الصفحات

الأحد، 20 مارس 2011

شيعة البحرين

مقتطفات من دراسة للباحث البحراني الدكتور نادر كاظم
"شيعة البحرين" يمثلون حالة خاصة أو متفردة تمييزهم تاريخياً عن شيعة القطيف ولبنان وإيران.. ويمثل شيعة العراق منذ العقود الأخيرة من القرن العشرين المثال الأقرب شبهاً بشيعة البحرين. ويتمثل هذا التفرد في حالة الشتات البحريني الجماعي، وهو شتات إمتدت حركته على مدى قرن ونصف من الزمان. ومن المعروف أن الشتات يخلق حالة نفسية معينة تطبع هوية ومزاج الجماعات التي تعاني منه. إلا أنه من اللافت أن هؤلاء المشتتين كانوا يندمجون في الأقطار التي تشتتوا فيها في القطيف والإحساء والبصرة وكربلاء والنجف والمحمرة وأصفهان وشيراز وبهبهان والنجف وبوشهر وغيرها، بحيث تتناسى الأجيال اللاحقة أصولها البحرينية التي لم يتبق من شيء يذكر بها إلا لقب من بقابا بلده الأصلي مثل: "البحراني" أو "الغريفي" أو "البلادي" أو "الساري" أو "الستري" أو "التوبلاني" أو غيرها من الألقاب المنسوبة إلى منطقة معينة في البحرين، وفي كثير من الأحيان تنقرض الألقاب ويجري تناسي الأصول وخصوصاً في الشتات الهائل الذي يكون عادة إبان الحروب والهجمات المتعاقبة والتي لم تهدأ من القرن الثامن عشر.
ولعل أقدم إشارة جاء فيها وصف الحرين بأنها "بلد الإيمان"، وأن أهلها هم "أهل الإيمان" هي تلك التي جاءت في مكتوب الشيخ عبيد آل مذكور الذي حرّره إلى الشاه عباس الصفوي يستنهض به همته ويحثّه على القيام لطرد البرتغاليين من البحرين. وقد جاء فيه: "أما بعد فكيف رضيت همته العلية وشيمته القدسية بالجلوس في دار أصفهان والإغضاء عن جلب على أهل الإيمان".
وتعود هذه الإشارة إلى القرن السابع عشر الميلادي، إلا أنها سوف تتعزز في القرن الثامن عشر الذي يعد قرن الشتات الأعظم في تاريخ البحرين، ولقد كان لهجمات العُمانيين الإباضية (اليعاربة) الأثر الأكبر في هذا الشتات العظيم. وفي هذا السياق يذكر الشيخ ياسين بن صلاح الدين البلادي البحراني في ديباجة رسالته المسماة بـ "القول السديد في شرح كلمة التوحيد"، قال بعد كلام طويل في وصف الشتات البحريني: "فأضرمت نيران الفتن، في مرابع أهل الإيمان، وشنّت الغارات والمحن في معالم ذوي العلم والإحسان". وفي فترة قريبة من هذا كتب الشيخ علي البلادي كتاباً في تراجم علماء البحرين، وقال: "ومن هؤلاء وأضرابهم سميت البحرين ببلاد المؤمنين والإيمان، واشتهرت بذلك في كل مكان". ويذكر ناصر الخيري أن البحرين "في عرف الشيعيين من الأماكن المقدسة".والمرجّح أن يكون القرن السابع عشر هو الزمن المرجعي لهذه الإشارة، ويعود ترجيحنا هذا إلى حقيقة تاريخنا وهي أن البحرين دخلت في مدار النفوذ الصفوي في هذا القرن تحديداً (1602م). وهذا يعني أنه لأول مرة في التاريخ يظهر حليف إقليمي قوي لأهل البحرين، وأكثر من هذا فهو حليف شريك لهم في المذهب مما يعني أنه لن يألو جهداً في حمايتهم والذوذ عنهم ضد الهجمات المتعاقبة التي تستهدفهم.. والعلة في هذا كما يذكر محمد علي التاجر هو "أن عواطف العقائد الدينية هي أقوى رابطة تربط أهالي البحرين لذلك العهد بشاهات الدولة الصفوية".
