الصفحات

الأربعاء، 13 يونيو 2012

عالم الاجتماع الفرنسي الكبير إدغار موران:


كثيرون في أوروبا يعتقدون ألا بدائل في العالم العربي عن الانظمة الديكتاتورية إدغار موران فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي من مواليد 1921، من مؤلفاته المهمّة كتابه الموسوعي ‘ المنهج’ الذي أصدره في ستة أجزاء وجمع فيه خبرته في علوم كثيرة مثل البيولوجيا والفيزياء والفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم اللغة والتواصل، فهو يقول أنّ ‘ لا معرفة من دون معرفة للمعرفة’ وهذا ما يمهّد لنظريته التي يسمّيها بالفكر المركّب Complexus وهي نظرية تركيبية للفكر والمعارف تربط بعضها ببعض، وتعيد بناءها وتنظيمها من جديد وهذا يتطلّب إصلاحا للفكر، ممّا يدفعنا إلى أن نتعلّم كيف نفكّر بشكل جديد وشمولي. ملاحظة: أُجرِي هذا الحوار في المعرض الدولي للكتاب في الدّار البيضاء وسجّلته قناةتلفزيزنية مغربية، ونعيده مكتوبا لأهمّيته. *السيد موران، تُعتَبرون من آخر المفكرين والفلاسفة الأحياء في القرن العشرين، وتخوضون معركة الأفكار والمعرفة بلا هوادة، كيف تنظرون الى دور المثقف المعاصر في سياق إعلامي لتوحيد معايير الفكر؟ * بالضبط، يجب الصراع ضدّ هذا التوحيد لمعايير الفكر، وأعتقد أن المثقف، بالإضافة الى نشاطه ككاتب أو فيلسوف أو أديب، يتوجّه الى الرأي العام، ومثلما يقول نيتشه يتوجّه إلى الجميع وإلى لا أحد، ليعالج مشاكل تبدو جوهرية وشاملة ومرتبطة بالمصير الإنساني وبالسياسة والعدالة والقانون للدفاع عن النزاهة. لذلك فالمثقف يلعب دورا أساسيا، في عالم أكثر تخصّصا، وكما قلتَ، يعرف توحيدا للمعايير، رغم أن الإنصات إليه للأسف أقلّ، لكن قد يحدث أحيانا وبشكل غير منتظر أن تجد رسالة المثقف إشعاعها، وهذا ما حدث مؤخرا في فرنسا مع ‘ ستيفان هيسيل’ الذي أصدر كتابا من عشرين صفحة عن دار نشر صغيرة وبعنوان ‘ استنكروا’ والذي كان بمثابة الشرارة التي لقيت انتشارا واسعا حيث بيعت منه مليون نسخة. * كيف يثوّر عصر التكنولوجيا والسيبرنيتية العالم، في حين أنتم تتحدّثون عن إصلاح للفكر؟ * طبعا، فالسيبرنيتية نفسها يمكن أن تساعد الفكر، لكن كل ما يمكن أن يساعد الفكر، ليس فكرا في حدّ ذاته. إذاً، لماذا إصلاح الفكر؟ لأنه من الملحّ إصلاح المعرفة، فهي اليوم متفرّقة، لأننا نُلَقَّن حسب فروع لا تتواصل فيما بينها، في حين عندما نرى العالم في الحقيقة، فهو ليس مقسّما إلى أصناف، كما هو الشأن بالنسبة إلى الجامعة ، فكل شيء في العالم مترابط ويتواصل فيما بينه، فإصلاح المعرفة هو القدرة على فهم الروابط وهو ما أسمّيه بالتركيب أو بالنسيج التركيبي، وأعتقد أننا بحاجة الى فكرالتركيب لأنه الوحيد الذي بمقدوره مواجهة تحّديات عصرنا التي هي شمولية وجوهرية ، فمثلا بخصوص العولمة، ثمة تفاعلات قريبة بين ظواهر سياسية وديموغرافية واقتصادية واجتماعية ونفسية ودينية، وبالتالي لا يمكننا أن نضع معارف الخبراء، واحدة بجنب الأخرى، بل يجب أن تكون هناك معرفة رابطة وجامعة، وهذا تحدٍّ ليس بالهيّن. * كل وسائل الإعلام تتحدّث الآن عن ثورة عربية – إسلامية في تونس ومصر، فبعد ثورة 1968 التي خاضتها النخبة الفكرية، لا أحد يجرؤ الآن على الحديث عن الثورة، كيف تنظرون إلى تطوّر هذا المفهوم، خصوصا وأن الشعوب العربية تصارع بلا زعماء وبمعزل عن نخبها، هل هذه خصوصية بلدان الجنوب؟ * أوّلا، يجب تفادي الغموض المرتبط بكلمة ‘ ثورة’. لقد انتقدتُ الثورة بمفهومها الشامل والتي تقوم بمسح كامل للماضي، وتخلق عالما جديدا وتستعمل وسائل عنيفة ودامية. ما جرى ويجري في تونس ومصر هو بروز حركات لها طابع ثوري في إطار وطني، بمعنى أن نظاما قديما يتلاشى ولا نعرف كيف سيكون عليه النظام الجديد، لكنكم ستلاحظون أن هذه الثورة هي سلمية في العمق. ما جرى في هذه البلدان العربية، وكما يحدث في مثل هذه الأحداث المهمّة، أنها تكون دائما غير منتظرة، فثمة شابّ أحرق نفسه في بلدة نائية في تونس، وفي لحظة ما، انتشر