كمال جنبلاط مات.. بل شُبّه لهم
لكم حيرني إلحاح وجيه من قريتي على الحديث مع والدي عن كمال جمبلاط. كلما كنا عائدين من دكان القرية، قبيل الغروب، الى بيوتنا، وأنا متعلق بذيل أبي خوفاً، من لا شيء، لم يكن في قرانا وقتها ما يخيف سوى الأفعى والضبع التي لم تقتل ولم تأكل أحداً.. وهناك دائماً خوف عميق من اسرائيل، والظالم، ثم حدث ما حدث ويحدث.. وصار الواحد منا يخاف من الآخر، جاره أو شقيقه، أكثر من الضبع.. أما الواوية والثعالب فقد (كانوا) حرامية لطفاء. ونشتاق إلى أصوات كورالهم الآن أكثر من الماضي.
وكان لي ترب يجيء من بيروت صيفاً من أجل التين والعنب وأعشاش العصافير، يعرف في الأخبار أكثر مني، ويتحدث كما سمع من جاره، عن كمال جنبلاط، وأنه نحيف جداً، ضعيف الجسد قوي العقل جداً، وعنيد جداً، ومحيِّر جداً، وإن بدا حائراً جداً.. ثابت مقيم على الزمان المطلق، على المطلق :« بأني أزل». «أنا المطلق».. متغير أكثر من المتغير، حيث يصبح المتغير حافظاً للثابت، ونسبي أكثر من النسبية، ومن أي نسبة، طالما أن النسبية هي شرط المطلق، والمقام الذي يستبين به المطلق لأنه يباينه، ليغدو المباين، المختلف، شرطاً وجودياً ومعرفياً لمباينه.. هذه تعبيراتي الآن عما فهمته قبل ستين سنة أو أكثر بقليل، من حديث تربي.. بعد عشرين سنة أو أكثر، عندما قرأت وسمعت ورأيت وبدأت أسأل، وحلمت بفلسطين والعدالة الاجتماعية والتقدم والحرية، وأنا على حذر شديد، ولأسباب (حوزوية) من أن أقول (اشتراكية) لأنها مربوطة بالإلحاد. ولكني في الفقراء، هنا وهناك، ومنهم، والنجف كحوزة، أكدت لي أن المسافات الطبقية مسلمة تاريخية، ولم تستطع تدجيني وإن لطفتني، مع حسن نيتي وميلي الى السلام، وعشقي للنجف والكوفة والبصرة، والعراق حتى كردستان.. وعندما سقطت أو زمّت أو انكشفت، احزاب الكادحين، بقي الكادحون يكدحون. صاروا يكدحون أكثر ويأكلون أقل. وهنا يحلو أن أنتظر كمال جمبلاط، ولكنه لا يأتي، قد يأتي وقد لا يأتي. وأنا لن أصبر طويلاً، لأن المنظور الطبقي لم يعد في وعيي مدخلاً مجدياً في حل المسألة، وصارت قناعتي أن التنوير (أي العصرنة) هي الحل.
الجذاب
في شبابي.. شدني كمال جنبلاط، شداً خفيفاً، كنت أخشى على إيماني، من أهل الأسئلة والقلق المعرفي، لا من أهل الأجوبة الإلحادية السهلة. ولا أرى ان الخلاص الأخروي، فضلاً عن الدنيوي، محصور بجماعتي المذهبية أو خياراتها العقدية.. وكنت حائراً- انتهت حيرتي- بهذه المليارات من البشر، كيف تذهب جميعها الى الجحيم، من دون تفريق بين صالح وطالح، أو بين مبدع ومجرم؟ وهو، كمال جنبلاط، الزعيم العالم، درزي، وأنا هاني فحص طالب العلم الآن وغداً والى الأبد، شيعي إثنا عشري. درزي دلف من الإثنا عشرية الى الإسماعيلية فوصل الى إخوان الصفا، ووجد في رسائلهم فضاء معرفياً مركباً، متعدد الآفاق والأمداء، يتعدد إذ يتوحد، ويتوحد إذ يتعدد.. وطار الى الهند جامعاً كل شيء في بقجة الحب، من دون أن يتخطى صين (لاوتسو) وما قبله وما بعده، عابراً حدود (الفتوحات المكية) مطلاً منها على بودا والطاو والشنتو وبراهما، كائناً كل شيء في لا شيء، الذي إمّا بلغته، وهداك الله، عرفت وعاينت الشيء في اللاشيء.. وعرفت الواحد في كثير مطابقاً لكثير في واحد..
