تحية إلى شعبي تونس ومصر وثورتيهما
بقلم: كريم مروة
إنه حدث العصر هذا الذي بدأ في تونس وحقق إنجازاً تاريخياً غير مسبوق في المنطقة. إنه الحدث الذي استقر في مصر، أم الدنيا. ثم كبر الحدث، وكبرت معه أحلام شباب مصر ، وكبر معه وعيهم، وكبرت إرادتهم، وأصبحوا مؤهلين بكفاءة، استناداً إلى قدراتهم الذاتية، لإنجاز ذلك التغيير الذي انتظروه طويلاً، التغيير الديمقراطي في معانيه ومضامينه المعاصرة. وهو التغييرالذي خذلتهم، وخذلت أخوانهم في البلدان العربية الأخرى، لأسباب موضوعية وذاتية، حركات نادت بالتغيير بأسمائه وبمرجعياته المختلفة وبالمشاريع وبالإتجاهات وبالأيديولوجيات المتصلة بها. وهي مشاريع تعددت صيغها وتنوعت وسائل وأدوات التعبير عنها لدى كل من هذه الحركات. إذ كانت قد بدأت تلك الحركات تتراجع وتضعف وتفقد دورها الذي كان مجيداً في زمن سابق الواحدة منها تلو الأخرى، حتى قبل حدوث الإنهيار الكبير للتجربة الإشتراكية. ثم صارت تتحول جميعها، أو معظمها، بنسب متفاوتة بعد ذلك الإنهيار المدوي، إلى قوى ضعيفة الوزن والتأثير. واحتلت مكانها الأصلي، بفعل ضعفها وتراجعها قوى من نوع آخر، قوى ديماغوجية وسلفية من أنواع شتى مختلفة ومتناقضة غير ذات صلة بالتغيير بمضمونه الديمقراطي. ومعظم تلك القوى يحمل مشاريع تصب في الإتجاه النقيض لهذا التغيير.
لهذا الحدث التاريخي، في تونس وفي مصر- والبقية ستأتي عاجلاً أم آجلاًً لتشمل كل أنظمة الإستبداد في المنطقة - أبطال كانوا مجهولين ثم صاروا ملء السمع والبصر. إنهم أبطال من طبيعة مختلفة عما ساد من بطولات في تاريخ عالمنا العربي، أبطال تعددت نماذجهم، وتعددت سمات حركاتهم، وتعددت المصادر والمواقع الإجتماعية التي جاءوا منها إلى ذلك الحدث التاريخي الكبير. إنهم مجموعات من كتل كبيرة غير منتمية من الشباب والمثقفين والعمال، ومن الهامشيين أيضاً، الذين أتعبهم الصبر على طول المعاناة من الظلم والإستبداد والفساد، وأرهقهم الصبر الطويل على الجوع إلى الخبز والحرية. تلاقوا متحدين، من دون أن يعرفوا بالضرورة بعضهم بعضاً إلا بالكلمة والصورة والصوت من بعيد. تلاقوا في ثورة عفوية، في تونس أولاً استجابة لصرخة الشهيد بو عزيزي، ثم صاروا، بعد تحقيق معجزتهم غير المسبوقة بإطاحة نظام استبداد دام واحداً وثلاثين عاماً، نموذجاً لسواهم في عالم عربي مقهورة شعوبه حتى التخمة بأنظمة استبداد أدخلتها في الجوع وفي الهزائم وفي الخراب. وهي أنظمة جمهورية استبدادية، وراثية كذلك، لم يتوقف قادتها وزبانيتهم على امتداد عقود عن نهب شعوبهم وتخريب بلدانهم وإخراجها من التاريخ، ووضعها بالفساد وبالخراب على هامش هذا العصر الغريب، الذاهب إلى مستقبل مختلف غامض المعالم.
لقد حصلت المعجزة، وانفتح التاريخ في عالمنا العربي على حقبة جديدة مضيئة. شق شباب تونس ومثقفوه وعماله الطريق إلى مستقبل مختلف. وبات على شباب مصر ومثقفيها وعمالها أن يتابعوا المسيرة. وها هم يخوضون المعركة بشجاعة وكفاءة نادرتين. لكن السر في المعجزة التي نشهدها في مصر بعد تونس إنما تكمن في عفوية الحركة التي جمعت هذا العدد الهائل من الشباب والمثقفين والعمال في وحدة غير مسبوقة من العلاقة بين أناس متنوعي النماذج والأنماط والمواقع الإجتماعية. وهذه العفوية في حركة هذه الكتل الجماهيرية الشابة في معظمها، هي عفوية مختلفة اختلافاً جذرياً، كما تشير إلى ذلك الوقائع، عن العفويات التي سادت في حركات ثورية سابقة في تاريخ العالم، وانتهت، بسبب عفويتها الساذجة الفوضوية تلك، إلى الهزيمة والفشل. عفوية الحركة الجديدة، في تونس، ثم في مصر على وجه الخصوص، ثم في إرهاصاتها في بلدان عربية أخرى، هي أنها عفوية يرتقي فيها الوعي إلى درجة عالية من المسؤولية في طبيعة التحرك السلمي، وفي نوع الشعارات التي تحدد بدقة الهدف المبتغى من التحرك. وهذا الإرتقاء في الوعي هو الذي استطاع أن يحبط كل المحاولات التي لجأ إليها أركان النظامين وزبائنهما، في تونس وفي مصر، لإفساد الحركة ولتشويه طبيعتها، ثم لدفعها، بسبب هذه التشويهات، إلى الفشل في تحقيق أهدافها. غير أن هذا الإرتقاء ذاته، في وعي الشباب والمثقفين والعمال غير المنتمين، أبطال هذه الحركة، هو الذي جعلهم يستوعبون في حركتهم، من دون تزمت أو تطرف أو محاولة إقصاء، كل الذين انضموا إلى الحركة من جهات ومصالح وأهداف سياسية مختلفة، قديمة وجديدة، إما للإلتحاق بها تحت شعاراتها في هذا الإتجاه أو ذاك، وإما بهدف الإستيلاء عليها في هذا الإتجاه أو ذاك، وإما لدفع التحرك في اتجاه المغامرة التي تقوده إلى نقيض أهدافه.
وفي الواقع فإن من أهم الدلالات التي تشير إليها هذه السمات التي تميزت بها هذه الحركة، هو أن الشباب على وجه الخصوص، إذ استطاعوا أن يلتقوا بكثافة في المواقع الإلكترونية ويناقشوا همومهم ويحددوا أهدافهم، فقد استطاعوا فيما يشبه السحر القفز فوق الحواجز التي وضعتها أمامهم تدابير القمع بكل أشكالها لمنعهم من الإلتقاء الجسدي المباشر. وها هم ينتقلون من المواقع الإلكترونية إلى ساحات مصر التي تتسع لملايينهم الغاضبة الثائرة.
بهذه السمات كلها، بأنواعها المختلفة، وفي قمة الشعور بالحاجة إلى الثورة من أجل التغيير خرجت تلك الكتل البشرية في شجاعة وتصميم نادرين لتحقيق ذلك التغيير الذي طال انتظاره. وإذا كان من الطبيعي أن تخرج هذه الكتل البشرية في حركتها الثورية الجديدة غير المسبوقة في نوعها وطبيعتها وقواها لتحقيق أهدافها، بعد طول صبر وانتظار، فقد كان من غير الطبيعي أن يطول ذلك الإنتظار لتحقيق هذا الخروج في اتجاه هذا التغيير.
لقد سقط نظام زين العابدين بن علي. وهو نظام جاءت به، في غفلة من الزمان وبالتواطؤ وبالقسر، قوى من داخل تونس ومن خارجها. سقط ولن يعود. ومن المؤكد أن نظام حسني مبارك سيسقط هو الآخر، تلبية قسرية لإرادة هذا الحشد المليونيّ الهائل من جماهير مصر المصممة على تحرير نفسها وتحرير بلدها من هذا النظام الذي استولى بالعسف على مقدرات مصر، وعلى موقعها وعلى دورها التاريخي. هذا ما تقوله الجماهير التي تحتل ساحات المدن المصرية وتنادي بالهتاف المدوي بسقوط النظام وبسقوط رموزه. لم يعد حسني مبارك قادراً على المناورة طويلاً، حتى ولو تأخر في الإستجابة لإرادة الشعب المصري الثائر. ولعله بالتباطؤ والتحايل يريد من شعب مصر أن يسامحه ويسمح له شخصياً بالبقاء في مصر ليمضي فيها ما تبقى له من أعوام ويموت فيها كما قال، بدلاً من أن يخرج ذليلاً مثل من سبقوه إلى ذلك، بن علي وشاه إيران.
ومن المؤكد أن للتغيير في مصر شروطاً تختلف عنه في تونس. فمصر هي دولة كبرى لا يمكن لأي تغيير فيها إلا أن يأخذ في الإعتبار كونها دولة كبرى في كل المعاني.
ستعود مصر حتماً إلى موقعها. ستعود إلى الدور الذي اضطلعت به على امتداد تاريخها الطويل. فغياب مصر خلال هذه العقود الأربعة عن دورها التاريخي لم يضعفها وحدها وحسب كدولة كبرى، بل هو أضعف كل العالم العربي، وجعله دولاً متفرقة، خارج التأثير، تابعة، ملحقة، غير ذات وزن وتأثير في ما يجري من أحداث في المنطقة وخارجها، عاجزة عن الصمود في مواجهة المشاريع التي تحضر لها من المنطقة ومن خارجها ضد مصالحها وضد مصالح شعوبها.
إن ما حصل في تونس، وما هو حاصل في مصر، هو أول الطريق إلى مستقبل مختلف للبلدين العربيين ولسائر بلداننا العربية. ذلك أن التغيير هو الحتمية التاريخية التي لا جدال فيها. غير أن حتمية التغيير لا تعني إختراق وتجاوز الشروط الموضوعية التي لا بد لأية حركة في اتجاه التغيير أن تأخذها في الإعتبار. فإذا كان التغيير هو الحقيقة المطلقة، فإن طبيعة هذا التغيير ووجهاته وصيغه وأهدافه هي دائماً نسبية. إذ هي تخضع جميعها بالضرورة لشروط الزمان والمكان، ولشروط الوعي البشري بهما.
إن من حق شباب تونس ومثقفيها وعمالها علينا أن نحيّي فيهم شجاعتهم وبطولتهم ووعيهم، ونحيي إنجازهم التاريخي. ومن حقنا عليهم أن يحافظوا على انتصارهم، وأن يستمروا في هذا الإرتقاء الرائع في وعيهم بمسؤوليتهم. ذلك أن إسقاط نظام الإستبداد لا يكفي وحده لتحقيق الإنتقال إلى مستقبل مختلف. إنه أول الطريق إلى الحرية، أول الطريق إلى التغيير. أما بقية الطريق فستكون هي الأكثر صعوبة.
إن شباب مصر ومثقفيها وعمالها هم الأمل المرتجى في هذه المرحلة الدقيقة من كفاحهم السلمي البطولي الرائع، وهم يعبرون الجسر إلى ذلك الطريق المؤدي إلى مستقبلهم ومستقبل مصر ومستقبل العالم العربي من الخليج إلى المحيط. ومن حقهم علينا أن نكون معهم حتى يحققوا الوصول بسلام وأمان إلى إنجازهم التاريخي بإسقاط نظام الإستبداد والقهر والتسلط والفساد. وهم قادرون على تحقيق ذلك بالحزم وبالعقل وبحكمة الثوار المسؤولين عن أوطانهم وشعوبهم وعن مصالحها.
قلوبنا وأفكارنا ومشاعرنا وآمالنا معك يا شعب مصر، ومعكم يا شباب ومثقفي وعمال مصر.
الصفحات
▼
الأحد، 6 فبراير 2011
في موت السياسة وغياب القانون
د. برهان غليون
ما الذي يفسر ما تعرفه المجتمعات العربية من استهتار بالحياة القانونية على مستوى الدولة والمجتمع معا، وارتدادها نحو العصبية والتضامنات البدائية والاستسلام لغريزة الاقتتال والعنف؟
هذا السؤال السابق فاجأني به أحد مسؤولي منظمات حقوق الإنسان الدولية. في زيارته الأخيرة لباريس. وبالفعل لا يمكن للمراقب المحايد أن ينكر أن أكثر ما يسم وضع المجتمعات العربية الراهنة هو غياب احترام القانون وضعف الحوافز الأخلاقية، إلى درجة يبدو فيها وكأن القوة وحدها هي التي تقوم فيها بترتيب العلاقات وأشكال الانتظام الفكرية والسياسية والاجتماعية، التي تمتد من العائلة إلى الدولة. ولا يكاد سلوك أو جهد يقوم على أصول أو قواعد مرعية واضحة، وكل ما نقوم به، من التربية الفردية إلى الحرب، يجري تقريبا خارج أي مثال أو أطر واضحة فقهية وعلمية وسياسية، كما لو أن التقاليد التي درجت النظم عليها، بما تمثله من خبرة مختزنة وثابتة مستمدة من التجربة الانسانية الطويلة، قد ضاعت تماما، ولم يعد هناك أي مرجعية واضحة يستند إليها الفرد أو الجماعة أو الدولة في أفعالهم أو ترتيب شؤونهم وحقول ممارستهم. لا يمكن لمثل هذا الوضع إلا أن يثير تساؤلات عديدة، خاصة عندما يتذكر المرء ما حفلت به الحضارة العربية من تراث فقهي وتعلق بالتقاليد واحترام شديد للشرعية والأصول المرعية.
الاستعمار والقانون كغطاء لانعدام المشروعية
هناك في نظري أربع تجارب - أو بالأحرى محن - قد تفسر هذا الانهيار في معنى القانون في المجتمعات العربية.
