الأحد 25 ديسيمبر 2011
ياسين الحاج صالح
من يُقتَلون في سورية اليوم ومنذ تسعة شهور هم من العامة، الأكثر فقراً والأدنى حماية. هذا ما يوحِّدهم وراء أية فوارق ممكنة. ومن يُعطون الأوامر بالقتل ويخططون للقضاء على تمرد الفقراء هم أغنياء وأصحاب امتيازات، ومسلحون تسليحاً هائلاً. هذا ما يجمعهم، وما يحرِّكهم في مشروع القتل الجماعي للمحكومين الثائرين.
كثير من أدوات القتل التي يستخدمها الأغنياء هم فقراء، بمن فيهم أكثر «الشبيحة»، يقتلون فقراء مثلهم، ويحصل أن يُقتَل بعضهم في مواجهة أشباههم. لكن الأكيد أن ليس بين المقتولين أغنياء مُنعمون. هؤلاء محصنون بأسلحتهم المتفوقة، وبأموالهم الوفيرة، وبسور من الفقراء يفتدونهم «بالروح والدم»، وبامتلاكهم للدولة. لا شيء في المقابل يحمي عموم السكان في سورية: لا قضاء، ولا سلاح، ولا مال؛ ولا أخلاق حاكمين لا أخلاق لهم. ليس لهم غير تضامنهم، وقد أظهروا أشكالاً رائعة منه؛ وليس لهم غير الله، واللجوء السياسي إليه يسجل اتساعاً لا جدال فيه.
لكن ليس العنف المنفلت من كل عقال هو وحده ما مارسته طغمة الأغنياء الحاكمين ضد عموم المحكومين؛ بل بخاصة الكراهية. رأى كل مهتم أمثلة مريعة عنها: الدوس على قرويين عزّل، اللعب برأس رجل مسن بأحذية العساكر، الأشكال الفظيعة من التعذيب والإذلال كتلك التي تكلم عليها تقرير لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة قبل أكثر من شهر، ومن هذه اغتصاب أطفال (في حالة واحدة على الأقل جرى ذلك أمام عيني الأب، وفي حالة أخرى تعاقب ثلاثة من سفاحي الاستخبارات على اغتصاب طفل عمره 11 عاماً)، إطفاء السجائر في مؤخرات بعض المعتقلين، والخوزقة بأجسام خشنة؛ ومنها أيضاً إجبار الأعداء المفترضين على إعلان أن لا إله إلا بشـار وأخوه. وهذا الأخير أكثر من تعبير أقصى عن الكراهية، هو بالفعل قطع رأس معنوي لمن أُكرِهوا عليه.
والدلالة نفسها للشتم المفرط في الإقذاع الذي تمرس فيه أسافل عناصر الأمن في سورية (ولا يبدو أن بينهم غير الأسافل) ضد جميع من يقعون بأيديهم، وهو شتم لا يبدأ من الأم والأخت ولا ينتهي عند الدين.
والدلالة نفسها أيضاً لتفرغ وسائل الإعلام السورية، العامة و «المستقلة»، طوال أكثر من تسعة شهور للتحريض على الثورة وإشاعة كل أنوع الأكاذيب، وتعبئة الموالين للنظام ضد الثائرين وشحنهم بالكراهية والبغض لهم، وإطلاق عبارات من نوع رعاع وحثالة وجهلة ومتخلفين ومتعصبين وسلفيين وإرهابيين عليهم، مع انخفاض شديد في عتبة التلميحات الطائفية في وسائل الإعلام العامة، التي يموّلها عموم السوريين.
الغرض من حملات الكراهية والتحريض هذه هو خفض الحواجز الأخلاقية والمعنوية التي تحمي حياة عموم الثائرين وبيئاتهم الاجتماعية، وتالياً تسهيل قتلهم. فحياة الرعاع والمتعصبين والجهلة ليست مهمة، أو أقل قيمة من حياة الأكابر، «المنفتحين» و «المثقفين»، الذين يحكمون البلد ويملكونه، ويُعرّفونه. وما يوسع الشقة بين الطرفين أن الأخيرين هم التجسد الصافي للوطنية، فوق اتصافهم بالحكمة النادرة والعبقرية الفذة والكمال الذي لا تشوبه شائبة. ولذلك، فإن الشيء العادل والصحيح هو حمايتهم، وقتل الرعاع والجهلة الذين يثورون عليهم.
لعل المفهوم المناسب لتوحيد ظواهر القتل الواسع النطاق للأفقر والأدنى حماية، وحملات الكراهية التي تشنها طغمة من الأغنياء المسلحين على قطاعات واسعة من السكان، هو الفاشية، بالدلالة التي حازها المفهوم في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي في أميركا اللاتينية. الفاشية هنا نمط لممارسة السلطة، موجه نحو حماية كبار المالكين وأصحاب الامتيازات، مع وحشية لا حدود لها في التعامل مع الضعفاء، ومع توسع بلا ضفاف في قتل الناشطين السياسيين واعتقالهم وتعذيبهم.
لقد سبق أن عرفت بلدان مثل البرازيل والأرجنتين والأورغواي والتشيلي والسلفادور مثل هذه الحكومات القاتلة. لكن للفاشية السورية خصوصيات تميزها عن الفاشيات الأميركية اللاتينية قبل حين.
أولاً، كانت هذه مدعومة من الولايات المتحدة ومندرجة في منطق الحرب الباردة، وخصت بالوطأة الأقسى لوحشيتها اليساريين ومن اعتبرتهم عملاء للشيوعية. الفاشية السورية ليست مندرجة في منطق الحرب الباردة، وحملاتها للتخوين والتحريض تنسب بالأحرى معارضي النظام إلى مؤامرة دولية كبرى، تقودها أميركا. تستفيد في هذا الشأن من توجس عريق في الثقافة والسيكولوجية العربية حيال الغرب، لكن النظام السوري اجتهد كثيراً على تغذيته وتحويله إلى بارانويا حادة، تسهيلاً لعزل محكوميه عن العالم، وتسليماً بأوضاع لم يكد يبقى ما يشبهها في العالم.
ثانياً، يمتزج المضمون الطبقي للفاشية السورية ببعد طائفي. وبينما تخاطب تعابير مثل متعصبين وجهلة ومتخلفين وسلفيين حساسيات طائفية، فإن مضمونها الطبقي أقوى في الواقع. يتعلق الأمر بازدراء شبه عنصري للقطاعات الاجتماعية الأكثر حرماناً والأضعف حماية، والتي تعيش حصراً من عملها، وتسكن في الضواحي والأحياء المتدهورة. وتلعب الإيديولوجيا الحداثية هنا دوراً مهماً في تغذية الالتباس بين الطائفي والطبقي، وإضفاء شرعية «حضارية» على التمييز الطبقي. والنقطة المهمة في الإيديولوجيا الحداثية أنها موجهة بصورة حصرية ضد «الأصولية» و «الظلامية» الإسلاميتين، بينما يقع الطغيان والفساد والطائفية على النقطة العمياء في عينها. وهذا ما يجعلها مناسبة جداً لأغراض الفاشية السورية والإيديولوجيين السائرين في ركابها. ويزيد من ملاءمتها أن قضايا القيم، الحرية والعدالة والمساواة والكرامة والإنسانية، غريبة عليها بدورها.
وفي المقام الثالث، ربما تختلف الفاشية السورية اليوم عن الفاشيات الأميركية اللاتينية في أن الأغنياء وأصحاب الامتيازات السوريين يدينون بثرواتهم ومكانتهم بصورة شبه حصرية لـ «النظام»، فليسوا بأصحاب ملكيات تقليديين، ولا هم مصنّعون مرتبطون بشركات متعددة الجنسية، ولذلك لا وزن ذاتياً لهم من غير النظام. ولذلك ارتباطهم بالنظام مصيري. وبينما قد يكون كبار أصحاب الملكيات الزراعية وصناعيون مرتبطون بالسوق الدولية هم القاعدة النوعية للفاشيات الأميركية اللاتينية، فإن القاعدة الخاصة بالفاشية السورية هي «النظام» ذاته، أي النواة السياسية الأمنية التي تدير آلة القتل اليوم. و«القاعدة المادية» للنظام هي امتلاك «السلطة العمومية».
بعبارة أخرى، أساس الفاشية لدينا هو «السلطة» (الثروة تتبعها)، فيما أساس الفاشية في أميركا اللاتينية هو «الثروة» (السلطة هي التابعة). وربما لذلك، فإن الثورة لدينا موجهة أولاً ضد نمط ممارسة السلطة، على نحو ربما يتكثف في شعار «الشعب يريد إسقاط النظام». في أميركا اللاتينية المحتوى الاجتماعي أقوى، وهو ما تأكد كظاهرة لافتة مع صعود اليسار الاجتماعي في بضع السنوات الأخيرة.
لكن الفاشية هي الــــفاشـية هنا وهناك: حرب الطغمة الثرية المسلحة ضد العامة الثائرة.
الصفحات
▼
الجمعة، 30 ديسمبر 2011
السوريون يستعيدون المجال العام والفعل السياسي
الخميس 29 ديسيمبر 2011
معتز الخطيب
تَنبهنا في التسعينات من القرن الماضي إلى أهمية «التحقيقات» العلمية للمحدّث الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، ولكن بما أن اسمه كان في اللائحة السوداء (منذ مطلع الثمانينات وحتى 1997 حين صدر عفوٌ رئاسي عنه) كنّا نحصل على نسخ من كتبه بطرق غير شرعية عبر تصويرها، وكان زميل لنا في الدراسة يتولى تلك المهمة ويتعيّش منها أثناء إقامته في دمشق، عرفنا فيما بعد أنه اختفى أو «أُخفيَ» لدى إحدى الجهات الأمنية. وفي السنوات الأولى من حكم بشار الأسد استمرت السلطات السورية في منع القادمين من ادخال الكتب بذريعة أن إدخالها ممنوعٌ قانوناً.
تدل هاتان الحقيقتان على أن شيئاً لم يتغير في بنية تفكير النظام، وهما تكثّفان العالم الذي كان ولا يزال يحرص النظام على صناعته والتحكم به، فهو يحتكر «الحقيقة» ويقرر ما يجب وما لا يجب، وإذا كان «أبو غدة» خصماً سياسيّاً له فلا بد من تصفية ذِكره مطلقاً، لا فرق بين حقل السياسة وحقل العلم، فالنظام هو الذي يقرر الحقائق بأنواعها، ولذلك ليس غريباً أن السوريين عاشوا لعقود من دون أن يتمتعوا بحق الحصول على المعلومات إلا ما تجود عليهم السلطات به؛ بوصفه الحق الذي لا يأتيه الباطل. كما أن لا وجود مستقلاً للحقيقة، فهي لا توجد إلا مسيسة عبر منتِجها الأوحد، وعبثاً يحاول غيرُ السوريين فهمَ أطروحة النظام الإطلاقية في تكذيب كلِّ من لا يقول بمثل قوله، مع إغلاق كل الأبواب في وجه الإعلام، على قاعدة: (وما أُريكم إلا ما أرى)، ليبقى المتلقي/المواطن في دوامة معضلة تضارب الروايات بين «الرواية الرسمية» و«رواية المعارضة أو قنوات الفتنة» التي هي كل قناة لا تقول (مثل) الرواية الرسمية.
عقود من الغياب
اعتاد السوريّ عبر أربعة عقود ألا يكون له رأيٌ مختلف، بل ألا يكون له رأيٌ أصلاً في مسائل الشأن العام، أو في مسائل التدبير السياسي؛ لأنه كان يعلم علم اليقين أن عليه رقيباً عتيداً، والخوف الذي نما وترعرع قضى على أي إمكانية في التعبير عن مكنونات النفس حتى في الغرف المغلقة، فكثيراً ما كان الأهل ينهوننا عن التفوه بأي كلمة مناهضة أو مخالفة للسلطة حتى في غرفة بيتنا المغلقة! وحين شرعت في مطلع العشرينات من عمري بتدريس اللغة العربية لم ألبث أن استُدعيتُ إلى أحد الفروع الأمنية للتحقيق معي، ثم فوجئت بأنهم طلبوا مني التخابر معهم عن أي حركة غريبة تصدر من الطلاب والمدرّسين في المدرسة الثانوية، وهكذا كانوا يفعلون مع كل «زائر»! بل حتى السجين السياسي أو المعارض يُفرَض عليه الإقرار على نفسه والتنصل من كل أفكاره الشيطانية المخالفة للحقيقة المطلقة الثاوية في رأس النظام، ما يعني أننا أمام إرادة سياسية طاغية طغياناً مضاعفاً؛ إذ تفرض النفاق على الدوام في المجال العام، وهي غير معنية أصلاً بالمقدرة الإقناعية للحقائق الرسمية ولا حتى بوجود المقتنعين، بل يكفي مجرد التلفظ والإقرار الظاهري، لذلك لم يكن غريباً أن انسحب السوريون من المجال العام الذي استولى عليه النظام بالكامل وتُركت للناس حريةُ «إضمار» ما يشاؤون في نفوسهم، وبهذا تحول السوري من مواطن مسيّس شديد التسييس حتى مشارف الستينات إلى مواطن مشغول بنفسه فقط ويدفع ضريبة مواطنته أوزاراً وأثقالاً لا تقف عند حد!
إلى بعض هذه المعاني نحيل حينما نتحدث عن النظام السوري بوصفه نظاماً شموليّاً، يسيطر عليه الفكر الواحد والحزب الواحد والقائد الأوحد الذي تتناسل منه كل السلطات والحقائق، والمسألة الأهم هنا، أنه في الأنظمة الشمولية لا مجال للاعتراف بوجود ما يسميه الفيلسوف الألماني يورغان هبرماس «المجال العام»، ويعني به الفضاء المشترك الذي يتجمع أو يلتقي فيه الناس معاً، ويناقشون - بحرية - المشكلات المجتمعية المحدَّدة لتشكيل رؤى وتصورات مشتركة عنها، فالتجمع ممنوع إلا على سبيل التخفي والإحساس بالجرم، وتشكيل الرأي لا يملكه إلا «أولو الأمر» الذين وحدهم يملكون الوطن وتصوراته ويقبضون على مصالحه العليا التي لا يعرفها سواهم.
اقصاء المواطنين
وانعدام المجال العام يرجع إلى أن العمومية إنما تنشأ في ظل دولة حديثة ومع وجود مجتمع مدني مستقل عن السلطة القائمة، وكلاهما مُنعدمٌ في «سورية البعث» التي عُنيت على الدوام بإقصاء المواطنين وتحويلهم إلى «رعايا» مسلوبي الرأي والفعل السياسيَّين، فهم جماعات وكيانات متعددة قبلية وعشائرية ومناطقية وطوائفية، وهو الوعي الذي تحيل إليه لقاءات رئيس الجمهورية في بدايات الثورة لاحتواء الأزمة من خلال الوفود التي التقاها، وليس أدل على انعدام المجال العام من أنه لم يُسمَح - لعقود - بنشأة معارضة حقيقية من الداخل في حين أن من لا يملك معارضة من الأنظمة السياسية الحديثة يسعى إلى صناعتها وإلا انعدمت الحياة السياسية أصلاً، ولكن في سورية جرت تصفية كل المعارضين بأساليب شتى، أشهرها تهمتا تهديد الوحدة الوطنية وتوهين عزيمة الأمة أو الإضرار بالمصالح القومية التي لا نعرف لها تعريفاً أو تحديداً، أما معارضو الخارج الذين لا يُقْدَر عليهم، فغالباً ما يلجأ النظام إلى تصفيتهم معنويّاً بتهم العمالة والتخوين والفساد الأخلاقي؛ لأنه هو الذي يحتكر الوطنية والعروبة والسياسة والوطن الذي تحول منذ عقود إلى ملك عائلي (سورية الأسد)، أليس غريباً ألا يوجَد معارض واحد ينال احترام النظام أو اعترافه، فضلاً عن أن يظهر في المجال العام أو عبر وسيلة إعلام حكومية؟!
لم يكن لهذه الممارسات كلها إلا أن تلد العقم الفكري على مدى عقود، كما حدث للاتحاد السوفياتي من قبل، الأب الروحي للنظام السوري، فنتيجة غياب المجال العام ووحدانية مصدر الحقيقة تمّ تخليق وعي نمطي مزيف أُدخل في عقول السوريين منذ طلائع البعث (المرحلة الابتدائية) مروراً بشبيبة الثورة (الإعدادية والثانوية) وصولاً إلى عضوية حزب البعث شبه الإجبارية (في الجامعة). أما عموم المواطنين فقد تكفلت بهم الصحف الرسمية وقناتا التلفزيون اللتان لم يُتَح غيرهما لعموم السوريين لسنين طويلة، وما زلت أذكر كيف كنا نتصيد - بمعاناة - بثّاً مشوّشاً للفضائية الأردنية القريبة من الحدود لمشاهدة شيء مختلف!
لم يتغير شيء في عقل النظام في ظل انفتاح الفضاء أمام القنوات وتقنيات التواصل والبث، ولم يدرك النظام أن المجال العام بدأ يتفلت من سلطانه، فقد طرأ من ينافسه على تقديم المعلومات والحقائق والرؤى والتصورات، بدأ يتشكل مجال عام خارج حدود إرادته وروايته الرسمية، حاول كثيراً فَلْتَرته، ولكن لم يجد بُدّاً من الإفساح له بحدود، بل كان الإفساح له عنواناً لحداثة يقودها الابن الشاب المثقف الذي سيصبح رئيساً، هذا المجال الذي تشكل وتبلور كان أحد إرهاصات الثورة الوليدة، أدرك النظام أنه غير قادر على سد الفضاء كالسابق، فاتبع سياسة التشويش ولجأ إلى التشكيك بكل «الآخرين» بوسائل متعددة، فتارةً يرسل معلومات مضلّلة ثم يعود فيكذّبها، وتارة يخترع «تأويلات صديقة» لواقعة من الوقائع، وثالثة يسعى إلى تشتيت الوعي وصرف الأنظار عن الجثة إلى اسم الضحية، أو عن القضية الجوهرية إلى واحدة من التفصيلات الفرعية، ورابعة يتَصَيّد أخطاء الآخرين ويُصَيّرها خطايا ومؤامرات!
