نص الكلمة الختامية التي منع من إلقائها، أمام غرفة الجنايات الاستئنافية،03 شعبان 1431 ه/16 يوليوز(تموز) 2010
السيد الرئيس...السادة المستشارون
أود في البداية أن أتقدم بالشكر الجزيل المشفوع بالامتنان والتقدير إلى هيأة الدفاع نقباء أجلاء وأساتدة محترمين و إلى الهيآت الحقوقية الوطنية و الدولية وإلى الأحزاب الديموقراطية و الشخصيات الوطنية و الهيآت و المنظمات السياسية العربية و رجال و نساء الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني والأصدقاء و الصديقات بالنتدى الاجتماعي المتوسطي واللجنة الوطنية للتضامن مع المعتقلين السياسيين الستة و إلى أعضاء وعضوات حزب البديل الحضاري وتنسيقية عوائل المعتقلين السياسيين الستة وإلى أسرتي الصغيرة و الكبيرة على التضامن والدعم و المساندة التي ما فتئوا وما زالوا يقدمونها لي طيلة ثلاثين شهرا من الإعتقال القسري و التعسفي.
السيد الرئيس
أؤكد لكم مرة أخرى أني بريء من كل التهم التي لفقت ضدي من طرف سلطات المتابعة، وإني إذ أنفي هده التهم أؤكد لكم أني استهدفت بسبب آرئي وأفكاري و معتقداتي مواقفي السياسية.
لذا أرجوا أن يتسع صدر محكمتكم الموقرة للإنصات لهده الكلمة الختامية عسى أن تساعدكم في تكوين قناعتكم الوجدانية.
أذكر محكمتكم الموقرة أني اضطررت، صحبة متابعين آخرين، إلى خوض إضراب مفتوح عن الطعام ومقاطعة المحاكمة بمعية دفاعي، ابتداءا من 22 مارس 2010 احتجاجا على غياب شروط المحاكمة العادلة. وقمت بتعليق هدا الإضراب و استأنفت مشاركتي في المحاكمة تسعة عشر يوما بعد ذلك؛ بعد ما أكد السيد وزير العدل لهيأة الدفاع و لتنسيقية عوائل المعتقلين السياسيين الستة أنه سيعمل على توفير شروط المحاكمة العادلة.
السيد الرئيس .. السادة المستشارون
أصرح و بكل أسف، أن المحاكمة اتجهت في مسار معاكس لهدا الالتزام إذ انتفت، في كل أطوارها، شروط المحاكمة العادلة. ليس فقط بسبب الخروقات التي شهدتها و ليس فقط لأن محكمتكم رفضت كل ملتمساتنا الأولية و دفوعاتنا الشكلية وسكتت عن التزوير الفاضح الذي طال الحكم الابتدائي (فضيحة الاستهلال) بل أيضا لأن محكمتكم لم تناقش الوقائع الحقيقة والتي كانت مناقشتها كفيلة بوضع الملف على سكته الصحيحة و إعطاء انطلاقة عملية لورش إصلاح القضاء.لأن الأمر لم يتعلق بمجرد تكييف أحكام وإصدار عقوبات بل كنا جميعا أمام لحظة تاريخية بامتياز، اخترتم مع الأسف، أن تديروا لها ظهركم. لذا أرى من واجبي، أن أثير انتباهكم إلى هده الوقائع التي كان يجب أن تولوها اهتمامكم وعنايتكم من أجل كشف الحقيقة و إحقاق العدالة.
يتعلق الأمر ابتدءا بطبيعة هده المحاكمة ثم بالسياسة سياقا و وقائع و أخيرا بالتعذيب الذي صرح أغلب المتابعين بأنهم تعرضوا له سواء بالمعتقل السري "تمارة" أو في ضيافة الفرقة الوطنية للشرطة القضائية.
• في طبيعة القضية
رغم أننا صرحنا مستندين إلى أدلة ملموسة، بأن المحاكمة التي نخضع لها هي محاكمة سياسية، و رغم أن ممثل الإدعاء لم يخف أنه خصم سياسي، خاصة حينما نازعنا في صفة المعتقل السياسي، ورغم تقارير و شهادات الهيآت الحقوقية الوطنية والدولية، ورغم الحيثيات التي صاحبت هده المحاكمة فإنكم لم تولوا الأمر أي اهتمام.ولو أن محكمتكم أولت هدا الأمر العناية الضرورية لتبين لها أننا لسنا أمام قضية جنائية بل محاكمة سياسية بامتياز. وكان هدا كفيل بأن يعطي لهده القضية برمتها مسارا آخر غير المسار الذي فرض عليه قسرا.
• في السياسة كأفكار ووقائع
رغم أنكم لم تناقشوا طبيعة القضية، فإنه كان منتظرا من محكمتكم أن تناقش الوقائع السياسية الدولية و المحلية التي شكلت سياق هده المحاكمة باعتبارها وقائع حقيقية تضئ مناقشتها عتمة هده القضية. إذ أنه ليس بالإمكان محكمتكم البث فيما نسب إلينا من دون استحضار الصراع القائم بين العولمة المتوحشة و دعاة العولمة البديلة وآثاره على الدينامية السياسية ببلادنا. وأتصور أنه ليس بإمكانكم إصدار حكم عادل من دون استحضار الحزب الإقتصادي و الاجتماعي والسياسي الذي تسببت فيه استراتيجية الصدمة لمدرسة شيكاغو بقيادة ميلتون فريدمان MILTON FRIEDMAN ، وهو الحزب الذي طال مختلف أنحاء المعمور ابتداءا بدول أمريكا الجنوبية ومرورا بدول جنوب شرق آسيا، أوربا الشرقية، الاتحاد السوفياتي، جنوب إفريقيا وانتهاءا بالعراق ولم تسلم منه حتى الولايات المتحدة الأمريكية نفسها. ولقد طالت ويلات هدا الحزب وطننا يوم قبلت حكومة مغربية تطبيق برنامج التقويم الهيكلي متسببة في هشاشة اقتصادية وتهميش اجتماعي غير مسبوقين. هشاشة و تهميش شكلا الوعاء الحاضن للتطرف.
لننصت إلى دافزون بوهلو DAVISON BUDHOO أحد أطر صندوق النقد الدولي وهو يتكلم عن برنامج التقويم الهيكلي.
إنه يعتبر أن التقويم الهيكلي كما يطبقه صندوق النقد الدولي، هو صيغة تعذيب جماعي"تكره حكومات و شعوبا تصيح من الألم على الركوع أمامنا، مهيضة الجناح مرعوبة وفي طريقها نحو التلاشي، تتوسلنا أن نبدي قليلا من التعقل و التعفف، لكننا نسخر منها ونستهزئ بها ليستأنف التعذيب أكثر من ذي قبل."(1)
كان منتظرا من محكمتكم أن تقف أيضا عند الصدمة التي تعرض لها بلدنا غداة أحداث 16 ماي الإجرامية وما تلى ذلك من وأد للانتقال الديموقراطي وتمرير لفانون الإرهاب و انقلاب على فلسفة العهد الجديد وتقطيع قسري للساحة السياسية و مصادرة للحقوق الدستورية لأحزاب سياسية استعصت على الترويض وإلقاء قياديها في السجن ومتابعتهم ومحاكمتهم بتهمة الإرهاب.
لو فعلت محكمتكم ذلك لسارت هده المحاكمة في وجهتها الصحيحة.
السيد الرئيس.. السادة المستشارون
إن إثارة هده الوقائع لها علاقة مباشرة بالقضية المعروضة على أنظاركم و بالدور المفترض للقضاء. فالقضاء هوالحكم المستقل الدي لا يتهيب من تفحص كل السبل التي يمكن ان توصله إلى الحقيقة.. القضاء هو صمام الأمن والأمان و التقدمو الرفاه.. القضاء ملاذ المظلومين وليس سيفا يسلطه الظالمون على رقاب خصومهم. و مع ذلك يجب أن نقر و بكل أسف، أن القضاء المغربي تورط في الانتكاسة الحقوقية التي شهدتها بلادنا خلال سنوات الرصاص. ورغم أن بلادنا قررت طي صفحة الماضي فإننا نلاحظ اليوم أكثر من محاولة للاتفاف على توصيات على توصيات لجنة الإنصاف و المصالحة على علاتها. وكأن عناك منيضيره أن تتصالح بلادنا مع نفسها و تاريخها. ونتساءل لماذا؟ ولمصلحة من؟ وتبدو معالم الجواب حينما نعي أن المصالحة ليست مجرد مفهوم نفسي اجتماعي بل هي مفهوم اجتماعي اقتصادي أيضا. يحدد ديسموند توتو رئيس لجنة الحقيقة و المصالحة بإفريقيا الجنوبية مفهوم المصالحة بقوله:
"المصالحة تعني بالنسبة لأولئك الذين نسيهم التاريخ أن يلمسوا أن هناك اختلافا نوعيا بين القمع و الحرية. بالنسبة إليهم الحرية تعني: الماء الصالح للشرب، الكهرباء، العمل الجيد، التمدرس لأبنائهم و الخدمات الصحية لهم ولذويهم. ما قيمة الانتقال إذا لم تتحسن نوعية حياة الناس؟ وإذا لم تتحسن فإن حق التصوبت لا يعني أي شيء"(2)
هذا هو الرهان التحدي اليوم، السيد الرئيس،وهو مدار الصراع اليوم ببلادنا، صراع بين الذين يريدون أن يكون المغرب بخيراته وثرواته لكل أبنائه وبناته ومن يريدون ويعملون على أن تكون هده الخيرات و الثروات حكرا على فئة محدودةمن المستفيدين المتحكمين في كل شيء.
هدا هو الرهان التحدي الدي يدور عليه الانتقال الديموقراطي . لأن الديموقراطية ليست تعددا حزبيا على المقاس وليست مجرد حق تصويت. الديموقراطية هي ممارسة سيادة الأمة، ممارسة لا تحقق إلا إذا وضع الشعب يده على خيرات و ثروات بلاده. إن الأمر لا يتعلق بعدد الأصوات و لا بعدد المقاعد في البرلمان ولا بعدد الوزراء في الحكومة، بل الأمر كل الأمر يتعلق بإعادة توزيع الثروةحتى يستفيد منها جميع المغاربة.
أترون سيدي الرئيس، لماذا أنا هنا؟ ولماذا تم حل حزب البديل الحضاري؟ أترون الآن كم هي صعبة مهمتكم؟
• في وقائع الاختطاف و التعذيب(3)
صرح أغلب المتابعين بأنهم تعرضوا للاختطاف والتعذيب، و بالنسبة لهذه الوقائع بالذات لا يكن يتطلب الأمر مجرد مناقشة و الكشف عن أساليب التعذيب التي خضع لها المصرحون، بما في ذلك الصعقات الكهربائية، بل كان على محكمتكم أن تخضع هؤلاء لخبرة طبية نفسية. وإذا كان الجلادون يعمدون اليوم إلى استعمال أدوات لا تترك آثارا مادية واضحة على أجساد الضحايا كالعصا أو الصدرية الكهربائيتين فإن الآثار النفسية، والتي يمكن للطب النفسي أن يثبتها، تبقى موجودة تؤثر على نفسية و سلوك الضحايا . لقد أتبتت الدراسات العلمية في مجال في مجال معالجة مرض الفصام schizophrénie بالصعقات الكهربائية، خاصة تلك التي أجراها إيرون كامرون eren cameroun أواسط القرن الماضي بجامعة ماك جيل Mc Gill بكندا و التي اعتمدتها وكالة الاستخبارات الأمريكية لوضع كراس الاستنطاق و التعذيب، بينت هده الدراسات أن إخضاع المريض للصعقات الكهربائية يؤدي في النهاية إلى تفكيك بنية الشخصية وإخضاعه. نفس الشيء تمت ملاحظته عند الضحايا الأسوياء الذين تعرضوا للتعديب إذ يتحولون إلى كائنات خائفة قلقة تعاني من الألم النفسي ومن الحيرة و التيه، كائنات طيعة ممتثلة لأوامر الجلاد و توجيهاته.
