الصفحات

الاثنين، 9 مايو 2011

مرحلة انتقالية حتمية!

ميشيل كيلو

مراحل الانتقال هي أصعب المراحل على الإطلاق، ليس فقط لأنه يكون هناك دوما تيار في السلطة يريد الحفاظ على أكبر قدر ممكن من الأمر القائم، متجاهلا أنه تقادم وصار من الصعب بقاؤه، وتيار مقابل يريد الخلاص من «النظام القديم»، والوصول بسرعة إلى هدفه: النظام البديل، الجديد، واضعا في أحيان كثيرة اعتباراته ومشاعره الذاتية فوق مستلزمات الواقع الموضوعي وخصائص الحالة المشخصة التي يواجهها. وتتزايد مصاعب الانتقال ويتعاظم الصراع بقدر ما يمسك التيار الأول بقوى وأجهزة مسلحة تستطيع الحفاظ بالقوة العارية والعنف المنهجي على أمر قائم وجوده، مصلحة شخصية أيضا، بالنسبة إلى قادته، و«يكون» في الشارع جماهير وقوى مؤيدة للتيار الثاني، أو مستعدة، وإن بصورة عفوية، للذهاب في الاتجاه الذي يدعو إليه. ويشتد الصراع بدرجة كبيرة إذا كان ساد اقتناع عام لدى سادة الأمر القائم بأن من الصعب الحفاظ على جميع مفرداته القائمة ومن يمثلونها، وأن تغييره مسألة لا مهرب منها، تتطلب التخلي عن أجزاء تكوينية منه، يتوقف إنقاذ النظام على التخلص منها، فإما أن يتم تغييرها بأيدي الممسكين بزمامه، ليكون الانتقال بطيئا ومحدودا ويحقق هدفه: إنقاذ جوهر النظام وحلقاته القائدة، ويتم قطع الطريق على خصومه الراغبين في استبداله بنظام مغاير بنيويا له، يعني قيامه خسارة كل شيء. في هذا الصراع المتفاقم والمتعاظم الاحتدام، من المحال أن تبادر النخب الحاكمة إلى تبني موقف كموقف قيادات بلدان وسط وشرق أوروبا الاشتراكية، التي فهمت معنى الاحتجاج الشعبي والمجتمعي ضد نظامها، فقررت التخلي سلميا وطوعيا عن السلطة، بعد أن رأت بأم عينها استحالة الحفاظ عليها، ليس لأنه لم يكن لديها أنصار ومؤيدون، أو لعجزها عن فبركة مؤامرات تلصقها بالشعب، بل لإدراكها أن زمن السلطة التي تديرها مضى وانقضى، وأنها لن تلد غير الأزمات والمتاعب، وأن الحفاظ عليها محال دون مجازر ومذابح. هكذا، اندفعت بحرص فريد في نوعه على سلامة شعبها ووطنها إلى التخلي عن نظامها من فوق، بعد أن أيقنت أنه بلا سند من تحت، مكذبه بذلك أطروحة لماركس تقول: ما من طبقة تتخلى عن السلطة بمحض إرادتها.
وتزداد صعوبات الانتقال بقدر ما يكون النظام متقادما، لكن قادته لا يعون ذلك أو يرفضون القبول بنتائجه العملية، ويتوهمون أن بوسعهم التحايل سياسيا على الواقع، إن هم فوتوا بالعنف فرص تغييره بواسطة معارضيه ورافضيه، حتى إن كانوا أكثرية شعبية. في هذه الحالة، تنبع المشكلات من مفارقة تتسم بالتناقض، لها حدود ثلاثة: حد أول هو قوة التيار العنيف، الراغب في المحافظة على الأمر القائم، وضعف قوى التغيير داخل النظام نفسه، وحد ثان هو استحالة بقاء النظام على وضعه القائم، بسبب فواته وتلاشي شرعيته المتعاظم، وحد ثالث هو إيكال أمره إلى القوة والعنف، الذي يتصاعد بقدر ما يرغب كل طرف في التخلص من الآخر والقضاء عليه، علما بأن أحدهما منظم ومسلح، وثانيهما قليل التنظيم وغير مؤسسي، له مصلحة في تقييد العنف لأنه تقييده شرط نجاح مسعاه، الذي يتخلق في سياق ولادة قيصرية مؤلمة ومكلفة، تتجسد في انبثاق الجديد من القديم، خلال معركة موضوعها الرسمي تغيير محدود للنظام يتم في منطقة هوامشه البرانية، يبقي على هياكل وأبنية يمكّن استمرارها من احتواء التغيير أو تقويضه، أما