محمود حسين-مصر
بالنسبة لمحمود حسين، وهو اسم واحد لكاتبين هما بهجت الندي وعادل رفعت، استطاع التونسيون والمصريون ان يخرجوا من الفخ التاريخي القائل "إما ديكتاتورية وإما اصولية". صحيفة "ليبراسيون" (2 شباط 2011) التقت الثنائي محمود حسين وأجرت حوارا حول الحدث، هنا أهم مقتطفاته:
- من طهران وحتى الرباط مرورا بعمان ودمشق، الجميع عينه على مصر بعد تونس. لماذا؟
- هاتان الثورتان تعلنان للعالم العربي نبأ سارا: هناك مخرج للخلاص من الفخ الذي وجدت فيه هذه الشعوب منذ عقود. كان الخيار الوحيد المتاح امام هذه الشعوب، إما تكبّد الديكتاتورية الفاسدة والفاقدة للشرعية، وإما القبول بمجيء أحزاب اصولية هي وحدها القادرة، كما كنا نعتقد، على اسقاط هذه الديكتاتوريات. تونس قطعت مع هذه اللعنة، ومصر نسفتها من اساسها، بفضل ثقلها السياسي والديموغرافي. كلاهما بيّنتا ان هذه اللعنة انما هي خدعة، وان خيار الحرية والكرامة والقانون متوفر، واننا لسنا امام سراب من صنع مثقفين مهلوسين، بل اننا على العكس، امام رغبة عميقة ومشتركة. ان شجاعة ودأب ونضج الشعب التونسي، سمحت له بأن يؤكد على هذه الرغبة ومواصلة المناداة بتحقيقها على الرغم من القمع الوحشي، وذلك حتى بلوغ النصر الحاسم، اي سقوط بن علي. من هنا تحول الحدث التونسي إلى مثال ونموذج؛ فهو وضع حدا نهائيا لنغمة "العجز". هنا الشعب ربح، خلافا لما حصل في ايران اثر الانتخابات الاخيرة حيث خسر الشعب. وفي الخيال العربي... هذا يغير كل شيء... الآن الكلمة هي للشعب المصري. حتى هذه اللحظة اعترف الجيش بشرعية مطالب الشعب وأكد على انه هنا لحمايته وحماية الحرية.
- هل هناك فروقات بين مختلف حركات الاحتجاج هذه؟
- طبعا هناك فروقات. ولكن مصر بيّنت انه بصرف النظر عن هذه الاختلافات، فان هناك جانب من الوضعية مشترك بين كل الانظمة العربية غير الدينية. وهذا المشترك هو درجة الخطورة الذي بلغوها: أزمة سياسية واخلاقية بقدر ما هي أزمة سوسيولوجية واقتصادية. انهم يكرهون قادتهم الذين فقدوا الاحترام ولا يحكمون الا بالخوف. وجاء الشعب التونسي ليقول بأنه يكفي التغلب على هذا الخوف... ومصر اليوم تبذل جهدها لتعيد تأكيد انتصارها هي ايضا على الخوف.
- كيف تخلق الثورة؟
- منذ شهر لم يكن احد ليراهن على سقوط بن علي أو حسني مبارك. لا يكفي ان تلاحظ بأن في هذا البلد او ذاك، هناك عوامل لإشعال ثورة. هناك كيمياء خاصة، مرتبطة جوهريا بمجريات الاحداث؛ وهذه الكيمياء هي التي تحول كل عوامل الثورة إلى مجرى واحد، يفجر الثورة. لا يكفي ان يكون عندك يورانيوم مخصّب لتفجر قنبلة ذرية؛ بل عليك ايضا ان تجد الصيغة التي تسمح باطلاق انفجارات متسلسلة. في السياسة هذه الصيغة غامضة، لا تستطيع توقعها. تونس اكتشفتها في طريقها، وها هي مصر تلتقطها. ويمكننا الاشارة إلى أمر، فيه شيء من العمومية: ان شعبا بأسره لا يواجه المخاطر الرهيبة لأية ثورة فقط لأن المجتمع ظالم. بل عليه ان يصل إلى قناعة بأن هذا الظلم غير شرعي، غير مسموح به. بورقيبة وعبد الناصر كانا بالنسبة لشعبيهما آباء الاستقلال. اما بن علي ومبارك فليسا سوى عرابين محاطين بزمر مافياوية.
