الصفحات

الأربعاء، 2 يناير 2013

لماذا أخفق اليسار في فهم المسألة السورية؟

بقلم سلامة كيلة(فلسطين)

لا نزال نصطدم بموقف يسار يدافع عن السلطة في سوريا، ويعتبر أن ما يجري هو مؤامرة. ليست المسألة هنا هي مسألة خطأ عابر، وكذلك ليست نتاج خطأ عاطفي، بل لا بد من التمييز بين من لهم مصلحة مباشرة ومن يأتي موقفهم نتاج خطأ معرفي. وإذا كان هناك "قريبون" لهم مصالح مباشرة فإن الكثير من اليسار العربي والعالمي يتحاكم لخطأ معرفي يشي بطبيعة الوعي الذي يتحكم بهؤلاء. ورغم أن السلطة تمارس كل الوحشية كعصابة مافيا فإنه لم يطرح السؤال حول طبيعة السلطة السورية، ولا لمس طابعها المافياوي المجرم، وهو ما يشير إلى "غياب الأخلاق" عن هذا اليسار، لتصبح القيم المجرّدة أهم من البشر، وأكثر تأثيراً في تحديد المواقف من ممارسات وحشية تدمّر وتقتل دون رادع. ربما كان هذا "السقوط الأخلاقي" هو نتاج "توهم أيديولوجي متسام"، ونتاج "تحليق تجريدي" وصل إلى البعد الذي لا يسمح برؤية الواقع والوقائع. لكن ليس من قيمة أخلاقية لمقولة مواجهة الإمبريالية إذا كانت تغطي القتل والتدمير. وليس من تسام أعلى من الدفاع عن وجود البشر، ولا شك أن رفض الإمبريالية نتج عن كونها تسحق البشر، لكن لا يجوز أن يغطي ذلك قتل البشر لأنهم يرفضون سلطة ويريدون تغييرها. لهذا فإن الدفاع عن سلطة لا تتمتع بأية قيمة أخلاقية، بل تمارس كل ما ينفي الأخلاق، هو سقوط أخلاقي بامتياز قبل أن يكون خطأ معرفيا وخطيئة عملية. هذا ربما يوضّح المدى الذي وصل إليه الخواء النظري، ولكن أيضاً الهزال العملي. اليسار يشعر بعجزه لهذا يتكئ على بقايا من أوهام الماضي يرى أنها تنهار فيعتبر أن ذلك هو استمرار لـ"مؤامرة إمبريالية". الإمبريالية باتت هي "الغول" الذي يخيف الأطفال. هي الجبروت الذي استمر وتماسك وظل قوياً كما يظن هؤلاء. وبالتالي هي كلية القدرة، فتستطيع تحريك الشعوب، وتغيير النظم، والتحكم في مسارات التاريخ. وهي التي تتآمر في كل لحظة، ولسوء الحظ أن مؤامراتها ناجحة دائماً. هل في ذلك ما هو مادي وعلمي وماركسي؟ ليس في ذلك سوى أوهام نخب ميتة، أو تكاد. أين تكمن المشكلة في الوضع السوري؟ فقط هو الوضع المركب وليس الوضع البسيط الذي ينجح العقل الصوري في فهمه. هو وضع متداخل ومتعدد المستويات، والعقل الصوري لا يستطيع استيعاب سوى مستوى واحد. ولقد تأسس على أن المستوى السياسي هو هذا المستوى الذي يفعل فيه "عقله". ولهذا غاب الشعب، لأنه يتخفى خلف المستوى الاقتصادي. فالشعب هو المستوى الاقتصادي، المبتعد عن السياسة كونها السلطة القامعة والمتدخلة والمخيفة. هو المجتمع ناقص الدولة والأحزاب. بالتالي، ولهذا بالتحديد، لا يقع في "دائرة الرؤية" التي تحكم النخب والأحزاب اليسارية هذه. في مصر وتونس كانت السلطة متطابقة مع الإمبريالية لأنها تابعة فكان الفهم ممكناً: الثورة ضد الإمبريالية، إذن جيدة. في سوريا كانت السلطة في اختلاف (أو في حلف مختلف) مع الإمبريالية، فأصبح الفهم يطال هذا الاختلاف بالتحديد (أي المستوى السياسي)، لهذا فإن الثورة ليست ثورة، بل هي مؤامرة إمبريالية. طبعاً في تونس ومصر وفي سوريا