الصفحات

الأربعاء، 3 نوفمبر 2010

ما هو الإصلاح التربوي المطلوب؟

سعود المولى
التعليم هو عصب النهضة وماء حياتها. والمحنة التى يعيشها لبنان اليوم ناتجة فى قسم كبير منها عن إنهيار نظمه التعليمية والتربوية (بعد انهيار نظمه السياسية والمدنية) وما ترتب على ذلك من تراجع مذهل فى مستوى المعرفة والكفاءة لدى القطاعات الأوسع من المجتمع.
ويستحيل تحقيق النهضة دون خروج التعليم من محنته.. ومن ثم فإنه ينبغي أن يحتل التعليم لدينا أولوية قصوى وأن نؤمن بالحاجة إلى مراجعة شاملة لتوجهاته وإصلاح جذري لكافة مكوناته.
والحال أن تلك عملية طويلة الأجل لن تحدث بين ليلة وضحاها، وهي تحتاج إلى دراسات مستفيضة تستلهم باستمرار الجديد من تجارب الدول الأخرى وتستفيد من الخبرات اللبنانية والعربية الكثيرة في هذا المجال.
وبادئ ذى بدء، التعليم حق لكل مواطن على أرض لبنان وهو هدف فى حد ذاته لا فقط مجرد وسيلة للتوظيف أو الترقي الاجتماعي أو الوفاء باحتياجات السوق. فإذا كان الإنسان اللبناني هو هدف أية نهضة يصبح العلم قيمة عليا والتعليم أحد الحقوق الأساسية.
كما أن الاهتمام بتطوير التعليم يقع فى القلب من الرؤية الإقتصادية الوطنية. فإن الارتباط الوثيق بين النهضة الاقتصادية والتعليم انما يأتي من الدور المهم الذى يلعبه التعليم فى زرع قيم بعينها هي التى تجعل الشباب فاعلاً فى عملية التنمية بل وقادراً على المنافسة بغض النظر عن تقلبات السوق. وتطوير التعليم لايقتصر على الإهتمام بإدخال التكنولوجيا الحديثة وتطوير المباني والمعدات وإنما يتضمن (وهو الأهم) خلق جيل معتز بهويته وعلى وعي بقدرات بلاده ودورها وإماكاناتها ويمتلك من المهارات مايمكنه من المشاركة فى عملية التنمية.
ومن هذا المنطلق ولأن الأسس التى تقوم عليها المنظومة التعليمية والتربوية برمتها فى حاجة إلى مراجعة جذرية، نرى أن الأمر يحتاج إلى حشد إمكانات الدولة بكل وزاراتها وهيئاتها وطاقات المجتمع بكل فئاته وعناصره. بعبارة أخرى، فقد بلغت أزمة التعليم مبلغاً لا يمكن معه أن تتولى إصلاحه وزارة التربية وحدها دون تنسيق وتعاون وثيق مع كافة أجهزة الدولة الأخرى أو فى غياب الدعم الواسع من جانب قطاعات المجتمع المختلفة.
ومن هنا، فإن تلك العملية الشاملة من الإصلاح لايمكن أن تتم دون التوصل إلى إجماع وطني حول أهدافها. لذلك فإن أية خطة مقترحة لتطوير التعليم لا بد وأن يتم عرضها للنقاش المجتمعي واسع النطاق فى إطار يتسم بالشفافية ويسعى لتعديل تلك الخطة بناء على الرؤى المختلفة التى يتلقاها من المجتمع ويقوم في الوقت ذاته بإعداد المجتمع لاستقبال التغيير والإقبال عليه ودعم أهدافه.
مبررهذا الكلام ما شهدناه من قرارات متسرعة صدرت عن وزارة التربية تتجاهل دروس من سبقوا وحاجات الناس الفعلية وتجارب الدول المختلفة.. فالترفيع الآلي لللأولاد حتى الصف الرابع إبتدائي حق مشروع اقتضته المدنية الحديثة وحثت عليه علوم النفس والتربية، وطبقته كل دول العالم قبلنا.. ولا علاقة له البتة بهبوط في مستوى التعليم إلا إن كانت الوزارة تظن أن واجب المدرسة حشو رأس الأولاد بالقوة والتعامل معهم وكأنهم شاحنات يتم تحميلها طوال العام بالمعلومات التى يتم تفريغها على أوراق الامتحان فى نهايته (بغض النظر عن الحالات الخاصة كالإعاقة أو التأخر الدراسي والتي تستوجب صفوفاً خاصة)..ونفس الإعتراض ينطبق على جعل الدراسة تبدأ أول أيلول وعلى عملية دمج وإلغاء مدارس.. فهذه القرارات تصدر عن ذهنية لا تلحظ الوضع في الريف اللبناني الذي يختلف عن أوروبا وأميركا حيث الشتاء أطول من الصيف وحيث القرى أشبه بالمدن تتوفر فيها كل مقومات الراحة والحياة المستقرة.. فمن دون إقامة مجمعات مدرسية وتأمين النقليات لها وتوفير الرعاية الصحية والغذائية للأولاد فيها، وتوفير الماء والكهرباء والتدفئة، ووجود دورة إقتصادية إجتماعية ثقافية في الأرياف، تصبح قرارات الدمج وتقديم مواعيد الدراسة أشبه بفقاعات الصابون...إلا أنها للأسف فقاعات مؤذية..
ولا بد من الاستفادة من خبرات الدول التي حققت نهضة تعليمية. لكن الجوانب الفنية والمنهجية التى يمكن الاستفادة منها في تلك الخبرات لا تنهض وحدها بالتعليم. إذ أن الاهتمام بالقيم التي يبثها النظام التعليمي لايقل أهمية عن الجوانب التقنية والفنية في إصلاح التعليم. ورغم أن هناك مجموعة من القيم الإنسانية التي يمكن أن تشترك في التركيز عليها المنظومة التعليمية فى أكثر من دولة، إلا أن واقع كل دولة وطبيعة مشكلاتها قد يحتم التأكيد على قيم بعينها في مرحلة ما. ثم أن لكل أمة حضارتها وتاريخها الذي يمكن أن يسهم في بناء نهضتها.
وتحتل قيمة الإنتماء أهمية قصوى في العملية التعليمية المنشودة. فلا قيمة لتعليم لا يدرك فيه النشء من نحن وما هي أهدافنا. والإنتماء للوطن هو وحده الذي يغرس في النشء الثقة بالذات الحضارية ويسمح بالتفاعل الصحي مع العالم دون انسحاق أمام الأقوى ولا حساسية من الإستفادة من خبرات الآخرين. ومن هنا ضرورة إيلاء أهمية لدراسة التاريخ اللبناني بكل مراحله دراسة جادة نقدية تهدف إلى دعم الشخصية الوطنية المركبة ذات العناصر المتعددة، والإستمرارية الحضارية التي ربطت بين الحلقات التاريخية المتعاقبة في تاريخنا . ودراسة التربية المدنية والتنشئة الوطنية أكثر من ضرورية لبناء قيم المواطنة والخير العام واحترام الدولة والدستور والقوانين والسلم الأهلي..
وقد لفت إنتباهي خلال مشاركتي في بعض المؤتمرات أو المنتديات الخاصة بالمجتمع المدني أن معظم المشاركين، وفيهم علماء وأساتذة في الدعوة إلى العلمانية، وفيهم نواب ووزراء ورؤساء أحزاب وحركات، لا يعرفون حقيقة عما يتكلمون.. فالجميع (وبلا إستثناء) يحدثك لساعات وساعات عن ضرورة توحيد كتاب التاريخ وإعتماد كتاب موحَّد للتربية المدنية، على إعتبار أن ذلك كفيل بحل المشكلة الطائفية في البلاد..ولا أدري لماذا يجهل كل هؤلاء أن تلامذة المدارس الرسمية عندنا يدرسون في كتاب تاريخ موحَّد وفي كتاب موحَّد للتربية المدنية والتنشئة الوطنية، هي من صنع وزارة التربية..وكذا أغلبية المدارس الخاصة التي تلتزم ببرامج الوزارة.. ومن العجب العجاب أن لا يعرف من يتصدى للشأن العام هذه الحقيقة البديهية.. ويبدو أن حديثهم العصبي المتوتر عن غياب كتاب موّحد وعن كونه الحل الشافي لأمراضنا المزمنة،هو من قبيل الكلام الشائع الثرثري الذي يعطي صاحبه صفة الجدية العلمانية أمام خصومه، ويعفيه من البحث الفعلي عن مكمن المشكلة.
وقد يقول قائل إن المشكلة هي في وجود التعليم الخاص ومدارسه وجامعاته، وكل واحدة لها إنتماء طائفي محدد، وتدرس في كتب خاصة بها..وهذا ليس مشكلة في حال كان هناك خطة تربوية رسمية وتنسيق رسمي فاعل يشرف على كل المناهج والبرامج والكتب والوسائل والأدوات.. وقد يقول آخر إنها في عدم وجود نظم ومناهج وبرامج تربوية وتعليمية موحدة خاضعة للدولة...ولكن ألم يكن الإتحاد السوفياتي في قمة تماسكه الأيديويولوجي والنظامي والمنهجي والبرنامجي والتربوي وحتى الرياضي، حين انهار وانهارت معه كل المنظومة الإشتراكية الشرقية ؟؟ وهل منع التعليم الشيوعي الرسمي الموحَّد قيام شتى النزعات القبلية والإثنية والطائفية في ما كان يُعرف باسم يوغوسلافيا أو الإتحاد السوفياتي أو جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية مثلاً ؟؟ المشكلة ليست في التوحيد بل في الإعتراف بالتنوع والتعدد الثقافي وفي صياغة المسألة بما يضمن العدالة والمساواة مع التنوع ضمن الوحدة..