- هل هناك أيضا عوامل سوسيولوجية؟
- التعبير عن الحاجة إلى الفردية يقترن بولادة الوجه الحديث للفرد. الفرد، من هو؟ انه الموظف والاستاذ الجامعي والطبيب والمهندس. انه ايضا، شيئا فشيئا، العامل في المصنع. انه فاعل اجتماعي جديد، ولد بمبضع الجراح، وتحت الضغط الكولونيالي، وانطلاقا من تفجّر البنى التقليدية، القبلية منها والمدينية والقروية على حدّ سواء. قبل بزوغ هذا الفرد، لا معنى للمطالبة بالحرية الفردية، فالزعيم التقليدي يتكلم من أجل اهله ويقول كل شيء. ومع بزوغ الفرد، بدأت تظهر تطلعات جديدة، وتعبر عن نفسها. في العالم العربي، هذه التطلعات خرقت الأوساط الدينية، وقد أدت بدءا من نهاية القرن التاسع عشر، إلى قيادة العالم العربي نحو الاصلاح الديني، الذي بدوره سوف يلهم القادة الأول للحركة الوطنية في بداية القرن العشرين. آنذاك ساد السؤال: كيف يمكننا طرد المحتل؟ فكان الجواب: بسرقة سرّ تفوقه، أي بالانفتاح على فكر التنوير، أو برفض هذا السر والتقوقع على الأصولية الدينية. الحركة الوطنية هل ستكون على قاعدة علمانية ام اصولية دينية؟ التاريخ حسم الأمر وربح الوطنيون العلمانيون الجولة. في تلك الفترة، قام المثقف المصري الكبير عبد الله النديم بصياغة هذه الجملة الشهيرة: "المستعمِر هو في الآن عينه عدونا واستاذنا". واثناءها ايضا ولد حزب "الوفد" في مصر، وحزب الدستوري الجديد في تونس، وحزب الاستقلال في المغرب، وحزب البعث في سوريا والعراق، وجميعهم دعوا إلى فصل الدين عن السياسة، وفصل المجال العام عن المجال الخاص، والمساواة بين المواطنين، مهما كان دينهم، والتقدم الحثيث لوضع المرأة.
- ان آباء الاستقلال نشأوا كلهم وسط هذا المناخ. فهل عزّزوا الفرد أم حجروا عليه؟
- خلال فترة صعود الدولة الوطنية كانت التطلعات الفردية للحرية والتطلعات الجماعية نحو الاستقلال تتشابك في ما بينها. كان الفرد فيها يكتسب شعورا اضافيا بالكينونة، نوعا من الكرامة الباعثة على الغبطة، وهو يتقاسمها مع مجمل مواطنيه. ولكنه، بالمقابل، يقوم بذلك باسم الوحدة الوطنية، ووصاية الزعيم، البطل الكاريزماتي. اما الخطأ التاريخي الذي لا يغتفر، والذي ارتكبه مجمل هؤلاء القادة، فهو مصادرتهم هذا السند الشعبي لصالحهم، واحتكارهم لكل المبادرات السياسية وقمع النوايا الديموقراطية الصاعدة للطبقات المتوسطة والشعبية. هكذا تمكنت جدلية الفساد والبؤس من الاستقرار، لتجرّ من بعدها خيبات متلاحقة. ومع رحيل الآباء المؤسسين، أدت هذه الجدلية إلى نزع الشرعية عن ورثتهم. لحق ذلك مرحلة طويلة من اليأس والعجز، ازدهرت اثناءها الاحزاب الاصولية الداعية إلى عودة الدولة الدينية. الثورتان التونسية والمصرية أنهتا هذا العهد بالتحديد (...)
الصفحات
▼
الأحد، 13 فبراير 2011
أيها المتضامنون... ضدكم
محمد علي مقلد - صيدا
ما يجري في تونس ومصر كان ينبغي، حسب منطق التاريخ الحديث، أن يحصل قبل ذلك، في مرحلة الاستقلالات أو قبل ذلك (مع مجيئ نابليون إلى مصر مثلا). فما طرحه التاريخ على الأمة العربية وعلى سواها من دول العالم هو أن الحضارة الرأسمالية الزاحفة للتمدد على كل الكرة الأرضية، وبعد ذلك نحو أعماق البحار وإلى أعالي السماوات، هذه الحضارة عرضت علينا، نحن العرب كما على سوانا، الدخول إلى رحابها، بالقوة والاحتلال المباشر كما في الهند أو في الصين، أو بالسلم والحذو حذوها كما في اليابان.