أيضا لم يجرِ فهم وضع الشعب الذي ثار. لم يدرس الاقتصاد، ولا فهم وضع الطبقات الشعبية، وأيضاً لم تجرِ ملاحظة تراكم الاحتقان. وظل الأمر يتعلق بـ"الإمبريالية/ ضد الإمبريالية"، وليس بصراع الطبقات كما تنطلق الماركسية، وبالتالي من فهم طبيعة الاقتصاد والبنية الطبقية. فهذا أمر سقط من التحليل منذ سقوط الاشتراكية، وتحوّل التحليل المادي الذي ينطلق من الاقتصاد وصراع الطبقات إلى تحليل ينطلق من "البنية الفوقية"، أي من السياسي. وهو الأمر الذي حوّل مفهوم الإمبريالية إلى مفهوم سياسي يتعلق بالسيطرة والاحتلال والتدخل دون أن تُلحظ كبنية اقتصادية عالمية تؤسس لتكوينات طبقية محلية. لهذا إذا كانت ماركسية رائجة في الماضي تتسم بـالاقتصادوية فإن هذه "الماركسية" تتسم بسياسوية مفرطة. والسياسة هي الشكل أو السطح، أو ما يُرى في الواقع. لهذا يستطيع المنطق الصوري تلمسه، لكنه لا يستطيع فهم عمقه وآلياته وتاريخيته. وهذه هي سمة المنطق الصوري الذي لا يستطيع تجاوز الشكل إلى الجوهر، كما لا يستطيع فهم الصيرورة لأنه يتلمس الأمور من منظور سكوني، منظور راكد. بالتالي لا تكون حاجة لفهم الوضع العياني من مستواه الاقتصادي إلى المستوى المجتمعي، ومن ثم طبيعة السلطة ومصالحها، وطبيعة وضع الطبقات الشعبية. وكيف تشكّل وإلى ماذا سيؤول. في سوريا ظهر العقل الأحادي واضحاً وفظاً، فسقط إزاء تعقيد الوضع العياني. وبدل أن يكون يساراً بات في أقصى اليمين. بدل أن يتمثل موقف الشعب تمثّل مصالح الطبقة المسيطرة. لقد ظهر أن هناك "فكرة" مطلقة تحكم كل نظر، وتحدد كل رؤية، وهي التي لها قوة الإله في الفلسفة القديمة. إنها فكرة الإمبريالية، التي باتت فكرة بالتحديد، أي أنها لم تعد تكويناً واقعياً يخضع للتحوّل والتغيّر. الإمبريالية باتت مجرّدة، وأصبحت سياساتها ما كانت تمارسه خلال العقود الماضية، أو ما كان يشار إلى أنها تمارسه. وبالتالي أصبح يثرى الآخر من منظورها، أي من هو معها ومن هو ضدها. هذا هو أساس المنطق الصوري. وأصبح من هو ضدها ثوريا ويساريا وقوميا ووطنيا (حتى بن لادن في لحظة من اللحظات، وأيضاً الإسلام السياسي). هنا يجري تجاهل مبدأ جوهري في الجدل المادي، هو جوهر الجدل المادي، إنه الصيرورة التي تؤكد على التغيّر والتحوّل. ومن ثم فهم أن الإمبريالية تكوين متغيّر، الأمر الذي يفرض فهم تكوينها الآن لا أسطرتها وتحويلها إلى جوهر ثابت (وهذا هو جوهر المنطق المثالي الذي يحوّل الأشياء المتغيرة إلى ثابت مطلق). ولهذا يصبح هناك تصوّر متعالٍ يحكم رؤية الواقع، هو التصوّر حول الإمبريالية. وفي هذا منطق مثالي مفرط، فكرة مسبقة تحكم الواقع. وهذا ما سيبدو واضحاً حين تلمس الواقع الآن، حيث سيبدو النقص المعرفي واضحاً، ويظهر كم أن التصور المسبق هو الذي يحكم الرؤية ويقود إلى موقف غاية في الخطأ. فالواقع كان يحتاج إلى تحليل شمولي، خاص بسوريا: السلطة والطبقات والاقتصاد. وعالمي يتعلق بطبيعة التكوين الإمبريالي الآن، الآن وليس أمس أو قبل عشر سنوات أو زمن الاشتراكية. وفي الوضعين يظهر النقص المعرفي لدى هذا اليسار (العربي والعالمي)، حيث يتمركز الفهم على الحدث الجاري، ويعالج