لو كلفت محكمتكم نفسها عناء عرض المتابعين الذين صرحوا بتعرضهم للتعذيب لخبرة طبية نفسية لتبين لكم كم هي كاذبة و بئيسة محاضر التحقيق الإبتدائي و التمهيدي و التفصيلي المنسوبة إليهم و التي اعتمدتها النيابة العامة و هيأة الحكم الابتدائي، في غياب أي دليل مادي يؤكد المنسوب إليهم، لإدانتهم و إدانتنا بمبرر "شهادة متهم على متهم"
السيد الرئيس..السادة المستشارون
أقدر أنه من الضروري أن نقف عند ما قاله ممثل الاتهام .فقد رافعت النيابة العامة يومي 25 و 28 يونيو 2010 و لم أجد أبلغ من وصف لهده المرافعة مما قاله المفكر الفرنسي Jean Claude Guillebaud :
"يبدو و كأن عنف الكلمات يعوض ضعف الأفكار . كلما كنا غير مقتنعين بقيمنا إلا و رفعنا أصواتنا [..] إن فراغ الأفكار يفضي إلى ضجيج الكلمات"(4)
لقد حاول ممثل الاتهام أن يستتر خلال مرافعته على بطلان المتابعة و انعدام الأدلة وعلى الوقائع الحقيقية بغلط الكلام. لذا أريد أن أقف و إياكم وبعجالة عند ثلاث ملاحظات:
• الملاحظة الأولى: لجأ الإدعاء إلى منهج الحكي عوض المرافعة القانونية و ذلك للتهرب من تقديم الأدلة والإثباتات على كل واقعة واقعة مما يؤكد انعدام الأدلة على ادعاءات ممثل سلطة الاتهام. إن الحكي قد يصنع قصة لكنه قطعا لا يصنع قضية جنائية.
• الملاحظة الثانية: لجأ الإدعاء إلى التهويل و التلويح بكلمة الإرهاب .. يمينا و يسارا، بما يكشف عن عجزه عن تقديم أي أدلة أو إثباتات على التهم الملفقة ضد المتابعين. و بالمناسبة فإن الاختيار الإسلامي الذي رماه ممثل الاتهام ب الإرهاب، شكل مرحلة مضيئة في تاريخ العمل السياسي ببلادنا، و يكفيه فخرا المساهمات النظرية التأسيسية و العملية التي ساهم بها في تطوير العمل السياسي وتكسير المنطق الطائفي الذي كان يحكمه. إذ لأول مرة في تاريخ العمل السياسي المعاصر ببلادنا، استطاع أن يبني جسرا تواصليا مع المدارس الفكرية و السياسية المخالفة. الاختيار الإسلامي أيها السادة، حمل راية الريادة وفتح باب العمل السياسي و النقابي الطلابي و العمل النسائي مشرعا أمام كل مكونات الحركة الإسلامية المغربية. الاختيار الإسلامي ليس تنظيما إرهابيا كما تدعي النيابة العامة، بل مدرسة رائدة في الفكر و السياسة أسست فكريا و عمليا و شرعيا للنضال الديموقراطي.
• الملاحظة الثالثة: نظرا لانعدام أية عملية إرهابية مرجعية يمكن ان يحيل عليها فإن ممثل النيابة العامة أحال على الصومال و يمن الحوثيين، رغبة منه في افتعال صدمة شعورية. وفي الحقيقة فإن رسالته وصلت لأن كل وسائل الإعلام التي غطت مرافعته بما في ذلك راديو BBC التقطت هدا التشبيه، مما يؤكد أننا كنا أمام حملة دعائية وليس أمام مرافعة قانونية. لكن أخطر ما في تشبيه المغرب بهذين البلدين هو تحقير الدولة المغربية و مؤسساتها، وتبخيس تاريخ المغرب و عمقه الحضاري. فهل أصبح المغرب بدولته العريقة و مؤسساته القوية و التحام شعبه بثوابته الوطنية مجرد صومال تخترقه النزاعات القبلية و المصالح العشائرية و يغيب فيه الأمن و تحكمه الفوضى؟ لماذا شككت النيابة العامة عبر هدا التشبيه،بقدرات المغرب و أمنه و استقراره؟ لمن توجه رسالتها و لمصلحة منن وهي تحيل على صورة بلد ضعيف منهوك القوى كادت مجموعة من خمس و ثلاثين شخصا أن تحوله إلى صومال جديد؟
السيد الرئيس..السادة المستشارون
لقد نشأت مند صغري على أن حب الأوطان من الإيمان و مازلت أومن أن هدا الوطن يستحق منا من التضحيات أغلاها، و ليس عندي ما أجود به سوى نفسي و حريتي و إني اتقدم بها قربانا من أجل عزة و كرامة هذا الوطن.
لقد علمتني جدتي الشريفة لامنانة بنعجيبة رحمها الله أن الحب لا يتحقق إلا إذا جعل المحب من رضى حبيبه مدار اهتماماته و انشغالاته. و رضى وطني أن يهنأ ابناؤه و بناته بالأمن و الرفاه و الاستقرار. من أجل هدا كرست ثلاثين سنة من عمري أنافح بكل الوسائل المشروعة كي يستعيد شعبي سيادته على نفسه وعلى خيرات وثروات هدا الوطن. ولا يمكن لعاشق فنى في حب وطنه أن يكون داعية عنف أو إرهاب.
السيد الرئيس..السادة المستشارون
إنني متفائل بمستقبل هدا الوطن ومؤمن بأنه سيتجاوز كل العراقيل و الصعوبات لأن أرضنا أرض معطاء و شعبنا شعب قوي نبيه أمين. إن اعترت مسيرته بعض الكبوات، فسرعان ما ينهض و يصل الماضي ب الحاضر ليبني مستقبلا زاهرا يحقق العزة و الكرامة و الرفاه للجميع.
السيد الرئيس..السادة المستشارون
حينما أضع رأسي على وسادتي أنام ملء جفني لأني مطمئن ببرائتي و لبرائتي. تتساوى عندي كل أحكام الإدانة أكانت ساعة سجنا أو إعداما. إني إذ أكلكم إلى ضمائركم أؤكد لكم، بعد ما عشته طيلة ثلاثين شهرا من الاعتقال التعسفي و المحاكمة الصورية أني لا أنتظر من محكمتكم أي شيء.
إنني أقف بباب سيدي ومولاي ، ربي الدي خلقني و رزقني و شملني بنعمه، صابرا و مصابرا راجيا فرجه و عفوه متوسلا قبوله و رضاه سائلا إياه أن يمن علي بحمده و شكره و أن يجعل هذا البلد آمنا مطمئنا يأتيه رزقه رغدا من كل مكان. فله العتبى حتى يرضى و لا حول ولا قوة إلا بالله.
لله الأمر من قبل و من بعد..وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الصفحات
▼
الجمعة، 3 سبتمبر 2010
مشروع الإمام الصدر المستقبلي أصبح هو أيضاً من الماضي
النهار- الأحد 29 آب 2010
د. سعود المولى
كان الشيعة كما كثير من اللبنانيين في طليعة المعترضين على التشكيل الإنتدابي للبنان الحديث. غير أن هذا الاعتراض كان من شاكلة الإعتراضات اللبنانية الأخرى: أي انه كان اعتراضا وممانعة ما قبل تشكّل الدولة الوطنية الحديثة، نشط في مرحلة انعدام التوازن بعد انهيار الدولة العثمانية واحتلال البلاد العربية. وهذا الإعتراض حملته قوى ومصالح وأيديولوجيات ورؤى وأفكار، لا يمكن بحال من الأحوال نسبتها إلى الأزلية والسرمدية، أو إلى التشيع والإسلام، لعل أهمها كان الاعتراض الارثوذكسي ممثلاً بالحزب القومي السوري وزعيمه انطون سعادة وهلاله الخصيب ونجمته قبرص. ولكنه كان أيضاً اعتراض البورجوازية المدينية السورية وآيته المؤتمرات السورية التي شاركت فيها البورجوازية السنية اللبنانية.
كانت عروبة الشيعة وسوريتهم هي العروبة والسورية الطبيعية لتيارات وقوى مطلع القرن العشرين حيث الخرائط ترسمها الدول المستعمرة وحيث القوى الأهلية المحلية تقاوم فرض الأمر الواقع. ولا يجوز تقديم التاريخ باعتباره فقط تاريخ هذا الاعتراض المشروع في يومه، وإنما باعتباره تاريخ تطورات اجتماعية اقتصادية سياسية ثقافية صنعت صورة لبنان الحالي، كما صورة المنطقة. فلا بد من البحث الجاد عن أشكال انخراط النخب الشيعية والإسلامية في الممارسة السياسية وفي الحياة الوطنية، وعن التعبيرات السياسية المختلفة التي لوّنت الطيف الشيعي والواقع الإسلامي اللبناني، خلال المرحلة الانتدابية 1920-1943. بحيث أن الجاهل وحده هو من لا يرى الاختلاف بين رؤية السيد شرف الدين ورؤية السيد محسن الأمين لموقع ودور الشيعة في لبنان والمحيط السوري والعربي. ولا بد أيضا من قراءة الأصول السوسيولوجية للتيارات والأحزاب السياسية في جبل عامل. إذ أنه من الجهل أيضا أن لا نرى أين نجح القومي السوري مثلاً ومتى ولماذا؟ أو متى انتشر الحزب الشيوعي وأين ولماذا؟ أو الدور الفلسطيني المهم منذ ثورة 1936. كما انه من الجهل عدم رؤية وتقويم العواطف والمشاعر العربية لجبل عامل والاستعداد للدفاع عن كل القضايا العربية والتي حمل شيعة لبنان لواءها خصوصا في ثورة فلسطين الكبرى 1936.
