقّقا ومثبتًا علميًا.هذه الفكرة لا تزال في مجال "العلم الميتولوجي".
كيف نقارب الظاهرة القرآنية والظاهرة الإنجيلية أو الظاهرة التوراتية؟ يطبّق هذا البيان على القرآن طبعًا، و لكن أيضًا على جميع الكتب المؤسِّسة للأديان. أبعد من ذلك، فهذا البيان يطبق على جميع الكتب أو النصوص التي يستعملها مجتمع ما كمرجعية ملزمة، كالدستور مثلا. فالدستور مرجعية ملزمة، تلزم جميع المواطنين، وهو مرجعية لفصل الخلافات القائمة بين المواطنين في المجتمع. هذا أيضا طرح أنتروبولوجي لمفهوم ظاهرة الكتابة التي لا تخصّ القرآن فقط، أو الإنجيل فقط. هذا هو الفرق بين المقاربة التاريخية الأنتروبولوجية والإنسانية، والمقاربة اللاهوتية للموضوع نفسه. ماذا يقول اللاهوت؟ يقول إن هذا كتاب منزل، وإن اليهود شعب منتخب. بهذين القول والإيمان يحدث ما يحدث، ويعمل البشر ما يعملونه. في ما يتعلق باللاهوت المسيحي يقول الكاردينال راتسينغر[إنه البابا الحالي بينيدكتوس السادس عشر] في نص نشره بعنوان "Dominus Jesus" (السيد المسيح) وعنوان فرعي "Sur l’unicité et l’universalité salvifique de Jesus-Christ et de l’Eglise" (عن الوحدة والكونية المنقذة ليسوع المسيح والكنيسة)، الكلام الآتي:
"علينا التمييز بشدّة بين "الإيمان" اللاهوتي و"العقيدة" في الديانات الأخرى. فبينما "الإيمان" هو استقبال للنعمة الإلهية وللحقيقة المنزلة، تشكّل "العقيدة" في الديانات الأخرى مجموع التجارب والأفكار الإنسانية، هذه الثروة من الحكمة والتديّن التي بلغها الإنسان في بحثه عن الحقيقة وفي تفكيره لواقع العلاقة مع كل ما هو إلهي ومطلق".
تستحق هذه الجملة التحليل والتأويل لأنها تجمع في جملة واحدة مجمل القضايا اللاهوتية التي لم نعالجها بعد معالجة تنطلق من المناهج التي ذكرت. وإذا التمسنا هذه الجملة وترجمناها من منطلق إسلامي لاهوتي وقعنا في مشاكل ومآزق يستحيل علينا الخروج منها . وهذا ما حصل تاريخيًا. فنحن في مآزق بسبب مفاهيم أتتنا من القرون الوسطى، ولا نزال إلى يومنا هذا نعلّمها، ونكرّرها، ونعتمد عليها للتمييز بين ما نسميه الإيمان (La foi) المبني على نموذج لاهوتي، ومانسميه العقائد. فالعقائد موجودة أيضًا في الأديان الأخرى. أما الإيمان النموذجي فنجده في المسيحية حسب التفسير اللاهوتي. لا يحقّ لنا أن نرفضه أو نقبله. نأتي إلى هذا النوع من الخطاب بعد أن نكون قد عبرنا جميع المراحل التي ذكرتها في ما يتعلّق بالتقديم أو التمهيد لدراسة لبّ المشاكل في النصوص المنزلة نفسها.
هناك ما نسميه" المعطى المنزل". التنزيل أعطي، ونحن تلقيناه. أعطاه الله للبشر، وهو لدينا، في متناولنا. و لكن ماذا بإمكان العقل أن يقول اليوم عن هذا المعطى؟ وهو (أي العقل) يمرّ في أزمة معرفية تمس الفكر الديني كما تمسّ الفكر الأخلاقي والفلسفي والعلمي.
قد يغيّر هذا من طبيعة علاقتنا بالخطاب اللاهوتي الذي تلقيناه. وهذا هو المقصود من كل ما قلته عن ضرورة الطرح الجديد للظاهرة الدينية ودراستها بمنهج علمي. ذلك لأن الدراسة العلمية، كما وصفتها، لا تطلب من المسيحي أن يكون أرثوذكسيا أو كاثوليكياً حتى يشارك فيها، ولا تطلب من المسلم أن يكون سنّياً أو شيعيا كي يساهم فيها. هذا علم، نعمل عليه كما نعمل في العلم البيولوجي أو في المختبر. وهذا المفهوم لا يعارض ولا ينفي الدراسة والبحث اللاهوتيين. في كلّ مرّة عرضتُ فيها هذا المفهوم، كان الردّ بأن هذه البحوث لا تعطي أهمية للإيمان وللدين. لقد كان هذا صحيحاً في الممارسة "العلماوية" (Positiviste, Scientiste) التي كان يتبناها العقل في القرن التاسع عشر. أما اليوم، فنعطي الأديان والإيمان والقيم والعقائد الدينية جميع حقوقها، ونعترف بوظائفها في المجتمع. فالدين غير الإيديولوجيا، ولذلك وجب أن ندرسها.
عندما أذكر الإنجيل أو القرآن، أشير إلى شيء أظنه معروفاً وبديهياً. غير أن هذا النوع من استعمال اللفظ يغطي مشاكل غاية في الأهمية ويخفيها عنا كي لا ندرسها دراسة تحليلية وعلمية. هذه النقطة أهملناها، ولانزال، لأننا نتّهم العلوم الاجتماعية والإنسانية بأنها علوم معادية للأديان ونافية لها. وهذا غير صحيح.
ما عسانا نغطّي، وماذا نهمّش، وماذا نترك جانباً ومدفونا دون التفكير فيه في الفكر الإسلامي المعاصر كما في الفكر المسيحي المعاصر؟ ثمة ما يمكن التفكير فيه وما لا يمكن التفكير فيه. ونحن في مجتمعاتنا نعرف ماذا نعني بما لا يمكن التفكير فيه. لا في مجال السياسة فقط، ولكن في مجال الثقافة (الإيديولوجيا) التي نتثقف ونتخاطب بها في الميدان العام، في المجتمع. أما عندما نتخاطب في ما بيننا، فنستخدم لغة أخرى، وخطابا آخر.
• "كلام الله":
أثارت هذه العبارة-المفهوم في التاريخ الإسلامي والمسيحي منذ زمن طويل نقاشات مهمة. ماذا نفهم بعبارة "كلام الله"؟ في ما يخصّ الفكر الإسلامي، الجميع يعرف مساهمة المعتزلة في إشكالية القرآن: هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟ إنها إشكالية مهمة جداً. وطبعاً نرفض هذه الإشكالية اليوم بسبب "الأرثوذكسية".
لا يمكننا التخلّي عن هذا المستوى في البحث. فهو يتطلّب منّا أن نتسلح بأسلحة غير تلك التي لا يزال الخطاب اللاهوتي الرسمي يستعملها إلى يومنا هذا.
"كلام الله" هذا ظهر في مرحلة من مراحل التاريخ وكخطاب شفاهي. لم يظهر كخطاب مكتوب. سيكتب في ما بعد. والكتابة بحدّ ذاتها تثير مشاكل عديدة. مثلاً الحروف العربية، كالكوفية في القرن الأول للهجرة، كانت من دون تنقيط ومن دون حركات. وهذا ما أثار مشاكل. ولكن أهمية هذه المرحلة التاريخية تكمن في دور "الخطاب الشفاهي" في أداء المعنى وتبليغه للمستمع. مثلاً في الكلام الذي تسمعونه مني، لا أكتفي بالأرقام التي أستخدمها لكي أبلّغ ما أريد، بل أستعين بيدي وبوجهي وبصوتي لإضافة معانٍ تسهيلاً للتبليغ. علماء اللسانية المعاصرون يعطون أهمية كبرى لهذا التعبير الشفاهي ويسمونه "سيميولوجيا الخطاب".
أقول هذا من أجل المعنى لأن كل شيء مبني عليه. على أي معنى نبني العقائد؟ وما الذي سيصبح منها عقائد دوغمائية؟ إذا لم نؤمن بها، كما تفترض الخطابات اللاهوتية، نعاقب هنا، في الدنيا.
هذه مسألة مهمة للغاية، وهي لسانية محضة لا تمس العقائد، بل تسعى إلى توضيح ماهيتها التي تبنى على إرادة إبلاغ المعنى الصحيح والأصيل والمقصود في الخطاب الأول كما ألقي على جماعة ما. هذه مرحلة أساسية من حيث الجوهر، وليس فقط من حيث المنهاج. وهذا شامل لكل الأديان. ليس من نزاع بين المسيحية والإسلام اليوم. كلّنا في الوضع نفسه، الذي هو وضع لغوي وتاريخي. لا يمكننا استرجاعه. ما لا يعاد، وما لا تمكن إعادته للتاريخ، هو ثمين.
3. النصوص
ننتقل إلى المرحلة الثالثة أي إلى المجموع الرسمي المعلن من النصوص. هذه النصوص رسمية لأنها نابعة من إرادة رسمية، إرادة الكنيسة. إنها إرادة رسمية من البشر الذين قرّروا أن هناك أناجيل أصيلة وأخرى مختلقة انتشرت في القرنين الأول والثاني بعد المسيح. الأمر عينه حصل مع الأحاديث عند المسلمين، فمنها الصحيح ومنها المختلق. أُغلق الموضوع بعد أن تقرّر أن الأناجيل الأربعة التي يجب الاعتماد عليها هي الأناجيل الصحيحة، وأن المصحف العثماني هو المصحف الصحيح الذي يجب أن يُعتمد. ومن ثمّ أغلق النقاش.
ما معنى "أُغلق"؟ معناه أنه إذا جاء راوٍ من الرواة ليقول "بلغني عن فلان وفلان أن النبي قد قال كذا وكذا بصدد آية محددة"، فالجواب أن الأمر منتهٍ، مغلق. أكثر من ذلك. في تفسير الطبري للآية 12 من سورة النساء، قراءتان. وقد قرأ الطبري في قراءتيه 28 خبراً. أخبار تروي أشياء مختلفة. لذلك نقرأ اليوم النصوص في مجموعات مغلقة. في هذا ما يثير مشاكل في طرق التفسير، وتحديد محتوى النصوص ومعناها.
4. الخطاب الديني
المجموعات المفسّرة: تفسير الطبري كناية عن مجموعة بل موسوعة من العلوم تصحّ لتكون مرجعاً لكل من يفسر القرآن، فيستمد منها المعلومات التي جمعها الطبري. والشيء عينه في ما يتعلّق بالتوراة والأناجيل. هناك مجموعات تؤلّف، فيُعتمد عليها. إنها مجموعات لاهوتية بالنسبة إلى المسيحيين، ومجموعات شرعية في ما خصّ الشريعة عند المسلمين.
تاريخ التفسير كوّن تصوراتنا، وفهمنا، وكلّ ما نسميه عقائدنا في ما تؤلفه النصوص المنزلة. فالوصول إلى النص المنزل يكون من خلال المجموعات التي تراكمت منذ القرون الوسطى إلى يومنا هذا.
ما أقدّمه هنا هو برنامجاً للعلم والبحوث، لأننا لم نقُم ببحوث علمية عن كل مرحلة من هذه المراحل. نكتفي اليوم بالإحالة إلى المستوى الأول: هذا "كلام الله". أما المستوى الثاني، فهو ما سمعناه عن النبي أو عن المسيح. كل هذا نصل إليه من خلال الكتب التي لا نزال ندرّسها حسب القواعد والمناهج المتّبعة والموضوعة منذ زمن. إنها قضايا شائكة ومهمة، ولها تأثير في خطاباتنا إلى اليوم.
