الصفحات

الخميس، 2 مايو 2013

سليمان تقي الدين حاكياً «اليسار اللبناني وتجربة الحرب/ منظمة العمل الشيوعي»


بعض من سيرة بيروت لبنانية ومتوسطية وكوسموبوليتية ... منكرة وكريهة المستقبل - الأحد 28 نيسان 2013 - العدد 4674 - نوافذ - صفحة 13 وضاح شرارة على شاكلة سليمان تقي الدين (اليسار اللبناني وتجربة الحرب/ منظمة العمل الشيوعي اللحمة والتفكك- دار فارابي، بيروت، شباط 2013، 314 ص) ربما، أعتقد أن موضوع عمله، أو روايته ونقده، أي «منظمة العمل الشيوعي»، وروافدها وفروعها، «اعتصرت عمر مئات الشبان والشابات» كان منهم أو فيهم سليمان، كاتب العمل، وكاتب التعليق على عمل سليمان. وهو يذهب الى «استحقاق التجربة» الرواية، ويسوغ حقها هذا بقضاء بعض الشبان والشابات «مستشهداً تحت راية افكارها»، وبخيبة بعض آخر و»مرارته وتشرده ومعاناة حال التهميش والحصار وشظف العيش وعدم الاستقرار». وأحسب ان الشق الثاني من التجربة، على معنى الابتلاء، كان الانتساب الى المنظمة العتيدة هو السبب فيه، من غير ان يوضح الكاتب لقارئه لماذا ترتبت الخيبة والمرارة والمعاناة... على الانتساب هذا، واستوت و»الشهادة» جزءاً لازماً يجزي لا محالة الاشتراك في مثل هذا «العمل». وتنم الاشارات التي مرت، وغيرها مثلها كثير في مقدمة العمل، بتنبه كاتب العمل على قوة العامل الشخصي والذاتي «العاطفي» الذي لابس، على انحاء كثيرة، استواء اجتماع الشبان والشابات وتماسكهم على هذا المقدار أو ذاك، منظمة أو حركة سياسية يؤرخ الكاتب لولادتها والتحامها ولا يشك في تفككها منذ وقت طويل. ويتوقع قارئ الكتاب، وهذه حالي، تولي المؤرخ «مهمة» عسيرة مأتى عسرها اضطرارها الى الجمع بين وجهين متفرقين وربما مختلفين: وجه العام السياسي ووجه الدواعي الشخصية، الثقافية والاجتماعية، الخاص والسيري (نسبة الى سيرة أو سير). فلما لم يفتتح المؤرخ تأريخه بالنبرة الذاتية التي تقدمت بعض عباراتها، والامثلة عليها، يحسب القارئ ان سليمان تقي الدين عازم على سرد حوادث سياسية وتنظيمية وفكرية على شاكلة تلك التي سردت مثلها مئات الاعمال التي تناولت حركات سياسية سابقة ولاحقة. فحين تناول محمد ابراهيم دكروب، مؤرخ الحزب الشيوعي اللبناني الرسمي، تدوين اخبار رفاقه ووقائعهم، لم يحمله الامر، على رغم غنائية وملحمية مظفرتين وموروثتين من «سقي الفولاذ» في السهول الاوكرانية والسهوب السبيرية واجتثاث الكولاك، على التنويه باعتصار العمر ولا على طلب الثأر للخائبين والمريرين والمهمشين. ولست أذكر أن مؤرخ حركة القوميين العرب أو أحد أواخر مؤرخيها، توسل بهذا النحو في الكتابة والإخبار. وتقريب النحو من «أخبار» الجهاديين المحدثين، ومن مديحهم قتلاهم وإقدامهم وشجاعتهم وإيمانهم، ليس من قبيل الغمز ولا التحامل، بل هو (التقريب أو المقارنة) دلالة على ضرب من التناول والمعالجة يدير الظهر، عمداً او عفواً، لمعيار الانقطاع أو التعليق الذي يفترضه التأريخ. فالخوض في جملة من الحوادث والوقائع والاخبار يأتلف منها موضوع واحد، هو منظمة سياسية في هذا المعرض، يقتضي تمييز زمن الرواية من زمن الراوي، وبواعث «اصحاب» الحوادث من بواعث كاتب الرواية... ولعل مزج الازمنة والاوقات والبواعث بعضها ببعض، والاحتجاج باللاحق منها على «خطأ» السابق أو «صدقه»، من عيوب التأريخ الفادحة. ولا يتفادى صاحبنا بعض هذه العيوب. فيكتب أنه «خرج» من منظمة العمل الشيوعي في 1982، وهو كان معارضاً في 1979 ومستقيلاً من «المسؤولية» ثم «منكفئاً» سنة كاملة. ولم يلبث «الحزب» ان «تلاشى» في 1983 1987، على قوله. فيخلص الى «عبرة» أظن أنها لا تتفق وعمل التأريخ الذي ينسب إليه الكاتب نفسه وكتابه، وهو ليس كتاب عبر، ويكتب:»... أي ان ذلك (التلاشي) يفسر موقفي عام 1982». فالعبر لا تستقيم، أي لا يستقيم استخراجها واستنباطها، إلا إذا حملت حوادث التاريخ على غاية لاهوتية أو قصداً أخروياً أو على «قوانين» يستشهدها مناضلو المنظمات والاحزاب اللينينية والستالينية، ويتواتر التذكير بها في بيانات منظمة العمل الشيوعي وتقاريرها الداخلية في اثناء الحروب اللبنانية الفلسطينية (العربية): قوانين العمل الجبهوي ص 143 ، قوانين الصراع السياسي والعسكري، وغيرها مثلها يقع عليها قارئ الوثائق في الكتاب. الاسماء وإذا ألمحت المقدمة الى ما يشبه سير الذين اشتركوا في هذا الضرب العام والمشترك من السياسة والعمل والتفكير، فمباشرة التأريخ والرواية انصرفت عن تناول السير على وجوهها كلها. فلم يبق من هذه إلا لائحة اسماء صماء وخرساء لا تنم بأضعف التعريف أو اقله. وانتزعت الاسماء من أبوابها المشتركة، تلك التي تصف أو تعرف «تاريخ الحياة»، على قول بعض الاجتماعيات، وتسرد سرداً