الصفحات

الاثنين، 22 أغسطس 2011

الانتفاضة السورية وعزم الاستمرار...

أكرم البني
هو سؤال يثار باستغراب هذه الآونة، عن سر استمرار الانتفاضة الشعبية في سورية أمام هذا القمع العنيف والمعمم، ومن أين تستمد قوتها وعزمها بعد العدد الكبير من الضحايا والجرحى والمعتقلين واللاجئين، وفي ظل مشهد تبدو فيه كأنها تُترك وحيدة لتواجه مصيرها، في إشارة الى ضعف الموقفين العربي والدولي، فالأول لا يزال متردداً، لم يرق الى مصاف شدة هذه الأزمة وعمقها، والثاني يعاني من تشتت وحسابات سياسية تعوق خطوة التقدم لإعلان موقف أممي يدين أخلاقياً هذا التوغل في العنف والتنكيل.
اليوم، يلمس المرء إصراراً قوياً وغير مسبوق عند الناس على التغيير، نابعاً بلا شك من قهر وإذلال مديدين ومن معاناة شديدة من التمييز والتهميش، أوضح وأكثف صورة لها، أن يبيح أهل الحكم لأنفسهم كل شيء على حساب أبسط حقوق الناس ومصالحهم! فأي إصرار يكون حين تصل الأمور إلى حدود غير مقبولة، وتتجاوز كل طاقة على الاحتمال، ليغدو العيش محالاً وترجح كفة تفضيل الموت على الخضوع للوضع القائم؟ وأي حافز للنهوض والانتفاض حين تمدّه الثورات العربية المتواترة، إلى جانب قوة الدفع الأولى، بروح الدأب والمثابرة.
وما يزيد في دينامية النهوض والحراك الشعبي ويرفع روح الإيثار ودرجة الاستعداد لمواجهة العنف المفرط، شيوع إحساس لدى المحتجين، بأن ما يحصل هو لحظة للتغيير يصعب تكرارها ولنقل فرصة تاريخية نادرة للخلاص من منطق القوة والتمييز والغلبة، والأهم حضور إدراك عام بأن أي عودة الى الوراء أو توقف هو الطامة الكبرى ويمكن الدولة الأمنية من تثبيت تحكمها بمصائر البلاد والعباد ويضع الأجيال القادمة في شروط أسوأ بكثير مما هو قائم الآن. وهنا لعبت الأخطاء التي يرتكبها النظام في إدارة الأزمة واستهتاره بمعاداة الناس وأيضاً حجم الاحتجاجات الشعبية وطبيعتها، التي امتدت لتشمل عشرات المدن والبلدات السورية، دوراً كبيراً في منح الانتفاضة كثيراً من الأمل والثقة بقدرتها على تحقيق أهدافها، في مقابل ارتباك وتراجع مستمرين في قدرة الأدوات القمعية على سحقها أو محاصرتها وقمعها.
إن الحملات العسكرية والأمنية على اتساعها وشدتها لم تستطع أن تثني الناس عن الخروج الى الشارع والتعبير عن شعاراتها ومطالبها، ولم تنفع في تغطيتها مناورات النظام السياسية ودعواته الى الحوار والإصلاح، أو محاولات استمالة البشر بزيادة الأجور وتوفير بعض الحاجات الضرورية، أو تخويفهم بالفوضى وبتنظيمات إسلامية متطرفة وبخطر خارجي داهم! وبعبارة أخرى، فإن عجز الخيار الأمني والعسكري بأسلحته الجبارة عن حسم الأمور ولنقل فشله وبعد خمسة شهور في كسر شوكة الحراك الشعبي وإطفاء جذوته، عزز من ثقة الناس بأنفسهم وبخياراتهم وبجدوى ما يقومون به، وكأن قضيتهم أصبحت قضية عصية على القمع، بدليل أن المناطق المنكوبة هي المناطق الأكثر تحدياً وأول من تبادر ما إن ينحسر الحضور الأمني الكثيف للتظاهر والاحتجاج، وما يزيد الثقة والإصرار وعزم الاستمرار، نجاح الانتفاضة في إفشال محاولات تشويهها أخلاقياً بالطعن بسلميتها والتشكيك بأغراضها السياسية، أو عزلها وإثارة الفتن والتفرقة بين صفوفها وفئاتها، ما يشجع على الاستنتاج بأن لغة الحديد والنار، لم يعد لها مكان في الخصوصية السورية، بل صارت تحفز همم الحراك الشعبي أكثر، وتترك أصحابها عرضة للمزيد من ردود الأفعال العربية والدولية ولتأثيرات سلبية بعيدة المدى في علاقتهم مع المجتمع ومدى تماسكهم.