الخبرة الأولى هي المحنة الاستعمارية. فبالرغم من تحديثها للدولة وإدارتها ومؤسساتها القانونية والقضائية، إلا أنها قوضت معنى القانون باستخدامها لتطبيقه في حقل العلاقات المدنية كغطاء لممارسة عامة غير شرعية وغير قانونية، وبقدر ما أدخلت من مفاهيم ومعايير وقيم مرتبطة بالحرية والعدالة والمساواة لتبرير تدخلها في الشؤون العربية، شكل حكمها نفسه نفيا عمليا يوميا للعنصر الرئيسي الذي تصدر عنه هذه القيم والمعايير القانونية، وهو الإرادة الوطنية والسيادة السياسية. وبينما تذرعت بتعليم شعوبنا القانون، لم يقم وجودها إلا على أساس القوة والقهر والإكراه. فالسلطة الاستعمارية هي التي أعطت المثال الأول والأهم على اغتصاب إرادة المجتمعات والجماعات والأفراد وحكمهم خارج القانون وضد إرادتهم أو بالرغم منهم. هل هناك مثال لتلاعب الاحتلال والاستعمار بمفهوم القانون والشرعية أفضل من مثال احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق عام 2003؟ فكيف يمكن، بعد تجربة معسكرات عوانتانامو، وممارسة أقسى أنواع الإذلال والإهانة النفسية والجسدية التي فضحتها الصحافة الدولية، وهي ليست إلا التتويج الأخير للممارسة والسياسة الاستعماريتين في البلاد الضعيفة، والعربية منها بشكل خاص، بعث الثقة بالقانون أو الايمان بشرعة دولية أو بقيم تضامن إنسانية ما فوق قومية؟
الصهيونية وتدعيم الإيمان بجدوى خرق القانون
التجربة الثانية التي ساهمت في تدمير تقاليد الشرعية والأصول القانونية، وعلمت الناس الايمان بتفوق مبدأ القوة على الحق، ونجاعة خرق القانون وسهولته، جاء على يد الاستيطان اليهودي في فلسطين. فقد اتبع هذا الاستيطان التقليد الاستعماري ذاته، لكن مع تحويله إلى كاريكاتير لدرجة أصبحت الهوة لا تعبر بين الخطاب القانوني والإنساني المعلن والممارسة العملية، القائمة على التوسع من دون حدود في استخدام القوة، والرهان الوحيد عليها لضمان وجود الطعم الاستيطاني اليهودي في فلسطين واستمراره. باستخدامها خرق القانون والاعتداء على الحريات الفردية وانتزاع الملكية والاحتيال على القوانين الدولية والابتزاز بصورة الضحية لتحقيق مصالح استعمارية آنية وبعيدة المدى معا، وبإهدارها حقوق الناس ومصالحهم، شكل قيام الدولة اليهودية الاستيطانية ضربة قاصمة لمفهوم الحق والقانون والعدالة والانسانية، وأحدث شرخا عميقا في الصمير الانساني والوعي القانوني عند أي عربي عاش التجربة الاستيطانية أو قرأ عنها. فهل يمكن لحرب التطهير العرقي التي حصلت في فلسطين الحديثة أن تبقي أي احترام لقيم انسانية مشتركة أو تترك معنى لفكرة حكم القانون وأسبقيته على القوة، مهما كان محدودا. وكيف لا يلتف الناس حول ميليشياتهم الذاتية ولا تراهنون على القوة وينتجونها خارج القانون وضده، عندما يتعرضون خلال عقود طويلة للقصف العشوائي والقاتل دون أن يحميهم أي قانون أو ترد عنهم الأذى أي دولة أو منظمة دولية؟
التسلط وتغليب القوة على الحق
أما التجربة الثالثة التي تعلم منها العرب فراغ القانون من أي معنى ومضمون فهو حكم النظم العربية التسلطية الذي يقوم منذ عقود على غير قانون، أي على الشهوة كما يقول فقهاء السياسة القدماء، وإرادة التسلط والاستبداد بالرأي والعسف اليومي. فليس هناك مثال لحكم القوة والحكم بالقوة ضد القانون، واغتصاب إرادة الشعب، واعتقاداته العميقة، أفصح من نموذج النظم السياسية العربية. فهي إلا ما ندر تنفي الحقوق الطبيعية، وتتصرف بوصفها وصية أبدية على شعوبها، وتجعل من الأفراد أدوات مسيرة من قبل السلطة، لا فائدة لها في استخدام العقل ولا في التفكير في مستقبل المجتمع. فالقانون الوحيد السائد هنا هو خرق القانون، والتجريد العملي والرسمي من الحقوق المدنية والسياسية، والإذعان لإرادة السلطة وأحكامها. القانون هو إرادة الفرد الإله الحاكم، وما يصدر عنه من قول أو عمل أو سلوك، فهو أب الأمة ومربيها ومعلمها وملهمها وسيدها المطلق. وهو صانع القانون ومصدر التشريعات ومبدع السنن والتقاليد، لا شيء قبله ولا شيء بعده. وجميع الأفراد يعيشون من فضله وكرمه وتحت رعايته الشاملة.
الأصولية الدينية إضعاف القة في القانون
أما التجربة الرابعة التي قضت على ما يمكن أن يكون قد تبقى من معنى الحق والقانون بكل المعاني الممكنة، فهو الأصولية الدينية التي تلغي الدولة من الذهن وتتصرف وتربي الأفراد على العيش في نموذج من العلاقات الاجتماعية ماقبل دولوي، يضع الجماعة وتقاليدها وهويتها وعصبيتها قبل المؤسسات القانونية وخارجها. وهذا هو في الواقع المعنى الوحيد لقانون الشريعة الدينية الذي يسعى الاصوليون إلى نشر فكرته وتطبيقه إذا أمكن بدل القانون السياسي في إطار الدولة. مما يعني الانتقال من مناهضة الدولة القانونية كمفهوم وكفكرة ناظمة للحقيقة الاجتماعية، إلى إلغاء الدولة من الوجود وإحلال منطق العصبية والجماعة الدينية محلها.
محصلة تغييب القانون
في غياب القانون، وانعدام الايمان به، والشك بجدواه، أو غياب أي رغبة للحديث فيه، لا يبقى حاكما في المجتمعات إلا القوة. وبالقوة وحدها يمكن لمن يسيطر على مقاليد الأمر من النخب السائدة أن يحتفظ بسيطرته، داخل الجماعة وداخل الدولة الجماعة معا. وبالعنف المرتبط بالقوة يستطيع أن يحل خلافاته مع من يخالفه في الرأي أو الموقع أو السلطة. فقانون القوة هو العنف والقهر والإكراه. وليس للعرب اليوم حياة جمعية سوى حياة العنف والإكراه. ولذلك ليس بمقدروهم أيضا أن يتصوروا حياة مدنية قائمة على تبادل الاحترام والثقة والمصالح والمعاني والرموز، أو على التفاهم والتواصل عبر قوانين وأصول إجرائية منظمة وثابتة. وهذا هو أحد أركان الهمجية التي تعرفها مجتمعاتنا، وتتجلى عبر الحروب الأهلية والاقتتال الداخلي واستسهال سفك الدماء والقتل والسجن والاعتقال، والسكوت على انتهاك الحقوق والمحرمات، وعبادة القوة والتسليم للأقوى. فلا حياة مدنية هناك، ولا حضارة. فالمدنية تعني قبل أي شيء آخر تطور الحياة الأخلاقية والقانونية التي تؤسس لتنظيم العلاقات بين الأفراد على مباديء أخلاقية ثابتة ومعروفة، وتسمح بحل النزاعات والخلافات في النظر والمصالح معا بوسائل سلمية، أي عن طريق الحوار والتفاهم والتسويات القائمة على تنازلات، أو بالأحرى مساهمات، مقبولة من جميع الأطراف.
ما الذي يفسر ما تعرفه المجتمعات العربية من استهتار بالحياة القانونية على مستوى الدولة والمجتمع معا، وارتدادها نحو العصبية والتضامنات البدائية والاستسلام لغريزة الاقتتال والعنف؟
هذا السؤال السابق فاجأني به أحد مسؤولي منظمات حقوق الإنسان الدولية. في زيارته الأخيرة لباريس. وبالفعل لا يمكن للمراقب المحايد أن ينكر أن أكثر ما يسم وضع المجتمعات العربية الراهنة هو غياب احترام القانون وضعف الحوافز الأخلاقية، إلى درجة يبدو فيها وكأن القوة وحدها هي التي تقوم فيها بترتيب العلاقات وأشكال الانتظام الفكرية والسياسية والاجتماعية، التي تمتد من العائلة إلى الدولة. ولا يكاد سلوك أو جهد يقوم على أصول أو قواعد مرعية واضحة، وكل ما نقوم به، من التربية الفردية إلى الحرب، يجري تقريبا خارج أي مثال أو أطر واضحة فقهية وعلمية وسياسية، كما لو أن التقاليد التي درجت النظم عليها، بما تمثله من خبرة مختزنة وثابتة مستمدة من التجربة الانسانية الطويلة، قد ضاعت تماما، ولم يعد هناك أي مرجعية واضحة يستند إليها الفرد أو الجماعة أو الدولة في أفعالهم أو ترتيب شؤونهم وحقول ممارستهم. لا يمكن لمثل هذا الوضع إلا أن يثير تساؤلات عديدة، خاصة عندما يتذكر المرء ما حفلت به الحضارة العربية من تراث فقهي وتعلق بالتقاليد واحترام شديد للشرعية والأصول المرعية.
الاستعمار والقانون كغطاء لانعدام المشروعية
هناك في نظري أربع تجارب - أو بالأحرى محن - قد تفسر هذا الانهيار في معنى القانون في المجتمعات العربية.
الخبرة الأولى هي المحنة الاستعمارية. فبالرغم من تحديثها للدولة وإدارتها ومؤسساتها القانونية والقضائية، إلا أنها قوضت معنى القانون باستخدامها لتطبيقه في حقل العلاقات المدنية كغطاء لممارسة عامة غير شرعية وغير قانونية، وبقدر ما أدخلت من مفاهيم ومعايير وقيم مرتبطة بالحرية والعدالة والمساواة لتبرير تدخلها في الشؤون العربية، شكل حكمها نفسه نفيا عمليا يوميا للعنصر الرئيسي الذي تصدر عنه هذه القيم والمعايير القانونية، وهو الإرادة الوطنية والسيادة السياسية. وبينما تذرعت بتعليم شعوبنا القانون، لم يقم وجودها إلا على أساس القوة والقهر والإكراه. فالسلطة الاستعمارية هي التي أعطت المثال الأول والأهم على اغتصاب إرادة المجتمعات والجماعات والأفراد وحكمهم خارج القانون وضد إرادتهم أو بالرغم منهم. هل هناك مثال لتلاعب الاحتلال والاستعمار بمفهوم القانون والشرعية أفضل من مثال احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق عام 2003؟ فكيف يمكن، بعد تجربة معسكرات عوانتانامو، وممارسة أقسى أنواع الإذلال والإهانة النفسية والجسدية التي فضحتها الصحافة الدولية، وهي ليست إلا التتويج الأخير للممارسة والسياسة الاستعماريتين في البلاد الضعيفة، والعربية منها بشكل خاص، بعث الثقة بالقانون أو الايمان بشرعة دولية أو بقيم تضامن إنسانية ما فوق قومية؟
الصهيونية وتدعيم الإيمان بجدوى خرق القانون
التجربة الثانية التي ساهمت في تدمير تقاليد الشرعية والأصول القانونية، وعلمت الناس الايمان بتفوق مبدأ القوة على الحق، ونجاعة خرق القانون وسهولته، جاء على يد الاستيطان اليهودي في فلسطين. فقد اتبع هذا الاستيطان التقليد الاستعماري ذاته، لكن مع تحويله إلى كاريكاتير لدرجة أصبحت الهوة لا تعبر بين الخطاب القانوني والإنساني المعلن والممارسة العملية، القائمة على التوسع من دون حدود في استخدام القوة، والرهان الوحيد عليها لضمان وجود الطعم الاستيطاني اليهودي في فلسطين واستمراره. باستخدامها خرق القانون والاعتداء على الحريات الفردية وانتزاع الملكية والاحتيال على القوانين الدولية والابتزاز بصورة الضحية لتحقيق مصالح استعمارية آنية وبعيدة المدى معا، وبإهدارها حقوق الناس ومصالحهم، شكل قيام الدولة اليهودية الاستيطانية ضربة قاصمة لمفهوم الحق والقانون والعدالة والانسانية، وأحدث شرخا عميقا في الصمير الانساني والوعي القانوني عند أي عربي عاش التجربة الاستيطانية أو قرأ عنها. فهل يمكن لحرب التطهير العرقي التي حصلت في فلسطين الحديثة أن تبقي أي احترام لقيم انسانية مشتركة أو تترك معنى لفكرة حكم القانون وأسبقيته على القوة، مهما كان محدودا. وكيف لا يلتف الناس حول ميليشياتهم الذاتية ولا تراهنون على القوة وينتجونها خارج القانون وضده، عندما يتعرضون خلال عقود طويلة للقصف العشوائي والقاتل دون أن يحميهم أي قانون أو ترد عنهم الأذى أي دولة أو منظمة دولية؟
التسلط وتغليب القوة على الحق
أما التجربة الثالثة التي تعلم منها العرب فراغ القانون من أي معنى ومضمون فهو حكم النظم العربية التسلطية الذي يقوم منذ عقود على غير قانون، أي على الشهوة كما يقول فقهاء السياسة القدماء، وإرادة التسلط والاستبداد بالرأي والعسف اليومي. فليس هناك مثال لحكم القوة والحكم بالقوة ضد القانون، واغتصاب إرادة الشعب، واعتقاداته العميقة، أفصح من نموذج النظم السياسية العربية. فهي إلا ما ندر تنفي الحقوق الطبيعية، وتتصرف بوصفها وصية أبدية على شعوبها، وتجعل من الأفراد أدوات مسيرة من قبل السلطة، لا فائدة لها في استخدام العقل ولا في التفكير في مستقبل المجتمع. فالقانون الوحيد السائد هنا هو خرق القانون، والتجريد العملي والرسمي من الحقوق المدنية والسياسية، والإذعان لإرادة السلطة وأحكامها. القانون هو إرادة الفرد الإله الحاكم، وما يصدر عنه من قول أو عمل أو سلوك، فهو أب الأمة ومربيها ومعلمها وملهمها وسيدها المطلق. وهو صانع القانون ومصدر التشريعات ومبدع السنن والتقاليد، لا شيء قبله ولا شيء بعده. وجميع الأفراد يعيشون من فضله وكرمه وتحت رعايته الشاملة.
الأصولية الدينية إضعاف القة في القانون
أما التجربة الرابعة التي قضت على ما يمكن أن يكون قد تبقى من معنى الحق والقانون بكل المعاني الممكنة، فهو الأصولية الدينية التي تلغي الدولة من الذهن وتتصرف وتربي الأفراد على العيش في نموذج من العلاقات الاجتماعية ماقبل دولوي، يضع الجماعة وتقاليدها وهويتها وعصبيتها قبل المؤسسات القانونية وخارجها. وهذا هو في الواقع المعنى الوحيد لقانون الشريعة الدينية الذي يسعى الاصوليون إلى نشر فكرته وتطبيقه إذا أمكن بدل القانون السياسي في إطار الدولة. مما يعني الانتقال من مناهضة الدولة القانونية كمفهوم وكفكرة ناظمة للحقيقة الاجتماعية، إلى إلغاء الدولة من الوجود وإحلال منطق العصبية والجماعة الدينية محلها.