وفي المقابل، صعِدت معارضات عديدة إلى المجال العام، بعضها قديم، وكثيرٌ منها جديدٌ أفرزه الواقع المتغير، قيل الكثير عن تشتت المعارضة السورية وتناقضاتها وصراعاتها، وهو ما بدا عَصِيّاً على الفهم، لكن ولادة المجال العام السوري يفسر إلى حد كبير ما جرى، بعد عقود من التغييب والتنكيل بالحياة السياسية وبالمعارضة، فلم يكن ثَمَّ فسحة لتكوين «مجتمع سياسي» سوري، وعندما سنحت الفرصة وُلدت مخاضات عديدة وبرزت أفكار ومراهقات سياسية على السطح أمام الملأ وهي آخذة في النضج أكثر فأكثر؛ لحداثة التجربة وتجدد السياقات.
الرهان على أبدية
راهنَ النظام ورأسه على أبدية الحالة السورية التي طبعت شخصية السوريين للعقود الأربعة الماضية، ولم يخالج بشارَ الأسد شكٌّ في عقائده المطلقة حول السلطة والشعب والحب والطاعة والخوف، والأهم من ذلك عن الحقيقة المسيسة على الدوام كان النظام مطمئنّاً لاستئصال السياسة، ولعقيدة الخوف، فصرّح قبيل الثورة بأنه ليست الثورة مستبعدة فقط، بل حتى الإصلاح يحتاج إلى جيل أو جيلين؛ لأن الشعب غير مُهيَّأ، لكن وقائع الشهور التسعة الماضية كشفت عن أن وعي السوريين المتظاهرين سابقٌ على وعي النظام الحاكم، وبرهنت على نضج سياسي وقيمي كبير لا يتوفر الحد الأدنى منه لدى النظام، كما أن النظام نفسه كان أول ضحايا تغييب فكرة الرأي العام المتصلة اتصالاً وثيقاً بفكرة المجال العام، فقد اخترع - على الدوام - الرأي العام الذي يريده ورَكَن إليه حتى صدّقه، وهذا ما يفسر حالة الإنكار المستعصية التي يعيشها النظام والمؤمنون به، فطول العهد كاد يُطيح فكرة الاختلاف أصلاً، فضلاً عن أن يوجد مختلفون أو مخالفون، وهو ما يفسر كذلك حالة العنف اللفظي لألسنة النظام تجاه المتظاهرين والمعارضة على السواء.
إذاً لقد تَخَلق المجال العام السوري من جديد، وقرر كثيرٌ من السوريين الانخراط فيه والإسهام في بنائه، وسنشهد مخاضات عديدة وتناقضات متنوعة العناوين حتى يستقر المجال العام نفسه ويتبلور رأي عام سوري حقيقي ومعبر عن تطلعات الشعب وقيمه.
معتز الخطيب
تَنبهنا في التسعينات من القرن الماضي إلى أهمية «التحقيقات» العلمية للمحدّث الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، ولكن بما أن اسمه كان في اللائحة السوداء (منذ مطلع الثمانينات وحتى 1997 حين صدر عفوٌ رئاسي عنه) كنّا نحصل على نسخ من كتبه بطرق غير شرعية عبر تصويرها، وكان زميل لنا في الدراسة يتولى تلك المهمة ويتعيّش منها أثناء إقامته في دمشق، عرفنا فيما بعد أنه اختفى أو «أُخفيَ» لدى إحدى الجهات الأمنية. وفي السنوات الأولى من حكم بشار الأسد استمرت السلطات السورية في منع القادمين من ادخال الكتب بذريعة أن إدخالها ممنوعٌ قانوناً.
تدل هاتان الحقيقتان على أن شيئاً لم يتغير في بنية تفكير النظام، وهما تكثّفان العالم الذي كان ولا يزال يحرص النظام على صناعته والتحكم به، فهو يحتكر «الحقيقة» ويقرر ما يجب وما لا يجب، وإذا كان «أبو غدة» خصماً سياسيّاً له فلا بد من تصفية ذِكره مطلقاً، لا فرق بين حقل السياسة وحقل العلم، فالنظام هو الذي يقرر الحقائق بأنواعها، ولذلك ليس غريباً أن السوريين عاشوا لعقود من دون أن يتمتعوا بحق الحصول على المعلومات إلا ما تجود عليهم السلطات به؛ بوصفه الحق الذي لا يأتيه الباطل. كما أن لا وجود مستقلاً للحقيقة، فهي لا توجد إلا مسيسة عبر منتِجها الأوحد، وعبثاً يحاول غيرُ السوريين فهمَ أطروحة النظام الإطلاقية في تكذيب كلِّ من لا يقول بمثل قوله، مع إغلاق كل الأبواب في وجه الإعلام، على قاعدة: (وما أُريكم إلا ما أرى)، ليبقى المتلقي/المواطن في دوامة معضلة تضارب الروايات بين «الرواية الرسمية» و«رواية المعارضة أو قنوات الفتنة» التي هي كل قناة لا تقول (مثل) الرواية الرسمية.
عقود من الغياب
اعتاد السوريّ عبر أربعة عقود ألا يكون له رأيٌ مختلف، بل ألا يكون له رأيٌ أصلاً في مسائل الشأن العام، أو في مسائل التدبير السياسي؛ لأنه كان يعلم علم اليقين أن عليه رقيباً عتيداً، والخوف الذي نما وترعرع قضى على أي إمكانية في التعبير عن مكنونات النفس حتى في الغرف المغلقة، فكثيراً ما كان الأهل ينهوننا عن التفوه بأي كلمة مناهضة أو مخالفة للسلطة حتى في غرفة بيتنا المغلقة! وحين شرعت في مطلع العشرينات من عمري بتدريس اللغة العربية لم ألبث أن استُدعيتُ إلى أحد الفروع الأمنية للتحقيق معي، ثم فوجئت بأنهم طلبوا مني التخابر معهم عن أي حركة غريبة تصدر من الطلاب والمدرّسين في المدرسة الثانوية، وهكذا كانوا يفعلون مع كل «زائر»! بل حتى السجين السياسي أو المعارض يُفرَض عليه الإقرار على نفسه والتنصل من كل أفكاره الشيطانية المخالفة للحقيقة المطلقة الثاوية في رأس النظام، ما يعني أننا أمام إرادة سياسية طاغية طغياناً مضاعفاً؛ إذ تفرض النفاق على الدوام في المجال العام، وهي غير معنية أصلاً بالمقدرة الإقناعية للحقائق الرسمية ولا حتى بوجود المقتنعين، بل يكفي مجرد التلفظ والإقرار الظاهري، لذلك لم يكن غريباً أن انسحب السوريون من المجال العام الذي استولى عليه النظام بالكامل وتُركت للناس حريةُ «إضمار» ما يشاؤون في نفوسهم، وبهذا تحول السوري من مواطن مسيّس شديد التسييس حتى مشارف الستينات إلى مواطن مشغول بنفسه فقط ويدفع ضريبة مواطنته أوزاراً وأثقالاً لا تقف عند حد!
إلى بعض هذه المعاني نحيل حينما نتحدث عن النظام السوري بوصفه نظاماً شموليّاً، يسيطر عليه الفكر الواحد والحزب الواحد والقائد الأوحد الذي تتناسل منه كل السلطات والحقائق، والمسألة الأهم هنا، أنه في الأنظمة الشمولية لا مجال للاعتراف بوجود ما يسميه الفيلسوف الألماني يورغان هبرماس «المجال العام»، ويعني به الفضاء المشترك الذي يتجمع أو يلتقي فيه الناس معاً، ويناقشون - بحرية - المشكلات المجتمعية المحدَّدة لتشكيل رؤى وتصورات مشتركة عنها، فالتجمع ممنوع إلا على سبيل التخفي والإحساس بالجرم، وتشكيل الرأي لا يملكه إلا «أولو الأمر» الذين وحدهم يملكون الوطن وتصوراته ويقبضون على مصالحه العليا التي لا يعرفها سواهم.
اقصاء المواطنين
وانعدام المجال العام يرجع إلى أن العمومية إنما تنشأ في ظل دولة حديثة ومع وجود مجتمع مدني مستقل عن السلطة القائمة، وكلاهما مُنعدمٌ في «سورية البعث» التي عُنيت على الدوام بإقصاء المواطنين وتحويلهم إلى «رعايا» مسلوبي الرأي والفعل السياسيَّين، فهم جماعات وكيانات متعددة قبلية وعشائرية ومناطقية وطوائفية، وهو الوعي الذي تحيل إليه لقاءات رئيس الجمهورية في بدايات الثورة لاحتواء الأزمة من خلال الوفود التي التقاها، وليس أدل على انعدام المجال العام من أنه لم يُسمَح - لعقود - بنشأة معارضة حقيقية من الداخل في حين أن من لا يملك معارضة من الأنظمة السياسية الحديثة يسعى إلى صناعتها وإلا انعدمت الحياة السياسية أصلاً، ولكن في سورية جرت تصفية كل المعارضين بأساليب شتى، أشهرها تهمتا تهديد الوحدة الوطنية وتوهين عزيمة الأمة أو الإضرار بالمصالح القومية التي لا نعرف لها تعريفاً أو تحديداً، أما معارضو الخارج الذين لا يُقْدَر عليهم، فغالباً ما يلجأ النظام إلى تصفيتهم معنويّاً بتهم العمالة والتخوين والفساد الأخلاقي؛ لأنه هو الذي يحتكر الوطنية والعروبة والسياسة والوطن الذي تحول منذ عقود إلى ملك عائلي (سورية الأسد)، أليس غريباً ألا يوجَد معارض واحد ينال احترام النظام أو اعترافه، فضلاً عن أن يظهر في المجال العام أو عبر وسيلة إعلام حكومية؟!
لم يكن لهذه الممارسات كلها إلا أن تلد العقم الفكري على مدى عقود، كما حدث للاتحاد السوفياتي من قبل، الأب الروحي للنظام السوري، فنتيجة غياب المجال العام ووحدانية مصدر الحقيقة تمّ تخليق وعي نمطي مزيف أُدخل في عقول السوريين منذ طلائع البعث (المرحلة الابتدائية) مروراً بشبيبة الثورة (الإعدادية والثانوية) وصولاً إلى عضوية حزب البعث شبه الإجبارية (في الجامعة). أما عموم المواطنين فقد تكفلت بهم الصحف الرسمية وقناتا التلفزيون اللتان لم يُتَح غيرهما لعموم السوريين لسنين طويلة، وما زلت أذكر كيف كنا نتصيد - بمعاناة - بثّاً مشوّشاً للفضائية الأردنية القريبة من الحدود لمشاهدة شيء مختلف!
لم يتغير شيء في عقل النظام في ظل انفتاح الفضاء أمام القنوات وتقنيات التواصل والبث، ولم يدرك النظام أن المجال العام بدأ يتفلت من سلطانه، فقد طرأ من ينافسه على تقديم المعلومات والحقائق والرؤى والتصورات، بدأ يتشكل مجال عام خارج حدود إرادته وروايته الرسمية، حاول كثيراً فَلْتَرته، ولكن لم يجد بُدّاً من الإفساح له بحدود، بل كان الإفساح له عنواناً لحداثة يقودها الابن الشاب المثقف الذي سيصبح رئيساً، هذا المجال الذي تشكل وتبلور كان أحد إرهاصات الثورة الوليدة، أدرك النظام أنه غير قادر على سد الفضاء كالسابق، فاتبع سياسة التشويش ولجأ إلى التشكيك بكل «الآخرين» بوسائل متعددة، فتارةً يرسل معلومات مضلّلة ثم يعود فيكذّبها، وتارة يخترع «تأويلات صديقة» لواقعة من الوقائع، وثالثة يسعى إلى تشتيت الوعي وصرف الأنظار عن الجثة إلى اسم الضحية، أو عن القضية الجوهرية إلى واحدة من التفصيلات الفرعية، ورابعة يتَصَيّد أخطاء الآخرين ويُصَيّرها خطايا ومؤامرات!
وفي المقابل، صعِدت معارضات عديدة إلى المجال العام، بعضها قديم، وكثيرٌ منها جديدٌ أفرزه الواقع المتغير، قيل الكثير عن تشتت المعارضة السورية وتناقضاتها وصراعاتها، وهو ما بدا عَصِيّاً على الفهم، لكن ولادة المجال العام السوري يفسر إلى حد كبير ما جرى، بعد عقود من التغييب والتنكيل بالحياة السياسية وبالمعارضة، فلم يكن ثَمَّ فسحة لتكوين «مجتمع سياسي» سوري، وعندما سنحت الفرصة وُلدت مخاضات عديدة وبرزت أفكار ومراهقات سياسية على السطح أمام الملأ وهي آخذة في النضج أكثر فأكثر؛ لحداثة التجربة وتجدد السياقات.
الرهان على أبدية
راهنَ النظام ورأسه على أبدية الحالة السورية التي طبعت شخصية السوريين للعقود الأربعة الماضية، ولم يخالج بشارَ الأسد شكٌّ في عقائده المطلقة حول السلطة والشعب والحب والطاعة والخوف، والأهم من ذلك عن الحقيقة المسيسة على الدوام كان النظام مطمئنّاً لاستئصال السياسة، ولعقيدة الخوف، فصرّح قبيل الثورة بأنه ليست الثورة مستبعدة فقط، بل حتى الإصلاح يحتاج إلى جيل أو جيلين؛ لأن الشعب غير مُهيَّأ، لكن وقائع الشهور التسعة الماضية كشفت عن أن وعي السوريين المتظاهرين سابقٌ على وعي النظام الحاكم، وبرهنت على نضج سياسي وقيمي كبير لا يتوفر الحد الأدنى منه لدى النظام، كما أن النظام نفسه كان أول ضحايا تغييب فكرة الرأي العام المتصلة اتصالاً وثيقاً بفكرة المجال العام، فقد اخترع - على الدوام - الرأي العام الذي يريده ورَكَن إليه حتى صدّقه، وهذا ما يفسر حالة الإنكار المستعصية التي يعيشها النظام والمؤمنون به، فطول العهد كاد يُطيح فكرة الاختلاف أصلاً، فضلاً عن أن يوجد مختلفون أو مخالفون، وهو ما يفسر كذلك حالة العنف اللفظي لألسنة النظام تجاه المتظاهرين والمعارضة على السواء.
إذاً لقد تَخَلق المجال العام السوري من جديد، وقرر كثيرٌ من السوريين الانخراط فيه والإسهام في بنائه، وسنشهد مخاضات عديدة وتناقضات متنوعة العناوين حتى يستقر المجال العام نفسه ويتبلور رأي عام سوري حقيقي ومعبر عن تطلعات الشعب وقيمه.
الثورة إذ تبعث الروح في الاندماج الوطني
الجمعة 30 ديسيمبر 2011
علي العبدالله
انطلقت الثورة السورية واتسع نطاق فعلها، امتدت أفقياً حتى شملت مساحة الوطن، وزاد عدد المشاركين في فعالياتها حتى بلغ الملايين فشمل رجالاً ونساء، شيوخاً وأطفالاً، وتطور شعارها وهدفها ليبلغ سقفاً واضحاً: إسقاط النظام.
أفرزت المواجهة المحتدمة مع النظام ظواهر سياسية واجتماعية وثقافية أخذت تتعمق وتتمدد في طول البلاد وعرضها. مع بداية الثورة نشأت ظاهرة التضامن بين المواطنين في المحافظات مع المدن والبلدات والقرى التي تتعرض لبطش النظام ووحشيته، فكانت أهزوجة سكان محافظة درعا تضامناً مع سكان محافظة حمص الذين تعرضوا لقمع وحشي لردعهم، بدورهم، عن المشاركة في الثورة تضامناً مع سكان درعا الذين تعرضوا للبطش والتقتيل لأنهم تظاهروا يطالبون بأولادهم.
ومع امتداد الثورة وانتشار سناها الأخّاذ استعاد المواطنون ذاكرتهم الوطنية بتحرير تاريخهم ورموزهم الوطنية الكبيرة، التي طمسها الاستبداد ومنعها من الحضور في الحياة العامة لمصلحة تكريس عبادة الرئيس الذي غلبهم على أمرهم، من الأسر، واستعادوا صورة البلاد وجغرافيتها من خلال متابعة أخبار الثورة وتضامن المتظاهرين مع الثوار في مناطقهم البعيدة بذكر أسماء المناطق في هتافاتهم وأهازيجهم. وهي مناطق ومدن وبلدات لم يكونوا قد سمعوا بها أو عرفوا عنها شيئاً. لقد انتشت الذاكرة وعادت أسماء المدن والبلدات، وحتى القرى النائية، إلى التداول، مغادرة كهوف النسيان المميتة، كما خرجت إلى العلن شخصيات ومدن وبلدات وقرى واتسعت الذاكرة لسلطان باشا الأطرش وصالح العلي وإبراهيم هنانو وحسن الخراط ومحمد الاشمر وشكري القوتلي وعبدالرحمن الشهبندر... الخ، ومدن وبلدات وقرى مثل درعا وبصر الحرير ونمر وطفس وحماة وكرناز وإدلب وجرجناز وحمص والقامشلي وسواها، التي لم تكن تحضر في حياة السوريين. لقد ضجت الذاكرة وتزاحمت بالأسماء والمسميات وصور الشهداء، وعمت البلاد أغنيات مغني الثورة الشهيد إبراهيم القاشوش وأهازيج ورقصات الحماصنة وساد بين الناس حديث حميم عن إبداعات الحماصنة وصلابتهم، وغاب التلاسن الحمصي الحموي والحديث عن يوم الأربعاء ليحل محله التضامن والتأسي والسعي لتقديم يد العون لأهل حمص المحاصرين، كما استقبال الفارين منهم من جحيم القصف واحتضانهم في البيوت والقلوب. وعندما انغرست موسى الجلاد في صدور أهل حماة تحركت السلمية لتصب دماءها في أوردة جرحاهم، وذابت في وهج الثورة حساسيات قديمة بين أهل حماة وريفها على خلفية التباين المذهبي ولم يعد هناك حديث عن إسماعيلية السلمية وعلوية الغاب أو مرشديتهم، فقد وحدهم البطش وشلال الدم الهادر من عروقهم جميعاً.