بدأت حديثي بأنه، حتى في أواخر القرن العشرين، استعمل كلٌّ من بوش وميتران المعجم الديني لتبرير الحروب، وذلك من أفواه تعتقد بالنظام العلماني وتؤيّده. في المجتمعات التي أحدثت ثورة في فصل الدين عن الدولة، نجد أن الظاهرة الدينية مهملة وغير مدروسة. والدليل على ذلك ان وزيراً في فرنسا هو جاك لانغ (Jack Lang) أسّس، ولأول مرّة، معهداً أوروبيا يُعنى بدراسة الأديان. هذه خطوة جديدة. وعندما أعلن عن ذلك، طُرح عليه السؤال الأول الذي هو: أين هم المعلمون والأساتذة الذين بإمكانهم أن يدرّسوا الأديان حسب الذهنية العلمية، العلمانية، الفلسفية، الأنتروبولوجية التي ذكرتموها في مقدمتكم؟
إذا كان هذا الكلام قد قيل في فرنسا، ولفرنسا المكانة المعروفة في مجال العلماء والجامعات، فماذا نقول عندنا عن جامعاتنا؟ الحمد للّه أن عندنا جامعة البلمند التي أتاحت لنا هذه الفرصة لنطرح هذه الأفكار راجين أن تلقى من يتبنّاها في هذا البلد، الثري بثقافاته وبما يسمّونه الطوائف، وأنا أسميها "الذاكرات الجماعية" الحاملة لثروة ثقافية. يجب أن تحظى هذه الذاكرات بما تستحقّه من اهتمام، وأن نتيح لها فرصة أن تنطق وتعبّر عن نفسها بلهجاتها لا باللغة العالمة، الفصحى. وذلك لأن التعرّف على كل ذاكرة لا يستقيم إلاّ من طريق اللهجة التي يتم التكلم بها في الأسرة، في الشارع، في الخطاب اليومي. هناك كتب كثيرة نقرأها، ولكن علينا أن نقرأ السطر الأول والثاني، وألاّ نكتف بالأول فقط.
في يوم العرفان: فلسطين تبقى هي العنوان
مداخلة سعود المولى في احتفال مؤسسة العرفان بعيدها السنوي
خير الكلام ما قلّ ودلّ.......... وأول الكلام العرفان، والعرفان في عرف بني معروف معرفة، وأول المعرفة بحسب أهل العرفان معرفة الحق، ومعرفة الحق هي طريق كل معرفة بحسب إمامنا عليّ عليه السلام: "اعرف الحق تعرف أهله"، ومعرفة أهل الحق بداية الإنسانية لأنها بداية كل تعارف الذي هو أصل كل اجتماع بشري : "يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم"..
وأهل الحق والعرفان صار لهم اليوم عنوان: مؤسسة تربوية تعليمية ثقافية اجتماعية نهضوية رائدة.......... فتحية الى أصحاب هذا المقام، مؤسسة العرفان، وتحية الى أهلها والقائمين عليها من مشايخ أجلاء، ومن مربين ومربيات، وعاملين وعاملات..... وتحية اليكم جميعاً في يوم العرفان هذا...........
والعرفان أيضاً خصال حميدة ومكارم أخلاق بُعِث بها ولها كل الانبياء (جاء في الحديث النبوي الشريف:انما بُعثتُ لأتمم مكارم الاخلاق)..."فمن منحه الله القبول والترقي والعروج الى حد الانسانية كان من ثمرة أفعاله العقل والعلم والسكون والرزانة والعفاف والنظافة والطاعة والصبر ومكارم الاخلاق "( على ما جاء في المأثور عن السيد التنوخي)..
هكذا عرفت اخواني بني معروف الموحدين وهكذا أعرفهم اليوم حين يعودون الى الاصول والى الجذور، لتأسيس الحاضر والمستقبل على قواعد ثابتة ، فيبدأون من حيث كانوا، في أن الدين النصيحة، وأن الدين المعاملة، وأن الدين الاستقامة ... وهم في ذلك لا يستوحون غير معاني المسلك التوحيدي العرفاني لبني معروف.. ولا يفعلون غير تجسيد الخصال العربية الأصيلة لجبل عربي أشم حمل أهلوه رايات النبل والشهامة والمعرفة والزهد والمودة الصادقة والشجاعة.. وقد رفع تلك الرايات أعلام كبار من الامير السيد عبد الله التنوخي الى الشيخ الفاضل محمد بو هلال ، ومن أسد العروبة سلطان باشا الأطرش الى فارسها وأميرها شكيب أرسلان، ومن بطل معركة دمشق 1945 المقدام الشيخ محمد أبو شقرا، الى معلّم الأجيال وحارس مبادئ النضال كمال جنبلاط .......
وما كان الدروز في تاريخهم الا حماة الثغور والذادة عن الأرض والعرض ، ونحن وهم مدعوون اليوم ، كما في الامس الى الاستقامة على الحق كما أمر رب العباد ، والاستقامة على العدل، ولو على النفس أو ذي قربى ، فالعدل هو أساس كل ملك وحكم، وهو أقرب الى التقوى، وذلكم هو الجهاد الأكبر.......
ونحن وهم مدعوون اليوم الى العمل على لمّ الشمل وتوحيد الصفوف خوفاً على التجربة اللبنانية وعلى العيش المشترك وعلى عروبة لبنان وعلى مستقبل فلسطين والعرب ...
ونحن وهم مدعوون اليوم الى التزام القول الحسن، والحكمة، والموعظة ، دون مزايدات أو تشبيح ، ودون تعبئة أو تحريض، وذلكم هو طريق العرفان....
أيها الاخوة والاخوات ، سادتي المشايخ الاجلاء........
من معاني هذا اليوم الثقافي المجيد التأكيد على معنى الاختلاف وعلى حق الاختلاف وعلى حرية التعبير عن الاختلاف ... فالاختلاف سنّة الهية وحقيقة بشرية طبيعية....
"ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً"، "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة"........
ومن معانيه ايضاً التأكيد على أن الخلاف والاختلاف لا ينبغي أن يفسد للعيش المشترك قضية ، ولا أن يورث الإحن والبغضاء والتفرق والتنازع ، "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"، وانما تنافسوا في الخير والعمل الصالح والبر والتقوى، وفي خدمة الحق والعدل.......
هكذا تتأسس الاوطان ، وقد كان بنو معروف من مؤسسي هذا الوطن، وهكذا تحفظ العروبة وقد كان بنو معروف سيف العروبة ورمحها وترسها على مر الأزمان........ وهم اليوم أمام تحدي حفظ هذا الوطن وصيانة سلمه الأهلي وعيشه المشترك ...والاستمساك بعروبة لبنان وبحرية فلسطين وبعزة العرب وتقدمهم.....
ومن خلال الاضاءة على تاريخ القوم وعاداتهم وتقاليدهم ، تضيء مؤسسة العرفان على تجذّر
المعروفيين الموحدّين في إسلامهم وعروبتهم وفي خصوصية مذهبهم، وفرادة مسلكهم ،ما يجعل تلك الخصوصية والفرادة مداميك معمار متوازن لشخصية سوية متوازنة، تقوم على الانفتاح والتسامح،لا الانعزال والانغلاق،وعلى الحرية والكرامة والمساواة، لا الالغاء أو الاقصاء او الغلبة، وعلى التكامل في التنوع والتعدد ، وعلى الاعتراف بهذا التعدد والتنوع دون خجل أو تمويه ، وعلى الاعتراف بأهمية كل مكوّن وبخصوصية كل انتماء بذاته، وبها جميعاً ومعاً ، ما يشكل معنى لبنان وسر اجتماعه الأهلي والسياسي، ومعنى هوية اللبنانيين والعرب.
ان الأمانة للتراث الروحي والثقافي والحضاري للموحدين الدروز في لبنان ودنيا العرب، هي أمانة للبنان أولاً وللعروبة ثانياً وللاسلام ثالثاً، دون تعصب أو عنصرية أو انعزال ودون ادعاء أو تفاخر.. وهي أمانة لوصايا المسلك التوحيدي في صدق اللسان وحفظ الاخوان، وفي عفة اليد واللسان، وفي الزهد والامتناع عن كل حرام، وفي الشجاعة والإقدام....... وعلى هذا الطريق يسير الموحدون الدروز اليوم من أجل اعادة الاعتبار للثوابت والمسلمات التالية:
1= ان لبنان بلد صعب ولكنه ممكن... ووجه الصعوبة يكمن في تجاوز إحن الماضي ومحن الجهل والتعصب، وفي فهم الواقع وطريقة التعامل معه لبناء الممكن والمطلوب، أي العيش الواحد القائم على احترام الخصوصيات الدينية والمذهبية والثقافية، واحترام التوازن، والحرية والمساواة والكرامة للجميع وبين الجميع....
2= ان الممكن يصير حاضراً عبر الحوار الدائم .. والحوار ليس لغة خشبية أو خطابات رنانة بل هو صدق ومصارحة ومكاشفة وصولاً الى المودة والمصالحة، مع الذات قبل الآخر.. فالحوار المطلوب هو حوار الصداقة لا المجاملة، وحوار الصدق لا التقية، وحوار المصالحة لا تسجيل النقاط......
3= ان الحوار الحق يفضي بأهله الى ميثاق وعهد "إن العهد كان مسؤولاً". وعهدنا وميثاقنا ودستورنا اليوم هو اتفاق الطائف...... فالحفاظ على ميثاق ودستور الطائف، والسعي الى تطبيقهما وتطويرهما هو عهدنا في هذا اليوم وفي هذا المقام.
4= إن لبنانيتنا وحرصنا على الوطن النهائي هي جزء من عروبتنا والتزامنا قضايا العرب ومصيرهم........ فلا انعزال ولا تطرف، ولا إفراط ولا تفريط ، بل معادلة صادقة شفافة صاغها الامير شكيب ارسلان في مطلع القرن العشرين ، وحملها المعلّم كمال جنبلاط حتى لحظة استشهاده، وفي القلب منها فلسطين: الاسم الحركي لكل أحلامنا وآمالنا، نحن وأنتم مؤتمنون عليها.... الى يوم الدين...........
5= ختاماً أذكر وأتذكّر وأذكرّكم قول أحمد شوقي في الموحدين الدروز:
"وما كان الدروز قبيلَ شرٍ وإن اُخذوا بما لم يستحقوا
ولكن ذادة وقراة ضيف كينبوع الصفا خشنوا ورقوا
لهم جبل أشم له شعاف موارد في السحاب الجون بلقُ
لكل لبوءة ولكل شبل نضال دون غايته ورشقُ
كأن من السمؤل فيه شيئاً فكل جهاته شرفٌ وخُلُقُ
الدكتور سعود المولى
عضو المكتب التنفيذي للجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو
عضو الفريق العربي للحوار الاسلامي المسيحي
أستاذ في معهد العلوم الاجتماعية - الجامعة اللبنانية
خير الكلام ما قلّ ودلّ.......... وأول الكلام العرفان، والعرفان في عرف بني معروف معرفة، وأول المعرفة بحسب أهل العرفان معرفة الحق، ومعرفة الحق هي طريق كل معرفة بحسب إمامنا عليّ عليه السلام: "اعرف الحق تعرف أهله"، ومعرفة أهل الحق بداية الإنسانية لأنها بداية كل تعارف الذي هو أصل كل اجتماع بشري : "يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم"..
وأهل الحق والعرفان صار لهم اليوم عنوان: مؤسسة تربوية تعليمية ثقافية اجتماعية نهضوية رائدة.......... فتحية الى أصحاب هذا المقام، مؤسسة العرفان، وتحية الى أهلها والقائمين عليها من مشايخ أجلاء، ومن مربين ومربيات، وعاملين وعاملات..... وتحية اليكم جميعاً في يوم العرفان هذا...........
والعرفان أيضاً خصال حميدة ومكارم أخلاق بُعِث بها ولها كل الانبياء (جاء في الحديث النبوي الشريف:انما بُعثتُ لأتمم مكارم الاخلاق)..."فمن منحه الله القبول والترقي والعروج الى حد الانسانية كان من ثمرة أفعاله العقل والعلم والسكون والرزانة والعفاف والنظافة والطاعة والصبر ومكارم الاخلاق "( على ما جاء في المأثور عن السيد التنوخي)..
