الصفحات
▼
الاثنين، 9 يوليو 2012
التجربة التنموية في لبنان ما بعد الحرب: مراجعة وتقويم
بطرس لبكي
النهار- الأحد 8 تموز 2012-07-08
عقد تسعينات القرن الماضي كان من أنشط العقود إعمارياً في تاريخ لبنان وسجل إنجازات مهمة حسنت شروط الحياة في بعض المناطق والمجالات. لكن العديد من المناطق بقيت محرومة، وكلفة الانجازات كانت مرتفعة، فيما فاعلية بعض التجهيزات كانت منخفضة...
انطلقت التجربة التنموية بعد 1990 في ظرف لبناني واقليمي ودولي مختلف: على الصعيد اللبناني كانت الخسائر التي المت بلبنان كبيرة (90 ألف قتيل و 760 ألف مهجر، 880 ألف مهاجر، نظام تربوي مخلخل، خسائر بالرأسمال المادي قدرت ما بين 6 و 12 مليار دولار، خسائر بالدخل الوطني تفوق 50 مليار دولار، انخفاض الدخل الفردي الى نصف مستواه عام 1975، نصف الخطوط الهاتفية معطلة، ثلث الطاقة الإنتاجية الكهربائية معطلة، 80% من موارد المياه ملوثة، نصف الفنادق مدمرة). والدور الإقتصادي اللبناني قد تدهور بسبب تقدم دور الدول العربية النفطية، وعولمة النشاط المصرفي وانهيار الكتلة السوفياتية، والصعود الصناعي لآسيا الجنوبية والشرقية. ولكن بعض العناصر الإيجابية كانت ظاهرة: منها تحسن كفاءة الأفراد والشركات اللبنانية وازدياد مدخراتهم، وعدم تكون مركز خدمات اقليمي متنوع كلبنان، وظهور بوادر سلام اقليمي في مطلع التسعينات.
بدأ مجلس الإنماء والإعمار، الذي اعيد تكوينه مطلع عام 1991، باعداد خطة لتأهيل البنية التحتية. سميت خطة النهوض. وكلف بذلك كونسورسيوم دار الهندسة – بكتيل. اعد هذا المخطط عام 1991 ووافق مجلس الوزراء عليه في ربيع 1992. وكان يتكون من 126 مشروعاً ضمن 15 قطاعاً ويغطي سنوات 1992-1997: قيمة الإنفاق الإستثماري فيه 4449 مليون دولار.
وكان يهدف الى تأهيل البنية التحتية في مختلف القطاعات الى اعلى مستواها بين 1975 و 1990 مع تحسين لوضع بعض القطاعات المتضررة اكثر والمحرومة نسبيا (كهرباء، مهجرين، زراعة، مصافي نفط، مرافئ في المناطق) وكان متوسط الإنفاق الإستثماري 890 مليون دولار سنوياً.
نصف الإنفاق كان على أربعة قطاعات: الطرقات، الكهرباء، الإسكان، المهجرين. والإنفاق على تطوير القطاعات الإقتصادية كان ضعيفاً (صناعة، زراعة، سياحة، نفط، خدمات القطاع الخاص): 10% من الإنفاق الإجمالي. انطلقت اعمال التأهيل منذ 1991، كذلك الحملة لتعبئة التمويل من مصادر اوروبية وعربية. وتطورت عامي 1992 و1993 بتلزيم تأهيل قطاعي الكهرباء والمواصلات.
- تغير الوضع السياسي في نهاية 1992 مع الانتخابات ووصول اول حكومة للمرحوم الرئيس رفيق الحريري الى السلطة، ومع بروز مؤشرات لسلم اقليمي (اتفاقات اوسلو ووادي عربة...). فقدرت الحكومة اللبنانية ان لبنان لا يستطيع ان يكتفي بالتأهيل، واطلقت خطة لتوسيع البنية التحتية واعداد لبنان للظرف الإقليمي المنتظر وهي خطة الالفين الهادفة الى تطوير البنية التحتية واطلاق النشاط الإقتصادي وملاقاة حاجات السكان. فأصبحت خطة الألفين تغطي فترة 1995-2007 وقيمتها الإجمالية 18 مليار دولار اي 1366 مليون سنوياً.
- وهذا المبلغ يفوق بنسبة 50% المبلغ المقرر في خطة التأهيل السابقة. انتهى اعداد خطة الألفين في خريف 1994 ووافق مجلس نواب على اطاره الماكرو اقتصادي ضمن موازنة 1995. وادرجت البرامج القطاعية في قوانين برامج اودعت في مجلس النواب ابتداءً من اواخر 1994.