إن مشكلة التعليم فى لبنان لا تتعلق بوجود أشكال مختلفة ومتوازية من التعليم، كالتعليم العام والخاص، الأهلي منه والأجنبى كما الديني ، وإنما المشكلة هي في انسحاب الدولة وتجاهلها وضع المعايير العامة التى تحكم العملية التعليمية أياً كان نوع مقدم الخدمة التعليمية، وعدم قيامها بالرقابة وفرض معايير صارمة على الأداء والجودة وعدم إيجاد آليات فعالة للرقابة. أما قضايا المواطنة والإنتماء فلها حديث آخر.
لا يمكن للنشء الاستفادة الحقيقية من المعارف المختلفة دون تنمية قيمة الجمال بمعناها الواسع وهو ما يتطلب اهتماماً بالفنون بكافة أنواعها من المسرح والشعر والرسم إلى الخطابة والخط... الخ. وبسبب الفساد والواسطة، انهارت قيمتا العلم والعمل الجاد. فقد صارت الشهادة العلمية لا العلم نفسه هى الهدف ولم يعد العمل الجاد والإتقان والتميز والتفوق هو سبيل الترقي فى العقل الجمعى اللبناني بل صارت الشطارة والانتهازية الوصولية والتشبيح والواسطة المذهبية أو الطائفية هي الطريق القرب والأسرع...وبدل أن تخرج كل طائفة أفضل وأحسن ما عندها صارت الوظائف العامة مرتعاً للفاشلين والساقطين في مجتمعهم لا للمخلصين الجادين المسؤولين الأكفياء..
وفضلاً عن كل ذلك تراجعت قيمة المصلحة العامة وصارت المنافسة لا العمل بروح الفريق هى معيار النجاح، الأمر الذى أدى إلى تدهور فى الأداء بل وانهيار أخلاقيات المنافسة وقيمها...ومن المهم للغاية أن يغرس النظام التعليمي قيم المواطنة لدى النشء، بما تعنيه من المساواة وتكافؤ الفرص بين كل أبناء الوطن فضلا عن حقهم المشروع فى المشاركة الفعالة فى إدارة شؤونه وإعادة اندماج المواطنين في المجال العام / السياسي باعتباره المكان الطبيعي للقاء المختلفين وليس الانكفاء/ العزل أو الارتداد لدوائر الانتماء الأولية .
لا بد من إعادة الإعتبار لتلك القيم عبر العملية التعليمية بكل مراحلها وهو ما لا يمكن حدوثه فقط من خلال المناهج الدراسية وانما من خلال إعادة الاعتبار للنشاط المدرسى بكافة أنواعه، فى إطار سياسة متكاملة للتربية المدنية.
وينبغي للنظام التعليمى أن يؤكد على القيم التى اتسمت بها الحضارة العربية الإسلامية وأضفت عليها الشخصية اللبنانية طابعاً مميزاً. ولعل أهم هذه القيم هى تلك المتعلقة بالتكافل الاجتماعى والعلاقات الأسرية القوية والاحتفاء بالتعددية. وهى كلها قِيم تعرضت للانهيار لأسباب كثيرة ولا بد من بذل الجهد الكافي لإعادة بنائها وتقويتها.
وهناك مجموعة من القيم السلبية الى تسربت للعقل الجمعي اللبناني فى العقود الأخيرة وأثرت تأثيراً بالغاً على العملية التعليمية برمتها. فلايمكن التقليل من أثر الاستهانة بقيمتي العلم والعمل، والحط من شأن مهنة التدريس والنظرة الدونية للتعليم الفني، هذا فضلا عن تحول التعليم إلى سلعة تدر الربح. ويحتاج تطوير التعليم إلى مواجهة تلك القيم السلبية، وهو ما لا يتأتى إلا من خلال خطة توعية شاملة تعمل فيها أجهزة الدولة ومؤسساتها بالتنسيق العمدي لتكمل بعضها بعضا بدلاً من أن تضر كل منها بما تسعى الأخرى لتحقيقه. فلايعقل مثلا أن يكون النظام التعليمى يهدف للتأكيد على قيمة العلم والعمل الجاد بينما يروج الإعلام لقيم الكسب السريع والاستهلاك وينشر ثقافة مؤداها أن الحظ أو الحرام أساس الثروة.
وفي عصر المعلومات، لم يعد من الممكن أن تقوم العملية التعليمية على تلقين المعلومات ولا أن يكون معيار نجاح الطالب هو مدى قدرته على سردها. لذلك فإن مناهج التعليم اللبنانية فى حاجة إلى إعادة نظر شاملة هدفها ليس تلقين المعلومات وانما تعليم النشء كيفية تحديد مايحتاجه من المعلومات ثم كيفية الحصول عليها وتدريبه على اختبار مصداقية المصادر، ثم كيفية فرز المعلومات وتصنيفها بشكل نقدي خلاق وبمنهج مقارن يسمح بالاستفادة منها ويضمن تحويل التعليم إلى عملية حياتية مستمرة لاتنتهي عند سور المدرسة والجامعة. ولايكفي تدريب الطلاب على البحث عن الإجابة عن أسئلة تطرح عليهم وانما يتحتم أيضا تدريبهم على طرح الأسئلة الصحيحة وتنمية قدراتهم على التمييز بين الأهم والمهم والهامشي فيما يتعرضون له من بيانات وموضوعات.كما ان أحد القضايا الأكثر إلحاحاً هى مسألة إعادة الاعتبار إلى مهنة التدريس. ففي كل الدول التى تبنت إصلاحا تعليميا ناجحاً تمت العناية الفائقة بالمدرس. فهل تم ذلك في لبنان بعد 20 عاماً على انتهاء الحرب الأهلية ؟؟
نعم هناك أزمة خطيرة في بنية التعليم والتربية في لبنان! وهذه الأزمة تبدأ من تحديد وقت الدراسة ، ووسائل النقل، وصحة الأولاد ،والتلوث البيئي والصوتي، والإزدحام ، وحمولة حقيبة المدرسة... ولا تنتهي مع الحشو والوسائل البدائية في التربية والتعليم، والإهمال واللامسؤولية لدى أغلب المدرسين والمدرسات...
نعم نحن نعاني أزمة خطيرة لم يتم حتى الآن التطرق إليها وهي تحتاج إلى شيء من الخيال الواقعي ومن الجرأة في تقديم حلول جديدة لا علاقة لها بالمألوف.. فعلى سبيل المثال أنا لا أدري ما الحكمة في جعل وقت الدراسة يبدأ قبل الثامنة صباحاً على العموم، علماً أن بعض المدارس يجعلها في السابعة والنصف.. في الماضي كان عدد السكان أقل، والشوارع فارغة، والسيارات قليلة، والمدارس تقع قرب البيوت..وكنا نصل إلى المدرسة سيراً على الأقدام في عشر دقائق، ونعود إلى البيت وقت الغذاء، ثم نرجع إلى المدرسة حتى العصر، أو نتغذى في المدرسة إذا كنا نأخذ معنا "المطبقية"...أما اليوم فقد صار على التلميذ أن يستيقظ في الخامسة صباحاً لينتظر الباص أو الفان عند السادسة فلا ينام كفاية لأنه ينشغل أيضاً بالتلفزيون والإنترنت والسهرات الطويلة، ولا يأخذ وجبة صباحية صحيحة لأن الكل يكون مستعجلاً للخروج من البيت ليصل إلى مدرسته وعمله في الوقت المطلوب (بسبب زحمات السير)..أما الانتقال فلم يعد سيراً أو على الأقدام أو في باص مدرسي شرعي بل صار يتم في فانات صغيرة يحشرون فيها التلاميذ كالبهائم تساق إلى الذبح... وخلال النهار يخضع التلميذ للضجيج والزمامير المتواصلة ولأصوات المصانع الصغيرة المنتشرة بين المنازل والمدارس، أو لروائح معامل الدهان والسيارات..الخ... ناهيك عن حمولة حقيبة الطفل الصغير، وهذه أكبر جناية صحية يرتكبها التعليم بحق الطفولة ولا أحد يسأل أو يهتم!!! يضاف إلى ذلك إنعدام الرقابة الصحية الأولية من وزارتي التربية والصحة وانعدام الخدمات الصحية الأساسية في المدارس..
ألا يمكن جعل الدراسة تبدأ عند التاسعة صباحاً كما في معظم دول العالم؟ إن هذا يجنب البلد إزدحامات الصباح الشهيرة ويعطي الولد وقتاً أطول للنوم والراحة ويخفف التوتر العصبي عند الأهل وخصوصاً الموظفين منهم الذين يوصلون أولادهم إلى المدرسة صباحاً..