وتوالت المتغيرات تزيح قيماً نبتت في سورية في ظل الاستبداد والقهر وتزرع قيماً بديلة لها نكهة جديدة، نكهة الحرية الآتية على جناح الثورة حيث لم يشعر الثوار بالدهشة أو الغرابة عندما اختار المصوتون اسم «آزادي» (كلمة كردية معناها بالعربية الحرية) لجمعة من جمعهم المجيدة، بل إن لافتات رفعت في مدينة حمص، التي ليس فيها مواطنون كرد كثيرون، كتبت باللغة الكردية، كما صدحت حناجر الكرد في تظاهراتهم العارمة بدعوات الحرية وإسقاط النظام باللغتين الكردية والعربية، ورفعت لافتات كتبت بالكردية والعربية والسريانية. لقد أسقط الشعب الاضطهاد القومي والإقصاء السياسي الذي مارسه النظام على الكرد والأشوريين - السريان بلفتة ذكية ومباشرة وأعاد إلى سورية رونقها ونكاتها التي افتقدتها طوال عقود الاستبداد والقمع. ولعب النظام بمصير البلاد وأقدار العباد عبر تحفيز المخاوف والهواجس الطائفية بالاعتداء على المواطنين بالقتل والخطف والتنكيل والاغتصاب، لاستدراجهم إلى ردود أفعال من الجنس نفسه وإدخال البلاد في أتون حرب طائفية كي يدنس الثورة ويشوّه صورتها الأخلاقية والوطنية ويضرب شرعيتها. واستعان النظام ببعض شياطينه وشياطين حلفائه وبعض المطبّلين من اللبنانيين لتوسيع ساحة الهواجس والمخاوف الطائفية لتشمل المسيحيين. عندها رد الشعب السوري بشعاره العظيم «واحد... واحد... واحد... الشعب السوري واحد»، صدحت به حناجر الملايين وأنشدته فدوى سليمان وهي تستند إلى كتف عبدالباسط الساروت في أحياء حمص عاصمة الثورة وساحة نصرها الآتي، وحمل راية مواجهته محمد صالح حفيد المجاهد السوري الكبير صالح العلي بشجاعة وإصرار على رغم اعتقاله مرات ومرات.
لقد نجح النظام في استدراج بعض من ذاقوا مظالمه وإجرامه إلى الشرب من كأس الطائفية البغيض وانزلق بعضهم إلى ردود فعل على الخطف والاغتصاب بالقيام بالمثل، لكنها بقيت استجابة محدودة ومرذولة لم تستسغها جماهير الثورة أو تقبلها، على رغم تفهمها للظروف التي قادت إليها حيث رفعت اللافتات الرافضة للممارسة الطائفية وحمل الناطقون باسمها النظام مسؤولية أي انزلاق نحو الحرب الطائفية التي تدفع إليها سياساته وممارساته.
إنها سورية الجديدة بنت الثورة وحفيدة ثوار العشرينات الذين هبوا لطرد المستعمر الفرنسي ورسموا حدود البلاد وهويتها من سلطان باشا الأطرش الدرزي إلى صالح العلي العلوي وحسن الخراط ومحمد الأشمر السنيين وإبراهيم هنانو الكردي، ممن لم يجدوا غضاضة أو حرجاً في تسمية الأطرش قائداً لثورتهم.
علي العبدالله
انطلقت الثورة السورية واتسع نطاق فعلها، امتدت أفقياً حتى شملت مساحة الوطن، وزاد عدد المشاركين في فعالياتها حتى بلغ الملايين فشمل رجالاً ونساء، شيوخاً وأطفالاً، وتطور شعارها وهدفها ليبلغ سقفاً واضحاً: إسقاط النظام.
أفرزت المواجهة المحتدمة مع النظام ظواهر سياسية واجتماعية وثقافية أخذت تتعمق وتتمدد في طول البلاد وعرضها. مع بداية الثورة نشأت ظاهرة التضامن بين المواطنين في المحافظات مع المدن والبلدات والقرى التي تتعرض لبطش النظام ووحشيته، فكانت أهزوجة سكان محافظة درعا تضامناً مع سكان محافظة حمص الذين تعرضوا لقمع وحشي لردعهم، بدورهم، عن المشاركة في الثورة تضامناً مع سكان درعا الذين تعرضوا للبطش والتقتيل لأنهم تظاهروا يطالبون بأولادهم.
ومع امتداد الثورة وانتشار سناها الأخّاذ استعاد المواطنون ذاكرتهم الوطنية بتحرير تاريخهم ورموزهم الوطنية الكبيرة، التي طمسها الاستبداد ومنعها من الحضور في الحياة العامة لمصلحة تكريس عبادة الرئيس الذي غلبهم على أمرهم، من الأسر، واستعادوا صورة البلاد وجغرافيتها من خلال متابعة أخبار الثورة وتضامن المتظاهرين مع الثوار في مناطقهم البعيدة بذكر أسماء المناطق في هتافاتهم وأهازيجهم. وهي مناطق ومدن وبلدات لم يكونوا قد سمعوا بها أو عرفوا عنها شيئاً. لقد انتشت الذاكرة وعادت أسماء المدن والبلدات، وحتى القرى النائية، إلى التداول، مغادرة كهوف النسيان المميتة، كما خرجت إلى العلن شخصيات ومدن وبلدات وقرى واتسعت الذاكرة لسلطان باشا الأطرش وصالح العلي وإبراهيم هنانو وحسن الخراط ومحمد الاشمر وشكري القوتلي وعبدالرحمن الشهبندر... الخ، ومدن وبلدات وقرى مثل درعا وبصر الحرير ونمر وطفس وحماة وكرناز وإدلب وجرجناز وحمص والقامشلي وسواها، التي لم تكن تحضر في حياة السوريين. لقد ضجت الذاكرة وتزاحمت بالأسماء والمسميات وصور الشهداء، وعمت البلاد أغنيات مغني الثورة الشهيد إبراهيم القاشوش وأهازيج ورقصات الحماصنة وساد بين الناس حديث حميم عن إبداعات الحماصنة وصلابتهم، وغاب التلاسن الحمصي الحموي والحديث عن يوم الأربعاء ليحل محله التضامن والتأسي والسعي لتقديم يد العون لأهل حمص المحاصرين، كما استقبال الفارين منهم من جحيم القصف واحتضانهم في البيوت والقلوب. وعندما انغرست موسى الجلاد في صدور أهل حماة تحركت السلمية لتصب دماءها في أوردة جرحاهم، وذابت في وهج الثورة حساسيات قديمة بين أهل حماة وريفها على خلفية التباين المذهبي ولم يعد هناك حديث عن إسماعيلية السلمية وعلوية الغاب أو مرشديتهم، فقد وحدهم البطش وشلال الدم الهادر من عروقهم جميعاً.
وتوالت المتغيرات تزيح قيماً نبتت في سورية في ظل الاستبداد والقهر وتزرع قيماً بديلة لها نكهة جديدة، نكهة الحرية الآتية على جناح الثورة حيث لم يشعر الثوار بالدهشة أو الغرابة عندما اختار المصوتون اسم «آزادي» (كلمة كردية معناها بالعربية الحرية) لجمعة من جمعهم المجيدة، بل إن لافتات رفعت في مدينة حمص، التي ليس فيها مواطنون كرد كثيرون، كتبت باللغة الكردية، كما صدحت حناجر الكرد في تظاهراتهم العارمة بدعوات الحرية وإسقاط النظام باللغتين الكردية والعربية، ورفعت لافتات كتبت بالكردية والعربية والسريانية. لقد أسقط الشعب الاضطهاد القومي والإقصاء السياسي الذي مارسه النظام على الكرد والأشوريين - السريان بلفتة ذكية ومباشرة وأعاد إلى سورية رونقها ونكاتها التي افتقدتها طوال عقود الاستبداد والقمع. ولعب النظام بمصير البلاد وأقدار العباد عبر تحفيز المخاوف والهواجس الطائفية بالاعتداء على المواطنين بالقتل والخطف والتنكيل والاغتصاب، لاستدراجهم إلى ردود أفعال من الجنس نفسه وإدخال البلاد في أتون حرب طائفية كي يدنس الثورة ويشوّه صورتها الأخلاقية والوطنية ويضرب شرعيتها. واستعان النظام ببعض شياطينه وشياطين حلفائه وبعض المطبّلين من اللبنانيين لتوسيع ساحة الهواجس والمخاوف الطائفية لتشمل المسيحيين. عندها رد الشعب السوري بشعاره العظيم «واحد... واحد... واحد... الشعب السوري واحد»، صدحت به حناجر الملايين وأنشدته فدوى سليمان وهي تستند إلى كتف عبدالباسط الساروت في أحياء حمص عاصمة الثورة وساحة نصرها الآتي، وحمل راية مواجهته محمد صالح حفيد المجاهد السوري الكبير صالح العلي بشجاعة وإصرار على رغم اعتقاله مرات ومرات.
لقد نجح النظام في استدراج بعض من ذاقوا مظالمه وإجرامه إلى الشرب من كأس الطائفية البغيض وانزلق بعضهم إلى ردود فعل على الخطف والاغتصاب بالقيام بالمثل، لكنها بقيت استجابة محدودة ومرذولة لم تستسغها جماهير الثورة أو تقبلها، على رغم تفهمها للظروف التي قادت إليها حيث رفعت اللافتات الرافضة للممارسة الطائفية وحمل الناطقون باسمها النظام مسؤولية أي انزلاق نحو الحرب الطائفية التي تدفع إليها سياساته وممارساته.
إنها سورية الجديدة بنت الثورة وحفيدة ثوار العشرينات الذين هبوا لطرد المستعمر الفرنسي ورسموا حدود البلاد وهويتها من سلطان باشا الأطرش الدرزي إلى صالح العلي العلوي وحسن الخراط ومحمد الأشمر السنيين وإبراهيم هنانو الكردي، ممن لم يجدوا غضاضة أو حرجاً في تسمية الأطرش قائداً لثورتهم.
سياسيون ورجال دين وأكاديميون عراقيون يوقعون "ميثاق شرف" لنبذ التطرف
السبت 24 كانون الأول 2011
وقع سياسيون واكاديميون ورجال دين عراقيون "ميثاق شرف" ينص على محاربة التطرف ويدعو الى الوحدة الوطنية، وذلك بمبادرة من الزعيم الشيعي مقتدى الصدر. وجرى التوقيع على الميثاق في احتفال في بغداد، اعلن خلاله ان قوى سياسية اخرى ستوقع لاحقاً بدورها على هذا الميثاق.
ويشمل "ميثاق الشرف الوطني العراقي" ثلاثة عشر فقرة، تنص على "صون مال وعرض كل العراقيين لا سيما من قال الله اكبر"، واعتبار "كل الطوائف الدينية والاتنيات العراقية اخوة في الوطن والانسانية"، وهو ويحمي الميثاق "الطقوس والعادات لكل طائفة دينية"، ويمنع "الخطب والمقالات والتصريحات والمؤتمرات الاجتماعات وكل ما من شانه اثارة الفتن والنعرات الطائفية"، كما يمنع "الاعتداء على الكنائس والمساجد" ودور العبادة الاخرى، ويدعو الميثاق الى "التربية والتثقيف على الوحدة الوطنية"، ويؤكد على التعايش السلمي بين ابناء الشعب العراقي (...) ومع دول الجوار وكل المسلمين".
وتنص الورقة كذلك على "العمل لتاسيس مجلس علمائي موحد يسعى لجمع الاحاديث المشتركة الفكرية التي تنبذ العنف"، وعلى ان "يكون العمل السياسي باعثا على الوحدة الوطنية ومرسخا لها"، وعلى "مقاطعة المتطرفين". كما تدعو الى "محاربة كل انواع الفساد والمحافظة على ثروات العراق من الهدر، وتقسيم الثروات بالعدل". وبحسب نص الميثاق، سيتم "تشكيل لجنة علمائية، لمتابعة بنود الميثاق من خلال اجتماعات دورية"، وسيجري عقد "اجتماع طارئ في أوقات الأزمات والمخاطر".
وقع سياسيون واكاديميون ورجال دين عراقيون "ميثاق شرف" ينص على محاربة التطرف ويدعو الى الوحدة الوطنية، وذلك بمبادرة من الزعيم الشيعي مقتدى الصدر. وجرى التوقيع على الميثاق في احتفال في بغداد، اعلن خلاله ان قوى سياسية اخرى ستوقع لاحقاً بدورها على هذا الميثاق.
ويشمل "ميثاق الشرف الوطني العراقي" ثلاثة عشر فقرة، تنص على "صون مال وعرض كل العراقيين لا سيما من قال الله اكبر"، واعتبار "كل الطوائف الدينية والاتنيات العراقية اخوة في الوطن والانسانية"، وهو ويحمي الميثاق "الطقوس والعادات لكل طائفة دينية"، ويمنع "الخطب والمقالات والتصريحات والمؤتمرات الاجتماعات وكل ما من شانه اثارة الفتن والنعرات الطائفية"، كما يمنع "الاعتداء على الكنائس والمساجد" ودور العبادة الاخرى، ويدعو الميثاق الى "التربية والتثقيف على الوحدة الوطنية"، ويؤكد على التعايش السلمي بين ابناء الشعب العراقي (...) ومع دول الجوار وكل المسلمين".
وتنص الورقة كذلك على "العمل لتاسيس مجلس علمائي موحد يسعى لجمع الاحاديث المشتركة الفكرية التي تنبذ العنف"، وعلى ان "يكون العمل السياسي باعثا على الوحدة الوطنية ومرسخا لها"، وعلى "مقاطعة المتطرفين". كما تدعو الى "محاربة كل انواع الفساد والمحافظة على ثروات العراق من الهدر، وتقسيم الثروات بالعدل". وبحسب نص الميثاق، سيتم "تشكيل لجنة علمائية، لمتابعة بنود الميثاق من خلال اجتماعات دورية"، وسيجري عقد "اجتماع طارئ في أوقات الأزمات والمخاطر".
بيان من شبلي زيد الأطرش حول حشر بعض دروز لبنان أنفسهم في شؤون سوريا
لقد درج نفر من أبناء الطائفة الدرزية في لبنان على حشر أنفسهم في الشأن السوري، يدفعهم الى ذلك منافع شخصية ضيقة، فهؤلاء كما يحاولون شق الطائفة في لبنان، خدمة لأجندات إقليمية‘ فهم يحاولون نقل ذلك إلى الطائفة في سورية. نريد أن نقول لهم إن بضاعتكم فاسدة ولن تجد من يشتريها من الشعب السوري الذي ينشد حريته وكرامته، وهي مردودة على صانعيها ومسوقيها في آن معاً.
إن توريط مشايخ من طائفة الموحدين الدروز في لبنان في زواريب السياسة ومستنقعاتها أمر غير محمود وغير مسبوق، ولم يعوّدنا أصحاب العمائم البيضاء الظهور على عتبات السلطان وذلك حفاظاً على نقاوة وطهرية عمائمهم ومواقفهم، وليبقوا على مسافة تمكنهم من القيام بدورهم كـ"مصلاح خير" عند اللزوم.
ولكن زيارة المشايخ الأفاضل إلى سورية فعلت غير ذلك، فقد أريد لهم أن يحشروا في لعبة التكاذب، ما ينسف أول ركن في العقيدة: الصدق، ويصب الزيت على النار المشتعلة في سورية، والتي يراد لها أن تكون طائفية ليستقيم لمشعليها استمرار القتل، ويحرّض على الشحن الطائفي، في لعبة دنيئة مستمرة منذ عدة عقود، يحتقرها الشعب السوري وينبذها.
نريد أن نذكّر أهلنا في لبنان أن اللعبة الطائفية لم تكن من مفردات طائفة الموحدين الدروز في سورية يوماً من الأيام، لا بل كانت الطائفة رائدة في جمع الكلمة حول وحدة الأرض السورية ووحدة الشعب السوري وتعايش طوائفه ودياناته وقومياته بعيداً عن الأغراض الصغيرة والمرامي الكيدية للبعض، وكان شعار "الدين لله والوطن للجميع" الذي رفعته الثورة السورية1925 الراية التي انضوى تحتها جميع السوريين وما زالوا. وإذا أبطن البعض غير ذلك وما زال يذكي الفتنة الطائفية ويؤججها إلى اليوم، فالطائفة الدرزية في سورية لا ولن تربط مصيرها بمصيرهم.
إننا لا نبتغي تعليم أحد ما يجب أن يفعله ببلده، ولا نريد ان ننوه عن عدم النضوج السياسي للبعض من إخوتنا في لبنان وعدم تحررهم من التبعية؛ ولكننا نؤكد أننا لا نرغب بتلقي دروس فيما علينا أن نفعله ببلدنا، فنحن ناضجون كفاية لتدبر أمورنا، أما للذي يظهر علينا بين حين وآخر ليؤسس ميليشيا طائفية على غرار ما يقوم به في لبنان خدمة لشياطين الطائفية عبر وسائل رخيصة وخطاب رذيل وبذاءة موصوفة، فلا بد له من أن يسقط في شر أعماله.
إننا نهيب بمشايخنا الأفاضل وهيآتنا الروحية أن ينأوا بأنفسهم عن المزالق التي يحاول أن يوقعهم بها المشتغلون على الصغائر. وأن يشفقوا على نزاهة العقيدة من ارتكاب الخطأ أو التحريض على الفتنة والقتل، فهذه العمائم يجب أن تبقى بيضاء نقية كنقاء عقيدتهم وبياض قلوبهم. وليتحمل أصحاب المآرب وحدهم عواقب أفعالهم.