لكن الظروف الإقتصادية تغيرت جذرياً: فابتداء من 1994 اخذ نمو الإقتصاد اللبناني يتراجع من 8% عام 1994 الى 6.5% عام 1995 الى 4% عام 1996، الى 3.5% عام 1997 الى 2% عام 1998 الى 1% عام 1999 الى 0% عام 2000. وذلك بسبب السياسات النقدية والمالية والتجارية للدولة: رفع الفوائد على التسليف للقطاع الخاص للتماهي مع الفوائد على سندات الخزينة، رفع سعر صرف الليرة اللبنانية نسبة للدولار واخيراً فتح الأسواق اللبنانية امام السلع الآتية من الخارج دون معاملة بالمثل: فتوقف النمو، واغلقت ابواب المؤسسات او خفض من اعداد العاملين فيها وتراجع النمو الإقتصادي وتسارعت الهجرة الخارجية. رافق ذلك نمو سريع للدين العام من مليارين آخر عام 1990 الى 30 ملياراً سنة 2000. فأصرت وزارة المال على لجم الإنفاق خارج خدمة الدين العام. وبما انه من الصعب لجم النفقات الجارية لأسباب سياسية، لم يعد من الممكن الا لجم النفقات الإستثمارية وتراجع الإستثمار في المشاريع ذات التمويل اللبناني وحتى الخارجي بسبب ارتباطها بحصة لبنانية في التثمير وفي الإستملاكات.
لذلك وبعد ان بلغ الإنفاق الإستثماري لمجلس الإنماء والإعمار مليار دولار عام 1997 بدأ هذا المؤشر يتراجع بسرعة في السنوات اللاحقة.
ترافق التغيير الإقتصادي ابتداء من 1995 بتغير سياسي في خريف 1998 مع وصول العماد اميل لحود الى رئاسة الجمهورية والدكتور سليم الحص الى رئاسة الحكومة.
طلب الرئيس الحص من مجلس الإنماء والإعمار في شباط 1999 اعداد خطة تنمية اقتصادية واجتماعية خماسية ضمن الأطر التالية:
- الأفضلية للشأن الإجتماعي،
- الأفضلية للمناطق المحرومة،
- الأفضلية للزراعة والصناعة والسياحة والتكنولوجيا،
- انهاء المشاريع قيد التنفيذ،
- تنسيق الخطة مع توجهيات وزارة المال في مجال الإصلاح المالي.
هدفت هذه الخطة للتوصل الى هذه الأهداف من خلال:
- تحسين الميزة التفاضلية والتنافسية للإقتصاد اللبناني،
- تحسين عرض الخدمات العامة.
وبالمقارنة مع خطة الألفين كانت هذه الخطة التي اعدها الاستثماري الأميركي مونيتور (MONITOR) تستوجب انفاق 1.27مليار دولار سنويا (اي اقل بـ8% من خطة الألفين) مع انخفاض في حصة القطاعات التي كانت قد جهزت في التسعينات (كهرباء، مواصلات، ابنية حكومية، مرافئ، مطار، تربية، تعليم عالٍ، صحة عامة).
هذا بينما حظيت قطاعات أخرى بحصة أهم من حصتها في الخطط السابقة: طرق واوتوسترادات، تعليم مهني، بيئة، مياه وسدود، مياه مبتذلة، سياحة، اقتصاد، خدمات القطاع الخاص.
وبرزت قطاعات جديدة في خطة 2000/2004: الحماية من الفياضانات، التكنولوجيا العالية، البحث العلمي، تكوين شبكات للإتصال مع المغتربين.
وافق مجلس الوزراء على هذه الخطة في 17/5/2000، لكن التغيرات السياسية الناتجة عن انتخابات الألفين وعودة الرئيس الحريري الى رئاسة الحكومة، رمت هذه الخطة في أدراج الرياح حتى بروز خطة ترتيب الأراضي عام 2009.
انجازات سيرورة الأعمار (1991-2001) على الصعيد العام
- 2379 مشروعاً لزّمت بمبلغ /6209/ مليار دولار.
- 1766 مشروعاً نفذت بكلفة /3078/ مليار دولار.
- 613 مشروعاً قيد التنفيذ بقيمة /3130/ مليون دولار أي ربع عدد المشاريع الملزمة ونصف القيمة الملزمة.
- 27,5 مليار دولار مجمل الانفاق التثميري أي 82.87 % من المبالغ الملزمة.
