الصفحات

الاثنين، 16 يوليو 2012

حوار مع الشيخ حيدر حبّ الله حول المنهج الاجتهادي للإمام شمس الدين

أجرى الحوار شبكة اجتهاد الالكترونية

س: يشير آية الله الشيخ محمد مهدي شمس الدین إلى انعدام الرؤية الاجتماعية في الاجتهاد والاكتفاء بالتطبيق الفردي للأحكام الشرعيّة، كيف يمكننا تقعيد هذه الرؤية وبسطها وتوسعتها؟ الشيخ حيدر حب الله: يمكننا استنباط البنية الأصوليّة لنظرية العلامة شمس الدين في موضوع الفرديّة والاجتماعيّة من نظريّته فيما أسماه خطاب الأمّة وتحليل الوجوب الكفائي بما يرجعه إلى الوجوب العيني، فالمكلّف قد يكون شخصاً حقيقياً، وقد يكون هو الأمّة بما هي أمة، بمعنى أن يكون لكونها أمّة تأثير في التكليف، وهذا ما قد يحوّل الوجوب الكفائي إلى عيني بتغيير نوعية المخاطَب أو المكلف فيه من الأفراد إلى الأمّة والجماعة، وهذا التكليف المتوجّه للأمة إنما يلحق الأفراد كونهم من الأمّة، لا باعتبارهم وجودات حقيقية شخصية. وينظّر الشيخ شمس الدين عبر هذه النظرية للفقه المجتمعي، إلى جانب الفقه الفردي السائد، وقد انتصرتُ لهذه النظرية في كتابي (فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وقلت بأنه كما أقرّ المالك الحقوقي، كذلك يمكن تصوّر المكلّف النوعي أيضاً، فإنّ الجعل في العهدة له نحو اعتبار تماماً كما في باب الملكيات، والفرق أنّه في الواجب الكفائي بمعناه المشهور يكون الوجوب من الأوّل منحلاً إلى الأفراد، فيثبت في ذمّة كل فردٍ وجوبٌ لأداء التكليف، ولا تترابط الوجوبات بين المكلّفين، إلاّ من حيث أنّ أداء بعضهم يؤدّي إلى سقوط التكليف عن الآخر، لا أنّ ثبوته على بعضهم مشروط بثبوته أو عدم ثبوته على الآخرين، أمّا على نظرية شمس الدين فيمكن القول بأنّ الوجوب الداخل في عهدة زيد مشروط في مقام الجعل بوجوب آخر مماثل ثابت في ذمة عمرو، فالوجوبات مترابطة، لا أن السقوط مربوط بأداء الآخرين، ومعنى ذلك أنّ الجاعل والمشرّع قد تصوّر جملة وجوبات مشروطة في مقام ثبوتها على المكلّفين، فبدل أن يجعلها وجوبات حصل له منها تصوّر مجموعي، هو ما نسميّه بخطاب الجماعة أو تكليف الجماعة، فبالمآل نحن لم نتجاهل ذمم الأفراد، لكننا لاحظناها على نحو المجموع. فالمشرّع في الواجبات العينية يلاحظ في مقام الجعل والاعتبار الأفرادَ والآحاد، ثم يدخل في عهدة الفرد الذي لاحظه الحكمَ الإلزامي، وإدخاله هذا الحكم في عهدة الفرد بما هو فرد لم يلاحظ فيه إطلاقاً في مقام الجعل انضمام الفرد الآخر إليه، بل تمّ تصوّر صدور الوضوء من الفرد بصرف النظر عن صدوره أو عدم صدوره من الفرد الآخر؛ لأنّ مبادئ الحكم من المصلحة وغيرها مركّزة على فعل الفرد، فالوضوء مصلحته الإلزامية يكفي فيها فعل الفرد له، وهي تتحقّق بفعل زيد مع عمرو أو فعله الوضوء من دون عمرو، فهذا هو البُعد الفردي في الواجبات الفردية العينية. أمّا في الواجبات الكفائية المجتمعية، فالأمر مختلف، فإنه لا مصلحة في فعل الفرد لوحده؛ لأنّ الغرض لا يتحقّق به، فوجوب الجهاد على زيد لا قيمة له لوحده؛ إذ من الطبيعي في العادة أن لا يكون هذا الوجوب محقّقاً للغرض؛ لأنّ الجهاد ظاهرة جماعية لا يحصل الغرض منها بفعل فردٍ واحدٍ عادةً، لهذا فإنّ المشرّع عندما يشرّع فريضة الجهاد، فهو يقوم بملاحظة أكثر من فرد، وملاحظة المصلحة في فعل الجماعة لا في فعل الفرد، فيريد