الصفحات

الأربعاء، 2 يناير 2013

الدكتور طارق متري : العولمة والصحوة الدينية


تتقارب الدول وتتشارك. ومن خلال هذا تقدم بعضًا من التنازلات طوعًا أو كرهًا, ويبقى مفهوم سيادة الدولة هو السؤال الرئيسي الذي يطرح في عالمنا المعاصر. أكثر من أي وقت مضى, تسمح لنا إمكانات السفر الفعليّة, أي ركوب الطائرة والباخرة والقطار, وإمكانات السفر الرمزيّة من خلال وسائل الاتصال الحديثة, أن نستحضر العالم كله في حياتنا اليومية. كما نلاحظ أن العالم اليوم يعرف توحيدًا في السوق الماليّة, فلم تعد الأسواق الماليّة منفصلة الواحدة عن الأخرى. التجارة الدوليّة تنمو بوتيرة أسرع بكثير من الإنتاج, ونسبة نموّها أعلى من نسبة نموّ الاقتصاد. واللافت على هذا الصعيد أن الاقتصاد الرمزي الذي لاعلاقة له مباشرة بالإنتاج الفعلي, يلعب أحيانًا دورًا أكبر بكثير من دور الاقتصاد الفعلي في تحديد السياسات الاقتصادية والأوضاع الاقتصادية والمعيشية للناس. تنتج العولمة بشكل رئيسي عن تفاعلات عدة متزامنة ومتبادلة التأثير: أوّلها الثورة في المعلومات, وثانيها حيوية الشركات الكبيرة, وثالثها النزعة القوية في الولايات المتحدة لكي تكون القوة العظمى الوحيدة والمهيمنة. الواقع أنه باستطاعة أي دولة عظمى أن تكون مهيمنة في أجزاء ما من العالم, ولكن الولايات المتحدة تحاول وتنجح بقدر كبير حتى الآن أن تكون القوّة العظمى الوحيدة المهيمنة في أكثر بقاع العالم وليس فقط في أجزاء معيّنة منه. هي تهيمن في أماكن لم يكن لها سابقًا دور وتأثير مباشر فيها. في المجال الثقافي نلاحظ عملية توحيد ثقافي للعالم تتم بواسطة أنظمة المعلومات ووسائل الإعلام, وكذلك بواسطة السلع التي تسهم في إحداث أنماط استهلاكية هي جزء من الثقافة السائدة والمتجانسة في عالم اليوم. فعلى سبيل المثال, يقول رئيس شركة (جيليت): (لم تعد غريبة البلدان التي كانت تعتبر غريبة), أي أن الأمريكي الذي يذهب إلى أي بلد في العالم, أو رجل الأعمال الذي يتنقل بين فنادقها, بات يعتبر أنّ هذه الدول ليست دولاً غريبة, لأنه يتناول فيها الطعام الذي يأكله في بلده, ويشاهد التلفزيون الذي يتابعه في بلده ويسمع الموسيقى التي يسمعها في بلده, ويطلع على بريده الشخصي الذي كان يصله في بلده... إلخ. هناك عملية توحيد ثقافيّة للعالم تبدو في بعض الأحيان قسريّة, يختبرها الناس كعملية مفروضة عليهم, وأحيانًا تتم عملية التوحيد هذه بهدوء من دون أن يعي الناس أنهم صاروا متجانسين مع من ينتمون في الأصل إلى ثقافة أخرى. الكثير من الشبّان يسافرون ظنّا منهم أنهم سيتعرفون على بلاد بعيدة حيث يختلف الناس عنهم, ولكنّهم يفاجأون أن شبّان تلك البلاد لا يختلفون عنهم, فهم يلبسون مثلهم, ويتكلمون مثلهم, ويسمعون الموسيقى نفسها المألوفة لديهم. إذن, هناك عملية توحيد ثقافي كبيرة, لكن في الوقت الذي تفرض فيه عمليّة التوحيد الثقافي هذه, تقوى عند المجتمعات وعند الأفراد أيضًا الرغبة في التمايز, لأن الناس مفطورون على أن يكونوا متنوعين. فكلما ازداد ضغط التوحيد والتجانس وازداد فرضهما قوّة ازدادت الرغبة في التمايز, وهذه إحدى مفارقات العولمة الثقافية وبقدر ما يشبه أحدنا الآخر, يريد أن يظهر فرادته فيبحث أحيانًا عن فروقات صغيرة تميزه. تأكيد الهوية ثمة حاجة لتوحيد الهويّة الخاصة, فردية كانت أم اجتماعية, في عالم يبدو لنا أكثر تجانسًا. يتحدث فرويد, العالم النفسيّ الشهير, عما