العالم العربي اختار أن يرد سلبا على هذا العرض، رافضا الدخول في التاريخ الحديث، وكانت له مبرراته وذرائعه، وعلى رأسها الاستعمار والصهيونية، الذريعتان اللتان باسمهما مارس الحكام العرب كل صنوف القهر والاستبداد في حق شعوبهم. ثم جاء ما يتناغم مع الذرائع حين قامت الثورة البلشفية الاشتراكية التي دعت إلى محاربة الرأسمالية وإلى بناء النظام الاشتراكي على أنقاضها، ثم حين قامت الخمينية لتعلن الحرب على الشيطان الأكبر.
ما يجري اليوم في مصر وتونس، وما سيحصل في سواهما بقوة التاريخ، هو نقد ذاتي قاس لمرحلة عدت ناصعة في تاريخنا، لكنه ليس نقدا انقلابيا على طريقة أصحاب القبعات العسكرية ولا على طريقة العمائم، إنه نقد يحفظ لعبد الناصر مجد نهوض عربي عارم، ولليسار مجد تضحيات من أجل القيم الكبرى، وللحركة القومية العربية بناصرييها وبعثييها وشيوعييها وإسلامييها مجد مواجهات كبرى مع "الاستعمار والصهيونية والرجعية".
النقد التونسي المصري لا ينقلب على هذه الأمجاد، بل على الاستبداد الذي مورس بحق الشعوب العربية باسم هذه الأمجاد. ذلك أن باب الدخول في الحضارة الحديثة، إن جاز اختصاره في كلمة، هو نهاية عصر التوريث السياسي، نهاية عصر الممالك والأمبراطوريات والسلاطين، وبداية عصر الحريات والديموقراطية وحقوق الإنسان، ومن المؤسف أن تكون مرحلة الأمجاد الناصرية القومية اليسارية قد تأسست على حكم التوريث والقضاء على بذور الديموقراطية الفتية في حينها.
العالم العربي ظل وحده على الكرة الأرضية محكوما بالوراثة. حتى في الأنظمة التي كانت تعتمد الانتخابات كان يتم اختيار الحاكم فيها بالوراثة أو بالتمديد أو بالتجديد، أو بانقلاب الشقيق على الشقيق والضابط على الضابط والمعمم على المعمم، أسماء مختلفة لمسمى واحد هو التمسك بسلطة "إلى الأبد"، سلطة كتبت أبديتها بأحرف من نار وحبرها من دماء الشعوب وعرقها. انظروا إلى الأمة من المحيط إلى الخليج، فيها أكبر المعمرين من الحكام، فيها عميد الحكام في العالم، وحكامها يخيرون شعوبهم بين اثنين : إما حكمهم الأبدي وإما الحروب الأهلية.
ذريعتنا، نحن شعوب الطوق، إسرائيل. لنقل جدلا، نعم. إسرائيل التي تتجسد فيها كل قبائح التاريخ السياسي، العنصرية والتوسعية والعدوانية والشوفينية والإجرام، الخ. لكن ما علاقة إسرائيل بإمعان حاكم السودان في تفتيت بلده أو في إمعان الصومال في التقهقر نحو القرون الوسطى، أو في اليمن حيث الرغبة جامحة في التمسك بالبداوة والقبيلة والعشيرة على حساب القانون، أو في الجزائر والصومال والسودان والعراق حيث الحروب الأهلية هي الخيارات الوحيدة المتاحة أمام الشعوب، إذا لم يبق الحاكم حاكما. حتى الحرب الأهلية في لبنان هي بنت هذا العقل ذاته، عقل الاستبداد الأبدي الذي يمارسه علينا سياسيون خارجون على كل قانون، عقل الاستبداد العربي الذي لم يرضه أن تقوم ديموقراطية في هذا الشرق وتهدد عروشهم الموروثة.
في مصر، كما في تونس، لم ترتفع راية من تلك التي كانت ترتفع في التظاهرات اليسارية أو القومية أو تظاهرات الإسلام السياسي، لا الاشتراكية هي الحل ولا الإسلام هو الحل ولم نسمع تنديدا بأحد أو بدولة خارجية. مسألة واحدة جمعت الثوار : الحرية ودولة القانون والمؤسسات.