ألا يمكن التوقف ساعة أو ساعة ونصف للغذاء داخل المدرسة كما كان يحصل في أيامنا ألا يمكن إلزام المدارس بتأمين باصات شرعية للنقل تستوفي شروط السلامة والصحة والإنسانية؟ الا يمكن إبقاء كتب التلميذ محفوظة في المدرسة بدل أن يحمل معه إلى البيت شنطة وزنها أكثر من 20 وحتى 30 كيلو؟
ثم هل قرأ أحد منكم كتب التربية والتاريخ والجغرافيا الخاصة بالمرحلة المتوسطة من التعليم الأساسي على سبيل المثال؟ هل يعقل أن نطلب من تلميذ لم يبلغ الثالثة عشرة من العمر أن يحفظ عشرات الصفحات عن أمور لا علاقة له بها ولا علاقة لها أصلاً بالتعليم الصحيح وبالتربية السليمة؟ كتبها مثقفون وأساتذة جامعات وشعراء وأدباء وكتاب، حريصون على المواطنة السليمة وعلى التاريخ الوطني الموحد وعلى العلم والثقافة في البلاد، ولكن لا علاقة لهم البتة بالتعليم الإبتدائي أو المتوسط او الثانوي، ولا بالمنهجية التربوية الخاصة بكل مرحلة، ولا بأساليب ووسائل التعليم الحديثة المتوافقة مع حاجات وإمكانات التلميذ الصغير..
وهل فحصت وزارة التربية مستوى أداء وعطاء المعلمين والمعلمات؟؟ كان التعليم رسالة وكان المعلم رسولاً...فأين صارت المهنة وأين صار صاحبها اليوم؟؟ بل أين صارت كلية التربية ودور المعلمين والمعلمات اليوم، وهي المراكز التي تخرج منها خيرة أبناء جيلنا؟
مسكين شعبنا !! كلما جاءت "أمة"، لعنت من سبقها واعتقدت أن الإصلاح والتغيير سيكون من عملها هي، وأن نتائجه ستظهر في زمنها هي.. ومسكينة نخب بلادنا لا تدري أن الإصلاح بناء تراكمي وأن النهضة مشروع تاريخي.....
إن غياب "مفهوم الهوية الثقافية " عن معظم المشروعات الإصلاحية والتنموية كان عاملاً رئيسياً من عوامل إخفاق هذه المشروعات . وإذا كان البعض يفترض أن الهوية دائرة واحدة مغلقة ، فإننا نرى أن هذا التوجه هو من قبيل الفهم المجتزأ والمنقوص؛ ذلك أن الانتماء للدائرة الحضارية العربية / الإسلامية لا يعني استبعاد المكون الفينيقي أو السرياني-الآرامي أو البيزنطي-الأورثوذوكسي، من الثقافة اللبنانية . والوعاء الثقافي اللبناني نجح في صهر المكونات الثقافية المتعددة وصنع منها مزيجاً متماسكاً ، وهذا ما منح الثقافة اللبنانية خصوصيتها وفرادتها بين ثقافات العالم. والانطلاق هذا المفهوم المنفتح المركب للهوية يعني أن تنمية الهوية اللبنانية لا يتأتى إلا بتنمية كل أبعادها وجوانبها ومكوناتها ( فينيقية-كنعانية، و مسيحية سريانية-آرامية- مارونية-بيزنطية- مشرقية- لاتينية، وإسلامية عربية-، وسنية-شيعية-درزية-علوية-،وبدوية –فلاحية-حضرية، وجميعها داخل المكون العربي الإسلامي والثقافة اللبنانية الوطنية) .
ويرتبط بقضية الهوية عنصران أساسيان هما:
1ـ اللغة العربية : ونحن نعيش قلقاً مشروعاً من تراجع اللغة العربية ، وهى الوعاء الذي تصب فيه مكونات الهوية اللبنانية ، والتي بدونها ينفرط عقدها ، وهو ما يشكل خطراً يتمثل في أن إهمال اللغة العربية أو تهميشها يعني تهميش التراث المكتوب ، ومن ثم فقدان الذاكرة التاريخية ، وتحول الإنسان اللبناني إلى وحدة اقتصادية جسمانية إستهلاكية .
وقد انعكس غياب الاهتمام باللغة في طرق التدريس والكتب المدرسية والمنشورات الحكومية ووسائل الإعلام ؛ وهو الأمر الذي يدفعنا للدعوة المشددة إلى إعادة الإحترام للغة العربية وتفعيلها كأداة للتواصل بين المواطنين كافة ، والتواصل مع تراثنا وهويتنا التاريخية .
2 ـ الخصوصية التاريخية والمشترك الإنساني : إن قضية استيراد نظم الغرب الحضارية المعرفية وتعميمها والانفتاح على الآخر أصبحت مثار اهتمام كبير في الآونة الأخيرة. وأنه بفعل الإخفاقات السياسية والتراجعات الحضارية المتوالية صارت الثقافة العربية محل تساؤل عما إذا كانت تصلح لأن تكون ركيزة للنهضة أم لا ؟ بل وجرى التشكيك في صلاحيتها وفي قدرتها على استيفاء شروط النهضة ، ونعتت بالتقليدية والركود ، وبأنها إحدى موروثات عصور الانحطاط والتخلف . ومن هنا كانت الدعوة إلى تهميشها وتحويلها إلى مجرد تراث أو فلكلور .
وإذا كنا نؤيد الانفتاح على الثقافات الأخرى فهذا يعني ألا نقصر اهتمامنا على الثقافة الغربية وحدها بزعم أنها الثقافة العالمية الوحيدة ، بل علينا أن نتجه شطر الحضارات الشرقية المجاورة لنا (من ايران وتركيا الى الهند والصين) ونوليها اهتماماً أكبر، وخاصة أنها ثقافات عريقة وثرية، وتحوي رؤية للطبيعة وللإنسان تتفق مع كثير من عناصر رؤيتنا العربية الإسلامية واللبنانية الخاصة.
ومن ناحية أخرى فإن قضايا الفن ليست منعزلة عن قضايا الثقافة الأخرى ؛ فالفن لغة الروح ودعوة للتسامي بالإنسان وتعميق فهمه لنفسه وللكون بأسره . ومن هنا ضرورة أن يكون الفن متحرراً ومنفتحاً ، على ارتباط بالمجتمع وبالقيم الإنسانية والأخلاقية ، ولا بد من التوازن بين تشجيع الآداب والفنون والإبداع من ناحية ، وبين الإلتزام بقيم المجتمع وبموجبات الدستور والعيش المشترك والأمن العام من ناحية أخرى.
كما أن الجمعيات الأدبية والثقافية هي بمثابة المحضن الذي يفرخ جماعات من الباحثين والمبدعين الشبان ، ويسمح لهم بالاحتكاك مع أجيال الرواد. والمركزية الثقافية التي ركزت كل المؤسسات الثقافية في بيروت هى أحدى العلل الأساسية لتراجع الثقافة التي تعبر عن هوية الإنسان اللبناني ، وبالتالي يجب تنشيط المراكز الثقافية والفنية في مدن المحافظات والأقضية ومراكزها وقراها وتشجيع المؤلفين والفنانين المحليين على الإبداع ، وتوظيف إبداعاتهم في خدمة جهود التنمية الشاملة لمختلف مجالات الحياة في المجتمع.

ما هي السلفية؟

لقاء خاص مع الشيخ زهير الشاويش حول السلفية –بيروت- تشرين الأول 2008
أجريت هذا الحديث مع شيخنا الكبير المحدث السلفي الأثري العلامة المجاهد زهير الشاويش في منزله بالحازمية-بيروت في تشرين الأول-أكتوبر 2008 وأنشره تعميماً للفائدة...
د. سعود المولى

السلفية لم يكن لها أصل من هذه التسمية إلا بعد زمن طويل من عصر الدعوة التي حمل رايتها وأرسى قواعدها جميعاً محمد رسول الله وصحبه الكرام وقد كانوا يوصفون بأنهم "السلف الصالح". وتسمية "السلفية" لا بد لها ممن سلف يسبقها تنتهي إليه، وهي تكون خلفاً لسلف..وكان هذا السلف من تابعي التابعين..وقد تبع كل السلفيين وغيرهم من المذاهب من كل الفرق بعضاً من التابعين، حتى أصبح الفقه، بل والعقيدة، وحتى الأخلاق، أنواعاً كثيرة جداً..وفي بعضها إختلاف ظاهر من اتباع الأثر، أو التمسك بالنص والدليل، أو الجنوح إلى الرأي وقولة "نحن رجال وهم رجال"..وبعضهم اقتصر على ما دلتهم عليه عقولهم..
وكان مثل ذلك عند كل المذاهب الإسلامية: الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة والظاهرية....والسلفية أثبتت أكثر ما تقدم: أخذت من كل فرقة ما صح عندها عنهم..
والسلفية طريقة في المعتقد والفقه، مفادها الرجوع إلى ما كان عليه الجيل الأول –السلف الصالح- في العقيدة والعبادة والأخلاق والسلوك- كما في باقي المذاهب أنها ترجع إلى من انتسبت إليه..