بشكل صحافي (تقريري) دون محاولة لفهم أساسه وخلفياته. وبالتالي يبقى التصوّر السابق هو الحاكم ما دامت الإمبريالية الأميركية لم تنته بعد، وظل النمط الرأسمالي هو المهيمن. رغم أن التكوين الرأسمالي يشهد تغييراً كبيراً. ولأن النظام في سوريا كان من ضمن موجة التحرر الوطني "المعادية" للإمبريالية، فيبدو أن اختلافه الراهن مع الإمبريالية، الأميركية خصوصاً، يربط بذلك التاريخ الأسطوري، فتكون السلطة الراهنة هي تلك التي كانت في السابق، والسياسات التي تقوم عليها هي ذاتها. ورغم أن السلطة السابقة (حكم حافظ الأسد) لم تكن في تناقض مع الإمبريالية، بل ظلت تناور بينها وبين الاتحاد السوفياتي، فقد حدث تحوّل أكبر أثناء حكم بشار الأسد. فلم يلحظ التخلي عن دور الدولة الاقتصادي، وتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد ريعي غير منتج، وبالتالي -وبالضرورة- مرتبط بالاقتصاد الرأسمالي، سواء عبر أميركا أو غيرها. إن تحكّم تصوّر مسبق، ثابت، للعالم فرض ألا تُرى التحوّلات الواقعية، وأن تبقى الأمور كما كانت في عقود سابقة. بالتالي بقيت السياسة الأميركية كما كانت، وظلت مقدرة الإمبريالية الأميركية على تحقيقها كما هي. وبهذا لم يجرِ تلمس معنى أزمة سنة 2008 التي قيل إنها أزمة مالية في حين أنها أزمة عميقة في النمط الرأسمالي ككل. الأمر الذي جعل أميركا في وضع انكفائي، توضّح في الإستراتيجية الجديدة التي قررت قبل أشهر، والتي أعطت الأولوية لمنطقة الباسفيكي، وقررت العجز عن خوض أكثر من حرب في الآن ذاته، وهي الآن لا تزال تخوض الحرب في أفغانستان. كما أن قبضتها على العالم قد تراخت وباتت تسعى لحماية ذاتها من "التوسع الصيني". من هنا لا يمكن أن نبقى نكرر الكلام الذي كان يتردد في العقود السابقة حول "الشرق الأوسط الجديد"، و"الفوضى الخلاقة"، والتدخل العسكري. فهذه كلها باتت من الماضي من المنظور الأميركي، بالضبط لعدم المقدرة على تحقيقها والإفادة منها. إذن، الإمبريالية تعيش حالة من التضعضع، وهي تعاني من أزمة عميقة مستمرة، وبالتالي تتحوّل موازين القوى لغير مصلحة أميركا وأوروبا. وإذا كانت قد حاولت حل أزمتها عبر التدخل العسكري والسيطرة على العالم، وتحقيق "الشرق الأوسط الجديد" عبر "الفوضى الخلاقة"، فإن حروب أميركا في أفغانستان والعراق أفضت إلى عكس ما أُريد منها، حيث أسهمت في تفجّر الأزمة الرأسمالية وليس في تجاوزها. مما جعلها، بعد مكابرة، تتراجع وتقبل بحماية ذاتها. الأمر الذي دفعها إلى التراجع عن مواقعها العالمية بهدوء، في كل الأماكن التي لم يعد باستطاعتها الحفاظ عليها. وبدت أنها عاجزة عن خوض الحروب والتدخل. هذا وضع جديد يفرض رؤية العالم في أفق جديد وليس التشبث بتصور ماضوي. لهذا نجدها تنظر "من بعيد" لما يجري في سوريا، وتكرر مواقف متناقضة، لم تخرج عن التأكيد على تحقيق مرحلة انتقالية عبر الحوار. وهذا يتكرر في تصريحات كثيرة من قبل أوباما وكلينتون وكثير من المسؤولين الأميركيين. دون أن يعني ذلك أنها يمكن أن تلعب بشكل غير مباشر، لكنها لم تعد قادرة على التدخل المباشر. والنظر السياسوي لم يسمح لهذا اليسار أن يتلمس