جامعاً وضيقاً معاً بعض الحيوات وسيرها وتراجمها (وكتب «السير والتراجم» فن من فنون الاخبار وصنعة الإخباريين). فيبقى «الشبان والشبات» في سنهم الواحدة، لا يتقدمون فيها، ولا «تخني عليهم»، على قول شاعر ليس من الجهل في شيء، على رغم انقضاء الاعوام. والسن الجامعة في باب اجتماعي مشترك، وهي تصلح تعليلاً لتقاسم نازع متقارب يصل بين افراد معاصرين ويعاصرون بدورهم من ليسوا من جماعتهم ولا من دائرتهم، هذه السن تبقى في التأريخ المفترض من غير مضمون. والسن باب مشترك، من وجه، وباب متجدد، من وجه آخر: فلا يبقى الشبان شباناً، بديهة، ويدخل فتيان مراهقون في سن الشباب وحدِّه تباعاً على شاكلة المدعوين الى الخدمة العسكرية وأفواجها، بديهة كذلك. ويفوق هذه البدائه معنى ومكانة ما تتيحه هذه السن لأصحابها في وقت من الاوقات، هو الثلث الثاني من الستينات المنصرمة، خيالاً وآلات وعملاً ورغبات ومواصلات، ولم تتحه لجيل أو نصف جيل سبق، في مطالع الخمسينات على وجه التقدير والتخمين. فما كان معنى او معاني الدخول في العقد الثالث، ومراحله ومحطاته المتفرقة، في ستينات القرن الماضي التي «يؤرخ» سليمان تقي الدين لها؟ ومن معاني الدخول الدراسة، وفروعها وحقولها وهيئاتها وبلدانها وجمهورها، والمهنة، ودوائرها وعلاقاتاتها ومحلها ومداخيلها وحراكها؛ والجنس، والاسرة، ومخلفاتها الكثيرة من ثقافية وطائفية ومادية ومحلية... والسكوت عن هذه، وبعضها معرفته متاحة وغير خافية، يقود التأريخ المفترض الى طريق ليس طريق «التجربة»، لا على المعنى «الرومانطيقي» الذي يضمر «المعاناة» ولا على المعنى الوصفي الذي تنشده الاجتماعيات. وهي ليست طريق فهم نشأة الجماعات السياسية، وما يكتنف نشأتها واستقرارها على هذه الصفة من عوامل ليست ابتداء أو مباشرة سياسية مثل الثقافة والسوابق العائلية والمحلية والجنس وغيرها. فلما ترك الكاتب هذه الطريق، او هذه الوجهة، وهي بدت لوهلة أولى مناسبة لحال الذين يؤرخ لهم ولغلبة النزعات الثقافية و»الذاتية» على اجتماعهم، توجه وجهة سرد سياسي تقليدي وذهني، فافترض للحوادث والوقائع المروية على ابواب «صحافية» أو خطابية سائرة ومعروفة دلالات ومفاعيل متوقعة. فيكتب أن «لكل مهنة في العالم شكلاً تظهر به (و) على الحزبي اليساري ان يتخذ لنفسه علامة فارقة في الشكل ثم المضمون. عليه أن يتبع (الموضة) السائدة في وسط بيئته المحلية او العالمية. عليه أن يتصرف اقتداءً بأئمته...» (ص 59-60). وكان مهد الكاتب لبرهانه الاستدلالي والدائري بالقول: «اتخذ اليسار لنفسه (طريقة)، فهو بداية عمل سري يحتاج الى اقنعة كما يحتاج الى وسائل تواصل مخفية عن عيون الرقابة السلطوية، كما يحتاج الى ان يختبر تماسكه الداخلي قبل ان يطرح نفسه على الجمهور. كانت بدايات اليسار محاولة لتجريب فعالية الانتماء والالتزام والقدرة على الحركة» (ص 58 59). ويستخرج الكاتب سماتٍ وأفعالاً من لائحة «الحاجات» الرمزية هذه. وهي، في هذه الحال، رغبات وليست حاجات. ويقتضي تعليلها افتراض مبانٍ رمزية اجتماعية على شاكلة المبنى الحسيني الحزب اللهي، أو المبنى العصبي والتأويلي الحلولي التقدمي الاشتراكي الجنبلاطي، أو المبنى الامبراطوري البطولي والاسطوري والادونيسي القومي السوري... وهو يدمج الرغبات في الذرائع العملية والظرفية التي يحدس فيها: الاحتياج الى «احتكاك مادي جسداً الى جسد مع سلطة مادية أخرى لكي يستفز طاقاته الثورية» (ص 61). وصادفت تظاهرات 23 24 نيسان 1969، فكان «الاحتكاك»، و»الاستفزاز» و»الثورة»... امتحان «الجماهير» ويحصي «اليسار اللبناني وتجربة الحرب» مسارح تحريض مطلبي ومهني متفرقة جغرافياً واجتماعياً، ويرصفها رصفاً على شاكلة رصفه اسماء العلم عارية مما يُعلِمها ويدل عليها ويصفها ويدرجها في جُمَل و»عائلات» وروابط. وما يُعلم ويدل ويصف هو جملة الفروق التي تنعقد منها فرادة الحادثة أو الحوادث، من الدواعي الى النتائج الجزئية والظاهرة المقدرة. فيقص على القارئ أن حركة طالبية ناشطة نهضت في «اواسط الستينات» حيث «حضور (...) أحزاب اليمين الطائفي المسيحي... كثيف» (ص 162). وسليمان تقي الدين يكتب هذا او ينشره على الملأ في 2013، ولا يرى داعياً يحمله اليوم إما على نسبة الألفاظ ومعانيها الظرفية الى وقتها وإما على الاستدراك على هذه المعاني وتعريفها من جديد. فيخلص القارئ الى ان الجامعة اليسوعية ببيروت كانت «بيئة محافظة»: على معنى «محافظة» التدريس الإمامي في النجف، على ما وصفه محسن الامين او محمد مهدي الجواهري؟ أم على المعنى التربوي والمنهجي الذي انتقدته حركات الشباب او الطلاب في 1968؟ أم على المعنى الاجتماعي والمعياري «الخلقي» الذي طعن فيه أو عليه تلامذة «اتحاد قوى الشعب العامل» الناصريين والثانويين يومها؟ أم على معنى الانطواء على (نفس) الجماعة، وعاداتها وتقاليدها ومهنها وبلادها، الذي بدا للطلاب اللبنانيين الشيعة المخلفين قبل نصف قرن من يومنا وراءهم مراقبة أهلهم في الضيعة أنه (الانطواء) صفة بارزة في السنة والدروز العروبيين والناصريين و»التقدميين» وفي «الثوريين» الشيوعيين العراقيين والسوريين والفلسطينيين؟ ونعتُ الطلاب الجامعيين المسيحيين، وعلى الاخص الكتائبيين منهم، باليمين الطائفي قصد به يساريون فرادى وطلاب، قوميون عروبيون أو سوريون، ومسلمون، وشبان عموماً، نسبة آرائهم أنفسهم، دون خصومهم، الى عمومية سياسية وغير أهلية، غافلين عن صدور عموميتهم المزعومة عن خصوصية أهلية، طائفية و»يمينية» من ضرب آخر، تفوق خصوصية الخصوم الاهلية. ويتصل التقسيم والتفاوت هذا الى دوائر الجماعات الأخرى: فـ»حركة الوعي» ضوت طلاباً في الجامعة اللبنانية، جاؤوا من «الارياف المسيحية المهمشة ومن البيئات الفقيرة»، أما حركة «كفاح الطلبة» فنشأت في الجامعة الاميركية و»ضمت أطيافاً مختلفة من شباب اليسار والقوميين العرب والبعثيين...» (ص 62). فيُعفى اليساريون والقوميون العرب والبعثيون، شأن من يمتون الى حركات أو جماعات تتستر على أهليتها الاسلامية أو المسلمة العميقة بعمومية جامعة صورية، إيديولوجية وذرائعية عملية، يعفون من نسبهم الأهلي. ويسكت عن تعليل عموميتهم السياسية المعلنة، هم المتحدرون تاريخاً وعصباً من جماعات غالبة وحاكمة في دول وسلطنات الاسلام أو احد مذاهبه دينُ طبقاتها الحاكمة، وسند مشروعيتها وحقها «الطبيعي» في الحكم. وعلى هذا، فالتنبيه الى مذاهب الحاكم، وأهله و»طبقته» أو أعوانه، يحسبه الحاكم طعناً في مشروعيته، وتمييزاً من الكثرة الغالبة وتفريقاً، وتأليباً عليه. والمثال السوري، العلوي، قرينة صارخة على هذا: فالاشارة الخفية أو الهامسة الى مذهب الحاكم وعسكره وأجهزة أمنه ومراقبته عدوان «طائفي»، ويميني، على قول صاحبنا، وقريباً، في بعض الصفحات اللاحقة حين يعالج مراحل انفجار الحروب المتناسلة، عدوان فاشي. وفي الاثناء حل نعت التكفيري محل الفاشي. ومن يطلق النعوت المعيارية، ويعفي نفسه من تقييد المعاني وتعريف المفهومات هو من يجلس في واهمته، على قول بعض الكتاب النهضويين، في كرسي «الدول» التقدمية. وحسبان «اليسار»، أو الجماعات (اللبنانية والعربية) التي تنسب نفسها الى تراث سياسي واجتماعي وفكري أوروبي قام على نقض المراتب في تثبيت شروط المساواة وعمومها، أنه فوق الفروق والحدود الطائفية والمذهبية امتحنه وقوضه خروج هذه الجماعات من المعارضة، ومن الدائرة الاجتماعية الضيقة والطالبيةعلى الاغلب، الى رحاب الساحة والخط الجماهيريين العريضين، والى التربع في السلطة من طريق الانقلاب. وسبق الحركة «الوطنية» اللبنانية المزعومة، والعروبية العصبية والجهازية فعلاً، الى الولوغ في الصبغة الطائفية قبل ولادة حركات مذهبية متسلطة ومسلحة، إسفارُ البعث «العلماني» في سوريا والعراق عن نظامين اهليين علوي وسني، حال سطو الجهاز الحزبي العسكري أو الميليشياوي على السلطة، وسعيه في إرساء عصبية متماسكة يستمدها جيشَ أنصاره وموظفيه ومواليه والمقاتلين دونه إذا حم الخطب وفشت الحرب الاهلية، وهي أفق الانظمة العلمانية والتقدمية والقومية (العربية) الماثل على الدوام. فليست العلمانية أو العمومية السياسية التي تبيح للكاتب اليوم وأباحت لمن هم مثله في ايام سابقة، إعمال أبواب اليمين واليسار والطائفية والفاشية والوطنية والطبقية... في التأريخ والرواية إلا فضيلة قلة لم يمتحنها «خط الجماهير»، ولم يعركها الحكم وموازين القوة والنفوذ والتمثيل التي تلازمه. وقد تبدو هذه الملاحظات استطراداً ينحرف بالتعليق على كتاب سليمان تقي الدين عن موضوعه وغرضه. والاستطراد لا شك فيه. ولكنه لا يخرج عن سويته وقصده. فالمسألة الراجحة في نهاية المطاف، وهي لا يسهم التاريخ المفترض في تناولها من قريب أو بعيد، تتناول تحول روافد حركة مدنية ووطنية وديموقراطية اجتماعية من سماتها هذه الى فصيل مقاتل على جبهات حروب عصبية وجهازية استخبارية وإقليمية لا يحيط (الفصيل) ولا يلم بأثخن حبالها فكيف بخيوطها الدقيقة. والحق ان ما جمع شتات الاشخاص والرغبات والحاجات والمصالح الذي ائتلفت منه المنظمة السياسية لاحقاً، وصدرت عنه روافدها، أو رافداها المتشابهان على رغم بعض الفروق، هو نقضان متلازمان: نقض على الحزب الشيوعي اللبناني ونهجه المحابي للثقافة السياسية السوفياتية وتسويغاتها الجهازية والقمعية في الداخل والخارج، ونقض على الناصرية وعروبيتها الفوقية والاهلية وإنكارها حقوق المعارضة والمنازعة ووصايتها على الحركات