كانت عروبة الشيعة هي المساق الطبيعي لتاريخهم وجذورهم وثقافتهم ولغتهم ولهجاتهم وعشائرهم وبيوتاتهم. وهي لم تكن لتتعارض مع لبنانيتهم اللاحقة والتي كان الإمام شرف الدين أبرز من عبّر عنها. والإبداع الشيعي المبكر تمثل في إيجاد تلك اللحمة ما بين وطنية لبنانية قائمة على واقع مستجد ومتصالح عليه (دولة لبنان الكبير) دون الإغراق في تاريخ غابر إلى حد الأسطرة من جهة (الفينيقية وحضارة الستة آلاف سنة) ولا في أدلوجة الاصطناع للكيان اللبناني من جهة أخرى (وهذه ما زالت في وعي وسلوك أكثر من حزب وتيار عقائدي متناسين أن كل الكيانات العربية هي بهذا المعنى مصطنعة)، وما بين عروبة حضارية، طبيعية، لا تحتاج إلى أدلوجات قومجية فاشستية ولا إلى مرتكزات سلطوية أو مخابراتية. وأذكر أن الإمامين الصدر وشمس الدين كانا يطرحان دائما هذه المعادلة ويقولان: إن التاريخ السياسي للبنان هو حاضرنا القائم والمتوافق عليه. فلنتفق على أن تاريخ لبنان الكيان السياسي يبدأ عام 1920. وإذا لم توافقوا فاجعلوه عام 1943. وهذا هو تاريخ الكيان السياسي الحاضر الذي ارتضيناه وطناً نهائياً دون أن يعني ذلك أننا تخلينا عن روابطنا العربية أو عن شيعيتنا أو عن إسلامنا.
ولم يكن الشيعة وحدهم على هذا الوعي المتفاهم عليه. فالبيان – الرسالة الذي ألقاه السيد كاظم الصلح (ووافقه عليه السيد عادل عسيران) بعد مؤتمر الساحل 1936 (نشر بعنوان مشكلة الاتصال والانفصال في لبنان) يحمل هذا الهم المبكر في اجتراح معنى إسلامي للوطنية اللبنانية ومعنى لبناني للعروبة. ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن هذا التطور في الفكر السياسي الإسلامي اللبناني نتج عن تطور مبكر في سوريا كانت أبرز علاماته الكتلة الوطنية السورية ومفاوضتها المنفردة (كسوريا) مع الانتداب الفرنسي وطلبها من جناحها اللبناني (بقيادة رياض الصلح) التفاوض المستقل وترتيب البيت اللبناني. وعام 1936 هو للمناسبة عام تبلور تلك الوطنيات المحلية بعد تطور وتبلور مشاريع وقوى وحركات ومصالح "وطنية" (سمهّا بورجوازية إن شئت) لم تعد تجد في الاستقلال الوطني خيانة قومية وهي عقدت في ذلك العام المعاهدات الشهيرة مع الأجنبي، من مصر إلى العراق، ومن سوريا ولبنان إلى المغرب والجزائر وتونس، وذلك بسبب صعود الفاشية والنازية وحاجة الديموقراطيات الأوروبية إلى تأمين جناحها المشرقي والمغربي في أية حرب مقبلة، وهي تلاقت مع السياسة الستالينية القاضية يومذاك بإنشاء جبهات وطنية مع البورجوازيات المحلية.
ويستحق هذا الأمر دراسة مفصلة ليس هنا مجالها، إنما يعنينا هنا اندراج شيعة لبنان المبكر في البحث عن جوامع مشتركة على مستوى الوطن مع بقية الطوائف اللبنانية، وفي التأصيل الديني لهذه الوطنية. وهنا يبرز الميثاق الوطني ومعركة الاستقلال كعلامات على هذا النضج وتلك الرؤية التي لم تكن لتختلف عن رؤية رياض الصلح أو صائب سلام. وهي رؤية حملها صبري حمادة وعادل عسيران وآل الأسعد والزين والخليل وحيدر وغيرهم من العائلات الشيعية التي تصالحت مع اللبنانية ومع الدولة الجديدة. صحيح أنها رؤية بورجوازية وطنية (بحسب ستالين وماوتسي تونغ) إلا أن المرحلة كانت (ولعلها لا تزال) مرحلة بورجوازية وطنية ديموقراطية (أم أننا نسينا ألف باء الماركسية؟) ولعل هذه المصالحة التاريخية مع الكيان - الوطن والتي أعطت العائلات التقليدية سلطة الحكم في لبنان الاستقلال هي التي تفسر "ثورة" انطون سعادة 1949 وإنضمام بعض زعماء العائلات المحتجين على تهميشهم في النظام الجديد (لاحظ خصوصا آل دندش وبعض الوجوه العشائرية في بعلبك-الهرمل والتي لا تزال قومية إلى يومنا هذا، ولاحظ بعض الأسماء السنية في بيروت والشيعية في صور والنبطية والتي انتسبت إلى القومي السوري على هذا الأساس). كما لا بد من دراسة التطور الديموغرافي والاجتماعي والتربوي الذي شهده الشيعة في مرحلة الاستقلال (1943-1958) والتي سمحت بانتشار الحزب الشيوعي وحركة القوميين العرب وحزب البعث في أوساط المتعلمين الشيعة في الخمسينات وذلك بتأثير من صعود الاتحاد السوفياتي (بعد الانتصار الكبير في الحرب العالمية الثانية، وبداية الصراع مع الغرب "الإمبريالي") والناصرية في آن واحد. وصولاً إلى المرحلة الشهابية.
ومن المفيد التذكير هنا بأن اللبنانية والسورية والعروبة كانت تنجدل في تناغم وتكامل ميّزا شخصية جيل من الكبار العظماء. فمن ينسى عروبة كميل شمعون (فتى العروبة الأغر في مطلع الخمسينات وهي عروبة العراق والثورة العربية الكبرى وكل ذلك الجيل الذي مضى مع صعود الضباط الصغار في مصر وسوريا والعراق ثم في غيرها من البلدان العربية) أو سورية الرعيل الأول من المثقفين الذين طردهم سعاده من حزبه لشبهة اللبنانية (وأبرزهم غسان تويني وأسد الأشقر وفايز صايغ وفخري المعلوف ومأمون أياس ونعمه ثابت وكلهم تأثروا بشارل مالك وبعروبة شمعون اللبنانية). أو اتفاق الكتائب والنجادة على المطالبة بالاستقلال. أو انسحاب الغالبية الساحقة من سنّة بيروت وطرابلس وصيدا من الحزب القومي السوري بعد 1958.
وما نستطيع قوله في هذه العجالة انه لم يفرض أحد بالقوة والقهر الخيار اللبناني على شيعة لبنان. ولا يمكن نكران هذه الحقيقة البسيطة وهي أنهم ارتضوا لبنان فعلياً، سراً وعلانية، وطناً نهائياً [في عددها الصادر يوم 21-10-1936 ذكرت جريدة "لسان الحال" أن وفداً شيعياً كبيراً زار المندوب السامي الفرنسي ورئيس الجمهورية اللبنانية يتقدمه السيد عبد الحسين شرف الدين شدد على التمسك باستقلال لبنان الكبير ورفض الانضمام إلى سوريا. وأعلن السيد شرف الدين أن الحركة الإنفصالية بين الشيعة قد توقفت وأن كل الشيعة قد التحقوا بالوحدة الإقليمية للبنان الكبير]. وهذا الرضى حملته أيضا قوى ومصالح وطبقات ونخب لا يجوز البتة التهوين من شأنها أو من تمثيلها لشيعة لبنان في تلك الأيام.
الشيعة في ثورة 1958 وما بعدها
تشير حوادث 1958، (قبل مجيء الإمام الصدر إلى لبنان)، إلى التنوع والتعدد في الحراك الشيعي الذي كانت تحكمه العائلات الكبرى (الأسعد والخليل وعسيران والزين في الجنوب وحمادة وحيدر في البقاع الشمالي)، التي شكلت رأس هرم السلطة والزعامة الشيعية، يليها رؤساء العائلات الأدنى جاهاً ونفوذاً (الفضل والعبد الله وبزي وبيضون في الجنوب، وياغي وزعيتر وشمص وجعفر في البقاع)، يليهم رجال الدين الكبار الذين تحالفوا مع هذا الزعيم أو ذاك (مثال عبد الحسين شرف الدين إمام صور والشيخ محمد تقي الصادق امام النبطية). أما "المثقفون الشيعة" فلم يكن لهم أدنى نفوذ أو هيبة أو دور في تلك الأيام. وهم كانوا على كل حال أقلية من الصحافيين والكتاب لا قوة سياسية لهم، (مثال كامل مروة وجريدة "الحياة"، أو نزار عارف الزين ومجلة "العرفان")، الأمر الذي يفسر اندفاع الكثيرين منهم إلى الدخول في الأحزاب القومية واليسارية، الحزب الشيوعي خصوصاً، ثم حزب البعث وحركة القوميين العرب. (لاحظ: مثقفو الماركسية الجدد من أولاد المشايخ أمثال حسين مروة وهاشم الأمين وحبيب صادق وكريم مروة ومحسن ابراهيم ووضاح شرارة وغيرهم، كما أولاد البكوات والعائلات: الأسعد والخليل والزين وبيضون الخ). في حين دخلت عائلات، كانت ترى نفسها جديرة بالزعامة، في الحزب السوري القومي، مثل الدنادشة وحلفاؤهم في بلاد بعلبك - الهرمل، ومثل آل حلاوي ويونس والبرجي في صور وآل ضاهر وغندور في النبطية، تغذيها أموال ومطامح الإغتراب الشيعي الصاعد في أفريقيا. أما الأطراف الشيعية في ضاحية بيروت الجنوبية وبلاد جبيل والبترون وبعض قرى جبل لبنان، فقد شكّلت خزاناً للواردين إلى وظائف الدولة اللبنانية يعتمدون على الزبائنية الخاصة بالزعماء السياسيين لتلك المناطق، وهم كانوا في الغالبية ينقسمون ما بين التيارين الشمعوني والجنبلاطي في الجبل (عائلات الجية والوردانية وجون والقماطية وكيفون والضاحية الجنوبية) أو بين الكتلوي والدستوري في جبيل.
عشية ثورة 1958 كان الانقسام السياسي في البلاد قد بلغ مداه ما بين تيار مؤيد للجمهورية العربية المتحدة (وحدة مصر وسوريا بقيادة عبد الناصر)، وتيار مؤيد لحياد لبنان بدعم غربي أولاً، وبتحالف مع العرب المعتدلين ثانياً، حلف بغداد والعلاقة مع العراق والأردن.
في مطلع عام 1957 أيدت حكومة الرئيس سامي الصلح مبدأ إيزنهاور (وفيه التزامات تجاه الغرب وضد الاتحاد السوفياتي)، بعد أن كان الرئيس شمعون قد سار بالبلاد في اتجاه الأحلاف الغربية منذ مطلع 1954. وفي نيسان 1957 استقال الزعيم أحمد الأسعد من حكومة الصلح ليعزز الانقسام الشيعي بين موالاة ومعارضة، قبيل الانتخابات التي دعا إليها شمعون في حزيران من العام نفسه. وانضم إلى لوائح المعارضة كامل الأسعد وصبري حمادة وعلي بزي ومحمد صفي الدين ورفيق شاهين وسليمان الزين ورياض طه والدكتور محمد خليفة، في حين تشكلت لوائح الموالاة من عادل عسيران وكاظم الخليل ويوسف الزين وإبرهيم حيدر وصالح الخليل. وقد خسر أحمد الأسعد إذ ترشح في صور معقل آل الخليل، (نال 6850 صوتاً مقابل 8130 لكاظم الخليل، ونال محمد صفي الدين حليف الأسعد 5845 صوتاً مقابل 7512 لرضا وحيد). ولا تعنينا هنا النتائج التفصيلية لتلك الانتخابات، (التي فازت فيها الموالاة طبعاً مما يشير إلى ميل الناخبين مع طواحين السلطة مهما كانت، ناهيك عن انتقال الكثيرين لاحقاً الى مواقع أخرى)، بقدر ما تعنينا التطورات التي تلتها والتي كان محورها الأستاذ عادل عسيران الذي انتخب رئيساً للمجلس النيابي. فذلك القومي العربي الاستقلالي، رفيق رياض الصلح وشكري القوتلي، والذي أيّد عبد الناصر في وجه العدوان الثلاثي، (تشرين الثاني 1956) وأيّد وحدة مصر وسوريا، (شباط 1958)، كان في قيادة الموالاة للرئيس شمعون وتعاون كرئيس للمجلس مع رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، (انتخب عادل بك رئيساً للمجلس في 13 آب 1957).وخلال أحداث 1958 احترم الدستور اللبناني ورفض المس به أو العمل ضد ثوابت الكيان وضد المؤسسات والممارسة الديموقراطية. وهو التقى عبد الناصر في دمشق في آذار 1958، ونقل عنه قوله إنه يحب لبنان ولا يريد زواله أو تهديد استقراره. وفي نيسان 1958 أمضى الرئيس عسيران عطلة الأعياد في القاهرة، وألقى فيها تصريحات عن لبنان والوحدة العربية والعلاقات المميزة مع مصر.