هكذا عرفت اخواني بني معروف الموحدين وهكذا أعرفهم اليوم حين يعودون الى الاصول والى الجذور، لتأسيس الحاضر والمستقبل على قواعد ثابتة ، فيبدأون من حيث كانوا، في أن الدين النصيحة، وأن الدين المعاملة، وأن الدين الاستقامة ... وهم في ذلك لا يستوحون غير معاني المسلك التوحيدي العرفاني لبني معروف.. ولا يفعلون غير تجسيد الخصال العربية الأصيلة لجبل عربي أشم حمل أهلوه رايات النبل والشهامة والمعرفة والزهد والمودة الصادقة والشجاعة.. وقد رفع تلك الرايات أعلام كبار من الامير السيد عبد الله التنوخي الى الشيخ الفاضل محمد بو هلال ، ومن أسد العروبة سلطان باشا الأطرش الى فارسها وأميرها شكيب أرسلان، ومن بطل معركة دمشق 1945 المقدام الشيخ محمد أبو شقرا، الى معلّم الأجيال وحارس مبادئ النضال كمال جنبلاط .......
وما كان الدروز في تاريخهم الا حماة الثغور والذادة عن الأرض والعرض ، ونحن وهم مدعوون اليوم ، كما في الامس الى الاستقامة على الحق كما أمر رب العباد ، والاستقامة على العدل، ولو على النفس أو ذي قربى ، فالعدل هو أساس كل ملك وحكم، وهو أقرب الى التقوى، وذلكم هو الجهاد الأكبر.......
ونحن وهم مدعوون اليوم الى العمل على لمّ الشمل وتوحيد الصفوف خوفاً على التجربة اللبنانية وعلى العيش المشترك وعلى عروبة لبنان وعلى مستقبل فلسطين والعرب ...
ونحن وهم مدعوون اليوم الى التزام القول الحسن، والحكمة، والموعظة ، دون مزايدات أو تشبيح ، ودون تعبئة أو تحريض، وذلكم هو طريق العرفان....
أيها الاخوة والاخوات ، سادتي المشايخ الاجلاء........
من معاني هذا اليوم الثقافي المجيد التأكيد على معنى الاختلاف وعلى حق الاختلاف وعلى حرية التعبير عن الاختلاف ... فالاختلاف سنّة الهية وحقيقة بشرية طبيعية....
"ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً"، "ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة"........
ومن معانيه ايضاً التأكيد على أن الخلاف والاختلاف لا ينبغي أن يفسد للعيش المشترك قضية ، ولا أن يورث الإحن والبغضاء والتفرق والتنازع ، "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"، وانما تنافسوا في الخير والعمل الصالح والبر والتقوى، وفي خدمة الحق والعدل.......
هكذا تتأسس الاوطان ، وقد كان بنو معروف من مؤسسي هذا الوطن، وهكذا تحفظ العروبة وقد كان بنو معروف سيف العروبة ورمحها وترسها على مر الأزمان........ وهم اليوم أمام تحدي حفظ هذا الوطن وصيانة سلمه الأهلي وعيشه المشترك ...والاستمساك بعروبة لبنان وبحرية فلسطين وبعزة العرب وتقدمهم.....
ومن خلال الاضاءة على تاريخ القوم وعاداتهم وتقاليدهم ، تضيء مؤسسة العرفان على تجذّر
المعروفيين الموحدّين في إسلامهم وعروبتهم وفي خصوصية مذهبهم، وفرادة مسلكهم ،ما يجعل تلك الخصوصية والفرادة مداميك معمار متوازن لشخصية سوية متوازنة، تقوم على الانفتاح والتسامح،لا الانعزال والانغلاق،وعلى الحرية والكرامة والمساواة، لا الالغاء أو الاقصاء او الغلبة، وعلى التكامل في التنوع والتعدد ، وعلى الاعتراف بهذا التعدد والتنوع دون خجل أو تمويه ، وعلى الاعتراف بأهمية كل مكوّن وبخصوصية كل انتماء بذاته، وبها جميعاً ومعاً ، ما يشكل معنى لبنان وسر اجتماعه الأهلي والسياسي، ومعنى هوية اللبنانيين والعرب.
ان الأمانة للتراث الروحي والثقافي والحضاري للموحدين الدروز في لبنان ودنيا العرب، هي أمانة للبنان أولاً وللعروبة ثانياً وللاسلام ثالثاً، دون تعصب أو عنصرية أو انعزال ودون ادعاء أو تفاخر.. وهي أمانة لوصايا المسلك التوحيدي في صدق اللسان وحفظ الاخوان، وفي عفة اليد واللسان، وفي الزهد والامتناع عن كل حرام، وفي الشجاعة والإقدام....... وعلى هذا الطريق يسير الموحدون الدروز اليوم من أجل اعادة الاعتبار للثوابت والمسلمات التالية:
1= ان لبنان بلد صعب ولكنه ممكن... ووجه الصعوبة يكمن في تجاوز إحن الماضي ومحن الجهل والتعصب، وفي فهم الواقع وطريقة التعامل معه لبناء الممكن والمطلوب، أي العيش الواحد القائم على احترام الخصوصيات الدينية والمذهبية والثقافية، واحترام التوازن، والحرية والمساواة والكرامة للجميع وبين الجميع....
2= ان الممكن يصير حاضراً عبر الحوار الدائم .. والحوار ليس لغة خشبية أو خطابات رنانة بل هو صدق ومصارحة ومكاشفة وصولاً الى المودة والمصالحة، مع الذات قبل الآخر.. فالحوار المطلوب هو حوار الصداقة لا المجاملة، وحوار الصدق لا التقية، وحوار المصالحة لا تسجيل النقاط......
3= ان الحوار الحق يفضي بأهله الى ميثاق وعهد "إن العهد كان مسؤولاً". وعهدنا وميثاقنا ودستورنا اليوم هو اتفاق الطائف...... فالحفاظ على ميثاق ودستور الطائف، والسعي الى تطبيقهما وتطويرهما هو عهدنا في هذا اليوم وفي هذا المقام.
4= إن لبنانيتنا وحرصنا على الوطن النهائي هي جزء من عروبتنا والتزامنا قضايا العرب ومصيرهم........ فلا انعزال ولا تطرف، ولا إفراط ولا تفريط ، بل معادلة صادقة شفافة صاغها الامير شكيب ارسلان في مطلع القرن العشرين ، وحملها المعلّم كمال جنبلاط حتى لحظة استشهاده، وفي القلب منها فلسطين: الاسم الحركي لكل أحلامنا وآمالنا، نحن وأنتم مؤتمنون عليها.... الى يوم الدين...........
5= ختاماً أذكر وأتذكّر وأذكرّكم قول أحمد شوقي في الموحدين الدروز:
"وما كان الدروز قبيلَ شرٍ وإن اُخذوا بما لم يستحقوا
ولكن ذادة وقراة ضيف كينبوع الصفا خشنوا ورقوا
لهم جبل أشم له شعاف موارد في السحاب الجون بلقُ
لكل لبوءة ولكل شبل نضال دون غايته ورشقُ
كأن من السمؤل فيه شيئاً فكل جهاته شرفٌ وخُلُقُ
الدكتور سعود المولى
عضو المكتب التنفيذي للجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو
عضو الفريق العربي للحوار الاسلامي المسيحي
أستاذ في معهد العلوم الاجتماعية - الجامعة اللبنانية
الكنيسة.. والوطن.... محمد سليم العوا
د. محمد سليم العوا
منذ سنين ناقشنا، في الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي، سبل التعايش بين المسلمين وغير المسلمين في الوطن الواحد وفي أوطان شتى. وانتهينا يومئذ إلى إصدار وثيقة سميناها (العيش الواحد) أصبحت هي دستور عمل الفريق، ووصفت في تصديرها ـ بحق ـ بأنها «دعوة للناس، وشهادة بينهم، وميثاق للعمل العربي الإسلامي ـ المسيحي».
• وكان مما قررته تلك الوثيقة أن الحوار ينطلق «من احترام حق الآخر في اعتقاده، وتعزيز الأسس الدينية للعيش الواحد في وطن واحد» وهذا الحوار لا يستقيم «بغير احترام الخصوصيات والمشاعر والرموز والمقدسات الدينية الإسلامية والمسيحية. ولا يقتصر ذلك على سلوك أهل كل من الدينين تجاه أهل الدين الآخر، وإنما يعبر عن نفسه كذلك في وقوف الطرفين معًا ضد أي امتهان لمقدسات أيِّ منهما أيًا كان مصدره» [الفريق العربي للحوار الإسلامي ـ المسيحي، الحوار والعيش الواحد، بيروت 2001].
• وفي سنة 2008 أصدر الفريق العربي نفسه وثيقته الثانية بعنوان «وثيقة الاحترام المتبادل بين أهل الأديان». وقد نصت هذه الوثيقة في فقرتها رقم (7) على أنه: «ينبغي على أهل كل دين ألا يخوضوا في خصوصيات دين آخر. وينطبق هذا على أهل المذاهب المختلفة والفرق المتعددة في الدين الواحد... وإشاعة أمر التعارض أو التناقض، بين عقيدة وغيرها من العقائد، لا يؤدي إلا إلى البغضاء والشحناء وإغراء الناس بعضهم ببعض...».
• ونصت الوثيقة نفسها في فقرتها رقم (9) على أنه: «من حق أهل كل دين أو عقيدة أن يتوقعوا من مخالفيهم تصحيح ما يرتكب في حقهم من خطأ، والاعتذار عما يصدر من هؤلاء المخالفين أو بعضهم من إساءة أو إهانة أو قول أو فعل لا يليق. ولا يجوز لمن وقع منه الخطأ: غفلة أو هفوة أن يستكبر عن تصحيحه أو يبحث عن تأويله وتبريره» [الفريق العربي للحوار الإسلامي ـ المسيحي، وثيقة الاحترام المتبادل بين أهل الأديان، بيروت 2008].
• وهذه المبادئ التي صاغها الفريق العربي للحوار الإسلامي ـ المسيحي للتعبير عما تراه جموع المؤمنين بالدينين حافظًا لوحدتها الوطنية، وعاصمًا لها من الفرقة، وحائلا بينها وبين التعصب الممقوت، لو اتبعها رجال الكنيسة المصرية في تناولهم للمسائل المتعلقة بالإسلام والمسلمين لما وقعت فتن كثيرة اصطلى بنارها المصريون جميعًا أقباطًا ومسلمين. والفتن، وحوادث التعصب وما يصاحبها من تطورات حمقاء من أيِّ من الطرفين، مهما خمد أورُاها وأطفأت جهود (المصالحة) نارَها، واعتذر المتسبب فيها، أو من يتحدث باسم جهة ينتمي إليها، عما كان منه ــ مهما وقع ذلك كله فإن الفتن المتوالية تتراكم آثارها في النفوس، وينشأ على ذكريات كل منها جيل أو أجيال من أبناء الوطن وبناته يفتقدون صفاء النفس نحو المخالف لهم في الدين، وينظرون إليه نظرة العدو المتربص لا نظرة الشريك في الدار، ولا نظرة الأخ في الوطن.
