الصفحات

الثلاثاء، 10 يناير 2012

قراءة من بكين للموقف الصيني من الربيع العربي

شوي تشينغ قوه (بسام
تلقيت قبل أيام رسالة إلكترونية من عنوان مجهول تحمل «بيان اتحاد المثقفين العرب بشأن الموقف الصيني غير الأخلاقي تجاه الشعب السوري»، وعلى رغم أني لم آخذه مأخذ الجد لأنه صادر من جهة لم أسمع بها ولم أجد معلومات ذات قيمة عنها في الإنترنت، إلا أنه جاء ضمن ما قرأت في الأشهر الماضية من الآراء والتعليقات المماثلة حول الموقف الصيني من الربيع العربي ومن الأحداث السورية خصوصاً، وبالتالي عزز انطباعي بأن هذا الموقف قد أسيء فهمه عربياً إلى حد كبير. لذا، سأحاول في هذه المقالة أن أضع بين أيدي القراء العرب قراءتي الشخصية لهذا الموقف بصفتي مثقفاً أكاديمياً تابع أحداث الربيع العربي وردود الفعل عليها، عربياً وصينياً، منذ اندلاعه حتى اليوم.

ما هي حقيقة الموقف الصيني من الربيع العربي؟

ألخصه بالنقاط الآتية:

أولاً، تدعم الصين جهود الحكومات العربية للحفاظ على السلام والاستقرار في بلدانها، على أن تلجأ هذه الجهود إلى وسائل شرعية وسلمية.

ثانياً، تطالب الصين هذه الحكومات في الوقت نفسه، باحترام المطالب الشرعية للشعوب العربية التي تنادي بالحرية والديموقراطية وكرامة الإنسان، والاستجابة لها. من هنا نتبين أن الصين تحرص على إيجاد نوع من التوازن بين موقفها من الحكومات وموقفها من المعارضات.

ثالثاً، تدعو الصين إلى حل الأزمات بالحوار وبالوسائل السلمية وفي إطار جامعة الدول العربية، وترفض بشدة التدخل الغربي في الشؤون العربية، خصوصاً إذا كان هذا التدخل ينبئ باستخدام القوة العسكرية.

رابعاً، تبذل الصين ما وفي وسعها للتوسط بين الأطراف المتنازعة، في الساحة السورية بالتحديد، بغية تحقيق المصالحة بينها وتفادي الصراع العسكري والحرب الأهلية.

ترقب وقلق

خامساً، لم تتعود الصين بعدُ على ظاهرة جديدة في الشرق الأوسط، تتمثل في ظهور هوة كبيرة وفي شكل جلي بين الحكومات والشعوب، بل بين صفوف أبناء الشعب الواحد، في الحالة السورية مثلاً. لذا، يتخلل الموقف الصيني شيء من الترقب الحذر، بل الحيرة والقلق أيضاً، خصوصاً أن الغموض ما زال يلف الأوضاع الراهنة والآفاق المستقبلية في الكثير من الدول العربية.

سادساً، يتحلى الموقف الصيني بحدّ من المرونة ما يوفّر لبكين المجال لتعديل سياساتها في المستقبل ومواجهة أية سيناريوات محتملة.

وفي رأيي أن هذا الموقف الصيني يأتي نتيجة طبيعية للواقع الصيني الراهن ووليداً للثقافة الصينية. أقول ذلك للأسباب الآتية:

1- هو موقف مبدئي ينسجم مع المرجعيات والمبادئ التي تحرص الصين عليها في وضع سياساتها الخارجية: تسوية الخلافات عبر الحوار والتفاوض، رفض الحرب كأسلوب لحل النزاعات مهما كانت الذرائع، رفض التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للبلدان، والاحترام للوحدة والسيادة الوطنية. وعلى رغم أن هذه المبادئ أصبحت منذ فترة موضع خلافات عميقة لدى بعض الناس، إلا أن الطروحات البديلة لها قد تؤدي إلى عواقب وخيمة وخطرة.

2- هذا الموقف يخدم مصلحة الصين التي ترى أن الاستقرار في المنطقة مفيد لها وللعالم أجمع، وبخاصة في ظل الأرمة الاقتصادية التي تضرب العالم كله اليوم. فلا شك في أن الاضطرابات العربية، إذا انفلت الأمر، ستزيد الطين بلة بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي والاقتصاد الصيني، لما تمثله المنطقة من أهمية قصوى في الإمداد النفطي والسوق الكبيرة.

أسباب الفيتو

3- يستند الموقف الصيني إلى خبرات وتجارب في التاريخ المعاصر، فالتدخل الغربي في الشؤون العربية طوال العقود الماضية لم يفلح في حل أي من القضايا العربية، بل زاد الأمور تعقيداً وصعوبة. فالتدخل الغربي خلق دولة إسرائيل في عمق العالم العربي وخلق معها صراعات ومآسيَ استمرت لأكثر من ستين عاماً ولا أحد يعلم كم من السنين ستستمر في المستقبل. وفي العراق، أدى التدخل الأميركي إلى تدمير بلد عربي عريق وغني ومتماسك، بعد ثماني سنوات من حرب كلفت أميركا أثماناً باهظة، أرواحاً وأموالاً، وأوقعت العراق في انقسامات وأزمات عميقة، إضافة إلى قتلها مئات الآلاف من شعبه. وفي السودان، أدى التدخل الغربي إلى تقسيم هذا البلد الغني بالنفط، وإلى ظهور بوادر صراعات جديدة في الجنوب وفي الشمال.

