الصفحات

الأربعاء، 15 ديسمبر 2010

العالم يتجه نحو تعددية قطبية تكثر فيها مراكز القوى

باسكال بونيفاس
في كتابه «فهم العالم»، يرى باسكال بونيفاس أن أول درس بدأنا نستخلصه هو أن العالم الذي كان مهيمنا عليه من قبل الغربيين منذ خمسة قرون (ثم الولايات المتحدة الأميركية) صار بصدد التلاشي والاختفاء من أمام أعيننا. ويضيف أنه إذا كان من الصعب علينا في المرحلة الراهنة أن نجزم بشكل مطلق بأن العالم يتجه نحو مفهوم «تعدد القطبية» لأن القوة الأميركية ما زالت متفوقة على بقية القوى، إلا أننا ـ مع ذلك ـ لا نستطيع القول بأن هناك منظومة واحدة تحكم العالم تحت شعار القطبية الواحدة (unipolaire)، لأن الولايات المتحدة الأميركية لم تعد وحدها قادرة على قيادة العالم ولا تحديد أجندة التغييرات العالمية، ولا حل المشاكل المطروحة لوحدها. وبالتالي "فنحن أمام وضعية جديدة وعالم يتجه نحو تعددية قطبية تتعدد فيها مراكز القوى".
وحول ما إذا كان ذلك يمثل بداية النهاية «للعصر الأميركي» في قيادة العالم، يؤكد بونيفاس في مقابلات صحفية أنها ليست بداية النهاية للعصر الأميركي في قيادة العالم فحسب، ولكنها بداية نهاية منظومة سيطرة الغرب بمفهومه الواسع بحد ذاته ممثلا في الولايات المتحدة الأميركية مضافا إليها أوروبا، مشيرا إلى أن هذا الغرب، لم يعد قادرا بالقوة وحدها على فرض إرادته على بقية أنحاء العالم مثلما كان عليه الأمر منذ بدايات القرن التاسع عشر.فالقوة العسكرية لوحدها لم تعد كافية برأيه لإدارة العالم وإلا لكان الأميركيون انتصروا في العراق، ومثال العراق بالذات، والفشل الأميركي فيه، كشفا عن أن القوة العسكرية ما زالت تمثل عاملا مهما إلا أنه عامل أصبح غير كاف لحل المشاكل الموجودة. ولكن يجب أن تترافق معه عوامل ووسائل أخرى ولهذا السبب فإن القوة أصبحت في حد ذاتها متعددة الأشكال.
تأثير الصورة
ويشدد بونيفاس على أن الهيمنة العسكرية لم تعد محددة لمستقبل موازين القوى بل اتخذت أبعادا أخرى اقتصادية وفكرية، واتخذت قيمة وبشكل خاص معلوماتية، لافتا في هذا الجانب إلى أن التنافس أصبح على أشده من أجل الهيمنة على العالم انطلاقا من تأثير الصورة.وذلك عندما برزت قناة «سي أن أن» لتظهر بعدها قنوات أخرى كبديل جديد ينتمي إلى مجال ثقافي مغاير تماما للثقافة الغربية الإعلامية المهيمنة. وتلا ذلك دخول الصينيين والروس بدوهم إلى هذا الميدان عبر إطلاقهم لقنواتهم الدولية، وفي أميركا اللاتينية أطلقت قناة دولية من أجل هذا الغرض.فاليوم أصبحت القوة عسكرية واقتصادية وتقنية وبالخصوص معلوماتية وهي قوة مرتبطة بعالم الأفكار ونشرها عبر الصورة التي ربما تلخص بشكل أكثر مجالات القدرة على التأثير.
