الصفحات

السبت، 20 أغسطس 2011

مجتمع أهلي/ مدني!

ميشيل كيلو
الأصل في المجتمع المدني أنه مجتمع يعطي الأولوية في منظوراته ونظمه ومصالحه للفرد
باعتباره مواطنا حرا في الدولة، يرى الجماعات من خلاله وبدلالته باعتبارها جماعات تتكون من مواطنين أحرارا ينظم القانون علاقاتها معهم، سواء انضووا في هيئات وأحزاب ومؤسسات أم لم يفعلوا. والأصل في المجتمع الأهلي أنه مجتمع يعطي الأولوية للجماعة ويرى الفرد من خلالها، باعتباره منتميا ثانويا أو تابعا إليها، ينضوي فيها ويلتزم بقيمها ومصالحها، فلا تعريف له إلا بواسطتها، ولا دور له إلا بدلالتها أو من خلالها، مع أن هذا المجتمع غالبا ما يكون تقليديا ومغلقا، بصورة كلية أو جزئية . وفي حين يحمل المجتمع المدني القيم التي تتصل بحرية المواطن كفرد ويقوم عليها، ومنها قبل كل شيء المواطنة والفردية والحرية الشخصية والعامة والاستنارة والانفتاح والحزبية المرتبطة بالفردية كنزعة والمصالح العامة المعرفة من خلال مصالح المواطنين الأفراد ... الخ، يرتبط المجتمع الأهلي بقيم تبدو معاكسة لها : من أولوية الجماعات، التي تعتبر الدولة أعلى أشكالها وتنظيماتها، إلى تغليب قيم التضامن والوحدة والتماسك والتقليد والهوية والخصوصية، وترجيح الطابع العضوي لأبنية وأدوار المؤسسات السياسية، بما في ذلك مؤسسة الدولة، التي لا تكون مهمتها الرئيسة عندئذ تنمية الحرية، كما هو حالها في المجتمع المدني، بل تنمية كل ما هو جمعي مثل ذلك الضرب من "النزعة الوطنية "، الذي يربط الوطن بالسلطة أو ببعض الجماعات الاجتماعية، ويعلي ما يسميه "المصلحة العامة"، بما هي مصلحة سلطوية أساسيا، على مصالح المواطنين الفردية. والدولة هنا كيان يحتوي المجتمع، وهي تعبيره السياسي الذي يخرجه من المجال العام، بينما هي في المجتمع المدني هذا المجتمع نفسه، الذي له حاملا مشتركا معها هو المواطن الحر، الذي يجب أن يتيحا له التجسد الحر والتعاقدي داخلهما. ومع أن المجتمع المدني يعتبر مرحلة في التطور تالية للمجتمع الأهلي، السابق في وجود الدول لسيادة المواطنة والحرية الفردية، فإن هذان كثيرا ما يوجدان معا، خاصة في البلدان التي تنتقل من حالة التقليد إلى حالة الحداثة، ومن الجماعية كإطار للهوية السياسية إلى الفردية التي تعبر عن المواطنة. ولعله من المفارق أن تكون نظم الاستبداد، التي تؤله الدولة كسلطة، هي التي دفعت بالمجتمع الأهلي إلى حركتين متعاكستين هما : التقوقع على الذات اتقاء لخطر اختراقه والتلاعب بأقداره بواسطة أجهزتها، التي تمارس سياسات تفتيتية / تحكمية حياله من جهة، والبقاء خارج منظومتها، كي لا تنجح في كسر آليات حمايته الذاتية التقليدية وتجلبه إلى حيث يصير خادما لها من جهة أخرى، يعيد إنتاج نفسه انطلاقا من رؤاها ومصالحها وبدلالتها، فيفقد خصوصيته وتماسكه، ويتفكك أو يتعطل ويضيع ضوابط وحدته وأدوات تسييره. في الحالة الثانية، يتبنى المجتمع الأهلي قيم المجتمع التقليدي، وفي مقدمها قيمة