كما أن التاريخ المعاصر أثبت أن الحصار المفروض على بلد ما لا يؤثر في السلطة بقدر ما يؤثر في الشعب، فالسلطة تستطيع دائماً إيجاد الحيل والسبل لتظل باقية رغم الحصار، كما الحال في العراق وإيران وكوبا وكوريا الشمالية، أما الشعب فهو الذي يعاني مرارة الانعكاسات السلبية للحصار.

وبناء على هذه الخبرات التاريخية استخدمت الصين (مع روسيا) حق النقض ضد مشروع قرار في مجلس الأمن في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، لما يحتويه هذا المشروع من فرض حصار على سورية وتمهيد الطريق للتدخل العسكري فيها. إذًا، فالنقض الصيني كان ضد الحصار وضد التدخل، ومن الخطأ أن يُفهم على أنه ضد الثورة وضد الشعب.

4- يأتي الموقف الصيني منسجماً مع طبيعة الثقافة الصينية ونمط التفكير الصيني، لأن الثقافة الصينية تقوم على منظومة القيم التي صاغت الهوية الصينية الحالية: منها الاعتدال، فالحكيم كونفوشيوس يعتبر أن «الاعتدال هو المثل الأعلى للفضائل»، وأن «الإفراط كالتفريط». ومنها الحرص على السلام وتجنب الحرب بقدر المستطاع، فيقول المعلم التاوي لاو تسي: «السلاح أداة الشؤم لا أداة إنسان كريم، وإذا كان مضطراً إلى استخدامه استخدمه في حدود». كما يقول سون تسي صاحب الكتاب الشهير «فن الحرب»: «إن الحرب من جلائل أمور الدولة، حيث يكمن الموت والحياة، إنها طريق يؤدي إلى الوجود بقدر ما يؤدي إلى الهلاك، فلا يمكن إلا النظر فيها بعناية وتأنّ.» ومنها احترام الصداقة التقليدية، فالإنسان الصيني يشعر بشيء من الدهشة عندما يرى أن زعيماً غربياً مثل ساركوزي أو برلوسكوني كان في الأمس القريب يعانق معمر القذافي بحرارة يهاجمه بعد فترة وجيزة بغارات جوية عليه، ومن الصعب تصورُ فعل مماثل يأتي من زعيم صيني مع أي زعيم عربي صديق.

رؤية صينية للثورة

5- قد لا أجانب الصواب إذا قلت إن الرؤية الصينية للثورة تختلف عن الرؤية العربية ذات المسحة الرومانسية، فالشعب الصيني عانى بما فيه الكفاية من الثورات وأشباهها طوال القرن الماضي، وخصوصاً من «الثورة الثقافية» التي أطلقها الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ، والتي أوقعت الصين في تهلكة شاملة اقتصادياً وثقافياً وديبلوماسياً. لذا، نرى الصينيين ينظرون إلى الثورة بشيء من الشك والريبة، إلى حد أن تعبيراً مثل «فلان هو ثوري» في اللغة الصينية اليوم لا يحمل إلا دلالات سلبية تعني الجمود حيناً والتطرف حيناً آخر.

ومن أحاديث الساعة في الأوساط الثقافية الصينية الجدال الساخن الذي أثارته ثلاث مقالات نشرها الكاتب الصيني الشاب هان هان في مدونته على الإنترنت، حول الثورة والديموقراطية والحرية، وقد شارك في هذا الجدال العلني الليبراليون والمحافظون وعامة زوار الإنترنت ووسائل الإعلام الرسمية أيضاً، والكاتب هان هان يقيم حالياً في شنغهاي ويحظى بشعبية واسعة للغاية بين عشرات الملايين من قرائه ومحبيه في المدن الصنيية، وهو معروف بانتقاداته اللاذعة للحكومة الصينية. وأحب أن أقتبس من هذه المقالات الفقرات الآتية:

- «في دول ذات بنى اجتماعية معقدة، لا سيما في الدول الشرقية، لا يحصد ثمار الثورة في النهاية إلا أصحاب المكر والقسوة. وبكل صراحة أقول: على رغم أن الثورة كلمة رنانة جذابة قد يخيل للبعض أنها تجلب فوائد سريعة، إلا أنها ليست خياراً سليماً للصين، إنما الخيار الأكيد للصين هو الإصلاح الحقيقي».

- «يربط المثقفون عادة بين الديموقراطية والحرية، لكن نتيجة الديموقراطية هي انعدام الحرية في كثير من الأحيان».