الشعبي فتعبئة طاقات متزايدة القوة في شروط متزايدة الصعوبة، تقوي فرص مؤيدي العنف المضاد لعنف السلطة، مع ما يعنيه ذلك من تراجع في الزخم الشعبي السلمي، وتقليص لفرص التسوية بتقليص عدد أنصارها وتراجع دورهم لدى الجانبين. عند هذه النقطة، تستقل التطورات عن موازين القوى وتتجه نحو خيار صفري مهلك، يصعب أن يخرج أحد منتصرا منه، حتى إن نجح في القضاء على الآخر، ما دام انتصار التيار الأول لا ينفي الحاجة إلى التغيير، لاعتبارات قد لا تكون داخلية بالضرورة، تنبثق من الحاضنة الدولية التي تم بالأمس إنتاج النظام العربي القائم بمعونتها وفي إطارها، ويتم اليوم بموافقتها ودعمها إنتاج نظام عربي جديد لن يكون فيه مكان لنظام مغلق، مركزي واستبدادي، يحافظ أو يسعى إلى المحافظة على قوامه الحالي، الذي سيتعارض مع إعادة إنتاج النظام العالمي، وسينتج قدرا من التوتر والأزمات لا قبل له بإدارته، سيطبع وجوده بطابعه، وسيفضي إلى إضعافه وتجدد الممانعة الداخلية ضده، فضلا عن عزله وتفاقم تناقضه مع بيئته الإقليمية والقومية والدولية. السؤال الآن: إذا كان التغيير حتميا نتيجة استحالة الإبقاء على الأمر القائم على حاله الراهن، فلماذا لا يكون الهدف المباشر لجميع الأطراف، ويتم منذ البداية ودون عنف، بالتوافق السلمي الذي يراعي مصالح الجميع؟
لن يعفي الانتصار طرفا من أخذ واقع ومصالح الطرف الآخر بعين الاعتبار. لنفترض أن التيار الأول حقق نصرا كاسحا، وقضى بصورة كاملة على أي صوت شعبي أو معارض يطالب بالتغيير. هل سيمكنه الانتصار من الإبقاء على النظام الحالي؟ لن أعود هنا إلى العوامل الدولية، التي ستتحول إلى عنصر داخلي خطير، خاصة إن تم تطبيق العقوبات ضد النظام ورموزه، التي يتحدثون عنها في الغرب وكثير من دول الإقليم، وستلعب دورا متزايد الأهمية في أي صراع يبلغ درجة من الاحتجاز تتطلب تدخلا دوليا، كما يظهر من تجربة ليبيا، ربما أفضي إلى جعل التعريب / التدويل مخرج الأزمة الوحيد، كما في اليمن وربما لاحقا عندنا : في سوريا، حيث يمكن أن يقع التدخل، الذي لن يكون بالضرورة عسكريا في مراحله الأولى، رغم أي انتصار عسكري مهما كان كاسحا يحرزه النظام، ليضعه في مواجهة واقع يصعب التغلب عليه أو الخروج منه، إن واكبه حصار عربي، يقوم على تقويضه وتقليص قدراته الاقتصادية ودوره السياسي إلى درجة التهميش. سيقوم النظام بخطوات من شأنها امتصاص ما هو مطلوب من تغيير، في خطوات يراد لها أن تبدو وكأنها تنشد الحلول الوسط مع الآخر، علها تمكن الأمر القائم من إعادة إنتاج نفسه في صورة مختلفة، تشعر الطرف الآخر - أو توهمه - بأن مطالبه تتحقق وفق اعتبارات عليا يمليها «منطق الدولة» ! هذا يعني، عمليا، أن الحل الأمني لن يحقق المطلوب: الإبقاء على النظام في أكثر الأوضاع قربا من واقعه الراهن. وأنه سيكون هناك حاجة إلى استكماله بحل سياسي، سيكون التفافيا ووهميا إن تم بمفردات النظام وحده، واستعان بجهات من خارجه، محايدة أو مماثلة له في المصلحة والبنية، يعتقد أن دمجها فيه وتعاونها معه سيعيدان توسيع قاعدته المجتمعية العامة، التي ستضيق كثيرا في سياق تطبيق الحل الأمني وبسببه. في احتمال آخر، قد يمد النظام خيوطا إلى أطراف معارضة، إن هو خرج من عقلية «من ليس معنا فهو ضدنا»، ولا بد من أن يعاقب بالسجن أو بالإقصاء التام من الحياة العامة. في هاتين الحالتين، لن