إن توريط مشايخ من طائفة الموحدين الدروز في لبنان في زواريب السياسة ومستنقعاتها أمر غير محمود وغير مسبوق، ولم يعوّدنا أصحاب العمائم البيضاء الظهور على عتبات السلطان وذلك حفاظاً على نقاوة وطهرية عمائمهم ومواقفهم، وليبقوا على مسافة تمكنهم من القيام بدورهم كـ"مصلاح خير" عند اللزوم.
ولكن زيارة المشايخ الأفاضل إلى سورية فعلت غير ذلك، فقد أريد لهم أن يحشروا في لعبة التكاذب، ما ينسف أول ركن في العقيدة: الصدق، ويصب الزيت على النار المشتعلة في سورية، والتي يراد لها أن تكون طائفية ليستقيم لمشعليها استمرار القتل، ويحرّض على الشحن الطائفي، في لعبة دنيئة مستمرة منذ عدة عقود، يحتقرها الشعب السوري وينبذها.
نريد أن نذكّر أهلنا في لبنان أن اللعبة الطائفية لم تكن من مفردات طائفة الموحدين الدروز في سورية يوماً من الأيام، لا بل كانت الطائفة رائدة في جمع الكلمة حول وحدة الأرض السورية ووحدة الشعب السوري وتعايش طوائفه ودياناته وقومياته بعيداً عن الأغراض الصغيرة والمرامي الكيدية للبعض، وكان شعار "الدين لله والوطن للجميع" الذي رفعته الثورة السورية1925 الراية التي انضوى تحتها جميع السوريين وما زالوا. وإذا أبطن البعض غير ذلك وما زال يذكي الفتنة الطائفية ويؤججها إلى اليوم، فالطائفة الدرزية في سورية لا ولن تربط مصيرها بمصيرهم.
إننا لا نبتغي تعليم أحد ما يجب أن يفعله ببلده، ولا نريد ان ننوه عن عدم النضوج السياسي للبعض من إخوتنا في لبنان وعدم تحررهم من التبعية؛ ولكننا نؤكد أننا لا نرغب بتلقي دروس فيما علينا أن نفعله ببلدنا، فنحن ناضجون كفاية لتدبر أمورنا، أما للذي يظهر علينا بين حين وآخر ليؤسس ميليشيا طائفية على غرار ما يقوم به في لبنان خدمة لشياطين الطائفية عبر وسائل رخيصة وخطاب رذيل وبذاءة موصوفة، فلا بد له من أن يسقط في شر أعماله.
إننا نهيب بمشايخنا الأفاضل وهيآتنا الروحية أن ينأوا بأنفسهم عن المزالق التي يحاول أن يوقعهم بها المشتغلون على الصغائر. وأن يشفقوا على نزاهة العقيدة من ارتكاب الخطأ أو التحريض على الفتنة والقتل، فهذه العمائم يجب أن تبقى بيضاء نقية كنقاء عقيدتهم وبياض قلوبهم. وليتحمل أصحاب المآرب وحدهم عواقب أفعالهم.
بيان من شبلي زيد الأطرش حول حشر بعض دروز لبنان أنفسهم في شؤون سوريا
لقد درج نفر من أبناء الطائفة الدرزية في لبنان على حشر أنفسهم في الشأن السوري، يدفعهم الى ذلك منافع شخصية ضيقة، فهؤلاء كما يحاولون شق الطائفة في لبنان، خدمة لأجندات إقليمية‘ فهم يحاولون نقل ذلك إلى الطائفة في سورية. نريد أن نقول لهم إن بضاعتكم فاسدة ولن تجد من يشتريها من الشعب السوري الذي ينشد حريته وكرامته، وهي مردودة على صانعيها ومسوقيها في آن معاً.
إن توريط مشايخ من طائفة الموحدين الدروز في لبنان في زواريب السياسة ومستنقعاتها أمر غير محمود وغير مسبوق، ولم يعوّدنا أصحاب العمائم البيضاء الظهور على عتبات السلطان وذلك حفاظاً على نقاوة وطهرية عمائمهم ومواقفهم، وليبقوا على مسافة تمكنهم من القيام بدورهم كـ"مصلاح خير" عند اللزوم.
ولكن زيارة المشايخ الأفاضل إلى سورية فعلت غير ذلك، فقد أريد لهم أن يحشروا في لعبة التكاذب، ما ينسف أول ركن في العقيدة: الصدق، ويصب الزيت على النار المشتعلة في سورية، والتي يراد لها أن تكون طائفية ليستقيم لمشعليها استمرار القتل، ويحرّض على الشحن الطائفي، في لعبة دنيئة مستمرة منذ عدة عقود، يحتقرها الشعب السوري وينبذها.
نريد أن نذكّر أهلنا في لبنان أن اللعبة الطائفية لم تكن من مفردات طائفة الموحدين الدروز في سورية يوماً من الأيام، لا بل كانت الطائفة رائدة في جمع الكلمة حول وحدة الأرض السورية ووحدة الشعب السوري وتعايش طوائفه ودياناته وقومياته بعيداً عن الأغراض الصغيرة والمرامي الكيدية للبعض، وكان شعار "الدين لله والوطن للجميع" الذي رفعته الثورة السورية1925 الراية التي انضوى تحتها جميع السوريين وما زالوا. وإذا أبطن البعض غير ذلك وما زال يذكي الفتنة الطائفية ويؤججها إلى اليوم، فالطائفة الدرزية في سورية لا ولن تربط مصيرها بمصيرهم.
إننا لا نبتغي تعليم أحد ما يجب أن يفعله ببلده، ولا نريد ان ننوه عن عدم النضوج السياسي للبعض من إخوتنا في لبنان وعدم تحررهم من التبعية؛ ولكننا نؤكد أننا لا نرغب بتلقي دروس فيما علينا أن نفعله ببلدنا، فنحن ناضجون كفاية لتدبر أمورنا، أما للذي يظهر علينا بين حين وآخر ليؤسس ميليشيا طائفية على غرار ما يقوم به في لبنان خدمة لشياطين الطائفية عبر وسائل رخيصة وخطاب رذيل وبذاءة موصوفة، فلا بد له من أن يسقط في شر أعماله.
إننا نهيب بمشايخنا الأفاضل وهيآتنا الروحية أن ينأوا بأنفسهم عن المزالق التي يحاول أن يوقعهم بها المشتغلون على الصغائر. وأن يشفقوا على نزاهة العقيدة من ارتكاب الخطأ أو التحريض على الفتنة والقتل، فهذه العمائم يجب أن تبقى بيضاء نقية كنقاء عقيدتهم وبياض قلوبهم. وليتحمل أصحاب المآرب وحدهم عواقب أفعالهم.
إن توريط مشايخ من طائفة الموحدين الدروز في لبنان في زواريب السياسة ومستنقعاتها أمر غير محمود وغير مسبوق، ولم يعوّدنا أصحاب العمائم البيضاء الظهور على عتبات السلطان وذلك حفاظاً على نقاوة وطهرية عمائمهم ومواقفهم، وليبقوا على مسافة تمكنهم من القيام بدورهم كـ"مصلاح خير" عند اللزوم.
ولكن زيارة المشايخ الأفاضل إلى سورية فعلت غير ذلك، فقد أريد لهم أن يحشروا في لعبة التكاذب، ما ينسف أول ركن في العقيدة: الصدق، ويصب الزيت على النار المشتعلة في سورية، والتي يراد لها أن تكون طائفية ليستقيم لمشعليها استمرار القتل، ويحرّض على الشحن الطائفي، في لعبة دنيئة مستمرة منذ عدة عقود، يحتقرها الشعب السوري وينبذها.
نريد أن نذكّر أهلنا في لبنان أن اللعبة الطائفية لم تكن من مفردات طائفة الموحدين الدروز في سورية يوماً من الأيام، لا بل كانت الطائفة رائدة في جمع الكلمة حول وحدة الأرض السورية ووحدة الشعب السوري وتعايش طوائفه ودياناته وقومياته بعيداً عن الأغراض الصغيرة والمرامي الكيدية للبعض، وكان شعار "الدين لله والوطن للجميع" الذي رفعته الثورة السورية1925 الراية التي انضوى تحتها جميع السوريين وما زالوا. وإذا أبطن البعض غير ذلك وما زال يذكي الفتنة الطائفية ويؤججها إلى اليوم، فالطائفة الدرزية في سورية لا ولن تربط مصيرها بمصيرهم.
إننا لا نبتغي تعليم أحد ما يجب أن يفعله ببلده، ولا نريد ان ننوه عن عدم النضوج السياسي للبعض من إخوتنا في لبنان وعدم تحررهم من التبعية؛ ولكننا نؤكد أننا لا نرغب بتلقي دروس فيما علينا أن نفعله ببلدنا، فنحن ناضجون كفاية لتدبر أمورنا، أما للذي يظهر علينا بين حين وآخر ليؤسس ميليشيا طائفية على غرار ما يقوم به في لبنان خدمة لشياطين الطائفية عبر وسائل رخيصة وخطاب رذيل وبذاءة موصوفة، فلا بد له من أن يسقط في شر أعماله.
إننا نهيب بمشايخنا الأفاضل وهيآتنا الروحية أن ينأوا بأنفسهم عن المزالق التي يحاول أن يوقعهم بها المشتغلون على الصغائر. وأن يشفقوا على نزاهة العقيدة من ارتكاب الخطأ أو التحريض على الفتنة والقتل، فهذه العمائم يجب أن تبقى بيضاء نقية كنقاء عقيدتهم وبياض قلوبهم. وليتحمل أصحاب المآرب وحدهم عواقب أفعالهم.
العراق: الثأر بدل القضاء
الجمعة 23 ديسيمبر 2011
حسام عيتاني
كرد فعل شرطي، جاءت الانفجارات في بغداد بعد اتهامات نوري المالكي لطارق الهاشمي وصالح المطلك بالتورط في أعمال إرهابية.
ما كان يصح الاعتقاد أن تصعيداً طائفياً من النوع الذي نشب في يوم الانسحاب الأميركي من العراق، يمكن أن يمر من دون أن يدفع ثمنه المدنيون العراقيون. وبعد عدد من التفجيرات التي سقط ضحيتها بعض المواطنين، جاءت تفجيرات بغداد أمس لترسم الأطر الحقيقية للأزمة التي يتجه العراق نحوها.
ربما نشهد في هذه الأيام التباين الأوسع في وجهات النظر حول تقاسم السلطة في العراق (على أساس طائفي طبعاً)، منذ الاحتلال الأميركي في 2003، فيما تلوح سمات احتراب أهلي ستبدو معه موجة المجازر والتصفيات الطائفية في العامين 2006 و2007، كنزهة في حديقة. ويخطئ من يقلل من حجم الأحقاد بين العراقيين على رغم أنهم ما زالوا يتخاطبون على شاشات الفضائيات بـ «الأخوة في القائمة العراقية» و «الأخوة في لائحة دولة القانون». فإرث الكراهية الذي لم تفعل أعوام الاحتلال غير تضخيمه، جاهز للانفجار.
لا يمكن لغير تحقيق قضائي نزيه ومستقل الجزم في صحة أو عدم صحة الاتهامات إلى الهاشمي والمطلك، لكن سيكون من المضحك الاعتقاد بغياب الأبعاد السياسية عن اتهام الرجلين في اليوم الذي أنهى فيه الأميركيون وجودهم العسكري الرسمي في البلاد. ففي بلد شهد ما لا يمكن وصفه أو تخيله من جرائم انغمس في أوحالها المسؤولون السياسيون والأمنيون من كل صنف ولون، تبدو غبية تلك الصلة التي يريد المالكي إقامتها حصراً بين الهاشمي والمطلك (واستطراداً الطائفة التي ينتميان إليها) وبين الأعمال الإرهابية. ومعروفة بالأسماء والتواريخ الجهات التي تلوثت أيديها بدماء العراقيين، من مختلف الطوائف والاتجاهات، في الأعوام الماضية.
وربما لا يبالي المالكي، باستعجاله اتهام خصميه بتصوير الاحتلال السابق كضمانة للأقليات في العراق. فالمهم عنده، على ما يبدو، إحكام القبض على نياط السلطة ومنع تسربها إلى الأطراف المشاركة شكلياً في الائتلاف الحكومي الذي ظهر بعد لأي وعسر عام 2010. وربما يجوز الرد على اتهامات رئيس الوزراء إلى نائبه المطلك ونائب رئيس الجمهورية الهاشمي، باتهامات من القاموس ذاته، كاسترجاع سجل علاقته بإيران والتجاوب الكامل مع السياسات الإيرانية في العراق وخارجه.
ويمكن التذكير أيضا أن إصرار المالكي على الاستحواذ على السلطة كاملة واحتكارها وإبعاد كل من يبدي ميلاً للتعاون مع الفئات المختلفة من أجل صوغ حياة سياسية جديدة، كعدد من قادة قائمة «العراقية»، يترافق مع فشل عام وشامل في جميع النواحي الخدمية والأمنية. وأحوال الكهرباء والماء والطرق في عراق اليوم تبدو أسوأ مما كانت أيام الحصار الدولي في التسعينات، على رغم إنفاق مئات البلايين من الدولارات على مشاريع البنى التحتية. أما الأمن فيبدو أن المالكي الممسك بخيوط جميع الأجهزة والقوات المسلحة، لا يفهمه سوى تجريد للحملات على مناطق خصومه السياسيين.
بيد أن هذا وغيره لا يجب أن يخفي الصورة العريضة للموقف في العراق. فأوان الأفراد الذين تتحكم بهم هواجسهم الطائفية والشخصية يجب أن ينتهي، بغض النظر إلى أي ملة أو طائفة أو عرق انتموا، ليحين وقت العراقيين الراغبين فعلاً في طي صفحة الاحتلال والتوجه نحو معالجة الأحقاد ومحو آثارها. هذا، أو أننا سنشهد في القريب حقول قتل تجعل العراقيين يترحمون على الماضي.
حسام عيتاني
كرد فعل شرطي، جاءت الانفجارات في بغداد بعد اتهامات نوري المالكي لطارق الهاشمي وصالح المطلك بالتورط في أعمال إرهابية.
ما كان يصح الاعتقاد أن تصعيداً طائفياً من النوع الذي نشب في يوم الانسحاب الأميركي من العراق، يمكن أن يمر من دون أن يدفع ثمنه المدنيون العراقيون. وبعد عدد من التفجيرات التي سقط ضحيتها بعض المواطنين، جاءت تفجيرات بغداد أمس لترسم الأطر الحقيقية للأزمة التي يتجه العراق نحوها.
ربما نشهد في هذه الأيام التباين الأوسع في وجهات النظر حول تقاسم السلطة في العراق (على أساس طائفي طبعاً)، منذ الاحتلال الأميركي في 2003، فيما تلوح سمات احتراب أهلي ستبدو معه موجة المجازر والتصفيات الطائفية في العامين 2006 و2007، كنزهة في حديقة. ويخطئ من يقلل من حجم الأحقاد بين العراقيين على رغم أنهم ما زالوا يتخاطبون على شاشات الفضائيات بـ «الأخوة في القائمة العراقية» و «الأخوة في لائحة دولة القانون». فإرث الكراهية الذي لم تفعل أعوام الاحتلال غير تضخيمه، جاهز للانفجار.
لا يمكن لغير تحقيق قضائي نزيه ومستقل الجزم في صحة أو عدم صحة الاتهامات إلى الهاشمي والمطلك، لكن سيكون من المضحك الاعتقاد بغياب الأبعاد السياسية عن اتهام الرجلين في اليوم الذي أنهى فيه الأميركيون وجودهم العسكري الرسمي في البلاد. ففي بلد شهد ما لا يمكن وصفه أو تخيله من جرائم انغمس في أوحالها المسؤولون السياسيون والأمنيون من كل صنف ولون، تبدو غبية تلك الصلة التي يريد المالكي إقامتها حصراً بين الهاشمي والمطلك (واستطراداً الطائفة التي ينتميان إليها) وبين الأعمال الإرهابية. ومعروفة بالأسماء والتواريخ الجهات التي تلوثت أيديها بدماء العراقيين، من مختلف الطوائف والاتجاهات، في الأعوام الماضية.
وربما لا يبالي المالكي، باستعجاله اتهام خصميه بتصوير الاحتلال السابق كضمانة للأقليات في العراق. فالمهم عنده، على ما يبدو، إحكام القبض على نياط السلطة ومنع تسربها إلى الأطراف المشاركة شكلياً في الائتلاف الحكومي الذي ظهر بعد لأي وعسر عام 2010. وربما يجوز الرد على اتهامات رئيس الوزراء إلى نائبه المطلك ونائب رئيس الجمهورية الهاشمي، باتهامات من القاموس ذاته، كاسترجاع سجل علاقته بإيران والتجاوب الكامل مع السياسات الإيرانية في العراق وخارجه.
ويمكن التذكير أيضا أن إصرار المالكي على الاستحواذ على السلطة كاملة واحتكارها وإبعاد كل من يبدي ميلاً للتعاون مع الفئات المختلفة من أجل صوغ حياة سياسية جديدة، كعدد من قادة قائمة «العراقية»، يترافق مع فشل عام وشامل في جميع النواحي الخدمية والأمنية. وأحوال الكهرباء والماء والطرق في عراق اليوم تبدو أسوأ مما كانت أيام الحصار الدولي في التسعينات، على رغم إنفاق مئات البلايين من الدولارات على مشاريع البنى التحتية. أما الأمن فيبدو أن المالكي الممسك بخيوط جميع الأجهزة والقوات المسلحة، لا يفهمه سوى تجريد للحملات على مناطق خصومه السياسيين.
بيد أن هذا وغيره لا يجب أن يخفي الصورة العريضة للموقف في العراق. فأوان الأفراد الذين تتحكم بهم هواجسهم الطائفية والشخصية يجب أن ينتهي، بغض النظر إلى أي ملة أو طائفة أو عرق انتموا، ليحين وقت العراقيين الراغبين فعلاً في طي صفحة الاحتلال والتوجه نحو معالجة الأحقاد ومحو آثارها. هذا، أو أننا سنشهد في القريب حقول قتل تجعل العراقيين يترحمون على الماضي.