الحرية بما هي أداة فاعلة لمقاومة السلطة، ووسيلة عملية وحيدة للمحافظة على الذات. وإذن، فإن الاستبداد هو الذي يخير المجتمع الأهلي بين أن يصير مجتمع سلطة بلا هوية وتماسك، وبين تبني أفكار وقيم تنتمي إلى المرحلة التالية من تطوره، هي أفكار وقيم المجتمع المدني، التي تمكنه من الدفاع عن نفسه في الحاضر، وحمل بذور مستقبله في أحشائه وتسريع تحوله وانتقاله الروحي إليه، مع أن هذه العملية المعقدة والمؤلمة كثيرا ما تعرضه لمخاطر التصدع، وتحمل مخاطر على كيانه ذاته وعلى المنتمين إليه. ولعل تبني أفكار وقيم المجتمع المدني كان من المفاجآت السارة التي أعدها لنا المجتمع الأهلي وهو يبدأ تمرده التاريخي، ويستخدمها في صراعه من أجل حرية تتخطى تكويناته الجزئية إلى المجتمع بكامله، الذي يحدث وعيه قبل أن تتحدث بناه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويتبنى مواقف تقيّد طابعه كمجتمع أهلي، تقليدي، ركودي الطابع عموما، وتفقده هويته كمجتمع أهلي أو تقليدي صرف، وتدخله في حالة انتقالية تحركها وتعمقها قيمة الحرية كرابط جديد ومتزايد الأهمية والفاعلية بين أفراده، الذي يرون أنفسهم أكثر فأكثر بدلالتها، ويعملون بالتالي على ترقيته ونقله إلى حال مدنية أو شبه مدنية، يفسر توطنها فيه مطالبة قوى كثيرة تنتمي إليه بدولة مكافئة لها: نسميها اليوم الدولة المدنية / الديموقراطية، التي كثيرا ما أثار استغرابنا - واستهجان بعضنا - أن بنات وأبناء لقرى والبلدان الصغيرة والمتوسطة والمدن الموزعة على أحياء تتعايش فيها جماعات متنوعة هم الذين يطالبون بتحقيقها ويموتون تحت رايتها، ويعلنون أنها الإطار الذي سينظم مستقبلا علاقتهم بالمجال العام، وبمصالحهم وأدوارهم، في إطار المواطنة: المفهوم الجديد الذي يتبنونه ويجعلونه هدفهم ومطلبهم، ويناضلون تحت لوائه. لئن كان المجتمع الأهلي قد حافظ على شيء من تقليديته على صعيد أبنيته وعلاقاته الضيقة، فإنه تحول إلى مجتمع مدني على صعيد خطابه السياسي، الذي انطبع بطابع حديث، ما بعد سلطوي/ ما بعد استبدادي، هو حقل الشأن العام البديل، الذي يفسر وجوده في الوعي الحاجة إلى إقامته في الواقع، من خلال تعاظم الحراك المدني، الذي لطالما كان ضعيفا إلى الأمس القريب في بلداننا، وشرع يلعب دورا حاسما في إعادة إنتاج الواقع انطلاقا من فكرته المستقبلية البديلة، لذلك نراه يحد اليوم ونعتقد أنه سيحد أكثر فأكثر في الزمن الآتي من تأثير أيديولوجيات المجتمع الأهلي التقليدية والغيبية السائدة عليه، ويجعلنا نستبشر بإمكانية انتقاله حقا إلى مجتمع مدني ديموقراطي متطور وحديث، حامله مواطن يريد استعادة حريته ليعيد بمعونتها بناء حلمه: المجتمع البديل ودولته. هذه واحدة من أهم النتائج المباشرة للاستبداد، فهل ستزول بزواله؟ هل يتخلى المجتمع الأهلي عن إيمانه بالحرية، بعد زوال الاستبداد، أو في حال استمر ضمن أشكال معدلة؟ أعتقد أن هناك عوامل متعددة يتوقف عليها جواب هذا السؤال، منها : ما إذا كان إيمانه بالحرية موجها ضد النظام القائم وحده، وليس إيمانا بالحرية كمبدأ يصلح لكل زمان ومكان، ويصعب أو يستحيل التخلي عنه. وما إذا كان سينجح في تحرير نفسه من خلاله، وسيواصل تحويل وعيه إلى واقع مادي، ومكوناته إلى جماعات أفراد/ مواطنين يرى ذاته ومصالحه بدلالتهم وليس العكس، على غرار ما هو حادث اليوم. وما إذا كان نمط التضامن الوطني/ السياسي الجديد، الأفقي والواسع جدا، الذي ينشأ الآن في المجتمع الأهلي بفضل وحدة كفاحه ومطالبه ووعيه للحرية، سيترجم نفسه بنجاح حقيقي من قبل النخب السياسية، القديمة والجديدة، إلى نظام سياسي حديث وضارب، يقنع مواطن المجتمع الأهلي أن المدنية لا تنفي بالضرورة علاقاته وارتباطاته المحلية وحتى الفئوية وخصوصياته وحتى هويته، وإن أعادت تعريفها وشحنتها بمضامين إضافية وجديدة، وأن تمسكه بها وتطويرها مصلحة حقيقية له وللشعب عموما، فلا بد إذن من إعادة بناء حياته بما يتفق معها وينميها ويحميها، لتكون أساس وجوده السياسي والمجتمعي البديل، الذي يلبي حاجته إلى التقدم والقانون والكرامة والمشاركة في تقرير مصيره الشخصي. ثمة اليوم جديد على صعيد الوعي والواقع، السياسة والمجتمع، تجسده فدائية وسلمية ومدنية مواطن المجتمع لأهلي أساسا في وجه سلطات محدثة أمنيا ومسلحة حتى الأنياب وعدوانية، مثلما يجسده التبني العام لقيم وأفكار المجتمع المدني، مع أنه لم يكن إلى الأمس القريب يعلق كبير أهمية على الحرية كقيمة حياتية، وكان يرى حريته في التضامن مع مجتمعه الخاص، الذي فقد قدرته على حمايته من الاستبداد، ووجد نفسه مكرها على القيام بنقلة في وعيه وواقعه، أعادته إلى السياسة كطرف مقابل للسلطة، بعد أن كان الاستبداد قد زوده بكم من لغضب يكفي لخوض أصعب المعارك وأكثرها تطلبا للتضحية، معركة حريته الشخصية كمعركة تمثل جوهر الشأن العام، يخوضها اليوم ويضحي بحياته فيها، رغم عدم وجود قوى سياسية تمسك بيده وتقوده، يدفعه إليها إيمانه بأنها قضيته الشخصية، التي قد لا يملك الكثير مما يستطيع يقوله عنها، لكنه يملكها هي ذاتها في ذاته، بما هي حاجة يتوقف عليه مجمل مصيره. ينتقل المجتمع الأهلي العربي إلى واقع مغاير، بينما ينتقل معه المجتمع العربي الكبير من حال إلى أخرى، وينتقل مواطنه إلى وضع يكون فيه عقله في المجتمع المدني وقدماه في مجتمعه الأهلي، يكتسب بفضله سمات جديدة تؤهله لأن يصير الحامل الحقيقي للحرية، وكان يظن ويقال بالأمس فقط إنه بعيد عنها بعد الأرض عن السماء. هذه مرحلة انتقال أقل ما يقال فيها إن النظام القائم اليوم، الذي صار يستحق لقب النظام القديم، لن ينجح في تخطيها او التغلب عليها، ما دام تحول وعي المجتمع الأهلي إلى وعي مدني يلعب دورا خطيرا في تجفيف منابع قبوله الشعبي، ويحوله إلى عبء يجب التخلص منه، بفضل هذه الظاهرة الجديدة، عندنا وعند غيرنا، التي تجعل المجتمع الأهلي يقاتل في سبيل حرية المواطن الفرد، ودولة المجتمع المدني الديموقراطية، بكل تصميم.