الصفحات

الأربعاء، 8 ديسمبر 2010

مبادرة من أجل قيام "تجمّع العدالة والمصالحة"

تجمّع العدالة والمصالحة:وثيقة تأسيسية

في الرابع من ديسمبر/كانون الأول 2010 التقى جمع من المثقفين والناشطين اللبنانيين وأصدروا هذا النداءالتاريخي الموجّه إلى جميع اللبنانيين المهتمّين بمستقبل وطنهم، لا سيما أولائك الذين يرفضون البقاء مكتوفي الأيدي في انتظار ما سيكون. إنه دعوة إلى العمل معاً والتفكير معاً من أجل طَيّ صفحة الحروب بصورة نهائية، ومن أجل مصالحة وطنية قائمة على العدالة والإنصاف.
د. سعود المولى
أولاً- يعيش وطننا، منذ نحو نصف قرن، حالةً أشبه ما تكون بالحروب المتواصلة، تخلَّلتها فتراتٌ من الهدنة، طالت أو قصرت. فبعد الحرب الأولى عام 1958، شهد لبنان حرباً ثانية عام 1975 امتدت على خمس عشرة سنة، فدمرت الإنسان والدولة والعمران، ولم يسلم منها حتى الذين اعتزلوها أو حاولوا، كما لم تتوقف إلا بعد أن أنهكت الجماعات المتحاربة وجرَّحتها في الصميم. إلى ذلك شهد هذا البلد خمسة اجتياحات اسرائيلية في مدى ثلاثة عقود (1978،1982،1993، 1996، 2006) بلغ أحدها عاصمته (1982)، كما شهد في الفترة ذاتها تركّز السلاح الفلسطيني على أرضه بعد اتفاق القاهرة (1969) واحتلالاً اسرائيلياً (1978 – 2000) وهيمنة سورية كاملة على الدولة (1990 – 2005).

واليوم يعيش اللبنانييون تحت وطأة التهديد بحربٍ أهلية جديدة، إذا لم يتخلّوا عن حقّهم بإجراء حُكم العدالة في قضية الإغتيالات السياسية التي ارتُكبت منذ العام 2005، و إذا لم يرضخوا لمشيئة السلاح الخارج عن الدولة، ولم يقبلوا العيش في خوف من بعضهم بعضاً بصورة متواصلة، حيث تُنبش القبور وتغذّي حزازاتُ الماضي صراعات الحاضر.
إلى هذا الخوف من الآتي القريب، يشعر اللبنانيون بأنهم ما عادوا أسياد مصيرهم الذي يتقرر اليوم في مفاوضات بين دول المنطقة من دون مشاركتهم.

ثانياً- إن هذا الواقع الصعب والماضي الأليم لا ينبغي أن يحجُبا عن وعي اللبنانيين إنجازاتٍ كبرى حقّقوها معاً، فباتت في رصيدهم المشترك، ولم تكن متيسِّرةً لمعظم شعوب المنطقة:
 فلقد إعترفوا بتنوّع مجتمعهم وارتضوه، ثمّ بنوا على هذا الشيء مقتضاه، فأسسوا نظاماً سياسياً قائماً على التعدّد والديموقراطية، واستقلالية القضاء عن السلطة السياسية، وحيث لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك (أتفاق الطائف 1989).
 ثمّ حرّروا أرضهم من الإحتلال الاسرائيلي، مجبرين اسرائيل عام 2000 على الإنسحاب دون قيد أو شرط، تنفيذاً للقرار الدولي 425 بعد 22 سنة من صدوره (1978).
 وأخيراً أسقطوا الديكتاتورية، الطارئة على مجتمعهم، بانتفاضةٍ سلميّة عارمة، مُبرّأة من أي عنف، أخرجت معظم اللبنانيين المقيمين إلى ساحة الحرية في 14 آذار 2005 وأجبرت الجيش السوري على الجلاء عن الأراضي اللبنانية، وهي تجربة غير مسبوقة في تاريخ نضال الشعوب ضد الديكتاتورية.