السياسية والاجتماعية الوطنية. وافترض النقض المزدوج أو المتصل جواز أو إمكان، وفي الاحوال كلها افترض ضرورة تلقائية اجتماعية داخلية أو وطنية تضع الامور في نصابها الحقيقي والصحيح. فتستقر النزاعات والتحالفات على مصالح معلنة ومفهومة؛ وتنكفئ الجماعات من هذه الطريق الى مسرح داخلي وطني ترسم حدوده الفاصلة وقواسمه المشتركة غير المنكرة مفاوضةٌ دائمة هي جزء من إعلان المصالح والحياة السياسية الوطنية داخل الهيئات الدستورية وخارجها؛ ويماشي الإقرار بانفصال المجتمع وحكم الدولة واحدهما من الآخر إقرار بمزاولة الحق في المعارضة والمنازعة بوسائل غير الانتخابات النيابية وتقوم على المواجهة والتأليب والخلاف وامتحان موازين القوى علناً. وعول النقض المزدوج على هذه الوسائل في سبيل استرجاع «العائلتين» الشيوعية والناصرية الى دائرة سياسية لبنانية مركزها في داخلها. وراهن أصحابه على مفعول مراكمة الاختبارات و»وعيها» وتخزينها، إذا جاز القول. ولم يقتصر معنى «المركز في الداخل» على الاستقلال السياسي و»الامني» الوطني (كان الوقت وقت عبد الحميد السراج والمكتب الثاني...)، فتعدى السياسة والنفوذ الى الحركات الاجتماعية والثقافية، او الى الرأي والاسهام فيها. فلم يبدُ «اللعب» بالاعيان والاحزاب والوزراء وكبار الموظفين والضباط وقبضايات الاحياء ومدراء المصارف ومسؤولي النقابات وأصحاب الامتيازات الصحافية أشد فداحة ووطأة على نضوج «الثورة» أو «الحياة» الاجتماعية والديموقراطية من إقحام الشيوعيين والنصاريين وغيرهم أنصاراً ومحازبين كسالى ولا مبالين ومطيعين على الانتخابات النقابية الحركات المطلبية. وتصورت المواطأة العامة على إدارة مرافق الانتاج والعمل والامن والتأهيل والرأي والخلاف «حبياً»، على ما يقال، ومن وراء ظهر الجمهور أو اصحاب العلاقة، على ما كان اصحاب النقض المزدوج يفضلون القول، في صورة الفضيحة. فنازع أصحاب النقض المزدوج أو دعوتهم ودعواهم، كانت الى بلورة مصالح قاطعة، وناتئة القسمات، يحتكم أصحابها ومنظماتهم علناً الى منافشة لم تكن يومها تسمى هابيرمازية (نسبة الى هانس هابيرماز داعية اخلاقيات المناقشة في دائرة علانية عامة ومشتركة)، والى منازعة تستبعد العنف المباشر ما أمكن. طبقات صريحة وكان سائق هذا الرأي أو النازع هو إيقان «ماركسي» بميل الطبقات الحاكمة، وعلى رأسها البورجوازية طبعاً، الى «تغليف» سيطرتها ومصالحها الفظة بـ «مخلفات» أبنية السيطرة السابقة والآفلة وشاراتها، الدينية والقومية والاخلاقية والجمالية. ويقود «التغليف»، وخداعه، الى تضييع الادوات والهويات التاريخية المرسومة والمرجوة معاً، والى تبديد الطاقات في مسرح ظلال وأقنعة لا تتميز مداخله ومخارجه بعضها من بعض. فبورجوازية صريحة وسافرة خير ألف مرة من تكتل أعيان أهل وطوائف وتجار مهاجرين أثرياء وأصحاب مهن حرة بارزين يتسترون على «ديكتاتورية» البورجوازية فيما هم يسعون بين يديها وفي خدمتها لقاء مقايضات باهظة، سياسياً وتاريخياً. وعلى الجهة الاخرى من الصراع الاجتماعي والسياسي، لم يشك دعاة النقض المزدوج في اضطلاع «الوسطاء» بتغليف فادح لموارد «الطبقات الكادحة» النضالية التلقائية، وتزييف لقدرتها على صناعة مثالات اجتماعية وثقافية. واقتضى الامران، إعمال الموارد وصناعة المثالات، تولي من احتار أصحابنا في تسميتهم «بروليتاريا» عصية على الفهم الحسي، «طبقات كادحة ومستغلة» تنم بشكوى وظلامة لا تليقان بالدور الموعود، «طبقات شعبية» غائمة وعائمة، «شعب» يليق بالأعيان السابقين- التصدي لأدوارهم وقضاياهم بأنفسهم، ومن طريق اختباراتهم هم وليس من طريق قيادة بصيرة وعالمة، قوية الشبه بالإمامة المعصومة. ولم يشك أحد من دعاة النقض المزدوج في «تناقض» هذه الطوبى- من «يوتوبيا» أو جزيرة الواق الواق المنفية من «البلدان» والمحال- وتداعيها. وهي كانت طوبى، أي رجاءً أخروياً وبلورياً كينونياً، تليق بالشبان العشرينيين (والشابات العشرينيات) الذين (واللواتي) طوى العقد الاول من تشاغلهم السياسي، بين الثلث الاول من الستينات ونظيره من السبعينات، صورة رجائهم، ما خلا شطراً راجحاً منهم مضى على بعض خطابة الطوبى وألبسها جسم الفصيل «الوطني» المقاتل تحت لواء «الشعب الفلسطيني اللبناني» و»قواته المشتركة» وفتوحها الدامورية والمتينية والعيشية والصنينية، و»كوادره» المجيدة التي ينشد البك الحاد البصر وجوق هوميرييه بطولاتهم العربية وفروسيتهم الخالدة على الدهر. ولم تكن الطوبى وليدة عمى عن الوقائع الاجتماعية والسياسية، أو جهل مدقع بها. ولا كانت ثمرة هوى بالأفكار و»النظريات» والمناقشة، على قول رائج، وهو هوى لا ينكر. فمصدر «التناقض»، على زعمي، أصلي وتاريخي: نُسبت الى القوى الاجتماعية والسياسية، والى الجماعات على قدر أقل، عقلانية باطنة وجوهرية، من جهة، ودعيت «طليعة» مفترضة، تستحي بطليعتها المدعاة، الى استخراج هذه العقلانية، وصوغ معاييرها، وخزنها وديعةً في متناول القوى الاجتماعية والسياسية، من جهة أخرى. والعقلانية الباطنة، حين يتحقق وجودها وفعلها وتدرك على هذه الصفة، إنما هي صناعة وإيجاب لا يخلوان من التعسف أو الخلق «الشعري» (والروائي والموسيقي والتصويري...)