في مصر، كما في تونس، لم نلحظ تنافسا على مسرح الأحداث، بل قيادة مستترة تشبه تلك التي وجهت الثورة الفرنسية، قيادة قد تكون مغمورة وقد تكون مخضرمة وقد تكون متعددة المنبت، لكنها طالعة بالتأكيد من شعور عارم بالوحدة الوطنية، أي بالانتماء إلى وطن هو تونس، وهو مصر، وفي غمرة هذا الانتماء تذوب الفوارق والاختلافات كلها من أجل هم واحد أوحد : دولة عصرية تعلن نهاية عصر التوريث السياسي.
في مصر، كما في تونس، تجمّع وعي سياسي جديد، بالفايسبوك والنضال الإلكتروني وليس بمكبرات الصوت والسبابات والخطابات الحماسية والشحن العاطفي الشوفيني ضد عدو خارجي. بل إن الثورتين عزمتا، لأول مرة في تاريخ الأمة العربية، أن تصوبا على عدو، بل على خصم داخلي، ولأول مرة في تاريخنا تعلن جماهير بمئات الآلاف سأمها من الخطاب الأجوف الذي يقوم عصبه على نظرية المؤامرة، وإصرارها على أن الأزمات ذات أسباب داخلية بالدرجة الأولى وأن حلولها ينبغي أن تبدأ من الداخل.
إنها إذن ثورة من أجل الديموقراطية، غابت عنها الشعارات الكبرى المتعلقة بالقضية الفلسطينية والصراع مع الاستعمار والإمبريالية. إنها ثورة بسيطة تختصر مطالبها بتأسيس دولة عصرية تقوم على تداول السلطة: دولة القانون والمؤسسات والعدالة والكفاءة وتكافؤ الفرص، الخ.
الذين يتضامنون مع الثورتين التونسية والمصرية، خارج تونس ومصر، يسقطون عليهما مفاهيم وأهدافا من خارج سياقهما، وأحيانا يقيسونهما بعكس ما يريده أهل الثورتين، وقد ظهر ذلك التضامن خجولا أحيانا وسافرا أحيانا، لكنه تضامن لم يعبأ به اهل الثورتين، بل لعل من غير المبالغة القول إن بعض هذا التضامن كان مسيئا للثورة وعده الثوار مساسا بالسيادة الوطنية وتدخلا في الشؤون الداخلية (التضامن الإيراني والتصريحات الأميركية وبعض التضامن اللبناني مثلا).
هي ثورة جديدة حقا، بل هي الثورة الوحيدة الحديثة التي قامت في كل أنحاء الأمة العربية. كل ما عداها وما سبقها من "ثورات" لم يكن سوى انقلابات عسكرية أو عمائمية كما حصل في إيران الخمينية، ذلك لأن الثورة تعني أول ما تعني، ليس فقط تغيير الطقم الحاكم، بل تغيير في النظام الاقتصادي الاجتماعي، ومن باب أولى تغيير في بنية النظام السياسي، وقد تكون هذه الانقلابات قد قامت بتغييرات كثيرة لكنها جددت أنظمة الاستبداد وضرب الديمقراطية.
إنها ثورة جديدة حقا لأنها تفتح الآفاق واسعة أمام انتقال بلدان الأمة كلها من أنظمة الوراثة إلى أنظمة ديموقراطية. ذلك يعني أن هذا المجد لا يستحقه إلا الديموقراطيون، أفرادا وأحزابا وأنظمة. أما الأحزاب الشمولية المعادية للديموقراطية، وأنظمة الحزب الواحد، وأنظمة قمع الحريات فلا يحق لها حتى التضامن مع الثورتين، لأنهما ثورتان ضد الاستبداد، ضد كل أنواع الاستبداد السياسي والديني والعسكري الخارجي والداخلي، أي ضد من يتضامن معها من هؤلاء المستبدين.
وحده جيل الشباب هو صاحب الثورة، ولن يسمح بأن ينضم إليه إلا من عمل على تنظيف سجله الاستبدادي بالنقد الذاتي الشجاع للمرحلة القومية الشوفينية البعثية والناصرية والشيوعية والإسلاموية.