حزب الله أمام السياسة وازدواجية السلطة
الجمعة 23 ديسيمبر 2011
سامر فرنجية
قامت منظومة «حزب الله» على ازدواجية المقاومة والدولة، أو ازدواجية العسكر والمدنيين، مستفيدة من الانفصام في المسؤوليات والأكلاف الذي أنتجته هذه الازدواجية. فالشق الأول من هذه المعادلة واضح بأهدافه ومقتضياته ومنطقه. أما الثاني، فكان، أو على الأقل بدا، وكأنه خارج اهتمام الحزب المقاوم، لا معايير محددة له طالما لا يتناقض مع مقتضيات المقاومة.
بقيت هذه المعادلة قائمة خلال العقدين الفائتين، مع غياب «حزب الله» عن الداخل السياسي المسيّج بمقاومته. ولكن المعادلة الركيكة لم تدم. فبدأت بالتضعضع مع اغتيال الرئيس الحريري وخروج النظام البعثي من الداخل اللبناني. وتعمّق هذا التضعضع مع قيام المحكمة الدولية والصراع المفتوح مع نظام الأسد، حتى انهارت بالكامل مع تحول مسألة سلاح «حزب الله» إلى المشكلة الأساس.
وحاول الحزب ترميم هذه المعادلة وتحصينها من خلال مبدأ حكومة «الوحدة الوطنية» وطاولات الحوار، العاملة على تحصين وجوده في المواقع الحساسة للدولة وإضاعة الوقت بالحوار وطاولاته. وعندما أصبحت هذه الاستراتيجية غير فعالة، اجتاح الداخل السياسي بالعسكر وأطلق نوعاً من المكارثية الممانعة في المجتمع بغية إجبار خصومه على القبول بمعادلة الازدواجية. لكن الحزب لم ينجح في استنساخ «نجاحاته» العسكرية في عالم السياسة، وأمام تعنت أخصامه المحليين بقيت يتيمة هذه المحاولة لإعادة إنعاش معادلة التسعينات المعدّلة.
مع فشل خيار الازدواجية، أطلق الحزب استراتيجية جديدة تقوم على استبدال الثنائية بسيطرته الكاملة، وهو خيار كان قد اتّبعه في مناطق نفوذه. ففي موازاة محاولاته ترميم معادلة الازدواجية، قام «حزب الله» بإغلاق طائفته وتولي أمرها، بخاصة بعد حرب تموز ومسلسل مساعداتها. ولئن كان المردود السياسي لتلك الخطة إيجابياً في المرحلة الأولى، كما تبين من استحالة اختراقه انتخابياً، فسرعان ما بدأت مشاكل هذه الإستراتيجية بالظهور. هكذا دخلت المقاومة في زواريب العائلات والعشائر والفعاليات وفي كيفيات إدارتها. وتحولت هذه القوى، التي تنظر إلى نفسها كأداة فعالة ورشيقة وسريعة، إلى شيء يشبه الفيل المصاب بالزكام، يتعثّر بتعقيدات الحياة اليومية.
فكما اكتشف الحزب ولا يزال، فإن قوانين السياسة، مهما كانت تافهة، مختلفة عن إدارة جبهة عسكرية، مهما كانت مهمة. لكن هذا لم يردعه من الانتقال إلى مرحلة جديدة من اتمام السيطرة المطلقة على الدولة. فعندما اقتضت المقاومة وحاجاتها الحسم في الداخل، قامت حكومة «كلنا للوطن كلنا للعمل» وتحول الحزب إلى مقاومة ودولة وأصبحت مسؤولية إدارة الجبهة والمؤخرة على عاتقه. وبعد سنوات قضاها في وضوح الجبهات العسكرية، دخل الحزب إلى غموض الحياة المدنية ورماديتها والتباسها، أي إلى السياسة.
فقد بدأ التخبّط في محاولة إدارة بلد صغير و «تافه»، هو الذي سوّق نفسه كلاعب إقليمي، أصغرُ خطاب لأمينه العام يعيد إعادة رسم المنطقة برمّتها. وكان هذا التخبط قد بدأ مع اكتشاف مواقف الحلفاء الفعلية منه في تسريبات «ويكيليكس» وظهور العمالة عند حليف عوني. وازداد هذا التخبّط في سياسته الحكومية. ففي موضوع تمويل المحكمة الدولية، اضطر الحزب الى القبول بألاعيب رئيس الوزراء، بعدما بنى كل سياسته على رفض المحكمة واعتبارها إسرائيلية. هكذا وجد نفسه في حكومة تموّل محكمة تدينه. واستمر هذا الضياع في موضوع قانون الرواتب والأجور، فبدأ الحزب بدعم مطالب النائب عون في هذا الموضوع، ليعود ويصوّت ضد قانون حليفه في مجلس الوزراء. ثم عاد ودعم الحركة الاحتجاجية ضد هذا المشروع، معتبراً أن تصويته سوء تنسيق. ومجدداً، وجد الحزب نفسه في موقع غريب، مقرّاً قانوناً يتظاهر ضده.
يتبين يوماً بعد يوم أن إدارة معركة عسكرية وجبهة مقاومة أسهل من إدارة اقتصاد ومجتمع ونظام سياسي، وإن كانت الأخيرة أقل جاذبية واستدعاء للعنفوان والشرف. فالحياة اليومية في دولة أصعب من يوميات الحروب الإقليمية، كما تتطلب أسلوباً مختلفاً من التعاطي. فهي لا تتحمل مواقف حاسمة من الغرب والعرب كما لا تدار بعقلية العدو والصديق ولا ينفع فيها الحسم والقطع. ذاك أن المهارة العسكرية التي راكمها الحزب على مدى سنوات غير مجدية في السياسة، يمكنها أن تهدم الخصم لكنها غير قادرة على تأسيس بديل منه. وخروج أمين عام «حزب الله» لمقابلة جمهوره اعترافاً منه بأن السياسة لا تدار من وراء شاشات التلفزة، ربما بدا، هو الآخر، أقل عنفواناً وقدسية.
ومع اكتشاف الحدود الموضوعية للسياسة واستحالة تبسيط التعقيدات في ثنائيات أخلاقوية، دخل الحزب في صلب السياسة. وعلى عتبة سن الرشد هذا، يجد نفسه أمام احتمال من ثلاثة: يقوم الأول على القبول بالواقع وبشروط السياسة والتحول إلى حزب طبيعي والابتعاد من مبدأ المقاومة من أجل المقاومة في دوّامة لا نهاية لها. ولكن هذا الاحتمال معدوم. فمن اعتاد على تصور نفسه كزعيم للعرب وأمين عام حزب «أشرف الناس» وقائد «الانتصارات الإلهية»، يصعب عليه التحول مجرد زعيم لكتلة نيابية، يتنافس على أكثرية نيابية مع باقي السياسيين اللبنانيين، الذين غالباً ما يكون سقف طموحاتهم السياسية كسّارة من هنا ووظيفة من هناك.
أما الاحتمال الثاني، فيقوم على الخروج من هذه الازدواجية من خلال الخروج من السياسة والعودة إلى ميدان المعركة. فبعد التوغل الفاشل في السياسة الداخلية، تبدو الحرب أكثر صفاء وطهارة وبساطة، وهذا ما يشكّل مخرجاً من مأزقه الحالي، اللبناني والسوري. لكن يبقى هذا الاحتمال رهناً بالتطورات الإقليمية، وكلفته، مهما كانت النتيجة، عالية. ويبقى احتمال أخير، مدعوم من الحليف العوني، وقائم على مبدأ استعمال الأسلوب الحربي الذي يتقنه الحزب في السياسة الداخلية ومعركة الإصلاح. فالخيار العوني كناية عن «٧ أيار إصلاحي»، يُستعمل الحزب فيه كقوة ضاربة إصلاحية لاقتحام أوكار الفساد واقتلاع الخونة والفاسدين، وهم وجهان للعملة نفسها وفق الأحزاب المتفاهمة. يقتضي هذا الخيار، الأشبه بتجربة «القفزة الكبرى إلى الأمام»، ذوبان الدولة في الحزب وامتداده العوني، والتضحية بالهامش الضيق للحرية في لبنان. فإذا دُعّمت الحقيقة المطلقة بالسلطة المطلقة، تصبح الديموقراطية بلا جدوى، والأخصام السياسيون عقبات على طريق الجنة، تدميرهم حلال.
وضع الحزب نفسه على مفترق طرق لا عودة عنه: إما خوض السياسة الصعبة التي تتطلب تواضعاً وقبولاً بالحدود وإعادة نظر في خيارات الماضي، أي اجتياز عتبة الرشد السياسي، أو الهروب إلى أمام من خلال العودة إلى زمن الشباب، زمن المقاومة المعمّمة. لكنْ، كما اكتشف دوريان غراي من قبل، من الذي يريد أن يكبر حين يملك القدرة على إطالة زمن الشباب؟ الفارق أن دوريان حافظ على شبابه وتعفنت الصورة. أما عندنا، فيتعفن البلد لتبقى صورة سيد المقاومة ناصعة.
سامر فرنجية
قامت منظومة «حزب الله» على ازدواجية المقاومة والدولة، أو ازدواجية العسكر والمدنيين، مستفيدة من الانفصام في المسؤوليات والأكلاف الذي أنتجته هذه الازدواجية. فالشق الأول من هذه المعادلة واضح بأهدافه ومقتضياته ومنطقه. أما الثاني، فكان، أو على الأقل بدا، وكأنه خارج اهتمام الحزب المقاوم، لا معايير محددة له طالما لا يتناقض مع مقتضيات المقاومة.
بقيت هذه المعادلة قائمة خلال العقدين الفائتين، مع غياب «حزب الله» عن الداخل السياسي المسيّج بمقاومته. ولكن المعادلة الركيكة لم تدم. فبدأت بالتضعضع مع اغتيال الرئيس الحريري وخروج النظام البعثي من الداخل اللبناني. وتعمّق هذا التضعضع مع قيام المحكمة الدولية والصراع المفتوح مع نظام الأسد، حتى انهارت بالكامل مع تحول مسألة سلاح «حزب الله» إلى المشكلة الأساس.
وحاول الحزب ترميم هذه المعادلة وتحصينها من خلال مبدأ حكومة «الوحدة الوطنية» وطاولات الحوار، العاملة على تحصين وجوده في المواقع الحساسة للدولة وإضاعة الوقت بالحوار وطاولاته. وعندما أصبحت هذه الاستراتيجية غير فعالة، اجتاح الداخل السياسي بالعسكر وأطلق نوعاً من المكارثية الممانعة في المجتمع بغية إجبار خصومه على القبول بمعادلة الازدواجية. لكن الحزب لم ينجح في استنساخ «نجاحاته» العسكرية في عالم السياسة، وأمام تعنت أخصامه المحليين بقيت يتيمة هذه المحاولة لإعادة إنعاش معادلة التسعينات المعدّلة.
مع فشل خيار الازدواجية، أطلق الحزب استراتيجية جديدة تقوم على استبدال الثنائية بسيطرته الكاملة، وهو خيار كان قد اتّبعه في مناطق نفوذه. ففي موازاة محاولاته ترميم معادلة الازدواجية، قام «حزب الله» بإغلاق طائفته وتولي أمرها، بخاصة بعد حرب تموز ومسلسل مساعداتها. ولئن كان المردود السياسي لتلك الخطة إيجابياً في المرحلة الأولى، كما تبين من استحالة اختراقه انتخابياً، فسرعان ما بدأت مشاكل هذه الإستراتيجية بالظهور. هكذا دخلت المقاومة في زواريب العائلات والعشائر والفعاليات وفي كيفيات إدارتها. وتحولت هذه القوى، التي تنظر إلى نفسها كأداة فعالة ورشيقة وسريعة، إلى شيء يشبه الفيل المصاب بالزكام، يتعثّر بتعقيدات الحياة اليومية.
فكما اكتشف الحزب ولا يزال، فإن قوانين السياسة، مهما كانت تافهة، مختلفة عن إدارة جبهة عسكرية، مهما كانت مهمة. لكن هذا لم يردعه من الانتقال إلى مرحلة جديدة من اتمام السيطرة المطلقة على الدولة. فعندما اقتضت المقاومة وحاجاتها الحسم في الداخل، قامت حكومة «كلنا للوطن كلنا للعمل» وتحول الحزب إلى مقاومة ودولة وأصبحت مسؤولية إدارة الجبهة والمؤخرة على عاتقه. وبعد سنوات قضاها في وضوح الجبهات العسكرية، دخل الحزب إلى غموض الحياة المدنية ورماديتها والتباسها، أي إلى السياسة.
فقد بدأ التخبّط في محاولة إدارة بلد صغير و «تافه»، هو الذي سوّق نفسه كلاعب إقليمي، أصغرُ خطاب لأمينه العام يعيد إعادة رسم المنطقة برمّتها. وكان هذا التخبط قد بدأ مع اكتشاف مواقف الحلفاء الفعلية منه في تسريبات «ويكيليكس» وظهور العمالة عند حليف عوني. وازداد هذا التخبّط في سياسته الحكومية. ففي موضوع تمويل المحكمة الدولية، اضطر الحزب الى القبول بألاعيب رئيس الوزراء، بعدما بنى كل سياسته على رفض المحكمة واعتبارها إسرائيلية. هكذا وجد نفسه في حكومة تموّل محكمة تدينه. واستمر هذا الضياع في موضوع قانون الرواتب والأجور، فبدأ الحزب بدعم مطالب النائب عون في هذا الموضوع، ليعود ويصوّت ضد قانون حليفه في مجلس الوزراء. ثم عاد ودعم الحركة الاحتجاجية ضد هذا المشروع، معتبراً أن تصويته سوء تنسيق. ومجدداً، وجد الحزب نفسه في موقع غريب، مقرّاً قانوناً يتظاهر ضده.
يتبين يوماً بعد يوم أن إدارة معركة عسكرية وجبهة مقاومة أسهل من إدارة اقتصاد ومجتمع ونظام سياسي، وإن كانت الأخيرة أقل جاذبية واستدعاء للعنفوان والشرف. فالحياة اليومية في دولة أصعب من يوميات الحروب الإقليمية، كما تتطلب أسلوباً مختلفاً من التعاطي. فهي لا تتحمل مواقف حاسمة من الغرب والعرب كما لا تدار بعقلية العدو والصديق ولا ينفع فيها الحسم والقطع. ذاك أن المهارة العسكرية التي راكمها الحزب على مدى سنوات غير مجدية في السياسة، يمكنها أن تهدم الخصم لكنها غير قادرة على تأسيس بديل منه. وخروج أمين عام «حزب الله» لمقابلة جمهوره اعترافاً منه بأن السياسة لا تدار من وراء شاشات التلفزة، ربما بدا، هو الآخر، أقل عنفواناً وقدسية.
ومع اكتشاف الحدود الموضوعية للسياسة واستحالة تبسيط التعقيدات في ثنائيات أخلاقوية، دخل الحزب في صلب السياسة. وعلى عتبة سن الرشد هذا، يجد نفسه أمام احتمال من ثلاثة: يقوم الأول على القبول بالواقع وبشروط السياسة والتحول إلى حزب طبيعي والابتعاد من مبدأ المقاومة من أجل المقاومة في دوّامة لا نهاية لها. ولكن هذا الاحتمال معدوم. فمن اعتاد على تصور نفسه كزعيم للعرب وأمين عام حزب «أشرف الناس» وقائد «الانتصارات الإلهية»، يصعب عليه التحول مجرد زعيم لكتلة نيابية، يتنافس على أكثرية نيابية مع باقي السياسيين اللبنانيين، الذين غالباً ما يكون سقف طموحاتهم السياسية كسّارة من هنا ووظيفة من هناك.
أما الاحتمال الثاني، فيقوم على الخروج من هذه الازدواجية من خلال الخروج من السياسة والعودة إلى ميدان المعركة. فبعد التوغل الفاشل في السياسة الداخلية، تبدو الحرب أكثر صفاء وطهارة وبساطة، وهذا ما يشكّل مخرجاً من مأزقه الحالي، اللبناني والسوري. لكن يبقى هذا الاحتمال رهناً بالتطورات الإقليمية، وكلفته، مهما كانت النتيجة، عالية. ويبقى احتمال أخير، مدعوم من الحليف العوني، وقائم على مبدأ استعمال الأسلوب الحربي الذي يتقنه الحزب في السياسة الداخلية ومعركة الإصلاح. فالخيار العوني كناية عن «٧ أيار إصلاحي»، يُستعمل الحزب فيه كقوة ضاربة إصلاحية لاقتحام أوكار الفساد واقتلاع الخونة والفاسدين، وهم وجهان للعملة نفسها وفق الأحزاب المتفاهمة. يقتضي هذا الخيار، الأشبه بتجربة «القفزة الكبرى إلى الأمام»، ذوبان الدولة في الحزب وامتداده العوني، والتضحية بالهامش الضيق للحرية في لبنان. فإذا دُعّمت الحقيقة المطلقة بالسلطة المطلقة، تصبح الديموقراطية بلا جدوى، والأخصام السياسيون عقبات على طريق الجنة، تدميرهم حلال.
وضع الحزب نفسه على مفترق طرق لا عودة عنه: إما خوض السياسة الصعبة التي تتطلب تواضعاً وقبولاً بالحدود وإعادة نظر في خيارات الماضي، أي اجتياز عتبة الرشد السياسي، أو الهروب إلى أمام من خلال العودة إلى زمن الشباب، زمن المقاومة المعمّمة. لكنْ، كما اكتشف دوريان غراي من قبل، من الذي يريد أن يكبر حين يملك القدرة على إطالة زمن الشباب؟ الفارق أن دوريان حافظ على شبابه وتعفنت الصورة. أما عندنا، فيتعفن البلد لتبقى صورة سيد المقاومة ناصعة.
