الصفحات

الاثنين، 6 فبراير 2012

العلمانية ليست ديناً ولا تصلح للعبادة

الكسندر دوبييري
مؤرّخ أفكار وأستاذ فلسفة في جامعة السّوربون
العلمانيّةُ مسألةٌ مقدّسة في فرنسا، فهي أشبه بدينٍ مدنيّ حقيقيّ. ويذهب حُماتها إلى حدّ القول: «إمّا أن تكون الجمهوريّة علمانيّة أو لا تكون»؛ وأيضًا: «الدّين شأنٌ خاصّ وليس شأنًا عامًّا»؛ أو حتّى الدّين في الشّأن العامّ تقع البلاد في فخّ الطّائفيّة». ولكنْ، لا قيمة لهذه الأقوال على أرض الواقع، فتأويل مبدأ العلمانيّة يختلف كثيرًا بين دولةٍ وأُخرى (بين فرنسا، والولايات المتّحدة، وألمانيا، وغيرها مثلاً)، وحدود العامّ والخاصّ لا يمكن رسمها بوضوحٍ، ناهيك عن صعوبة أن يؤدّي المرء جميع فرائض دينه بكرامة من دون التّعدّي بطريقة أو بأخرى على حيّزٍ مشترك في المجتمع.
هل السّماح للمواطنين اليهود والمسلمين بالاحتفال بالعيد الأهمّ في كلٍّ من الدّيانتين مرادفٌ لإقحام الشّأن الخاصّ بالشّأن العامّ، والقضايا الدّينيّة بالقضايا السّياسيّة؟ وهل يُسهم هذا الأمر في زعزعة نظام الجمهوريّة؟ كلاّ، بل على العكس، فهو يعزّز مبادئ الجمهوريّة القائمة على المساواة بين البشر. غير أنّ السّاسة يلوّحون بالقانون رقم 1905 (الّذي ينصّ على فصل الدّين عن الدّولة) وكأنّه الإنجيل، بدون الإطّلاع على مضامينه. ففي الواقع، لا تشمل مقتضياتُ العلمانيّة المواطنينَ بالقدر نفسه الّذي تشمل فيه الدّولة نفسها، إذ يتعيّن على هذه الأخيرة الوقوف على الحياد من الكنائس، وعدم المحاباة، كي لا تنشأ الطّبقيّة بين المواطنين، ما سيشكّل أرضًا خصبة لعودة النّظام القديم؛ ناهيك عن أنّ هذا الموقف الحياديّ ضروريٌّ لضمان أحد الحقوق الأساسيّة في دولة القانون الحديثة، وهو حرّيّة المعتقد ولازمتها: حرّيّة ممارسة الشّعائر الدّينيّة.
ليست الدّولة العلمانيّة الدّيموقراطيّة دولةً يعاني فيها المؤمنون مرض الفصام، بحيث يختبئون لممارسة شعائرهم الدّينيّة، ويُمنعون من المشاركة بالعيد الّذي يشكّل أساس دينهم، وينصرفون إلى تشويه المآذن الّتي تعلو المساجد، وإخفاء الصّليب تحت قميص «غاب» أو القلنسوّة تحت قبّعة الرّياضة. هل هذا ما تطمح دولة الحرّيّات إلى تحقيقه؟ كلاّ، فالعلمانيّة لا تقتضي بتاتًا حجب المعتقد، إلاّ إذا كانت متخلّفة. ويتمثّل مفهوم الجمهوريّة الكونيّة في معاملة جميع المواطنين على قدم المساواة، وليس في إنكار هويّاتهم. وتجدر الإشارة في هذا السّياق إلى أنّ اقتراح إيفا جولي لاقى هذه المعارضة الهائلة لأنّه حتمًا أثار بعض النّقاط الحسّاسة، ومسّ بعض المشاعر المكبوتة. إذ تناولت جولي أوّلاً مسألة الخوف من محاصرة الجمهوريّة، لا سيّما أنّ العلمانيّة في فرنسا علمانيّة نشأت عقب الثّورة وارتبطت بولادة النّظام الجمهوريّ في خضمّ اضطراباتٍ كثيرة. ربّما لا نزال نعاني حتّى اليوم نوعًا من الذُّهان النّاجم عن تلك التّجربة، ونشعر بالحزن في قرارة أنفسنا على خسائر الماضي المتعذّر إصلاحها. فقد فرضت السّلطات العليا العلمنة فرضًا، على غرار الكثير من الأمور الأخرى في فرنسا. فهذا هو إرث ثورة اليعاقبة الّتي نادت بتعميم تجانس الأديان وتوحيدها إلى أقصى الحدود، وغالبًا ما أدّت إلى نسف التّقاليد. إذ لا بدّ من أن تمرّ كلّ المسائل «على سرير بروكوست»، ولا بأس إن بُتِرَت أوصال اللّغات المحكيّة هنا، وقُطعت رؤوس الفلاّحين الفانديّين هناك، ونُحرت أعناق الثّقافات البروتستانتيّة واليهوديّة والمسلمة هنالك... فالأمر أشبه بحداد لم تنتهِ مراسمه بعد، أو بسرٍّ عائليّ مُحزِن يُحاول الجميع إخفاءه عبر استحضار مفهوم مبسِّط ومُفسد للعقل عن دولة فرنسيّة قائمة منذ الأزل، وهويّة وطنيّة متجانسة.
ثانيًا، تتطرّق إيفا جولي إلى فكرة متناقضة يعتمدها الجمهوريّون بلا تردّد، ومفادها أنّ فرنسا دولةٌ علمانيّة ومسيحيّة في آن. بيد أنّ الدّفاع عن العلمانيّة باسم المسيحيّة لأمرٌ غريب، كي لا نقول أكثر، فالشّعب الفرنسيّ يعرف جيّدًا أنّه ليس علمانيًّا فعلاً، بل هو عالقٌ أبدًا في التواء مبادئه الخاصّة. ويصعب فهم هذه المفارقة بدون الإصابة باضطراباتٍ في الشّخصيّة.
تربط علاقةٌ مبهمة كلاًّ من العلمنة والدّين في فرنسا. وأدّت عبادة «العلّة الطبيعيّة» إلى تشويه صورة الإيمان نوعًا ما، وكأنّنا ما عُدنا نعرف اللّه، وبتنا نجهل التّحدّث إليه، ولم يعُد مصدر راحتنا. إلاّ أنّنا في الوقت نفسه لم نصبح أكثر عقلانيّةً، إذ غالبًا ما نصدّق الخرافات، عبر إيلاء الرّموز أهمّيّة، والشّعور بالتّوتّر من أبسط الأمور، والوقوع في فخّ الحرفيّة وظاهر الأمور. إذًا، يتحوّل النّموذج الفرنسيّ من العلمنة في نهاية المطاف إلى شكلٍ من أشكال الطّائفيّة.