وحين اندلعت الحوادث المشؤومة، رفض عادل بك ضغوط الزعماء الشيعة للاستقالة قائلاً إنه لا يريد المساهمة في إحداث فراغ سياسي ودستوري وإن موقعه ودوره مهمان للخروج من الأزمة بتسوية ولقيام انتخابات رئاسية جديدة. وقد استقال رشيد بيضون في أواخر أيار 1958 من حكومة الصلح، وذلك تحت ضغط الشارع، علماً أنه كان رفض المشاركة في الثورة ودعا إلى وقف العنف والقتال لأن ما يحصل يهدد وجود لبنان. ووقف إبرهيم حيدر موقفاً مماثلاً وذهب إلى حد تأييد شكوى لبنان ضد الجمهورية العربية المتحدة أمام مجلس الأمن. وحين حصل الإنزال الأميركي على شواطئ بيروت في 15 تموز 1958 أبرق عادل عسيران إلى الأمين العام للأمم المتحدة داغ همرشولد معتبراً العمل الأميركي عدواناً ضد سيادة لبنان واستقلاله.
وكان الشيخ محمد جواد مغنية، (العروبي الناصري)، هاجم عادل عسيران واتهمه بالسكوت والصمت أو بعدم الوضوح (التلغراف 26/5/1958). في حين وقف معظم العلماء الشيعة مترددين: فهم من ناحية ضد سفك الدماء، ومع الاستقرار ووحدة لبنان ومع العروبة والممانعة، وهم من ناحية ثانية على علاقة بالنجف وقم وبالنظامين العراقي والإيراني؛ والنزاع حقيقة كان بين مصر الناصرية والعراق الهاشمي. وفي 3 حزيران 1958 صدر بيان علمائي يدعو إلى وقف القتال والعودة إلى الحال الطبيعية وصيغة التفاهم والميثاق الوطني، وقّعه: مهدي إبرهيم، محمد تقي صادق، حسن معتوق، محمد علي المقداد، عباس أبو الحسن، رضا فرحات، علي مهدي ابرهيم (جريدة "التيار" 3/5/1958). وفي آخر حزيران وجّه علماء شيعة رسالة إلى داغ همرشولد رحبوا فيها بتدخل الأمم المتحدة في الأزمة، مع تأكيدهم على أنهم كانوا مع وجود لبنان بقوة ("التيار" 30/6/1958).
خلاصة هذا الاستعراض أن الوعي الشيعي لحظة وصول السيد موسى الصدر إلى لبنان كان يتشكّل من ثلاثة عوامل متداخلة: الإسلام والعروبة ولبنان، وأن عادل عسيران هو من جسّد هذه العوامل في الشخصية الحقيقية للشيعة في تلك المرحلة.
وتشير حوادث 1958 اضافة إلى الانقسام السياسي الوطني والعربي بين الشيعة (موالاة ومعارضة، ناصرية وهاشمية)، إلى بروز وعي جديد وفئة جديدة من المثقفين والمتعلمين من الطبقة الوسطى التي حملتها وأنعشتها لاحقاً التجربة الشهابية الإنمائية في الإدارة والمؤسسات. وهنا بالضبط كان مشروع الإمام الصدر على موعد مع تاريخ جديد للشيعة صار اليوم هو أيضاً من الماضي.
د. سعود المولى
كان الشيعة كما كثير من اللبنانيين في طليعة المعترضين على التشكيل الإنتدابي للبنان الحديث. غير أن هذا الاعتراض كان من شاكلة الإعتراضات اللبنانية الأخرى: أي انه كان اعتراضا وممانعة ما قبل تشكّل الدولة الوطنية الحديثة، نشط في مرحلة انعدام التوازن بعد انهيار الدولة العثمانية واحتلال البلاد العربية. وهذا الإعتراض حملته قوى ومصالح وأيديولوجيات ورؤى وأفكار، لا يمكن بحال من الأحوال نسبتها إلى الأزلية والسرمدية، أو إلى التشيع والإسلام، لعل أهمها كان الاعتراض الارثوذكسي ممثلاً بالحزب القومي السوري وزعيمه انطون سعادة وهلاله الخصيب ونجمته قبرص. ولكنه كان أيضاً اعتراض البورجوازية المدينية السورية وآيته المؤتمرات السورية التي شاركت فيها البورجوازية السنية اللبنانية.
كانت عروبة الشيعة وسوريتهم هي العروبة والسورية الطبيعية لتيارات وقوى مطلع القرن العشرين حيث الخرائط ترسمها الدول المستعمرة وحيث القوى الأهلية المحلية تقاوم فرض الأمر الواقع. ولا يجوز تقديم التاريخ باعتباره فقط تاريخ هذا الاعتراض المشروع في يومه، وإنما باعتباره تاريخ تطورات اجتماعية اقتصادية سياسية ثقافية صنعت صورة لبنان الحالي، كما صورة المنطقة. فلا بد من البحث الجاد عن أشكال انخراط النخب الشيعية والإسلامية في الممارسة السياسية وفي الحياة الوطنية، وعن التعبيرات السياسية المختلفة التي لوّنت الطيف الشيعي والواقع الإسلامي اللبناني، خلال المرحلة الانتدابية 1920-1943. بحيث أن الجاهل وحده هو من لا يرى الاختلاف بين رؤية السيد شرف الدين ورؤية السيد محسن الأمين لموقع ودور الشيعة في لبنان والمحيط السوري والعربي. ولا بد أيضا من قراءة الأصول السوسيولوجية للتيارات والأحزاب السياسية في جبل عامل. إذ أنه من الجهل أيضا أن لا نرى أين نجح القومي السوري مثلاً ومتى ولماذا؟ أو متى انتشر الحزب الشيوعي وأين ولماذا؟ أو الدور الفلسطيني المهم منذ ثورة 1936. كما انه من الجهل عدم رؤية وتقويم العواطف والمشاعر العربية لجبل عامل والاستعداد للدفاع عن كل القضايا العربية والتي حمل شيعة لبنان لواءها خصوصا في ثورة فلسطين الكبرى 1936.
كانت عروبة الشيعة هي المساق الطبيعي لتاريخهم وجذورهم وثقافتهم ولغتهم ولهجاتهم وعشائرهم وبيوتاتهم. وهي لم تكن لتتعارض مع لبنانيتهم اللاحقة والتي كان الإمام شرف الدين أبرز من عبّر عنها. والإبداع الشيعي المبكر تمثل في إيجاد تلك اللحمة ما بين وطنية لبنانية قائمة على واقع مستجد ومتصالح عليه (دولة لبنان الكبير) دون الإغراق في تاريخ غابر إلى حد الأسطرة من جهة (الفينيقية وحضارة الستة آلاف سنة) ولا في أدلوجة الاصطناع للكيان اللبناني من جهة أخرى (وهذه ما زالت في وعي وسلوك أكثر من حزب وتيار عقائدي متناسين أن كل الكيانات العربية هي بهذا المعنى مصطنعة)، وما بين عروبة حضارية، طبيعية، لا تحتاج إلى أدلوجات قومجية فاشستية ولا إلى مرتكزات سلطوية أو مخابراتية. وأذكر أن الإمامين الصدر وشمس الدين كانا يطرحان دائما هذه المعادلة ويقولان: إن التاريخ السياسي للبنان هو حاضرنا القائم والمتوافق عليه. فلنتفق على أن تاريخ لبنان الكيان السياسي يبدأ عام 1920. وإذا لم توافقوا فاجعلوه عام 1943. وهذا هو تاريخ الكيان السياسي الحاضر الذي ارتضيناه وطناً نهائياً دون أن يعني ذلك أننا تخلينا عن روابطنا العربية أو عن شيعيتنا أو عن إسلامنا.
ولم يكن الشيعة وحدهم على هذا الوعي المتفاهم عليه. فالبيان – الرسالة الذي ألقاه السيد كاظم الصلح (ووافقه عليه السيد عادل عسيران) بعد مؤتمر الساحل 1936 (نشر بعنوان مشكلة الاتصال والانفصال في لبنان) يحمل هذا الهم المبكر في اجتراح معنى إسلامي للوطنية اللبنانية ومعنى لبناني للعروبة. ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن هذا التطور في الفكر السياسي الإسلامي اللبناني نتج عن تطور مبكر في سوريا كانت أبرز علاماته الكتلة الوطنية السورية ومفاوضتها المنفردة (كسوريا) مع الانتداب الفرنسي وطلبها من جناحها اللبناني (بقيادة رياض الصلح) التفاوض المستقل وترتيب البيت اللبناني. وعام 1936 هو للمناسبة عام تبلور تلك الوطنيات المحلية بعد تطور وتبلور مشاريع وقوى وحركات ومصالح "وطنية" (سمهّا بورجوازية إن شئت) لم تعد تجد في الاستقلال الوطني خيانة قومية وهي عقدت في ذلك العام المعاهدات الشهيرة مع الأجنبي، من مصر إلى العراق، ومن سوريا ولبنان إلى المغرب والجزائر وتونس، وذلك بسبب صعود الفاشية والنازية وحاجة الديموقراطيات الأوروبية إلى تأمين جناحها المشرقي والمغربي في أية حرب مقبلة، وهي تلاقت مع السياسة الستالينية القاضية يومذاك بإنشاء جبهات وطنية مع البورجوازيات المحلية.