اجتماع غير مسبوق لمنظمة التحرير حضرته «حماس» و«الجهاد»
الجمعة 23 ديسيمبر 2011
القاهرة - جيهان الحسيني
أنهى «الإطار القيادي الموقت» لمنظمة التحرير الفلسطينية (لجنة تفعيل المنظمة) في القاهرة أمس اجتماعاً غير مسبوق برئاسة الرئيس محمود عباس، حضرته للمرة الأولى حركتا «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، في خطوة تمهّد لتفعيل المنظمة وانضمام فصائل أخرى إليها، وتطلق التحضير لانتخاب مجلس وطني جديد.
وكان الاجتماع استمع الى تقرير موسّع قدمه الرئيس عباس عن الوضع السياسي في ظل انسداد عملية السلام والتعنت الإسرائيلي واستمرار سياسة الاستيطان وتهويد القدس، إضافة الى التحرك دولياً للاعتراف بالدولة الفلسطينية، والجهود المبذولة للدخول في الأمم المتحدة ومؤسساتها.
وحضر الاجتماع رئيس المكتب السياسي لـ «حماس» خالد مشعل والامين العام لحركة «الجهاد الاسلامي» رمضان شلح، وأعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة والأمناء العامين للفصائل، وشخصيات مستقلة، كما حضره وزير المخابرات المصرية مراد موافق وعدد من مساعديه.
وأعلن مفوض العلاقات الوطنية في اللجنة المركزية لحركة «فتح» عزام الأحمد ان جدول أعمال الاجتماع تضمن مناقشة المسودة الثانية لنظام انتخابات المجلس الوطني، مضيفاً انه تم الاتفاق على أن تقدم الفصائل والفعاليات الفلسطينية ملاحظاتها ومقترحاتها لرئيس المجلس الوطني باعتباره المشرف على إعداد نظام انتخابات المجلس الوطني، في مدة أقصاها أسبوعين. وقال إن اللجنة كلفت اللجنة التنفيذية للمنظمة بدء الاتصال مع الدول حيث توجد جاليات فلسطينية واسعة لأخذ موافقتها على إجراء الانتخابات الخاصة بالمجلس الوطني.
وأكد أن اللجنة ثمّنت المرسوم الرئاسي الصادر عن عباس امس القاضي بتشكيل لجنة الانتخابات المركزية في الوطن، موضحاً أن هذه اللجنة كلفت بأن تكون المسؤولة عن انتخابات المجلس الوطني داخل الوطن. واضاف: «بالنسبة الى خارج الوطن، ووفق النظام، سيكون هناك ترتيب آخر».
وقال: «المهم أن يقر الجميع، وفي المقدمة الأخوة في حماس والجهاد، أن منظمة التحرير هي الوعاء الوطني الذي يضم كل القوى والاتجاهات والشرائح الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وحتماً بعد تشكيل المجلس الوطني الجديد ستكون هناك مشاركة مباشرة من كل الفصائل في أطرها القيادية».
وصرح رئيس المجلس الوطني سليم الزعنون لـ «الحياة» بأنه تم تشكيل لجنة فرعية تضم كلاً من رئيس المجلس الوطني والأمناء العامين ستجتمع كل أسبوعين لمتابعة القرارات التي صدرت عن الاجتماع.
من جانبه، قال القيادي في «حماس» فوزي برهوم عن الاجتماع: «أكدنا اولاً ضرورة تطبيق كل ما اتفقت عليه الفصائل وفي المواعيد المحددة لذلك، ووقّع عباس على مرسوم رئاسي باعتماد اللجنة العليا للانتخابات، اذ تم تكليف الزعنون رئاسة هذه اللجنة بعضوية شخص عن كل فصيل، وسيعقد اللقاء الأول في عمان منتصف الشهر المقبل». واوضح انه تم توزيع اقتراح في شأن قانون انتخابات المنظمة لدرسه والرد عليه، كما تم تشكيل لجنة من 4 أعضاء لبحث كيفية معالجة إشكاليات بعض الفصائل وبعض قضايا المستقلين، كما جرى نقاش في شأن الموضوع السياسي وضرورة وجود رؤية مشتركة للدفاع عن قضايا الشعب الفلسطيني.
في هذا الصدد، أكد الأمين العام لحزب «الشعب» النائب بسام الصالحي أنه تم التأكيد خلال الاجتماع على عدم الذهاب الى المفاوضات في ظل استمرار الاستيطان وفي غياب مرجعية ملزمة طبقاً لقرارات الامم المتحدة، كما تم الاتفاق على دعم التوجه الى الامم المتحدة لنيل عضويتها وعضوية مؤسساتها، وعلى اعتماد المقاومة الشعبية في هذه المرحلة.
القاهرة - جيهان الحسيني
أنهى «الإطار القيادي الموقت» لمنظمة التحرير الفلسطينية (لجنة تفعيل المنظمة) في القاهرة أمس اجتماعاً غير مسبوق برئاسة الرئيس محمود عباس، حضرته للمرة الأولى حركتا «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، في خطوة تمهّد لتفعيل المنظمة وانضمام فصائل أخرى إليها، وتطلق التحضير لانتخاب مجلس وطني جديد.
وكان الاجتماع استمع الى تقرير موسّع قدمه الرئيس عباس عن الوضع السياسي في ظل انسداد عملية السلام والتعنت الإسرائيلي واستمرار سياسة الاستيطان وتهويد القدس، إضافة الى التحرك دولياً للاعتراف بالدولة الفلسطينية، والجهود المبذولة للدخول في الأمم المتحدة ومؤسساتها.
وحضر الاجتماع رئيس المكتب السياسي لـ «حماس» خالد مشعل والامين العام لحركة «الجهاد الاسلامي» رمضان شلح، وأعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة والأمناء العامين للفصائل، وشخصيات مستقلة، كما حضره وزير المخابرات المصرية مراد موافق وعدد من مساعديه.
وأعلن مفوض العلاقات الوطنية في اللجنة المركزية لحركة «فتح» عزام الأحمد ان جدول أعمال الاجتماع تضمن مناقشة المسودة الثانية لنظام انتخابات المجلس الوطني، مضيفاً انه تم الاتفاق على أن تقدم الفصائل والفعاليات الفلسطينية ملاحظاتها ومقترحاتها لرئيس المجلس الوطني باعتباره المشرف على إعداد نظام انتخابات المجلس الوطني، في مدة أقصاها أسبوعين. وقال إن اللجنة كلفت اللجنة التنفيذية للمنظمة بدء الاتصال مع الدول حيث توجد جاليات فلسطينية واسعة لأخذ موافقتها على إجراء الانتخابات الخاصة بالمجلس الوطني.
وأكد أن اللجنة ثمّنت المرسوم الرئاسي الصادر عن عباس امس القاضي بتشكيل لجنة الانتخابات المركزية في الوطن، موضحاً أن هذه اللجنة كلفت بأن تكون المسؤولة عن انتخابات المجلس الوطني داخل الوطن. واضاف: «بالنسبة الى خارج الوطن، ووفق النظام، سيكون هناك ترتيب آخر».
وقال: «المهم أن يقر الجميع، وفي المقدمة الأخوة في حماس والجهاد، أن منظمة التحرير هي الوعاء الوطني الذي يضم كل القوى والاتجاهات والشرائح الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وحتماً بعد تشكيل المجلس الوطني الجديد ستكون هناك مشاركة مباشرة من كل الفصائل في أطرها القيادية».
وصرح رئيس المجلس الوطني سليم الزعنون لـ «الحياة» بأنه تم تشكيل لجنة فرعية تضم كلاً من رئيس المجلس الوطني والأمناء العامين ستجتمع كل أسبوعين لمتابعة القرارات التي صدرت عن الاجتماع.
من جانبه، قال القيادي في «حماس» فوزي برهوم عن الاجتماع: «أكدنا اولاً ضرورة تطبيق كل ما اتفقت عليه الفصائل وفي المواعيد المحددة لذلك، ووقّع عباس على مرسوم رئاسي باعتماد اللجنة العليا للانتخابات، اذ تم تكليف الزعنون رئاسة هذه اللجنة بعضوية شخص عن كل فصيل، وسيعقد اللقاء الأول في عمان منتصف الشهر المقبل». واوضح انه تم توزيع اقتراح في شأن قانون انتخابات المنظمة لدرسه والرد عليه، كما تم تشكيل لجنة من 4 أعضاء لبحث كيفية معالجة إشكاليات بعض الفصائل وبعض قضايا المستقلين، كما جرى نقاش في شأن الموضوع السياسي وضرورة وجود رؤية مشتركة للدفاع عن قضايا الشعب الفلسطيني.
في هذا الصدد، أكد الأمين العام لحزب «الشعب» النائب بسام الصالحي أنه تم التأكيد خلال الاجتماع على عدم الذهاب الى المفاوضات في ظل استمرار الاستيطان وفي غياب مرجعية ملزمة طبقاً لقرارات الامم المتحدة، كما تم الاتفاق على دعم التوجه الى الامم المتحدة لنيل عضويتها وعضوية مؤسساتها، وعلى اعتماد المقاومة الشعبية في هذه المرحلة.
مشعل: على "حماس" و"فتح" تحمّل مسؤولية الأخطاء التي ارتكبتاها
دعا رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" خالد مشعل في تصريحات لصحيفة "الشرق الأوسط" حركتي "حماس" و"فتح" إلى "التحلّي بالشجاعة في نقد الذات وتحمل مسؤولية الأخطاء التي ارتكبتاها".
وقال مشعل قبل أن يغادر القاهرة عائداً إلى دمشق: "يجب أن نكون شجعاناً في نقد أنفسنا.. فهناك أخطاء متبادلة صدرت عن حماس وفتح يجب أن نعترف بها وفي نفس الوقت يجب ألا نلقي باللائمة على بعضنا البعض". وحول اجتماعات القاهرة مع لجنة منظمة التحرير الفلسطينية أول من أمس، أجاب مشعل: "لأول مرة منذ 2005 يوضع ملف المنظمة على الطاولة.. واتفقنا على تفعيلها وإعادة بنائها من خلال انتخاب مجلس وطني جديد ولجنة تنفيذية جديدة.. وهذا الاجتماع (الإطار القيادي المؤقت للشعب الفلسطيني) كلنا وافقنا عليه وليس مجرد انضمام أحد للآخر، فلا أحد يستطيع الآن الانفراد بالقرار السياسي فالجميع شركاء".
وقال مشعل قبل أن يغادر القاهرة عائداً إلى دمشق: "يجب أن نكون شجعاناً في نقد أنفسنا.. فهناك أخطاء متبادلة صدرت عن حماس وفتح يجب أن نعترف بها وفي نفس الوقت يجب ألا نلقي باللائمة على بعضنا البعض". وحول اجتماعات القاهرة مع لجنة منظمة التحرير الفلسطينية أول من أمس، أجاب مشعل: "لأول مرة منذ 2005 يوضع ملف المنظمة على الطاولة.. واتفقنا على تفعيلها وإعادة بنائها من خلال انتخاب مجلس وطني جديد ولجنة تنفيذية جديدة.. وهذا الاجتماع (الإطار القيادي المؤقت للشعب الفلسطيني) كلنا وافقنا عليه وليس مجرد انضمام أحد للآخر، فلا أحد يستطيع الآن الانفراد بالقرار السياسي فالجميع شركاء".
مشعل: على "حماس" و"فتح" تحمّل مسؤولية الأخطاء التي ارتكبتاها
دعا رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" خالد مشعل في تصريحات لصحيفة "الشرق الأوسط" حركتي "حماس" و"فتح" إلى "التحلّي بالشجاعة في نقد الذات وتحمل مسؤولية الأخطاء التي ارتكبتاها".
وقال مشعل قبل أن يغادر القاهرة عائداً إلى دمشق: "يجب أن نكون شجعاناً في نقد أنفسنا.. فهناك أخطاء متبادلة صدرت عن حماس وفتح يجب أن نعترف بها وفي نفس الوقت يجب ألا نلقي باللائمة على بعضنا البعض". وحول اجتماعات القاهرة مع لجنة منظمة التحرير الفلسطينية أول من أمس، أجاب مشعل: "لأول مرة منذ 2005 يوضع ملف المنظمة على الطاولة.. واتفقنا على تفعيلها وإعادة بنائها من خلال انتخاب مجلس وطني جديد ولجنة تنفيذية جديدة.. وهذا الاجتماع (الإطار القيادي المؤقت للشعب الفلسطيني) كلنا وافقنا عليه وليس مجرد انضمام أحد للآخر، فلا أحد يستطيع الآن الانفراد بالقرار السياسي فالجميع شركاء".
وقال مشعل قبل أن يغادر القاهرة عائداً إلى دمشق: "يجب أن نكون شجعاناً في نقد أنفسنا.. فهناك أخطاء متبادلة صدرت عن حماس وفتح يجب أن نعترف بها وفي نفس الوقت يجب ألا نلقي باللائمة على بعضنا البعض". وحول اجتماعات القاهرة مع لجنة منظمة التحرير الفلسطينية أول من أمس، أجاب مشعل: "لأول مرة منذ 2005 يوضع ملف المنظمة على الطاولة.. واتفقنا على تفعيلها وإعادة بنائها من خلال انتخاب مجلس وطني جديد ولجنة تنفيذية جديدة.. وهذا الاجتماع (الإطار القيادي المؤقت للشعب الفلسطيني) كلنا وافقنا عليه وليس مجرد انضمام أحد للآخر، فلا أحد يستطيع الآن الانفراد بالقرار السياسي فالجميع شركاء".
الإمام علي والتعددية وحرية الرأي
كان سلوك الإمام علي(ع) مع معارضيه والخارجين عليه هو الأساس الفقهي لفقه التنوع والإختلاف والمعارضة بين المسلمين.
يلاحظ أنه وقد امتنع عن مبايعته فريق من المسلمين ونكث بيعته فريق آخر، فلم يجبر الإمام الذين امتنعوا عن مبايعته على البيعة، ومن البارزين منهم سعد بن أبي وقاص وعبد الله ابن عمر والمغيرة بن شعبة وآخرون، بل اتسع لهم صدره وسياسته ونظامه. وحينما جاءوا إليه يطلبون مخصصاتهم المالية لم يمنعهم منها بل عاملهم في هذا الشأن معاملته لمن بايعه واعترف بشرعية خلافته. ولو أن الذين نكثوا بيعته بقي نكثهم في نطاق المعارضة السياسية ولم يتطوّر نكثهم إلى نزاع مسلح- وهو ما حدث في حرب الجمل- لما تعرّض لهم ولأتسّع لهم فكره ونظامه. ولكن حين آل أمرهم إلى الإفساد والحرب الأهلية اضطر إلى مواجهتهم وبعد ذلك حدثت ظاهرة الخوارج.
ونورد فيما يلي بعض النصوص التي تشخص موقف الإمام علي(ع) من ظاهرة المعارضة والتعددية مع الخوارج وفي حالات أخرى.
روى كثير ابن نمير قال: (بينما أنا في الجمعة وعلي ابن أبي طالب على المنبر جاء رجل وقال: لا حكم إلا لله، ثم قام آخر وقال: لا حكم إلا لله، ثم قاموا من نواحي المسجد يحكموّن الله، فأشار عليهم بيدهم إجسلوا، وقال:(نعم لا حكم إلا لله؛ كلمة حق يبتغى بها باطل، حكم الله أنتظر فيكم ؛ إلا أن لكم عندي ثلاث: ما كنتم معنا لن نمنعكم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ولا نمنعكم فيئاً ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا). ثم أخذ في خطبته.
فمع أنهم خرجوا على ولايته وعارضوا حكومته وخلعوا طاعته، فإنه اعترف لهم مع ذلك بما لهم من الحقوق السياسية، لم يعاملهم بقمع ولا بسجن ولا بقتل ولا بأي شيء من ذلك.
لقد أعطى لهؤلاء حق النقد وحق الإعتراض حتى بالباطل ولم يمنعهم هذا الحق إطلاقاً.
تذكر مصادر التاريخ مواقف لجماعات وأفراد عارضوا الإمام علياً (ع) في بعض القرارات والمواقف فلم يتعرض لهم بسوء، بل تركهم وشأنهم.
ومنها أن الحريث ابن راشد كان عدواً للإمام، فجاءه وقال له (والله لا أطعت أمرك ولا صليت خلفك) فلم يغضب لذلك ولم يبطش به ولم يسجنه، وإنما دعاه إلى الحوار والمناظرة ،ولكن هذا الرجل رفض ذلك وانصرف.
ونلاحظ رؤيته لوضعية الخوارج حينما نهى عن قتالهم بعده وقال قولته: (لا تقاتلوا الخوارج بعدي فإنه ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه)؛ وبذلك أعطاهم حق المعارضة للنظام القائم بعده، وهو أمر طبيعي، فإذا كان يرى أن من حقهم معارضته وهو إمام الحق فمن باب أولى أن يكون له حق المعارضة لدولة الباطل التي كان يمثلها ويحكمها معاوية.
هناك نص في نهج البلاغة عند الإمام علي بن أبي طالب (ع) في تعليم أصحابه يقول لهم (إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العظة).... إذن المطلوب هو الوصف الموضوعي للرأي الآخر والموقف الآخر، وليس الهوى العاطفي والإنفعالي، والموضوعية هي في التشخيص المحايد للرأي الآخر ونقده. وهذا ينطلق من قوله تعالى في سورة الحجرات الآيتان :11- 12
"يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيراً منهنّ ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابذوا بالألقاب بئس الإسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون. يا أيها الذين آمنوا إجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله توّاب رحيم".