تحولات التكوين الاقتصادي السوري، وبالتالي التكوين الطبقي الذي تشكّل خلال العقد الأخير خصوصاً. فلم تعد الدولة تمارس الاقتصاد، ولا ظل الاقتصاد السوري اقتصادا منتجا، بل أصبح ريعياً مافياوياً تتحكم فيه فئة هي العائلة الحاكمة (آل مخلوف وآل الأسد وآل شاليش وحواشي مكملة)، ويتسم بالهوة الواسعة بين الأغنى والأفقر، والنسبة العالية للبطالة (30%)، وبين الأجر والحاجة (الفارق بين الحد الأدنى للأجور والحد الضروري هو 1 إلى 5). ومن ثم انهيار التعليم والصحة. إذا لم نكن نريد الإشارة إلى الطابع الشمولي التسلطي للسلطة. الاقتصاد أصبح ليبرالياً متحكما به من قبل فئة ناهبة. توظّف أموالها في "السوق العالمي"، أي بالترابط مع الرأسمال الإمبريالي، والخليجي. وبالتالي تخضع السوق المحلي لكل تقلبات السوق العالمي، وتعمل على تحويل الأموال المنهوبة إلى "الخارج". في عملية هي ذاتها التي تشكلت في البلدان الأخرى التي خضعت للسيطرة الإمبريالية (تونس ومصر والمغرب والأردن..). هنا ليس من اختلاف عن كل بلدان الأطراف التابعة، حتى والسلطة في "تناقض" مع أميركا. وهو الأمر الذي يفرض تحديد أسباب هذا التناقض وحدوده، وكونه يجري على أرضية الارتباط بالنمط الرأسمالي وليس في التصارع معها كما جرى خلال مرحلة التحرر (الناصرية والبعث). حينها كانت الدولة تعمل على بناء الصناعة وتحديث التعليم وتطوير البنى التحتية، لهذا تصادمت مع الإمبريالية. لكنها الآن عملت على تأسيس الاقتصاد بما يتناغم ويتبع النمط الرأسمالي، لا أن يتناقض معه. بالتالي يكون "التناقض" هو اختلاف مع طرف إمبريالي هو أميركا على سياسات وتصورات وليس اختلافا في البنية ذاتها. وهو مفهوم نتيجة الاندفاع الأميركي للتغيير السريع والعميق للمنطقة بعد احتلال أفغانستان والعراق لفرض سريع لـ"الشرق الأوسط الجديد"، الذي فشل في سوريا (2005-2007)، فعمل أوباما -وهو يستلم السلطة- على إعادة ترتيب العلاقة لكن بهدوء. وحين يتعلق الأمر بثورة شعبية نتجت عن التكوين الاقتصادي الذي تشكّل في العقد الأخير، يصبح من الانتهازية المراهنة على خلاف تكتيكي بين السلطة وأميركا بدل الوقوف مع الشعب في الثورة التي يخوضها. هل يفهم اليسار هذه المسألة؟ التناقض في سوريا هو بين طبقات شعبية مفقّرة ورأسمالية مافياوية تسيطر على السلطة، هذا هو جوهر الوضع. وهذا هو التناقض الرئيسي الآن، أي خلال الثورة خصوصاً. وهو في عمقه يفرض تحقيق التغيير الذي يفرض التناقض الحتمي مع الإمبريالية، كل الإمبرياليات وليس الأميركية فقط. ومن أجل تجاوز الرأسمالية كنمط، وإنْ لم يكن الوضع مهيأ لذلك الآن نتيجة عجز اليسار بالتحديد، وهامشيته وانعزاله عن الطبقات الشعبية. لكن ليس من خيار سوى السير لتحقيق التغيير الجذري. على أساس ذلك يمكن فهم وتفسير أدوار القوى الإمبريالية والإقليمية، ويمكن تحليل سياسات المعارضة المهمشة والمأزومة، والمتلبرلة. وكذلك يمكن تناول مسار الثورة ومشكلاتها، ونتائج سيادة العفوية فيها. اليسار يعاني من قصور تحليلي، ومن "نخبوية"، ومن مثالية مفرطة. هذا ما أوضحته الثورة السورية بشكل جلي. سوريا ومآلات الدولة الستالينية محمد بن