ويستحق هذا الأمر دراسة مفصلة ليس هنا مجالها، إنما يعنينا هنا اندراج شيعة لبنان المبكر في البحث عن جوامع مشتركة على مستوى الوطن مع بقية الطوائف اللبنانية، وفي التأصيل الديني لهذه الوطنية. وهنا يبرز الميثاق الوطني ومعركة الاستقلال كعلامات على هذا النضج وتلك الرؤية التي لم تكن لتختلف عن رؤية رياض الصلح أو صائب سلام. وهي رؤية حملها صبري حمادة وعادل عسيران وآل الأسعد والزين والخليل وحيدر وغيرهم من العائلات الشيعية التي تصالحت مع اللبنانية ومع الدولة الجديدة. صحيح أنها رؤية بورجوازية وطنية (بحسب ستالين وماوتسي تونغ) إلا أن المرحلة كانت (ولعلها لا تزال) مرحلة بورجوازية وطنية ديموقراطية (أم أننا نسينا ألف باء الماركسية؟) ولعل هذه المصالحة التاريخية مع الكيان - الوطن والتي أعطت العائلات التقليدية سلطة الحكم في لبنان الاستقلال هي التي تفسر "ثورة" انطون سعادة 1949 وإنضمام بعض زعماء العائلات المحتجين على تهميشهم في النظام الجديد (لاحظ خصوصا آل دندش وبعض الوجوه العشائرية في بعلبك-الهرمل والتي لا تزال قومية إلى يومنا هذا، ولاحظ بعض الأسماء السنية في بيروت والشيعية في صور والنبطية والتي انتسبت إلى القومي السوري على هذا الأساس). كما لا بد من دراسة التطور الديموغرافي والاجتماعي والتربوي الذي شهده الشيعة في مرحلة الاستقلال (1943-1958) والتي سمحت بانتشار الحزب الشيوعي وحركة القوميين العرب وحزب البعث في أوساط المتعلمين الشيعة في الخمسينات وذلك بتأثير من صعود الاتحاد السوفياتي (بعد الانتصار الكبير في الحرب العالمية الثانية، وبداية الصراع مع الغرب "الإمبريالي") والناصرية في آن واحد. وصولاً إلى المرحلة الشهابية.
ومن المفيد التذكير هنا بأن اللبنانية والسورية والعروبة كانت تنجدل في تناغم وتكامل ميّزا شخصية جيل من الكبار العظماء. فمن ينسى عروبة كميل شمعون (فتى العروبة الأغر في مطلع الخمسينات وهي عروبة العراق والثورة العربية الكبرى وكل ذلك الجيل الذي مضى مع صعود الضباط الصغار في مصر وسوريا والعراق ثم في غيرها من البلدان العربية) أو سورية الرعيل الأول من المثقفين الذين طردهم سعاده من حزبه لشبهة اللبنانية (وأبرزهم غسان تويني وأسد الأشقر وفايز صايغ وفخري المعلوف ومأمون أياس ونعمه ثابت وكلهم تأثروا بشارل مالك وبعروبة شمعون اللبنانية). أو اتفاق الكتائب والنجادة على المطالبة بالاستقلال. أو انسحاب الغالبية الساحقة من سنّة بيروت وطرابلس وصيدا من الحزب القومي السوري بعد 1958.
وما نستطيع قوله في هذه العجالة انه لم يفرض أحد بالقوة والقهر الخيار اللبناني على شيعة لبنان. ولا يمكن نكران هذه الحقيقة البسيطة وهي أنهم ارتضوا لبنان فعلياً، سراً وعلانية، وطناً نهائياً [في عددها الصادر يوم 21-10-1936 ذكرت جريدة "لسان الحال" أن وفداً شيعياً كبيراً زار المندوب السامي الفرنسي ورئيس الجمهورية اللبنانية يتقدمه السيد عبد الحسين شرف الدين شدد على التمسك باستقلال لبنان الكبير ورفض الانضمام إلى سوريا. وأعلن السيد شرف الدين أن الحركة الإنفصالية بين الشيعة قد توقفت وأن كل الشيعة قد التحقوا بالوحدة الإقليمية للبنان الكبير]. وهذا الرضى حملته أيضا قوى ومصالح وطبقات ونخب لا يجوز البتة التهوين من شأنها أو من تمثيلها لشيعة لبنان في تلك الأيام.
الشيعة في ثورة 1958 وما بعدها
تشير حوادث 1958، (قبل مجيء الإمام الصدر إلى لبنان)، إلى التنوع والتعدد في الحراك الشيعي الذي كانت تحكمه العائلات الكبرى (الأسعد والخليل وعسيران والزين في الجنوب وحمادة وحيدر في البقاع الشمالي)، التي شكلت رأس هرم السلطة والزعامة الشيعية، يليها رؤساء العائلات الأدنى جاهاً ونفوذاً (الفضل والعبد الله وبزي وبيضون في الجنوب، وياغي وزعيتر وشمص وجعفر في البقاع)، يليهم رجال الدين الكبار الذين تحالفوا مع هذا الزعيم أو ذاك (مثال عبد الحسين شرف الدين إمام صور والشيخ محمد تقي الصادق امام النبطية). أما "المثقفون الشيعة" فلم يكن لهم أدنى نفوذ أو هيبة أو دور في تلك الأيام. وهم كانوا على كل حال أقلية من الصحافيين والكتاب لا قوة سياسية لهم، (مثال كامل مروة وجريدة "الحياة"، أو نزار عارف الزين ومجلة "العرفان")، الأمر الذي يفسر اندفاع الكثيرين منهم إلى الدخول في الأحزاب القومية واليسارية، الحزب الشيوعي خصوصاً، ثم حزب البعث وحركة القوميين العرب. (لاحظ: مثقفو الماركسية الجدد من أولاد المشايخ أمثال حسين مروة وهاشم الأمين وحبيب صادق وكريم مروة ومحسن ابراهيم ووضاح شرارة وغيرهم، كما أولاد البكوات والعائلات: الأسعد والخليل والزين وبيضون الخ). في حين دخلت عائلات، كانت ترى نفسها جديرة بالزعامة، في الحزب السوري القومي، مثل الدنادشة وحلفاؤهم في بلاد بعلبك - الهرمل، ومثل آل حلاوي ويونس والبرجي في صور وآل ضاهر وغندور في النبطية، تغذيها أموال ومطامح الإغتراب الشيعي الصاعد في أفريقيا. أما الأطراف الشيعية في ضاحية بيروت الجنوبية وبلاد جبيل والبترون وبعض قرى جبل لبنان، فقد شكّلت خزاناً للواردين إلى وظائف الدولة اللبنانية يعتمدون على الزبائنية الخاصة بالزعماء السياسيين لتلك المناطق، وهم كانوا في الغالبية ينقسمون ما بين التيارين الشمعوني والجنبلاطي في الجبل (عائلات الجية والوردانية وجون والقماطية وكيفون والضاحية الجنوبية) أو بين الكتلوي والدستوري في جبيل.
عشية ثورة 1958 كان الانقسام السياسي في البلاد قد بلغ مداه ما بين تيار مؤيد للجمهورية العربية المتحدة (وحدة مصر وسوريا بقيادة عبد الناصر)، وتيار مؤيد لحياد لبنان بدعم غربي أولاً، وبتحالف مع العرب المعتدلين ثانياً، حلف بغداد والعلاقة مع العراق والأردن.
في مطلع عام 1957 أيدت حكومة الرئيس سامي الصلح مبدأ إيزنهاور (وفيه التزامات تجاه الغرب وضد الاتحاد السوفياتي)، بعد أن كان الرئيس شمعون قد سار بالبلاد في اتجاه الأحلاف الغربية منذ مطلع 1954. وفي نيسان 1957 استقال الزعيم أحمد الأسعد من حكومة الصلح ليعزز الانقسام الشيعي بين موالاة ومعارضة، قبيل الانتخابات التي دعا إليها شمعون في حزيران من العام نفسه. وانضم إلى لوائح المعارضة كامل الأسعد وصبري حمادة وعلي بزي ومحمد صفي الدين ورفيق شاهين وسليمان الزين ورياض طه والدكتور محمد خليفة، في حين تشكلت لوائح الموالاة من عادل عسيران وكاظم الخليل ويوسف الزين وإبرهيم حيدر وصالح الخليل. وقد خسر أحمد الأسعد إذ ترشح في صور معقل آل الخليل، (نال 6850 صوتاً مقابل 8130 لكاظم الخليل، ونال محمد صفي الدين حليف الأسعد 5845 صوتاً مقابل 7512 لرضا وحيد). ولا تعنينا هنا النتائج التفصيلية لتلك الانتخابات، (التي فازت فيها الموالاة طبعاً مما يشير إلى ميل الناخبين مع طواحين السلطة مهما كانت، ناهيك عن انتقال الكثيرين لاحقاً الى مواقع أخرى)، بقدر ما تعنينا التطورات التي تلتها والتي كان محورها الأستاذ عادل عسيران الذي انتخب رئيساً للمجلس النيابي. فذلك القومي العربي الاستقلالي، رفيق رياض الصلح وشكري القوتلي، والذي أيّد عبد الناصر في وجه العدوان الثلاثي، (تشرين الثاني 1956) وأيّد وحدة مصر وسوريا، (شباط 1958)، كان في قيادة الموالاة للرئيس شمعون وتعاون كرئيس للمجلس مع رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، (انتخب عادل بك رئيساً للمجلس في 13 آب 1957).وخلال أحداث 1958 احترم الدستور اللبناني ورفض المس به أو العمل ضد ثوابت الكيان وضد المؤسسات والممارسة الديموقراطية. وهو التقى عبد الناصر في دمشق في آذار 1958، ونقل عنه قوله إنه يحب لبنان ولا يريد زواله أو تهديد استقراره. وفي نيسان 1958 أمضى الرئيس عسيران عطلة الأعياد في القاهرة، وألقى فيها تصريحات عن لبنان والوحدة العربية والعلاقات المميزة مع مصر.
وحين اندلعت الحوادث المشؤومة، رفض عادل بك ضغوط الزعماء الشيعة للاستقالة قائلاً إنه لا يريد المساهمة في إحداث فراغ سياسي ودستوري وإن موقعه ودوره مهمان للخروج من الأزمة بتسوية ولقيام انتخابات رئاسية جديدة. وقد استقال رشيد بيضون في أواخر أيار 1958 من حكومة الصلح، وذلك تحت ضغط الشارع، علماً أنه كان رفض المشاركة في الثورة ودعا إلى وقف العنف والقتال لأن ما يحصل يهدد وجود لبنان. ووقف إبرهيم حيدر موقفاً مماثلاً وذهب إلى حد تأييد شكوى لبنان ضد الجمهورية العربية المتحدة أمام مجلس الأمن. وحين حصل الإنزال الأميركي على شواطئ بيروت في 15 تموز 1958 أبرق عادل عسيران إلى الأمين العام للأمم المتحدة داغ همرشولد معتبراً العمل الأميركي عدواناً ضد سيادة لبنان واستقلاله.
وكان الشيخ محمد جواد مغنية، (العروبي الناصري)، هاجم عادل عسيران واتهمه بالسكوت والصمت أو بعدم الوضوح (التلغراف 26/5/1958). في حين وقف معظم العلماء الشيعة مترددين: فهم من ناحية ضد سفك الدماء، ومع الاستقرار ووحدة لبنان ومع العروبة والممانعة، وهم من ناحية ثانية على علاقة بالنجف وقم وبالنظامين العراقي والإيراني؛ والنزاع حقيقة كان بين مصر الناصرية والعراق الهاشمي. وفي 3 حزيران 1958 صدر بيان علمائي يدعو إلى وقف القتال والعودة إلى الحال الطبيعية وصيغة التفاهم والميثاق الوطني، وقّعه: مهدي إبرهيم، محمد تقي صادق، حسن معتوق، محمد علي المقداد، عباس أبو الحسن، رضا فرحات، علي مهدي ابرهيم (جريدة "التيار" 3/5/1958). وفي آخر حزيران وجّه علماء شيعة رسالة إلى داغ همرشولد رحبوا فيها بتدخل الأمم المتحدة في الأزمة، مع تأكيدهم على أنهم كانوا مع وجود لبنان بقوة ("التيار" 30/6/1958).