ما يجري في تونس ومصر كان ينبغي، حسب منطق التاريخ الحديث، أن يحصل قبل ذلك، في مرحلة الاستقلالات أو قبل ذلك (مع مجيئ نابليون إلى مصر مثلا). فما طرحه التاريخ على الأمة العربية وعلى سواها من دول العالم هو أن الحضارة الرأسمالية الزاحفة للتمدد على كل الكرة الأرضية، وبعد ذلك نحو أعماق البحار وإلى أعالي السماوات، هذه الحضارة عرضت علينا، نحن العرب كما على سوانا، الدخول إلى رحابها، بالقوة والاحتلال المباشر كما في الهند أو في الصين، أو بالسلم والحذو حذوها كما في اليابان.
العالم العربي اختار أن يرد سلبا على هذا العرض، رافضا الدخول في التاريخ الحديث، وكانت له مبرراته وذرائعه، وعلى رأسها الاستعمار والصهيونية، الذريعتان اللتان باسمهما مارس الحكام العرب كل صنوف القهر والاستبداد في حق شعوبهم. ثم جاء ما يتناغم مع الذرائع حين قامت الثورة البلشفية الاشتراكية التي دعت إلى محاربة الرأسمالية وإلى بناء النظام الاشتراكي على أنقاضها، ثم حين قامت الخمينية لتعلن الحرب على الشيطان الأكبر.
ما يجري اليوم في مصر وتونس، وما سيحصل في سواهما بقوة التاريخ، هو نقد ذاتي قاس لمرحلة عدت ناصعة في تاريخنا، لكنه ليس نقدا انقلابيا على طريقة أصحاب القبعات العسكرية ولا على طريقة العمائم، إنه نقد يحفظ لعبد الناصر مجد نهوض عربي عارم، ولليسار مجد تضحيات من أجل القيم الكبرى، وللحركة القومية العربية بناصرييها وبعثييها وشيوعييها وإسلامييها مجد مواجهات كبرى مع "الاستعمار والصهيونية والرجعية".
النقد التونسي المصري لا ينقلب على هذه الأمجاد، بل على الاستبداد الذي مورس بحق الشعوب العربية باسم هذه الأمجاد. ذلك أن باب الدخول في الحضارة الحديثة، إن جاز اختصاره في كلمة، هو نهاية عصر التوريث السياسي، نهاية عصر الممالك والأمبراطوريات والسلاطين، وبداية عصر الحريات والديموقراطية وحقوق الإنسان، ومن المؤسف أن تكون مرحلة الأمجاد الناصرية القومية اليسارية قد تأسست على حكم التوريث والقضاء على بذور الديموقراطية الفتية في حينها.
العالم العربي ظل وحده على الكرة الأرضية محكوما بالوراثة. حتى في الأنظمة التي كانت تعتمد الانتخابات كان يتم اختيار الحاكم فيها بالوراثة أو بالتمديد أو بالتجديد، أو بانقلاب الشقيق على الشقيق والضابط على الضابط والمعمم على المعمم، أسماء مختلفة لمسمى واحد هو التمسك بسلطة "إلى الأبد"، سلطة كتبت أبديتها بأحرف من نار وحبرها من دماء الشعوب وعرقها. انظروا إلى الأمة من المحيط إلى الخليج، فيها أكبر المعمرين من الحكام، فيها عميد الحكام في العالم، وحكامها يخيرون شعوبهم بين اثنين : إما حكمهم الأبدي وإما الحروب الأهلية.
ذريعتنا، نحن شعوب الطوق، إسرائيل. لنقل جدلا، نعم. إسرائيل التي تتجسد فيها كل قبائح التاريخ السياسي، العنصرية والتوسعية والعدوانية والشوفينية والإجرام، الخ. لكن ما علاقة إسرائيل بإمعان حاكم السودان في تفتيت بلده أو في إمعان الصومال في التقهقر نحو القرون الوسطى، أو في اليمن حيث الرغبة جامحة في التمسك بالبداوة والقبيلة والعشيرة على حساب القانون، أو في الجزائر والصومال والسودان والعراق حيث الحروب الأهلية هي الخيارات الوحيدة المتاحة أمام الشعوب، إذا لم يبق الحاكم حاكما. حتى الحرب الأهلية في لبنان هي بنت هذا العقل ذاته، عقل الاستبداد الأبدي الذي يمارسه علينا سياسيون خارجون على كل قانون، عقل الاستبداد العربي الذي لم يرضه أن تقوم ديموقراطية في هذا الشرق وتهدد عروشهم الموروثة.