يلاحظ أنه وقد امتنع عن مبايعته فريق من المسلمين ونكث بيعته فريق آخر، فلم يجبر الإمام الذين امتنعوا عن مبايعته على البيعة، ومن البارزين منهم سعد بن أبي وقاص وعبد الله ابن عمر والمغيرة بن شعبة وآخرون، بل اتسع لهم صدره وسياسته ونظامه. وحينما جاءوا إليه يطلبون مخصصاتهم المالية لم يمنعهم منها بل عاملهم في هذا الشأن معاملته لمن بايعه واعترف بشرعية خلافته. ولو أن الذين نكثوا بيعته بقي نكثهم في نطاق المعارضة السياسية ولم يتطوّر نكثهم إلى نزاع مسلح- وهو ما حدث في حرب الجمل- لما تعرّض لهم ولأتسّع لهم فكره ونظامه. ولكن حين آل أمرهم إلى الإفساد والحرب الأهلية اضطر إلى مواجهتهم وبعد ذلك حدثت ظاهرة الخوارج.
ونورد فيما يلي بعض النصوص التي تشخص موقف الإمام علي(ع) من ظاهرة المعارضة والتعددية مع الخوارج وفي حالات أخرى.
روى كثير ابن نمير قال: (بينما أنا في الجمعة وعلي ابن أبي طالب على المنبر جاء رجل وقال: لا حكم إلا لله، ثم قام آخر وقال: لا حكم إلا لله، ثم قاموا من نواحي المسجد يحكموّن الله، فأشار عليهم بيدهم إجسلوا، وقال:(نعم لا حكم إلا لله؛ كلمة حق يبتغى بها باطل، حكم الله أنتظر فيكم ؛ إلا أن لكم عندي ثلاث: ما كنتم معنا لن نمنعكم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ولا نمنعكم فيئاً ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا). ثم أخذ في خطبته.
فمع أنهم خرجوا على ولايته وعارضوا حكومته وخلعوا طاعته، فإنه اعترف لهم مع ذلك بما لهم من الحقوق السياسية، لم يعاملهم بقمع ولا بسجن ولا بقتل ولا بأي شيء من ذلك.
لقد أعطى لهؤلاء حق النقد وحق الإعتراض حتى بالباطل ولم يمنعهم هذا الحق إطلاقاً.
تذكر مصادر التاريخ مواقف لجماعات وأفراد عارضوا الإمام علياً (ع) في بعض القرارات والمواقف فلم يتعرض لهم بسوء، بل تركهم وشأنهم.
ومنها أن الحريث ابن راشد كان عدواً للإمام، فجاءه وقال له (والله لا أطعت أمرك ولا صليت خلفك) فلم يغضب لذلك ولم يبطش به ولم يسجنه، وإنما دعاه إلى الحوار والمناظرة ،ولكن هذا الرجل رفض ذلك وانصرف.
ونلاحظ رؤيته لوضعية الخوارج حينما نهى عن قتالهم بعده وقال قولته: (لا تقاتلوا الخوارج بعدي فإنه ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه)؛ وبذلك أعطاهم حق المعارضة للنظام القائم بعده، وهو أمر طبيعي، فإذا كان يرى أن من حقهم معارضته وهو إمام الحق فمن باب أولى أن يكون له حق المعارضة لدولة الباطل التي كان يمثلها ويحكمها معاوية.
هناك نص في نهج البلاغة عند الإمام علي بن أبي طالب (ع) في تعليم أصحابه يقول لهم (إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العظة).... إذن المطلوب هو الوصف الموضوعي للرأي الآخر والموقف الآخر، وليس الهوى العاطفي والإنفعالي، والموضوعية هي في التشخيص المحايد للرأي الآخر ونقده. وهذا ينطلق من قوله تعالى في سورة الحجرات الآيتان :11- 12
"يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيراً منهنّ ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابذوا بالألقاب بئس الإسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون. يا أيها الذين آمنوا إجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله توّاب رحيم".
فخري كريم لـ«الحياة»: آن أوان رحيل المالكي وطيّ صفحة حكمه العراق
الاربعاء 28 ديسيمبر 2011
http://international.daralhayat.com/internationalarticle/344195
بغداد – مشرق عباس
فخري كريم ليس صاحب أكبر دار نشر ومؤسسة اعلامية في العراق (المدى) فقط، بل هو أيضاً من المساهمين في صوغ الحكومة العراقية الحالية. وقال كريم لـ«الحياة» إن الأوان حان لرحيل رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، على خلفية الأزمة التي انطلقت في أعقاب صدور مذكرة اعتقال بحق نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي وعزل نائب رئيس الحكومة صالح المطلك. وهنا نص الحوار:
< كمقرب من مصادر القرار، كيف تصف الوضع السياسي العراقي الحالي؟ - وضع في غاية التوتر ومفتوح على كل الاحتمالات، فما يجري اليوم ينطوي على غياب الحكمة والمسؤولية ويعبر عن نزعة متعالية ومتغطرسة وطائشة لا تأخذ في الاعتبار عند اتخاذ اي قرار مآل هذا القرار ونتائجه السلبية. > من المسؤول؟
- الفرقاء جميعاً مسؤولون عما وصلنا اليه اليوم، كانوا قطعوا شوطاً في تحديد ما ينبغي أن يرسى من مفاهيم العملية السياسية خلال مؤتمر أربيل لتشكيل حكومة المالكي الثانية، لكنهم اكتفوا بالأطر العامة من دون تفصيل وتحديد وتوضيح، فتحدثوا عن التوافق من دون تحديد ملامح هذا التوافق، وتحدثوا عن الشراكة من دون توضيح آليات الشراكة، وتحدثوا عن البعث واختلفوا في ما ينبغي ان يحصل لمعالجة هذا الملف، وتطرقوا الى المصالحة وكل طرف يفهمها كما يريد.
اتفاق أربيل انقطع عند لحظة حساسة هي إنهاء صياغة مفاهيم حول القضايا الاساسية.
> أنت على اتصال بكل الاطراف السياسية الرئيسية، فهل لديك تصور عن خريطة مواقف القوى اليوم بمرور عام على تشكيل حكومة المالكي؟
- الخريطة السياسية تغيرت عما كانت عليه خلال مرحلة تشكيل الحكومة، فالبيئة التي تشكلت فيها حكومة المالكي كانت ابرزت نمطاً معيناً من الاستقطابات الإقليمية ساهمت في النهاية عبر المخاوف التي خلفها الاستقطاب، في دفع الامور باتجاه الآلية التي قادت الى اختيار السيد نوري المالكي عندما كان الخيار محصوراً بينه وبين زعيم «العراقية» اياد علاوي. لكن هناك حقائق ارتبطت بهذه المرحلة، فكل الاطراف السياسية، ومن ضمنها من هم حول المالكي، كانوا يشعرون بخطورة نزعات المالكي الانفرادية، وجرى التوقف عند هذه القضية مطولاً حينها، والمالكي أبدى في تلك اللحظة مرونة كبيرة وغير متوقعة، وقدم التزامات وتعهدات بأن المسيرة ستكون في نطاق المشاركة والتوافق. المالكي تحدث لكل طرف من الاطراف بصيغة تطمئنه، لكنه سرعان ما انتهى الى ما كان عليه في الولاية الثانية.
انعكاسات العام الماضي من ولايته كانت مؤثرة، فبرزت مرة اخرى المخاوف من الانفراد بالسلطة. وصل الى قناعة بأن لا بديل منه في العراق، وان القوى السياسية لن تتمكن من التوصل الى توافقات حول البديل، وهذا خطأ فادح دفع به الى سلوك متعال وخطوات سياسية متسرعة ولدت اجواء جادة لإبداله تكاد تشمل كل القوى السياسية العراقية، المالكي هو من دفع الامور باتجاه تولد قناعة لدى الاطراف المختلفة بأنه يغامر بشكل غير مسؤول بمستقبل البلاد، وهذا لا يعني ان الاطراف الاخرى، كالعراقية مثلاً، غير مسؤولة، عبر توتيرها الاجواء والانسحابات والسعي الى فرض طروحاتها.
> لكن رئيس الجمهورية كان قال قبل وقت قصير إن بديل المالكي هو المالكي نفسه؟
- الرئيس كان يتحدث من موقع المسؤول الاول في البلد وراعي الحياة السياسية، وهو بالاضافة الى الثقة والقناعة السابقتين فإنه يتحدث من منطلق ان الوضع العراقي لا يسمح بفراغ سياسي ولا بمغامرات، ويجب ان نتصرف بمسؤولية.
> في رأيك أين اخطأ المالكي منذ توليه رئاسة الحكومة في مثل هذا الوقت من العام الماضي وأين أصاب؟
- منذ لحظة استلامه السلطة مارس النهج الانفرادي نفسه، ما جعله بمواجهة كل القوى السياسية، ومن ضمنها تلك التي كانت حليفة له، وحين نتحدث عن انفراده بالحكم وتغييبه الآخرين، لا نقصد فقط «العراقية» بل حلفاءه ايضاً، فهو يتخذ القرارات الرئيسية من دون استشارة احد. ليس هناك دولة يترك رئيس حكومتها الوزارات الامنية الاساسية في البلد شاغرة لمدة عام، لم يكن مستعداً ابداً لإشغال هذه الوزارات حتى بمن حصلوا على ثقته وثقة الآخرين، بل رغب في التحكم بالقرار الأمني بشكل فردي. هناك مشهد يعطي انطباعاً واضحاً هو صورة مكالمته المتلفزة مع الرئيس الاميركي باراك اوباما يظهر فيها الاخير بصحبة كل طاقمه وكبار مسؤوليه لمناقشة قضية الانسحاب التي تعد من اخطر القرارات التي تخص العراق وواشنطن، فيما يظهر المالكي في الجهة الاخرى برفقة سكرتير له ولا يضع اوراقاً امامه، بل هو قرر ان يرتجل خطبه ولا يستعين بكلمات مكتوبة كما هو المفروض برئيس اي حكومة.
اكثر من هذا، حاول المالكي الايحاء للناس بأنه يتبنى سياسة مواجهة حزب البعث، وهذا غير صحيح، فهناك بعثان في العراق: احدهما البعث الموجود في «القائمة العراقية» التي توحي بأنها تتبنى البعث، والبعث الآخر هو الذي يحميه المالكي نفسه فيضع بعثيين كباراً في كل المفاصل الامنية. معظم قادة الاجهزة الامنية والمخابراتية المقربين من المالكي هم بعثيون سابقون ومشمولون باجتثاث البعث، وهذا انعكس على أداء الاجهزة الامنية وسلوكها الذي ينتمي بالضرورة الى الثقافة البعثية، على غرار استخدام أبشع أساليب نظام صدام حسين في التعامل مع المتظاهرين عبر تلفيق التهم، نحن نعاني من المعايير المزدوجة في التعامل مع البعث، فهو تهمة، ومع هذا يستخدم المالكي الضباط البعثيين بكثافة، لكنه يلوح لهم بملفات الاجتثاث كأداة لإخضاعهم، ما جعلهم تحت سطوة اعضاء مكتبه الذي يضم ابنه واقاربه.
من الاخطاء الاخرى المهمة لرئيس الوزراء، انه رفض ورقة الاصلاح السياسي التي اقرها البرلمان، كما انه يخرج يومياً للقول ان هناك ملفات يحتفظ بها ضد قادة متهمين بالفساد والارهاب لكنه يمتنع عن اظهار اي ملف من هذه الملفات، حتى في مؤتمره الصحافي الذي اعقب اتهام الهاشمي (نائب رئيس الجمهورية) تحدث عن امتلاكه ملفات جرمية هدد باخراجها. والسؤال: كيف لرئيس حكومة إخفاء ملفات بهذه الخطورة؟ واذا كان القضاء مستقلاًّ، كيف يمكن ان تصل مثل هذه الملفات الى رئيس الوزراء ليقرر ان يحفظها او يلوح بها؟
هناك ملف «المصالحة»، فكل يوم يجلب مستشار المالكي مجموعة افراد ويقول ان هؤلاء مجموعة مسلحة ألقت السلاح وانضمت الى العملية السياسية، فيما شوارع بغداد تتعرض يومياً لحوادث اجرامية كبرى. وأيضا نتحدث عن محاولة السيطرة على الهيئات المستقلة، والتسلط على الاجهزة الاعلامية والإخفاقات في ملف الخدمات.
> لكن ألا تعتقد ان هذا التقويم ظالم... على الأقل في جانب نجاح المالكي في إخراج القوات الاميركية؟
- كنا نعيِّر صدام حسين بأن لديه مليون عسكري واليوم لدينا مليون ونصف المليون منهم ومازال الامن منتكساً، فأين هو الإنجاز الامني؟ اما في موضوع سحب القوات الأميركية، فإنه جرى في نطاق توافق كل القوى السياسية، ولا يحسب للمالكي، فلولا تماسك الشعب العراقي وقواه حول هذه القضية لما حصل الانسحاب، كما ان الفضل يعود لأوباما (الرئيس الاميركي) الذي أصر على سحب القوات. وحتى هذا المنجز كيف انتهى؟ ففي وقت كان المفروض ان يتحول الانسحاب الأميركي الى عرس لكل العراقيين، حوَّله المالكي الى يوم حزين، عبر تدخله في قضايا قضائية بحتة وتحويلها الى مادة اعلامية وتصعيدية، أدت بنا الى هذا الوضع الخطير.
> ماذا تتوقع لنهاية هذه الأزمة؟
- البيئة السياسية في العراق لن تسمح لشخص بالانفراد بالبلد، ولهذا فإن هناك حراكاً لم يظهر الى السطح بعد من كل القوى السياسية منذ بداية الازمة الاخيرة، لإعادة تقويم الوضع السياسي، وهناك عناصر من داخل دولة القانون تشعر بخطورة سياسة الهيمنة والانفراد. الاوساط الشيعية الرئيسية نفسها باتت تدرك اليوم أن ما يحصل ليس من مصلحة الشيعة، فليس من مصلحة الشيعة محاولة طرف ما الإيحاء بأنه منقذ وحام لهم من البعثيين وغيرهم، في مقابل ان توحي قيادات سنية بأنها حامية لهذه الطائفة من بطش الآخرين. الحكماء في المشهد السياسي لن يسمحوا باستمرار هذه الازمة.
> ألا تعتقد ان ما يحصل في العراق يعدّ استجابة لتطورات الوضع الإقليمي، خصوصاً ما يحصل في سورية مثلاً؟
- هناك بالتأكيد استقطاب طائفي إقليمي يستهدف العراق، لكن مواجهة هذا الاستقطاب تتم عبر تأمين الصف الداخلي للبلد وليس الإسهام في دفع الأطراف للخضوع الى أجندات إقليمية، السياسة الحالية لا تساهم في حماية هذه الاطراف من الاستقطاب الخارجي، كما ان المواقف العراقية تجاه القضايا الاقليمية ومتغيرات الربيع العربي لا تساهم بدورها في حماية العراق. إن خطوة كالتي اتخذت اخيراً في قضية التعامل مع قادة «العراقية» كفيلة بإعادة العراق الى العزلة الاقليمية.
> لكن العراق نجح في فرض وجوده الاقليمي في الازمة السورية الاخيرة، عبر المبادرة الاخيرة؟
- المبادرة العراقية «شائعة رخيصة»، ليس هناك مبادرة، الخارجية العراقية سعت الى اقناع سورية بقبول المبادرة العربية ولم تطرح اي مبادرة خاصة. ومن ثم، من قال ان هذا في مصلحة العراق؟ العراق يجب ألا يتدخل في شؤون دول الجوار، وأن يؤكد كبلد ديموقراطي دعمه لحق الشعوب في الوقوف بوجه الأنظمة المستبدة.
> والدور الأميركي؟
- الاميركون لم يفهموا العراق وتوازناته، ومازالوا غير قادرين على ذلك، كانوا يضغطون عند تشكيل الحكومة لتولي علاوي رئاسة الجمهورية، وتصور لو كان هذا حدث، ماذا سيحصل اليوم؟ أكاد اجزم ان الحرس الجمهوري التابع لرئاسة الجمهورية سيخوض حرباً في الشوارع مع حمايات المالكي على خلفية اتهام الهاشمي. اليوم، الأميركيون يجرون اتصالات مع الاطراف كلها، ومنهم كتلة علاوي، لإقناعها بقبول المبادرة التي اطلقها المالكي قبل ايام. والسؤال: أليس المالكي طرفاً في الازمة؟ فكيف يكون صاحب المبادرة؟ في وقت كانت اطراف مثل الرئيس طالباني والصدر والحكيم بادروا مسبقاً الى الدعوة لحوار لتجاوز الازمة الحالية.
> ما هي الخيارات التي تدور في الوسط السياسي حالياً؟
- غالبية القوى تتحدث عن ضرورة إنهاء ما بدأت به في اتفاق أربيل من خلال وضع منهج رصين للحكم والتداول السلمي للسلطة، الأطراف تتحدث عن ضرورة تشكيل وزارة مكتملة وصوغ مفاهيم لأسلوب أدائها ومنع إمكانات التفرد بالسلطة، أي لقاء جديد لقادة الكتل سيحسم هذه القضية الشائكة ويعيد بناء الحكومة، سواء كما هي عليه الآن ام باختيار بديل منها.
> لكن الاجواء السياسية وأمزجة القوى ليست مهيئة كما يبدو لإجراء تغيير حكومي؟
- برأيي آن الاوان ليرحل المالكي إذا أرادت القوى وقف الانهيار في العملية السياسية ومعالجة الاخطاء التي ارتكبت. وحين اقول يرحل، يجب ان لا تبقى سياسته ولا آليات الحكم التي أوصلتنا الى هذه النقطة.
> لكن هناك خياراً آخر طرحه المالكي نفسه هو حكومة «غالبية سياسية» تدفع «العراقية» الى المعارضة؟
- أجزم بأن القيادة الكردية لن تقبل بحكومة تقسم البلد، كما أن مغامرة جذب عناصر من هنا وهناك لإكمال ديكور الحكومة والإيحاء بوجود تمثيل للمكونات ستدفع العراق الى متاهات غير معروفة النتائج. أمام المالكي خيار إعادة النظر علناً بكل سياساته الخاطئة او المغادرة، لا يمكن المالكي عزل هيئة سياسية كاملة مثل «العراقية» جاء افرادها عبر الانتخابات وانتخبهم المحيط السني، ولا يمكن عزل السنة عن المعادلة السياسية، لان هذا قد يدفعهم كما قال النجيفي (رئيس البرلمان) الى الانفصال. بالتأكيد هناك عناصر يجب عزلها في «العراقية»، ولكن ذلك يتم عبر المحيط السني نفسه، الوقت حان لنخاطب المحيط السني والقائمة العراقية لحسم الموقف من البعث وحقبة صدام حسين، وتصفية هذه المرحلة عبر الاتفاق على اسلوب موحد للتعامل مع البعث.