ثالثاً- لقد حان الوقت كي يمسك اللبنانيون بمصيرهم الوطني، بأن يضعوا حداً لتلك الدورة الجهنمية من العنف والقتل، قيستعيدوا "الحلم اللبناني" الذي أبصر النور في ربيع 2005، والذي وعدهم باستعادة حلاوة العيش في بلدٍ فريدٍ بتنوع مجتمعه، واستثنائي بقدرة أبنائه على نسج العلاقات الطيّبة فيما بينهم ومع العالم.والحال أن العدالة هي وسيلتهم الوحيدة لوضع حد نهائي لحروبهم، ومن أجل إعادة الإعتبار إلى القانون الذي عليه يتأسس عيشهم المشترك.

عام 1989 إختار اللبنانيون أن يعيدوا تأسيس سلمهم الأهليّ على قانون للعفو وليس على فعل العدالة. غير أن هذا القانون لم يفلح – بمعزلٍ عن تطبيقه الكيفيّ الإستنسابيّ – في طيّ صفحة الماضي الذي استمرّ يُلقي بثقله على حاضر اللبنانيين، مقيِّداً قدرتهم على معانقة المستقبل.

في إطار هذه الرؤية إلى العدالة – كفكرة تأسيسيّة للبنان المتصالح مع نفسه – إنما تقع أهمية المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. إذ للمرة الأولى في تاريخنا يستدعى مرتكبو جريمة سياسية كبرى للمثول أمام العدالة، لئلا تستمر سياسة الإفلات من العقاب في لبنان والمنطقة.


رابعاً- كي يتمكن فعل العدالة من طيّ صفحة الماضي بصورة نهائية ثمة شروط ينبغي توفُّرها:

ينبغي أولاً الإمتناع عن استخدام العدالة ضد أي جماعة أهلية أو فريق سياسي. فحكم العدالة إنما يستهدف أفراداً لا جماعات طائفية ينتمون إليها، فضلاً عن أنه ليس في لبنان"طوائف بريئة" وأخرى "مذنبة". ولقد حان الوقت كي نضع حداً لسياسة الإختزال المقيتة: إختزال هذه الطائفة أو تلك في أحزاب أو شخصيات سياسية تدّعي تمثيلها الحصري؛ وهي سياسةٌ وقفت وراء معظم مشكلاتنا، لأنها تحمّل المواطنين المسؤولية عن قرارات سياسية يتّخذها آخرون باسمهم وحتى من دون استشارتهم.

من الضروري أيضاً عدم الخلط بين قرار إتهامي يستدعي إجراءات إثبات، وبين حكم قضائي يصدر في نهاية المحاكمة. إن هذا الخلط بالغ الخطورة، لأنه يطعن في فكرة العدالة نفسها. فإدانة المتهم قبل المحاكمة واستخدام حق الدفاع لا تتيح طيّ صفحة الماضي على قاعدة العدالة والإنصاف.

من الضروري أخيرأ أن يبادر اللبنانيون إلى إجراء مصالحة فيما بينهم ومع الآخرين، مصالحة لا تستبق العدالة ولا تلغي أحكامها. هذه المصالحة لا يمكن أن تتم إلا على أساس الإعتراف بمسؤوليتهم المشتركة عن الحروب التي دمّرت بلدهم. إذ إن كل فريق منهم احتكم إلى السلاح، في مرحلة من المراحل، لحل خلافه مع الفريق الآخر، أو بدعوى الدفاع عن الذات، كما استعان بقوى خارجية لتلك الغاية، مضحّياً باستقلال الوطن وسيادته، ليغدو الجميع، من حيث يدرون أو لا يدرون، مجرد أدوات في حروب لبنان المتمادية.

هذا الإعتراف بالمسؤولية المشتركة أمرٌ في غاية الأهمية. فهو من طبيعة أخلاقية وسياسية. لم يكن اغتيال رفيق الحريري الجريمة السياسية الوحيدة في تاريخ لبنان، ولكنه كان الجريمة الأولى بعد الحرب التي وضعت في يد عدالة مقتدرة وشفافة. وإذا كنّا لا نستطيع إجراء حكم العدالة في الجرائم السابقة، فمن الضروري الإقرار بمسؤوليتنا الأخلاقية المشتركة عن تلك الجرائم. هذا الإعتراف الذي من شأنه إعادة الاعتبار إلى نظام قيمنا، يتيح لنا إعادة تأسيس عيشنا المشترك على قواعد جديدة.