والسلفية تنكر التأويل اللفظي والباطني على السواء..وهي تعتمد على الصحيح الواضح من الكتاب والسنة والوقوف عند اتفاق الصحابة وما تتابع بعد ذلك بعمل وفهم التابعين من القرون الثلاثة التي شهد لها سيدنا محمد بالخيرية..وتتابعت بعد ذلك بأقوال أهل العلم والمعتقد والحديث والدعوة. وتركزت أقوالهم عند الإمام أحمد بن محمد بن حنبل (ت 240 هجرية) أيام الخليفة المأمون العباسي (ت 218 ه) بدءاً من فتنة خلق القرآن وما تبع ذلك من اضطهاد وحبس ونفي وضرب وقتل تعرض له الحنابلة والشافعية حتى نصر الله أهل السنة في عهد الخليفة العباسي المتوكل على الله (ت 247 ه)..بقيت السلفية بعد الإمام ابن حنبل هي السائدة في عقائد المسلمينالسنة على التحديد وكان الإمام الشعري حامل اللواء فيها مناهضاً للإعتزال والمعتزلة..وبقي مذهبههو مذهب أهل السنة والجماعة بالجملة لمدة زادت على المئتي سنة حتى قام ابن القشيري (الزاعم بأنه شافعي المذهب) بفتنته التي فرقت المسلمين وادعى أنه على مذهب الأشعري عقيدة..ثم كان للسلفيين بعد ذلك "بيان أهل السنة والجماعة" تأليف الإمام أبي جعفر الطحاوي (ت321ه) وهو حنفي مشهور...وبعده بمئتي سنة قام آل السبكي بإضافة ما عندهم من تفصيلات في العقيدة زاعمين بأن ذلك معتمد على مذهب الأشعري ومرتكز على فقه الإمام الشافعي..وتولى الرد عليهم ابن تيمية وتلامذته.. وكانت للسلفية جولات منصورة في عصر شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية على من قام عليهم من آل السبكي (في القرن السابع) من الشافعية، والإمام المطهر الحلي من الشيعة، وبعض الحكام من المماليك الجراكسة، ومجموعة محمد بن محمد العجمي(العلاء البخاري-ت 841 ه) من الحنفية..ومضى الزمن والخلاف بين الأخذ والرد حتى ظهر إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي (ت 1206 ه).إذذاك نشأت معارضة شديدة لهم من قبل العثمانيين الأتراك وحاكم مصر محمد علي باشا وأولاده...ولكن ذلك لم يمنع من تمتعهم بانتشارات كبرى في الشام: العلامة جمال الدين القاسمي (ت1332ه) والشيخ طاهر الجزائري (ت1338ه) وتلامذته ومنهم الشيخ محب الدين الخطيب (ت1389ه) والشيخ محمد سعيد الباني (ت1351ه) وآل البيطار وآخرهم شيخنا محمد بهجة البيطار (ت1396ه) والشيخ عبد القادر بدران(ت1346ه) ومن تبعهم.
وكذلك في اليمن كالإمام محمد بن علي الشوكاني(ت1250ه)والإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني (ت1182ه). ورغم الإنتشار الماتريدي الحنفي في الهند ظهر علماء أفاضل منهم الجماعة الإسلامية (الإمام أبو الأعلى المودودي: ت 1399ه) وجماعات أهل الحديث المتعددة..وفي المغرب العربي ورغم انتشار المذهب المالكي فقهاً، وعقائد ما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، ظهر أمثال المشايخ: عبد الحميد ابن باديس (ت1359ه) ومحمد البشير الطالبي الإبراهيمي (ت1385ه) والفضيل الورتلاني (ت1378ه)..والدكتور تقي الدين الهلالي...وفيما نراه اليوم في بعض فصائل الجهاد الجزائري الصادق...
وقامت في مصر نهضات دعوية وتألفت جمعيات اعتمدت على السلفية في أصول مناهجها كدعوة الشيخ محمد رشيد رضا (ت1354ه) وجماعة أنصار السنة المحمدية برئاسة الشيخ محمد حامد الفقي (ت1378ه) والإخوان المسلمين وأفراد من الأزهر الشريف مثل المفتي الأكبر شيخ الأزهر عبد المجيد سليم (ت1372ه) والشيخ سيد سابق مؤلف كتاب فقه السنة والشيخ محمد الغزالي الجبالي والشيخ عبد الرزاق عفيفي والدكتور عبد العزيز كامل والشيخ عبد الرحمن الوكيل وغيرهم...وكذلك ظهر في الأردن المفتي العام الشيخ عبد الله القلقيلي والأستاذ أبو الوليد إبراهيم الترهي (ت1392ه) وغيرهما..كما قامت جماعة اعتمدت الحديث النبوي راسهم العلمي الشيخ محمد ناصر الدين الألباني (ت1420ه) وقام المكتب الإسلامي بنشر الكثير من مؤلفاته.
وفي سورية ظهرت جماعة الإخوان المسلمين بقيادة الدكتور مصطفى السباعي (ت1384ه) والأستاذ عبد الفتاح غندور ...وكان مشاركاً لهما في الجماعة أو قبلها الشيخ عبد القادر بدران، والشيخ عبد الفتاح الإمام والشيخ علي الطنطاوي (ت1420ه)..وغيرهم...وفي حلب الشيخ نسيب الرفاعي(ت1413ه) وفي حماه الشيخ سعيد الجابي والشيخ مصطفى معطي...وفي دير الزور الشيخ محمد سعيد العرفي والدكتور عزالدين جوالة والأستاذ عبد الرؤوف بعاج والأستاذ سعيد شرف..وغيرهم..وثورات وانتفاضات فلسطين منذ عام 1920 وحتى اليوم ما قام بها إلا من تمثلوا العقيدة السلفية من الحاج محمد أمين الحسيني (ت1394ه) والشيخ فرحان السعدي(ت1356ه) والشيخ محمد الأشمر (ت1380ه) والشيخ عز االدين القسام(ت1354ه) والشيخ عطيه سالم وغيرهم..وكل من ذكرت ومن لم أذكر هم تجمعات وأخوان وأتباع يربط بينها اتفاق عام على أكثر الأمور السلفية واختلافات فرعية في العديد من الأمور..وقد تركت الكلام عما في المملكة العربية السعودية لأن الدولة هناك كلها تقوم على الفكر السلفي المتمثل بالشيخين ابن تيمية وابن عبد الوهاب...ولكن وجدنا فيها أخيراً خلافات بين المجموعات التي تدعي كلها بأنها سلفية وأكثر هذه الخلافات على جزئيات شبه لفظية ولا يكاد يعرفها سواهم..

إدماج الأخلاق في سياسات الإصلاح

سعود المولى
لا يمكن فصل الجانب القيمي والأخلاقي عن عملية التنمية. فانهيار المنظومة الأخلاقية في المجتمع تؤدي إلى الإخلال بقيم العدل والمساواة وتؤدي بالتالي إلى تثبيط الهمم وسيادة الشعور العام باليأس. وإذا اختلت القيم يحدث التحلل الاجتماعي وتكون تصرفات وسلوكيات ، وحتى تطلعات ، مجموعات كبيرة من الأفراد والجماعات والتكوينات المهنية محكومة بمنظومات من القيم والمعايير السلبية ـ المعلنة وغير المعلنة ـ مثل:
ـ الحنث بالعهود والتعاقدات والشهادة الزور.
ـ الرشوة والمحسوبية والاختلاس والنصب .
ـ التسيب والإهمال واللامبالاة .
ـ ضعف الميول نحو المشاركة والمبادرة والاهتمام بالشأن العام .
ـ غلبة النزعة المادية والإستهلاك الترفي .
ـ زيادة معدلات الجريمة والعنف .
ـ ضمور معنى المصلحة العامة لدى قطاعات واسعة من المواطنين.
ـ انخفاض قدرات المواطنين ـ وأحيانًا رغباتهم ـ على العمل المنتج النافع .
ـ إختلال ميزان العدالة ( في توزيع الدخل ، وفي تطبيق القانون ،وفي توفير فرص العمل وفى القدرة على النفاذ إليها)..
ـ ولأن الفنون والآداب كثيراً ماتعكس أمراض المجتمع فإن انهيار القيم يدفع بها بعيداً عن مقاصدها النبيلة ، ويجعلها تتجه نحو التركيز على التفكير الخرافي ومخاطبة الغرائز.
وتؤدي تلك الأمراض الاجتماعية وغيرها ليس فقط إلى اختلال ميزان العدالة وانما أيضا إلى فوضى اجتماعية حيث يميل المواطنون إلى اليأس أو إلى السعي للحصول على حقوقهم بالقوة أو بطرق أخرى غير مشروعة. ولذلك لو افترضنا جدلاً أننا أفلحنا في إنجاز الإصلاح السياسي والاقتصادي والتشريعي على النحو الذي ترجوه القوى والتيارات الوطنية والديموقراطية المطالبة بالإصلاح في لبنان ، مع بقاء الأوضاع على ما هي عليه في الجوانب الأخلاقية السائدة ، فإن إمكانية تفعيل برامج الإصلاح في تلك الجوانب ونجاحها في الواقع ستكون قليلة ، وستكون فرصتها في تحقيق مقاصدها محدودة للغاية.
إن إدماج الإصلاح الأخلاقي في مختلف المداخل الإصلاحية السياسية والاقتصادية والتشريعية والثقافية والاجتماعية ، أمر ضروري ولازم ، لأنه الضمان الرئيسي الذى يحفظ تماسك المجتمع ويشكل المناخ الملائم لتقدمه.