وعندما تحرر كمال جنبلاط، أو تحرروا (رهطه الموحدون) بالطريقة، جانحين الى الحقيقة، ليدركوا وإن لم يصلوا، وظلوا في مسيس الحاجة الى أن يدركوا، لأن كل إدراك هو إغراء أو إلزام بإدراك آخر، وإلا ذوى، واتخذوا اسماً لهم من التوحيد.. وعاشوا، حائرين حيرة الذي يراود المعارف، قلقين قلق الباحث عن تعريف.. فمرة هنا ومرة هناك ومرة هنالك. وهم هنا دائماً، في هذا المشرق، المطرز بالثقافات والرسالات واللغات والهجرات والإبداعات والبدع والهرطقات والفلسفات واللوحات والأيقونات والشرائع والأساطير والخرافات والمعلقات، الذي- المشرق- ينتظر يومياً، شمساً، تسافر الى الغرب يحمّلها شكاواه وأوجاعه وأحلامه وأسئلته وأشواقه، وينتظر عودتها حاملة له شيئاً من حقيقة لا تنمو إلا بالتواصل والتبادل.
موجودون في هذا الإيمان الذي كان التوحيد الإبراهيمي ناظمه، وكانت التوحيديات اللاحقة تجليات ومسالك للخلق، كل الخلق، الى الخالق.. وفي هذا الإسلام، الذي لو كان فيه سائد غالب قاهر، لكان يابساً، لا مكان فيه لشك لا يحلو اليقين إلا به.. وفي هذه العروبة، عروبة الانتماء، العروبة التي ترقى الى مستوى الوظيفة الحضارية، عندما تستخدم وجدانها ومخزونها المعرفي وبصيرتها في تجديد وعيها بذاتها وبالآخر.. وهم الدروز الموحدون.. وهو كمال جنبلاط، في هذا اللبنان البدعة البديعة التي يحسن للعرب جميعاً أن يتبعوها لا أن يزعزعوها. وفي هذا الجبل، ذي العمة البيضاء شتاءً، والعمة الخضراء ربيعاً وصيفاً.. وانتظار المطر خريفاً.. وتد الوطن، الذي به يثبت على الهزاهز، لأنه القمة التي يرى الناظر منها كل شيء دونه، ويرى الناظر اليها كل شيء فوقه. وهو، كمال جنبلاط، تقدمي، وأنا أريد أن أتقدم.. قال لي رسول الله (ص) «من تساوى يوماه فهو مغبون».. وأرى عوائق في وجهي وعلى طريقي، عرفت ما سموه لي إقطاعاً قياساً على مصطلح الغرب وتاريخه، قلت اسلم بأنه إقطاع ولكنه إقطاع مشرقي، على طريقة ماركس في الكلام عن أسلوب الإنتاج الآسيوي. ولكن المفهوم الطبقي لا يصلح وحده للإحاطة بالحقيقة ورسم الاحتمال أو مسار حركة التاريخ والمجتمع، والاختيار الشخصي، الفرادة، حاسمة في كثير من الأحيان، وكثيرون من أسلاف كمال جنبلاط، استمتعوا وأمتعونا باختيارات شجاعة سميت خيانات طبقية. واتفق أهل النظر ورضي أهل النضال بهذا الاتفاق، على أن الكادحين ليسوا هم الذين يبدعون نظريات خلاصهم، لأن أسباب ومستلزمات المعرفة لا تتوفر لهم، فيبدعها أولئك الذين هم فوق ولكن بصائرهم مفتوحة وضمائرهم عاملة دائبة.. من هذا الصنف كان كمال جنبلاط.
جان فولاذ أو بولاد
لاحقاً، وعندما سمعته بعيني بليغاً، ورأيته بأذني صامتاً، كان يرخي عينيه في صدره، كأنه سليل الحلاج، يرى الى النور الداخل.. تذكرت حيرتي في تفسير لقبه (جنبلاط). وكان عليّ أن أنتظر الذهاب الى طهران بعد نجاح الثورة لأتعلم الفارسية لزوم الثورة، التي تمحو ذاتها إن لم تجددها، لأفكك اللقب (جان بولاد) الفولاذي.. أو الروح الفولاذية.. القوي.. الصلب واللين الملمس. وعندما قتل كمال جنبلاط، كان بإمكانه أن لا يقتل، وأنا هنا أقترب من الاعتزال وأظنه أقرب الى الاعتزال مني، لأنه عقل عقلاني، أي يؤثر العقل الذي خلقه ربه وقال له: أقبل فأقبل وأدبر فأدبر (لأنه يعلم حقيقة الألوهة) فقال له: اي قال الله للعقل: إذهب، بك أثيب وبك أعاقب.. ولكنه كان يخاف أن يموت، فبقي على فولاذه، وقتل ليبقى حياً. ولكن لا تشعرون. هم لا يشعرون.. أي الذين قتلوه.