- «تتطلب الثورة الوقت الكافي لتتبلور نتائجها. وفي بلاد مترامية الأطراف مثل الصين، كثيراً ما تقترن الثورة بشيوع الفوضى والفراغ السياسي والصراعات بين أمراء الحرب، وإذا استمرت الفوضى لخمس سنوات أو عشر، فسيعود الشعب ليتطلع إلى ظهور قائد مستبد لترتيب أوراق البلاد حتى يستتب الأمن ويتحقق الاستقرار».

- «غالباً ما تكون عيوب الحزب الشيوعي الصيني هي عيوب الشعب نفسه، وليس الحزب إلا تسمية، كذلك النظام أو السلطة. أما التغيير الحقيقي فلن يحدث إلا إذا تغير الشعب. وهنا تكمن أهمية الإصلاح. ينبغي التركيز على الأمور الجذرية مثل سيادة القانون والتعليم والثقافة».

نجيب محفوظ وأدونيس

أقتبس هذه الفقرات لأنها في رأيي ليست مفيدة فقط لفهم أوضاع الصين، بل مفيدة لقراءة الربيع العربي أيضاً، كما أنها تذكرني بآراء مماثلة أبداها بعض المثقفين العرب الكبار حول الثورات العربية، فقد سبق أن قال نجيب محفوظ في حواره مع رجاء النقاش: «من خلال قراءتي في التاريخ، وبخاصة تاريخ الثورات الكبرى، وجدت أن هناك قاعدة مشتركة تنطبق عليها جميعاً، وهي أن الثورة يدبرها الدهاة وينفذها الشجعان ويفوز بها الجبناء». (نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته. ص 216)، ويكتب أدونيس ضمن ما يكتبه عن الربيع العربي: «لا يتم تغيير المجتمع بمجرد تغيير حكّامه. قد ينجح هذا التغيير في إحلال حكّام أقل تعنفاً أو أكثر ذكاء، ولكنه لا يحل المشكلات الأساسية التي تنتج الفساد والتخلف. إذاً، لا بد في تغيير المجتمع من الذهاب إلى ما هو أبعد من تغيير الحكام، أعني تغيير الأسس الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية». (في ضوء اللحظة السورية، 31 آذار/ مارس 2011، جريدة «الحياة»).

والملفت للنظر في التجربة الصينية أنه في مناسبة الذكرى المئوية للثورة الصينية عام 1911 التي أطاحت النظام الملكي وأنشأت أول جمهورية في الصين، توصل بعض المؤرخين من خلال دراستهم الجادة إلى نتيجة مفادها أن الثورات الصينية في المئة سنة الماضية أضرّت بالبلاد أكثر مما أفادتها، وأن الإصلاح والتنمية والبناء هي التي حققت للصين نهضتها الحالية، والتي بوأتها عرش ثاني أكبر اقتصاد في العالم اعتباراً من الفصل الأول لعام 2011، في حين أن البلاد كانت تندرج ضمن أفقر دول العالم في أعقاب الثورة الثقافية في سبعينات القرن الماضي.

ولم أقصد بهذه السطور التقليل من أهمية الثورة في تقدم الشعوب، إنما أقصد، استلهاماً من تجربتنا في الصين، أن الثورة ليست الخيار الوحيد لتغيير الوضع، وأن الثورة تحمل في طياتها سلبيات هائلة قد لا يدركها الثوار، إضافة إلى أن الثورة وحدها لا تصنع التقدم، بل لا بد من العمل الدؤوب في الإصلاح والتنمية من أجل كسب التقدم الحقيقي.

خلاصة القول، إن الموقف الصيني من الربيع العربي هو موقف متوازن، عقلاني، منسجم مع الثقافة الصينية، ونابع من التجربة الصينية الخاصة. وهو موقف قد لا يلقى استحساناً آنياً لدى بعض الأصدقاء العرب، ولكنه لا يتناقض مع المصلحة العليا والبعيدة المدى للشعوب العربية.

أخيراً، أحب أن أشير إلى أن الصين تحتاج إلى بذل جهود أكبر من أجل كسب التفاهم والثقة من الشعوب العربية، وعليها أن تعزز ما يعرف بـ «الديبلوماسية العامة» أو «بناء القوة الناعمة»، حيث ينبغي أن تشرح سياساتها للجمهور العربي بمنطق مقنع ولغة مفهومة مع مراعاة الخلفيات والنفسيات العربية، وأهم من ذلك، ينبغي عليها أن تخطو خطوات أكبر في الإصلاح السياسي، حتى تكون قدوة للعالم الثالث، ليس في مجال الاقتصاد فقط، بل في نشر الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان وغيرها من القيم الكونية أيضاً.

إنه لأمر لا بد للصين منه، إذ إن صديقها في العالم العربي كان وما زال وسيظل الشعوب العربية، التي أيقظ الربيع العربي وعيها بضرورة الانعتاق من قيم الاستبداد لتحتضن قيم التحرر والتقدم والإنسانية.

* باحث في الأدب العربي والشؤون العربية، أستاذ في «جامعة الدراسات الأجنبية» - بكين