محصلة تغييب القانون
في غياب القانون، وانعدام الايمان به، والشك بجدواه، أو غياب أي رغبة للحديث فيه، لا يبقى حاكما في المجتمعات إلا القوة. وبالقوة وحدها يمكن لمن يسيطر على مقاليد الأمر من النخب السائدة أن يحتفظ بسيطرته، داخل الجماعة وداخل الدولة الجماعة معا. وبالعنف المرتبط بالقوة يستطيع أن يحل خلافاته مع من يخالفه في الرأي أو الموقع أو السلطة. فقانون القوة هو العنف والقهر والإكراه. وليس للعرب اليوم حياة جمعية سوى حياة العنف والإكراه. ولذلك ليس بمقدروهم أيضا أن يتصوروا حياة مدنية قائمة على تبادل الاحترام والثقة والمصالح والمعاني والرموز، أو على التفاهم والتواصل عبر قوانين وأصول إجرائية منظمة وثابتة. وهذا هو أحد أركان الهمجية التي تعرفها مجتمعاتنا، وتتجلى عبر الحروب الأهلية والاقتتال الداخلي واستسهال سفك الدماء والقتل والسجن والاعتقال، والسكوت على انتهاك الحقوق والمحرمات، وعبادة القوة والتسليم للأقوى. فلا حياة مدنية هناك، ولا حضارة. فالمدنية تعني قبل أي شيء آخر تطور الحياة الأخلاقية والقانونية التي تؤسس لتنظيم العلاقات بين الأفراد على مباديء أخلاقية ثابتة ومعروفة، وتسمح بحل النزاعات والخلافات في النظر والمصالح معا بوسائل سلمية، أي عن طريق الحوار والتفاهم والتسويات القائمة على تنازلات، أو بالأحرى مساهمات، مقبولة من جميع الأطراف.
رفض الفجـور
د. غسان سلامة
-1-
تلك اللحظة في يوم من أيام كانون الأول. لحظة حاول عديدون إعادة إنتاجها هنا وهناك، في مصر أو الجزائر أو غيرها من البلدان، بدون ان يفلحوا، فاحترقت اجسادهم هباء. تلك اللحظة التي دامت رفّة جفن، بين ردع شرطي والإتيان ببعض المحروقات ورشها وإشعال النار فيها، فيها جمال الفعل الأقصى بل إنها الجمال عينه.
وهي الجمال، لأنها ما قبل السياسة وما فوقها. عجز الكلام عن التعبير عن الغضب المتراكم فجاء عود الثقاب يسعف اللسان الفاشل. هذا شاب قبل أن يعيش في مدينة من بر تونس، بينما تنعم مدن الشاطىء بعوائد السياحة وحلاوة السواح، وقبل أن يضع شهادته الجامعية في الدرج بعدما اكتشف انها ليست المفتاح السحري الذي اعتقد وهو يراجع دروسه على ضوء قنديل خافت للفوز بفرصة عمل لائقة، وهو ارتضى الاكتفاء ببيع الخضراوات على عربة بعد أن تلاشت آماله الأخرى جميعاً. لكن تنازلاته، وهو بها أعلم، بقيت له، بل وجاء شرطي يجادله حتى في ممارسة ما يعتبره نوعاً من الذل المعيشي الذي ارتضاه بعدما تلاشت الاحلام الاخرى. فيا للشعور بالظلم المطلق، بالظلم العاري: أنا أقبل بقليل القليل كي اعتاش ولكني، حتى من القليل القليل أُحرم. يعجز اللسان ويشتعل عود الكبريت.
-2-
علّمنا محمد البوعزيزي الكثير، ومنه أن السياسة التي نتعاطى ليست كل شيء، لا الأفكار ولا الأيديولوجيات، ولا الصراعات على السلطة، ولا مشاريع التحرير والتحرر. ذكّرنا، وجسده شعلة نار، أننا قبل كل هذا، وفوق كل هذا، نعيش في عصر الفجور، ونصمت عنه متحججين باهتمامنا البائس بالسياسة، أو بولعنا الخائب بالأفكار الكبيرة. الفجور. نعم الفجور. منذ نحو عقود ثلاثة تهاوت كلّ الحدود أمام الإثراء الفاحش والإنفاق التظاهري وعبادة المال، سيّما إن كان حراماً. لن يبرىء أحد الجيل السابق من رجال الشأن العام من حب الفلوس ومن دفع الرُّشى ولا من قبضها. ولكن فورة النفط بعد 1972، وتكدّس المليارات، ونهم الاقتناء الدائم والإنفاق غير المحدود، والغرام غير المسبوق بالسيارات الفارهة والشقق العديدة الموزعة على غير عاصمة، وبالطائرات الخاصة وباليخوت السياحية، أدخل في المجتمعات العربية مستويات غير معهودة من الفجور يتندّر بها على حسابنا العالم بأسره. وتساوت النظم المعدمة بالدول النفطية في ممارسة هذا الفجور، وجوهره هوّة سحيقة تزداد عمقاً كل يوم بين من تطال يده المال الحلال والحرام، ومن يبقى معدماً وهامشياً.
دعك يا صاحبي من التمييزات الخائبة بين دول النفط ودول القحط، أو بين الملكيات والجمهوريات، أو بين دول الاعتدال ودول الممانعة، فكلّها اعتبارات في الحقيقة شكلية. دعك من ذلك، وانظر يا صاحبي الى تلك الآلاف المعدودة (إن لم تكن المئات) من الافراد التي استولت في كل بلد عربي أعرفه على 20 او 30 او 40 بالمئة من كامل الثروة المحلية. انظر الى دول المشرق، انظر الى مصر والسودان، ودول الخليج ودول المغرب. في كل بلد مجموعة ملتصقة بالسلطة السياسية، تشكل نواتها او تدور في فلكها او تشكل امتداداً لها، قد استولت على سبل الإثراء السريع، وما اكثرها، يوم فتح الحاكم أمامها المجال كي تشاركه بالمغانم او ان تحققها وتعود اليه بعد ذلك لتقتسمها معه.
كل منا يعرف ذلك، وبعض من التقيهم قد تخصص فعلا في متابعة الصفقات المشبوهة والرُّشى الهائلة والاثراء الفاحش. بل اني تعرفت على كثيرين يكادون لا يتحدثون الا عن هذا. ولكن اهتمامهم بدا لي دوماً ملتبساً، مشوباً بالكثير من الحسد. فهم يتحدثون عن إثراء الآخرين لأنهم بالاساس قد حُرموا من فرص الاثراء ذاتها، لا لأنهم ينتقدون مبدأ مدّ اليد للمال العام، ونهم تكديس الاموال، انهم مصابون بالنهم عينه، لكنهم عاجزون عن ممارسته، او عن مزاولته بالنسبة نفسها من المداخيل.
-3-
البوعزيزي لم يكن يعرف على الأرجح أرقام ثروة هذا او ذاك من اقرباء رئيسه ومن افراد حاشيته. ربما لو ادرك حجم ثروة بعضهم ما كان تمكّن من تخيّل الرقم، وما كان قد صدّق ما يقال له. وتونس بالمناسبة لا تحتمل ارقاماً من الثروة الفردية والعائلية، بهول الارقام التي يتم تداولها في دول عربية اخرى. إني لمدرك ان الايديولوجيا النيوليبرالية قد عمّقت الهوة بين الثري والفقير في مختلف انحاء العالم، في الولايات المتحدة، في الصين او في الهند، في روسيا. مشاهد مرعبة عن الفجور نفسه: قصور وشقراوات في الأحضان وحياة عاطلة شبه دائمة في الكاريبي وسردينيا ومراكش، بينما رجالك يزيدون من ثروتك وأنت تتمتع بالحياة المرفهة. 7 ملايين بشري من اصل 7 مليارات يملكون اليوم اكثر من ثلث الثروة الدولية واللامساواة في المداخيل على تعمّق يزداد حدّة في كل بلدان العالم، سوى استثناءات معدودة.
لكن فجورنا أبشع لأن اثرياءنا أقل إنتاجاً من زملائهم في العالم، واكثر اعتماداً على الريع، وأكثر التصاقاً بالسلطات السياسية بل إنهم أحياناً عماد تلك السلطات.ومن بعض ما علّمنا البوعزيزي في لحظة عابرة من الزمن، أن هذا الفجور لا يواجه إلا بالعودة إلى الأخلاقيات البسيطة. هذا الفجور لا يواجه لا بالسفسطائيات الماركسية، ولا بالتعويذات الدينية، إنما فقط بالرجوع الى الغضب العاري والعفوي، بالعودة الى الرفض البسيط للظلم بدون أي محاولة لتوصيفه أو تفسيره. مجرّد الرفض بإشعال عود كبريت، وإذا بالخوف الذي في باطنك يتحول فجأة الى هلع عند خصمك الحاكم المستبد المثري.
- 4 -
ما إن فر زين العابدين من قصره المتطاول على شاطىء قرطاج حتى اشتعل السؤال المضني: من ذا الحاكم الذي يليه على دروب التقاعد المبكر؟ أهذا الرئيس أو ذاك الملك أو ذلك الامير؟ شعرت عند أبناء جلدتي بعطش مستجدّ لمشهد الرؤوس المتدحرجة، أو على الأقل لمشهد المداخلات البائسة أمام الكاميرا وصاحب العمر الطويل يستجدي مواطنيه أن يتحملوه لسنوات ثلاث اضافية فقط لأنه والله! والله! لم يفكر يوما برئاسة مدى الحياة. كثيرون اعتقدوا ان الحكام الآخرين أصابهم الهلع من عدوى الفيروس التونسي سيّما وأن أقربهم لتونس انبرى يدافع عن جاره المخلوع. ورأينا شعراء البلاط هنا وهنالك يردون بالحجة البائسة نفسها: الخصوصية التونسية مرض محدد لا أثر له خارج حدود تلك الجمهورية الهانئة البسيطة، ولا خطر بالتالي من أي عدوى. فالعرب، على عكس أوروبا الشرقية منذ نحو عقدين، لا يمارسون لعبة الشطرنج، وهم بالتالي عصيون عن أن يصبحوا ضحايا موجة من الانتفاضات. يا لبؤس المنظرين الذين كتبوا المجلدات عن وحدة المجتمع العربي، وعن التواصل والتشابه والتفاعل بين البنى المجتمعية العربية والذين راحوا الان يحدثوننا ببلاغة فصيحة عن خصوصية تونس، وعن عدم فاعلية نموذجها، وانعدام عدواها كنوع من اللقاح ضد تلك العدوى التي يعرفون في أعماقهم أنها ممكنة.
لكن شتان بين الشوق لرؤية الرؤوس المتدحرجة، والوجوه الرئاسية الهلعة وبين تكرار التجربة التونسية هنا أو هناك. أعترف أني من الذين سيهنأون بانقطاع الرئاسات التي لا تنتهي، وأني لم أقبل يوماً بالتحايل العربي العام على مبدأ التداول الدوري والسلمي للسلطة. لكن مشهد الرئاسات المنقطعة على حين غرة له شروط ومواصفات.
- 5-
فما هو مغزى الحالة التونسية خارج تونس؟ الحق يقال إن من أرقى ما في الحدث التونسي هو بالذات تونسية الحدث، بمعنى الدور الهامشي (وربما المنعدم تماما) للقوى الخارجية في صناعة الحدث مهما جدت قناة "الجزيرة" في البحث عن تلك القوى، وأيضاً بمعنى أن صانعي الحدث من المنتفضين التوانسة لم يتنطحوا للعب دور يتجاوز حدود بلادهم، ولم ينظروا الى انفسهم بوصفهم قادة الثورة الفرنسية أو بلاشفة القرن الحادي والعشرين. الحدث التونسي في جوهره انتفاضة محلية في نوعية المحفزات وهوية الأطراف وآفاق التحرك الجماعي. وهذه الطبيعة المحلية ضمانة حقيقية لأبناء الانتفاضة إن عرفوا الحفاظ عليها.
لكن نجاح التوانسة (أم عدمه) في ترجمة انتفاضة جوهرها اخلاقي، وذات طابع محلي، وبدون قيادة وطنية مؤطرة إلى مشروع حكم بديل للحكم المخلوع مسألة تتجاوز تونس، شاء التوانسة أم أبوا. بمعنى ان تونس قد دخلت الامتحان الذي فرض تباعاً على غير بقعة عربية: هل إن سقوط النظام يعني بالضرورة حالة طويلة من انعدام الاستقرار بل والفوضى أم أنه بالإمكان تصور سيناريو انتقالي شبه سلبي بعد فرار المستبد الفارض للأمن بالقوة؟ إن كان الجواب التونسي ايجابياً تصبح العدوى اكثر احتمالاً. أما إن عجز التوانسة عن انتاج نظام بديل في فترة معقولة من الزمن، أو إن سمحوا للخارج ان يتدخل في شؤونهم او ذهبوا الى حد توسّل التدخل الخارجي المستمر (كما لم يخجل اللبنانيون يوماً عن القيام بذلك)، فقد يتحول حدثهم الجميل الى فزاعة يهدد بها زملاء بن علي من المستبدين العرب شعوبهم: تحملوني كما أنا وإلا فالفوضى ستضربكم.
وإن كان من المبكر الجزم بمآل الحدث التونسي فالحق يقال إن بعض عناصره، غداة فرار بن علي، تبعث على القلق عليه. كمثل المطالبة باقصاء مطلق لمنتسبي حزب الحاكم المخلوع، أو الحنين إلى بورقيبية تجاوزها الزمن، على الرغم من محاسنها، أو محاولة إسقاط تيار ديني على حدث لم يلعب فيه ذلك التيار دوراً يذكر في الوقت الذي سيحاول كثيرون في محيط تونس المغاربي او الاوروبي التدخل في شؤونها لدفع أدواتهم المحلية الى الصدارة. لذا فالسؤال الأول هو في مناعة الحدث التونسي امام دعوات التطرف والراديكالية في الداخل (وهي برأيي طفولية أو مشبوهة) وأمام محاولات التدخل من الخارج. جوهر المسألة يتعلق بطبيعة السلطة العربية الراهنة وباحتمالات تطورها. المسألة ليست كما يردد عديدون، في ظواهر التوريث وما شابه. المسألة في العمق هي في نظرة الحاكم الى السلطة، بوصفها ملكاً له، والى الدولة بوصفها متاعاً يحق له التصرف به للاثراء الذاتي او للتوريث لمن يشاء او للبيع والشراء والمقايضة. هذه ثقافة سياسية غالبة قد فرضت على مختلف الأنظمة العربية. مهما كان شكلها الدستوري المعلن، تحديداً لعلاقة الحاكم بالدولة بوصفها علاقة تملّك مطلق، كمثل تملّك فلان لأرض زراعية وتملّك آخر لمصنع. ومن فضائل تملّك دولة بدلاً من ارض او مصنع، هو ان الدولة تعطيك في الآن معاً عوائد عديدة متكاملة: السلطة على الآخرين، الثروة بوصفها عنصراً مرافقاً للسلطة، والجاه الذي يسعد قلب زوجتك واقربائك. هذه عوائد مادية ورمزية في الآن معاً لا يتيحها تملّك اي وسيلة انتاج اخرى. من هنا إلحاح من في الحكم على البقاء فيه، ومن هنا ايضاً اعتباره ان من حقه التصرف به كمثل توريثه لاحد اولاده. فاشراك العائلة الراهن في فوائد الحكم وعائداته، كما توريث الحكم اللاحق لاحد الاولاد كلاهما صورة عن الاساس، وهو ان الحكم عبارة عن تملّك بالمعنى الحرفي للكلمة.