ثمة حافز آخر في الخصوصية السورية مكّن المحتجين وشد من أزرهم، هو تنوع التكوينات القيادية الميدانية التي أفرزتها الانتفاضة وانتشارها في كل مكان وتفاعلها مع بعضها بطرق غير مباشرة، ما جعلها عصية على الاعتقال، عرفت باسم «التنسيقيات» كشكل تنظيمي مرن نجح نسبياً في تحويل التظاهرات إلى ما يشبه الفعل اليومي، وهو شرط ضروري لاستمرارها وتغذيتها بالحماسة، وأيضاً في تسخير وسائل التواصل الاجتماعي لخلق لغة مشتركة للتفاعل وللتوافق على المهام وتوحيد إيقاع النشاطات!
ويبدو للعيان أن هذه «التنسيقيات» قد اغتنت مع الوقت واكتسبت خبرة أكبر في التعامل مع الحدث وقدرة لافتة على التنظيم وتحمل مسؤوليات متعددة كالرصد والإعلام والتوثيق ووضع الخطط الملموسة، والأهم الإحساس الذي أشاعته بين المحتجين والمتظاهرين، بأنهم ليسوا مغيبين أو أرقاماً نكرة، وأن تضحياتهم لا تذهب هدراً بل توظف لفائدة تقدم الحراك العام وتطويره، وبأن انتفاضتهم صارت الشغل الشاغل للعالم وما تسطره من شجاعة وإيثار ومن إبداعات نضالية هو موضع تقدير وإعجاب كبيرين، وأن شعوب كثيرة تترقب على أحر من الجمر النتائج ومقدار ما تتركه انتفاضتهم من أثر إيجابي في مستقبل المشرق العربي خصوصاً والعرب عموماً.
وضوح مطالب الحرية والكرامة والتمسك بالقيمة الأخلاقية السلمية واتساع بنيتها التكوينية وتنوع قياداتها الميدانية هي حوافز صريحة لهذا الاستمرار المبين للانتفاضة السورية، وإذا أضفنا ما تعممه الثقافة الإسلامية من حب للشهادة وأيضاً روح الوفاء للدماء الذكية ولمعاناة الجرحى والمعتقلين، وما يترتب على ذلك من حرج أخلاقي في التراجع ونكث الوعود، ومن مسؤولية كبيرة في الحفاظ على ظواهر الاحتجاج والاستبسال من أجل استمرارها، ثم الحماسة المنقطعة النظير لمن يفاخرون في المناطق التي عرفت لبعض الوقت إدارة أهلية لشؤونها، بأنهم تذوقوا طعم الحرية وصار الموت سهلاً دونها... يمكن أن نقف عند أهم الأسباب التي لا تزال تحفز همم الشباب المنتفض وتساعد تالياً على كسر تردد آخرين وضم فئات جديدة الى الصفوف. وبالفعل ثمة أعداد كبيرة أخذت ترفد الحراك الشعبي، يصعب تفسير دوافعها مع تصاعد شدة القهر والتنكيل، هل لأن حاجز الخوف انكسر، أم لانحيازها الأخلاقي مع المتظاهر الأعزل واشمئزازها من عنف أعمى لا يعرف حدوداً أو ضوابط، أم لإيمانها أخيراً بأن ما يحصل اليوم هو المعطى الأصيل للخروج من الأزمة السورية المزمنة.
ليس الغرض من عرض نقاط قوة الانتفاضة السورية وحوافز استمرارها تقديم أمل كاذب أو شحنة تفاؤل، بل لتأكيد أن الاحتجاجات الشعبية قد تجاوزت مرحلة الانتكاس ووصلت نقطة لا عودة منها، وأن خطر إجهاضها أو كسر شوكتها صار وراءها، وأيضاً لتأكيد أن الشعب السوري خرج أخيراً من خانة الاستثناء في حسابات الانتفاضات والثورات، وأثبت للعالم أجمع أنه شعب مثلما كابد وصمد طيلة عقود في مواجهة شروط لا ترحم، فهو يزخر بطاقة لا تنضب وباستعداد استثنائي للتضحية، وأن خلاصه الذي كان يظن أنه مجرد وهم أو حلم جميل وربما مغامرة خطرة، هو أمر آخذ في التجسد على أرض الواقع.