ومهما كانت صعوبة عملية إدماج الأخلاق في مداخل الإصلاح المختلفة عامة ، فإنها عملية تستحق ما سيبذل فيها من الجهد والوقت لأنها من وجهة نظرنا شرط ضروري ولازم لنجاح الإصلاح وإدراك مقاصده.
وتنبغي الإشارة إلى أن مبحث "الأخلاق" محل إجماع أو توافق فكري كبير بين مختلف التوجهات الفكرية، وهو مطلب الجميع ـ أو هكذا يفترض ـ سواء كانوا من السلطة أو من المعارضة. كما أن مسؤولية القيام به تقع على عاتق الجميع من الأفراد والمؤسسات الأهلية والمدنية والحكومية وتشمل مختلف المستويات من قمة المجتمع وأعلى هرم السلطة والمسؤولية إلى القاعدة العريضة من جمهور المواطنين.
مكافحة الأمية والتسرب من التعليم: يمكن تبني حملة وطنية تستغرق فترة تتراوح بين 3 و5 سنوات يتم فيها الاستعانة بخريجي الجامعات والمعاهد العليا الذين يبحثون عن عمل لمدة عام أو عامين للمشاركة فى محو الأمية وذلك مقابل أجر معقول يزداد وفق استعداد الخريج للإنتقال إلى المناطق النائية والأكثر احتياجاً..وتتضمن الحملة الوطنية برنامجاً لمكافحة التسرب من التعليم عبر تعميم الوجبات الغذائية وتطبيق نظام اليوم الكامل حتى يتسنى إيجاد الوقت للتدريب على الحِرف إلى جانب حصص التعليم الأساسي ، وهو الأمر الذى يقلل من رغبة الأهل فى إخراج أولادهم من التعليم بسبب الضغوط الاقتصادية. ومن المهم للغاية أن تشمل تلك الحملة الوطنية برنامجاً مخصصاً لمواجهة التسرب الخاص بالفتيات يقوم على التوعية بأهمية تعليمهن ويضع منظومة من الحوافز خصوصاً فى الريف والمناطق الفقيرة لتعليم الفتيات كالحصول على مزايا عينية أو غذائية للأسر.
من المداخل المقترحة لتفعيل الإصلاح الأخلاقي، وربطه في الوقت نفسه بمداخل الإصلاح
المدخل التربوي التعليمي: وهذا يرتكز على الدور الكبير الذي تقوم به مؤسسات التربية والتعليم في بناء العقليات وتوجيه السلوك الفردي والجماعي. ومن خلال هذه المؤسسات يتم غرس منظومة القيم والمبادئ والمعايير التي تحقق الإصلاح الأخلاقي المرغوب..
وإذا كانت أغلب البرامج التربوية والثقافية وغيرها من برامج التنشئة الاجتماعية ـ في وضعها الحالي ـ تفتقر إلى المضمون الأخلاقي المطلوب ؛ فمن الضروري تطوير المناهج الدراسية والأنشطة الترفيهية والتربوية فى هذا الاتجاه. وتقع مسؤوليات إنجاز هذه المهمة التطويرية في مناهج التربية والتعليم على الهيئات والمراكز التربوية والإعلامية والتعليمية الحكومية وغير الحكومية، كما تقع أيضاً على المفكرين ودعاة الإصلاح وصانعي الرأي وقادة المجتمع المدني ومنظماته وهيئاته .
المدخل الثقافي الإعلامي: نظراً لضعف الخطاب الثقافي الذي تبثه وسائل الإعلام اللبنانية عامة ، والأجنبية ـ على وجه الخصوص ـ فيما يتعلق بالمضامين الأخلاقية الإصلاحية بالمعنى السابق شرحه ؛ فإن المطلوب هو صياغة ونشر خطاب ثقافي إعلامي يركز على تلك المعاني الغائبة ، ويهدف إلى بناء صورة ذهنية صحيحة وواقعية عن القيم والمعايير الأخلاقية الواجب احترامها والالتزام بها. وليس المقصود هنا انتاج برامج ذات طابع تعبوي خطابي ولا مادة فنية تلقى على الناس محاضرات فى الأخلاق والقيم، وانما المقصود هو رؤية إعلامية متكاملة تضع البعد القيمي فى قمة أولوياتها وتبث عبر برامجها الثقافية والفنية القيم المراد دعمها وتكريسها.
مدخل تجديد الخطاب الديني: إن الخطاب الديني السائد في لبنان والعالم العربي منذ فترة طويلة يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى إصلاح أساليبه ، وتجديد مضامينه وتنحية المفاهيم السليبة واللغة الاعتذارية والمعاني الانعزالية التي يحتويها ؛ وذلك بهدف استيعاب متغيرات الواقع ، وتفعيل دور الخطاب الديني في مواجهة المشكلات التي يعاني منها المجتمع ، وبخاصة فئة الشباب ، كما أن هذا التجديد يجب أن ينعكس بشكل إيجابي على مكانة المؤسسة الدينية ( المسجد – الكنيسة -الخلوة ) ودورها في جهود التنمية والإصلاح الاجتماعي العام . وهذا الموقف ليس جديداً ولا مرتبطاً بدعوات حديثة قادمة من الخارج ، ولكنها دعوة قديمة ومتأصلة تبناها المصلحون والمفكرون قديما وحديثاً ؛ لأنه واجب ديني ووطني لإدراك الواقع والتفاعل معه وتطويره بما يخدم مصالح البلاد والعباد ولا يصطدم بغير مبرر مع العالم .
وفي هذا السياق يصبح تطوير المؤسسة الدينية مسألة بالغة الأهمية خصوصاً لجهة استقلالها مالياً وإدارياً عن بيروقراطية الدولة ، مع السعي الحثيث لإصلاحها وتدعيم دورها في تقديم الفكر المعتدل؛ بما يكفل قيامها بالمهام المنوطة به في الدعوة والإرشاد والتعليم محلياً وإقليمياً وعالمياً ، ومن ثم دعم مكانة لبنان عربياً ودولياً.
القدوة والشفافية: إن المبادئ والقيم والمعايير الأخلاقية مهما كان نبلها وسموها تظل قليلة التأثير في الواقع ما لم تتجسد قدوات حسنة يقتدي بها جموع المواطنين على كل مستوى من المستويات، على أن يجري دعم هذا التوجيه بمجموعة من إجراءات الشفافية ( مثل إعلان الذمة المالية ومصادر الدخل قبل تولي الوظائف العامة أو الولايات النيابية وبعدها، قانون الاثراء غير المشروع أو قانون من أين لك هذا، وجود مؤسسات رقابية تابعة للمجتمع المدني، المساءلة والمحاسبة في البرلمان، الخ....) وغيرها من الإجراءات التي تبرهن على صدقية هذه القدوات الحسنة ومن يليها من المقتدين بها في مختلف مواقع المسؤولية..
نعم إن لدى لبنان ما يقدمه للعالم. فقد أضفى من روحه وشخصيته كمركب حضاري ثري بعناصره المتعددة طابعاً مميزاً على الحضارة العربية الإسلامية وعلى الحضارة الإنسانية، الأمر الذى جعله صاحب ثقافة ثرية أسهم فى صقلها أبناؤه - مسلمون ومسيحيون- عبر العصور المختلفة.

ما هو الإصلاح الإقتصادي المطلوب؟

سعود المولى
إن النهضة الاقتصادية الحقيقية لن تحققها إلا عقول أبناء الوطن وسواعدهم. ومن ثم فإن تلك النهضة مشروطة بالاستثمار الجاد فى البشر عبر محورين: الأول هو ضمان الحياة الكريمة لهم، والثاني هو تنمية ملكاتهم و صقل مهاراتهم وإطلاق مواهبهم لتحقيق النهضة.
وعلى ذلك فإن هناك مجموعة من المبادئ العامة والسياسات المقترحة لحل الأزمة الاقتصادية. ذلك أننا لا نرسم سياستنا الاقتصادية في فراغ. فهي من ناحية ترتبط إرتباطاً وثيقاً بقراءتنا لطبيعة الأزمات الإقتصادية التى تعاني منها بلادنا ومحيطنا فى اللحظة الراهنة، بينما ترتكز من ناحية أخرى على علم الاقتصاد بل وعلى الاستفادة من التجارب المختلفة حول العالم ، بما فيها التجربة اللبنانية ذاتها عبر العصور المختلفة...بعبارة أخرى، فإننا نفرق بين المبادئ العامة للنهضة وبين السياسات التى يتوجب تبنيها. فالمبادئ العامة تمثل الرؤية السياسية لإدارة الاقتصاد وهى ثابتة من زاوية تعبيرها عن الأولويات الوطنية. أما السياسات المقترحة فهى متغيرة بتغير الظروف الاقتصادية.
من المبادىء العامة النهوض بالطبقتين الوسطى والفقيرة، فالهم الأساسي الذي ينبغي أن يشغلنا هو البحث فى سبل النهوض بأبناء الطبقتين الوسطى والفقيرة لأنهما تتحملان أعباء تردي الأوضاع الإقتصادية فى البلاد. والاهتمام بأولئك الذين يمثلون الأغلبية من الشعب اللبناني من الفقراء وأصحاب الدخول الثابتة والمتوسطة والمحدودة هو أمر لا يتعارض مع حرية السوق ولا مع مصالح الرأسمالية الوطنية. فالهدف هو سد الفجوة بين الأغنياء والفقراء عبر رفع مستوى معيشة الفقراء وأبناء الطبقة الوسطى ودعم الخدمات المقدمة لهم وإعادة الاعتبار للطبقة الوسطى واستعادتها إلى قلب المجال العام...