وقد بادر أهل البحرين إلى مكاتبة الدولة الصفوية (1501 ـ 1736م) من أجل التخلّص من البرتغاليين ومن الهجمات المتعاقبة التي تشيع الفوضى والإضطراب في البلاد، ويذكر ناصر الخيري أن ظهور الدولة الصفوية واشتهارها "بعطفها على المذهب الشيعي" ومناصرته قد حمل أهل البحرين على "مكاتبة ملوكها واستصراخهم بها سرّاً وعلانية". وإذا عرفنا أن تعبير "أهل الإيمان" يتطابق مع "الشيعة" في الإستخدام اللغوي العرفي لدى الشيعة في هذه الحقبة حيث يكون معنى "الذين آمنوا هم الشيعة أهل الولاية"، أقول إذا كان ذلك كذلك فإنه لن يكون من العسير الإستنتاج بأن تعبير "أهل الإيمان" كان جزءاً من حيلة خطابية تستهدف استنهاض الدولة الصفوية لإنقاذ أهل البحرين "وعقيدة التشيع" التي يصور حالها عبيد آل مذكور في خطابه إلى الشاه عباس بقوله: "فحسبك بتشتّت شملها وإضمحلال أثرها وإندراس معالمها (...) ولم يبق من أطلالها إلا عروش خاوية وآثار متداعية، ومع ذلك فقد اكتفينا من عمرها بالخراب، ومن مائها بالتراب".
وفي القرن السابع عشر أيضاً عادت الإمامة إلى مجتمع الأباضية في عمان، حيث عقدت الإمامة في العام 1034 هـ (1624م) لناصر بن مرشد اليعربي، وهو أول إمام يعربي في عمان، وفي عهده دخلت عمان في "حقبة إستثنائية من تاريخها الحديث، وهي حقبة إستعادت فيها الإمامة بناء ذاتها وتحققت خلالها وحدة البلاد الإجتماعية". ومن نسل هذا الإمام سيخرج سلطان بن سيف الذي عقدت له الإمامة في العام 1711. وقد صرف هذا الإمام عنايته لحرب الدولة الصفوية، وانتزع من أيديها جزيرة قشم ولارك وجاش وبندر عباس وهرمز والبحرين بعد حروب طاحنة، وأهمها وقعة البحرين في العام 1717م.
وعلى هذا، فقد كتبت على أهل البحرين ان يتواجهوا ـولأول مرة أيضاً ـ مع عدو إقليمي قوي، ونجح في التغلب على بلادهم لأكثر من مرة، وهذا العدو المختلف عنهم مذهبياً هو إمام مسقط واليعاربة الإباضيون (أو الخوارج بتعبير مؤرخي البحرين في تلك الفترة). لقد تأجج هذا العداء في سياق التنافس على النفوذ الإقليمي مع الدولة الصفوية، إلا أنه لم يكن يخلو من تعصب مذهبي متبادل، وكما يقول ناصر الخيري: "وأنّى للأباضي أن يتفق مع الشيعي، وذلك يبالغ ويسرف في بغض علي بن أبي طالب بينما هذا يبالغ في مودته ويكاد أن يجعله إلهاً، فهم لهذا على طرفي نقيض، ومحال أن يجتمع الضدان ويأتلف النقيضان".
وإذا تذكرنا إشارة ألبرت حوراني عن دور الثورة في إيران وحرب الخليج الأولى في استثارة الإحساس القوي بالهوية الشيعية وإهتزاز نظام هذه المجتمعات، فإنه علينا أن نتذكر كذلك بأن هذه الإستثارة لم تكن هي الأولى من نوعها، كما لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يهتز فيها "نظام المجتمع" في البحرين. فقد شهدت بنية المجتمع البحريني إهتزازاً عميقاً في القرن الثامن عشر. والحفر "الأركيولوجي" في تاريخ هذه الإستثارة وهذا الإهتزاز كفيل بإضاءة الكثير من المناطق المظلمة والمجهولة فيما يتعلق بمعضلة الولاء وإزدواجه، وفي ما يتعلق بدور هذه الإستثارة وهذا الإهتزاز في صياغة الوجدان الجماعي و "المزاج العام" تجاه فكرة "الوطن" أو "اللاوطن/الشتات" لدى شيعة البحرين. كما ان هذا النوع من الحفر كفيل بأن يكشف لنا حقيقة أن هذا التاريخ رازح بقوة في حاضرنا، وأنّ كثيراً من هواجسنا ومخاوفنا وعقدنا النفسية اليوم إنما تضرب بجذورها في هذا التاريخ البعيد والقريب الذي يتحرك من تحت أقدامنا دون توقف. ووالمفارقة هنا أنه في كل مرة تظهر دولة شيعية قوية في المنطقة يكون نصيب شيعة البحرين من ذلك مزيداً من البلاء والضرّ والتضييق والشتات، حدث هذا حين قامت الدولة الصفوية ودخلت البحرين ضمن مناطق نفوذها في القرن السابع عشر، وحدث هذا عندما قامت الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979م. فما أشبه الليلة بالبارحة!
وكأن من مصلحة شيعة البحرين ألا توجد دولة شيعية قوية في هذا الإقليم.