- معدل التثميرات السنوية /650/ مليون دولار أي أدنى بكثير من المخطط /850/ مليوناً في خطة التأهيل، /1366/مليوناً في خطة الألفين، /1270/ مليوناً في الخطة الخمسية. ويعود هذا التقصير لسببين:
- ضعف الطاقة الاستيعابية للاقتصاد اللبناني بقطاعيه العام والخاص وذلك رغم تقوية طاقات مجلس الانماء والأعمار وباقي الادارات وتقوية طاقات مكاتب الدراسات والاشراف وشركات التعهدات.
- أزمة المالية العامة المتفشية منذ 1997 وقد تسببت بتأخير للاستملاكات والدفع للمتعهدين مما أخر إطلاق المشاريع الممولة محلياً وحتى خارجياً.
انجازات سيرورة الأعمار (1991-2001) على الصعيد القطاعي
- حصل قطاع الكهرباء على 22.3% من الانفاق أي بين ضعفين وعشرين ضعف الحصة المخططة في خطة الألفين والخطة الخمسية.
- حصل قطاع الطرق والنقل على 50 الى 70 % من حصته المخططة (بسبب التأخير في الاستملاك ومحاولات الخصخصة).
- حصل قطاع الاتصالات على 3 و16 ضعف حصته المخططة (بسبب سهولة التثمير النسبية) وتسبب ذلك بفائض في التجهيز.
- حصل قطاع النقل البحري والجوي على ما بين ضعفي حصته وأربعة أضعاف (بسبب الحجم الزائد للحاجة لمشروع مطار بيروت).
- حصل قطاع النفايات الصلبة على ما بين أربعة اضعاف وسبعة اضعاف حصته المخططة (بسبب ارتفاع أسعار المعالجة في بيروت وجبل لبنان اضعاف سعر المنافسة في السوق).
- حصل قطاع التربية والثقافة والرياضة على حصته المخططة نفسها.
- حصل قطاع الصحة العامة على ما بين ضعفي حصته المخططة وثلاثة أضعاف (بسبب الانفاق الزائد وغير الفعال في بعض المناطق لأسباب سياسية).
انجازات سيرورة التنمية واخفاقاتها على الصعيد الإقليمي
على الصعيد الاقليمي جرى انفاق فائض عن الحاجات في الكثير من القطاعات وناقص عن الحاجات في قطاعات أخرى في المنطقة الممتدة من وسط بيروت الى الحدود الجنوبية. وجرى انفاق أقل بكثير من الحاجات في كل القطاعات في المنطقة الممتدة من وسط بيروت الى الحدود الشمالية. وكذلك الأمر في البقاع.
ويمكن إعطاء تفاصيل قطاعية على هذا التقويم.
خلاصة
ان عقد تسعينات القرن الماضي كان من أنشط العقود اعمارياً في تاريخ لبنان وسجل انجازات مهمة حسنت من شروط الحياة في بعض المناطق والمجالات: التلفونات، المياه، الطرق، المستوصفات، المستشفيات، المطار، المرفأ، النفايات الصلبة في عدد من المناطق.
لكن العديد من المناطق لا تزال محرومة في مجال الصحة العامة والطرق وعودة المهجرين والسكن والمياه والري ومعالجة المياه الآسنة.
وكلفة الانجازات كانت مرتفعة جداً في مجالات الكهرباء والنفايات الصلبة وبعض الأوتوسترادات وعودة المهجرين. كذلك فاعلية بعض التجهيزات كانت منخفضة في بعض المجالات المجهزة (كهرباء، مستشفيات، مستوصفات، مدارس، السير، مياه الشفة) وذلك لأسباب متنوعة: عدم استكمال التجهيز، ضعف الصيانة وضعف الإدارة.
بعض القطاعات جُهِّزت أكثر من الحاجة: الكهرباء في السنوات الأولى، الهاتف الثابت، المطار وبعض الطرقات.
الفوارق بين القطاعات الموروثة من قبل الحرب ازدادت.
لكن هذا الجهد الكبير وغير الكامل في مجال الاعمار أطاحته الأزمة الأقتصادية العائدة الى سوء الادارة المالية والنقدية والتجارية والتي ألغت مفاعيل الأعمار ولجمت النمو وأعادت اللبنانيين الى الهجرة بأحجام غير مسبوقة، اي باضعاف اعدادهم اثناء فترة 1975-1990.
باحث – نائب رئيس مجلس الانماء والاعمار سابقاً