خلاصة هذا الاستعراض أن الوعي الشيعي لحظة وصول السيد موسى الصدر إلى لبنان كان يتشكّل من ثلاثة عوامل متداخلة: الإسلام والعروبة ولبنان، وأن عادل عسيران هو من جسّد هذه العوامل في الشخصية الحقيقية للشيعة في تلك المرحلة.
وتشير حوادث 1958 اضافة إلى الانقسام السياسي الوطني والعربي بين الشيعة (موالاة ومعارضة، ناصرية وهاشمية)، إلى بروز وعي جديد وفئة جديدة من المثقفين والمتعلمين من الطبقة الوسطى التي حملتها وأنعشتها لاحقاً التجربة الشهابية الإنمائية في الإدارة والمؤسسات. وهنا بالضبط كان مشروع الإمام الصدر على موعد مع تاريخ جديد للشيعة صار اليوم هو أيضاً من الماضي.
ما هو الإصلاح التربوي المطلوب؟ (1)
جريدة الأنباء-بيروت- الثلاثاء 31 آب 2010
د. سعود المولى
التعليم هو عصب النهضة وماء حياتها. والمحنة التى يعيشها لبنان اليوم ناتجة فى قسم كبير منها عن إنهيار نظمه التعليمية والتربوية (بعد انهيار نظمه السياسية والمدنية) وما ترتب على ذلك من تراجع مذهل فى مستوى المعرفة والكفاءة لدى القطاعات الأوسع من المجتمع.
ويستحيل تحقيق النهضة دون خروج التعليم من محنته.. ومن ثم فإنه ينبغي أن يحتل التعليم لدينا أولوية قصوى وأن نؤمن بالحاجة إلى مراجعة شاملة لتوجهاته وإصلاح جذري لكافة مكوناته.
والحال أن تلك عملية طويلة الأجل لن تحدث بين ليلة وضحاها، وهي تحتاج إلى دراسات مستفيضة تستلهم باستمرار الجديد من تجارب الدول الأخرى وتستفيد من الخبرات اللبنانية والعربية الكثيرة في هذا المجال.
وبادئ ذى بدء، التعليم حق لكل مواطن على أرض لبنان وهو هدف فى حد ذاته لا فقط مجرد وسيلة للتوظيف أو الترقي الاجتماعي أو الوفاء باحتياجات السوق. فإذا كان الإنسان اللبناني هو هدف أية نهضة يصبح العلم قيمة عليا والتعليم أحد الحقوق الأساسية.
كما أن الاهتمام بتطوير التعليم يقع فى القلب من الرؤية الإقتصادية الوطنية. فإن الارتباط الوثيق بين النهضة الاقتصادية والتعليم انما يأتي من الدور المهم الذى يلعبه التعليم فى زرع قيم بعينها هي التى تجعل الشباب فاعلاً فى عملية التنمية بل وقادراً على المنافسة بغض النظر عن تقلبات السوق. وتطوير التعليم لايقتصر على الإهتمام بإدخال التكنولوجيا الحديثة وتطوير المباني والمعدات وإنما يتضمن (وهو الأهم) خلق جيل معتز بهويته وعلى وعي بقدرات بلاده ودورها وإماكاناتها ويمتلك من المهارات مايمكنه من المشاركة فى عملية التنمية.
ومن هذا المنطلق ولأن الأسس التى تقوم عليها المنظومة التعليمية والتربوية برمتها فى حاجة إلى مراجعة جذرية، نرى أن الأمر يحتاج إلى حشد إمكانات الدولة بكل وزاراتها وهيئاتها وطاقات المجتمع بكل فئاته وعناصره. بعبارة أخرى، فقد بلغت أزمة التعليم مبلغاً لا يمكن معه أن تتولى إصلاحه وزارة التربية وحدها دون تنسيق وتعاون وثيق مع كافة أجهزة الدولة الأخرى أو فى غياب الدعم الواسع من جانب قطاعات المجتمع المختلفة.
ومن هنا، فإن تلك العملية الشاملة من الإصلاح لايمكن أن تتم دون التوصل إلى إجماع وطني حول أهدافها. لذلك فإن أية خطة مقترحة لتطوير التعليم لا بد وأن يتم عرضها للنقاش المجتمعي واسع النطاق فى إطار يتسم بالشفافية ويسعى لتعديل تلك الخطة بناء على الرؤى المختلفة التى يتلقاها من المجتمع ويقوم في الوقت ذاته بإعداد المجتمع لاستقبال التغيير والإقبال عليه ودعم أهدافه.
مبررهذا الكلام ما شهدناه من قرارات متسرعة صدرت عن وزارة التربية تتجاهل دروس من سبقوا وحاجات الناس الفعلية وتجارب الدول المختلفة.. فالترفيع الآلي لللأولاد حتى الصف الرابع إبتدائي حق مشروع اقتضته المدنية الحديثة وحثت عليه علوم النفس والتربية، وطبقته كل دول العالم قبلنا.. ولا علاقة له البتة بهبوط في مستوى التعليم إلا إن كانت الوزارة تظن أن واجب المدرسة حشو رأس الأولاد بالقوة والتعامل معهم وكأنهم شاحنات يتم تحميلها طوال العام بالمعلومات التى يتم تفريغها على أوراق الامتحان فى نهايته (بغض النظر عن الحالات الخاصة كالإعاقة أو التأخر الدراسي والتي تستوجب صفوفاً خاصة)..ونفس الإعتراض ينطبق على جعل الدراسة تبدأ أول أيلول وعلى عملية دمج وإلغاء مدارس.. فهذه القرارات تصدر عن ذهنية لا تلحظ الوضع في الريف اللبناني الذي يختلف عن أوروبا وأميركا حيث الشتاء أطول من الصيف وحيث القرى أشبه بالمدن تتوفر فيها كل مقومات الراحة والحياة المستقرة.. فمن دون إقامة مجمعات مدرسية وتأمين النقليات لها وتوفير الرعاية الصحية والغذائية للأولاد فيها، وتوفير الماء والكهرباء والتدفئة، ووجود دورة إقتصادية إجتماعية ثقافية في الأرياف، تصبح قرارات الدمج وتقديم مواعيد الدراسة أشبه بفقاعات الصابون...إلا أنها للأسف فقاعات مؤذية..
د. سعود المولى
التعليم هو عصب النهضة وماء حياتها. والمحنة التى يعيشها لبنان اليوم ناتجة فى قسم كبير منها عن إنهيار نظمه التعليمية والتربوية (بعد انهيار نظمه السياسية والمدنية) وما ترتب على ذلك من تراجع مذهل فى مستوى المعرفة والكفاءة لدى القطاعات الأوسع من المجتمع.
ويستحيل تحقيق النهضة دون خروج التعليم من محنته.. ومن ثم فإنه ينبغي أن يحتل التعليم لدينا أولوية قصوى وأن نؤمن بالحاجة إلى مراجعة شاملة لتوجهاته وإصلاح جذري لكافة مكوناته.
والحال أن تلك عملية طويلة الأجل لن تحدث بين ليلة وضحاها، وهي تحتاج إلى دراسات مستفيضة تستلهم باستمرار الجديد من تجارب الدول الأخرى وتستفيد من الخبرات اللبنانية والعربية الكثيرة في هذا المجال.
وبادئ ذى بدء، التعليم حق لكل مواطن على أرض لبنان وهو هدف فى حد ذاته لا فقط مجرد وسيلة للتوظيف أو الترقي الاجتماعي أو الوفاء باحتياجات السوق. فإذا كان الإنسان اللبناني هو هدف أية نهضة يصبح العلم قيمة عليا والتعليم أحد الحقوق الأساسية.
كما أن الاهتمام بتطوير التعليم يقع فى القلب من الرؤية الإقتصادية الوطنية. فإن الارتباط الوثيق بين النهضة الاقتصادية والتعليم انما يأتي من الدور المهم الذى يلعبه التعليم فى زرع قيم بعينها هي التى تجعل الشباب فاعلاً فى عملية التنمية بل وقادراً على المنافسة بغض النظر عن تقلبات السوق. وتطوير التعليم لايقتصر على الإهتمام بإدخال التكنولوجيا الحديثة وتطوير المباني والمعدات وإنما يتضمن (وهو الأهم) خلق جيل معتز بهويته وعلى وعي بقدرات بلاده ودورها وإماكاناتها ويمتلك من المهارات مايمكنه من المشاركة فى عملية التنمية.
ومن هذا المنطلق ولأن الأسس التى تقوم عليها المنظومة التعليمية والتربوية برمتها فى حاجة إلى مراجعة جذرية، نرى أن الأمر يحتاج إلى حشد إمكانات الدولة بكل وزاراتها وهيئاتها وطاقات المجتمع بكل فئاته وعناصره. بعبارة أخرى، فقد بلغت أزمة التعليم مبلغاً لا يمكن معه أن تتولى إصلاحه وزارة التربية وحدها دون تنسيق وتعاون وثيق مع كافة أجهزة الدولة الأخرى أو فى غياب الدعم الواسع من جانب قطاعات المجتمع المختلفة.
ومن هنا، فإن تلك العملية الشاملة من الإصلاح لايمكن أن تتم دون التوصل إلى إجماع وطني حول أهدافها. لذلك فإن أية خطة مقترحة لتطوير التعليم لا بد وأن يتم عرضها للنقاش المجتمعي واسع النطاق فى إطار يتسم بالشفافية ويسعى لتعديل تلك الخطة بناء على الرؤى المختلفة التى يتلقاها من المجتمع ويقوم في الوقت ذاته بإعداد المجتمع لاستقبال التغيير والإقبال عليه ودعم أهدافه.
مبررهذا الكلام ما شهدناه من قرارات متسرعة صدرت عن وزارة التربية تتجاهل دروس من سبقوا وحاجات الناس الفعلية وتجارب الدول المختلفة.. فالترفيع الآلي لللأولاد حتى الصف الرابع إبتدائي حق مشروع اقتضته المدنية الحديثة وحثت عليه علوم النفس والتربية، وطبقته كل دول العالم قبلنا.. ولا علاقة له البتة بهبوط في مستوى التعليم إلا إن كانت الوزارة تظن أن واجب المدرسة حشو رأس الأولاد بالقوة والتعامل معهم وكأنهم شاحنات يتم تحميلها طوال العام بالمعلومات التى يتم تفريغها على أوراق الامتحان فى نهايته (بغض النظر عن الحالات الخاصة كالإعاقة أو التأخر الدراسي والتي تستوجب صفوفاً خاصة)..ونفس الإعتراض ينطبق على جعل الدراسة تبدأ أول أيلول وعلى عملية دمج وإلغاء مدارس.. فهذه القرارات تصدر عن ذهنية لا تلحظ الوضع في الريف اللبناني الذي يختلف عن أوروبا وأميركا حيث الشتاء أطول من الصيف وحيث القرى أشبه بالمدن تتوفر فيها كل مقومات الراحة والحياة المستقرة.. فمن دون إقامة مجمعات مدرسية وتأمين النقليات لها وتوفير الرعاية الصحية والغذائية للأولاد فيها، وتوفير الماء والكهرباء والتدفئة، ووجود دورة إقتصادية إجتماعية ثقافية في الأرياف، تصبح قرارات الدمج وتقديم مواعيد الدراسة أشبه بفقاعات الصابون...إلا أنها للأسف فقاعات مؤذية..