-6-
ما العمل والحال كذلك؟ الحدث التونسي ضرب تلك المعادلة في الاساس إذ ان احتراق جسد في بلدة بعيدة فجّر ما في القلوب من عواطف ضامرة ضد تحديد تملّكي للسلطة من قبل من لا يستحق، في وطن لا يتحمّل هذا النزوع، حتى قال احدهم لي بالهاتف: لو طلّق بن علي زوجته في الوقت المناسب لربما نجا بنفسه، ومعناها ان التحول الى ممارسة التملّك الاسري للدول في جوهره مرفوض. هذا هو العنصر الذي إن تم إيضاحه في تونس وغيرها من البلدان من شأنه أن يجعل من ذلك البلد المغربي مختبراً مفيداً لإعادة النظر في طبيعة السلطات القائمة، وبالتالي في إرغام الحكام على الخروج من مواقعهم أو على الاقل على الخروج من مفهوم تملّك الدولة من خلال الحكم غير المرتبط بزمن أو من خلال توزيع الثروة على السلالة الافتراضية أو من خلال محاولة فرض التوريث. وإن لم نفلح في بلورة هذا الانحراف المفهومي السائد في مفهوم الحكم فلن نفلح في فرض العودة لتحديد سليم له.
ثم يأتيك طبعاً دور المجتمع الاهلي من خلال أحداث كتلك التي تمرّ بتونس. هناك مجتمع أهلي في تونس، كما في غيرها ودوره أساسي، خنوعه كنز للسلطة القائمة، وتحرّكه سبب هلعها الاول. لكن الاساسي هو في مدى استجابته للتضحية، وفي مدى نبذه للظلم. أنا لا أشك في وجود مخزون شعبي حقيقي معادٍ للظلم والفجور. ولكن هذا المخزون بحاجة الى عود ثقاب فعال كي لا يقدم على هبّات شعبية عقيمة. لكن أفضل أنواع المجتمع الاهلي هو ذلك الذي لم يصب بانقسامات عمودية مديدة، طائفية ومذهبية وجهوية أو لغوية. من حسن حظ تونس ذلك الضعف في الولاءات المحلية، كما انعدام الاختلافات العرقية والمذهبية، بحيث عندما يحصل حراك اجتماعي ما يصعب إطلاق صفة فئوية عليه، ويمكن لصداه أن يطال عموم المجتمع. لكن هذه الشروط غير متوافرة في الاردن أو في اليمن أو في العراق، لذلك فالحراك الاجتماعي موسوم فيها بالفئوية منذ انطلاقته. هنا يتميز النموذج التونسي، لا بمحليته فقط، وإنما ايضاً بانعدام فئويته التي على المجتمعات العربية الاخرى أن تتمكن من تجاوزها أو من معالجتها قبل أن تتحدى السلطات القائمة. من هنا أهمية الكف عن التغني الطوباوي بعظمة المجتمعات الاهلية، وفتح الأذهان على تنوعها واختلافها من مكان الى آخر، قبل الجزم بتحولها الى شارع، تلك العبارة البذيئة بحق الناس التي ما زال المتفوهون التلفزيونيون يلجأون اليها عن غباء أو عن تكبّر.
-7-
ومن الشروط الجديرة بالبحث ايضاً مسلك المؤسسات القائمة عند قيام الانتفاضة. من الواضح أن الجيش التونسي لم يهب هبّة رجل واحد للدفاع عن بن علي (القادم اساساً من الأمن)، بل ربما أنه لعب دوراً أكبر في دفعه نحو المنفى. هذا أمر في غاية الاهمية، خصوصاً إذا ساندها دور فعال للادارات المدنية، بمعنى أن يستمر القيّمون عليها بخدمة المواطنين في شتى المجالات من تعليم وصحة وطرق وما شابه، لكي لا يزيدوا من قلقهم، ولكي يثبتوا لهم استقلال أجهزة الدول عن الحاكم المستبد، وبالتالي إمكانية استمرارها حتى حين تبدأ الكرسي الرئاسية بالاهتزاز. إن من أهم شروط نجاح المجتمع الاهلي هو القدرة على الفصل بين الدولة والنظام، بالحفاظ على الاولى ومقارعة الثاني. ومن أهم شروط الاستبداد، على العكس، هو تمكّن الحاكم من المزج بين النظام والدولة بحيث تتعطل الثانية إن مُسَّ الاول بأذى. هنا ايضاً تبدو تونس محظوظة بارتفاع مستوى الشعور بالمواطنة بين أهلها، وبالتالي بقدر عالٍ من الوضوح في التفريق بين النظام والدولة مما جعل مسلك الجيش ومسلك الادارات المدنية ايجابياً، بمعنى أنه كان في الحد الأدنى محايداً، وفي حدّه الأقصى متفهماً الانتفاضة، داعماً لها.
قد لا يكون الفصل مطلقاً في تونس، ولكنه افضل من حاله في غير بلد عربي. ويقيني أن نجاح انتفاضة اخرى مرتبط بمدى الفصل المسبق في اذهان الضباط والموظفين وعموم الناس بين الدول والنظام، مما لم نجد له صدى يذكر في العراق غداة سقوط النظام هناك سنة 2003، حيث استولى قادة الميليشيات على منازل رجال النظام السابق، بينما نهب الناس ممتلكات الدولة نفسها، وكأنهم يجهلون انهم اصحاب تلك الممتلكات الحقيقيون.
اما الفصل المهم الآخر فهو بين اصحاب السلطة واصحاب الثروة، او على الاقل ارباب العمل. ان التصاقاً بالحكم يؤمن اجمالا مزايا غير مستحقة لأرباب العمل الذين يعلمون كيف يُكافأ على تساهله مع مصالحهم واطماعهم. هكذا تتكون النواة المثلثة الاضلاع (سلطة/ ثروة/ جاه) من حاكم يريد حصة له ولأقربائه من ارباح المنتفعين من نظامه الى سعي مشترك نحو الجاه لدى اصحاب السلطة واصحاب الثروة وقد تقاربا الى حد الاندماج الفعلي في عدد من الاحيان. لذا فالمرض الذي يصيب السياسة العربية له جذور عميقة في طبيعة الاقتصاد الريعي، كما في مدى التصاق اصحاب المشاريع بأصحاب القرار السياسي. ومن اسباب ضعف المجتمع الاهلي خلوه اجمالا من ارباب العمل الذين كثيراً ما يفضلون الالتصاق بالحاكم، ودفع الجزية الضرورية له للإبقاء على الصلة به، عوض التأطر في بنى نقابية ومهنية تدافع عن استقلال المجال الانتاجي، عن المجال الامني والسياسي. لذا كانت الرهانات على الطبقات الوسطى ضعيفة خلال العقود الماضية، بالذات لأن تلك الطبقات الجديدة والهشة في الكثير من مفاصلها، فضلت وصفة استتباع السلطات لها على الدفاع المهني عن مصالحها الذاتية. وكان على علماء الاجتماع العرب المزيد من الاهتمام بأثرياء السلطان، ورجال اعمال الدولة المحظوظين، بدل الاهتمام بشعراء البلاط ذوي الصوت العالي والقليل الاثر.
-8-
انما نكتب والحدث التونسي مفتوح على أكثر من سيناريو، والامل بأحداث شبيهة، ان لم تكن مماثلة، في غير بلد عربي لم يخبُ بعد. ونكتب في السياسة والاقتصاد والاجتماع بينما الغضب العاري، الاخلاقي في جوهره، يتجاوز السياسة والاقتصاد والاجتماع الى نوع من تلقائية رفض الفجور. والفجور سمة الحكم الاولى في هذه الايام العربية التي استفحلت طولا. ورفض الفجور هو شرط انتقال الخوف من ضفة الناس الى ضفة الحكام، وهو مفتاح التغيير وعلة الأمل.
-1-
تلك اللحظة في يوم من أيام كانون الأول. لحظة حاول عديدون إعادة إنتاجها هنا وهناك، في مصر أو الجزائر أو غيرها من البلدان، بدون ان يفلحوا، فاحترقت اجسادهم هباء. تلك اللحظة التي دامت رفّة جفن، بين ردع شرطي والإتيان ببعض المحروقات ورشها وإشعال النار فيها، فيها جمال الفعل الأقصى بل إنها الجمال عينه.
وهي الجمال، لأنها ما قبل السياسة وما فوقها. عجز الكلام عن التعبير عن الغضب المتراكم فجاء عود الثقاب يسعف اللسان الفاشل. هذا شاب قبل أن يعيش في مدينة من بر تونس، بينما تنعم مدن الشاطىء بعوائد السياحة وحلاوة السواح، وقبل أن يضع شهادته الجامعية في الدرج بعدما اكتشف انها ليست المفتاح السحري الذي اعتقد وهو يراجع دروسه على ضوء قنديل خافت للفوز بفرصة عمل لائقة، وهو ارتضى الاكتفاء ببيع الخضراوات على عربة بعد أن تلاشت آماله الأخرى جميعاً. لكن تنازلاته، وهو بها أعلم، بقيت له، بل وجاء شرطي يجادله حتى في ممارسة ما يعتبره نوعاً من الذل المعيشي الذي ارتضاه بعدما تلاشت الاحلام الاخرى. فيا للشعور بالظلم المطلق، بالظلم العاري: أنا أقبل بقليل القليل كي اعتاش ولكني، حتى من القليل القليل أُحرم. يعجز اللسان ويشتعل عود الكبريت.
-2-
علّمنا محمد البوعزيزي الكثير، ومنه أن السياسة التي نتعاطى ليست كل شيء، لا الأفكار ولا الأيديولوجيات، ولا الصراعات على السلطة، ولا مشاريع التحرير والتحرر. ذكّرنا، وجسده شعلة نار، أننا قبل كل هذا، وفوق كل هذا، نعيش في عصر الفجور، ونصمت عنه متحججين باهتمامنا البائس بالسياسة، أو بولعنا الخائب بالأفكار الكبيرة. الفجور. نعم الفجور. منذ نحو عقود ثلاثة تهاوت كلّ الحدود أمام الإثراء الفاحش والإنفاق التظاهري وعبادة المال، سيّما إن كان حراماً. لن يبرىء أحد الجيل السابق من رجال الشأن العام من حب الفلوس ومن دفع الرُّشى ولا من قبضها. ولكن فورة النفط بعد 1972، وتكدّس المليارات، ونهم الاقتناء الدائم والإنفاق غير المحدود، والغرام غير المسبوق بالسيارات الفارهة والشقق العديدة الموزعة على غير عاصمة، وبالطائرات الخاصة وباليخوت السياحية، أدخل في المجتمعات العربية مستويات غير معهودة من الفجور يتندّر بها على حسابنا العالم بأسره. وتساوت النظم المعدمة بالدول النفطية في ممارسة هذا الفجور، وجوهره هوّة سحيقة تزداد عمقاً كل يوم بين من تطال يده المال الحلال والحرام، ومن يبقى معدماً وهامشياً.
دعك يا صاحبي من التمييزات الخائبة بين دول النفط ودول القحط، أو بين الملكيات والجمهوريات، أو بين دول الاعتدال ودول الممانعة، فكلّها اعتبارات في الحقيقة شكلية. دعك من ذلك، وانظر يا صاحبي الى تلك الآلاف المعدودة (إن لم تكن المئات) من الافراد التي استولت في كل بلد عربي أعرفه على 20 او 30 او 40 بالمئة من كامل الثروة المحلية. انظر الى دول المشرق، انظر الى مصر والسودان، ودول الخليج ودول المغرب. في كل بلد مجموعة ملتصقة بالسلطة السياسية، تشكل نواتها او تدور في فلكها او تشكل امتداداً لها، قد استولت على سبل الإثراء السريع، وما اكثرها، يوم فتح الحاكم أمامها المجال كي تشاركه بالمغانم او ان تحققها وتعود اليه بعد ذلك لتقتسمها معه.
كل منا يعرف ذلك، وبعض من التقيهم قد تخصص فعلا في متابعة الصفقات المشبوهة والرُّشى الهائلة والاثراء الفاحش. بل اني تعرفت على كثيرين يكادون لا يتحدثون الا عن هذا. ولكن اهتمامهم بدا لي دوماً ملتبساً، مشوباً بالكثير من الحسد. فهم يتحدثون عن إثراء الآخرين لأنهم بالاساس قد حُرموا من فرص الاثراء ذاتها، لا لأنهم ينتقدون مبدأ مدّ اليد للمال العام، ونهم تكديس الاموال، انهم مصابون بالنهم عينه، لكنهم عاجزون عن ممارسته، او عن مزاولته بالنسبة نفسها من المداخيل.
-3-
البوعزيزي لم يكن يعرف على الأرجح أرقام ثروة هذا او ذاك من اقرباء رئيسه ومن افراد حاشيته. ربما لو ادرك حجم ثروة بعضهم ما كان تمكّن من تخيّل الرقم، وما كان قد صدّق ما يقال له. وتونس بالمناسبة لا تحتمل ارقاماً من الثروة الفردية والعائلية، بهول الارقام التي يتم تداولها في دول عربية اخرى. إني لمدرك ان الايديولوجيا النيوليبرالية قد عمّقت الهوة بين الثري والفقير في مختلف انحاء العالم، في الولايات المتحدة، في الصين او في الهند، في روسيا. مشاهد مرعبة عن الفجور نفسه: قصور وشقراوات في الأحضان وحياة عاطلة شبه دائمة في الكاريبي وسردينيا ومراكش، بينما رجالك يزيدون من ثروتك وأنت تتمتع بالحياة المرفهة. 7 ملايين بشري من اصل 7 مليارات يملكون اليوم اكثر من ثلث الثروة الدولية واللامساواة في المداخيل على تعمّق يزداد حدّة في كل بلدان العالم، سوى استثناءات معدودة.
لكن فجورنا أبشع لأن اثرياءنا أقل إنتاجاً من زملائهم في العالم، واكثر اعتماداً على الريع، وأكثر التصاقاً بالسلطات السياسية بل إنهم أحياناً عماد تلك السلطات.ومن بعض ما علّمنا البوعزيزي في لحظة عابرة من الزمن، أن هذا الفجور لا يواجه إلا بالعودة إلى الأخلاقيات البسيطة. هذا الفجور لا يواجه لا بالسفسطائيات الماركسية، ولا بالتعويذات الدينية، إنما فقط بالرجوع الى الغضب العاري والعفوي، بالعودة الى الرفض البسيط للظلم بدون أي محاولة لتوصيفه أو تفسيره. مجرّد الرفض بإشعال عود كبريت، وإذا بالخوف الذي في باطنك يتحول فجأة الى هلع عند خصمك الحاكم المستبد المثري.