• فإذا تكلم الأنبا بيشوي أسقف دمياط وكفر الشيخ والبراري (المصري اليوم: 15/9/2010) عن الجزية ضاربًا عُرض الحائط بكل ما انتهت إليه الدراسات الإسلامية في شأنها، وكأن شيئًا منها لم يكن، فإن هذا الحديث لا يؤدي إلى شيء إلا إلى إثارة ضغائن الأقباط على إخوانهم المسلمين، وبعث فتنة لا مسوغ لها، تعمل عملها في هدم بناء الوطن بتحطيم علاقات الأخوة فيه. سيذكر الأقباط كلام الأنبا بيشوي عن الجزية وهم لم يدفعوها ـ ولا هو دفعها ـ قط، وسينسون كل العلاقات الوادة الراحمة بينهم وبين المسلمين المعاصرين لهم وهم لم يقبضوا الجزية قط!! فما الذي يستفيده نيافة الأنبا من هذه المسألة؟ وما الذي يعود على الشعب المصري من ذكرها؟
• وعندما يتحدث عن الاستشهاد، ويؤيده فيما قال رأس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، البابا شنودة، مفسرًا الاستشهاد بأنه في المفهوم المسيحي الموت في سبيل المبدأ أو العقيدة دون قتال لأن الاستشهاد في القتال موت وقتل وليس استشهادًا بالمعنى المسيحي. (حديثه مع الإعلامي عبد اللطيف المناوي، الحلقة الثانية، 27/9/2010).
أقول عندما يتحدث أنبا موقر والبابا نفسه عن هذا المفهوم فإن من واجبهما أن يراعيا، مع المفهوم المسيحي الذي يقولان به، المعنى العربي اللغوي، والمعنى الإسلامي، للاستشهاد، وهو الموت في سبيل الله؛ الذي قد يكون في قتال وقد لا يكون، كما في الرجل يقول كلمة حق عند سلطان جائر فيقتله، وقد سمي في الحديث النبوي (سيد الشهداء) وقرن بحمزة بن عبد المطلب ، فكيف غاب هذا عن الرجلين، وغيرهما، وهما يتحدثان عن الاستشهاد.
ثم إن هذا الذي يموت في سبيل العقيدة، بغير قتال، يموت بلا شك مظلومًا مضطهدًا، فأين هي مظاهر هذا الاضطهاد الذي سيصل بمن يقع عليهم إلى حد القتل في سبيل مبدئهم؟؟ إن الاعتذار عن التهديد بالاستشهاد بإيراد معناه في المسيحية لا يزيد الطين إلا بلة لأنه يتضمن اتهامًا للمسلمين باضطهاد الأقباط، وهو اتهام باطل قطعًا فلا المسلمون في مصر يضطهدون الأقباط ولا الأقباط يضطهدون المسلمين، لكنه التلاسن السياسي الذي لم يستطع أحد أن يدرك ماذا أراد منه الأنبا بيشوي عندما أورده خارج سياق حديث (المصري اليوم) معه، وعندما نبهته الصحفية التي كانت تحاوره إلى السياق الصحيح للسؤال ذكرنا بأحداث سبتمبر 1981 ولم يصحح جوابه عن سؤالها.
• وأحداث سبتمبر 1981، فيما يخص الكنيسة القبطية، قطع كل قول فيها حكم محكمة القضاء الإداري في الدعوى رقم 934 لسنة 36ق التي كانت مقامة من البابا شنودة الثالث ضد رئيس الجمهورية وآخرين، والعودة إلى أوراق هذه الدعوى، وأسباب حكمها، لا تفيد نيافة الأنبا بيشوي ولا تفيد البابا. والحكم منشور في مصادر كثيرة يستطيع الرجوع إليها من شاء، إذ ليس المقام هنا مقام تذكير بأخطاء الماضي، لكنه مقام تصويب لما لا يصح من مقولات الحاضر.
• كما أقحم الأنبا بيشوي أسقف دمياط وكفر الشيخ والبراري، سكرتير المجمع المقدس في حديثه مع (المصري اليوم) حكاية (الضيوف) وذكر أحداث 1981، أقحم في بحثه المعنون (الميديا وتأثيرها على الإيمان والعقيدة) فقرة من 4 صفحات كاملة تتحدث عن القرآن الكريم، ومعاني بعض آياته، ومدى تناسق ما تذكره بعضها مع ما تذكره آيات أخرى. والبحث أعده صاحبه ليلقيه في مؤتمر العقيدة الأرثوذكسية 13 الذي عرف إعلاميًا باسم مؤتمر تثبيت العقيدة. واعترض على كلمة (تثبيت) البابا شنودة في حديثه مع الأستاذ عبد اللطيف المناوي (26/9/2010).
• ومما اتخذتُه سبيلا في علاقتي بإخواني غير المسلمين جميعًا ألا أدخل معهم في نقاش حول ديني أو دينهم، لأنني أعتقد أن الأديان والمذاهب مُطْلقاتٌ عند أصحابها، لا تحتمل التبديل ولا التغيير، ولا يقبل المؤمنون بها احتمال خطئها، صغيرًا كان الخطأ أم كبيرًا. إن الجائز بين أهل الأديان هو الإجابة عن سؤال أو شرح مسألة لمن لم يعرفها، إذا وُجِّه ذلك السؤال أو طُلِبَ هذا الشرح. وما سوى ذلك لا يجوز. وهذا هو مضمون ما تقرره وثيقتا: العيش الواحد، والاحترام المتبادل اللتين ذكرتهما آنفًا.
لذلك لن أعيد ما قاله الأنبا بيشوي في بحثه المذكور عن القرآن الكريم، فاعتقادي أنه ليس من حقه مناقشة القرآن ولا الجدل في شأن كيفية تفسيره، ولا محاولة التوفيق بين معاني بعض آياته ومعاني العقيدة المسيحية كما يؤمن بها هو ومن يتبعون مذهبه.
• غير أن كلام الأنبا بيشوي عن القرآن الكريم فيه مسائل تحتاج إلى بيان. ولست أوجه هذا البيان له وحده، ولكنني أوجهه إلى كل من قرأ بحثه أو استمع إليه، أو تابع ما نشرته الصحف وأذاعته وسائل الإعلام عنه.
- المسألة الأولى: أن الأنبا بيشوي نقل كلامًا نسبه إلى الفخر الرازي (أبو الفضل محمد فخر الدين بن عمر بن الحسين الرازي المتوفى سنة 606) في كتابه: التفسير الكبير، قال الأنبا بيشوي إن الفخر الرازي يقول عن تفسير قوله تعالى: {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم} [النساء:157] بأن المصلوب شخص غير عيسى بن مريم عليه السلام: «إنها إهانة لله أن يجعل شخصًا شبهه يصلب بدلا منه، لأن هذا يعني أن الله غير قادر على أن ينجيه. وهكذا فقد أورد لنا أدلة لم نذكرها نحن من قبل... وقال أيضًا ما ذنب الذي صلب في هذه الحالة إن هذا يعتبر ظلم (كذا)....» [ص43 من بحث الأنبا بيشوي والنقاط الثلاث من أصل نصه].
- ولا يقتضي الأمر أكثر من الرجوع إلى التفسير الكبير ليتبين القارئ الكريم أمرين: الأول، أن الألفاظ التي زعم الأنبا بيشوي أنها من كلام الفخر الرازي لا توجد في كلامه قط. الثاني، أن الفخر الرازي أورد الأقوال في شأن قوله تعالى {ولكن شبه لهم} وردَّ عليها، واختار أصحها في نظره، وأنه لما ناقش كيفية إلقاء شبه المسيح عليه السلام على الشخص الذي صلبه اليهود والرومان ذكر أربعة أقوال في شرح تلك الكيفية وانتهى إلى أن «الله أعلم بحقائق الأمور». ولم يرد في كلامه في أي موضع تعبير (إن هذا يعتبر ظلمًا) ولا تعبير (أن هذا يعني أن الله غير قادر على أن ينجيه). [تفسير الفخر الرازي، ج11، ط المطبعة المصرية، القاهرة 1938، ص 99. ورقم الآية من سورة النساء هو 157 وليس 156 كما ذكره الأنبا بيشوي].
وأنا أترك للقارئ أن يحكم على هذا الصنيع ومدى صلته بالعلم، الذي من بركته عندنا الدقة في نسبة كل قول إلى قائله، ومدى صلته بواجب الأحبار والرهبان في حفظ أمانة الكلمة وتأديتها إلى الذين يتحدثون إليهم.
- المسألة الثانية: أن الأنبا بيشوي يحكي قصة حوار بينه وبين الملحق العسكري المصري في منزل سفير مصر في قبرص (لم يذكر اسم السفير ولا اسم الملحق العسكري) وينتهي منها إلى أن الملحق العسكري وافقه على تفسيره لقول الله تعالى {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح عيسى بن مريم قل فمن يملك من الله شيئًا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعًا ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير} [المائدة:17].
ودون دخول في تفصيلات الحوار الذي ذكره الأنبا بيشوي، أقول إنه حوار لا معنى له ولا جدوى منه، ودار ـ إن صحت الرواية ـ بينه وهو غير مختص ولا متخصص وبين رجال مثله غير مختصين ولا متخصصين، فكان حاصله صفرًا ، لا يقتضي تعقيبًا ولا يستحق ردًا. لكن المهم في الأمر كله أن محاولة إعادة فهم القرآن الكريم على خلاف ما فهم منه على مدى التاريخ الإسلامي كله محاولةٌ مآلها الإخفاق، ونتيجتها إثارة الفتنة بين الأقباط والمسلمين إذا ردد الأقباط فهم الأنبا بيشوي وفهم الملحق العسكري!! وقد كان حريًا بالأنبا بيشوي ألا يقتحم هذا المجال أصلا فليس هو من رجاله ولا أهله. ومما يحسُنُ بالمرء ألا يهرف بما لا يعرف وبخاصةٍ إذا ترتب على ذلك أن تحدث وقيعة بين أبناء الوطن الواحد يحمل وزرها الذين يجادلون فيما ليس لهم به علم.
- المسألة الثالثة: أن الأنبا بيشوي يتساءل عما إذا كانت الآية الكريمة (وصفها من عندي) «قيلت أثناء بعثة نبي الإسلام، أم أضيفت أثناء تجميع عثمان بن عفان للقرآن الشفوي وجعله تحريري(؟)، لمجرد وضع شيء ضد النصارى» ويتساءل قبل ذلك عما إذا «كانت قد قيلت وقتما قال نبي الإسلام القرآن أم أنها أضيفت فيما بعد، في زمن متأخر».
والتساؤلان غير مشروعين، وفي غير محلهما، ووجها إلى من لا شأن له في الجواب عليهما.
فالنبي لم (يقل) القرآن, إنما تنزل عليه القرآن من لدن عليم حكيم. وأنا لا أريد من نيافة الأنبا، ولا من أي مسيحي، أن يقر لي بنبوة محمد لأنه إن فعل ذلك خرج من عقيدته الحالية، وليس هذا مطلبي. لكنني أتوقع منه أن لا يهين كتابنا الكريم (القرآن) وينسبه إلى مخلوق، ولو كان هو النبي نفسه، لأن في ذلك إهانةً لا تقبل، ومساسًا لا يحتمل بالإسلام نفسه.
والخليفة الثالث، عثمان بن عفان، لم يحوّل القرآن من شفهي إلى تحريري. بل كان القرآن الكريم يكتب فور نزوله على النبي آية آية، وقطعة قطعة، وسورة سورة، وهذا كله مبسوط في كتب علوم القرآن التي لو طالعها أي ملمٍ بالقراءة والكتابة لم يقل مثل الكلام الذي كتبه الأنبا بيشوي في بحثه.
وأخشى ما أخشاه أن يفهم المسلمون الذين يقرأون كلام الأنبا بيشوي أن المقصود هو التسوية بين النص القرآني المتواتر بلا خلاف وبين نصوص دينية أخرى لم تدون إلا بعد أكثر من مئتي سنة من انتهاء عصر الأنبياء المنسوبة إليهم.
ومثل هذه المحاولة تعني التشكيك في تواتر القرآن. والتساؤل عما إذا كانت آية ما أضيفت إلى القرآن الكريم «في زمن متأخر» تكذيب لا يقبله مسلم، بقول الله تعالى {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر:9].