مواعيد وجدل
اقتربت منه وإليه من حقل التبغ.. وسهر الليالي وعذاب الأيام ومرارة الطعام وظلم الظلاّم وآكلي الحرام، ومستغلي الأنام. وعشت معه أياماً وهو مهتم ومهموم ومستبشر بترشيحي للانتخابات الفرعية في النبطية. مستأنساً برأي ورؤية محسن ابراهيم وحسيب عبد الجواد لهذا الأمر.. واعتذرت وأسلفته في بيان اعتذاري حباً وشكراً. فتكرم بالتنويه بي في مؤتمر الحزب العام بعدها.. أما أين وجدته أو شاهدته أو عاينته أو واعدته أكثر، ففي فلسطين، مع أبي عمار وأبي جهاد وسائر الأشباه والنظائر، يحب ويختلف، يحب ويخالف، يحب ويعترض، يحب ويخلص.. ووجدته في الحبكة الحائرة المحيرة بين السياسي والثقافي، بين السياسي المحترف، والمثقف القلق، الذي يرى ولا يكتفي بالنظر.
كيف وفـّق.. وفرض ظله هنا وهناك؟ حتى شعرنا بفراغ ثقافي في المجال السياسي، وبفراغ سياسي في المجال الثقافي، بعد أن تجرأ الأموات على حياته فاستقر في حياتنا. وكيف وفق؟ وبهذا المستوى الدرامي المفاجئ والذي لا يمكن تفسيره أحياناً.. وأنا لم أقطع في الثقافة ما قطع من مسافة. أما في السياسة فما زلت وسوف أبقى في أول الدرب. ومع ذلك فإن الحيرة تأكلني والقلق يساورني في كل شيء. لولا أني ثابت على أصول وأسس وأحلام، معضوداً بواقعية، وحس نقدي، ولا أصل الى واقعيته، لأني أقل قوى عضلية ونفسية منه، لأنه لم يكن يقبل على أكل اللحم وكان مفتوناً بالقمح الأخضر، وأحبّ اليوغا وأحبّ التأمل وأحبّ المعنى ومعنى المعنى.. أحبّ الحب وأنا أسلّم بأنه دين يدان به. ولكني أخاف من الذهاب الى الهند، ولا يمكن أن أتصور نفسي في شوارع نيويوك، وأحب القاهرة التي أحبها وأحبته كثيراً، وأهديه سلاماً، من ميدان التحرير، وأتذكر أنه في افتتاح دورة نيابية في مجلس الشعب المصري أواسط السبعينيات، وفي ذكرى وفاة جمال عبد الناصر (28 سبتمبر) ذكرى الانفصال أيضاً، وكنت في القاهرة، توجه الرئيس المصري الى كمال جنبلاط الجالس في الصف الأمامي وقال: يشرفني حضور رفيق درب جمال عبد الناصر، المناضل الكبير الاستاذ كمال جنبلاط. وأراه الآن في ميدان التحرير، وفي أمكنة اخرى كثيرة، لا يغادر إلا عندما يطمئن الى أن الديموقراطية والعدالة في البلاد العربية قد وجدتا طريقهما الصعب والمتعرج والباهظ.
القتل وموجباته
هذا الرجل.. من هذا البلد الصغير، من هذه الجماعة المذهبية الصغيرة.. من هذا الإرث الأرستقراطي الجميل وهذا الحنان الإنساني العميق. هذا اليتيم (وفي لغتنا اليتم هو الفرادة) يتجاوز ظروفه ويصبح شخصية عالمية!