- 4 -
ما إن فر زين العابدين من قصره المتطاول على شاطىء قرطاج حتى اشتعل السؤال المضني: من ذا الحاكم الذي يليه على دروب التقاعد المبكر؟ أهذا الرئيس أو ذاك الملك أو ذلك الامير؟ شعرت عند أبناء جلدتي بعطش مستجدّ لمشهد الرؤوس المتدحرجة، أو على الأقل لمشهد المداخلات البائسة أمام الكاميرا وصاحب العمر الطويل يستجدي مواطنيه أن يتحملوه لسنوات ثلاث اضافية فقط لأنه والله! والله! لم يفكر يوما برئاسة مدى الحياة. كثيرون اعتقدوا ان الحكام الآخرين أصابهم الهلع من عدوى الفيروس التونسي سيّما وأن أقربهم لتونس انبرى يدافع عن جاره المخلوع. ورأينا شعراء البلاط هنا وهنالك يردون بالحجة البائسة نفسها: الخصوصية التونسية مرض محدد لا أثر له خارج حدود تلك الجمهورية الهانئة البسيطة، ولا خطر بالتالي من أي عدوى. فالعرب، على عكس أوروبا الشرقية منذ نحو عقدين، لا يمارسون لعبة الشطرنج، وهم بالتالي عصيون عن أن يصبحوا ضحايا موجة من الانتفاضات. يا لبؤس المنظرين الذين كتبوا المجلدات عن وحدة المجتمع العربي، وعن التواصل والتشابه والتفاعل بين البنى المجتمعية العربية والذين راحوا الان يحدثوننا ببلاغة فصيحة عن خصوصية تونس، وعن عدم فاعلية نموذجها، وانعدام عدواها كنوع من اللقاح ضد تلك العدوى التي يعرفون في أعماقهم أنها ممكنة.
لكن شتان بين الشوق لرؤية الرؤوس المتدحرجة، والوجوه الرئاسية الهلعة وبين تكرار التجربة التونسية هنا أو هناك. أعترف أني من الذين سيهنأون بانقطاع الرئاسات التي لا تنتهي، وأني لم أقبل يوماً بالتحايل العربي العام على مبدأ التداول الدوري والسلمي للسلطة. لكن مشهد الرئاسات المنقطعة على حين غرة له شروط ومواصفات.
- 5-
فما هو مغزى الحالة التونسية خارج تونس؟ الحق يقال إن من أرقى ما في الحدث التونسي هو بالذات تونسية الحدث، بمعنى الدور الهامشي (وربما المنعدم تماما) للقوى الخارجية في صناعة الحدث مهما جدت قناة "الجزيرة" في البحث عن تلك القوى، وأيضاً بمعنى أن صانعي الحدث من المنتفضين التوانسة لم يتنطحوا للعب دور يتجاوز حدود بلادهم، ولم ينظروا الى انفسهم بوصفهم قادة الثورة الفرنسية أو بلاشفة القرن الحادي والعشرين. الحدث التونسي في جوهره انتفاضة محلية في نوعية المحفزات وهوية الأطراف وآفاق التحرك الجماعي. وهذه الطبيعة المحلية ضمانة حقيقية لأبناء الانتفاضة إن عرفوا الحفاظ عليها.
لكن نجاح التوانسة (أم عدمه) في ترجمة انتفاضة جوهرها اخلاقي، وذات طابع محلي، وبدون قيادة وطنية مؤطرة إلى مشروع حكم بديل للحكم المخلوع مسألة تتجاوز تونس، شاء التوانسة أم أبوا. بمعنى ان تونس قد دخلت الامتحان الذي فرض تباعاً على غير بقعة عربية: هل إن سقوط النظام يعني بالضرورة حالة طويلة من انعدام الاستقرار بل والفوضى أم أنه بالإمكان تصور سيناريو انتقالي شبه سلبي بعد فرار المستبد الفارض للأمن بالقوة؟ إن كان الجواب التونسي ايجابياً تصبح العدوى اكثر احتمالاً. أما إن عجز التوانسة عن انتاج نظام بديل في فترة معقولة من الزمن، أو إن سمحوا للخارج ان يتدخل في شؤونهم او ذهبوا الى حد توسّل التدخل الخارجي المستمر (كما لم يخجل اللبنانيون يوماً عن القيام بذلك)، فقد يتحول حدثهم الجميل الى فزاعة يهدد بها زملاء بن علي من المستبدين العرب شعوبهم: تحملوني كما أنا وإلا فالفوضى ستضربكم.
وإن كان من المبكر الجزم بمآل الحدث التونسي فالحق يقال إن بعض عناصره، غداة فرار بن علي، تبعث على القلق عليه. كمثل المطالبة باقصاء مطلق لمنتسبي حزب الحاكم المخلوع، أو الحنين إلى بورقيبية تجاوزها الزمن، على الرغم من محاسنها، أو محاولة إسقاط تيار ديني على حدث لم يلعب فيه ذلك التيار دوراً يذكر في الوقت الذي سيحاول كثيرون في محيط تونس المغاربي او الاوروبي التدخل في شؤونها لدفع أدواتهم المحلية الى الصدارة. لذا فالسؤال الأول هو في مناعة الحدث التونسي امام دعوات التطرف والراديكالية في الداخل (وهي برأيي طفولية أو مشبوهة) وأمام محاولات التدخل من الخارج. جوهر المسألة يتعلق بطبيعة السلطة العربية الراهنة وباحتمالات تطورها. المسألة ليست كما يردد عديدون، في ظواهر التوريث وما شابه. المسألة في العمق هي في نظرة الحاكم الى السلطة، بوصفها ملكاً له، والى الدولة بوصفها متاعاً يحق له التصرف به للاثراء الذاتي او للتوريث لمن يشاء او للبيع والشراء والمقايضة. هذه ثقافة سياسية غالبة قد فرضت على مختلف الأنظمة العربية. مهما كان شكلها الدستوري المعلن، تحديداً لعلاقة الحاكم بالدولة بوصفها علاقة تملّك مطلق، كمثل تملّك فلان لأرض زراعية وتملّك آخر لمصنع. ومن فضائل تملّك دولة بدلاً من ارض او مصنع، هو ان الدولة تعطيك في الآن معاً عوائد عديدة متكاملة: السلطة على الآخرين، الثروة بوصفها عنصراً مرافقاً للسلطة، والجاه الذي يسعد قلب زوجتك واقربائك. هذه عوائد مادية ورمزية في الآن معاً لا يتيحها تملّك اي وسيلة انتاج اخرى. من هنا إلحاح من في الحكم على البقاء فيه، ومن هنا ايضاً اعتباره ان من حقه التصرف به كمثل توريثه لاحد اولاده. فاشراك العائلة الراهن في فوائد الحكم وعائداته، كما توريث الحكم اللاحق لاحد الاولاد كلاهما صورة عن الاساس، وهو ان الحكم عبارة عن تملّك بالمعنى الحرفي للكلمة.
-6-
ما العمل والحال كذلك؟ الحدث التونسي ضرب تلك المعادلة في الاساس إذ ان احتراق جسد في بلدة بعيدة فجّر ما في القلوب من عواطف ضامرة ضد تحديد تملّكي للسلطة من قبل من لا يستحق، في وطن لا يتحمّل هذا النزوع، حتى قال احدهم لي بالهاتف: لو طلّق بن علي زوجته في الوقت المناسب لربما نجا بنفسه، ومعناها ان التحول الى ممارسة التملّك الاسري للدول في جوهره مرفوض. هذا هو العنصر الذي إن تم إيضاحه في تونس وغيرها من البلدان من شأنه أن يجعل من ذلك البلد المغربي مختبراً مفيداً لإعادة النظر في طبيعة السلطات القائمة، وبالتالي في إرغام الحكام على الخروج من مواقعهم أو على الاقل على الخروج من مفهوم تملّك الدولة من خلال الحكم غير المرتبط بزمن أو من خلال توزيع الثروة على السلالة الافتراضية أو من خلال محاولة فرض التوريث. وإن لم نفلح في بلورة هذا الانحراف المفهومي السائد في مفهوم الحكم فلن نفلح في فرض العودة لتحديد سليم له.
ثم يأتيك طبعاً دور المجتمع الاهلي من خلال أحداث كتلك التي تمرّ بتونس. هناك مجتمع أهلي في تونس، كما في غيرها ودوره أساسي، خنوعه كنز للسلطة القائمة، وتحرّكه سبب هلعها الاول. لكن الاساسي هو في مدى استجابته للتضحية، وفي مدى نبذه للظلم. أنا لا أشك في وجود مخزون شعبي حقيقي معادٍ للظلم والفجور. ولكن هذا المخزون بحاجة الى عود ثقاب فعال كي لا يقدم على هبّات شعبية عقيمة. لكن أفضل أنواع المجتمع الاهلي هو ذلك الذي لم يصب بانقسامات عمودية مديدة، طائفية ومذهبية وجهوية أو لغوية. من حسن حظ تونس ذلك الضعف في الولاءات المحلية، كما انعدام الاختلافات العرقية والمذهبية، بحيث عندما يحصل حراك اجتماعي ما يصعب إطلاق صفة فئوية عليه، ويمكن لصداه أن يطال عموم المجتمع. لكن هذه الشروط غير متوافرة في الاردن أو في اليمن أو في العراق، لذلك فالحراك الاجتماعي موسوم فيها بالفئوية منذ انطلاقته. هنا يتميز النموذج التونسي، لا بمحليته فقط، وإنما ايضاً بانعدام فئويته التي على المجتمعات العربية الاخرى أن تتمكن من تجاوزها أو من معالجتها قبل أن تتحدى السلطات القائمة. من هنا أهمية الكف عن التغني الطوباوي بعظمة المجتمعات الاهلية، وفتح الأذهان على تنوعها واختلافها من مكان الى آخر، قبل الجزم بتحولها الى شارع، تلك العبارة البذيئة بحق الناس التي ما زال المتفوهون التلفزيونيون يلجأون اليها عن غباء أو عن تكبّر.
-7-
ومن الشروط الجديرة بالبحث ايضاً مسلك المؤسسات القائمة عند قيام الانتفاضة. من الواضح أن الجيش التونسي لم يهب هبّة رجل واحد للدفاع عن بن علي (القادم اساساً من الأمن)، بل ربما أنه لعب دوراً أكبر في دفعه نحو المنفى. هذا أمر في غاية الاهمية، خصوصاً إذا ساندها دور فعال للادارات المدنية، بمعنى أن يستمر القيّمون عليها بخدمة المواطنين في شتى المجالات من تعليم وصحة وطرق وما شابه، لكي لا يزيدوا من قلقهم، ولكي يثبتوا لهم استقلال أجهزة الدول عن الحاكم المستبد، وبالتالي إمكانية استمرارها حتى حين تبدأ الكرسي الرئاسية بالاهتزاز. إن من أهم شروط نجاح المجتمع الاهلي هو القدرة على الفصل بين الدولة والنظام، بالحفاظ على الاولى ومقارعة الثاني. ومن أهم شروط الاستبداد، على العكس، هو تمكّن الحاكم من المزج بين النظام والدولة بحيث تتعطل الثانية إن مُسَّ الاول بأذى. هنا ايضاً تبدو تونس محظوظة بارتفاع مستوى الشعور بالمواطنة بين أهلها، وبالتالي بقدر عالٍ من الوضوح في التفريق بين النظام والدولة مما جعل مسلك الجيش ومسلك الادارات المدنية ايجابياً، بمعنى أنه كان في الحد الأدنى محايداً، وفي حدّه الأقصى متفهماً الانتفاضة، داعماً لها.
قد لا يكون الفصل مطلقاً في تونس، ولكنه افضل من حاله في غير بلد عربي. ويقيني أن نجاح انتفاضة اخرى مرتبط بمدى الفصل المسبق في اذهان الضباط والموظفين وعموم الناس بين الدول والنظام، مما لم نجد له صدى يذكر في العراق غداة سقوط النظام هناك سنة 2003، حيث استولى قادة الميليشيات على منازل رجال النظام السابق، بينما نهب الناس ممتلكات الدولة نفسها، وكأنهم يجهلون انهم اصحاب تلك الممتلكات الحقيقيون.
اما الفصل المهم الآخر فهو بين اصحاب السلطة واصحاب الثروة، او على الاقل ارباب العمل. ان التصاقاً بالحكم يؤمن اجمالا مزايا غير مستحقة لأرباب العمل الذين يعلمون كيف يُكافأ على تساهله مع مصالحهم واطماعهم. هكذا تتكون النواة المثلثة الاضلاع (سلطة/ ثروة/ جاه) من حاكم يريد حصة له ولأقربائه من ارباح المنتفعين من نظامه الى سعي مشترك نحو الجاه لدى اصحاب السلطة واصحاب الثروة وقد تقاربا الى حد الاندماج الفعلي في عدد من الاحيان. لذا فالمرض الذي يصيب السياسة العربية له جذور عميقة في طبيعة الاقتصاد الريعي، كما في مدى التصاق اصحاب المشاريع بأصحاب القرار السياسي. ومن اسباب ضعف المجتمع الاهلي خلوه اجمالا من ارباب العمل الذين كثيراً ما يفضلون الالتصاق بالحاكم، ودفع الجزية الضرورية له للإبقاء على الصلة به، عوض التأطر في بنى نقابية ومهنية تدافع عن استقلال المجال الانتاجي، عن المجال الامني والسياسي. لذا كانت الرهانات على الطبقات الوسطى ضعيفة خلال العقود الماضية، بالذات لأن تلك الطبقات الجديدة والهشة في الكثير من مفاصلها، فضلت وصفة استتباع السلطات لها على الدفاع المهني عن مصالحها الذاتية. وكان على علماء الاجتماع العرب المزيد من الاهتمام بأثرياء السلطان، ورجال اعمال الدولة المحظوظين، بدل الاهتمام بشعراء البلاط ذوي الصوت العالي والقليل الاثر.
-8-
انما نكتب والحدث التونسي مفتوح على أكثر من سيناريو، والامل بأحداث شبيهة، ان لم تكن مماثلة، في غير بلد عربي لم يخبُ بعد. ونكتب في السياسة والاقتصاد والاجتماع بينما الغضب العاري، الاخلاقي في جوهره، يتجاوز السياسة والاقتصاد والاجتماع الى نوع من تلقائية رفض الفجور. والفجور سمة الحكم الاولى في هذه الايام العربية التي استفحلت طولا. ورفض الفجور هو شرط انتقال الخوف من ضفة الناس الى ضفة الحكام، وهو مفتاح التغيير وعلة الأمل.
الشباب.. إعادة تعريف الأيديولوجيا لصالح السياسة
د. عمرو الشوبكي
من الصعب على أي مراقب تابع احتجاجات الطلاب المصريين طوال السبعينيات والثمانينيات ألا يربطها بتيار سياسي محدد؛ إذ كان من الصعب - بل ومن المستحيل - أن تخرج أي مظاهرة من داخل الجامعات المصرية دون أن يشار إلى مَن وراءها من قوى سياسية منظمة، بدأت بالشيوعيين ومرت بالناصريين وانتهت بالإسلاميين، وفي أحيان أخرى كان الجميع يضطرون للسير معًا في مظاهرة واحدة.