• ولذلك فقد أحسن البابا شنودة عندما قال في حديثه مع الأستاذ عبد اللطيف المناوي: «آسف إنه يحصل جرح لشعور المسلمين، ونحن مستعدون لأي ترضية» (الحلقة المذاعة في 26/9/2010).
والترضية الواجبة لا تكون إلا بأن يعتذر الأنبا بيشوي نفسه عما قال وفعل وكتب. إن البابا شنودة، وهو رأس الكنيسة لا يجوز أن يتحمل أوزار المنتسبين إليها. ولا يُسْتَغنى بأسفه الشخصي عن اعتذار المخطئ من رجال الكهنوت خطأً يثير الفتنة ويحتمل أن يدمر بسببه الوطن. والبابا شنودة أسِفَ وهو لم يقرأ كلام الأنبا بيشوي، ولا استمع إليه، ولا رأى الأنبا بيشوي نفسه منذ نشر كلامه المسيء إلى الإسلام والمسلمين (حلقة 26/9/2010 مع عبد اللطيف المناوي) فأسفه كان لمجرد مشاعر نقلها إليه، برقةٍ بالغةٍ ولطفٍ ملحوظٍ، الأستاذ عبد اللطيف المناوي، وهو أسَفٌ حسن لكنه لا يغني من المطلوب، الواجب، المستحق للمسلمين المواطنين عند الأنبا بيشوي نفسه، شيئًا. ولا يشك أحد في أن البابا بسلطته الروحية والإدارية على جميع رجال الكنيسة قادر على إلزام الأنبا بيشوي بإعلان اعتذاره بلا مواربة ولا التفاف حول الأمر بكلمات هي معاريض لا تسمن ولا تغني من جوع. وما لم يتم ذلك فإن الترضية التي أبدى البابا استعداده لها لا تكون قد تمت، ويبقى الجرح مفتوحًا حتى تتم فيلتئم، وتعود العلاقة مع الكنيسة سيرتها الأولى، ويتجنب الوطن زلزالا لا يبقي ولا يذر.
• فإذا أبى الأنبا بيشوي أسقف دمياط وكفر الشيخ والبراري، سكرتير المجمع المقدس ذلك، فإنه لا يبقى أمامنا إلا أن نطبق ما يأمرنا به قرآننا فنقول له:
{الحق من ربك فلا تكن من الممترين. فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} [آل عمران: 60-61].
• لقد أحسن البابا شنودة ـ أيضًا ـ عندما قال للأستاذ المناوي: «الآية التي ذكرت كانت آية يعني مش أصول أن ندخل في مفهومها» (حلقة 26/9/2010) «مش عارف إزاي حصل سرد لحاجات زي دي، ربما كان المقصود أن يعرضوا آيات ليصلوا إلى حل للخلاف اللي فيها لكن ما كانش أصول إنها تعرض خالص، كما أنهم ظنوا أن هذا مؤتمر للكهنة فقط فكأنه ناس بيفحصوا بعض أمور جوه البيت مش للخارج. بعض الصحفيين حضروا وأخذوا الحاجات وبدأوا ينشروا» (الحلقة نفسها).
• وليس خفيًا أن الكهنة مهما علا كعبهم لا يستطيعون أن يصلوا إلى حلول للخلاف بين العقيدتين الإسلامية والمسيحية الذي تعبر عنه بعض آيات القرآن الكريم. فلا هم مؤهلون لهذا، ولا هو من علمهم أو شأنهم، ولن يستمع إلى ما يقولونه أحد من المسلمين. فلماذا يذكر القرآن أصلا في مثل هذا المؤتمر؟؟
والخلاف بين العقيدتين واقع أبدي لا يزول، فالبحث في التوفيق بينهما عبث يجب أن ينزه العقلاء أنفسهم عنه، ويصونوا أوقاتهم عن إضاعتها فيه.
وأن الأمر كان «داخل البيت» لا يسوغُ قبولُه مع ما نشرته الصحف التي ذكرت الموضوع من أن النص «وزع على الصحفيين».
وكم غضبت الكنيسة والأقباط كافة، من كلام كتب أو قيل داخل البيت الإسلامي، ومن كلام يقال داخل المساجد، بل من كلام قيل وكتب لمجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الشريف (كلام الدكتور محمد عمارة في تقريره العلمي عن كتاب: مستعدون للمواجهة، الذي أحاله المجمع إليه لكتابة تقرير عنه فلما كتبه قامت الدنيا ولم تقعد ـ وكاتب هذا الكتاب ينتحل اسم سمير مرقس، وهو قطعًا لا علاقة له بهذا الاسم، فصاحبه المعروف هو صديقنا المهندس سمير مرقس، وهو رجل وحدة وطنية بامتياز).
لقد كان كلام الدكتور محمد عمارة داخل المجمع، ونشر ملحقًا بمجلة الأزهر، وكان ردًا ولم يكن كلامًا مبتدأً، ومع ذلك كله فقد ثارت الكنيسة على نشره وطلبت سحبه من التداول وفعل الأزهر ذلك، محافظة على مشاعر الأقباط، وحرصًا على وحدة أبناء الوطن. فهل يأمر البابا شنودة الأنبا بيشوي بأن يفعل مثل ما فعلت القيادة الدينية الرسمية للمسلمين؟ أرجو مخلصًا أن يفعل.
• سأل الإعلامي المعروف الأستاذ عبد اللطيف المناوي ضيفه البابا شنودة الثالث عما سبب تغيير الأجواء، التي كانت سائدة بين المسلمين والأقباط، من الحوار والأخوة الوطنية ونحوهما إلى التوتر والاحتقان الحاليين؟ وكان جواب البابا: «المسألة الأولى بدأت من مشكلات كاميليا... هل سيدة معينة يمكن توجد خلافًا على مستوى البلد كله... لماذا هذا الضجيج كله من أجل موضوع يمكن يكون شخصي خاص بها وبزوجها... المسألة تطورت من فرد معين إلى هياج كبير جدًا جدًا، استخدمت فيه شتائم وكلام صعب إلى أبعد الحدود، ونحن لم نتكلم وسكتنا... حدثت مظاهرات تؤذي مشاعر كل مسيحي.. لم تحدث مظاهرات من جانبنا» وعندما حاول الأستاذ المناوي تلطيف الجو بقوله «كان هناك جرح متبادل» رد عليه البابا بحزم: «الجرح مش متبادل.. أرجوك».
• والواقع أن الإجابة عن سؤال: ما الذي حدث فأدى إلى تغيير الأجواء؟ بأن المسألة «بدأت من مشكلات كاميليا» إجابة غير صحيحة جملة وتفصيلا. كاميليا وقصتها كانت آخر ما أثار مشاعر الجماهير المسلمة التي انفعلت لما أشيع من أنها أسلمت وأنها سُلِّمت إلى الكنيسة كسابقاتٍ لها في السنين السبع الأخيرة.
وأول هؤلاء اللاتي سلِّمن إلى الكنيسة كانت السيدة/ وفاء قسطنطين زوجة كاهن كنيسة (أبو المطامير) آنئذٍ. وواقعة السيدة وفاء قسطنطين حدثت في سنة 2004 وهي سلِّمت إلى الكنيسة التي أودعتها دير الأنبا مقار بوادي النطرون (حسبما أعلن في الشهر الحالي، سبتمبر 2010، الأسقف الأنبا باخوميوس أسقف البحيرة ومطروح والمدن السبع الغربية). وهي لا تزال تحيا فيه حبيسة ممنوعة من مغادرته حتى اليوم. وقد ثار شباب ورجال أقباط على بقاء السيدة/وفاء قسطنطين في حماية الدولة من أن تقع في قبضة من يقيد حريتها بغير سند من القانون، وتظاهروا في مقر الكاتدرائية بالعباسية، وألقوا حجارة على رجال الأمن فأصيب منهم (55) من بينهم خمسة ضباط، واعتُديَ بالضرب على الصحفي مصطفى سليمان، من صحيفة الأسبوع وانتُزِعَتَْ منه بطاقته الصحفية وآلة تصوير، واعتديَ بالتهديد على الصحفية نشوى الديب، من صحيفة العربي، ولولا حماية رجل قبطي، ذي مروءة، لها لكان نالها مثل ما نال زميلها. وقد نشرتْ تفاصيل مسألة وفاء قسطنطين منذ إسلامها إلى تسليمها جميع وسائل الإعلام المصرية، وكثير من وسائل الإعلام العربية والعالمية [كتابنا: للدين والوطن ص 207-275].
• وقد تزامن مع تسليم وفاء قسطنطين تسليم السيدة/ ماري عبد الله التي كانت زوجة لكاهن كنيسة بالزاوية الحمراء إلى الكنيسة، بعد أن أسلمت. وفي أعقاب هاتين الحادثتين المخزيتين سلمت إلى الكنيسة (مارس 2005) طبيبتي الامتياز ماريا مكرم جرجس بسخريوس، وتيريزا عياد إبراهيم في محافظة الفيوم وأعلن الأنبا أبرام وكيل مطرانية سمالوط أن الفتاتين «هما الآن تحت سيطرتنا» [المصدر السابق ص 277].
• وتبع هاتين الحادثتين تسليم بنات السيدة ثناء مسعد، التي كانت مسيحية وأسلمت ثم قتلت خطأ في حادث مرور، إلى زوجها المسيحي، بقرار من النيابة العامة ليس له سندٌ من صحيح القانون [التفاصيل في كتابنا سالف الذكر ص 258].
• كان تسليم المسْلِمات إلى الكنيسة، وإصرارها على ذلك، والمظاهرات العنيفة التي قامت في القاهرة والبحيرة والفيوم (وليتأمل القارئ كلام البابا شنودة لعبد اللطيف المناوي الذي يصطنع فيه تفرقة بين المظاهرات، التي يقوم بها المسلمون، والتجمعات الاحتجاجية التي يقوم بها الأقباط. ولمن شاء أن يسأل هل كان الاعتداء على رجال الشرطة، وجرح 55 منهم بينهم 5 ضباط، مجرد تجمع احتجاجي!!). كان ذلك التسليم هو بداية الاحتقان المستمر، حتى اليوم، بين الكنيسة من جانب وأهل الإسلام في مصر من جانب آخر.
• وهذا الاحتقان له سببه المشروع عند المسلمين. فذلك التسليم تم للمرة الأولى في تاريخ الإسلام (1444سنة)، لم يُسْبَقْ إليه شعب ولا دولة ولا حكومة. والقرآن الكريم ينهى عنه نهيًا قاطعًا {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن...} [الممتحنة:10].
• وقد طالب المسلمون، بألسنة مفكريهم وعلمائهم وأقلام كتابهم، بتصحيح هذه الأخطاء فلم يستمع إليهم أحد!! وأحدث هذا الإهمال لما يوجبه الدين تأثيره في جماهير المسلمين، وهو تأثير مستمر حتى اليوم، يزداد الشعور به كلما وقعت حادثة جديدة، أو أشيعت شائعة عن وقوعها، أو اتخذ موقف أو قيل كلام من جانب رجال الكنيسة يحرك حفيظة المسلمين.
فما يقوله البابا شنودة عن أن أصل المسألة هو موضوع كاميليا شحاتة كلام غير صحيح. إن أصل المسألة هو انتهاز الكنيسة فرصة ضعف الدولة بإزائها، وتغولها على النطاق المحفوظ بغير جدال لسلطاتها الرسمية، واتخاذها محابس لمن لا ترضى عنهم من الناس بغير سند من القانون، وبالمخالفة للدستور، مع سكوت الجهات المختصة في الدولة كافة على هذا السلوك العجيب. ويزداد الأمر شدة وصعوبة كلما ادعت الكنيسة على لسان قياداتها أن ما حدث، ويحدث، هو ممارسة لحقوقها وحماية لمن أسلمن ـ بزعم عودتهن عن هذا الإسلام ـ ممن قد يصيبهن بأذى!!