في مصر، كما في تونس، لم ترتفع راية من تلك التي كانت ترتفع في التظاهرات اليسارية أو القومية أو تظاهرات الإسلام السياسي، لا الاشتراكية هي الحل ولا الإسلام هو الحل ولم نسمع تنديدا بأحد أو بدولة خارجية. مسألة واحدة جمعت الثوار : الحرية ودولة القانون والمؤسسات.
في مصر، كما في تونس، لم نلحظ تنافسا على مسرح الأحداث، بل قيادة مستترة تشبه تلك التي وجهت الثورة الفرنسية، قيادة قد تكون مغمورة وقد تكون مخضرمة وقد تكون متعددة المنبت، لكنها طالعة بالتأكيد من شعور عارم بالوحدة الوطنية، أي بالانتماء إلى وطن هو تونس، وهو مصر، وفي غمرة هذا الانتماء تذوب الفوارق والاختلافات كلها من أجل هم واحد أوحد : دولة عصرية تعلن نهاية عصر التوريث السياسي.
في مصر، كما في تونس، تجمّع وعي سياسي جديد، بالفايسبوك والنضال الإلكتروني وليس بمكبرات الصوت والسبابات والخطابات الحماسية والشحن العاطفي الشوفيني ضد عدو خارجي. بل إن الثورتين عزمتا، لأول مرة في تاريخ الأمة العربية، أن تصوبا على عدو، بل على خصم داخلي، ولأول مرة في تاريخنا تعلن جماهير بمئات الآلاف سأمها من الخطاب الأجوف الذي يقوم عصبه على نظرية المؤامرة، وإصرارها على أن الأزمات ذات أسباب داخلية بالدرجة الأولى وأن حلولها ينبغي أن تبدأ من الداخل.
إنها إذن ثورة من أجل الديموقراطية، غابت عنها الشعارات الكبرى المتعلقة بالقضية الفلسطينية والصراع مع الاستعمار والإمبريالية. إنها ثورة بسيطة تختصر مطالبها بتأسيس دولة عصرية تقوم على تداول السلطة: دولة القانون والمؤسسات والعدالة والكفاءة وتكافؤ الفرص، الخ.
الذين يتضامنون مع الثورتين التونسية والمصرية، خارج تونس ومصر، يسقطون عليهما مفاهيم وأهدافا من خارج سياقهما، وأحيانا يقيسونهما بعكس ما يريده أهل الثورتين، وقد ظهر ذلك التضامن خجولا أحيانا وسافرا أحيانا، لكنه تضامن لم يعبأ به اهل الثورتين، بل لعل من غير المبالغة القول إن بعض هذا التضامن كان مسيئا للثورة وعده الثوار مساسا بالسيادة الوطنية وتدخلا في الشؤون الداخلية (التضامن الإيراني والتصريحات الأميركية وبعض التضامن اللبناني مثلا).
هي ثورة جديدة حقا، بل هي الثورة الوحيدة الحديثة التي قامت في كل أنحاء الأمة العربية. كل ما عداها وما سبقها من "ثورات" لم يكن سوى انقلابات عسكرية أو عمائمية كما حصل في إيران الخمينية، ذلك لأن الثورة تعني أول ما تعني، ليس فقط تغيير الطقم الحاكم، بل تغيير في النظام الاقتصادي الاجتماعي، ومن باب أولى تغيير في بنية النظام السياسي، وقد تكون هذه الانقلابات قد قامت بتغييرات كثيرة لكنها جددت أنظمة الاستبداد وضرب الديمقراطية.
إنها ثورة جديدة حقا لأنها تفتح الآفاق واسعة أمام انتقال بلدان الأمة كلها من أنظمة الوراثة إلى أنظمة ديموقراطية. ذلك يعني أن هذا المجد لا يستحقه إلا الديموقراطيون، أفرادا وأحزابا وأنظمة. أما الأحزاب الشمولية المعادية للديموقراطية، وأنظمة الحزب الواحد، وأنظمة قمع الحريات فلا يحق لها حتى التضامن مع الثورتين، لأنهما ثورتان ضد الاستبداد، ضد كل أنواع الاستبداد السياسي والديني والعسكري الخارجي والداخلي، أي ضد من يتضامن معها من هؤلاء المستبدين.
وحده جيل الشباب هو صاحب الثورة، ولن يسمح بأن ينضم إليه إلا من عمل على تنظيف سجله الاستبدادي بالنقد الذاتي الشجاع للمرحلة القومية الشوفينية البعثية والناصرية والشيوعية والإسلاموية.