صحيح أن التقسيمات الأيديولوجية الضيقة ظلت موجودة، تفصل بين المنتمين للتيارات السياسية التقليدية في العالم العربي، من ليبراليين وإسلاميين وشيوعيين وناصريين، إلا أنه توازى معها تصاعد جيل جديد من شباب الألفية الثالثة الذي تربطه علاقة مختلفة بالأيديولوجيا والمفاهيم التنظيمية الضيقة التي راجت في عصور الحرب الباردة.
وقد عرفت مصر حقبتين رئيسيتين تعامل فيهما الشباب مع الأيديولوجيا والسياسة، بصورة مختلفة تكاد تصل إلى حد التناقض:
المرحلة الأولى هي تلك الممتدة من ثورة 1919، ومرورًا بثورة يوليو، وانتهاء بمرحلة سقوط حائط برلين.
والمرحلة الثانية هي تلك التي أعقبت انهيار الكتلة الاشتراكية وبداية عصر العولمة في مجال السياسة والاقتصاد.
وفي كلتا المرحلتين كان تفاعل الشباب مختلفًا، ولكنه كان إيجابيًّا.
جيل الأيديولوجيات الكبرى
إجمالا تفاعل الشباب مع ثورة يوليو 1952 تفاعلا إيجابيًّا، ومثلت قيادة عبد الناصر التاريخية عنصر جذب للغالبية العظمى من أبناء الشعب المصري وعلى رأسهم الشباب.
وقد تكونت خبرة الشباب السياسية في ذلك الوقت من خلال انتمائه لتنظيمات الثورة السياسية (الاتحاد الاشتراكي، منظمة الشباب، التنظيم الطليعي)، وحكمته أيضًا ثنائيات وأفكار كبرى، ولكن بمضامين جديدة تختلف عن ثنائيات الاستقلال والتحرر التي سادت قبل الثورة؛ حيث تم تقسيم العالم إلى تقدميين ورجعيين، وثوار وأعداء للثورة، وقوميين وإقليميين.
وقد تكون الوعي السياسي لشباب هذا الجيل داخل تلك التقسيمات السياسية الكبرى، وكان بريق النص الأيديولوجي وقدرته على تعبئة هذا الشباب حاسمًا في ذلك العصر.
فالاشتراكية العربية واجهت الاشتراكية الماركسية، والاثنتان واجهتا اليمين الليبرالي والديني على السواء، وكان شباب كل نص يبذلون جهودًا كبيرة في الالتصاق بنصهم الأيديولوجي، والعمل على اكتشاف الثغرات الموجودة في نصوص التيارات الأخرى، وإبراز الجوانب "المشرقة" في نصهم الأيديولوجي و"المظلمة" لدى نصوص الآخرين.
وقد حرص الشباب القومي والناصري طوال ذلك الوقت على تأكيد أنه ينتمي إلى أيديولوجية ملتصقة بالواقع، وتؤمن بالرسالات السماوية وليست "مستوردة" من الخارج، كما هو الحال في الأيديولوجيا الماركسية. كما حاول الشيوعيون إبراز وسطية الناصرية وترددها في خياراتها الطبقية وعدم عدائها الجذري للإمبريالية العالمية. أما بعض "الشباب الإسلامي" فقد اعتبر أن الدولة الناصرية دولة لا تطبق تعاليم الإسلام، وأحيانًا دولة كافرة.
وبقي شباب ذلك العصر محصورًا داخل أفكاره الأيديولوجية، عينه على سطورها ونصوصها الكلية، ونادرًا ما حاول أن ينظر إلى المجتمع وتفاعلاته المعيشة.
وقد عاشت مصر في ذلك العصر داخل ثنائيات أيديولوجية كبرى نجحت في أن تكون مصدر جذب واضحا لشباب تلك المرحلة، وكان معارضة مضمونها كثيرًا ما يضع من "تجرأ" على القيام بها في خانة أعداء الثورة والوطن، وكان الخلاف المسموح به هو حول تفاصيل الموقف السياسي وليس جوهر المشروع السياسي القائم.
وقد كان ولاء شباب هذا العصر للنص الأيديولوجي السائد هو المدخل لتشكيل وعيه السياسي؛ بل وأحد المعايير الرئيسية الذي على أساسه يتم حراكه داخل السلم السياسي والمهني في البلاد.
وقد استبعدت الثورة من نظامها السياسي فكرة وجود الأحزاب السياسية، وبالتالي غابت المعارضة عن المساهمة في التكوين السياسي لجيل هذا العصر من الشباب.
وقد نجحت التنظيمات السياسية في ذلك الوقت وعلى رأسها منظمة الشباب في أن تخلق جيلا مسيَّسًا وفق معايير عصره. صحيح أن كثيرًا من أبناء هذا الجيل قد انضم إلى هذه التنظيمات السياسية لكونها تنظيمات السلطة وليس الثورة، وبالتالي لم يقتنع بمبادئها وأفكارها رغم ترديده لشعاراتها، ومع ذلك فقد نجح كثير من شباب هذا العصر في اكتساب خبرات كثيرة وقدرات عالية من خلال وجوده في هذه التنظيمات.
وقد اتضح الدور السياسي للشباب الذي تربى في عصر الثورة وتنظيماتها في أعقاب هزيمة 1967 حين تمرد جيل كامل من طلاب الجامعات على كثير من مثالب النظام القائم، وقام بمظاهرات عارمة اجتاحت الجامعات المصرية بصورة لم تشهدها منذ انطلاق الثورة؛ حيث بدأت بالاحتجاج على ضعف الأحكام الصادرة بحق كثير من القادة العسكريين المسئوليين عن الهزيمة، وانتهت بالمطالبة بإجراء إصلاحات ديمقراطية وسياسية داخل النظام تمحورت حول المطالبة بالتعددية الحزبية واستقلالية العمل النقابي واحترام حرية الرأي والتعبير، إضافة إلى حرية الصحافة.
ولعلّ المدهش أن القطاع الأكبر من هذا الجيل تربى في منظمات الثورة، ولكنه في نفس الوقت تمرد عليها، ووجه انتقادات حادة لطريقة أدائها، ولممارسات كثيرٍ من قادتها.
وقد كان لهزيمة مشروع ثورة يوليو الناصري في 1967 وقْعُ الصاعقة على هذا الجيل الذي تشكل وعيه السياسي مع أحلام الثورة وثنائياتها المبشرة؛ حيث انكسرت كثير من طموحاته وأحلامه الكبرى.
وقد عرف شباب هذه المرحلة باسم "جيل 68"، وهو الجيل الأكثر تسييسًا في تاريخ مصر المعاصر والأكثر وعيًا بقضايا عصره، وأيضًا الأكثر التصاقًا -في مجمله- مع تقسيمات تلك المرحلة وثنائياتها المطلقة التي قسمت الواقع السياسي إلى "مع وضد"، والأعداء والرفاق"، وغاب عنها أي مساحات نسبية بين الصح والخطأ.
وقد حسب لشباب تلك المرحلة أنه تمرد على الثورة من داخل مبادئها وعبر وسائل سلمية -وليست "عنيفة"- في الاحتجاج والمعارضة؛ حيث ظل في مجمله مؤمنًا بالاشتراكية، ولكنه أصرّ على ربطها بالديمقراطية، وآمن بقيادة عبد الناصر ولكنه انتقد بشدة دور الأجهزة الأمنية والبيروقراطية في البلاد.
ورغم أن هذا الجيل إجمالا كان من أكثر أجيال مصر خبرة سياسية فإنه في الوقت نفسه تعرض لاستبعاد واضح من الحياة السياسية، ومن التأثير السياسي داخل النخبة الحاكمة، وحتى من اقترب منهم من السلطة والتصق بتوجهاتها ظل ينظر إليه باعتباره "غير مأمون"؛ لأنه في النهاية جاء من خارج الأجهزة البيروقراطية، وامتلك خبرة وخيالا سياسيًّا نتيجة تربيته داخل تنظيمات وحركات سياسية.
ولعل تجربة جيل 68 الأوربية تعطي مؤشرًا على الفارق الهائل بين قدرة أنظمة الحكم الديمقراطية على دمج قطاعات هامة من جيل ثوري داخل أحزاب وقوى التوافق العام عبر عملية تفاعل بين المؤسسات الديمقراطية والواقع السياسي المعيش، وخطاب هذا الشباب الثوري الذي ضم كل ألوان الطيف السياسي من يسار ماركسي ثوري، وماوي، وتروتسكي.
وقد أدت "رحلة" التفاعل والدمج هذه إلى أن تعيد أولا صياغة خطاب 68 الأوربي، وتحوله إلى خطاب اشتراكي إصلاحي، أو في صورة أحزاب تدافع عن قضايا البيئة، ثم ساهمت ثانيًا في وصول كثير من تيارات هذا الجيل "المعدلة" ورموزه إلى الحكم في كل بلدان أوربا الغربية.
وقد اختلف هذا الوضع كثيرًا عن الحالة الاستبعادية التي شهدتها الساحة المصرية تجاه هذا الجيل الذي ظل خارج دائرة صناعة القرار السياسي؛ ربما عقابًا له على أنه امتلك في يوم من الأيام تكوينا وحلمًا سياسيًّا حتى لو غير كل مضامينه الآن.
شباب ما بعد الأيديولوجيات الكبرى
تغير الوضع مع بداية العقد الماضي، وتراجع دور تيارات النصوص الأيديولوجية الكبرى عن لعب نفس الدور الذي لعبته في العقود السابقة، وبدا أن هناك قطاعات جديدة من هذا الجيل تتفاعل مع السياسة وتمارسها، ولكن بطريقة مختلفة عن تلك التي مارستها التيارات العقائدية.
وقد واصل قطاع من هذا الجيل الجديد انتماءه إلى نفس هذه التيارات السياسية والحزبية، إلا أن هذا الانتماء لم يمنع جانبًا كبيرًا منه من تقديم فهم مرن ورحب للأيديولوجيا تجاوز تلك النظرة النصية التي سادت من قبل.
وقد تفاعل كثيرون من أبناء هذا الجيل مع العمل السياسي خارج إطار التنظيمات السياسية السرية والمفاهيم الحلقية للعمل الحزبي؛ بحيث أصبحنا نرى بعض شباب الناصريين ينتمون إلى قيمة التحرر الوطني والوحدة العربية، وليس بالضرورة نصوص الميثاق أو بيان 30 مارس، كما شاهدنا ماركسيين أقرب للدفاع عن فكرة العدالة الاجتماعية والاشتراكية بالمعنى الحديث للكلمة وليس عبر الانتماء لتنظيمات ستالينية ضيقة، وظهر أخيرًا إسلاميون يدافعون عن جوهر القيم الدينية والأخلاقية والحضارية التي نادى بها الإسلام، وأكدوا على قيمته كمشروع ثقافي وسياسي في إطار القبول بالمشاريع الأخرى، كما غابت عن الفصائل الأساسية للحركة الإسلامية أي إشارة لتكفير السلطة أو المجتمع وفق تفسيرات نصية ضيقة.
وقد بدت خصومات هذا الجيل الأيديولوجية أقل بكثير من خصومات نظرائهم من أجيال الستينيات والسبعينيات؛ فالحروب والرماح الأيديولوجية التي انطلقت في السبعينيات بين الفصائل السياسية المختلفة لم تظهر بنفس الحدة مع شباب الألفية الثالثة؛ فليس هناك عداوات "مرضية" تجاه تجربة عبد الناصر مثلا بين أوساط معارضيه من أبناء هذا الجيل، وليس هناك حملات تخوينية وتكفيرية تذكر بين مجمل الاتجاهات السياسية المختلفة وسط هذا الجيل، وأخيرًا ليس هناك احتقانات تعكسها مرارات شخصية تجاه تجربة بعينها.
فجيل الألفية الثالثة في مجمله -باستثناء المنتمين لجماعات العنف الديني- لم يتعرض لاعتقالات جماعية كما حدث في الخمسينيات مع الشيوعيين والإخوان المسلمين، أو كما حدث في 1981 مع كل القوى السياسية، إنما عاش مرحلة فيها قدر أكبر من التوافق الوطني والجيلي العام على "أجندة معارضة" لجوهر سياسات الداخل والخارج، قائمة أساسًا على الإصلاح السياسي والديمقراطي وعلى احترام حرية الرأي والتعبير وحقوق الإنسان.
وقد ظهر أيضًا جيل جديد تفاعل مع السياسة من خارج التنظيمات العقائدية والأحزاب السياسية؛ فانتمى إلى جمعيات العمل الأهلي والمنظمات غير الحكومية، وأصبحت هناك أجندة "متعولمة" لقطاعات واسعة من جيل الألفية الثالثة يطرح فيها أفكاره السياسية الجديدة من دفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وانتمى لأول مرة إلى جمعيات عابرة للقوميات ومتداخلة مع العالم عبر شبكات المعلومات والبريد الإلكتروني.
وقد امتلكت قطاعات واسعة ومتزايدة من هذا الجيل خبرتها وتكوينها السياسي من خلال الانتماء إلى قضايا العالم وهمومه والتفاعل معه عبر تقديم قراءة نقدية لكثير من مثالب عصر العولمة، ولكن من خلال الحداثة وقيم العصر الديمقراطية.
ومن هنا لم يكن غريبًا أن تكون إحدى الوسائل المدهشة التي قدمها هذا الجيل في دعمه للقضية الفلسطينية كانت عبر كتابة آلاف الرسائل عبر شبكات الإنترنت يشرح فيها مشروعية الكفاح الفلسطيني في مواجهة آلة الاحتلال والعدوان الإسرائيلية، ويخوض مواجهات ساخنة مع أنصار الدولة العبرية في أوربا والولايات المتحدة.
وهكذا لم يكن غريبًا أن تشكل القضية الفلسطينية في حد ذاتها قيمة اتفاق وطني عام بين كل رموز هذا الجيل المُسيَّس منهم -بطريقته- وغير المسيس. فهي قضية عادلة بالمعنى المطلق يجد فيها الشاب ذو التكوين المدني أو العلماني نفسه داعمًا لحق شعب مضطهد في الحرية والاستقلال، والآخر ذو التكوين الإسلامي مؤيدًا لحق شعب مسلم في مواجهة احتلال صهيوني لأرضه، وأخيرًا إذا كان قوميًّا فإنه يناضل من أجل تحرير أرض عربية مغتصبة منذ أكثر من نصف قرن.
وقد بدت ثورة الاتصالات التي اعتبرها البعض "شرًّا" يجب وضع المصريين بمنأى عنه فرصة هائلة لصياغة وعي قطاعات واسعة من جيل الألفية الثالثة بلغة العصر، وربطت همومه المحلية والقومية بهموم العالم، وساعدته على صياغة لغة جديدة إنسانية يمكن لها أن تؤثر في العالم وتتأثر به.
وهكذا سنجد أن هناك أجندة جديدة عالمية فرضت نفسها على شباب الألفية الثالثة؛ حيث لم يَعُد الدخول إلى حقل السياسة حكرًا فقط على التنظيمات والأيديولوجيات الوطنية إنما نافسها على الساحة تنظيمات وأفكار عابرة للقوميات.