يسمّيه في سياق آخر (نرجسيّة الفروقات الصغيرة), أي أنّ يكون المرء متمسّكا بفرق صغير يميّزه عن سواه. هناك من يثير في هذا السياق, أي في سياق المستوى الثقافي للعولمة, مسألة مهمة هي مسألة حريّة الأفراد وحريّة الجماعات. فالبعض يعتبر أنّ العولمة الثقافية تساعد الأفراد أن يحققوا قدرًا من الحرية في علاقتهم بجماعات الانتماء التقليدية. وكثيرًا ما نسمع في معرض الموقف المحبذ من العولمة أنها تساهم في ممارسة الحريّة عند الأفراد, فيستطيع الجالس في غرفته والقادر على أن يستحضر المعلومات من كلّ العالم بواسطة الإنترنت, أن يصبح أكثر حرية من الجماعة أو الطائفة التي ينتمي إليها. إذن, هو يستعين بالعالم لكي ينتزع حريته من جماعة الانتماء المحلي التي تقيّد حريته. من ناحية أخرى, لاشك أنه يوجد تزامن, قرينة زمنيّة كما يسمّيها الأقدمون, بين ظاهرة تدعى عند الكثيرين ظاهرة عودة الدين أو الصحوة الدينية والعولمة. ذلك أنّ العولمة التي تحدثنا عنها تسارعت في آخر السبعينيات وبداية الثمانينيات, بعد النجاحات الأولى للسياسة الريغانية, التي تواكبت مع حقبة ما بعد هزيمة الولايات المتحدة في فيتنام. فانصرف الأمريكيون, بعد هزيمتهم تلك, إلى إعادة بناء قوتهم على أسس جديدة, وازدهر الاقتصاد الأمريكي, تاليًا, وصارت الشركات الأمريكية أكثر حيويّة فاستطاعت اقتحام الحواجز من كل نوع. كما سجّلت في الحقبة ذاتها قفزة نوعية في مجال أنظمة المعلومات. وبالتزامن مع ذلك كله, شهد العالم ما يسمّى عودة الدين. وإن كنّا نقول إنّ الدين لم يغب حتى يعود, فإن البعض من علماء السياسة والاجتماع يتحدثون عن عودة الأديان. بعبارة أخرى, يتحدث هؤلاء عن حيوية عدد الأديان مستجدة, وكذلك عن حضور للدين في الحياة العامة لم يكن له سابق في عقود ما قبل آخر السبعينيات. لقد ساد الاعتقاد, حتى منتصف السبعينيات, بأن تأثير الأديان هو إلى انحسار في حياة الناس, وبخاصة في الحياة العامة, أي في ميادين السياسة والاقتصاد. كما ساد الاعتقاد بأن المجتمعات تتعلم, بمعنى أنها تحقق قدرًا أكبر من الاستقلال عن المؤسسات والرموز الدينية, وأنّ عمليّة التعلم عمليّة تاريخية لارجوع عنها وأنّ هناك مجتمعات متقدمة, بمعنى أنها حققت قدرًا أكبر من استقلال المجتمع عن القيم والرموز والمؤسسات الدينية, ومجتمعات متأخرة لم تحقق هذا القدر من الاستقلال, وأن هذه المسألة, مسألة التقدم والتأخر مسألة وقت, أي أن المتقدم يدعو المتأخر إلى الاستعجال وأنه لا مفرّ من أن تتعلم كل المجتمعات بفعل التصنيع والتحديث. خصوصية التدين لقد قيل أيضًا إن الدين سوف يُحجر عليه في حياة الأفراد الخاصة, أي أن الناس إذا ما بقيت متدينة, فإنها ستمارس تديّنها في بيوتها, في غرف نومها. هذا ما كان شائعًا في منتصف السبعينيات عند كلّ الناس, حتى عند المتدينين الذين كان لديهم الشعور بأنهم يخوضون معركة للحفاظ على الهوية الدينية وعلى دور الدين في الحياة العامة أمام سيل جارف يقود مجتمعاتهم نحو علمنة تخرج الدين من دائرة الحياة العامة. إلا أن هذا تغيّر في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات, وأدرك الكثيرون أن المسألة ليست محسومة على الشكل الذي تصوّروه سابقًا, واتضح أن الدين يلعب أدوارًا في الحياة العامة أكثر تأثيرًا من السابق. وليس انتصار الثورة الإيرانية المثل الوحيد الذي نستطيع تقديمه للتأكيد على قدرة الدين أن يلعب دورًا كبيرًا في