المختار الشنقيطي (موريتانيا) لم تعش الدول العربية جمودا سياسيا وجدْبا ثقافيا وفسادا اقتصاديا مثلما عاشته في ظل الحكم العسكري. وقد امتاز العسكريون ذوو النزعة اليسارية من بين هؤلاء الحكام باستيراد الطرائق الستالينية في ممارسة السلطة، فأضافوا هذا الشر إلى شرور الحكم الاستبدادي العسكري في كل مكان. والستالينية مصطلح مشتق من اسم الزعيم الشيوعي السوفياتي جوزيف ستالين، وهي منهج في الحكم يتأسس على دعائم خمس: 1- الوثنية السياسية، من خلال عبادة القائد، وتماهي الدولة في شخصه، فهو ظل طويل ثقيل، له يد في كل حركة وسكون، وله الفضل في كل مصلحة تتحقق، وهو بريء من كل قصور أو تقصير!! 2- التشبث بالسلطة إلى الأبد، مع أمل عريض بالبقاء، وسد المنافذ أمام الطامحين إلى المشاركة في الشأن العام، إلا من كان ظلا للحاكم، متملقا له، يرضى بوظيفة المحكوم به، دون مشاركة فعلية في الحكم. 3- المركزية الطاغية التي تخنق كل إبداع أو اندفاع، وتجرد المواطنين من صفتهم الإنسانية المشحونة بأشواق الحرية والكرامة، وتختزلهم في صفتهم الحيوانية: قطيعا يأكل ويشرب ويطيع قائده إلى الأبد. 4- القمع الوحشي لكل من تسول له نفسه نقد الحاكم المتأله، والتنكيل بمن تمسكوا بحقهم الإنساني في أن يكون لهم رأي في تنصيب السلطة المتصرفة في مصائرهم، وفي مراقبتها ومحاسبتها. 5- الدعاية الفجة السطحية التي لا إيماء فيها ولا إيحاء، وإنما هي غوغائية صريحة وضجيج صارخ، يغطي على أصوات العقل والحرية والعدل والديمقراطية. وإذا أمعنا النظر في هذه الدعائم التي تأسست عليها الدولة الستالينية، فسنجدها تنطبق على نظام الحكم الحالي في سوريا بناءً وأداءً، فهو نظام تأسس على النموذج الستاليني الفظ، وطبقه بحذافيره: فعبادة القائد الفرد أمر مفروغ منه في سوريا، وهو قائد يتشبث بالكرسي مع آمال عريضة لا تعرف أفقا ولا نهاية، حتى إن الصبية السوريين تربوا على ترديد الشعار الشهير "قائدنا إلى الأبد.. الأمين حافظ الأسد". ثم جاء الشبل بشار ليرث الأسد حافظ، بنفس العقلية الستالينية المتكلسة، وتحوّل الشعار السخيف "قائدنا إلى الأبد.. الرئيس بشار الأسد". أما المركزية الطاغية فيكفي أنك لا تستطيع أن تفتح دكانا للحلاقة أو النجارة في سوريا -ودعك من الأحزاب السياسية والجمعيات الثقافية- دون ترخيص من الأمن. وأما التنكيل بالمعارضين فيكفي ما هزّ ضمائر العالمين من هدم مدينة حماة على رؤوس ساكنيها مطلع ثمانينيات القرن الماضي، ومن الترويع والتجويع والمجازر والمقابر الجماعية التي نشاهدها اليوم في درعا وغيرها من المدن والبلدات السورية الأبية التي أبت الخنوع أو الخضوع لغير الخالق. وفيما وصفه مراسل وكالة رويترز ومراسلة الجزيرة الإنجليزية من فظائع أثناء احتجازهما أياما بمقر المخابرات السورية كفاية للمستكفي، وما خفي كان أعظم. وأما الدعاية الفجة فحدث ولا حرج، ويكفي أن بعض المتملقين من أعضاء البرلمان يرى الأمة العربية قليلة على بشار الذي يستحق في رأيه أن يكون قائد البشرية كلها. ويكفي ما تنضح به القناة السورية الرسمية من الكذب والفحش السياسي كل يوم. كان ستالين يشبه بعض القادة العسكريين العرب