الملف الفلسطيني-الإسرائيلي
ويرى بونيفاس أن قضية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين تمثل الملف الأكثر أولوية في المرحلة الجديدة، موضحا أن الهدف هو تحقيق سلام عادل ومبني على قرارات الشرعية الدولية. ويقول إن السلام لا يجب أن يكون مفروضا بالقوة، كما أنه ليس رهين واقع عسكري معين أملاه المنتصر على المنهزم. وهذا الأمر يمثل الرهان الأكبر في المرحلة المقبلة؛ لأن هذا الصراع طال أكثر من اللازم وبالرغم من كونه جغرافيا فإنه يبقى ذا آثار محدودة، لكنه يلقي بظلاله السياسية والنفسية على الوطن العربي والإسلامي وحتى على المستوى العالمي. ويؤكد أن القضية الفلسطينية أصبحت في هذا العالم رمز الظلم وغياب العدالة ضد العالم العربي. كما أنها تكشف أيضا عن ازدواجية المعايير الغربية التي تتحدث عن الديمقراطية وعن حقوق الشعوب في تقرير مصيرها والتي لا تطبق إلا عندما يتعلق الأمر بمصالح دولية وسياسية معينة، وهي المبادئ التي يقع تجاهلها عندما يتعلق الأمر بحقوق الشعب الفلسطيني.
ذريعة أيديولوجية
ويضيف أن القضية الفلسطينية استند إليها الكثير لتبرير سلوكاته، فكانت حجة العديد من الحركات العنيفة مثلما هي حجة بعض الأنظمة في إدامة الوضعية التسلطية على شعوبها. وفي هذا السياق فإن الإرهاب، وإن استند على دوافع عديدة، فإن القضية الفلسطينية مثلت له حجة من أجل بث إيديولوجيته في العالمين العربي والإسلامي. فابن لادن ومن ورائه القاعدة، وإن لم يكونا معنيين بدرجة أولى بمصير الفلسطينيين، فإنهما اتخذا هذه القضية وسيلة للتجنيد والتشكيك في سعي الأنظمة العربية لأجل المصالح العربية وللتضامن مع الفلسطينيين.القضية الفلسطينية كانت ذريعة للقاعدة من أجل بث أفكارها وبالتالي فإن إيجاد حل لهذه القضية هو في رأيي سحب هذه الذريعة من إيديولوجيا القاعدة، وبالتالي إضعافها، مثلما هي الحال بالنسبة للعديد من الأنظمة العربية حيث يكون إيجاد حل للقضية الفلسطينية اذنا بسحب الذريعة منها في إدامة حالة التسلط السياسي، فكثيرا ما جعلت من القضية الفلسطينية ذريعتها.
الملف الإيراني
ويعرب بونيفاس عن رأيه بأن الملف النووي الإيراني غطى في عالم الإعلام الغربي على غيره، وأخذ أهمية أكبر من الملف الفلسطيني، مشيرا إلى أن هناك توجها سياسيا/إيديولوجيا في أوروبا يقول إنه يجب الحديث عن إيران، إذ كلما تحدثنا عن إيران فإننا نتحدث بشكل أقل عن معاناة الفلسطينيين. ويضيف أن أصحاب هذا التوجه يقولون إنه عندما يقع التركيز على أن إيران تمثل الخطر رقم واحد فإنه سيتم التطرق للمشكل الفلسطيني من زاوية نظر أخرى غير متعاطفة مع الفلسطينيين وبالتالي أكثر راحة بالنسبة لإسرائيل عن طريق إظهارها في مظهر المهدد والخائف. ولكن هذا التوجه الإيديولوجي يجب ألا يحجب عنا أن إيران تمثل مشكلا حقيقيا، وقدرة «الجمهورية الإسلامية» على امتلاك الأسلحة النووية سيكون بمثابة الكارثة الاستراتيجية في المنطقة. وهو أمر لا يعني فقط أمن دول المنطقة ولكن يعني أمن العالم بشكل عام.ومن هذا المنطلق، فإن وراء الحديث عن إيران عوامل ودوافع حقيقية، ووراءه أيضا دوافع مصطنعة وإيديولوجية. فالبعض يستعمل إيران كعلة عن طريق تضخيم خطرها حتى يخف الحديث عن معاناة الفلسطينيين ولكن هذا لا يجب أن يمنعنا من القول إن هناك مشكلا إيرانيا.