الحياة العامة, بل ثمة أيضًا ظواهر أخرى أقلّ أهميّة ربما, لم تحدث انقلابًا جذريًا كما أحدثت الثورة الإيرانية, ولكنها كانت ظواهر مؤثرة وفاعلة كما في الدول الشيوعية التي حصلت فيها تغييرات كبيرة على مستوى دور الدين. وقد اختلف مدى تأثير الدين في الحياة العامة باختلاف البلدان, ففي بولونيا لعب دورًا أكبر من الدور الذي لعبه في تشيكوسلوفاكيا, وكذلك الأمر بالنسبة إلى روسيا بالقياس إلى بلغاريا. كما لعبت عودة الدين دورًا في خلخلة النظام الاجتماعي السياسيّ القديم, وإن لم يصل إلى حجم الدور الكبير الذي لعبته الثورة الإيرانية في إقامة النظام الاجتماعي السياسي الجديد. إلا أنه على الأقل, استطاعت تلك الأديان تقويض النظام القديم وإسقاطه. تنامت, إذن, في أواخر السبعينيات, ومطلع الثمانينيات قوة الأديان في الحياة العامة. إنه لجلي أن ظاهرتي عودة الدين والعولمة قد تزامنتا, ولم يمض على عمرهما غير عقدين. هل هناك تأثير متبادل بين العولمة والصحوة الدينية? هل الصحوة الدينية في وجه من وجوهها هي أحد مظاهر العولمة أو مقاومة العولمة? أم أن التزامن هو مجرد صدفة? أي أن هناك أسبابًا أدت إلى نشوء ظاهرة العولمة, وأسبابًا من نوع آخر أدت إلى الصحوة الدينية, وشاءت الظروف وحدها أن تتزامن الظاهرتان? ثمة تأثير لظاهرة العولمة, كما وصفناها وصفًا أوليًا, على وضع الدين, أو على (الحالة الدينية). هناك مجالات عدة نستطيع أن ندرس فيها هذا التأثير, إلا أن مجالين منهما يستحقان الاهتمام بصورة خاصة. المجال الأول هو الظواهر الدينية الجديدة, التي تنمو نتيجة العولمة الاقتصادية والسياسية والثقافية. فالصحوة الدينية في الولايات المتحدة لم تزدهر إلا بنمو ثورة الاتصالات. وثمة ظواهر دينية لم تنتشر إلا بسبب الاستهلاك الموحد في العالم, لا بل هناك عدد من علماء الاجتماع الذين يقولون إن بعض الحركات الدينية, في الغرب بخاصة, يتعامل معها الناس وفق النمط ذاته, الذي يتعاملون من خلاله مع السلع الاستهلاكية. حتى أن بعض علماء الاجتماع شبّه هذه الأديان الجديدة بمخزن تجاري كبير, يختار المرء منه السلع التي تناسبه, ويبدّلها في كل مرة تستهويه سلعة أخرى. صحيح أن هذه الظاهرة تبرز في الولايات المتحدة, لكنها موجودة في كل مكان, فالناس يغيرون من أديانهم بسرعة لأن سوق الدين يوفر اختيارات كثيرة. غير أن هناك أيضا التعامل مع الأديان, ليس بوصفها نظامًا كليًا متماسكًا, بل بوصفها قطعًا أو أجزاء قابلة للترتيب والتلفيق بحسب رغبة المرء, الذي يختار عناصر مختلفة من أديان عدة ليكوّن دينه الخاص. هذا النمط يقوم به بعض الأفراد في العالم المعاصر, وبعض الجماعات الدينية تتكون وفق منطقه, أي وفق منطق التلفيق والتوليف. المقياس, عندئذ, لا يصبح الأمانة للدين الموحي به والموروث, وهو مقياس أهل الإيمان الذين ينتمون إلى أديان تاريخية. المقياس الذي يغلب هنا هو قدرة دين معين أو أجزاء من دين معيّن على تلبية حاجات الأفراد أو الجماعات الصغيرة. فيكون المقياس, أحيانًا الصحة النفسية أو الجسدية للمتدين. لاشك بأن هناك علاقة وثيقة بين هذه الظاهرة وبين العولمة, وبازدياد العولمة وانتشارها تزداد هذه الظواهر اتساعًا, وهي تخضع من حيث أراد أصحابها أم لم يريدوا إلى منطق السوق الاستهلاكية نفسه الذي يشهده العالم المعاصر. بعيدًا عن الساحات التقليدية المجال الثاني هو انتشار الأديان في كل مكان. ذلك أن الأديان في