خامساً- كي تؤتي المصالحة ثمارها العملية، ينبغي أن تدفع اللبنانيين إلى العمل على رفع القيود الطائفية التي تحول دون قيام دولةٍ تحمي العيش المشترك وتنهض بمسؤولياتها حيال المواطنين. وذلك بتوفير حقوقهم الأساسية التالية:

 حقُّهم بالعيش في بلدٍ لا يكون ساحة حروبٍ دائمة لخدمة مصالح حزبية أو خارجية، بلدٍ تحتكر فيه الدولة قوة السلاح، بوصفها الجهة الوحيدة المخوّلة اتخاذ قرارات ملزمة لجميع المواطنين.

 حقّهم بالعيش في كنف دولةٍ مدنية، حيث لا يجري اختزال الفرد في انتمائه الطائفي، مجرّداً من صفة المواطنة، دولةٍ يسري القانون فيها على الجميع، حيث القضاء مستقل عن السلطة السياسية، وحيث الإدارة العامة لا تشكل مرتعاً للمحسوبيات الطائفية أو الحزبية أو الشخصية، وحيث مشاركة المواطن في الحياة العامة مكفولةٌ بقانون انتخاب يؤمّن صحّة التمثيل ولا مركزية إدارية...

 -حقّهم بالعيش في مجتمع حديث ومنفتح، يحترم نفسه، حيث يستطيع الفرد أن يختار نظاماً مدنياً لأحواله الشخصية، وحيث لا تتعرض المرأة لأي شكل من أشكال التمييز، وحيث احترام الشخص الإنساني هو ذاته للميسورين كما للمعوزين، للعمال اللبنانيين كما للأجانب، وحيث القوانين الناظمة لأحوال الطوائف لا تجور على الحرية الفردية،وحيث تُصان حقوق الأطفال والمسنّين وذوي الإحتياجات الخاصة، وحيث يفرض القانون احترام الطبيعة، ويمنع الإعتداء على البيئة، ويحمي التراث الوطني مثلما يحمي صحة المستهلك...

سادساً- ينبغي للمصالحة بين اللبنانيين أن تعبّر عن نفسها أيضاً بنظرةٍ جديدة إلى علاقتهم بمحيطهم الإقليمي. فبدلاً من إستدعاء الخارج للتدخل في نزاعاتهم الداخلية، فإن مصالحتهم تساهم في تغيير نظرة المحيط الإقليمي إلى لبنان، بما يعزّز استقرارهم الداخلي وبما يتيح للبنان أن يلعب دوراً مرموقاً في بناء مَشرقٍ عربي جديد، محرّر من عبوديات القرن الماضي وصراعاته التناحرية، ومن عنفٍ يسكن حاضره، مَشرقٍ قادر على استعادة دوره الريادي الذي لعبه أبان عصر النهضة، مَشرقٍ قادر على تحرير فكرة العروبة من أي محتوى يوظفها في خدمة دين أو دولة أو حزب، عروبة حضارية تتسع لمفاهيم التنوع والتعدد والإنفتاح على الثقافات الأخرى، وتحتضن قيم الديموقراطية والتسامح واحترام حقوق الإنسان، عروبة تعطي الأولوية لحل عادل ودائم للقضية الفلسطينية، الأمر الذي يمثل شرطاً ضرورياً لإنهاء مواجهة صدامية بين العالم العربي والغرب استمرّت عقوداً طويلة.
لقد طفح الكيل باللبنانيين من سياسات التهديد والوعيد، من التخوين والتخويف، من العنف والترهيب.
ليس قدر لبنان أن يكون منذوراً لحروبٍ مستدامة وإنما هو وطنٌ يستحق الحياة الحرة الكريمة كسائر الأوطان.