في نرجسيته وفظاظته من دون ريب، فقد حوّل الأفكار الاشتراكية إلى إرث شخصي، كما حوّل عساكرُنا المشاعر العروبية الهادرة إلى أملاك شخصية وعائلية، وقتَّل ستالين معارضيه بوحشية بنفس الطريقة التي قتل بها حافظ الأسد في يوم واحد نحو ألف من السجناء العزل في سجن تدمر شمال شرق دمشق مطلع الثمانينيات، وقتل بها القذافي في يوم واحد نحو 1200 سجين أعزل في سجن بوسليم منتصف التسعينيات. لكن قد يكون من الظلم أن نقارن ستالين من كل الوجوه بقطَّاع الطرق الذين يحكمون بعض الدول العربية، فهو لم يقتل شعبه بالقصف المدفعي العشوائي الذي لا يميز بين مدني وعسكري، بالطريقة الوحشية التي شاهدها العالم في مذبحة حماة عام 1982، حيث "قدر عدد الضحايا ما بين 30 إلى 40 ألفاً بينهم نساء وأطفال ومسنون، إضافة إلى 15 ألف مفقود لم يتم العثور على آثارهم منذ ذلك الحين، واضطر نحو 100 ألف نسمة إلى الهجرة عن المدينة بعدما تم تدمير ثلث أحيائها تدميراً كاملاً، وتعرضت أحياء أخرى لتدمير واسع، إلى جانب إزالة عشرات المساجد والكنائس ومناطق أثرية وتاريخية نتيجة القصف المدفعي"، حسب نص تقرير للجنة السورية لحقوق الإنسان. كما أن ستالين -على فظاظته- كان رجلا وطنيا وقوميا دون تزييف، آمن بأمجاد روسيا وسعى لتحقيقها بالفعل لا بالقول، رغم الثمن الإنساني الباهظ لسياساته، فقد قاد بلاده في مقاومة بطولية شرسة كسر بها شوكة النازية التي كانت تسعى إلى احتلال أرضه واستعباد شعبه. كما قاد ثورة صناعية بخططه الخمسية الشهيرة، أخرج بها بلده من ذل التسول للغرب والخوف من سطوته العسكرية. أما الستالينيون المزيفون عندنا فلا أرضًا حرروا، ولا صناعةً بنوْا، بل إنهم استنزفوا قوة الشعب وموارده في حماية أنفسهم، وحولوا قوة الدولة إلى حربة موجهة إلى نحور الشعوب، لا إلى نحور الأعداء. ويكفي النظر إلى الدبابات السورية التي صدئت في انتظار معركة التحرير الحاسمة مع إسرائيل، تتجه إلى درعا وبانياس وحمص، وتقذف الحمم ضد المواطنين الأبرياء الشرفاء، بدل التوجه إلى الجولان المحتل، ومصاولة العدو الجاثم على أنفاس السوريين هناك منذ أربعة عقود. وقد ظن النظام الستاليني في سوريا أن وعودا جوفاء بإصلاحات شكلية وجزئية سترد الشعب إلى بيوته بعدما أمسك مصيره بيده، ونسي هذا النظام المتبلد أن الصراع بين الحاكم والمحكوم في الدول العربية اليوم لم يعد صراعا حول أداء السلطة، وإنما هو صراع حول بناء السلطة، بعدما أدركت شعوبنا ما كان ينبغي أن تدركه منذ أمد بعيد، وهو أن البناء الاستبدادي لن يقود إلى نهضة في الداخل ولا إلى عزة في الخارج. فأي ترقيع في الأداء السياسي لن يقنع الشعوب اليوم بعدما قررت رفع الحجر المفروض عليها تماما، وهدم البناء الاستبدادي من القواعد، تمهيدا للإمساك بحرية قرارها واختيارها، وطرد منطق السيف وقانون الغاب من مسألة تداول السلطة إلى الأبد. لقد دخلت الثورة السورية المجيدة خط اللاعودة، ولم يعد ينقصها سوى تصاعد الحراك الشعبي في قلب الثقل السكاني السوري بدمشق وحلب، لتصل إلى مستوى الكتلة الاجتماعية الجارفة، الضرورية لكل الثورات الشعبية. فنهاية الدولة الستالينية في سوريا