العقدين الأخيرين بخاصة, انتشرت بسرعة كبيرة خارج معاقلها التاريخية, والأمثلة التفصيلية تشهد لحجم التغيير الذي شهدته الخارطة الدينية في العالم. لقد كانت واضحة فيما مضى الحدود بين المعاقل التاريخية للأديان الكبيرة, فكان يقال: مثلا هذا هو العالم الإسلامي أو المسيحي أو الهندوسي. ففي جنيف مثلاً, مدينة (كالفينوس) أحد زعماء الإصلاح البروتستانتي, صارت أكثرية سكانها كاثوليكية. وقد أنشئ على بعد مائة كيلومتر من جنيف أكبر دير بوذي, والجدير بالذكر أن أكبر دير في سويسرا هو دير بوذي وليس كاثوليكيا. إنه لمن الواضح أن ثمة علاقة بين هذا التسارع في العشرين سنة الأخيرة وبين العولمة. هناك مصطلح لا أحب أن أستخدمه لأنه مستل من التاريخ اليهودي, ولكنه صار يستخدم من قبل الكل, وبخاصة في الأوساط الأوربية, وهو مصطلح الشتات, هذا يعني أن عددًا كبيرًا من المسلمين يحيون خارج الحدود المنظورة للأمة الإسلامية أو لدار الإسلام, وأن ثمة مسيحيين يحيون خارج المعاقل المسيحية, وهندوسيين موجودين خارج الهند, وبوذيين موجودين خارج الأراضي التاريخية للبوذية, هؤلاء جميعًا أصبح عندهم دور كبير في حياة جماعاتهم, ولم يعودوا منقطعين عنها كما في الماضي, أو منقطعين عن إمكانية التأثير فيها. لقد كبر دور الشتات, ونشأ تنظيم للأديان يراعي هذا الوضع. كما راجت أيضًا فكرة الشبكة, بحيث غدت شبكة العلاقات أهم من فكرة المعقل, وأضحى تجمّع المسيحيين أو المسلمين في مكان على أرض واحدة أقل أهمية من السابق. ثمة مستويان للنظر إلى العولمة, المستوى التحليلي الذي يعلق الأحكام القيمية, أي أن نحاول فهم ما يحدث في العالم المعاصر بمعزل عن إذا كنا مسرورين بالعولمة أو مستائين منها, أو إذا كانت تخدم مصالحنا أو تلحق بنا الضرر. لذلك ينبغي أن ندرس هذه الظاهرة لنرى إلى أيّ حد لا يمكن الرجوع عنها. إن التقدم, مثلا, في مجال أنظمة المعلومات لا رجوع عنه. كما أن بعض جوانب من ظاهرة العولمة هو قابل للجدل. ثم في مرحلة ثانية بعد أن نكون قد ميّزنا بين اللارجوع عنه وسواه نفكر بعضنا مع بعض بشكل قيميّ أكثر في مسألة العولمة كمتديّنين. وهنا يستوقفنا بشكل خاص موقف ديني, ليس فقط عند المسلمين كما يعتقد البعض, بل أيضًا عند المسيحيين وعند الآخرين, يعتبر أن العولمة الثقافية تطمس الخصوصيات الثقافية والهويات الدينية. إذن, يحدد هذا التيار الهوية الدينية بصيغة مقاومة للعولمة الثقافية. علينا أن ننتظر مقاومة العولمة الثقافية باسم الانتماء الديني, باسم الرسوخ في الأصالة الدينية, باسم الحفاظ على الهوية الدينية, ونرى حدود نجاح هذه المقاومة وحدود فرصها والمشاكل التي تثيرها, أنا أعتقد أن هذه مسألة تستحق البحث. المسألة الأخيرة التي تستحق البحث - باعتقادي - هي: هل من نقد أخلاقي للعولمة? النقد السياسي للعولمة سهل, إذ نستطيع أن نقدم نقدًا سياسيًا, وأن نقدم نقدًا لثقافة التوحيد القسري باسم الخصوصية, غير أن النقد الأخلاقي الديني المصدر يستحق أن نقف عنده. ثمة نقاش صعب, لا يخلو من الحدة أحيانًا حول هذه النقطة بالذات. فهناك من يقول إن العولمة خير وبركة, وإنها تلغي الحواجز بين البشر وتعزّز فكرة المساواة وحرية الأفراد, وتفتح الأبواب أمام حقوق الإنسان. وهناك من يقول إن العولمة شكل من أشكال الهيمنة, وهي تستغلّ الناس فيزداد الفقراء فقرًا والأثرياء ثراء. كما هناك فئة تقول إن في الرأيين بعض الصحة, ولعلها مصيبة..