ما فعله حتى وصل إلى اليمن. لقد لاحظنا طموحا للحرية والتّآخي، أيضا ردّة فعل ضدّ الفساد والغنى الفاحش، لذلك فهي ثورة انطلقت من مبادئ هي نفسها أدّت إلى ظهور حقوق الإنسان واقتحام قلعة الباستيل الفرنسية سنة 1789 ، لكن ما حدث تمّ خنقه، وظهر من جديد في القرن 19 وحصلنا على الجمهورية. ما حدث سنة 1798 أثرى المستقبل رغم ما قد تبادر أحيانا على أنه اختفى. أعتقد أن ما حدث في تونس قابل للانقلاب، فمن الممكن أن ينحرف مجراه ويمكن خنقه أو نسيانه، لكنه بريق نور ودرس أيضا ، فالكثيرون منا في أوروبا يعتقدون ألا بدائل في العالم العربي عن نظام ديكتاتوري وبوليسي عسكري أو نظام ثيوقراطي ديني. ونكتشف أن كل هذه الحركة أطلقها شباب ينشُد الحرية، بمعنى هذا يذكّرني بأحداث 1989 حيث أن كلّ الملاحظين في الصين اعتقدوا أن الصينيين مجرد نمل أزرق لا يريد سوى خلخلة الكتاب الأحمر، ولاحظنا قمع شباب ينشدون الحرية، فالصينيون رغم اختلافهم عنّا فهم مثلنا ونحن مثلهم، لكن ماذا يعلّمنا هذا؟ قبل مجيئي إلى هنا (المغرب)، كنت في لقاء في باريس جمعني بتونسيين وفرنسيين ولبنانية، وأيضا بإلياس صنبر سفير فلسطين في اليونسكو، وجمهورا فرنسيا باريسيا ، وقلت لهم نحن مثل العرب، والعرب مثلنا فصفّق الجميع، هذا يؤكد أننا أشباه رغم اختلافنا الثقافي، ويجب الاحتفاظ بهذا الاختلاف، فلدينا نفس الوحدة والطموح. لذلك أعتبر هذا عنصرا مهمّا يخرجنا من وهم تمّ تكريسه بذكاء، والذي يخدم هذه الدكتاتوريات الفاسدة، وأعتقد أن ثمة رسالة لها طابع كوني حول ما جرى. * بعد الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) والتدخّل العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط، فوجئنا بصورة أخرى للغرب بعودته إلى حروبه المقدسة والصليبية، فوجد الإسلام السياسي مشروعيته، في حين تلقّت القوى التقدمية ضربة قوية. كيف تنظرون الى العلمانية الغربية بعد صعود المحافظين في كل أنحاء العالم؟ * ما يمكننا قوله، أن التدخّل الأمريكي في الحرب على العراق الثانية بفرض الديمقراطية، هو مجرّد ادّعاء وهمي، لأن الديمقراطية لا تُفرَض بالعنف، خصوصا أن ما فُرض هو شبه اقتلاع لبلد، فتونس مثال رائع نبَع من أعماق البلد، ولم يُحدثه أيّ تدخّل أجنبي، وكما قال الرئيس السابق حسني مبارك: ‘ التدخل الخارجي ليس هو الذي خلق تجمّعات في ميدان التحرير’، هذه هي خصوصية الحركات العفوية، فهي رائعة وسلمية وأخوية، ومن أبهى اللحظات في التاريخ، لكن يجب أن يحين الوقت لكي تتنظّم. ما حدث في تونس ومصر أن القوى الديموقراطية المعارضة تمّ إبعادها وإضعافها وتخريبها، وعليها أن تبني نفسها. فالعفوية ستستمرّ لكن في مسار لإعادة البناء، وسيحدث أحيانا رجوع الى الوراء أو انحرافات، لكن ما حدث قد حدث، وعلينا أن نستشرف المستقبل. * سؤال أخير، هل تتعاملون مع الإنترنت، وما هي علاقتكم بهذه التكنولوجيا الجديدة؟ *أستعمل الأنترنت ليس فقط من أجل البريد الالكتروني، ولكن للحصول على المعلومة ومتابعة نشرات الأخبار، لكن الإنترنت متعدّدة الاستعمالات مثل اللغة، فبالإمكان استعمالها لكتابة الأشعار وبالمقابل يمكن أن أيضا أن تستعملها المافيات والمجرمون، وأهمّ استعمال لها هو دمقرَطة الثقافة، فبإمكاننا تحميل الموسيقى والنصوص الشعرية، لكن على ما يبدو أن للإنترنت قوة تحريرية رائعة تخدم بعض الحركات، مثلا في ايران والصين وتونس ومصر كانت وسيلة للتواصل، سمحت للشباب والجماهير بالتحرُّك فورا. وعندما ننظر لقضية ويكيليكس فهي مهمّة، حيث تمّ الكشف عن ملفات سرية في غاية الأهمية. فثمّة أشياء نكتشفها وأخرى تغيب عنّا، لكن الأهم أن ثمة حربا عالمية بين قوى تطمح للمعرفة وأنظمة ومصارف تفعل كل شيء لخنق كلّ شيء، وتتبنّى نفس الذرائع لحبس كل مبادرة. الآن الطابع التحريري للإنترنت أهمّ من هذه المظاهر السلبية، وأنت تعرف أن الحرية المطلقة، كما قال هيغل، تعادل الجريمة. فالحرّية الممكنة الآن هي حريّة المعرفة والمقاومة والتمرّد والصراع ضد الاستبداد.