نحو مقاربة عربية لعلم اجتماع العلوم
المستقبل - الاربعاء 1 أيلول 2010 - العدد 3758 - ثقافة و فنون - صفحة 20
د. سعود المولى
نلاحظ في مجتمعاتنا العربية والإسلامية أن الناس تؤمن إيماناً قوياً بقدرة العلم على تحسين شروط حياتها وعلى دفع مجتمعاتها باتجاه التطور والتقدم، من دون أن يكون لديها أي فهم أولي لطبيعة العمل العلمي، أو لمفاهيمه ومصطلحاته الأساسية، أو لنتائجه الاجتماعية، أو للأبعاد الاجتماعية-التربوية المؤسِسة أصلاً للمنهج العلمي وللبحث العلمي.. وبالمناسبة فإن هذا الوضع لا يقتصر علينا، بل هو يشمل الغربيين أيضاً.. ويكفي أن نذكر هنا ما ورد في كتاب ميشال دوبوا (علم اجتماع العلوم، ترجمة سعود المولى،المنظمة العربية للترجمة، بيروت،2007) من أن 89 بالماية من الأميركيين يعجزون عن تعريف مصطلح "جزيئة"، وأن 52 بالماية منهم يجهلون كيف تدور الأرض حول الشمس، وأن 27 بالماية فقط يستطيعون تعريف التجربة العلمية "تعريفاً تقريبياً"... وليس الحال في أوروبا بأحسن! فما بالك في البلدان العربية والإسلامية؟
تكمن المشكلة برأيي في وجود هوة سحيقة ما بين مراكز البحث العلمي ونخبه من جهة، والمجتمع الأهلي من جهة ثانية، وما بين مراكز البحث والدراسات من جهة، ومراكز صنع القرار السياسي والاجتماعي والعسكري والاقتصادي، من جهة ثانية..
ولعل فهم هذا الأمر يكون حجر الأساس لبداية البحث والاستقصاء حول السؤال الذي حيّر المفكرين ورجال الاصلاح منذ أكثر من قرن والذي نسميه عموماً بسؤال النهضة: "لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟" (بكلمات الأمير شكيب أرسلان).. يومها تراوحت الردود ما بين الدعوة إلى العودة إلى أصول الدين والشريعة، وما بين الفصل الكامل ما بين الدين والسياسة، والدين والاجتماع، تقليداً للغرب، وصولاً إلى المدرسة التوفيقية-التلفيقية التي قالت بالأخذ بأسباب القوة الغربية وأساسها العلم التجريبي والتقني البحت دون فلسفة وأخلاق الغرب (أسوة باليابان يومذاك)..
في دراسته الشهيرة:"العلم والتكنولوجيا والمجتمع في انكلترا القرن السابع عشر"-1938-طرح روبرت مرتون السؤال حول نهضة الغرب،إنما بشكل مختلف: "من أين أتت الثورة العلمية والتقنية التي عرفتها انكلترا في نهاية القرن السابع عشر؟".... إلا أنه لم يفعل كما فعلنا حين غرقنا في نقاشات وسجالات أيديولوجية، بل هو قام بتحليل سوسيولوجي للنخبة الثقافية الفكرية الانكليزية لتلك الحقبة، ولتطوّر مراكز اهتمامها ومصالحها،وللقيم الثقافية السائدة في المجتمع، وللعلاقات بين العلم والقطاعات الاقتصادية والعسكرية من جهة، وبين العلم والنمو السكاني من جهة أخرى.. وبعد الاستقصاء التاريخي-الاجتماعي المعمّق استخرج مرتون أطروحاته التي قالت بأن المصالح والدوافع والسلوكات الاجتماعية القائمة في حقل مؤسسي ما (الدين أو الاقتصاد على سبيل المثال) تترابط وتتكامل مع المصالح والدوافع والسلوكات الاجتماعية القائمة في حقول مؤسسية أخرى (حقل العلم على وجه الخصوص).. وبأن الخُلُق الديني الطهراني (البيوريتاني) السائد في انكلترا القرن السابع عشر، إذ يعطي معنىً دينياً للاستقصاء العلمي، فإنه يحفّز،على نحو جماعي، الاهتمام بالمنهج العقلاني الامبيريقي الذي يتطلبه البحث العلمي..أي أن الطهرانية لا تخلق العلم وإنما تساهم في زيادة وتيرته بصورة مذهلة، وبالنتيجة فإنها تسهّل مأسسته... وهذه النظرية تلتقي بالطبع مع نظرية ماكس فيبر الشهيرة حول "التآلف الاختياري" بين الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية..ونظرية الاقتصادي الألماني الشهير فرنر شومبارت (المجهولة تماماً للأسف) حول علاقة نشوء الرأسمالية باليهودية..
وما يهمنا في هذا المثال هو أولاً: إبراز المسعى البحثي الاستقصائي الذي قام به مرتون وفيبر لفهم إشكالية النهضة الغربية والعلاقة بين الدين والعلم والمجتمع..وثانياً: إبراز التراكم والتواصل المعرفي في بناء نظريات لفهم وتفسير الواقع.. ذلك إن مرتون يرى صراحة أن عمله هو امتداد لعمل ماكس فيبر، وأن هذا الأخير رغم أنه لم يدفع بأبحاثه عن العلاقات بين البروتستانتية والعلم إلى آخرها ،الا أنه ختم دراسته الكلاسيكية بالإشارة إلى أن إحدى المهمات المطلوبة للمستقبل تقتضي البحث عن معنى العقلية النسكية واللازمة لفهم تطور الامبيريقية الفلسفية والعلمية والتطور التقني..(مرتون:عناصر للنظرية وللمنهج السوسيولوجي-1957).
لقد استشعر علماء الاجتماع الغربيون مبكراً تبعات العلوم والاكتشافات والابتكارات والتطورات التقنية على المجتمع، والحاجة إلى ان يجعلوا من العلم موضوعاً للتفكر السوسيولوجي كامل الشرعية والمشروعية..
وجاءت مأسسة سوسيولوجيا العلوم وتشكيلها كحقل علمي مستقل ومميز في قلب الإطار العام لعلم الاجتماع متاخرة بوجه خاص، خصوصاً في فرنسا حيث صدر كتاب ميشال دوبوا في أواخر الألفية الثانية للميلاد.فمع أن المدرسة الفرنسية في علم الاجتماع أدت تاريخياً دوراً رئيسياً في تطور علم الاجتماع في نهاية القرن التاسع عشر(أوغست كونت وإميل دوركهايم)،وأنها كانت في أساس الدراسات الأولى حول الأصل الاجتماعي لبعض المقولات العلمية(دوركهايم ومارسيل موس-1903)،الا أنها تأخرت كثيراً عن المدارس الغربية الاخرى(الأميركية والانكليزية والالمانية والروسية والبولونية) في بناء برامج بحث منظمة ومكرسة لدراسة تنظيم المختبرات العلمية أو للعوامل الاجتماعية المؤثرة في دينامية بعض الفروع العلمية، أو لدور المعايير والقواعد المهنية،الخ..وقد صح القول بأن سوسيولوجيا العلوم تجد جذورها في أبحاث روبرت مرتون حول البنية المعيارية للعلوم (1938)، كما في أبحاث بوخارين حول الوظائف الاجتماعية للعلوم(1931)، وأبحاث بوريس هسن حول الأصل الاجتماعي والاقتصادي لنظريات نيوتن(1931)..
تطور سوسيولوجيا العلوم
وأهمية كتاب ميشال دوبوا تكمن برأينا (بالإضافة إلى ما سبق) في أنه يقدم للقارئ، العادي والمتخصص على السواء، عرضاً شاملاً للجوانب الأكثر أهمية ودلالة في تطور سوسيولوجيا العلوم خلال القرن العشرين (والذي تأخرت فيه فرنسا حتى منتصف السبعينيات)..وهو يجعلنا نفهم كيف ساهمت سوسيولوجيا العلوم في إغناء معرفتنا بشروط اشتغال العلم، وبالأواليات الاجتماعية والمعرفية التي تفعل فعلها في بلورة الابتكارات العلمية وفي تعميمها... وفي كيف أن العلم هو نشاط اجتماعي يستند إلى جملة معايير مخصوصة تؤسسه باعتباره نسقاً متفرعاً مستقلاً في صلب المجتمع.. وفي كل ذلك فائدة كبيرة لنا نحن الباحثين عن سر نهضة الغرب وتخلفنا بحيث يحفزنا على تنكب مسيرة البحث السوسيولوجي على خطى مرتون وكون وبوبر وغيرهم من أساطين فلسفة العلوم وسوسيولوجيتها الذين يعرض الكتاب لأعمالهم وأفكارهم ونظرياتهم وتجاربهم..
مسألة أخيرة أعتقد أنها تفيدنا في ربط أسباب النهضة العلمية بالظروف السياسية والاقتصادية والعسكرية (ميزان القوى وأسباب القوة) نكتشفها في الكتاب حين يعرض نظرية برنال المأخوذة من كتابه "الوظيفة الاجتماعية للعلم،-1967"-حيث يلاحظ ذلك التصاحب (أو ما يسميه الصدفة الغريبة) في مجرى التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من جهة، والعلمية والابتكارية من جهة أخرى:الحرب العالمية الاولى-الثورة الروسية-الأزمة الاقتصادية العالمية- صعود الفاشية، من ناحية، وتجديد النظريات الفيزيائية والرياضية والبيولوجية من ناحية ثانية..وما ندركه في آخر المطاف هو غياب شيء اسمه :"علم العلم" قادر على الكشف عن الأصل العميق لهذه الصدفة...
فرعان معرفيان
في تراثنا العربي الإسلامي فرعان معرفيان كان لهما شأن كبير في ردم الفجوة ما بين العلم والمجتمع، وما بين العلم والدين، عنيت بهما تاريخ العلوم وفلسفة العلوم.. وقد أخذهما الغرب عنا وقام بتطويرهما بعد انحطاط حضارتنا..وفي عرفنا وديننا أن العلم مشاع بين البشر(الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها..اطلب العلم ولو في الصين..الخ..) وأن علينا أن نأخذ من الناس أحسن القول، فنتبعه..وأحسن القول عند الغرب اليوم يتمثل في الديمقراطية التي كانت في أساس تطور البحث العلمي الجاد ..وهذا ما يتوصل اليه الكتاب الذي بين أيدينا بعد أن يستعرض كل اتجاهات المعرفة السوسيولوجية الغربية للقرن العشرين ليصل إلى إبداعات توماس كوُن وكارل بوبر..والخلاصة إننا نحتاج إلى دراسة ومعرفة علم اجتماع العلوم كما نشأ وتطور في الغرب وأن نصل ماضينا بحاضرنا وبروئ لمستقبلنا بما يسمح لنا بإعادة إنتاج نظريات للمعرفة وفلسفة للعلوم وسوسيولوجيا عربية للمعرفة والعلم....ويكفي أن يكون في كل ما سبق مبررات لترجمة هذا الكتاب وتقديمه إلى العرب في زمن نحن أحوج ما نكون فيه إلى استماع أحسن القول واتباعه...