، ولا تضمن «بنية» دوام فعلها ولا عموم هذا الفعل. فهي رهن الفاعلين: فالعمال قد لا يتماسكون طبقة أو في طبقة، ولا يدركون مصالح مشتركة غير قائمة والحال هذه، ولا يريدون ما يتجاوز تلبية احتياجات ملحة من أي طريق جاءت هذه التلبية. ومثل هذا يصدق في الطبقات الاخرى، وفي الجماعات المتفرقة. والغالب هو حمل القوى الاجتماعية والسياسية على اللحمة أو «الوحدة» أو الهوية من خارج، وفي ظروف تصاحبها الفرادة والاستثناء. فكان النقض المزدوج على الوصايات والرعايات الآمرة والمحرِّفة، وهو افترض قوة وتعبئة وإرادة فاقت بما لا يقاس طاقات المتجندين للمهمة، مقدمة سالبة نيط بها التمهيد لخروج الايجاب التاريخي والثوري الى العلانية والفعل. وأغفل التعويل الجدلي، فيما أغفل، على رغم ملابسته تجريباً ميدانياً أو حقلياً جزئياً، يبالغ سليمان تقي الدين كثيراً في وصفه وتثمينه، تاريخية الرغبات والاهواء والحاجات والاحوال التي تدلف منها القوى الاجتماعية الى الفعل على صوره المعروفة او المجهولة، أو تُسلِّطها على دفعه الفعل وعرقلته وكبحه. فالمثال المتخيل للعمل السياسي والحياة الشخصية والمهنية والاجتماعية اثناء عقد الستينات اللبناني وافق ربما، لبعض الوقت، رغبات أفراد قليلين وأحوالهم وهم كانوا شطراً محلياً ومولَّداً من جيل «انفجار المواليد» («بايبي بوم») العالمي في اثناء الحرب الثانية وغداتها مباشرة. وكانت بيروت الكوسموبوليتية، على قول طوني جو(د)ت وقبله جون دوس باسوس (روائي ثلاثية «يو إس إيْ»)الاميركيين، والمتوسطية والعثمانية والغربية والاميركية الجنوبية كانت بيروت هذه حضن الرغبات والاهواء والحاجات التي شبهت لبعض شبانها طوباهم، واستدرجتهم اليها، وشاركوا فيها. والقول ان بيروت هذه عجزت عن القيام بأعباء كوسموبوليتها وتبعاتها، فأقام الشطر الغالب من أهلها داخل اسوار خططهم وضواحيهم وبوابات هذه وتلك، قد يكون منقاداً الى التسويغ والاعتذار. ودليلي على صدق هذا القول، أو برهاني، هو أن مناخ سموم الحروب الملبننة، حروب الجماعات والاهل والطوائف والاجهزة والدول والعصابات والشبكات، وطواعينها التي هبت على اللبنانيين، كانت بيروت اللبنانية والمتوسطية والكوسموبوليتية عدوها الكريه واللدود، ومسرحها الاثير.

المقاومة الاسلامية في فلسطين: التباسات البدايات، واقعية المسارات


المقاومة الاسلامية في فلسطين: التباسات البدايات، واقعية المسارات سعود المولى حماس ورواية التأسيس تتفق الروايات الرسمية لحركة المقاومة الاسلامية (حماس) على تحديد تاريخ ميلاد الحركة بمنتصف شهر ديسمبر 1987... فبعد حادث الاعتداء الذي نفذه سائق شاحنة صهيوني في 6 كانون الأول/ديسمبر1987، ضد سيارة صغيرة يستقلها عمال عرب وأدى الى استشهاد أربعة من أبناء الشعب الفلسطيني في مخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين، انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عند تشييع الشهداء يوم 7 كانون الأول/ديسمبر.. وبحسب روايات حماس فقد إجتمع خلال الأيام الأولى للانتفاضة سبعة من كوادر وكبار قادة جماعة الإخوان المسلمين العاملين في الساحة الفلسطينية هم أحمد ياسين وإبراهيم اليازوري ومحمد شمعة (ممثلو مدينة غزة)، عبد الفتاح دخان (ممثل المنطقة الوسطى)، عبد العزيز الرنتيسي (ممثل خان يونس)، عيسى النشار (ممثل مدينة رفح)، صلاح شحادة (ممثل منطقة الشمال)؛ وكان هذا الاجتماع إيذاناً بانطلاق الحركة التي وزعت بيانها التأسيسي في 15 كانون الأول /ديسمبر 1987 أي بعد دخول الانتفاضة الفلسطينية أسبوعها الثاني .. وصدر ميثاق الحركة في آب/أغسطس 1988 وجاء في المادة 2 منه أن (حركة المقاومة الإسلامية جناح من أجنحة الإخوان المسلمين بفلسطين. وحركة الإخوان المسلمون تنظيم عالمي، وهي كبرى الحركات الإسلامية في العصر الحديث، وتمتاز بالفهم العميق، والتصور الدقيق والشمولية التامة لكل المفاهيم الإسلامية في شتى مجالات الحياة، في التصور والاعتقاد، في السياسة والاقتصاد، في التربية والاجتماع، في القضاء والحكم، في الدعوة والتعليم، في الفن والإعلام، في الغيب والشهادة وفي باقي مجالات الحياة) ... وفي المادة 6 أن حماس هي (حركة فلسطينية متميزة تعطي ولاءها لله، وتتخذ من الإسلام منهج حياة، وتعمل على رفع راية الله في كل شبر من فلسطين) ... فحركة حماس هي إذن جناح من أجنحة الاخوان المسلمين نشأت في آخر العام 1987، أي بعد 40 سنة على النكبة وثلاثين سنة على ولادة حركة فتح وعشرين سنة على نكسة الخامس من حزيران.. وإخوانية حركة حماس وأيديولوجيتها نقرأها واضحة صريحة في "مقدمة" الميثاق التي تعتبر حماس"النواة" التي "ولدت من وسط الخطوب، وفي خضم المعاناة، ومن نبضات القلوب المؤمنة والسواعد المتوضئة، وإدراكًا للواجب، واستجابةً لأمر الله"، فهي تعبير عن "الدعوة" أولاً وعن "التلاقي والتجمع" ثانياً... ويؤكد الميثاق أيضاً على "العروبة... على منهج الله" وهذه نقطة جديرة بالاهتمام والتوقف عندها إذ هي تحدد السمات الايديولوجية لمفهوم التحرر الوطني والانتماء العربي وممارسته من جانب حماس ... وباختصار فإن حركة "حماس" هي (من زاوية أيديولوجية مؤسسيها وروايات البدايات) حركة جهادية، بالمعنى الواسع لمفهوم الجهاد، وهي جزء من حركة النهضة الإسلامية ، تؤمن أن هذه النهضة هي المدخل الأساسي لتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وهي حركة شعبية إذ أنها تعبير عملي عن تيار شعبي واسع ومتجذر في صفوف أبناء الشعب الفلسطيني والأمة الاسلامية يرى في العقيدة والمنطلقات الاسلامية أساساً ثابتاً للعمل ضد عدو يحمل منطلقات عقائدية ومشروعاً مضاداً لكل مشاريع النهوض في الأمة . وحرصاً على تبرير سبب التأخر في الكفاح المسلح أو الجهاد، يقول الميثاق في مقدمته أيضاً: "ولمّا نضجت الفكرة، ونمت البذرة وضربت النبتة بجذورها في أرض الواقع، بعيدًا عن العاطفة المؤقتة، والتسرع المذموم، انطلقت حركة المقاومة الإسلامية لتأدية دورها ماضية في سبيل ربها، تتشابك سواعدها مع سواعد كل المجاهدين من أجل تحرير فلسطين، وتلتقي أرواح مجاهديها بأرواح كل المجاهدين الذين جادوا بأنفسهم على أرض فلسطين، منذ أن فتحها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحتى يومنا هذا" ... وبهذا الكلام تضع حماس هنا حداً بينها وبين من سبقها من حيث البعد أولاً عن التسرع والعاطفة ومن حيث استمرار الجهاد منذ عهد الرسالة الأولى ثانياً ومن حيث تلاقي أرواح المجاهدين ثالثاً... فيكون القطع مع تراث الحركة الوطنية التحررية للمقاومة الفلسطينية (1957-1987) هو المقدمة والمبرر للوصل مع التراث الاسلامي التاريخي النبوي والصحابي ومع سيرة الجهاد الفلسطيني بكل مراحله ومع أرواح شهدائه... وما تقوله الروايات الحمساوية يموضع نشأتها في سياق "ما شهدته فلسطين منذ منتصف الثمانينيات من تطور واضح وملحوظ في نمو وانتشار الصحوة الاسلامية (كغيرها من الاقطار العربية)، ونمو الحركة الاسلامية فكرة وتنظيماً، في فلسطين المحتلة عام1948، وفي أوساط التجمعات الفلسطينية في الشتات" . وهذا التموضع يقدم لرواية حماس عن نفسها إطاراً تأويلياً خاصاً يرى الى المسألة من زاوية نضوج الظروف التي كانت حركة الاخوان المسلمين تُعد لها منذ أن أسسها حسن البنا... ونضوج الظروف عنوانه العام عودة الناس الى الإسلام بعد عقود النكسات والنكبات والضياع... "ففي ظل تراجع القضية الفلسطينية الى أدنى سلم أولويات الدول العربية وتراجع مشروع الثورة الفلسطينية من مواجهة المشروع الصهيوني وإفرازاته إلى موقع التعايش معه وحصر الخلاف في شروط هذا التعايش، وبسبب تراكم الآثار السلبية لسياسات الاحتلال الصهيونية القمعية الظالمة ضد الشعب الفلسطيني، كان لا بد من مشروع فلسطيني اسلامي جهادي، بدأت ملامحه في أسرة الجهاد عام 1981 ومجموعة الشيخ أحمد ياسين عام 1983 وغيرها" ... "ومع نهايات عام 1987 كانت الظروف قد نضجت بما فيه الكفاية لبروز مشروع جديد يواجه المشروع الصهيوني وامتداداته ويقوم على أسس جديدة تتناسب مع التحولات الداخلية والخارجية، فكانت حركة المقاومة الاسلامية "حماس" التعبير العملي عن تفاعل هذه العوامل" . الإخوان المسلمون بعد نكسة حزيران 1967 تأخر الإخوان المسلمون أربعين سنة لبدء طريق المقاومة في فلسطين وهم أبطال حرب 1948 وورثة تراث الحاج أمين الحسيني والشيخ عز الدين القسام... وبين العامين 1948 و1987 كانت نكسة حزيران محطة فاصلة بالنسبة لهم من حيث استعادة حضورهم التنظيمي والسياسي والاجتماعي.. بدت هزيمة حزيران كما لو أنها حسمت الجدل الفكري السياسي المتعلق بشأن صلاحية الأفكار والتصورات والمفاهيم القومية واليسارية التي كانت مطروحة على الساحة العربية .. وتبلور في مقابل ذلك خطاب البدايات الاخوانية الذي صار يطرح شعار الاسلام هو الحل... أزاح الاحتلال الصهيوني عن كاهل الإخوان المسلمين المطاردة التي كانت تلاحقهم من قبل النظام الناصري في قطاع