إذن فيجب أن يقتل. لأن لبنان المطلوب يجب أن يكون بلا ذاكرة ولا حلم. وهنا تذكرت السيد موسى الصدر. سبحان الله! وهذا لبنان الآن على قلقه تصب ذاكرته في أحلامه وتنبع أحلامه من ذاكرته. ومن غده. من مشهد الربيع العربي الذي في كل وردة من وروده لون وعطر من لبنان. ووعد للبنان بلبنان. للعرب بلبنان. وللبنان بالعرب. وللبنان والعرب والربيع.. لكمال جنبلاط الذي نلقي على ضريحه كلماتنا. فإذا ما لامسته تفتحت زهوراً من بابونج وزوفى وجوري وإكليل الجبل وشعر كثير الشعر وإن كان أقل شعراً من الشاعر «كيف لهمس عطر الياسمين، مغنى الشعراء، أن يكون إلا شمِّي وأحساسي به، عند فيض الشعر مني، أنا الجمال؟» كمال جنبلاط.. هذا الكون من الحب.
مات؟
ابداً.. لقد شُبّه لهم.
زعيم الحب
» وهل الدين إلا الحب» الإمام جعفر الصادق
العبور إلى جنبلاط
»ولكن في الصمت الذي لا يوصف، تحت الأنا المضمحل، تحت كومة الرماد، تسكن الذات الراسخة في ليل حبي» (ص 32).
» وضعت على باب قلبي مشكاتين» . (ص 49).
»سيكون طريق الحب مفتوحاً أبداً ، لكل من يريد التغلغل في حجرة الكنز» (ص 59).
هذا البحر من الحب، هذا الكون من الحب مات!! لا .. بل شُبّه لهم.
(أناندا) لكمال جنبلاط
»
يا حاصد النار من أشلاء، قتلانا منك الضحايا وإن كانوا ضحايانا
إن العيون التي طفَّأتَ أنجمها عجّلن بالشمس أن تختار دنيانا»
بدر شاكر السياب
أمير المعنى
» لأجلك عشت، لأجلك أعطيت، كما يعطى الفرح لكل الناس» (ص 28).
» ليس النسيان من الوردة سوى أريج محض، فالأغنية لا الشكل، هي روح القيثارة» (ص 64).
» أن تتأمـل ذاتـك، هكذا في العري الأعـظم، هو أن تكون في السكيـنة دون بـدء ودون ختام» (ص 66).
» أنت الحقيقة خلف ورقة الشجر، أنت غلاف الحياة في الثمرة الفجة» (ص 98).
عابر الزمان والمكان
» ليكن إدراكك بأني قلب القلب، بأني أزل، لم يقطع جسراً، بين ظاهر وباطن، لكن مغلِّف ذلك، بثوب مولاك، أنا المطلق.. أنا الكل، أنا الجزء أنا نور عينيك، أنا سمع أذنيك، أنا المستيقظ أبداً ».
أناندا (ص 100(.
الصفحات
▼
الخميس، 15 ديسمبر 2011
عادل عبد المهدي: فساد المجتمع لا يقل عن فساد الدولة
فساد المجتمع لا يقل عن فساد الدولة
لا نتناول هنا النظام الاخلاقي رغم انه جزء من الكل، فما يهمنا فساد العلاقات الاجتماعية المنتجة للقيم المادية والمعنوية والمسلكية. فـ"النظام" هو قدرة انتاج العلاقات بتدوير نفسها او ارقى منها. والمجتمع المصاب بالفساد هو عندما يتعطل "نظام" انتاج القيم البناءة والمنافع المتنامية. والكلام كله كقاعدة وظاهرة وليس كمواطنين ومجموعات.
مجتمعنا –كأساس- يأخذ اكثر مما يعطي، مما ورثناه.. ومن ثروة نقف عليها.. فاصبحنا اسرى لها، تتوقف الحياة بدونها. اننا نستورد مقومات عيشنا. نظامنا –كقاعدة- هو صراع لتقاسم البترودولار.. فالاغنياء قلة تأخذ اكثر واكثر.. والفقراء اغلبية تنقصهم الوسيلة، وعند توفرها تضغط اتجاهات الفرهدة والتمرد.. بلادنا تتراجع، فاختزلنا طموحاتنا وسلوكياتنا بالتحزب العشائري والطائفي والقومي.. والتعيش غير المنتج.. والتوظف ولو بشهادات مزورة باختامها.. او بمقومات مؤسساتها، التي –كظاهرة- باتت "مزورة" بالمعاني القياسية والعلمية.
اصبحنا –بالتعريف- نظاماً قسرياً اتكالياً تبريرياً ينظم علاقاته بالقوة والغش والتهديد من جهة.. واللاانتاجية وعدم الثقة والتسقيط والتلون والخنوع من جهة اخرى.. نتكل على الدولة المالكة لكل شيء.. المستقوية على مجتمعها. تصنعه ولا يصنعها. فتراجعت –كاتجاه- مقومات السمعة والخبرة والنزاهة لتحل مكانها قلة الكفاءة وسوء الاداء ونقص الامانة.. فنمت عناصر الاحباط وفقدان الثقة والامل. عندها سيتم الفساد باسم القيم والشعارات الكبرى بما فيها الدينية والوطنية.
هل جف شريان الحياة؟ نعم، عند النظر للسطح.. ولكن العراق –بعمقه- يشق طريقه.. وان ظهور الاصلاح والقسط سيخترق الفساد والظلم والاحتكار.. فوعي عوامل الاخير هو جزء من تمهيد الاول. فالمرجعية.. والمصلحون.. والجمهور المنتفض.. ينبهون للمخاطر. فالامة ما زالت تنبض بالحياة، وطاقاتها البشرية والمادية المبعثرة المبددة هائلة.. وتراثها عظيم وهي سائرة قطعاً لاعادة بناء نظامها المنتج للقيم والمكاسب.
"النظام" يرتبط بالدوافع والحقوق. وعندما تمسك الدولة بكل الحقوق، تنعدم كل الدوافع الايجابية. فالدولة ضيقة، والمجتمع منفتح.. والدولة غير قابلة للقسمة، لذلك الاستفراد والمحاصصة والفساد.. والمجتمع مركب قابل للتنوع والتعدد، لذلك المنافسة والشفافية والجدوى والمساحة المتاحة للجميع.
الخطوة الاولى للاصلاح.. نزع الاحتكار واعادة الحقوق للشعب وتمكينه وتمليكه وحمايته. ليعود الاساس النشاط والتعلم والعمل والابداع، وليس مجرد العيش على بطاقة تموينية او رعاية اجتماعية او وظيفة مقنعة.. ليستعيد المجتمع والشعب دورهما.. ولتكون الدولة خادمة وراعية لنشاطاتهما. دولة المواطن.. وواجب المسؤول الوحيد خدمته.
لا نتناول هنا النظام الاخلاقي رغم انه جزء من الكل، فما يهمنا فساد العلاقات الاجتماعية المنتجة للقيم المادية والمعنوية والمسلكية. فـ"النظام" هو قدرة انتاج العلاقات بتدوير نفسها او ارقى منها. والمجتمع المصاب بالفساد هو عندما يتعطل "نظام" انتاج القيم البناءة والمنافع المتنامية. والكلام كله كقاعدة وظاهرة وليس كمواطنين ومجموعات.
مجتمعنا –كأساس- يأخذ اكثر مما يعطي، مما ورثناه.. ومن ثروة نقف عليها.. فاصبحنا اسرى لها، تتوقف الحياة بدونها. اننا نستورد مقومات عيشنا. نظامنا –كقاعدة- هو صراع لتقاسم البترودولار.. فالاغنياء قلة تأخذ اكثر واكثر.. والفقراء اغلبية تنقصهم الوسيلة، وعند توفرها تضغط اتجاهات الفرهدة والتمرد.. بلادنا تتراجع، فاختزلنا طموحاتنا وسلوكياتنا بالتحزب العشائري والطائفي والقومي.. والتعيش غير المنتج.. والتوظف ولو بشهادات مزورة باختامها.. او بمقومات مؤسساتها، التي –كظاهرة- باتت "مزورة" بالمعاني القياسية والعلمية.
اصبحنا –بالتعريف- نظاماً قسرياً اتكالياً تبريرياً ينظم علاقاته بالقوة والغش والتهديد من جهة.. واللاانتاجية وعدم الثقة والتسقيط والتلون والخنوع من جهة اخرى.. نتكل على الدولة المالكة لكل شيء.. المستقوية على مجتمعها. تصنعه ولا يصنعها. فتراجعت –كاتجاه- مقومات السمعة والخبرة والنزاهة لتحل مكانها قلة الكفاءة وسوء الاداء ونقص الامانة.. فنمت عناصر الاحباط وفقدان الثقة والامل. عندها سيتم الفساد باسم القيم والشعارات الكبرى بما فيها الدينية والوطنية.