> والانتخابات المبكرة؟
- لا أعتقد ان هذا الخيار مطروح، فما يجري اليوم بين مختلف الأطراف هو محاولة تقويم العملية السياسية ووضع حد للثغرات التي سمحت بتسلل الأزمات.
> بعضهم يعتقد ان الامور ستستمر مشحونة الى الانتخابات المقبلة؟
- هذه المرة الوضع لا يحتمل، وطمس قضية كبرى مثل اتهام الهاشمي لم تعد ممكنة، فإما ان يكون الهاشمي مداناً جرمياً ويحاكم، أو أنه بريء وتم تلفيق القضية بحقه، ومن لفق القضية يجب ان يحاسب أمام القانون ايضاً.
> أنت قريب من الرئيس جلال طالباني، فما صحة المعلومات عن علمه بقضية اتهام الهاشمي؟
- الرئيس أبلغ بالاتهامات من قبل رئيس الوزراء وبما توصلت له اللجنة التحقيقية ودعا الى ان لا تعلن هذه المعلومات في وسائل الاعلام وتبقى في اطار القضاء، وطلب ان لا تتخذ إجراءات باقتحام بيت الهاشمي والتعرض لعائلته وان تعالج هذه القضية بحكمة، والمالكي وافق، لكنه في اليوم التالي توجه الى وسائل الاعلام.
http://international.daralhayat.com/internationalarticle/344195
بغداد – مشرق عباس
فخري كريم ليس صاحب أكبر دار نشر ومؤسسة اعلامية في العراق (المدى) فقط، بل هو أيضاً من المساهمين في صوغ الحكومة العراقية الحالية. وقال كريم لـ«الحياة» إن الأوان حان لرحيل رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، على خلفية الأزمة التي انطلقت في أعقاب صدور مذكرة اعتقال بحق نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي وعزل نائب رئيس الحكومة صالح المطلك. وهنا نص الحوار:
< كمقرب من مصادر القرار، كيف تصف الوضع السياسي العراقي الحالي؟ - وضع في غاية التوتر ومفتوح على كل الاحتمالات، فما يجري اليوم ينطوي على غياب الحكمة والمسؤولية ويعبر عن نزعة متعالية ومتغطرسة وطائشة لا تأخذ في الاعتبار عند اتخاذ اي قرار مآل هذا القرار ونتائجه السلبية. > من المسؤول؟
- الفرقاء جميعاً مسؤولون عما وصلنا اليه اليوم، كانوا قطعوا شوطاً في تحديد ما ينبغي أن يرسى من مفاهيم العملية السياسية خلال مؤتمر أربيل لتشكيل حكومة المالكي الثانية، لكنهم اكتفوا بالأطر العامة من دون تفصيل وتحديد وتوضيح، فتحدثوا عن التوافق من دون تحديد ملامح هذا التوافق، وتحدثوا عن الشراكة من دون توضيح آليات الشراكة، وتحدثوا عن البعث واختلفوا في ما ينبغي ان يحصل لمعالجة هذا الملف، وتطرقوا الى المصالحة وكل طرف يفهمها كما يريد.
اتفاق أربيل انقطع عند لحظة حساسة هي إنهاء صياغة مفاهيم حول القضايا الاساسية.
> أنت على اتصال بكل الاطراف السياسية الرئيسية، فهل لديك تصور عن خريطة مواقف القوى اليوم بمرور عام على تشكيل حكومة المالكي؟
- الخريطة السياسية تغيرت عما كانت عليه خلال مرحلة تشكيل الحكومة، فالبيئة التي تشكلت فيها حكومة المالكي كانت ابرزت نمطاً معيناً من الاستقطابات الإقليمية ساهمت في النهاية عبر المخاوف التي خلفها الاستقطاب، في دفع الامور باتجاه الآلية التي قادت الى اختيار السيد نوري المالكي عندما كان الخيار محصوراً بينه وبين زعيم «العراقية» اياد علاوي. لكن هناك حقائق ارتبطت بهذه المرحلة، فكل الاطراف السياسية، ومن ضمنها من هم حول المالكي، كانوا يشعرون بخطورة نزعات المالكي الانفرادية، وجرى التوقف عند هذه القضية مطولاً حينها، والمالكي أبدى في تلك اللحظة مرونة كبيرة وغير متوقعة، وقدم التزامات وتعهدات بأن المسيرة ستكون في نطاق المشاركة والتوافق. المالكي تحدث لكل طرف من الاطراف بصيغة تطمئنه، لكنه سرعان ما انتهى الى ما كان عليه في الولاية الثانية.
انعكاسات العام الماضي من ولايته كانت مؤثرة، فبرزت مرة اخرى المخاوف من الانفراد بالسلطة. وصل الى قناعة بأن لا بديل منه في العراق، وان القوى السياسية لن تتمكن من التوصل الى توافقات حول البديل، وهذا خطأ فادح دفع به الى سلوك متعال وخطوات سياسية متسرعة ولدت اجواء جادة لإبداله تكاد تشمل كل القوى السياسية العراقية، المالكي هو من دفع الامور باتجاه تولد قناعة لدى الاطراف المختلفة بأنه يغامر بشكل غير مسؤول بمستقبل البلاد، وهذا لا يعني ان الاطراف الاخرى، كالعراقية مثلاً، غير مسؤولة، عبر توتيرها الاجواء والانسحابات والسعي الى فرض طروحاتها.
> لكن رئيس الجمهورية كان قال قبل وقت قصير إن بديل المالكي هو المالكي نفسه؟
- الرئيس كان يتحدث من موقع المسؤول الاول في البلد وراعي الحياة السياسية، وهو بالاضافة الى الثقة والقناعة السابقتين فإنه يتحدث من منطلق ان الوضع العراقي لا يسمح بفراغ سياسي ولا بمغامرات، ويجب ان نتصرف بمسؤولية.
> في رأيك أين اخطأ المالكي منذ توليه رئاسة الحكومة في مثل هذا الوقت من العام الماضي وأين أصاب؟
- منذ لحظة استلامه السلطة مارس النهج الانفرادي نفسه، ما جعله بمواجهة كل القوى السياسية، ومن ضمنها تلك التي كانت حليفة له، وحين نتحدث عن انفراده بالحكم وتغييبه الآخرين، لا نقصد فقط «العراقية» بل حلفاءه ايضاً، فهو يتخذ القرارات الرئيسية من دون استشارة احد. ليس هناك دولة يترك رئيس حكومتها الوزارات الامنية الاساسية في البلد شاغرة لمدة عام، لم يكن مستعداً ابداً لإشغال هذه الوزارات حتى بمن حصلوا على ثقته وثقة الآخرين، بل رغب في التحكم بالقرار الأمني بشكل فردي. هناك مشهد يعطي انطباعاً واضحاً هو صورة مكالمته المتلفزة مع الرئيس الاميركي باراك اوباما يظهر فيها الاخير بصحبة كل طاقمه وكبار مسؤوليه لمناقشة قضية الانسحاب التي تعد من اخطر القرارات التي تخص العراق وواشنطن، فيما يظهر المالكي في الجهة الاخرى برفقة سكرتير له ولا يضع اوراقاً امامه، بل هو قرر ان يرتجل خطبه ولا يستعين بكلمات مكتوبة كما هو المفروض برئيس اي حكومة.
اكثر من هذا، حاول المالكي الايحاء للناس بأنه يتبنى سياسة مواجهة حزب البعث، وهذا غير صحيح، فهناك بعثان في العراق: احدهما البعث الموجود في «القائمة العراقية» التي توحي بأنها تتبنى البعث، والبعث الآخر هو الذي يحميه المالكي نفسه فيضع بعثيين كباراً في كل المفاصل الامنية. معظم قادة الاجهزة الامنية والمخابراتية المقربين من المالكي هم بعثيون سابقون ومشمولون باجتثاث البعث، وهذا انعكس على أداء الاجهزة الامنية وسلوكها الذي ينتمي بالضرورة الى الثقافة البعثية، على غرار استخدام أبشع أساليب نظام صدام حسين في التعامل مع المتظاهرين عبر تلفيق التهم، نحن نعاني من المعايير المزدوجة في التعامل مع البعث، فهو تهمة، ومع هذا يستخدم المالكي الضباط البعثيين بكثافة، لكنه يلوح لهم بملفات الاجتثاث كأداة لإخضاعهم، ما جعلهم تحت سطوة اعضاء مكتبه الذي يضم ابنه واقاربه.
من الاخطاء الاخرى المهمة لرئيس الوزراء، انه رفض ورقة الاصلاح السياسي التي اقرها البرلمان، كما انه يخرج يومياً للقول ان هناك ملفات يحتفظ بها ضد قادة متهمين بالفساد والارهاب لكنه يمتنع عن اظهار اي ملف من هذه الملفات، حتى في مؤتمره الصحافي الذي اعقب اتهام الهاشمي (نائب رئيس الجمهورية) تحدث عن امتلاكه ملفات جرمية هدد باخراجها. والسؤال: كيف لرئيس حكومة إخفاء ملفات بهذه الخطورة؟ واذا كان القضاء مستقلاًّ، كيف يمكن ان تصل مثل هذه الملفات الى رئيس الوزراء ليقرر ان يحفظها او يلوح بها؟
هناك ملف «المصالحة»، فكل يوم يجلب مستشار المالكي مجموعة افراد ويقول ان هؤلاء مجموعة مسلحة ألقت السلاح وانضمت الى العملية السياسية، فيما شوارع بغداد تتعرض يومياً لحوادث اجرامية كبرى. وأيضا نتحدث عن محاولة السيطرة على الهيئات المستقلة، والتسلط على الاجهزة الاعلامية والإخفاقات في ملف الخدمات.
> لكن ألا تعتقد ان هذا التقويم ظالم... على الأقل في جانب نجاح المالكي في إخراج القوات الاميركية؟
- كنا نعيِّر صدام حسين بأن لديه مليون عسكري واليوم لدينا مليون ونصف المليون منهم ومازال الامن منتكساً، فأين هو الإنجاز الامني؟ اما في موضوع سحب القوات الأميركية، فإنه جرى في نطاق توافق كل القوى السياسية، ولا يحسب للمالكي، فلولا تماسك الشعب العراقي وقواه حول هذه القضية لما حصل الانسحاب، كما ان الفضل يعود لأوباما (الرئيس الاميركي) الذي أصر على سحب القوات. وحتى هذا المنجز كيف انتهى؟ ففي وقت كان المفروض ان يتحول الانسحاب الأميركي الى عرس لكل العراقيين، حوَّله المالكي الى يوم حزين، عبر تدخله في قضايا قضائية بحتة وتحويلها الى مادة اعلامية وتصعيدية، أدت بنا الى هذا الوضع الخطير.
> ماذا تتوقع لنهاية هذه الأزمة؟
- البيئة السياسية في العراق لن تسمح لشخص بالانفراد بالبلد، ولهذا فإن هناك حراكاً لم يظهر الى السطح بعد من كل القوى السياسية منذ بداية الازمة الاخيرة، لإعادة تقويم الوضع السياسي، وهناك عناصر من داخل دولة القانون تشعر بخطورة سياسة الهيمنة والانفراد. الاوساط الشيعية الرئيسية نفسها باتت تدرك اليوم أن ما يحصل ليس من مصلحة الشيعة، فليس من مصلحة الشيعة محاولة طرف ما الإيحاء بأنه منقذ وحام لهم من البعثيين وغيرهم، في مقابل ان توحي قيادات سنية بأنها حامية لهذه الطائفة من بطش الآخرين. الحكماء في المشهد السياسي لن يسمحوا باستمرار هذه الازمة.
> ألا تعتقد ان ما يحصل في العراق يعدّ استجابة لتطورات الوضع الإقليمي، خصوصاً ما يحصل في سورية مثلاً؟
- هناك بالتأكيد استقطاب طائفي إقليمي يستهدف العراق، لكن مواجهة هذا الاستقطاب تتم عبر تأمين الصف الداخلي للبلد وليس الإسهام في دفع الأطراف للخضوع الى أجندات إقليمية، السياسة الحالية لا تساهم في حماية هذه الاطراف من الاستقطاب الخارجي، كما ان المواقف العراقية تجاه القضايا الاقليمية ومتغيرات الربيع العربي لا تساهم بدورها في حماية العراق. إن خطوة كالتي اتخذت اخيراً في قضية التعامل مع قادة «العراقية» كفيلة بإعادة العراق الى العزلة الاقليمية.
> لكن العراق نجح في فرض وجوده الاقليمي في الازمة السورية الاخيرة، عبر المبادرة الاخيرة؟
- المبادرة العراقية «شائعة رخيصة»، ليس هناك مبادرة، الخارجية العراقية سعت الى اقناع سورية بقبول المبادرة العربية ولم تطرح اي مبادرة خاصة. ومن ثم، من قال ان هذا في مصلحة العراق؟ العراق يجب ألا يتدخل في شؤون دول الجوار، وأن يؤكد كبلد ديموقراطي دعمه لحق الشعوب في الوقوف بوجه الأنظمة المستبدة.
> والدور الأميركي؟
- الاميركون لم يفهموا العراق وتوازناته، ومازالوا غير قادرين على ذلك، كانوا يضغطون عند تشكيل الحكومة لتولي علاوي رئاسة الجمهورية، وتصور لو كان هذا حدث، ماذا سيحصل اليوم؟ أكاد اجزم ان الحرس الجمهوري التابع لرئاسة الجمهورية سيخوض حرباً في الشوارع مع حمايات المالكي على خلفية اتهام الهاشمي. اليوم، الأميركيون يجرون اتصالات مع الاطراف كلها، ومنهم كتلة علاوي، لإقناعها بقبول المبادرة التي اطلقها المالكي قبل ايام. والسؤال: أليس المالكي طرفاً في الازمة؟ فكيف يكون صاحب المبادرة؟ في وقت كانت اطراف مثل الرئيس طالباني والصدر والحكيم بادروا مسبقاً الى الدعوة لحوار لتجاوز الازمة الحالية.
> ما هي الخيارات التي تدور في الوسط السياسي حالياً؟
- غالبية القوى تتحدث عن ضرورة إنهاء ما بدأت به في اتفاق أربيل من خلال وضع منهج رصين للحكم والتداول السلمي للسلطة، الأطراف تتحدث عن ضرورة تشكيل وزارة مكتملة وصوغ مفاهيم لأسلوب أدائها ومنع إمكانات التفرد بالسلطة، أي لقاء جديد لقادة الكتل سيحسم هذه القضية الشائكة ويعيد بناء الحكومة، سواء كما هي عليه الآن ام باختيار بديل منها.
> لكن الاجواء السياسية وأمزجة القوى ليست مهيئة كما يبدو لإجراء تغيير حكومي؟
- برأيي آن الاوان ليرحل المالكي إذا أرادت القوى وقف الانهيار في العملية السياسية ومعالجة الاخطاء التي ارتكبت. وحين اقول يرحل، يجب ان لا تبقى سياسته ولا آليات الحكم التي أوصلتنا الى هذه النقطة.
> لكن هناك خياراً آخر طرحه المالكي نفسه هو حكومة «غالبية سياسية» تدفع «العراقية» الى المعارضة؟
- أجزم بأن القيادة الكردية لن تقبل بحكومة تقسم البلد، كما أن مغامرة جذب عناصر من هنا وهناك لإكمال ديكور الحكومة والإيحاء بوجود تمثيل للمكونات ستدفع العراق الى متاهات غير معروفة النتائج. أمام المالكي خيار إعادة النظر علناً بكل سياساته الخاطئة او المغادرة، لا يمكن المالكي عزل هيئة سياسية كاملة مثل «العراقية» جاء افرادها عبر الانتخابات وانتخبهم المحيط السني، ولا يمكن عزل السنة عن المعادلة السياسية، لان هذا قد يدفعهم كما قال النجيفي (رئيس البرلمان) الى الانفصال. بالتأكيد هناك عناصر يجب عزلها في «العراقية»، ولكن ذلك يتم عبر المحيط السني نفسه، الوقت حان لنخاطب المحيط السني والقائمة العراقية لحسم الموقف من البعث وحقبة صدام حسين، وتصفية هذه المرحلة عبر الاتفاق على اسلوب موحد للتعامل مع البعث.
> والانتخابات المبكرة؟
- لا أعتقد ان هذا الخيار مطروح، فما يجري اليوم بين مختلف الأطراف هو محاولة تقويم العملية السياسية ووضع حد للثغرات التي سمحت بتسلل الأزمات.
> بعضهم يعتقد ان الامور ستستمر مشحونة الى الانتخابات المقبلة؟
- هذه المرة الوضع لا يحتمل، وطمس قضية كبرى مثل اتهام الهاشمي لم تعد ممكنة، فإما ان يكون الهاشمي مداناً جرمياً ويحاكم، أو أنه بريء وتم تلفيق القضية بحقه، ومن لفق القضية يجب ان يحاسب أمام القانون ايضاً.
> أنت قريب من الرئيس جلال طالباني، فما صحة المعلومات عن علمه بقضية اتهام الهاشمي؟
- الرئيس أبلغ بالاتهامات من قبل رئيس الوزراء وبما توصلت له اللجنة التحقيقية ودعا الى ان لا تعلن هذه المعلومات في وسائل الاعلام وتبقى في اطار القضاء، وطلب ان لا تتخذ إجراءات باقتحام بيت الهاشمي والتعرض لعائلته وان تعالج هذه القضية بحكمة، والمالكي وافق، لكنه في اليوم التالي توجه الى وسائل الاعلام.