• لقد كان بيان هذا الأمر لازمًا لوضع الأمور في نصابها، ولتذكير الحَبر الجليل البابا شنودة الثالث بدور الكنيسة، تحت قيادته، في إحداث الاحتقانات المتتالية بين المسلمين وغير المسلمين. وقد كان آخر فصول هذا الدور هو تصريحات الأنبا بيشوي، ومن تبعه من الكهنة ذوي الرتب الكهنوتية الكبيرة والمتوسطة والصغيرة عن مسألة (ضيافة) الأقباط للمسلمين، وعن مسألة (الجزية) ثم تصريحات الأنبا بيشوي ـ التي نفى البابا شنودة علمه بها ـ عن تفسير آيات القرآن الكريم بما يوافق العقيدة المسيحية كما يعتنقها الأنبا بيشوي، وحديثه عما إذا كانت بعض آيات القرآن قد أضيفت في زمن متأخر في عهد الخليفة عثمان بن عفان .
* * * * *
• إن حياة المسلمين والمسيحيين على أرض مصر قدر لا فكاك منه لأحد الفريقين. والعمل من أجل تأكيد معاني العيش الواحد الذي يجمع بينهم في وطنهم الواحد، والتوعية بها، هو المخرج الوحيد من الفتن المتتالية التي نعاني منها منذ نحو أربعة عقود.
إن معنى العيش الواحد في الوطن الواحد أن يكون بين المختلفين، دينًا أو ملة أو طائفة أو أصلا عرقيًا أو هوية ثقافية، نوع احتمال لما لابد منه من الاختلاف بين الناس، ومعيار هذا الاحتمال الواجب أن ينزل كل طرف عن بعض حقه، الواجب له، رعاية لمرضاة أخيه في الوطن.
وفرق ما بين ذلك وما بين العيش المشترك الذي يضم المختلفين دينًا أو ملة أو طائفة أو أصلا عرقيًا أو هوية ثقافية ويعيشون في مناطق مختلفة من العالم، أن معيار التعامل في العيش المشترك هو الحقوق وحدها، تُطلب وتُؤدى على ما توجبه العقود أو الاتفاقات أو القوانين.
في العيش الواحد ليس بين الناس كرامات، وإنما بينهم أخوة وتعاون، ينزل هذا عن بعض ما يريد ويترك ذاك بعض ما يستحق، لأن الناس في العيش الواحد عائلة واحدة يحمل بعضها بعضًا، ويعين بعضها بعضًا، وينصر بعضها بعضًا. لكن في العيش المشترك يتقاسم الناس خيرات الأرض، وما خلق الله لهم فيها مما يسعهم جميعًا، فإذا زاحم أحدهم الآخر في حقه أو ملكه أو سيادته لم يقبل ذلك منه.
في العيش الواحد علاقات مودة وأخوة مصدرها قول الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} [الممتحنة:8].
وفي العيش المشترك واجبات تؤدى وحقوق تُستأدى معيارها قول الله تبارك وتعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا} [البقرة:29]، وقوله تعالى: {الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون. وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} [الجاثية: 12-13].
* * * * *
• والذي ندعو إليه إخواننا المسلمين والأقباط جميعًا هو إدراك هذه الحقيقة الأزلية: أننا للعيش على أرض هذا الوطن الواحد خلقنا.
• وأن أحدًا منا لن يستطيع أن ينفي الآخر مهما كان له من القوة، أو ظن بنفسه من البأس، أو استشعر من مناصريه التصميم على ما يحرضونه عليه، أو يدفعونه إليه، أو يستحسنونه من قوله وفعله.
• والدين الحق حائل بين صاحبه وبين العدوان على غيره.
• والإمساك عن العدوان باللسان واجب كالإمساك عن العدوان بالسنان.
والعود إلى داعي العقل أحمد
والعمل بموجب الرشد أسَدُّ.
• ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بعهده فله الحسنيان، في الأولى والآخرة.
والله من وراء القصد
منذ سنين ناقشنا، في الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي، سبل التعايش بين المسلمين وغير المسلمين في الوطن الواحد وفي أوطان شتى. وانتهينا يومئذ إلى إصدار وثيقة سميناها (العيش الواحد) أصبحت هي دستور عمل الفريق، ووصفت في تصديرها ـ بحق ـ بأنها «دعوة للناس، وشهادة بينهم، وميثاق للعمل العربي الإسلامي ـ المسيحي».
• وكان مما قررته تلك الوثيقة أن الحوار ينطلق «من احترام حق الآخر في اعتقاده، وتعزيز الأسس الدينية للعيش الواحد في وطن واحد» وهذا الحوار لا يستقيم «بغير احترام الخصوصيات والمشاعر والرموز والمقدسات الدينية الإسلامية والمسيحية. ولا يقتصر ذلك على سلوك أهل كل من الدينين تجاه أهل الدين الآخر، وإنما يعبر عن نفسه كذلك في وقوف الطرفين معًا ضد أي امتهان لمقدسات أيِّ منهما أيًا كان مصدره» [الفريق العربي للحوار الإسلامي ـ المسيحي، الحوار والعيش الواحد، بيروت 2001].
• وفي سنة 2008 أصدر الفريق العربي نفسه وثيقته الثانية بعنوان «وثيقة الاحترام المتبادل بين أهل الأديان». وقد نصت هذه الوثيقة في فقرتها رقم (7) على أنه: «ينبغي على أهل كل دين ألا يخوضوا في خصوصيات دين آخر. وينطبق هذا على أهل المذاهب المختلفة والفرق المتعددة في الدين الواحد... وإشاعة أمر التعارض أو التناقض، بين عقيدة وغيرها من العقائد، لا يؤدي إلا إلى البغضاء والشحناء وإغراء الناس بعضهم ببعض...».
• ونصت الوثيقة نفسها في فقرتها رقم (9) على أنه: «من حق أهل كل دين أو عقيدة أن يتوقعوا من مخالفيهم تصحيح ما يرتكب في حقهم من خطأ، والاعتذار عما يصدر من هؤلاء المخالفين أو بعضهم من إساءة أو إهانة أو قول أو فعل لا يليق. ولا يجوز لمن وقع منه الخطأ: غفلة أو هفوة أن يستكبر عن تصحيحه أو يبحث عن تأويله وتبريره» [الفريق العربي للحوار الإسلامي ـ المسيحي، وثيقة الاحترام المتبادل بين أهل الأديان، بيروت 2008].
• وهذه المبادئ التي صاغها الفريق العربي للحوار الإسلامي ـ المسيحي للتعبير عما تراه جموع المؤمنين بالدينين حافظًا لوحدتها الوطنية، وعاصمًا لها من الفرقة، وحائلا بينها وبين التعصب الممقوت، لو اتبعها رجال الكنيسة المصرية في تناولهم للمسائل المتعلقة بالإسلام والمسلمين لما وقعت فتن كثيرة اصطلى بنارها المصريون جميعًا أقباطًا ومسلمين. والفتن، وحوادث التعصب وما يصاحبها من تطورات حمقاء من أيِّ من الطرفين، مهما خمد أورُاها وأطفأت جهود (المصالحة) نارَها، واعتذر المتسبب فيها، أو من يتحدث باسم جهة ينتمي إليها، عما كان منه ــ مهما وقع ذلك كله فإن الفتن المتوالية تتراكم آثارها في النفوس، وينشأ على ذكريات كل منها جيل أو أجيال من أبناء الوطن وبناته يفتقدون صفاء النفس نحو المخالف لهم في الدين، وينظرون إليه نظرة العدو المتربص لا نظرة الشريك في الدار، ولا نظرة الأخ في الوطن.
• فإذا تكلم الأنبا بيشوي أسقف دمياط وكفر الشيخ والبراري (المصري اليوم: 15/9/2010) عن الجزية ضاربًا عُرض الحائط بكل ما انتهت إليه الدراسات الإسلامية في شأنها، وكأن شيئًا منها لم يكن، فإن هذا الحديث لا يؤدي إلى شيء إلا إلى إثارة ضغائن الأقباط على إخوانهم المسلمين، وبعث فتنة لا مسوغ لها، تعمل عملها في هدم بناء الوطن بتحطيم علاقات الأخوة فيه. سيذكر الأقباط كلام الأنبا بيشوي عن الجزية وهم لم يدفعوها ـ ولا هو دفعها ـ قط، وسينسون كل العلاقات الوادة الراحمة بينهم وبين المسلمين المعاصرين لهم وهم لم يقبضوا الجزية قط!! فما الذي يستفيده نيافة الأنبا من هذه المسألة؟ وما الذي يعود على الشعب المصري من ذكرها؟
• وعندما يتحدث عن الاستشهاد، ويؤيده فيما قال رأس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، البابا شنودة، مفسرًا الاستشهاد بأنه في المفهوم المسيحي الموت في سبيل المبدأ أو العقيدة دون قتال لأن الاستشهاد في القتال موت وقتل وليس استشهادًا بالمعنى المسيحي. (حديثه مع الإعلامي عبد اللطيف المناوي، الحلقة الثانية، 27/9/2010).
أقول عندما يتحدث أنبا موقر والبابا نفسه عن هذا المفهوم فإن من واجبهما أن يراعيا، مع المفهوم المسيحي الذي يقولان به، المعنى العربي اللغوي، والمعنى الإسلامي، للاستشهاد، وهو الموت في سبيل الله؛ الذي قد يكون في قتال وقد لا يكون، كما في الرجل يقول كلمة حق عند سلطان جائر فيقتله، وقد سمي في الحديث النبوي (سيد الشهداء) وقرن بحمزة بن عبد المطلب ، فكيف غاب هذا عن الرجلين، وغيرهما، وهما يتحدثان عن الاستشهاد.
ثم إن هذا الذي يموت في سبيل العقيدة، بغير قتال، يموت بلا شك مظلومًا مضطهدًا، فأين هي مظاهر هذا الاضطهاد الذي سيصل بمن يقع عليهم إلى حد القتل في سبيل مبدئهم؟؟ إن الاعتذار عن التهديد بالاستشهاد بإيراد معناه في المسيحية لا يزيد الطين إلا بلة لأنه يتضمن اتهامًا للمسلمين باضطهاد الأقباط، وهو اتهام باطل قطعًا فلا المسلمون في مصر يضطهدون الأقباط ولا الأقباط يضطهدون المسلمين، لكنه التلاسن السياسي الذي لم يستطع أحد أن يدرك ماذا أراد منه الأنبا بيشوي عندما أورده خارج سياق حديث (المصري اليوم) معه، وعندما نبهته الصحفية التي كانت تحاوره إلى السياق الصحيح للسؤال ذكرنا بأحداث سبتمبر 1981 ولم يصحح جوابه عن سؤالها.
• وأحداث سبتمبر 1981، فيما يخص الكنيسة القبطية، قطع كل قول فيها حكم محكمة القضاء الإداري في الدعوى رقم 934 لسنة 36ق التي كانت مقامة من البابا شنودة الثالث ضد رئيس الجمهورية وآخرين، والعودة إلى أوراق هذه الدعوى، وأسباب حكمها، لا تفيد نيافة الأنبا بيشوي ولا تفيد البابا. والحكم منشور في مصادر كثيرة يستطيع الرجوع إليها من شاء، إذ ليس المقام هنا مقام تذكير بأخطاء الماضي، لكنه مقام تصويب لما لا يصح من مقولات الحاضر.
• كما أقحم الأنبا بيشوي أسقف دمياط وكفر الشيخ والبراري، سكرتير المجمع المقدس في حديثه مع (المصري اليوم) حكاية (الضيوف) وذكر أحداث 1981، أقحم في بحثه المعنون (الميديا وتأثيرها على الإيمان والعقيدة) فقرة من 4 صفحات كاملة تتحدث عن القرآن الكريم، ومعاني بعض آياته، ومدى تناسق ما تذكره بعضها مع ما تذكره آيات أخرى. والبحث أعده صاحبه ليلقيه في مؤتمر العقيدة الأرثوذكسية 13 الذي عرف إعلاميًا باسم مؤتمر تثبيت العقيدة. واعترض على كلمة (تثبيت) البابا شنودة في حديثه مع الأستاذ عبد اللطيف المناوي (26/9/2010).