هل جف شريان الحياة؟ نعم، عند النظر للسطح.. ولكن العراق –بعمقه- يشق طريقه.. وان ظهور الاصلاح والقسط سيخترق الفساد والظلم والاحتكار.. فوعي عوامل الاخير هو جزء من تمهيد الاول. فالمرجعية.. والمصلحون.. والجمهور المنتفض.. ينبهون للمخاطر. فالامة ما زالت تنبض بالحياة، وطاقاتها البشرية والمادية المبعثرة المبددة هائلة.. وتراثها عظيم وهي سائرة قطعاً لاعادة بناء نظامها المنتج للقيم والمكاسب.
"النظام" يرتبط بالدوافع والحقوق. وعندما تمسك الدولة بكل الحقوق، تنعدم كل الدوافع الايجابية. فالدولة ضيقة، والمجتمع منفتح.. والدولة غير قابلة للقسمة، لذلك الاستفراد والمحاصصة والفساد.. والمجتمع مركب قابل للتنوع والتعدد، لذلك المنافسة والشفافية والجدوى والمساحة المتاحة للجميع.
الخطوة الاولى للاصلاح.. نزع الاحتكار واعادة الحقوق للشعب وتمكينه وتمليكه وحمايته. ليعود الاساس النشاط والتعلم والعمل والابداع، وليس مجرد العيش على بطاقة تموينية او رعاية اجتماعية او وظيفة مقنعة.. ليستعيد المجتمع والشعب دورهما.. ولتكون الدولة خادمة وراعية لنشاطاتهما. دولة المواطن.. وواجب المسؤول الوحيد خدمته.
عادل عبد المهدي: الدولة رجل أعمال فاشل
الدولة "رجل اعمال" فاشل
عندما تترهل الدولة، وتحتكر، وتفقد اية معيارية لجدوى اعمالها فانها تتحول الى رجل اعمال فاشل.. وتاجر فاسد.. وصناعي او زراعي او خدمي خاسر. ففي الوضع المعروف تقود الخسائر لتوقف نشاط رجل الاعمال.. اما الدول فهي لا تشهر افلاسها او تُصَادر،الا بمعاني اخرى.
والدولة التي تعتقد ان معيارية الجدوى تحققها الهيئات والرقابة واللجان والتعليمات والضوابط هي كالتاجر الفاشل الغارق في ديونه، يكرر اخطاءه، الى ان يعطله ويطرده الافلاس. فالمعيارية من داخلها لا تكفي.. لابد ان تكون من خارجها. فانت الاول والاطول والاذكى والاقوى عندما تحاكي نفسك.. ولن تعرف حقيقتك الا امام غيرك.. بل لا جدوى في المعيارية ان لم تكشف كيف تنجح واين تفشل في تقدمك وتراجعك عن الاخرين.. لذلك عندما نتكلم عن معيارية خارجية نقصد -من بين امور اخرى- اقتصاديات السوق، والمنافسة الداخلية والخارجية على حد سواء.
وضع الاتحاد السوفياتي -وقتذاك- تسعة معايير لجودة اعماله ونتاجاتها.. ووضعت الصين ضعف ذلك.. فنجحوا في فترات الحماس والرقابة الشديدة.. وحالما ضعفت القبضة الحديدية.. وبدأ الارهاق وامتيازات الدولة والتحايل والكذب وانجازات التقارير الرسمية، حتى انهارت معايير الكفاءة الداخلية.. وتكشفت الكلف العظيمة البشرية والمادية.. والاسس الرخوة التي تقف عليها.. فظهرت عوامل التفكك واضحة في الدولة السوفياتية والكتلة الشرقية معلنة "افلاسها" عبر تفككها، بينما سارعت الصين لتتعلم من التجربة.. فوضعت لاقتصادها -على الاقل- معايير خارجية ليس اقلها المنافسة ومعايير اقتصاديات السوق.. فحققت اعلى معدلات النمو والتقدم.