يخرج النظام من أزمته، التي ستستمر داخليا وستتفاقم في الحاضنة القومية والإقليمية والدولية، وستأخذ أشكالا أشد حدة وعمقا وإنهاكا من أزماته السابقة والحالية جميعها. بقول آخر: لن ينجح النظام في استعادة توازنه ووظيفيته بغير تحقيق ما هو جوهري من مطالب الشعب، وأهمها قاطبة مطلب الحرية والعدالة والمساواة، التي سيتيح له تحقيقها، إن تم بجدية وفي أجواء مصالحة وطنية عامة، انتقالا تدريجيا إلى حال انتقالي مغاير في مكوناته لواقعه الراهن، عندئذ سيطرح نفسه بقوة أكبر السؤال: ماذا أفاد الحل الأمني، ولماذا تم اعتماده أصلا، إذا كان سيؤدي إلى هذه النتائج، التي ستعني فشله؟
أصل الآن إلى الطرف الآخر: إنه لن يتمكن بدوره، ومهما فعل، من القضاء على النظام دفعة واحدة، حتى إن اسقط حكمه، فالنظام ليس فقط أشخاصا بعينهم، وإن بدا الأمر كذلك بالفعل، وهو ليس حكومة فقط، بل هو أيضا قاع مجتمعي وشعبي، وله حوامل لا يجوز أن يفكر عاقل أو محب لسوريا في التخلص منها أو تقييد دورها وإقصائها عن المشاركة الكاملة في الحياة العامة. صحيح أن قطاعا منها يقاتل الآن مع النظام، رغم أن مصلحته في الحرية والتغيير لا تقل حيوية عن مصالح غيره من مكونات الجماعة الوطنية السورية، لكن شعبا ينشد الحرية لن يحجبها عن الذين عارضوها أو قاتلوا ضدها، وسيكون مكرها، لهذا السبب، على إيجاد مراحل وتوسطات الانتقال إلى إقامتها ودفعها نحو أفقها الديموقراطي، آخذا بعين الاعتبار واقع هؤلاء ومصالحهم ورغباتهم. ثمة هنا نتيجة مهمة هي التالية: سواء انتصر تيار السلطة المحافظ، أو التيار المجتمعي المناهض للنظام، سيجد الطرفان نفسيهما مجبرين على الانخراط في مرحلة انتقالية قد تقاس بالأعوام، لكنها ستكون إجبارية ولا مهرب منها، رغم تباين مكوناتها، الذي يمكن أن يبلغ حد التناقض.
لن يكبح العنف حتمية التغيير، ولن ينجح في تقييد السعي إليه، بسبب التطورات التي طرأت على المجتمع والدولة والشعب خلال حقبة نصف القرن المنصرم، وفشل النظم الاستبدادية المزري وما سببته لشعوبها من هزائم خارجية وبلايا داخلية، وتخلق طبقة وسطى جديدة ترفض الخروج من السياسة والشأن العام، وتراهما في ضوء جديد وواقع محلي ودولي مختلف، ورفض كتل الشعب الكبرى لما تعرضت له من ظلم وعانته من إذلال وتهميش واستعباد، ونتيجة أيضا لضغط العوامل الخارجية: العربية والإقليمية والدولية. لن يمنع العنف الشعب من التمسك بالحرية، خاصة أن تطور العرب ذاهب إليها. بالمقابل، لن ينتهي النظام بضربة واحدة، وإن سقط. وسيكون هناك مرحلة تختلف عن المرحلة القائمة في الحالة الأولى، والمتخيلة في الثانية. لذلك أتساءل للمرة المليون: لماذا نجري وراء ما يبدو بجلاء أنه مستحيل، ونفعل بأنفسنا ما يقوض أسس وجودنا الوطني، ما دام النظام القائم لن يبقى مرجعيتنا لفترة طويلة، وما دامت حاجتنا إلى إعادة إنتاج وحدتنا المجتمعية والوطنية ستفرض علينا المرور في مرحلة انتقال قد لا تكون قصيرة، تغاير قواعدها تلك التي قامت حياتنا السياسية عليها خلال قرابة نصف القرن الماضي؟
يمر العالم العربي، ومنه سوريا، في طور انتقالي صعب ومعقد... وحتمي. من لا يدرك هذا ويستجب لمقتضياته ومتطلباته، ويفد منه لتجديد المشروع السياسي العربي، فسيدفع ثمنا لا يخطر له على بال، مهما حقق من انتصارات على شعبه، أو ظن أن النجاح في معركته ضده سيكون حاسما ونهائيا!