المنتصر.. والمستفيد
في تقرير صدر في مارس 2008 ألمح بونيفاس إلى قدرة ودهاء الإيرانيين على استغلال الوضع الإقليمي لصالحهم، وبالتالي الالتفاف على الضغط العالمي الموجه إليهم، وقال إن «المنتصر الوحيد من الحرب على العراق هو إيران»، واليوم ما زال يرى أن المنتصر الإقليمي من الحرب على العراق كان إيران والمستفيد الرئيسي على الصعيد العالمي كان الصين. ويبرر تحليله هذا لأن الولايات المتحدة ضعفت قوتها خلال الحرب على العراق فضلا عن النكسة الأخلاقية التي سادت فيها نتيجة هذه الحرب. ويرى بالمقابل أن الصين التي لم تشارك في الحرب على العراق واصلت نموها وواصلت عملية انفتاحها الخارجي على العالم، مشيرا إلى أن معرض «شنغهاي العالمي» ما هو إلا أحد رموز التطور والقوة الصينية الحالية، وقبل ذلك تنظيمها للألعاب الاولمبية مؤكدة على هذا النجاح. مع التأكيد أيضا أن الصين هي الدولة الوحيدة التي استطاعت حتى الآن الخروج من الأزمة المالية العالمية بسلام.أما على المستوى الإقليمي، فيرى ان إيران استطاعت أن تتخلص من منافسها الإقليمي الممثل في العراق، فضلا عن كونها أصبحت ذات تأثير سياسي كبير في البلد في الوقت الحالي عن طريق تأثيرها على الرصيد الأكبر من الناخبين الذين يبادلونها الإيدولوجيا المذهبية الشيعية نفسها، وبالتالي أصبحت تقريبا اللاعب الإقليمي الرئيسي في هذا البلد في السنوات الأخيرة.
الملف العراقي
أما في الملف العراقي الذي كان يرى فيه بونيفاس أن «الأميركيين دخلوا في حلقة مفرغة»، فهو يعتقد اليوم أن الدائرة المفرغة بدأت في الانفتاح مع قرار أوباما الانسحاب من العراق على الرغم من أن الأميركيين كانوا قادرين على الخروج من هذه الحلقة المفرغة قبل ذلك بكثير. ويقول: «لو قرر الأميركيون الانسحاب من العراق بعد مايو 2003 مباشرة، أي بعد انتصارهم عسكريا وإطاحتهم بنظام صدام حسين، لما كان هناك مأزق أميركي في العراق كما هو الأمر عليه في الوقت الحالي، ولكان من الممكن النظر إليهم كمحررين لا كمحتلين كما ينظر إليهم اليوم.
سيناريو كارثي
ويعتقد بونيفاس أن وجود الرئيس باراك أوباما في البيت الأبيض يحول دون الخوض بسهولة في مغامرة عسكرية جديدة، ويرى أي سيناريو للهجوم على إيران لن يكون سوى سيناريو كارثي، لأن عملية عسكرية ضد إيران ولو كانت محدودة وممثلة في ضربات جوية على المنشآت النووية الإيرانية من دون الحديث عن عملية غزو، هي لوجستيا عملية شبه مستحيلة وسوف تؤدي إلى خلق فوضى عارمة في منطقة الخليج ومنطقة الشرق الوسط بشكل عام وهو ما سيؤدي إلى وضع استراتيجي غير آمن في المنطقة، مشيرا إلى إن خطر احتمال مثل هذا السيناريو أقل بكثير مما كان عليه في عهد الرئيس جورج بوش الابن.