د. سعود المولى
نلاحظ في مجتمعاتنا العربية والإسلامية أن الناس تؤمن إيماناً قوياً بقدرة العلم على تحسين شروط حياتها وعلى دفع مجتمعاتها باتجاه التطور والتقدم، من دون أن يكون لديها أي فهم أولي لطبيعة العمل العلمي، أو لمفاهيمه ومصطلحاته الأساسية، أو لنتائجه الاجتماعية، أو للأبعاد الاجتماعية-التربوية المؤسِسة أصلاً للمنهج العلمي وللبحث العلمي.. وبالمناسبة فإن هذا الوضع لا يقتصر علينا، بل هو يشمل الغربيين أيضاً.. ويكفي أن نذكر هنا ما ورد في كتاب ميشال دوبوا (علم اجتماع العلوم، ترجمة سعود المولى،المنظمة العربية للترجمة، بيروت،2007) من أن 89 بالماية من الأميركيين يعجزون عن تعريف مصطلح "جزيئة"، وأن 52 بالماية منهم يجهلون كيف تدور الأرض حول الشمس، وأن 27 بالماية فقط يستطيعون تعريف التجربة العلمية "تعريفاً تقريبياً"... وليس الحال في أوروبا بأحسن! فما بالك في البلدان العربية والإسلامية؟
تكمن المشكلة برأيي في وجود هوة سحيقة ما بين مراكز البحث العلمي ونخبه من جهة، والمجتمع الأهلي من جهة ثانية، وما بين مراكز البحث والدراسات من جهة، ومراكز صنع القرار السياسي والاجتماعي والعسكري والاقتصادي، من جهة ثانية..
ولعل فهم هذا الأمر يكون حجر الأساس لبداية البحث والاستقصاء حول السؤال الذي حيّر المفكرين ورجال الاصلاح منذ أكثر من قرن والذي نسميه عموماً بسؤال النهضة: "لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟" (بكلمات الأمير شكيب أرسلان).. يومها تراوحت الردود ما بين الدعوة إلى العودة إلى أصول الدين والشريعة، وما بين الفصل الكامل ما بين الدين والسياسة، والدين والاجتماع، تقليداً للغرب، وصولاً إلى المدرسة التوفيقية-التلفيقية التي قالت بالأخذ بأسباب القوة الغربية وأساسها العلم التجريبي والتقني البحت دون فلسفة وأخلاق الغرب (أسوة باليابان يومذاك)..
في دراسته الشهيرة:"العلم والتكنولوجيا والمجتمع في انكلترا القرن السابع عشر"-1938-طرح روبرت مرتون السؤال حول نهضة الغرب،إنما بشكل مختلف: "من أين أتت الثورة العلمية والتقنية التي عرفتها انكلترا في نهاية القرن السابع عشر؟".... إلا أنه لم يفعل كما فعلنا حين غرقنا في نقاشات وسجالات أيديولوجية، بل هو قام بتحليل سوسيولوجي للنخبة الثقافية الفكرية الانكليزية لتلك الحقبة، ولتطوّر مراكز اهتمامها ومصالحها،وللقيم الثقافية السائدة في المجتمع، وللعلاقات بين العلم والقطاعات الاقتصادية والعسكرية من جهة، وبين العلم والنمو السكاني من جهة أخرى.. وبعد الاستقصاء التاريخي-الاجتماعي المعمّق استخرج مرتون أطروحاته التي قالت بأن المصالح والدوافع والسلوكات الاجتماعية القائمة في حقل مؤسسي ما (الدين أو الاقتصاد على سبيل المثال) تترابط وتتكامل مع المصالح والدوافع والسلوكات الاجتماعية القائمة في حقول مؤسسية أخرى (حقل العلم على وجه الخصوص).. وبأن الخُلُق الديني الطهراني (البيوريتاني) السائد في انكلترا القرن السابع عشر، إذ يعطي معنىً دينياً للاستقصاء العلمي، فإنه يحفّز،على نحو جماعي، الاهتمام بالمنهج العقلاني الامبيريقي الذي يتطلبه البحث العلمي..أي أن الطهرانية لا تخلق العلم وإنما تساهم في زيادة وتيرته بصورة مذهلة، وبالنتيجة فإنها تسهّل مأسسته... وهذه النظرية تلتقي بالطبع مع نظرية ماكس فيبر الشهيرة حول "التآلف الاختياري" بين الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية..ونظرية الاقتصادي الألماني الشهير فرنر شومبارت (المجهولة تماماً للأسف) حول علاقة نشوء الرأسمالية باليهودية..
وما يهمنا في هذا المثال هو أولاً: إبراز المسعى البحثي الاستقصائي الذي قام به مرتون وفيبر لفهم إشكالية النهضة الغربية والعلاقة بين الدين والعلم والمجتمع..وثانياً: إبراز التراكم والتواصل المعرفي في بناء نظريات لفهم وتفسير الواقع.. ذلك إن مرتون يرى صراحة أن عمله هو امتداد لعمل ماكس فيبر، وأن هذا الأخير رغم أنه لم يدفع بأبحاثه عن العلاقات بين البروتستانتية والعلم إلى آخرها ،الا أنه ختم دراسته الكلاسيكية بالإشارة إلى أن إحدى المهمات المطلوبة للمستقبل تقتضي البحث عن معنى العقلية النسكية واللازمة لفهم تطور الامبيريقية الفلسفية والعلمية والتطور التقني..(مرتون:عناصر للنظرية وللمنهج السوسيولوجي-1957).
لقد استشعر علماء الاجتماع الغربيون مبكراً تبعات العلوم والاكتشافات والابتكارات والتطورات التقنية على المجتمع، والحاجة إلى ان يجعلوا من العلم موضوعاً للتفكر السوسيولوجي كامل الشرعية والمشروعية..
وجاءت مأسسة سوسيولوجيا العلوم وتشكيلها كحقل علمي مستقل ومميز في قلب الإطار العام لعلم الاجتماع متاخرة بوجه خاص، خصوصاً في فرنسا حيث صدر كتاب ميشال دوبوا في أواخر الألفية الثانية للميلاد.فمع أن المدرسة الفرنسية في علم الاجتماع أدت تاريخياً دوراً رئيسياً في تطور علم الاجتماع في نهاية القرن التاسع عشر(أوغست كونت وإميل دوركهايم)،وأنها كانت في أساس الدراسات الأولى حول الأصل الاجتماعي لبعض المقولات العلمية(دوركهايم ومارسيل موس-1903)،الا أنها تأخرت كثيراً عن المدارس الغربية الاخرى(الأميركية والانكليزية والالمانية والروسية والبولونية) في بناء برامج بحث منظمة ومكرسة لدراسة تنظيم المختبرات العلمية أو للعوامل الاجتماعية المؤثرة في دينامية بعض الفروع العلمية، أو لدور المعايير والقواعد المهنية،الخ..وقد صح القول بأن سوسيولوجيا العلوم تجد جذورها في أبحاث روبرت مرتون حول البنية المعيارية للعلوم (1938)، كما في أبحاث بوخارين حول الوظائف الاجتماعية للعلوم(1931)، وأبحاث بوريس هسن حول الأصل الاجتماعي والاقتصادي لنظريات نيوتن(1931)..
تطور سوسيولوجيا العلوم
وأهمية كتاب ميشال دوبوا تكمن برأينا (بالإضافة إلى ما سبق) في أنه يقدم للقارئ، العادي والمتخصص على السواء، عرضاً شاملاً للجوانب الأكثر أهمية ودلالة في تطور سوسيولوجيا العلوم خلال القرن العشرين (والذي تأخرت فيه فرنسا حتى منتصف السبعينيات)..وهو يجعلنا نفهم كيف ساهمت سوسيولوجيا العلوم في إغناء معرفتنا بشروط اشتغال العلم، وبالأواليات الاجتماعية والمعرفية التي تفعل فعلها في بلورة الابتكارات العلمية وفي تعميمها... وفي كيف أن العلم هو نشاط اجتماعي يستند إلى جملة معايير مخصوصة تؤسسه باعتباره نسقاً متفرعاً مستقلاً في صلب المجتمع.. وفي كل ذلك فائدة كبيرة لنا نحن الباحثين عن سر نهضة الغرب وتخلفنا بحيث يحفزنا على تنكب مسيرة البحث السوسيولوجي على خطى مرتون وكون وبوبر وغيرهم من أساطين فلسفة العلوم وسوسيولوجيتها الذين يعرض الكتاب لأعمالهم وأفكارهم ونظرياتهم وتجاربهم..
مسألة أخيرة أعتقد أنها تفيدنا في ربط أسباب النهضة العلمية بالظروف السياسية والاقتصادية والعسكرية (ميزان القوى وأسباب القوة) نكتشفها في الكتاب حين يعرض نظرية برنال المأخوذة من كتابه "الوظيفة الاجتماعية للعلم،-1967"-حيث يلاحظ ذلك التصاحب (أو ما يسميه الصدفة الغريبة) في مجرى التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من جهة، والعلمية والابتكارية من جهة أخرى:الحرب العالمية الاولى-الثورة الروسية-الأزمة الاقتصادية العالمية- صعود الفاشية، من ناحية، وتجديد النظريات الفيزيائية والرياضية والبيولوجية من ناحية ثانية..وما ندركه في آخر المطاف هو غياب شيء اسمه :"علم العلم" قادر على الكشف عن الأصل العميق لهذه الصدفة...
فرعان معرفيان
في تراثنا العربي الإسلامي فرعان معرفيان كان لهما شأن كبير في ردم الفجوة ما بين العلم والمجتمع، وما بين العلم والدين، عنيت بهما تاريخ العلوم وفلسفة العلوم.. وقد أخذهما الغرب عنا وقام بتطويرهما بعد انحطاط حضارتنا..وفي عرفنا وديننا أن العلم مشاع بين البشر(الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها..اطلب العلم ولو في الصين..الخ..) وأن علينا أن نأخذ من الناس أحسن القول، فنتبعه..وأحسن القول عند الغرب اليوم يتمثل في الديمقراطية التي كانت في أساس تطور البحث العلمي الجاد ..وهذا ما يتوصل اليه الكتاب الذي بين أيدينا بعد أن يستعرض كل اتجاهات المعرفة السوسيولوجية الغربية للقرن العشرين ليصل إلى إبداعات توماس كوُن وكارل بوبر..والخلاصة إننا نحتاج إلى دراسة ومعرفة علم اجتماع العلوم كما نشأ وتطور في الغرب وأن نصل ماضينا بحاضرنا وبروئ لمستقبلنا بما يسمح لنا بإعادة إنتاج نظريات للمعرفة وفلسفة للعلوم وسوسيولوجيا عربية للمعرفة والعلم....ويكفي أن يكون في كل ما سبق مبررات لترجمة هذا الكتاب وتقديمه إلى العرب في زمن نحن أحوج ما نكون فيه إلى استماع أحسن القول واتباعه...