الصفحات

الأربعاء، 22 فبراير 2012

الحزب الحاكم أو الاستعمار الداخلي

سعود المولى
كان الشيخ شمس الدين رحمه الله يقول إننا نجد أشد أنواع العنف القمعي حيث يقلُّ الفقه والوعي ويختفي الورع والتقوى، وحيث يشتد الحماس والتعصب للشعارات والكلمات، فالخوارج لم يكن ينقصهم الحماس الديني ولا الشعار الملتزم ، وقد استباحوا دماء المسلمين باسم الإسلام وبشعار أن لا حكم إلا لله... وعندما أراد البعض اغتيال فكرة القرآن رفعوا القرآن على رؤوس المصاحف في واقعة التحكيم..وفي مناسبة أخرى جرى رفع قميص عثمان فيما العين كانت حقيقة على السلطة ليس إلا. والأمثلة كثيرة وكلها تحكي لنا القصة ذاتها: انفكاك النص والشعار عن الواقع والتاريخ وانفكاك الأداة/الحزب عن السياسة/المدينة... وفي ذلك أصل كل فساد واستبداد.....
وقد شهد القرن الماضي صعود وسيطرة نزعات الغلبة والإستقواء المافياوية لدى الحزب العربي الحاكم وهو في الأغلب حزب ثوري قومي عربي أو ماركسي أو إسلامي، لا فرق بينهم سوى في درجة العنف وفي مشاعر الدفاع الذاتي الميليشياوية الشرسة التي يولّدها في وجه كل نقد سياسي أو كل تفكير بإصلاح وتغيير... وقد صار الوعي المضمر(أو اللاوعي الجمعي) للحزب (ولنظامه السلطوي) يقوم على مسلّمة أنه مستهدف في أمنه ووجوده وأن عليه وهو المسيطر-المتغلب أن يدافع بكل قوة عن مواقعه وأن يستقوي على شعبه... وقد تعاظم هذا الاستقواء مؤخراً تحت عنوان "مقاومة وممانعة" يستهدفها المشروع الأميركي-الإسرائيلي... وفي سياق هذا التحول في طبيعة الحزب السياسي وغايته، حدث ضمور شديد للسياسة، وتهميش للمجتمع، وجرى اختزال المجتمع والدولة والناس بطبقة سياسية حزبية ترتكز على سطوة الأمن والقمع الدموي وعلى المال والإعلام الحزبي، وتحميها معادلات الغلبة الداخلية والاستقواء بالخارج، وتسعيرها للعصبيات الطائفية القبلية الجاهلية وأحقادها الدفينة...
غاب الحزب المؤسسة المفترض أنها تؤطر التجارب والخبرات وتراكم المعرفة والممارسة وتسمح بتقويم المواقف واقتراح أمور وتصحيح سياسات ورسم مسارات وطرح خيارات..انكفأ إلى حدود المصالح العائلية وتغطية الممارسات البلطجية والتشبيحية.. لم يعد أمام الناس أي خيار: إما سلطات النهب والقمع والإرهاب المتضامنة في وحدة مسار ومصير، وإما حراب الاحتلال والتبعية والأمركة والصهينة!!
وجرى إلغاء كل الحيوية الفكرية والسياسية التي تميّزت بها مجتمعاتنا على مر تاريخها: فلا مراجعة ولا شفافية، ولا تفكر أو تدبّر، ولا تنظيم أو ممارسة، ولا رقابة أو محاسبة، ولا مبادرة ولو خجولة للتفكير والنقاش أو الحوار حول حال الأمة اليوم وحال الوطن والبلد، وحول الماضي ودروسه، وحول الحاضر وأوجاعه... لا بل حتى ولا سؤال فيه جرأة أو فيه قلق.. ونحن الذين قال باسمنا المتنبي: على قلق كأن الريح تحتي..اليوم أصبح القلق مؤامرة وأمسى السؤال خيانة.
وتحت اسم الحرية اغتيلت الحرية أضعافاً مضاعفة، وباسم الوحدة تمزق الممزق الواحد إلى أشلاء..وباسم الممانعة ترسَّخت الديكتاتوريات ، وباسم الشعب انتهكت حرية الشعب وكرامته..
بالأمس لفتني كلام للعالم والطبيب السوري خالص جلبي أشار فيه إلى أنه في علم الكيمياء العضوية يتحول نفس المركب من ترياق إلى سم وذلك بمجرد قلب جذر الهيدروكسيل فيه فيبقى الشكل كما هو فيما يصير المفعول مقلوباً.. ويمكن تحت اسم المسجد أن يمارس الضرر والتفريق بين الناس، كما في قصة مسجد الضرار الذي تحصن فيه المنافقون فأمر النبي محمد بهدمه...هكذا تحول الحزب الثوري الحاكم إلى مسجد ضرار...
ويقول خالص جلبي أيضاً بأن الاحتلال الأجنبي هو مثل التهاب الجلد الأحمر؛ مؤلم ونابض وواضح وسريع البداية والنهاية، وسهل المعالجة، وأحياناً يُشفى بوضع الثلج عليه.. أما الاستبداد الداخلي فهو سرطان حقيقي، بطيء التدرج والانتشار وغير مؤلم وغير واضح، وحين يتم القبض عليه وكشفه يكاد يقترب العلاج من الاستحالة، فعمليته نازفة دموية جداً.. وهذا تقريباً ما نراه في سوريا حالياً، وما حصل في ليبيا قبلها..