يخطىء من يعتقد ان الدولة بشكلها الحالي ستقدم حلاً تنموياً، ينقلنا من الترهل والعطل والفساد الى حالة نافعة ومنتجة.. فالدولة ليست مؤسسة حيادية عديمة المصلحة والنفعية لتشكيلات –ظاهرة وخفية- تعمل داخلها وخارجها.. فمنذ ان احتكرت البلاد تحولت الى "الشخص الاقتصادي" المتفرد.. فطردت اية منافسة وفقدت اية معيارية لقياس جدوى اعمالها.. فاشهر "افلاسها" داخلياً ودولياً منذ التسعينات.. واستمرت تراكم الخسائر والفساد والمديونيات.. ليدفع اثمانها وتبعاتها الشعب والاقتصاد والموازنة.. ولتعشعش "اقطاعات ادارية" و "مافيات" انانية، تعرف جيداً مصالحها والفوائد العظيمة التي تحققها من الازمات والحرمان والفوضى والفساد والعطل، لتتاجر بمآسي الناس.. رافعة الشعارات الكبيرة الاصلاحية والوطنية والقانونية.. لتعطل، بوعي او جهل، اي جهد لتصحيح المسارات. فالدولة "رجل اعمال" نافع لقلة داخلها وخارجها.. و"رجل اعمال" فاشل للشعب والبلاد.
عندما تترهل الدولة، وتحتكر، وتفقد اية معيارية لجدوى اعمالها فانها تتحول الى رجل اعمال فاشل.. وتاجر فاسد.. وصناعي او زراعي او خدمي خاسر. ففي الوضع المعروف تقود الخسائر لتوقف نشاط رجل الاعمال.. اما الدول فهي لا تشهر افلاسها او تُصَادر،الا بمعاني اخرى.
والدولة التي تعتقد ان معيارية الجدوى تحققها الهيئات والرقابة واللجان والتعليمات والضوابط هي كالتاجر الفاشل الغارق في ديونه، يكرر اخطاءه، الى ان يعطله ويطرده الافلاس. فالمعيارية من داخلها لا تكفي.. لابد ان تكون من خارجها. فانت الاول والاطول والاذكى والاقوى عندما تحاكي نفسك.. ولن تعرف حقيقتك الا امام غيرك.. بل لا جدوى في المعيارية ان لم تكشف كيف تنجح واين تفشل في تقدمك وتراجعك عن الاخرين.. لذلك عندما نتكلم عن معيارية خارجية نقصد -من بين امور اخرى- اقتصاديات السوق، والمنافسة الداخلية والخارجية على حد سواء.
وضع الاتحاد السوفياتي -وقتذاك- تسعة معايير لجودة اعماله ونتاجاتها.. ووضعت الصين ضعف ذلك.. فنجحوا في فترات الحماس والرقابة الشديدة.. وحالما ضعفت القبضة الحديدية.. وبدأ الارهاق وامتيازات الدولة والتحايل والكذب وانجازات التقارير الرسمية، حتى انهارت معايير الكفاءة الداخلية.. وتكشفت الكلف العظيمة البشرية والمادية.. والاسس الرخوة التي تقف عليها.. فظهرت عوامل التفكك واضحة في الدولة السوفياتية والكتلة الشرقية معلنة "افلاسها" عبر تفككها، بينما سارعت الصين لتتعلم من التجربة.. فوضعت لاقتصادها -على الاقل- معايير خارجية ليس اقلها المنافسة ومعايير اقتصاديات السوق.. فحققت اعلى معدلات النمو والتقدم.
يخطىء من يعتقد ان الدولة بشكلها الحالي ستقدم حلاً تنموياً، ينقلنا من الترهل والعطل والفساد الى حالة نافعة ومنتجة.. فالدولة ليست مؤسسة حيادية عديمة المصلحة والنفعية لتشكيلات –ظاهرة وخفية- تعمل داخلها وخارجها.. فمنذ ان احتكرت البلاد تحولت الى "الشخص الاقتصادي" المتفرد.. فطردت اية منافسة وفقدت اية معيارية لقياس جدوى اعمالها.. فاشهر "افلاسها" داخلياً ودولياً منذ التسعينات.. واستمرت تراكم الخسائر والفساد والمديونيات.. ليدفع اثمانها وتبعاتها الشعب والاقتصاد والموازنة.. ولتعشعش "اقطاعات ادارية" و "مافيات" انانية، تعرف جيداً مصالحها والفوائد العظيمة التي تحققها من الازمات والحرمان والفوضى والفساد والعطل، لتتاجر بمآسي الناس.. رافعة الشعارات الكبيرة الاصلاحية والوطنية والقانونية.. لتعطل، بوعي او جهل، اي جهد لتصحيح المسارات. فالدولة "رجل اعمال" نافع لقلة داخلها وخارجها.. و"رجل اعمال" فاشل للشعب والبلاد.