فعل الجماعة، فيصدر الحكم على فعل الجماعة. وفعلُ الجماعة الذي يتحقّق به الغرض ليس سوى أفعال مترابطة، فصلها عن بعضها يلغيها، فلابد من فرضها بمقدار تحقّق الغرض، وهو ما يسمّونه مقدار من به الكفاية، لهذا عندما يجعل المولى الحكم بوجوب الجهاد، فهو لا يلاحظ زيداً لوحده، وإنما يلاحظ فعلَه منضماً إلى فعل عمرو، لهذا يربط الوجوب على زيد بالوجوب على عمرو؛ لأنّ فعلهما مترابط على مستوى تحقيق الملاكات والأغراض، بخلاف الوضوء والصلاة والصيام، فهي وإن كانت لها مصالحها بملاحظة واقعها الجماعي لكنّ مصلحتها بملاحظة واقعها الفردي كافية في إثباتها الوجوب عليها. لكن كيف نعرف أنّ الوجوب هنا أو هناك فردي أو مجتمعي؟ أعتقد أنّ هذه مسألة مهمّة حتى لا نتوه في الفرضيات، فالخطابات الدينية متشابهة من حيث البنية والصورة، فلماذا كان الوضوء وجوباً فردياً فيما الجهاد عند شمس الدين مجتمعياً؟ وهذا السؤال بعينه يمكن أن نوجّهه إلى الاتجاه المشهور، فكيف نميّز بين الكفائي والعيني إثباتاً؟ أعتقد أنّ الحلّ يكمن في التحليل العقلاني العقلائي للموضوع تماماً كما فعل العلماء في التمييز بين الكفائي والعيني، وأزعم أنّ الوعي العقلائي يميّز بين تكليف فردي ومجتمعي مما يكون تحقّقه من الفرد الواحد غير ممكن عادة مثل تشكيل دولة إسلامية، ولزوم المشاركة في بلوغ الحاكم العادل سدّة الحكم، ووجوب الجهاد، وأمثالها مما يراه العقل العقلائي تكاليف موجّهة للجماعة، يُراد منها ذاتها وتحقّقها في الخارج. وشاهد ذلك أننا نشعر بوجداننا بالفرق بين خطاب «صلّوا» الذي نحسّ أنه موجّه للفرد، وخطاب «أقيموا دولةً إسلامية» الذي يُشعر الفرد أنه لا يخاطبه بما هو هو، بل بما هو جزء من جماعة هي المخاطبة به، ولهذا تجد حسّ الجماعة حاضراً عنده في النوع الثاني، بينما تجده في النوع الأوّل غير معنيّ بالجماعة، وهو يمتثل أمر «صلّ» أو «طهّر الثوب قبل الصلاة». إنّ هذا الارتكاز العقلائي في فهم أنواع النصوص هو الذي يشكّل قرينة فهم الفردية أو المجتمعية، وطبعا ليس كل وجوب كفائي هو مجتمعي فتغسيل الميت كفائي لكن لا يفهم عقلائياً كوجوب الجهاد. من هنا يخرج العلامة شمس الدين بتنويع لخطابات القانونية في الكتاب والسنّة، إلى خطابات فردية وأخرى مجتمعيّة، بما يولد لنا الفقه الخاص والفقه العام، ويمكننا أن نضيف نوعاً ثالثاً من الخطابات هي خطابات حكوميّة ربما تتصل بالفرد الحاكم تارةً وبالمجتمع أخرى لا مجال للحديث عنها هنا، وهناك إمكانية لفتح تحليلات متعدّدة بعد ثبوت طبيعة الوجوب المجتمعي هنا أو هناك، من نوع أنّه لو لم يقم المجتمع بوظيفته فهل يجب على الفرد القيام بذلك بالقدر الذي يمكنه أم أنّ الوجوب يسقط عنه؟ وربما يثبت في حقّه وجوب أمر المجتمع بالمعروف فقط، فإذا اقتنع المجتمع بذلك تمّ إجراء التكليف خارجاً، وليس من البعيد أن يلتزم العلامة شمس الدين بمثل ذلك فيُسقط وجوب اقامة الدولة الإسلامية أو وجوب الجهاد عندما يتخلّى المجتمع ككل عن هذه الفريضة، ويثبت في هذه الحال وجوبٌ آخر مرتبط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث لابدّ لمن تبقّى من المؤمنين أن يأمر سائر الناس بالاندفاع والانبعاث نحو تحقيق هذا التكليف المجتمعي أو ذاك، وهذا أمر له نتائج هامّة على صعيد التكاليف المجتمعيّة. س: حبذا لو توضحون لنا حقيقة الاتجاه التقريبي الذي كان عند آية الله شمس الدين، وكيف كان ينظر لقضايا العالم الإسلامي من منظار تقريبي؟ الشيخ حب الله: يعتقد العلامة شمس الدين بأنّ مبدأ الوحدة الإسلامية والاخوّة الدينية مبدأ أصيل في التشريع الإسلامي، ويحسب أدلّتَه في ضمن ما يسمّيه الأدلّة العليا للتشريع، ويقصد شمس الدين بهذا النوع من الأدلّة أنّ التشريعات القانونية الإسلامية وكذلك منهج فهم الشريعة الإسلامية ينطلقان من مبادئ وأساسيات لا تقبل التغيير ولا التبديل، وتعبّر عنها نصوص حاسمة ورد الكثير منها في القرآن الكريم، إنّ هذه المبادئ تمثل بالنسبة للشيخ شمس الدين الأسس التي نستطيع من خلالها فهم أهداف الشريعة ومسلّماتها ومقاصدها، وعندما يقوم الفقيه من الانتهاء من مرحلة الاجتهاد في أصول الشريعة هذه يتجه نحو الفروع التفصيلية في الفقه الإسلامي، ويعمد إلى ممارسة الاجتهاد وفقاً لما تفرضه أدلّة التشريع العليا، فمثلاً يرى العلامة شمس الدين أنّ مثل قوله تعالى: (إنّما المؤمنون إخوة) يعبّر عن نصّ حاسم يقدّم لنا أحد الأدلّة العليا للتشريع، ويجعل مبدأ الأخوة الإسلامية مبدأ حاكماً في الفقه الإسلامي، لا يقبل التخصيص ولا التقييد بهذه البساطة، فإذا جاء الفقيه إلى مفردة تشريعية تفصيلية، مثل جواز غيبة المخالف أو بهتانه أو نحو ذلك، فإنّ النص القرآني أعلاه يشكّل دليلاً تشريعياً عالياً يسقط قيمة الأدلّة التفصيلية المعارضة له؛ لأنّ المبادئ الأساسية لا يمكن التخلّي عنها بهذه البساطة. وفقاً لهذه النظرية في الاجتهاد، أي نظرية الشروع من الأدلّة العليا للتشريع والخروج بنتائجها ثم الذهاب في المرحلة اللاحقة إلى الأدلّة التفصيلية وجعل أدلّة التشريع العليا حاكمةً على الأدلّة التفصيلية بما يشبه هيمنة الدستور على تفاصيل القوانين المدنية والجزائية والجنائية وغيرها، هذه النظرية عندما يتمّ تطبيقها على مبدأ الوحدة الإسلامية عند العلامة شمس الدين ستنتج ـ تلقائيّاً ـ أنّ هذا المبدأ مبدأ أصيل ثابت في العلاقات الإسلامية ـ الإسلامية بالعنوان الأوّلي، ممّا سيضع العلامة شمس الدين في سياق الذين جعلوا الوحدة الإسلامية عنواناً أولياً في العلاقات الداخل ـ إسلامية، وبهذا فهو يرفض أن يكون التقريب بين المذاهب ناشئاً من الظروف الطارئة ومن العنوان الثانوي الذي قد يزول عندما تزول مبرّراته الاستثنائيّة، من هنا لا يكون المدخل السياسي في بلاد المسلمين في فترات معينة هو المدخل الصحيح للتقريب بين المذاهب؛ لأنّ السياسي متغيّر ولا يمكن ربط الثوابت الأوّلية ـ كالتقريب بين المذاهب ـ بالمتغيرات، فإنّ التابع للمتغيّر سيكون متغيّراً بشكل تلقائي. إنّ العلامة شمس الدين يرى التقريب نتاجاً طبيعيّاً لعملية اجتهادية داخل ـ نصيّة، وليس نتاجاً لوضع خارجي هنا أو هناك فحسب. المسالة الأخرى التي تشكّل أساساً آخر للتقريب في وعي العلامة شمس الدين هو مسألة المواطنة؛ فإنّ مفهوم المواطنة عند العلامة شمس الدين يجعل كلّ المنضوين تحت الدولة الإسلامية متساوين في الحقوق والواجبات في الأعم الأغلب، والشيخ شمس الدين لا يميل في قضايا المواطنة إلى تكثير التمايزات بين المسلم وغيره ـ فضلاً عن أبناء المذاهب الأخرى ـ في الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، والمواطنة عنده لا تنشاً من الجانب العقدي فقط لكي تكون معياراً في منح الحقوق، وإنما