غزة تحديداً، وصار بامكانهم التواصل مع إخوانهم في ضفتي نهر الأردن.. فنشط من تبقى من الإخوان المسلمين (وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين، وعبد الفتاح دخان، ومحمد حسن شمعة)، في إعادة بناء هيكل الإخوان المسلمين مستفيدين من قانون الجمعيات العثماني الذي اعتمده الاحتلال وطبقه على غزة بعد عام 67.. وقد بادر الشيخ أحمد ياسين بدعوة مجموعة من الشخصيات المنتمية لحركة الإخوان، والراغبين في العمل لإعادة تشكيل التنظيم .. في المرحلة الأولى شكلت هذه المجموعة قيادة الحركة، ولم يكن هناك كيانات أو مؤسسات تنظيمية أخرى، ومع الوقت بدأت أعداد المنتمين للإخوان تتزايد، وترافق ذلك مع استحداث هياكل وأشكال ومؤسسات ومراتب تنظيمية تناسب الواقع الجديد؛ على رأسها تلك الهيئة التي حملت اسم الهيئة الإدارية العامة، وهي القيادة العليا للحركة في قطاع غزة، وكانت مسئولة عن الهيئات الإدارية لمختلف المناطق،و تكونت في البداية من مجموعة الشخصيات التي بادرت للعمل بعد الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 ، وهم: أحمد ياسين، إبراهيم اليازوري، ومحمد الغرابلي، وكانوا يمثلون مدينة غزة، ومحمود أبو خوصة، وكان يمثل جباليا وتوابعها من مناطق شمال قطاع غزة، وعبد الفتاح دخان، ممثلاً عن المنطقة الوسطى، ومحمد عايش النجار، ممثلاً عن خان يونس، ومحمود محسن، ممثلاً عن رفح. وانتُخب عبد الفتاح دخان، رئيساً للهيئة الإدارية، لكنه تنازل عن تلك المهمة للأستاذ أحمد ياسين؛ معللاً ذلك بأن المسؤول يجب أن يكون من منطقة غزة، فهي مركز القطاع إضافة إلى أن أحمد ياسين تتوفر فيه صفات القيادة؛ وأصبح عبد الفتاح دخان نائباً للرئيس بشكل تلقائي .. دارت نقاشات طويلة داخل الهيئة الإدارية العليا، والتي أُطلق عليها أيضاً اسم المكتب الإداري، بشأن تحديد الأولويات، هل تبدأ الحركة بمقاومة الاحتلال؟ أم تُعيد بناء ذاتها؟ وتعمل على بناء جيل جديد يكون قادراً على البدء والاستمرار في المقاومة؟ وحسم الأمر بأن الأولوية يجب أن تكون لصالح إعداد جيل وتربيته، ثم إعادة بناء التنظيم؛ لأن الهدف المرحلي لحركة الإخوان في قطاع غزة يجب أن يقتصر على إنجاز تلك المهمة .. وقد ذكر أحمد ياسين أن ذلك القرار اتُخذ بعد نقاشات دارت بين الداخل والخارج، حيث سافر أحمد ياسين إلى عمان؛ فالتقى مع عبد الله أبو عزة، مندوباً عن الإخوان المسلمين الفلسطينيين في مدينة عمان، وأكد الطرفان على أولوية التربية ثم إعادة بناء التنظيم.. وتجدر الإشارة إلى أن الشيخ أحمد ياسين كان ميالاً للبدء بالعمل العسكري منذ اللحظة الأولى وأبدى ذلك الموقف في الداخل والخارج، لكنه التزم بموقف الأغلبية التي أصبحت قراراً للحركة ... واصلت تلك المجموعة القيادية عملها منذ البداية حتى منتصف السبعينيات، لم يطرأ عليها أي تغيير، فغالبية تلك المجموعة كانت تعمل في التدريس، والمنتسبون الجدد للحركة كانوا من الطلاب في العادة، وكان العمل منصباً على أنشطة دعوة الناس للالتزام بتعاليم الدين والاستقامة على الصعيد الفردي والجماعي، واستمر الانسجام الكامل بين المجموعة القيادية الأولى، ولم تظهر أي اختلافات أو تباينات في الرأي حتى منتصف السبعينيات ... لكن بعد ذلك بدأت تظهر بعض النقاشات داخل الحركة حول مسائل عديدة، منها: إعادة ترتيب الأولويات، مسألة المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، وضرورة استحداث آليات عمل جديدة (مثل بناء المؤسسات)، حينها لجأت القيادة إلى استحداث جسم جديد (مجلس الشورى)، لكي تُدار بداخله النقاشات وتُحسم الخلافات. ومع نهاية السبعينات أصبح المكتب الإداري ينتخب من مجلس الشورى، وقد جرت انتخابات دورية كل عامين، منذ نهاية السبعينيات وحتى اندلاع الانتفاضة الأولى.. وقد أفرزت نتائج الانتخابات بعض التغييرات في عضوية المكتب الإداري ... المرحلية في العمل ابتدأ الاخوان نشاطهم الجديدعلى مراحل... المرحلة الأولى كانت مرحلة المساجد، وهي مرحلة هدفت، حسب إبراهيم المقادمة ، إلى بناء المساجد، واستيعاب الجيل الجديد من الشباب، وتعبئته ولم شتاته، وتأطير توجهاته، وتركيز عقيدته وتعميقها لمواجهة الاحتلال الصهيوني. وفي هذه المرحلة عاد خطباء المساجد الى لعب دور توجيهي وتعبوي، والى طرح قضايا اجتماعية وأخلاقية وأخرى تتعلق بالوعي الإسلامي لطبيعة المعركة مع الكيان الصهيوني، وخصوصاً لجهة التركيز على رفض الغزو الفكري. وقد ذكرت صحيفة التايمز اللندنية أن عدد المساجد ارتفع في الضفة والقطاع بين عامي 1967و1987 من 600 مسجد إلى 1350 مسجداً ...وقد لعبت المساجد دوراً مهماً على صعيد حركة الإخوان المسلمين مكنتهم من التغلغل في أوساط المجتمع الفلسطيني .