• ومما اتخذتُه سبيلا في علاقتي بإخواني غير المسلمين جميعًا ألا أدخل معهم في نقاش حول ديني أو دينهم، لأنني أعتقد أن الأديان والمذاهب مُطْلقاتٌ عند أصحابها، لا تحتمل التبديل ولا التغيير، ولا يقبل المؤمنون بها احتمال خطئها، صغيرًا كان الخطأ أم كبيرًا. إن الجائز بين أهل الأديان هو الإجابة عن سؤال أو شرح مسألة لمن لم يعرفها، إذا وُجِّه ذلك السؤال أو طُلِبَ هذا الشرح. وما سوى ذلك لا يجوز. وهذا هو مضمون ما تقرره وثيقتا: العيش الواحد، والاحترام المتبادل اللتين ذكرتهما آنفًا.
لذلك لن أعيد ما قاله الأنبا بيشوي في بحثه المذكور عن القرآن الكريم، فاعتقادي أنه ليس من حقه مناقشة القرآن ولا الجدل في شأن كيفية تفسيره، ولا محاولة التوفيق بين معاني بعض آياته ومعاني العقيدة المسيحية كما يؤمن بها هو ومن يتبعون مذهبه.
• غير أن كلام الأنبا بيشوي عن القرآن الكريم فيه مسائل تحتاج إلى بيان. ولست أوجه هذا البيان له وحده، ولكنني أوجهه إلى كل من قرأ بحثه أو استمع إليه، أو تابع ما نشرته الصحف وأذاعته وسائل الإعلام عنه.
- المسألة الأولى: أن الأنبا بيشوي نقل كلامًا نسبه إلى الفخر الرازي (أبو الفضل محمد فخر الدين بن عمر بن الحسين الرازي المتوفى سنة 606) في كتابه: التفسير الكبير، قال الأنبا بيشوي إن الفخر الرازي يقول عن تفسير قوله تعالى: {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم} [النساء:157] بأن المصلوب شخص غير عيسى بن مريم عليه السلام: «إنها إهانة لله أن يجعل شخصًا شبهه يصلب بدلا منه، لأن هذا يعني أن الله غير قادر على أن ينجيه. وهكذا فقد أورد لنا أدلة لم نذكرها نحن من قبل... وقال أيضًا ما ذنب الذي صلب في هذه الحالة إن هذا يعتبر ظلم (كذا)....» [ص43 من بحث الأنبا بيشوي والنقاط الثلاث من أصل نصه].
- ولا يقتضي الأمر أكثر من الرجوع إلى التفسير الكبير ليتبين القارئ الكريم أمرين: الأول، أن الألفاظ التي زعم الأنبا بيشوي أنها من كلام الفخر الرازي لا توجد في كلامه قط. الثاني، أن الفخر الرازي أورد الأقوال في شأن قوله تعالى {ولكن شبه لهم} وردَّ عليها، واختار أصحها في نظره، وأنه لما ناقش كيفية إلقاء شبه المسيح عليه السلام على الشخص الذي صلبه اليهود والرومان ذكر أربعة أقوال في شرح تلك الكيفية وانتهى إلى أن «الله أعلم بحقائق الأمور». ولم يرد في كلامه في أي موضع تعبير (إن هذا يعتبر ظلمًا) ولا تعبير (أن هذا يعني أن الله غير قادر على أن ينجيه). [تفسير الفخر الرازي، ج11، ط المطبعة المصرية، القاهرة 1938، ص 99. ورقم الآية من سورة النساء هو 157 وليس 156 كما ذكره الأنبا بيشوي].
وأنا أترك للقارئ أن يحكم على هذا الصنيع ومدى صلته بالعلم، الذي من بركته عندنا الدقة في نسبة كل قول إلى قائله، ومدى صلته بواجب الأحبار والرهبان في حفظ أمانة الكلمة وتأديتها إلى الذين يتحدثون إليهم.
- المسألة الثانية: أن الأنبا بيشوي يحكي قصة حوار بينه وبين الملحق العسكري المصري في منزل سفير مصر في قبرص (لم يذكر اسم السفير ولا اسم الملحق العسكري) وينتهي منها إلى أن الملحق العسكري وافقه على تفسيره لقول الله تعالى {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح عيسى بن مريم قل فمن يملك من الله شيئًا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعًا ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير} [المائدة:17].
ودون دخول في تفصيلات الحوار الذي ذكره الأنبا بيشوي، أقول إنه حوار لا معنى له ولا جدوى منه، ودار ـ إن صحت الرواية ـ بينه وهو غير مختص ولا متخصص وبين رجال مثله غير مختصين ولا متخصصين، فكان حاصله صفرًا ، لا يقتضي تعقيبًا ولا يستحق ردًا. لكن المهم في الأمر كله أن محاولة إعادة فهم القرآن الكريم على خلاف ما فهم منه على مدى التاريخ الإسلامي كله محاولةٌ مآلها الإخفاق، ونتيجتها إثارة الفتنة بين الأقباط والمسلمين إذا ردد الأقباط فهم الأنبا بيشوي وفهم الملحق العسكري!! وقد كان حريًا بالأنبا بيشوي ألا يقتحم هذا المجال أصلا فليس هو من رجاله ولا أهله. ومما يحسُنُ بالمرء ألا يهرف بما لا يعرف وبخاصةٍ إذا ترتب على ذلك أن تحدث وقيعة بين أبناء الوطن الواحد يحمل وزرها الذين يجادلون فيما ليس لهم به علم.
- المسألة الثالثة: أن الأنبا بيشوي يتساءل عما إذا كانت الآية الكريمة (وصفها من عندي) «قيلت أثناء بعثة نبي الإسلام، أم أضيفت أثناء تجميع عثمان بن عفان للقرآن الشفوي وجعله تحريري(؟)، لمجرد وضع شيء ضد النصارى» ويتساءل قبل ذلك عما إذا «كانت قد قيلت وقتما قال نبي الإسلام القرآن أم أنها أضيفت فيما بعد، في زمن متأخر».
والتساؤلان غير مشروعين، وفي غير محلهما، ووجها إلى من لا شأن له في الجواب عليهما.
فالنبي لم (يقل) القرآن, إنما تنزل عليه القرآن من لدن عليم حكيم. وأنا لا أريد من نيافة الأنبا، ولا من أي مسيحي، أن يقر لي بنبوة محمد لأنه إن فعل ذلك خرج من عقيدته الحالية، وليس هذا مطلبي. لكنني أتوقع منه أن لا يهين كتابنا الكريم (القرآن) وينسبه إلى مخلوق، ولو كان هو النبي نفسه، لأن في ذلك إهانةً لا تقبل، ومساسًا لا يحتمل بالإسلام نفسه.
والخليفة الثالث، عثمان بن عفان، لم يحوّل القرآن من شفهي إلى تحريري. بل كان القرآن الكريم يكتب فور نزوله على النبي آية آية، وقطعة قطعة، وسورة سورة، وهذا كله مبسوط في كتب علوم القرآن التي لو طالعها أي ملمٍ بالقراءة والكتابة لم يقل مثل الكلام الذي كتبه الأنبا بيشوي في بحثه.
وأخشى ما أخشاه أن يفهم المسلمون الذين يقرأون كلام الأنبا بيشوي أن المقصود هو التسوية بين النص القرآني المتواتر بلا خلاف وبين نصوص دينية أخرى لم تدون إلا بعد أكثر من مئتي سنة من انتهاء عصر الأنبياء المنسوبة إليهم.
ومثل هذه المحاولة تعني التشكيك في تواتر القرآن. والتساؤل عما إذا كانت آية ما أضيفت إلى القرآن الكريم «في زمن متأخر» تكذيب لا يقبله مسلم، بقول الله تعالى {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر:9].
• ولذلك فقد أحسن البابا شنودة عندما قال في حديثه مع الأستاذ عبد اللطيف المناوي: «آسف إنه يحصل جرح لشعور المسلمين، ونحن مستعدون لأي ترضية» (الحلقة المذاعة في 26/9/2010).
والترضية الواجبة لا تكون إلا بأن يعتذر الأنبا بيشوي نفسه عما قال وفعل وكتب. إن البابا شنودة، وهو رأس الكنيسة لا يجوز أن يتحمل أوزار المنتسبين إليها. ولا يُسْتَغنى بأسفه الشخصي عن اعتذار المخطئ من رجال الكهنوت خطأً يثير الفتنة ويحتمل أن يدمر بسببه الوطن. والبابا شنودة أسِفَ وهو لم يقرأ كلام الأنبا بيشوي، ولا استمع إليه، ولا رأى الأنبا بيشوي نفسه منذ نشر كلامه المسيء إلى الإسلام والمسلمين (حلقة 26/9/2010 مع عبد اللطيف المناوي) فأسفه كان لمجرد مشاعر نقلها إليه، برقةٍ بالغةٍ ولطفٍ ملحوظٍ، الأستاذ عبد اللطيف المناوي، وهو أسَفٌ حسن لكنه لا يغني من المطلوب، الواجب، المستحق للمسلمين المواطنين عند الأنبا بيشوي نفسه، شيئًا. ولا يشك أحد في أن البابا بسلطته الروحية والإدارية على جميع رجال الكنيسة قادر على إلزام الأنبا بيشوي بإعلان اعتذاره بلا مواربة ولا التفاف حول الأمر بكلمات هي معاريض لا تسمن ولا تغني من جوع. وما لم يتم ذلك فإن الترضية التي أبدى البابا استعداده لها لا تكون قد تمت، ويبقى الجرح مفتوحًا حتى تتم فيلتئم، وتعود العلاقة مع الكنيسة سيرتها الأولى، ويتجنب الوطن زلزالا لا يبقي ولا يذر.
• فإذا أبى الأنبا بيشوي أسقف دمياط وكفر الشيخ والبراري، سكرتير المجمع المقدس ذلك، فإنه لا يبقى أمامنا إلا أن نطبق ما يأمرنا به قرآننا فنقول له:
{الحق من ربك فلا تكن من الممترين. فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} [آل عمران: 60-61].
• لقد أحسن البابا شنودة ـ أيضًا ـ عندما قال للأستاذ المناوي: «الآية التي ذكرت كانت آية يعني مش أصول أن ندخل في مفهومها» (حلقة 26/9/2010) «مش عارف إزاي حصل سرد لحاجات زي دي، ربما كان المقصود أن يعرضوا آيات ليصلوا إلى حل للخلاف اللي فيها لكن ما كانش أصول إنها تعرض خالص، كما أنهم ظنوا أن هذا مؤتمر للكهنة فقط فكأنه ناس بيفحصوا بعض أمور جوه البيت مش للخارج. بعض الصحفيين حضروا وأخذوا الحاجات وبدأوا ينشروا» (الحلقة نفسها).
• وليس خفيًا أن الكهنة مهما علا كعبهم لا يستطيعون أن يصلوا إلى حلول للخلاف بين العقيدتين الإسلامية والمسيحية الذي تعبر عنه بعض آيات القرآن الكريم. فلا هم مؤهلون لهذا، ولا هو من علمهم أو شأنهم، ولن يستمع إلى ما يقولونه أحد من المسلمين. فلماذا يذكر القرآن أصلا في مثل هذا المؤتمر؟؟
والخلاف بين العقيدتين واقع أبدي لا يزول، فالبحث في التوفيق بينهما عبث يجب أن ينزه العقلاء أنفسهم عنه، ويصونوا أوقاتهم عن إضاعتها فيه.
وأن الأمر كان «داخل البيت» لا يسوغُ قبولُه مع ما نشرته الصحف التي ذكرت الموضوع من أن النص «وزع على الصحفيين».