من المساهمة في صناعة الاجتماع البشري ككل. الأمر الآخر الذي أودّ الإشارة إليه هنا هو أنّ كتابات العلامة شمس الدين في المجال الفكري الإسلامي أو في مجال الاجتهاد الشرعي، تُظهر لنا حضور التراث الإسلامي بمدارسه ومذاهبه في أعماله، فعندما يعالج العلامة شمس الدين موضوعةً فقهيّة معينة فإنّه يرصدها في أعمال الباحثين والفقهاء والعلماء المسلمين على انتماءاتهم المذهبيّة، ليس بقصد الانتصار المذهبي بالضرورة، بل غالباً بقصد التدليل على أنّ الاجتهادات الإسلامية ـ على اختلافها ـ تمثل تراثاً ينبغي للفقيه وغيره وضعه أمامه، من هنا دعا العلامة شمس الدين إلى ما وصفه بالاجتهاد الإسلامي مقابل الاجتهادات المذهبية، وقال بأنّنا لا نريد مجتهداً حنفياً أو مجتهداً على المذهب الإمامي بقدر ما نريد اجتهاداً إسلاميّاً يضع الموروث الإسلامي أمامه بكلّ مدارسه، دون أن تكونه لديه عقدة من تيار دون آخر، مع حفظ حقّ الباحث أو الفقيه في النقد هنا أو هناك، أمّا عزل نتاجات المذاهب الأخرى وكأنها غير موجودة فإنّه من وجهة نظر العلامة شمس الدين غير صحيح إطلاقاً بل إنّه يعيق التنمية المنشودة في فكرنا الديني. انطلاقاً ممّا تقدّم، ومن رؤية معمّقة للفقه والسياسة، آمن العلامة شمس الدين بالتقريب، وكان من دعاته، بل نحن نجد في تاريخه الشخصي ممارسةً عملية تقريبية، فرغم كونه في قمّة الهرم في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، وهو مجلس مذهبي قد يسجّل عليه ـ كما فعل بعض العلماء ـ أنّه يكرّس الطائفيةّ في لبنان بدل أن يتلافاها، إلا أنّ العلامة شمس الدين استطاع في موقعه هذا أن يمارس دوراً تقريبياً مميزاً، حتى أنّه اختار ـ بصرف النظر عن موافقته في اختياره هذا ـ للمقاومة في لبنان اسم (المقاومة المدنية الشاملة) بدل أيّ اسم آخر ذو طابع مذهبي أو ديني، انطلاقاً من الخصوصيّة اللبنانية في التنوّع الطائفي والمذهبي، ومع ذلك كلّه لا نجد العلامة شمس الدين يتخلّى عن مبادئه العقدية في الاعتقاد المذهبي حيث يسوقه الدليل، فكتاباته تزخر بالتحليل التاريخي والعقدي المنتمي مذهبياً مثل ما جاء في كتابه (نظام الحكم والإدارة). س: بماذا تختلف الدولة العلمانية في المنظومة الفكرية لآية الله شمس الدين عن نظريّة ولاية الأمّة ونظارة المراجع وإشرافهم؟ الشيخ حب الله: يميّز العلامة شمس الدين ـ من خلال تحليل نظريّته في الفكر السياسي ـ بين شرعيّة الدولة وإسلاميّتها، فشرعيّة الدولة بمعنى عدم صدق حكومة الجور والغصب عليها تكمن في كونها صادرةً من إرادة شعبيّة، فأيّ حكومة تأتي بها أصوات الجماهير ـ بصرف النظر عن كيفية العلم بهذه الأصوات سواء عبر الانتخاب أم غيره ـ ستكون حكومةً شرعيّة، لكنّ هذا لا يعني أنّها حكومة إسلاميّة؛ لأنّ إسلاميّة الدولة تكمن في إسلامية الدستور والقوانين، إذا لم نرد التدخّل في إسلامية الممارسة العمليّة. والسبب في تمييز العلامة شمس الدين بين هذين الأمرين، أي الشرعيّة والإسلاميّة، هو أنّه يرى شرعيّة الدولة وولايتها أمراً بشريّاً غير إلهي، بمعنى أنّ الولاية الأصليّة عنده هي للمجتمع والأمّة والشعب، حيث لم يثبت عنده أيّ دليل نصّي على غير ذلك بما في ذلك نظرية ولاية الفقيه العامّة، وكما أنّ الفرد له ولاية على نفسه وسلطنة على تصرّفاته وأعماله، كذلك للجماعة التي هي الأمّة ولاية على