وشيكة ومحتَّمة، وسيليها تحرر من الإرث المُعتِم الذي راكمته على مدى أربعة عقود، تمامًا كما صفَّى خروتشوف مواريث ستالين، وأدان "عبادة الشخص" الستالينية. فليس لهذا النمط من الحكم المتكلس مكان في عصر الثورات العربية المجيدة، ولن يكون الشعب السوري المعتد بكرامته وتاريخه استثناء من الشعوب الطامحة إلى الحرية. ولعل المآلات المحتملة لنهاية الدولة الستالينية الأسَدية في سوريا تسلك أحد المسارات الآتية: المسار الأول- أن تبقى نواة النظام الصلبة متماسكة إلى النهاية، مع استمرار التآكل من الأطراف، حتى تصبح تلك النواة معزولة وغير قابلة للحياة. وعندها يدرك الذين ربطوا مصائرهم بمصير النظام طائفيا أو سياسيا أو مصلحيا أن لحظة الحساب قد أزفت، فينفضُّون من حوله زرافاتٍ ووحدانًا، فيسقط النظام على الطريقة المصرية والتونسية. ويترجح هذا الخيار لدى من يرون أن لا فرق جوهريا بين بشار وماهر، وإنما هما يتقاسمان الأدوار، حيث يمثل أحدهما وجه الترغيب والاحتواء، والآخر وجه الترهيب والقوة. وقد بدأت بالفعل بوادر رفض العسكريين السوريين لقمع شعبهم، وهو ما يرجح هذا المسار. المسار الثاني- أن تنقسم النخبة الحزبية والطائفية الحاكمة، ويسيطر الجناح المعتدل فيها على مقاليد الأمور، ثم يعرض هذا الجناح استجابة جزئية للمطالب الشعبية، بما يضمن لبشار الاستمرار عاما أو عامين، بعد أن يضع البلاد راغما على طريق الانتقال إلى الديمقراطية الحقة. ويترجح هذا المسار عند من يرون أن هناك فجوة حقيقية بين بلاهة بشار ودموية ماهر، وأن جناح ماهر الذي يتقدم الصورة اليوم بوحشية قد يتم دفعه إلى الظل حينما تفشل آلة القمع، ثم يتقدم جناح بشار بحلول تهدِّئ الوضع وتمنح النظام فرصة التقاط الأنفاس أمام الاندفاع الشعبي الهادر والضغط الدولي المتصاعد. المسار الثالث- أن تنقسم النخبة الحزبية والطائفية الحاكمة، مع سيطرة الجناح المتصلب فيها، من خلال انقلاب عسكري وأمني على بشار. وباستحواذ الجناح المتصلب في النظام على السلطة، يتم تبني حلول استئصالية أكثر، تفجِّر الوضع إلى حرب أهلية محلية وإقليمية، يمتد لهيبها إلى لبنان، ويصل شررها إلى العراق وإيران. وفي هذه الحالة سيكون مسار الثورة السورية أكثر تعقيدا حتى من مسار الثورة الليبية، بحكم التداخل الإقليمي والطائفي فيه. ويترجح التدخل الغربي في هذه الحالة -ربما من الأراضي التركية- تأمينا للتوازنات الإستراتيجية في المنطقة من شظايا الانفجار السوري. وفي كل الأحوال، فإن الدولة الستالينية في سوريا قد كُتبت نهايتها يومَ كتب أولئك الصبية من درعا على الحوائط "الشعب يريد إسقاط النظام"، فردَّ الأمن الستاليني الأخرق باعتقالهم. وهي نهاية قد تأتي هادئة بثمن معقول يحفظ لجميع الأطراف مستقبلا من التعايش في ظلال من العدل والحرية لا تستثني أحدا، وقد تأتي نهايةً مدوية مرتوية من الأحمر القاني. وليس غريبا على السوريين أن يدركوا ثمن الحرية ومعنى الوفاء لدماء الشهداء، على نحو ما صوره أحمد شوقي في قصيدته الدمشقية: وللأوطـانِ في دمِ كلِّ حُـرٍّ يدٌ سلفتْ ودَينٌ مستـحقُّ وللحريةِ الحمــراءِ بـابٌ بكل يدٍ مضرَّجـَةٍ يُـدقُّ