هل ذهبت السياسة أم عادت بصورة جديدة؟
ربما كان من الصعب على من تابع مظاهرات جيل "الألفية الثالثة" للتضامن مع الانتفاضة الفلسطينية في سبتمبر 2000، والتي عاد وكررها بصورة أكثر صخبًا وحيوية العام الماضي أثناء الغزو الأمريكي للعراق.. أن يقول: إنها تحركت وفق نفس التقسيم الأيديولوجي الذي حكم احتجاجات الطلاب في العقود الثلاثة السابقة؛ فمن الصعب القول بأن هناك تنظيمًا ناصريًّا قويًّا خطط ونظم احتجاجات دعم الانتفاضة. ومن الصعب القول أيضًا بأن كل من شارك في مظاهرات الاحتجاج ضد غزو العراق واحتلال فلسطين ينتمي إلى تنظيم إسلامي حرك الآلاف بإشارة واحدة، بقدر ما كنا أمام حركة جيل، لدى كثير منه ميوله السياسية الناصرية أو الإسلامية، عبّر عن قيم "الطلاب العاديين" وليس التنظيمات العقائدية -حتى لو انتمى بعضهم إليها-؛ ليقود في النهاية وبشكل أساسي "انتفاضة" دعم الانتفاضة الفلسطينية ورفض الاحتلال الأمريكي للعراق.
والحقيقة أن ثقافة التنظيمات السرية التي راجت في الستينيات والسبعينيات والتي كان كل عضو في تنظيم سياسي شيوعي أو ناصري أو إسلامي يحمل "رؤية تكفيرية" ليس فقط لأعضاء التنظيمات الأخرى، إنما أيضًا للتنظيمات الأخرى التي تنتمي إلى نفس توجهه العقائدي.. قد تراجعت بصورة كبيرة مع الجيل الجديد الذي نجح إلى حد كبير أن ينتمي إلى المتوسط العام السائد في المجتمع المصري، وألا يعيش تجربة التنظيمات السرية بروح منعزلة عن العالم المحيط به؛ فيكره أهله الرجعيين أو غير المتدينين، ولا يحب أصدقاءه الذين لم يشاركوه اختياراته الفكرية، ولا يرى العالم إلا من خلال ثقافة الخير والشر التي تفصل بين إخوانه ورفاقه في التنظيم، وباقي أفراد المجتمع.
وقد أصبح من سمات هذا الجيل أيضًا انفتاحه على الحياة والمجتمع؛ يعيش أفراده كمواطنين أولاً وليسوا قادمين من كواكب أخرى، أو أرسلتهم العناية الإلهية لإنقاذ المجتمع وهدايته. فكثير من هؤلاء يعيش حياة طبيعية، يتفاعل مع الأنشطة الاجتماعية والفنية المحترمة رغم خلفيته الإسلامية، والبعض الآخر يتواصل بشكل طبيعي مع أهله وأسرته رغم ميولهم "الساداتية"، وميوله "الناصرية".
وهكذا أصبحنا أمام جيل جديد يتفاعل مع الأيديولوجيا والسياسة بصورة -إجمالا- أكثر إنسانية وانفتاحًا من أجيال التنظيمات والحلقات الأيديولوجية الضيقة.
ومن هنا كان مدهشا أن يخرج الطلاب، ويحدثوا هذا الحجم من "الاحتجاج السياسي" في ظل مناخ حارب السياسية، وأوصياء حكموا على هذا الجيل بالخفة والابتعاد عن العمل السياسي؛ بل وكل ما يتعلق بالهم الوطني العام.
وإذا كان تفاعل هذا الجيل الإيجابي مع ثورة المعلومات وعصر البريد الإلكتروني، وتأثره بما نقلته فضائيات السماوات المفتوحة من صور للمجازر التي ترتكب في الأراضي الفلسطينية المحتلة في ظل عولمة متزايدة للاتصالات.. قد أثر في مشاعره وردود أفعاله، بما يعني أن "ثقافة الملموس" التي تفاعل معها هذا الجيل قد أثرت فيه بصورة مختلفة عن جيل عصر "الاستقلال التام أو الموت الزؤام" أو جيل التعبئة الأيديولوجية؛ فإن هذا لا يعني غياب السياسي والعمل السياسي -بمعنى جديد- عن طموحات وهموم هذا الجيل.
وإذا كانت مفاهيم العمل السياسي قد تغيرت في عصر العولمة؛ فإن بقاء العمل السياسي في بلادنا حكرًا على الجيل والمفاهيم القديمة التي راجت أثناء عصر التحرر الوطني أضر ليس فقط بالسياسة إنما أيضًا بعلاقتها بالشباب.
وهنا يصبح من التعسف اعتبار الجيل الجديد سطحيًّا وغير مسّيس؛ لأنه لا ينتمي إلى نفس الطريقة القديمة في التعبير عن اهتمامه بالسياسة.
وهكذا من الصعب القول بأن عصر السياسة والأيديولوجيات قد انتهى؛ فلقد وضعنا شباب الألفية الثالثة أمام مفهوم جديد للسياسة وشكل جديد للعمل السياسي اختلف في شكله ومضمونه عن الشكل التقليدي السابق، وبات من غير المبرر الاستمرار في التباكي على النمط التعبوي السابق وعن غياب الأحزاب السياسية، وانتقال الحشود من مؤتمرات الأحزاب إلى ساحات الجامعات والنقابات.
وهكذا فإذا كان من الوارد القول بأن اهتمام شباب الألفية الثالثة بالعمل الحزبي والتقسيم الأيديولوجي الضيق قد تراجع، وإن علاقاته بالأطر التنظيمية التي ينتمي لها البعض قد اختلف؛ فإن الصورة بلا شك لن تكون بمثل هذه القتامة حين ننظر إلى تجربة هذا الجيل من خلال المفاهيم والصور الجديدة والمنفتحة التي قدمها من أجل دعم الانتفاضة الفلسطينية ورفض الاحتلال الأمريكي للعراق.
وهنا في الحقيقة سيصبح من الواجب قراءة أفكار وأساليب شباب الألفية الثالثة من خلال العصر والسياق الذي يعيش فيه؛ فكما قرأنا تجارب الأجيال السابقة على ضوء ظروفها التاريخية؛ فإن من الإنصاف قراءة تجارب هذا الجيل وفق ظروف عصره والمناخ الذي تربى فيه.
لقد أصبحنا في الحقيقة أمام صورة جديدة للعمل السياسي وأشكال جديدة للتعبئة، وصور مختلفة للضغط والاحتجاج، قادها أساسًا شباب لا ينتمون للأحزاب القائمة أو إلى عقل التنظيمات العقائدية المغلقة، دون أن يعني أنهم بلا ميول أو تحيزات سياسية. صحيح أن هذه الصور "الشبابية" للفعل السياسي ما زالت مصرية في طور التكوين، إلا أنها بلا شك تحمل فرصًا هائلة للتطور والتواصل مع ما يجري في العالم الديمقراطي، وفي صياغة صورة جديدة للعمل السياسي لا تعني بأي حال من الأحوال اختفاء السياسة أو تغيبها كما يروج "البراجماتيون المتأمركون"، أو الموظفون ذوو المناصب "السياسية" في عالمنا العربي.
من الصعب على أي مراقب تابع احتجاجات الطلاب المصريين طوال السبعينيات والثمانينيات ألا يربطها بتيار سياسي محدد؛ إذ كان من الصعب - بل ومن المستحيل - أن تخرج أي مظاهرة من داخل الجامعات المصرية دون أن يشار إلى مَن وراءها من قوى سياسية منظمة، بدأت بالشيوعيين ومرت بالناصريين وانتهت بالإسلاميين، وفي أحيان أخرى كان الجميع يضطرون للسير معًا في مظاهرة واحدة.
صحيح أن التقسيمات الأيديولوجية الضيقة ظلت موجودة، تفصل بين المنتمين للتيارات السياسية التقليدية في العالم العربي، من ليبراليين وإسلاميين وشيوعيين وناصريين، إلا أنه توازى معها تصاعد جيل جديد من شباب الألفية الثالثة الذي تربطه علاقة مختلفة بالأيديولوجيا والمفاهيم التنظيمية الضيقة التي راجت في عصور الحرب الباردة.
وقد عرفت مصر حقبتين رئيسيتين تعامل فيهما الشباب مع الأيديولوجيا والسياسة، بصورة مختلفة تكاد تصل إلى حد التناقض:
المرحلة الأولى هي تلك الممتدة من ثورة 1919، ومرورًا بثورة يوليو، وانتهاء بمرحلة سقوط حائط برلين.
والمرحلة الثانية هي تلك التي أعقبت انهيار الكتلة الاشتراكية وبداية عصر العولمة في مجال السياسة والاقتصاد.
وفي كلتا المرحلتين كان تفاعل الشباب مختلفًا، ولكنه كان إيجابيًّا.
جيل الأيديولوجيات الكبرى
إجمالا تفاعل الشباب مع ثورة يوليو 1952 تفاعلا إيجابيًّا، ومثلت قيادة عبد الناصر التاريخية عنصر جذب للغالبية العظمى من أبناء الشعب المصري وعلى رأسهم الشباب.
وقد تكونت خبرة الشباب السياسية في ذلك الوقت من خلال انتمائه لتنظيمات الثورة السياسية (الاتحاد الاشتراكي، منظمة الشباب، التنظيم الطليعي)، وحكمته أيضًا ثنائيات وأفكار كبرى، ولكن بمضامين جديدة تختلف عن ثنائيات الاستقلال والتحرر التي سادت قبل الثورة؛ حيث تم تقسيم العالم إلى تقدميين ورجعيين، وثوار وأعداء للثورة، وقوميين وإقليميين.
وقد تكون الوعي السياسي لشباب هذا الجيل داخل تلك التقسيمات السياسية الكبرى، وكان بريق النص الأيديولوجي وقدرته على تعبئة هذا الشباب حاسمًا في ذلك العصر.
فالاشتراكية العربية واجهت الاشتراكية الماركسية، والاثنتان واجهتا اليمين الليبرالي والديني على السواء، وكان شباب كل نص يبذلون جهودًا كبيرة في الالتصاق بنصهم الأيديولوجي، والعمل على اكتشاف الثغرات الموجودة في نصوص التيارات الأخرى، وإبراز الجوانب "المشرقة" في نصهم الأيديولوجي و"المظلمة" لدى نصوص الآخرين.
وقد حرص الشباب القومي والناصري طوال ذلك الوقت على تأكيد أنه ينتمي إلى أيديولوجية ملتصقة بالواقع، وتؤمن بالرسالات السماوية وليست "مستوردة" من الخارج، كما هو الحال في الأيديولوجيا الماركسية. كما حاول الشيوعيون إبراز وسطية الناصرية وترددها في خياراتها الطبقية وعدم عدائها الجذري للإمبريالية العالمية. أما بعض "الشباب الإسلامي" فقد اعتبر أن الدولة الناصرية دولة لا تطبق تعاليم الإسلام، وأحيانًا دولة كافرة.
وبقي شباب ذلك العصر محصورًا داخل أفكاره الأيديولوجية، عينه على سطورها ونصوصها الكلية، ونادرًا ما حاول أن ينظر إلى المجتمع وتفاعلاته المعيشة.
وقد عاشت مصر في ذلك العصر داخل ثنائيات أيديولوجية كبرى نجحت في أن تكون مصدر جذب واضحا لشباب تلك المرحلة، وكان معارضة مضمونها كثيرًا ما يضع من "تجرأ" على القيام بها في خانة أعداء الثورة والوطن، وكان الخلاف المسموح به هو حول تفاصيل الموقف السياسي وليس جوهر المشروع السياسي القائم.
وقد كان ولاء شباب هذا العصر للنص الأيديولوجي السائد هو المدخل لتشكيل وعيه السياسي؛ بل وأحد المعايير الرئيسية الذي على أساسه يتم حراكه داخل السلم السياسي والمهني في البلاد.
وقد استبعدت الثورة من نظامها السياسي فكرة وجود الأحزاب السياسية، وبالتالي غابت المعارضة عن المساهمة في التكوين السياسي لجيل هذا العصر من الشباب.
وقد نجحت التنظيمات السياسية في ذلك الوقت وعلى رأسها منظمة الشباب في أن تخلق جيلا مسيَّسًا وفق معايير عصره. صحيح أن كثيرًا من أبناء هذا الجيل قد انضم إلى هذه التنظيمات السياسية لكونها تنظيمات السلطة وليس الثورة، وبالتالي لم يقتنع بمبادئها وأفكارها رغم ترديده لشعاراتها، ومع ذلك فقد نجح كثير من شباب هذا العصر في اكتساب خبرات كثيرة وقدرات عالية من خلال وجوده في هذه التنظيمات.
وقد اتضح الدور السياسي للشباب الذي تربى في عصر الثورة وتنظيماتها في أعقاب هزيمة 1967 حين تمرد جيل كامل من طلاب الجامعات على كثير من مثالب النظام القائم، وقام بمظاهرات عارمة اجتاحت الجامعات المصرية بصورة لم تشهدها منذ انطلاق الثورة؛ حيث بدأت بالاحتجاج على ضعف الأحكام الصادرة بحق كثير من القادة العسكريين المسئوليين عن الهزيمة، وانتهت بالمطالبة بإجراء إصلاحات ديمقراطية وسياسية داخل النظام تمحورت حول المطالبة بالتعددية الحزبية واستقلالية العمل النقابي واحترام حرية الرأي والتعبير، إضافة إلى حرية الصحافة.
ولعلّ المدهش أن القطاع الأكبر من هذا الجيل تربى في منظمات الثورة، ولكنه في نفس الوقت تمرد عليها، ووجه انتقادات حادة لطريقة أدائها، ولممارسات كثيرٍ من قادتها.
وقد كان لهزيمة مشروع ثورة يوليو الناصري في 1967 وقْعُ الصاعقة على هذا الجيل الذي تشكل وعيه السياسي مع أحلام الثورة وثنائياتها المبشرة؛ حيث انكسرت كثير من طموحاته وأحلامه الكبرى.
وقد عرف شباب هذه المرحلة باسم "جيل 68"، وهو الجيل الأكثر تسييسًا في تاريخ مصر المعاصر والأكثر وعيًا بقضايا عصره، وأيضًا الأكثر التصاقًا -في مجمله- مع تقسيمات تلك المرحلة وثنائياتها المطلقة التي قسمت الواقع السياسي إلى "مع وضد"، والأعداء والرفاق"، وغاب عنها أي مساحات نسبية بين الصح والخطأ.
وقد حسب لشباب تلك المرحلة أنه تمرد على الثورة من داخل مبادئها وعبر وسائل سلمية -وليست "عنيفة"- في الاحتجاج والمعارضة؛ حيث ظل في مجمله مؤمنًا بالاشتراكية، ولكنه أصرّ على ربطها بالديمقراطية، وآمن بقيادة عبد الناصر ولكنه انتقد بشدة دور الأجهزة الأمنية والبيروقراطية في البلاد.