ثم هناك دور الدولة : الحرية الاقتصادية هى أحد مفاتيح بناء النهضة الاقتصادية المنشودة. ولكن البعض يتحدث عن اقتصاد السوق وكأنه يعني الشيء نفسه فى كل بلدان العالم بغض النظر عن ظروف كل دولة ومستوى تطورها الاقتصادي. فيبدو عندهم وكأن لبنان يتساوى مع دولة كالولايات المتحدة وأخرى كالكونغو، فعلى هذه الدول الثلاث- رغم الاختلافات الواضحة بينها - إتباع السياسات والآليات نفسها. والأخطر من ذلك أن يتبنى البعض الآخر اقتصاد السوق بمعنى تقليص دور الدولة إلى حد الدعوة لانسحابها شبه الكامل وتخليها عن أغلب مهامها.
وإذا كنا نرفض كلا المنهجين في التعامل مع السوق الحر فذلك لأنه لا ينافي فقط ما يجمع عليه كبار علماء الاقتصاد وإنما يتجاهل أيضا ما ثبت من خلال التجارب الاقتصادية حولنا، ومن خلال دروس الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية الراهنة.
إن الدولة منوط بها القيام بالمهام التي لا يمكن للسوق القيام بها مثل وضع الرؤية السياسية التي تنظم عمل السوق، وهي الرؤية التى تحدد الإطار القيمي والأولويات السياسية. فبغير تلك الرؤية الحاكمة تصبح كل الغايات مباحة بغض النظر عن أخلاقيتها أو إضرارها بالصالح العام. وتصبح كل الأهداف متساوية بغض النظر عن أثر بعضها السلبي على شرائح بعينها فى المجتمع. وتصبح أيضاً كل الوسائل مشروعة مادامت تحقق الغاية بغض النظر عن تأثيرها على نسيج المجتمع وقيمه.
كما أن على الدولة تحقيق العدالة الاجتماعية. فالسوق لايمكنه أن يقوم بهذه المهمة وهو عاجز عن إحداث التوازن الاجتماعى اللازم لإحتفاظ المجتمع بعافيته وامتلاك أفراده للأمل الذى يشحذ الهمم. والعدالة الاجتماعية هّم رئيس.وهي أيضاً من أهم مكونات الاقتصاد السياسي للدولة وليست مجرد نوع من "الرعاية الاجتماعية". والعدالة الاجتماعية فى نظرنا ليست مشكلة توزيع وانما هي مسألة تتعلق بانخفاض مستوى معيشة قطاعات واسعة من أبناء الوطن ومن ثم فإن العلاج يكمن فى النهوض بتلك الفئات. وفضلاً عما تقدم، يتعين القول إنه فى لحظات الأزمات الكبرى يكون للدولة دور استثنائى ينتهي بعد تجاوز الأزمة. وهو مافعلته مثلاً الولايات المتحدة الأميركية فى الثلاثينيات وما تكرره اليوم بأشكال مختلفة لمواجهة الأزمة المالية التى عصفت بها.
على الدولة إقامة البنية الأساسية للبلد وصيانتها المستمرة. والبنية الأساسية لا تشمل فقط المتعارف عليه بالبنية التحتية كالمرافق العامة وإنما المقصود هو البنية الأساسية اللازمة لأي تطور اقتصادي عموماً وهو ما يتضمن البنية التعليمية والتكنولوجية فضلاً عن البحث العلمي.
ومن مهمات الدولة رفع معدلات النمو، وهذا لا بد وأن يصاحبه ارتفاع محسوس فى مستوى المعيشة. ففي بلد مثل لبنان لايمكن الاعتماد فقط على معدل النمو دليلاً على التحسن الاقتصادي. ومن ثم، فإن معيار التنمية يضم إلى جانب رفع معدل النمو إشباع الحاجات الأساسية لدى الغالبية العظمى من المواطنين والمتمثلة فى المأكل والملبس والمسكن فضلاً عن الصحة والتعليم. ومن المهم أن يصاحب العمل على رفع معدل النمو سعي مماثل لإيجاد فرص عمل تحقق ذلك الحد الأدنى المطلوب للحياة الكريمة.
ومن الضرورى ترشيد السياسة النقدية عبر دعم العملة الوطنية والتحكم فى مستوى الأسعار عند حدود مناسبة من خلال معالجة التضخم. وتلك هى مسؤولية البنك المركزي التي يستطيع القيام بها عبر الإستخدام السليم للأدوات المالية المتاحة له مثل سعر الفائدة وسعر الخصم. ومن هنا فإنه ينبغي تحقيق سياسة نقدية سليمة بواسطة البنك المركزي الذي يستطيع الإسهام الجاد فى عملية التنمية عبر تقديم الحوافز للبنوك لإتباع سياسات تحد من الإقراض الإستهلاكي وتتوسع فى الإقراض الانتاجي.كما أن جذب الاستثمارات الحقيقية العينية لايتأتى دون إيجاد مناخ مؤسسي وقضائي وتشريعي مستقر ويتسم بالشفافية.
إن تحقيق النمو الاقتصادي الحقيقي الذي يقف بلبنان على أرضية صلبة يقوم على تحقيق توزان فى النمو بين قطاعات الاقتصاد الوطني المختلفة كالزراعة والصناعة والبناء والخدمات لأن مثل هذا التوازن هو الذى يخلق قوة الاقتصاد الوطني. ومن ثم فإن الأولوية الكبرى هي لعلاج الخلل الراهن الذى انحسر فيه قطاعا الصناعة والزراعة بشكل فادح. فقطاعا العقارات والخدمات على أهميتهما لايمكنهما وحدهما النهوض بالاقتصاد اللبناني. وعلى الدولة إيلاء أهمية خاصة لقطاع الزراعة ، ليس فقط لأهميته التاريخية بالنسبة للبنان ، وإنما أيضا بسبب المشكلات العديدة التي عانى منها في الفترة الأخيرة الأمر الذي يحتاج معه إلى علاج سريع.
وتقوم رؤية النهوض بهذا القطاع على محاور خمسة رئيسية:

1- النهوض بالمزارعين: لا يمكن النهوض بقطاع الزراعة دون إعادة الاعتبار للفلاح والمزارع وضمان الحياة الكريمة له ولأسرته. فالمعاناة التي يعيشها الفلاح والمزارع هي جوهر أزمة الزراعة بل هي المسؤولة أيضا عن الهجرة من الريف إلى المدينة وخلق أحزمة من العشوائيات حول المدن الكبرى خصوصاً العاصمة بيروت.
2- حسن استغلال الموارد المائية : ضرورة اللجوء إلى أساليب جديدة للري كالرش والتنقيط. هذا فضلاً عن الاتجاه للاستفادة القصوى من المياه الجوفية في الري وإقامة المجمعات والسدود وخصوصاً في البقاع الشمالي..
3- المحافظة على الرقعة الزراعية : تتعرض الرقعة الزراعية في لبنان للتآكل بسبب سوء التخطيط العمراني والتعديات المستمرة. ومن هنا ضرورة تفعيل القوانين التي تجرم البناء على الأرض الزراعية أو الاعتداء عليها تحت أي مسمى. ومن الضروري إضافة مساحات جديدة للأرض الزراعية. كما أن إعتماد قوانين جديدة وإدارة جديدة شفافة وإنسانية ، تسمح بفرز وضم الأراضي وتسجيلها وانتقال ملكيتها، دون تكبد التكاليف الخرافية التي لا يقدر عليها المواطن (خصوصاً في البقاع الشمالي) هو من أولى الأولويات..
4- الاكتفاء الذاتي في الغذاء قضية تتعلق بالأمن الوطني الاستراتيجي بشكل مباشر.
5- إعادة الاعتبار للإنتاج الزراعي: يتحتم أن يعود لبنان لعرشه فى مجال إنتاج الفاكهة والخضار والحبوب الذي طالما احتفظ فى إنتاجه بمزية نسبية، ولا يجوز فى الواقع أن ينهار الإنتاج اللبناني القديم تحت أى مسمى...
ويتوجب إعطاء أولوية قصوى لمكافحة الفساد الذي صار بنيوياً، وذلك عبر وسيلتين: الأولى هى التفعيل الصارم لمبدأ سيادة القانون، والثانية هي إعطاء كل صاحب جهد ما يستحقه من أجر يحفظ كرامته ويغنيه عن غض الطرف عن إنتهاك القانون ناهيك عن مشاركته في إنتهاكه لسد حاجاته الأساسية.
كما أن محاربة الفقر ومساعدة الفقراء هي إحدى أهم مسؤوليات الدولة فى كل بلدان العالم بما فيها أعتى الرأسماليات. والفقر لاتكون معالجته عبر إعادة التوزيع، أو عبر زيادة متوسط الدخل الكلي للدولة وانما عبر برامج تنموية هدفها زيادة دخل الفقراء أنفسهم ودعم الخدمات المقدمة لهم. كما عبر إصدار قانون ملزم لكل من القطاعين العام والخاص بحد أدنى للأجور يستجيب لمطالب القطاعات العمالية ، وربطه بمعدل التضخم، والتعامل مع الفجوة الهائلة بين أعلى الأجور وأدناها فى بعض المؤسسات.