نفسها بوصفها أمراً جمعيّاً له كيانه وظهوره الخارجي، ولكي تقوم الأمّة بممارسة ولايتها على نفسها تمنح هذا الأمر لمن تنتخبهم مثلاً ليمارسوا هذا الدور بالنيابة عنها دون أن تغيب الأمّة في فترة النيابة هذه؛ لأنّ تخلّف النائب عن القيام بما أوكل إليه يسمح للمنوب عنه أو للموكّل بعزله أو رفضه أو وضع بدائل مكانه. فالمقدّس عند العلامة شمس الدين ليس هو الدولة ولا النظام ولا السلطة، وإنّما المقّدس هو الأمّة عندما تكون مسلمةً، وفعل السلطة وممارسة الولاية تعبير بالواسطة عن قيام الأمّة بتولي أمور نفسها وتقرير مصيرها عند العلامة شمس الدين. لكن إذا اختارت الأمّة خياراً غير إسلامي في السلطة، كان من المنطقي تخطئتها في ذلك من وجهة النظر الإسلامية، وكان من اللازم على العاملين في الخط الإسلامي السعي للأسلمة في القوانين والدساتير والممارسات، بيد أنّ هذا السعي ـ من وجهة نظر العلامة شمس الدين ـ لا يصحّ أن يكون قهريّاً أو عبر استخدام القوّة أو العنف، فالحركات الإسلامية والأحزاب الدينية ليس لها أن تمارس انقلاباً عسكريّاً مثلاً تفرض من خلالها الإسلام على الناس، كما ليس لها الدخول في ثورات دمويّة مسلّحة أيضاً، والسبيل المتعيّن هو القيام بتغييرات عبر الجمعيات الأهليّة ومؤسّسات المجتمع المدني ودوائر الدولة وعبر الإعلام وسلطاته وعبر التظاهرات السلميّة وأمثال ذلك، أي التغيير السلمي لا العنفي، فإذا استطاعت الحركة الإسلاميّة تغيير قناعات الأمّة لاختيار من هو الأصلح إسلاميّاً لتولّي السلطة من الاتجاهات الفكرية والعقديّة، كان من حقّها الحكم بإرادة شعبية عارمة، أمّا إذا فشلت فإنّ عليها أن تواصل جهدها السلمي هذا. إنّ إسلامية الدولة يجب أن لا تعارض شرعيّتها، لأنّ الشرعية عند العلامة شمس الدين لا تنزل من الأعلى عبر نصب الحاكم من قبل الله بالاسم أو العنوان، وإنما تصعد من الأدنى إذا صحّ التعبير، أي من الأمّة نفسها، فإسلامية النظام لا تساوي شرعيّته، كما أنّ شرعيّته لا تعني إسلاميّته بالضرورة،. والعلامة شمس الدين يدعو إلى الإسلامية والشرعية معاً، فبدعوته إلى الشرعيّة يرفض الدكتاتورية والاستبداد وكلّ سبل الوصول إلى السلطة من غير طريق اختيار الشعب، وبدعوته إلى الإسلاميّة يرفض العلمانية وفصل الدين عن الدولة، لا بمعنى أنّه يرى عدم شرعيّة الدولة العلمانية، بل بمعنى أنّه يرى عدم إسلاميتها، وهذا التمييز الدقيق هو الذي يجعل العلامة شمس الدين غير علماني في نظريته حول ولاية الأمّة على نفسها؛ لأنّ إعطاء الحقّ للأمّة في تقرير مصيرها السياسي شيء، وتصويب قرارها فيما اختارته شيء آخر، فنحن نعطيها الحق في اختيار أيّ مذهب سياسي ولو كان علمانيّاً، لكننا في الوقت عينه نخطؤها في اختيارها الخطّ غير الإسلامي. طبعاً هناك مجال واسع لتحليل ونقد بعض جوانب نظرية العلامة شمس الدين وغيره، لا يسعه هذا الحوار، لكنّني أعتقد بأنّه حاول أن يصوغ نظريّةً متوازنة نابعة من اجتهاد فقهي هادئ، بل وقد تقدّم على كثيرٍ غيره في تحليلاته هنا، وشكّلت محاولته في هذا المضمار رغبةً في التوفيق بين الدين والعصر، وجواباً عن مشكلة الاستبداد في العالم الإسلامي والعربي. لقد أراد شمس الدين الربط بين مفاهيم الديمقراطية والانتخاب والتعددية والشعب وغير ذلك مع مفاهيم الشورى والبيعة، إلى جانب أساسيات التشريعات الإسلاميّة