أي ديمقراطية؟
وردا على من يقول إن التدخل الأميركي في العراق أوجد تنافسا انتخابيا وديمقراطية ولو نسبية، يجزم بونيفاس بأن ديمقراطية تحت الاحتلال ليست ديمقراطية حقيقية، مشيرا إلى واقع تواصل العمليات الانتحارية والأبعاد الطائفية للقائمات الانتخابية، ويقول إن هذا لا يقطع الأمل بأن يكون في العراق ديمقراطية حقيقية بعد الاحتلال. ويوضح أن نسبة العنف في الانتخابات الأخيرة أقل مقارنة بالسنوات الماضية، والحضور الأميركي في المدن، والتدخل في العملية الانتخابية أقل مقارنة مع السابق. وأن العراقيين في هذا الوقت بدأوا يسترجعون جزءا من سيادتهم ولكنهم لم يصبحوا بعد بلدا ذا سيادة كاملة والذي هو أحد شروط تحقيق الديمقراطية في بلد ما.
الديمقراطية في العالم العربي
وحول رأيه في ما إذا بالإمكان استخدام مصطلح الديمقراطية في العالم العربي، يرى بونيفاس أن الديمقراطية مشروع للإنجاز لأن الأمر غير واقع فعليا، مؤكدا أنه يجب الحديث عن الديمقراطية في العالم العربي، وهذا يجب ألا يحجب الرؤية والقول إن هناك هوامش مهمة من الحرية في العالم العربي بالرغم من سيطرة الأنظمة التسلطية. ولكن في الوقت نفسه لا يعتقد أنه يمكن إحلال الديمقراطية في هذه المنطقة بفعل التدخل الخارجي وبشكل أقل ديمقراطية مفروضة نتيجة تدخل عسكري لأن الديمقراطية كانت وستظل نتيجة تفاعلات داخلية. ويضيف من المهم أيضا القول إن السياق الجغرا/سياسي وتواصل الصراع العربي الإسرائيلي تتخذه بعض الأنظمة في أحيان كثيرة ذريعة لعدم التقدم نحو عملية «الدمقرطة»، وهي الذريعة نفسها التي تتخذها بعض الأنظمة عندما يتعلق الأمر بالحصار والضغوطات الخارجية. ولكن عندما ننظر إلى بقية العالم وخصوصا أميركا اللاتينية مثلا التي تحولت بشكل كبير إلى نظم ديمقراطية، وإلى إفريقيا التي تتطور فيها الديمقراطية، وآسيا التي تشهد دفعة قوية نحو الديمقراطية فإن الديمقراطية في العالم العربي هي بشكل عام في تأخر عن بقية هذه الدول.
عوائق الديمقراطية
وعن رأيه في السبب الذي يحول بين العالم العربي وبين التوجه نحو الديمقراطية يقول بونيفاس إن هناك عدة عوائق تتمثل بالصراع العربي – الإسرائيلي الذي يمثل ذريعة من أجل الحد من الديمقراطية. وبنفوذ القوى الكبرى، مشيرا إلى أن هناك توجها عاما في الأنظمة التي ليست ملكية إلى نظام الوراثة في الحكم، وإلى أن الحرب على «الإرهاب الإسلامي» قد اتخذت أيضا كحجة جديدة من أجل الحد من الحريات والتقدم نحو الديمقراطية، وهو أمر كان شبيها في سنوات خلت في العديد من البلدان عندما كانت مقاومة الشيوعية ذريعة للحد من الديمقراطية وهو الأمر الذي يحدث اليوم.
مقاومة الإرهاب
وعن رؤيته للتطرف الإسلامي المرتبط بالعنف وتنظيم القاعدة والنظرة المستقبلية التي يحملها لهذا التنظيم تحديدا، يقول إنه في الوقت الحالي الملاحظ أن القاعدة في حالة انحسار وأن قدرتها على الضرب أصبحت محدودة، مستدركا أن هذا لا يعني أنها انتهت وأن ليس لها من قدرة في المستقبل على القيام بعمليات، موضحا أن قدرتها على التحرك أصبحت محدودة، لكنه لا يستبعد أن نسمع غدا عن عملية تفجير هنا أو هناك.وعلى المدى البعيد، يقول إنه إذا تمكنا من غلق الملف الفلسطيني نهائيا وإذا تمكن المجتمع العربي من «دمقرطة» نفسه وتحرير المجتمع المدني داخله، فإن هذا أفضل باب يمكن أن نقاوم من خلاله الإرهاب.