وبما أن التعليم والصحة هما عماد النهضة الاقتصادية ومن ثم فإنه يتحتم توفير الموارد اللازمة من الميزانية العامة للدولة لتغطية نفقات زيادة موازنة هذين البندين.
وبخصوص أنظمة الضمان الاجتماعي والتأمينات الاجتماعية ونظام التقاعد والمعاشات وتعويض نهاية الخدمة فإن هناك ضرورة لفصل موازنة الرعاية الاجتماعية (إيراداً وإنفاقًاً) عن الموازنة العامة للدولة ؛ حفاظًا على حقوق الفقراء ومحدودي الدخل . ولا يمكن القبول بمحاولات ضم أموال الضمان والتأمين والتقاعد إلى الموازنة العامة للدولة لأن استخدامها لسد العجز فى الموازنات العامة أو تقليص الدين العام من شأنه أن يعرض تلك الأموال للضياع وهو الأمر الذى يفاقم المشكلات الاجتماعية والاقتصادية ولا يساعد فى حلها بل ويلقي بأعباء تلك المديونيات على أجيال متتالية قادمة مع ربط الزيادة السنوية لمعاشات التقاعد بقيمة معدل التضخم السنوي .
منع الإحتكار والرقابة على الأسعار : إن الإحتكار جريمة ذات عواقب اقتصادية وخيمة تحاربها النظم السياسية فى شتى أنحاء العالم. ولعل منع الإحتكار هو أكثر المجالات التى تختبر مدى الالتزام بمبدأ سيادة القانون، ذلك أن المحتكر عادة مايكون من أصحاب القوة والنفوذ. ومن هنا ضرورة تفعيل قانون الإحتكار ضماناً لدعم العملية الاقتصادية. وفى سبيل الكشف عن ظواهر الإحتكار المدمرة للاقتصاد والتوازن الاجتماعى ينبغي أن يكون جهاز مراقبة الإحتكار والأسعار وحماية المستهلك جهازاً قوياً وفاعلاً..
كما أن المنظومة الضريبية هي أحد أهم عناصر السياسة المالية لأنها الأداة التى تحقق التوازن بين رفع النمو الاقتصادي وتحقيق العدالة الاجتماعية. ومن هنا فإنه لا بد أن تقوم السياسة الضريبية قبل كل شيء على خلق مناخ من الثقة مع قاعدة الممولين عبر تفعيل مبدأ سيادة القانون من ناحية ورسم سياسة ضريبية عادلة من ناحية أخرى. ولايجوز أن تتحمل الفئات الأضعف فى المجتمع العبء نفسه الذى تتحمله الفئات الميسورة. ولذلك، لا بد من رفع حد الإعفاء الضريبي بحيث يشمل متوسطي الدخول مع كون الضريبة تصاعدية على دخول الأفراد مع الإبقاء عليها متساوية على المشروعات الخاصة كي تهدف لخلق الثقة بين الحكومة والممولين. ومن المهم أيضا أن تميز السياسة الضريبية بين المشروعات الانتاجية والإستهلاكية عبر الحوافز والإعفاءات المختلفة. إن المطلوب تعديل المنظومة الضريبية على نحو يسعى لعلاج الخلل الشديد فى التركز السكاني فى العاصمة والمدن الكبرى. ومن ثم مطلوب خلق نظام ضريبي يختلف باختلاف المنطقة الجغرافية وهدفه تشجيع الانتشار المتوازن فى كل مناطق الجمهورية.
ومع وجود قانون حماية المستهلك، وإنشاء جهاز حماية المستهلك ، صار واضحا أن العبرة الحقيقية هى مدى التطبيق الفعلي لهذا القانون على أرض الواقع. ومن هنا أهمية إطلاق قوى المجتمع الأهلي والمدني والسماح لها بالعمل فى إطار من الشرعية. فالمجتمع هو الرقيب الأهم القادر على حماية المستهلك.

السياسة الخارجية في عالم صعب

سعود المولى
ينبغي أن يحكم رؤيتنا في مجال السياسة الخارجية والعلاقات الدولية أصل قيمي من جهة، وإدراك واع بحقائق الواقع الدولي من جهة أخرى. فالعلاقات الدولية، شأنها شأن كل العلاقات البشرية تقوم على مبادئ عامة، بغض النظر عن حكمنا القيمي على تلك المبادئ المتبعة. ومن هنا فإن المبادىء التى تحكم رؤيتنا اللبنانية فى العلاقات الدولية هي كالتالي:
1- العدل: وهو قيمة إسلامية ومسيحية وإنسانية عليا. ونعني بها، في مجال العلاقات الدولية، أن تُبنى العهود والمواثيق والاتفاقات الدولية على أساس كفالة العدالة للأطراف المختلفة، وعدم الجور على طرف فيها. وثمة علاقة وثيقة بين إقرار العدل ، ووجود السلام لأن غياب العدل يخلق الصراع ولا يمكن للسلام أن يدوم إلا إذا كان عادلاً .
2ـ الحرية : ويعني مبدأ الحرية فى مجالات العلاقات الدولية مايلي:
أ ـ الانفتاح على العالم شرقه وغربه، شماله وجنوبه، والتفاعل معه والاستفادة من خبرات شعوبه. وهو تفاعل مبني على الثقة بالذات الحضارية والإيمان بأن لدينا أيضاً مانسهم به فى عالم اليوم.
ب ـ بطلان الأوضاع التي تنشأ نتيحة للقسر والإكراه ؛ حتى لو تكرست عبر اتفاقيات أو معاهدات أو بحكم الأمر الواقع ، فهذه كلها تتنافى مع قيمة الحرية ، ولا بد لسياستنا الخارجية أن تعمل لتصحيح الأوضاع بما يتفق مع هذه القيمة الإنسانية العليا .
3ـ احترام العهود والمواثيق: إن احترام العهود والمواثيق يعد عاملاً أساسياً وحاسماً
في عملية التفاعل المنتظم في العلاقات الدولية. وهو لا يقتصر فقط على الجوانب الشكلية أو القانونية ، وإنما يمتد ليصبح أداة من أدوات ترسيخ مبادئ التعاون والتعايش، وعاملاً أساسياً لترسيخ ثقافة السلام لأن الإخلال بالتعهدات ونقض المواثيق هو أحد الأسباب التي تؤدي إلى تجدد النزاعات واندلاع الحروب.
4ـ الإحتفاء بالتعددية واحترام الخصوصية الثقافية:نحن نؤمن بالتعددية الحضارية والثقافية والسياسية والدينية ؛ ذلك لأن التنوع والاختلاف من سنة الحياة الاجتماعية ، ومن ثم لا يجوز السعي إلى طمس الاختلافات وتنميطها في قالب واحد لأنه مخالف للطبيعة البشرية من ناحية ولأنه لا يأتي إلاّ عن طريق الجبر والإكراه. ومن هنا أيضاً، دعوتنا لحماية الخصوصية الحضارية والثقافية واحترامها.
5ـ التعاون والاعتماد المتبادل: إن التعاون المبني على تبادل المنافع ورعاية المصالح المشتركة ، في إطار من السعي الدائب إلى تحقيق الخير الإنساني العام، هو الأساس المنشود للعلاقات الدولية .
طبعاً نحن ندرك أن العلاقات الدولية فى واقعها تبتعد كثيراً عن تلك المبادئ والقيم التي تكفل التعاون والسلام والحرية لجميع الأمم والشعوب. ومن ثم، فإن التحدي الحقيقي هو التفاعل الناجح فى الساحة الدولية بواقعية ومن منطلق قيمي فى آن معاً. ومن هنا، ضرورة التفريق بين الواقعية والإنهزام. فالواقعية تقتضي الكفاح من أجل حماية المصالح العليا للوطن فى ظل الظروف الدولية أياً كانت طبيعتها وبغض النظر عن الموقف منها. إلا أن تلك الواقعية لا تعني بالضرورة الاستسلام للواقع الدولي بكل آفاته. فالواقعية التى تسعى لتعظيم المنفعة الوطنية تعني أيضاً امتلاك روح المبادرة والتفكير في السبل التى من خلالها يمكن العمل مع دول وشعوب أخرى من أجل تغيير واقع دولي ظالم يضر بها كما يضر بنا. فلا يجوز المصادرة على حق الشعوب فى أن تحلم بواقع أفضل.ومن خلال هذه الرؤية والمبادئ العامة، نرى العالم باعتباره يحمل للبنان، شأنه شأن الدول الأخرى، منظومة مركبة من الفرص والتحديات. ولايمكن للبنان أن يضع يده على الفرص التي تخدم مصالحه أو أن يرصد التحديات التى تواجهه إلا من خلال رؤية واضحة مستمدة من السؤال الرئيسي المتعلق بهويتنا ومشروعنا الوطني..