وكم غضبت الكنيسة والأقباط كافة، من كلام كتب أو قيل داخل البيت الإسلامي، ومن كلام يقال داخل المساجد، بل من كلام قيل وكتب لمجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الشريف (كلام الدكتور محمد عمارة في تقريره العلمي عن كتاب: مستعدون للمواجهة، الذي أحاله المجمع إليه لكتابة تقرير عنه فلما كتبه قامت الدنيا ولم تقعد ـ وكاتب هذا الكتاب ينتحل اسم سمير مرقس، وهو قطعًا لا علاقة له بهذا الاسم، فصاحبه المعروف هو صديقنا المهندس سمير مرقس، وهو رجل وحدة وطنية بامتياز).
لقد كان كلام الدكتور محمد عمارة داخل المجمع، ونشر ملحقًا بمجلة الأزهر، وكان ردًا ولم يكن كلامًا مبتدأً، ومع ذلك كله فقد ثارت الكنيسة على نشره وطلبت سحبه من التداول وفعل الأزهر ذلك، محافظة على مشاعر الأقباط، وحرصًا على وحدة أبناء الوطن. فهل يأمر البابا شنودة الأنبا بيشوي بأن يفعل مثل ما فعلت القيادة الدينية الرسمية للمسلمين؟ أرجو مخلصًا أن يفعل.
• سأل الإعلامي المعروف الأستاذ عبد اللطيف المناوي ضيفه البابا شنودة الثالث عما سبب تغيير الأجواء، التي كانت سائدة بين المسلمين والأقباط، من الحوار والأخوة الوطنية ونحوهما إلى التوتر والاحتقان الحاليين؟ وكان جواب البابا: «المسألة الأولى بدأت من مشكلات كاميليا... هل سيدة معينة يمكن توجد خلافًا على مستوى البلد كله... لماذا هذا الضجيج كله من أجل موضوع يمكن يكون شخصي خاص بها وبزوجها... المسألة تطورت من فرد معين إلى هياج كبير جدًا جدًا، استخدمت فيه شتائم وكلام صعب إلى أبعد الحدود، ونحن لم نتكلم وسكتنا... حدثت مظاهرات تؤذي مشاعر كل مسيحي.. لم تحدث مظاهرات من جانبنا» وعندما حاول الأستاذ المناوي تلطيف الجو بقوله «كان هناك جرح متبادل» رد عليه البابا بحزم: «الجرح مش متبادل.. أرجوك».
• والواقع أن الإجابة عن سؤال: ما الذي حدث فأدى إلى تغيير الأجواء؟ بأن المسألة «بدأت من مشكلات كاميليا» إجابة غير صحيحة جملة وتفصيلا. كاميليا وقصتها كانت آخر ما أثار مشاعر الجماهير المسلمة التي انفعلت لما أشيع من أنها أسلمت وأنها سُلِّمت إلى الكنيسة كسابقاتٍ لها في السنين السبع الأخيرة.
وأول هؤلاء اللاتي سلِّمن إلى الكنيسة كانت السيدة/ وفاء قسطنطين زوجة كاهن كنيسة (أبو المطامير) آنئذٍ. وواقعة السيدة وفاء قسطنطين حدثت في سنة 2004 وهي سلِّمت إلى الكنيسة التي أودعتها دير الأنبا مقار بوادي النطرون (حسبما أعلن في الشهر الحالي، سبتمبر 2010، الأسقف الأنبا باخوميوس أسقف البحيرة ومطروح والمدن السبع الغربية). وهي لا تزال تحيا فيه حبيسة ممنوعة من مغادرته حتى اليوم. وقد ثار شباب ورجال أقباط على بقاء السيدة/وفاء قسطنطين في حماية الدولة من أن تقع في قبضة من يقيد حريتها بغير سند من القانون، وتظاهروا في مقر الكاتدرائية بالعباسية، وألقوا حجارة على رجال الأمن فأصيب منهم (55) من بينهم خمسة ضباط، واعتُديَ بالضرب على الصحفي مصطفى سليمان، من صحيفة الأسبوع وانتُزِعَتَْ منه بطاقته الصحفية وآلة تصوير، واعتديَ بالتهديد على الصحفية نشوى الديب، من صحيفة العربي، ولولا حماية رجل قبطي، ذي مروءة، لها لكان نالها مثل ما نال زميلها. وقد نشرتْ تفاصيل مسألة وفاء قسطنطين منذ إسلامها إلى تسليمها جميع وسائل الإعلام المصرية، وكثير من وسائل الإعلام العربية والعالمية [كتابنا: للدين والوطن ص 207-275].
• وقد تزامن مع تسليم وفاء قسطنطين تسليم السيدة/ ماري عبد الله التي كانت زوجة لكاهن كنيسة بالزاوية الحمراء إلى الكنيسة، بعد أن أسلمت. وفي أعقاب هاتين الحادثتين المخزيتين سلمت إلى الكنيسة (مارس 2005) طبيبتي الامتياز ماريا مكرم جرجس بسخريوس، وتيريزا عياد إبراهيم في محافظة الفيوم وأعلن الأنبا أبرام وكيل مطرانية سمالوط أن الفتاتين «هما الآن تحت سيطرتنا» [المصدر السابق ص 277].
• وتبع هاتين الحادثتين تسليم بنات السيدة ثناء مسعد، التي كانت مسيحية وأسلمت ثم قتلت خطأ في حادث مرور، إلى زوجها المسيحي، بقرار من النيابة العامة ليس له سندٌ من صحيح القانون [التفاصيل في كتابنا سالف الذكر ص 258].
• كان تسليم المسْلِمات إلى الكنيسة، وإصرارها على ذلك، والمظاهرات العنيفة التي قامت في القاهرة والبحيرة والفيوم (وليتأمل القارئ كلام البابا شنودة لعبد اللطيف المناوي الذي يصطنع فيه تفرقة بين المظاهرات، التي يقوم بها المسلمون، والتجمعات الاحتجاجية التي يقوم بها الأقباط. ولمن شاء أن يسأل هل كان الاعتداء على رجال الشرطة، وجرح 55 منهم بينهم 5 ضباط، مجرد تجمع احتجاجي!!). كان ذلك التسليم هو بداية الاحتقان المستمر، حتى اليوم، بين الكنيسة من جانب وأهل الإسلام في مصر من جانب آخر.
• وهذا الاحتقان له سببه المشروع عند المسلمين. فذلك التسليم تم للمرة الأولى في تاريخ الإسلام (1444سنة)، لم يُسْبَقْ إليه شعب ولا دولة ولا حكومة. والقرآن الكريم ينهى عنه نهيًا قاطعًا {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن...} [الممتحنة:10].
• وقد طالب المسلمون، بألسنة مفكريهم وعلمائهم وأقلام كتابهم، بتصحيح هذه الأخطاء فلم يستمع إليهم أحد!! وأحدث هذا الإهمال لما يوجبه الدين تأثيره في جماهير المسلمين، وهو تأثير مستمر حتى اليوم، يزداد الشعور به كلما وقعت حادثة جديدة، أو أشيعت شائعة عن وقوعها، أو اتخذ موقف أو قيل كلام من جانب رجال الكنيسة يحرك حفيظة المسلمين.
فما يقوله البابا شنودة عن أن أصل المسألة هو موضوع كاميليا شحاتة كلام غير صحيح. إن أصل المسألة هو انتهاز الكنيسة فرصة ضعف الدولة بإزائها، وتغولها على النطاق المحفوظ بغير جدال لسلطاتها الرسمية، واتخاذها محابس لمن لا ترضى عنهم من الناس بغير سند من القانون، وبالمخالفة للدستور، مع سكوت الجهات المختصة في الدولة كافة على هذا السلوك العجيب. ويزداد الأمر شدة وصعوبة كلما ادعت الكنيسة على لسان قياداتها أن ما حدث، ويحدث، هو ممارسة لحقوقها وحماية لمن أسلمن ـ بزعم عودتهن عن هذا الإسلام ـ ممن قد يصيبهن بأذى!!
• لقد كان بيان هذا الأمر لازمًا لوضع الأمور في نصابها، ولتذكير الحَبر الجليل البابا شنودة الثالث بدور الكنيسة، تحت قيادته، في إحداث الاحتقانات المتتالية بين المسلمين وغير المسلمين. وقد كان آخر فصول هذا الدور هو تصريحات الأنبا بيشوي، ومن تبعه من الكهنة ذوي الرتب الكهنوتية الكبيرة والمتوسطة والصغيرة عن مسألة (ضيافة) الأقباط للمسلمين، وعن مسألة (الجزية) ثم تصريحات الأنبا بيشوي ـ التي نفى البابا شنودة علمه بها ـ عن تفسير آيات القرآن الكريم بما يوافق العقيدة المسيحية كما يعتنقها الأنبا بيشوي، وحديثه عما إذا كانت بعض آيات القرآن قد أضيفت في زمن متأخر في عهد الخليفة عثمان بن عفان .
* * * * *
• إن حياة المسلمين والمسيحيين على أرض مصر قدر لا فكاك منه لأحد الفريقين. والعمل من أجل تأكيد معاني العيش الواحد الذي يجمع بينهم في وطنهم الواحد، والتوعية بها، هو المخرج الوحيد من الفتن المتتالية التي نعاني منها منذ نحو أربعة عقود.
إن معنى العيش الواحد في الوطن الواحد أن يكون بين المختلفين، دينًا أو ملة أو طائفة أو أصلا عرقيًا أو هوية ثقافية، نوع احتمال لما لابد منه من الاختلاف بين الناس، ومعيار هذا الاحتمال الواجب أن ينزل كل طرف عن بعض حقه، الواجب له، رعاية لمرضاة أخيه في الوطن.
وفرق ما بين ذلك وما بين العيش المشترك الذي يضم المختلفين دينًا أو ملة أو طائفة أو أصلا عرقيًا أو هوية ثقافية ويعيشون في مناطق مختلفة من العالم، أن معيار التعامل في العيش المشترك هو الحقوق وحدها، تُطلب وتُؤدى على ما توجبه العقود أو الاتفاقات أو القوانين.
في العيش الواحد ليس بين الناس كرامات، وإنما بينهم أخوة وتعاون، ينزل هذا عن بعض ما يريد ويترك ذاك بعض ما يستحق، لأن الناس في العيش الواحد عائلة واحدة يحمل بعضها بعضًا، ويعين بعضها بعضًا، وينصر بعضها بعضًا. لكن في العيش المشترك يتقاسم الناس خيرات الأرض، وما خلق الله لهم فيها مما يسعهم جميعًا، فإذا زاحم أحدهم الآخر في حقه أو ملكه أو سيادته لم يقبل ذلك منه.
في العيش الواحد علاقات مودة وأخوة مصدرها قول الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} [الممتحنة:8].
وفي العيش المشترك واجبات تؤدى وحقوق تُستأدى معيارها قول الله تبارك وتعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا} [البقرة:29]، وقوله تعالى: {الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون. وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} [الجاثية: 12-13].
* * * * *
• والذي ندعو إليه إخواننا المسلمين والأقباط جميعًا هو إدراك هذه الحقيقة الأزلية: أننا للعيش على أرض هذا الوطن الواحد خلقنا.
• وأن أحدًا منا لن يستطيع أن ينفي الآخر مهما كان له من القوة، أو ظن بنفسه من البأس، أو استشعر من مناصريه التصميم على ما يحرضونه عليه، أو يدفعونه إليه، أو يستحسنونه من قوله وفعله.
• والدين الحق حائل بين صاحبه وبين العدوان على غيره.
• والإمساك عن العدوان باللسان واجب كالإمساك عن العدوان بالسنان.
والعود إلى داعي العقل أحمد
والعمل بموجب الرشد أسَدُّ.
• ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بعهده فله الحسنيان، في الأولى والآخرة.
والله من وراء القصد