ورغم أن هذا الجيل إجمالا كان من أكثر أجيال مصر خبرة سياسية فإنه في الوقت نفسه تعرض لاستبعاد واضح من الحياة السياسية، ومن التأثير السياسي داخل النخبة الحاكمة، وحتى من اقترب منهم من السلطة والتصق بتوجهاتها ظل ينظر إليه باعتباره "غير مأمون"؛ لأنه في النهاية جاء من خارج الأجهزة البيروقراطية، وامتلك خبرة وخيالا سياسيًّا نتيجة تربيته داخل تنظيمات وحركات سياسية.
ولعل تجربة جيل 68 الأوربية تعطي مؤشرًا على الفارق الهائل بين قدرة أنظمة الحكم الديمقراطية على دمج قطاعات هامة من جيل ثوري داخل أحزاب وقوى التوافق العام عبر عملية تفاعل بين المؤسسات الديمقراطية والواقع السياسي المعيش، وخطاب هذا الشباب الثوري الذي ضم كل ألوان الطيف السياسي من يسار ماركسي ثوري، وماوي، وتروتسكي.
وقد أدت "رحلة" التفاعل والدمج هذه إلى أن تعيد أولا صياغة خطاب 68 الأوربي، وتحوله إلى خطاب اشتراكي إصلاحي، أو في صورة أحزاب تدافع عن قضايا البيئة، ثم ساهمت ثانيًا في وصول كثير من تيارات هذا الجيل "المعدلة" ورموزه إلى الحكم في كل بلدان أوربا الغربية.
وقد اختلف هذا الوضع كثيرًا عن الحالة الاستبعادية التي شهدتها الساحة المصرية تجاه هذا الجيل الذي ظل خارج دائرة صناعة القرار السياسي؛ ربما عقابًا له على أنه امتلك في يوم من الأيام تكوينا وحلمًا سياسيًّا حتى لو غير كل مضامينه الآن.
شباب ما بعد الأيديولوجيات الكبرى
تغير الوضع مع بداية العقد الماضي، وتراجع دور تيارات النصوص الأيديولوجية الكبرى عن لعب نفس الدور الذي لعبته في العقود السابقة، وبدا أن هناك قطاعات جديدة من هذا الجيل تتفاعل مع السياسة وتمارسها، ولكن بطريقة مختلفة عن تلك التي مارستها التيارات العقائدية.
وقد واصل قطاع من هذا الجيل الجديد انتماءه إلى نفس هذه التيارات السياسية والحزبية، إلا أن هذا الانتماء لم يمنع جانبًا كبيرًا منه من تقديم فهم مرن ورحب للأيديولوجيا تجاوز تلك النظرة النصية التي سادت من قبل.
وقد تفاعل كثيرون من أبناء هذا الجيل مع العمل السياسي خارج إطار التنظيمات السياسية السرية والمفاهيم الحلقية للعمل الحزبي؛ بحيث أصبحنا نرى بعض شباب الناصريين ينتمون إلى قيمة التحرر الوطني والوحدة العربية، وليس بالضرورة نصوص الميثاق أو بيان 30 مارس، كما شاهدنا ماركسيين أقرب للدفاع عن فكرة العدالة الاجتماعية والاشتراكية بالمعنى الحديث للكلمة وليس عبر الانتماء لتنظيمات ستالينية ضيقة، وظهر أخيرًا إسلاميون يدافعون عن جوهر القيم الدينية والأخلاقية والحضارية التي نادى بها الإسلام، وأكدوا على قيمته كمشروع ثقافي وسياسي في إطار القبول بالمشاريع الأخرى، كما غابت عن الفصائل الأساسية للحركة الإسلامية أي إشارة لتكفير السلطة أو المجتمع وفق تفسيرات نصية ضيقة.
وقد بدت خصومات هذا الجيل الأيديولوجية أقل بكثير من خصومات نظرائهم من أجيال الستينيات والسبعينيات؛ فالحروب والرماح الأيديولوجية التي انطلقت في السبعينيات بين الفصائل السياسية المختلفة لم تظهر بنفس الحدة مع شباب الألفية الثالثة؛ فليس هناك عداوات "مرضية" تجاه تجربة عبد الناصر مثلا بين أوساط معارضيه من أبناء هذا الجيل، وليس هناك حملات تخوينية وتكفيرية تذكر بين مجمل الاتجاهات السياسية المختلفة وسط هذا الجيل، وأخيرًا ليس هناك احتقانات تعكسها مرارات شخصية تجاه تجربة بعينها.
فجيل الألفية الثالثة في مجمله -باستثناء المنتمين لجماعات العنف الديني- لم يتعرض لاعتقالات جماعية كما حدث في الخمسينيات مع الشيوعيين والإخوان المسلمين، أو كما حدث في 1981 مع كل القوى السياسية، إنما عاش مرحلة فيها قدر أكبر من التوافق الوطني والجيلي العام على "أجندة معارضة" لجوهر سياسات الداخل والخارج، قائمة أساسًا على الإصلاح السياسي والديمقراطي وعلى احترام حرية الرأي والتعبير وحقوق الإنسان.
وقد ظهر أيضًا جيل جديد تفاعل مع السياسة من خارج التنظيمات العقائدية والأحزاب السياسية؛ فانتمى إلى جمعيات العمل الأهلي والمنظمات غير الحكومية، وأصبحت هناك أجندة "متعولمة" لقطاعات واسعة من جيل الألفية الثالثة يطرح فيها أفكاره السياسية الجديدة من دفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وانتمى لأول مرة إلى جمعيات عابرة للقوميات ومتداخلة مع العالم عبر شبكات المعلومات والبريد الإلكتروني.
وقد امتلكت قطاعات واسعة ومتزايدة من هذا الجيل خبرتها وتكوينها السياسي من خلال الانتماء إلى قضايا العالم وهمومه والتفاعل معه عبر تقديم قراءة نقدية لكثير من مثالب عصر العولمة، ولكن من خلال الحداثة وقيم العصر الديمقراطية.
ومن هنا لم يكن غريبًا أن تكون إحدى الوسائل المدهشة التي قدمها هذا الجيل في دعمه للقضية الفلسطينية كانت عبر كتابة آلاف الرسائل عبر شبكات الإنترنت يشرح فيها مشروعية الكفاح الفلسطيني في مواجهة آلة الاحتلال والعدوان الإسرائيلية، ويخوض مواجهات ساخنة مع أنصار الدولة العبرية في أوربا والولايات المتحدة.
وهكذا لم يكن غريبًا أن تشكل القضية الفلسطينية في حد ذاتها قيمة اتفاق وطني عام بين كل رموز هذا الجيل المُسيَّس منهم -بطريقته- وغير المسيس. فهي قضية عادلة بالمعنى المطلق يجد فيها الشاب ذو التكوين المدني أو العلماني نفسه داعمًا لحق شعب مضطهد في الحرية والاستقلال، والآخر ذو التكوين الإسلامي مؤيدًا لحق شعب مسلم في مواجهة احتلال صهيوني لأرضه، وأخيرًا إذا كان قوميًّا فإنه يناضل من أجل تحرير أرض عربية مغتصبة منذ أكثر من نصف قرن.
وقد بدت ثورة الاتصالات التي اعتبرها البعض "شرًّا" يجب وضع المصريين بمنأى عنه فرصة هائلة لصياغة وعي قطاعات واسعة من جيل الألفية الثالثة بلغة العصر، وربطت همومه المحلية والقومية بهموم العالم، وساعدته على صياغة لغة جديدة إنسانية يمكن لها أن تؤثر في العالم وتتأثر به.
وهكذا سنجد أن هناك أجندة جديدة عالمية فرضت نفسها على شباب الألفية الثالثة؛ حيث لم يَعُد الدخول إلى حقل السياسة حكرًا فقط على التنظيمات والأيديولوجيات الوطنية إنما نافسها على الساحة تنظيمات وأفكار عابرة للقوميات.
هل ذهبت السياسة أم عادت بصورة جديدة؟
ربما كان من الصعب على من تابع مظاهرات جيل "الألفية الثالثة" للتضامن مع الانتفاضة الفلسطينية في سبتمبر 2000، والتي عاد وكررها بصورة أكثر صخبًا وحيوية العام الماضي أثناء الغزو الأمريكي للعراق.. أن يقول: إنها تحركت وفق نفس التقسيم الأيديولوجي الذي حكم احتجاجات الطلاب في العقود الثلاثة السابقة؛ فمن الصعب القول بأن هناك تنظيمًا ناصريًّا قويًّا خطط ونظم احتجاجات دعم الانتفاضة. ومن الصعب القول أيضًا بأن كل من شارك في مظاهرات الاحتجاج ضد غزو العراق واحتلال فلسطين ينتمي إلى تنظيم إسلامي حرك الآلاف بإشارة واحدة، بقدر ما كنا أمام حركة جيل، لدى كثير منه ميوله السياسية الناصرية أو الإسلامية، عبّر عن قيم "الطلاب العاديين" وليس التنظيمات العقائدية -حتى لو انتمى بعضهم إليها-؛ ليقود في النهاية وبشكل أساسي "انتفاضة" دعم الانتفاضة الفلسطينية ورفض الاحتلال الأمريكي للعراق.
والحقيقة أن ثقافة التنظيمات السرية التي راجت في الستينيات والسبعينيات والتي كان كل عضو في تنظيم سياسي شيوعي أو ناصري أو إسلامي يحمل "رؤية تكفيرية" ليس فقط لأعضاء التنظيمات الأخرى، إنما أيضًا للتنظيمات الأخرى التي تنتمي إلى نفس توجهه العقائدي.. قد تراجعت بصورة كبيرة مع الجيل الجديد الذي نجح إلى حد كبير أن ينتمي إلى المتوسط العام السائد في المجتمع المصري، وألا يعيش تجربة التنظيمات السرية بروح منعزلة عن العالم المحيط به؛ فيكره أهله الرجعيين أو غير المتدينين، ولا يحب أصدقاءه الذين لم يشاركوه اختياراته الفكرية، ولا يرى العالم إلا من خلال ثقافة الخير والشر التي تفصل بين إخوانه ورفاقه في التنظيم، وباقي أفراد المجتمع.
وقد أصبح من سمات هذا الجيل أيضًا انفتاحه على الحياة والمجتمع؛ يعيش أفراده كمواطنين أولاً وليسوا قادمين من كواكب أخرى، أو أرسلتهم العناية الإلهية لإنقاذ المجتمع وهدايته. فكثير من هؤلاء يعيش حياة طبيعية، يتفاعل مع الأنشطة الاجتماعية والفنية المحترمة رغم خلفيته الإسلامية، والبعض الآخر يتواصل بشكل طبيعي مع أهله وأسرته رغم ميولهم "الساداتية"، وميوله "الناصرية".
وهكذا أصبحنا أمام جيل جديد يتفاعل مع الأيديولوجيا والسياسة بصورة -إجمالا- أكثر إنسانية وانفتاحًا من أجيال التنظيمات والحلقات الأيديولوجية الضيقة.
ومن هنا كان مدهشا أن يخرج الطلاب، ويحدثوا هذا الحجم من "الاحتجاج السياسي" في ظل مناخ حارب السياسية، وأوصياء حكموا على هذا الجيل بالخفة والابتعاد عن العمل السياسي؛ بل وكل ما يتعلق بالهم الوطني العام.
وإذا كان تفاعل هذا الجيل الإيجابي مع ثورة المعلومات وعصر البريد الإلكتروني، وتأثره بما نقلته فضائيات السماوات المفتوحة من صور للمجازر التي ترتكب في الأراضي الفلسطينية المحتلة في ظل عولمة متزايدة للاتصالات.. قد أثر في مشاعره وردود أفعاله، بما يعني أن "ثقافة الملموس" التي تفاعل معها هذا الجيل قد أثرت فيه بصورة مختلفة عن جيل عصر "الاستقلال التام أو الموت الزؤام" أو جيل التعبئة الأيديولوجية؛ فإن هذا لا يعني غياب السياسي والعمل السياسي -بمعنى جديد- عن طموحات وهموم هذا الجيل.
وإذا كانت مفاهيم العمل السياسي قد تغيرت في عصر العولمة؛ فإن بقاء العمل السياسي في بلادنا حكرًا على الجيل والمفاهيم القديمة التي راجت أثناء عصر التحرر الوطني أضر ليس فقط بالسياسة إنما أيضًا بعلاقتها بالشباب.
وهنا يصبح من التعسف اعتبار الجيل الجديد سطحيًّا وغير مسّيس؛ لأنه لا ينتمي إلى نفس الطريقة القديمة في التعبير عن اهتمامه بالسياسة.
وهكذا من الصعب القول بأن عصر السياسة والأيديولوجيات قد انتهى؛ فلقد وضعنا شباب الألفية الثالثة أمام مفهوم جديد للسياسة وشكل جديد للعمل السياسي اختلف في شكله ومضمونه عن الشكل التقليدي السابق، وبات من غير المبرر الاستمرار في التباكي على النمط التعبوي السابق وعن غياب الأحزاب السياسية، وانتقال الحشود من مؤتمرات الأحزاب إلى ساحات الجامعات والنقابات.
وهكذا فإذا كان من الوارد القول بأن اهتمام شباب الألفية الثالثة بالعمل الحزبي والتقسيم الأيديولوجي الضيق قد تراجع، وإن علاقاته بالأطر التنظيمية التي ينتمي لها البعض قد اختلف؛ فإن الصورة بلا شك لن تكون بمثل هذه القتامة حين ننظر إلى تجربة هذا الجيل من خلال المفاهيم والصور الجديدة والمنفتحة التي قدمها من أجل دعم الانتفاضة الفلسطينية ورفض الاحتلال الأمريكي للعراق.
وهنا في الحقيقة سيصبح من الواجب قراءة أفكار وأساليب شباب الألفية الثالثة من خلال العصر والسياق الذي يعيش فيه؛ فكما قرأنا تجارب الأجيال السابقة على ضوء ظروفها التاريخية؛ فإن من الإنصاف قراءة تجارب هذا الجيل وفق ظروف عصره والمناخ الذي تربى فيه.
لقد أصبحنا في الحقيقة أمام صورة جديدة للعمل السياسي وأشكال جديدة للتعبئة، وصور مختلفة للضغط والاحتجاج، قادها أساسًا شباب لا ينتمون للأحزاب القائمة أو إلى عقل التنظيمات العقائدية المغلقة، دون أن يعني أنهم بلا ميول أو تحيزات سياسية. صحيح أن هذه الصور "الشبابية" للفعل السياسي ما زالت مصرية في طور التكوين، إلا أنها بلا شك تحمل فرصًا هائلة للتطور والتواصل مع ما يجري في العالم الديمقراطي، وفي صياغة صورة جديدة للعمل السياسي لا تعني بأي حال من الأحوال اختفاء السياسة أو تغيبها كما يروج "البراجماتيون المتأمركون"، أو الموظفون ذوو المناصب "السياسية" في عالمنا العربي.