إن تعريفنا للأمن القومي اللبناني يتضمن العمل على حماية لبنان من كل ما يهدد استقلاله سياسياً أو اقتصادياً أو عسكرياً.ومن المهم التفرقة بين ما يمثل تهديداً للأمن القومي وما يشكل تحدياً ينبغي الاستعداد لمواجهته، هذا فضلاً عن إدراك أن سبل مواجهة التهديدات ليست كلها واحدة. ففى حين تتطلب بعض تهديدات الأمن القومي تعبئة شاملة للمجتمع، يتعين فى حالات أخرى إتخاذ خطوات متعددة فى إطار خطة طويلة الأجل. أما التحديات فهى قد تكون بمثابة عقبة فى وجه مصلحة لبنانية ينبغي إزالتها، أو قد تمثل فرصاً ينبغي بذل جهود حثيثة لاقتناصها.
وتأتي قضيتا العلاقة مع سوريا والقضية الفلسطينية على قمة أولويات الأمن القومي اللبناني على الإطلاق. فإلى جانب علاقات الأخوة العميقة وروابط الجوار والتاريخ والجغرافيا والمصالح ، فإن سوريا تمثل العمق الاستراتيجي للبنان. إن السياسة اللبنانية تجاه سوريا في حاجة إلى إعادة نظر شاملة تحقق التوازن الدقيق بين ثوابت حماية سيادة واستقلال وحرية لبنان من ناحية وبين احترام المصالح العليا لسوريا وأمنها الاستراتيجي من ناحية أخرى. إن بناء العلاقات المميزة بين البلدين على أساس الاحترام والثقة المتبادلة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لكلا البلدين، وضمن إطار التضامن العربي، يمكّن لبنان من أن يلعب دوراً مؤثراً في العالم يحمي سوريا ويكون لخيرها وخير العرب . وينبغي فى هذا الإطار التشديد على أن مقتضيات الأمن القومي والسيادة اللبنانية تفرض التعامل مع أي نظام حكم فى سوريا أياً كانت طبيعته أو طريقة وصوله للحكم أو طريقة تعامله مع شعبه ومجتمعه، تماماً كما نرفض أي تدخل سوري في شؤون لبنان الداخلية، دون أن يعني ذلك الإخلال بمقتضيات الأخوة وحسن الجوار ولا بمقتضيات التضامن العربي في وجه العدو الصهيوني، إنما نطمح الى علاقات قائمة على الوضوح والشفافية وعلى الإندراج ضمن استراتيجية عربية موحدة تحقق الأمن والإزدهار لشعوبنا.. ولبنان لا يملك رفاهية الإنحياز لأحد أطراف الصراع العربي الداخلي بالضبط مثلما لا يملك رفاهية الوقوف على الحياد إزاء ما يدبر لسوريا من أطراف وقوى دولية.
كما أن رؤيتنا للعلاقات المميزة مع سوريا تشمل أيضاً البحث فى المشروعات المشتركة التى تعود بالنفع على البلدين كالمشروعات المائية والزراعية والكهربية والتجارية والسياحية فضلاً عن مشروعات تنمية الثروات الحرجية والحيوانية والسمكية والثروة البشرية في التعليم والثقافة.
وبالقدر نفسه من الأهمية، تعتبر القضية الفلسطينية قضية محورية فى رؤيتنا للأمن القومي اللبناني. لأن حرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة معناه استمرار انتهاك القانون الدولي والإنساني على حدود لبنان الجنوبية، الأمر الذى يمثل تهديداً صريحاً للأمن القومي اللبناني. ونحن حين نؤكد تأييدنا الكامل لحق الشعب الفلسطينى فى تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، وحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة لديارهم، نؤكد أيضاً على حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال بكل الوسائل المشروعة ، بما فيها القوة المسلحة التى يعتبرها العالم مقاومة مشروعة نصت عليها المواثيق والمقررات والأعراف الدولية كحق ثابت لأي شعب في مواجهة الاحتلال، ونرفض في الوقت نفسه كل أشكال الإرهاب والقتل التي تصيب المدنيين..
ولكن فوق كل هذا وربما قبله فإن الوضع الحالي لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا يمثل خطراً حقيقياً يهدد الأمن القومي اللبناني. فقد مر أكثر من عشر سنوات على تحرير الأرض العزيزة في الجنوب والبقاع الغربي دون حصول الإنسحاب الاسرائيلي الموعود من تلك المنطقة ولا توقف التجسس الإسرائيلي والطلعات الجوية والاعتداءات الموسمية.وليس سراً أن إسرائيل لها مطامع متجددة في أرضنا ومياهنا وشواطئنا الأمر الذى يتحتم معه إعطاء الأولوية القصوى لقضية استكمال السيادة الوطنية في ظل احترامنا للقرارات الدولية الخاصة بجنوب لبنان وآخرها القرار 1701 ومع اليقظة والحذر في مراقبة تنفيذها والتقيد بها بما يخدم مصلحة لبنان وأهل الجنوب الصابرين الصامدين...
يتعين على صانع القرار اللبناني العمل على تعميق العلاقات اللبنانية العربية لا فقط في الجوانب العسكرية والسياسية والاقتصادية وانما ضرورة الاهتمام بالتفاعل الثقافي والشعبي أيضاً. فمن أهم ما فقده لبنان فى كبوته الأخيرة هو مايطلق عليه "القوة الناعمة" أو "القوة الرخوة" أي نفوذه المعنوي والثقافي. ومن هنا فإن التفاعل اللبناني فى الثقافة والفنون والآداب من شأنه أن يسهم في استعادة لبنان لهذا النفوذ وهو الذي يساعد بالضرورة على تدعيم قدرته على لعب دور عربي وإقليمي مؤثر.
وبناء على التعريف السابق ذكره للأمن القومى اللبنانى، يتحدد موقفنا من القضايا المختلفة بل ومن دول العالم على اختلافها. فنحن لا نتخذ موقفاً موحداً من دول الغرب مثلاً أو من دول الشرق، فهي علاقات تبنى مع كل دولة على حدة بناء على المصالح العليا اللبنانية من ناحية وبناء على مدى احترام تلك الدولة لإستقلالية لبنان ومصالحه ومصالح العرب من ناحية أخرى، وأولها قضية فلسطين، وذلك في إطار علاقة تقوم على تبادل المصالح ولا تتعارض مع المبادئ العامة السابق ذكرها ، وعلى رأسها احترام المواثيق والمعاهدات الدولية التي وقع عليها لبنان. ويعني ذلك أنه باستثناء الدول الغاصبة المعتدية لا يوجد خصومة دائمة ولا تحالف دائم فهي مسألة تحددها أولويات الأمن القومي اللبناني والمصالح العليا كما يراها شعب لبنان وحكومته المنتخبة انتخاباً حراً.
ومن أجل أن يتم بناء مثل تلك العلاقات التي يسودها الاحترام المتبادل للمصالح العليا، فإن لبنان فى حاجة ماسة إلى استعادة مكانته الإقليمية والدولية. وهو ما لا يتأتى دون استعادة المجتمع اللبناني ذاته لعافيته عبر نهضة اقتصادية شاملة وتحول ديموقراطي حقيقي. فالنهضة الذاتية هي مفتاح النفوذ الإقليمي والدولي وهي التي تفرض على الآخرين دولا ومنظمات احترام مصالحنا العليا.
وفى إطار هذه الرؤية، ننظر بعين الاعتبار إلى التحولات الكبرى فى النظام الدولي ومايفرضه ذلك على لبنان من تحديات وما يتيحه من فرص. فعلى المستوى الدولي، صار انحسار الإمبراطورية الأميركية واضحاً بالقدر الذي يشير إلى أن مرحلة القطب الواحد مرحلة انتقالية سوف تليها على الأرجح مرحلة جديدة من مراحل تعدد الأقطاب، لاتملك فيها حتى الآن أي من القوى الصاعدة كل المفردات التى تجعلها منافساً كاملاً للولايات المتحدة الأميركية. فروسيا مرشحة للعب دور سياسي أكبر بينما تمثل الصين واليابان والإتحاد الأوربي التحدي الاقتصادي الأكبر للولايات المتحدة. وعلى المستوى الإقليمي، من المهم للبنان أن يأخذ فى اعتباره صعود كل من تركيا وإيران والوضع في العراق وما لذلك من تداعيات على التوازن الإقليمي.
وفي ظل هذه التحولات الدولية والإقليمية، هناك عشرات الفرص المبنية على التعاون المشترك ليس فقط مع دول الجوار المباشر وإنما مع دول الجنوب عموما. فمن غير المعقول أن يظل الاهتمام اللبناني مسلطاً على دول الغرب وحده، إذ أن فرص التعاون مع دول آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء وأميركا الجنوبية ذات أهمية قصوى ليس فقط اقتصادياً وإنما لاستعادة لبنان لنفوذه . فثقل لبنان نبع تاريخياً من علاقاته الخارجية ومن دوره في العالم، وخصوصاً لجهة وزن ودور المغتربين من أبنائه وهذا ما يفرض على السياسة الخارجية اللبنانية إيلاء مسألة المغتربين اهتماماً أكبر ضمن خطة واضحة لتعزيز إرتباطهم بالوطن الأم وخدمتهم لمصالحه الوطنية ولقضاياه المصيرية، وفي الآن نفسه إعادة الإعتبار الى المغتربين بصفتهم مواطنين كاملي الحقوق والواجبات في وطنهم وخارجه..
ولايمكن للبنان أن يضع يده على الفرص التى تخدم مصالحه أو أن يرصد التحديات التي تواجهه إلا من خلال رؤية واضحة مستمدة من السؤال الرئيسي المتعلق بهويتنا ومشروعنا الوطني..