وبهذا أيضاً تكون التجربة المصرية في بروز خطباء مساجد شعبيين قد انتقلت الى غزة بعد العام 1967.. ثم كانت مرحلة المؤسسات وآيتها بناء المجمع الإسلامي في غزة في عام 1973 برئاسة الشيخ أحمد ياسين .. نشأ المجمع كمسجد، ثم أُلحقت به عيادة طبية ونادٍ رياضي ورياض أطفال، ولجنة زكاة، ومركز نشاط نسائي وتأهيل فتيات، ولجنة إصلاح، وفرق أفراح إسلامية. وكانت مرحلة 1975-1979 قد شهدت عودة كوادر إسلامية شابة إلى قطاع غزة بعد تخرجها من الجامعات المصرية أمثال: الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، والدكتور إبراهيم المقادمة، والدكتور محمود الزهار، والدكتور موسى أبو مرزوق، والمهندس إسماعيل أبو شنب، ومعهم وبهم بدأ مشوار الجامعة الإسلامية في غزة التي كانت أبرز وأهم صرح حاضن للتجربة الجديدة للاخوان ... الجامعة الاسلامية بدأ النشاط الإخواني فيها منذ إنشائها عام 1978 ، وهي كانت أول الجامعات الفلسطينية التي تنشأ في قطاع غزة، ولم يسبقها إلا معهد الأزهر الديني، الذي كان يرأسه الشيخ محمد عواد، صاحب فكرة إنشاء الجامعة الإسلامية. وقد أصبح للإخوان المسلمين نفوذ واسع في الجامعة، إذ عملوا على توظيف أعداد كبيرة من عناصرهم ومؤيديهم مما مكنهم من السيطرة على الجامعة وإدارتها. وفي عام 1982 تسلم الإخوان رئاسة الجامعة من خلال الدكتور محمد صقر. وكان الإخوان يحققون فوزًا في كل انتخابات تجري لمجلس الطلبة في الجامعة. وكانت الكتلة الإسلامية في الجامعة الإسلامية تسيطر على مجلس اتحاد الطلبة منذ تأسيسها بنسبة 70 % من الطلاب. ولذلك لم يكن غريباً أن نجد أن من ترأس الكتلة الإسلامية، كانوا عددا من أفراد الإخوان البارزين الموزعين على المناطق الجغرافية في قطاع غزة والذين صاروا في أغلبهم من قادة حركة حماس... في الأعوام من 1982 الى 1987 دارت صراعات عنيفة في الجامعة الاسلامية بين منظمة التحرير (فتح والشعبية والديمقراطية) من جهة والاخوان المسلمين من جهة أخرى...واستخدم العنف خصوصاً في عامي 1984-1985 و1986-1987...كما دار صراع مع "الجماعة الاسلامية"(الاطار الطلابي لحركة الجهاد) وزع الاخوان المسلمون خلاله بيانات تتهم الجهاد بانها شيعية عميلة لحركة أمل (وكانت حرب المخيمات مشتعلة)... في الحقيقة كان الصراع يتجاوز موضوع الجامعة إلى موضوع الوجود الحركي لجماعة الإخوان في القطاع كقوة صاعدة في بداية الثمانينيات. وتمت السيطرة التامة للاخوان على الجامعة على الرغم من أن التمويل الرئيسي لميزانية المؤسسة كان يأتي من منظمة التحرير الفلسطينية، ومصدره مساعدات الدول النفطية العربية لسكان الضفة الغربية وقطاع غزة، والتي كانت تقررت منذ سنة 1978 واستمرت خلال السنوات التي تلتها. ومع تقليص المساعدات العربية لمنظمة التحرير طرأ تغيير كبير في ميزانية الجامعة التي صار تمويلها من مصادر خارجية مثل الحركة الإسلامية في الأردن، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ورابطة العالم الإسلامي في السعودية، وهذا جعل الحركة الإسلامية في الأردن هي التي تتحكم في تعيين مجلس أمناء الجامعة بصفتهم المسؤولين عن جمع الأموال من مصادر خارجية. وقد عين الدكتور محمد صقر أحد رجال الحركة الإسلامية في الأردن، رئيساً للجامعة واستمرت رئاسته لسنة واحدة وبعدها منع الحكم العسكري الإسرائيلي استمرار بقائه في قطاع غزة، وبعد 1985 أصبحت الجامعة الإسلامية معقل النشاطات الإسلامية في قطاع غزة بفضل الحضور الكبير لأعضاء الحركة والسيطرة على ميزانية المؤسسة (1.2 مليون دينار في سنة 1986) التيار الإسلامي والجامعات في الضفة في نفس الفترة عرفت الضفة الغربية انتشاراً واسعاً للتيار الإسلامي لعله كان نتيجة لازدياد عدد الطلاب المحليين القادمين من الريف التقليدي المحافظ الى الجامعات الحديثة، ذات الطابع الوطني واليساري الواضح مثل جامعة بيرزيت.. وفي بداية الثمانينات توصل التيار الاسلامي إلى التساوي في أحيان كثيرة في مجالس الطلبة مع الكتلة الوطنية المتحدة تحت عنوان منظمة التحرير... ترافق ذلك مع موجة عارمة من إنشاء المساجد الجديدة وإغلاق قاعات عرض السينما وظاهرة العودة الجماعية للدين، الأمر الذي كان يسارع ويتزايد أيضاً في أراضي 48 وفي بقية البلدان العربية على وجه العموم. ويبدو أن صعود قوة التيار الإسلامي في الضفة الغربية وقطاع غزة جاء لموازنة صعود اليمين المتطرف الى السلطة في إسرائيل بعد العام 1977، وما رافقه من تصاعد لعملية الاستيطان اليهودي خصوصاً مع بروز "غوش ايمونيم" ، ومع اندلاع المواجهات مع المستوطنين حول المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي. وقد برزت الكتل الطلابية الإسلامية إلى ساحة العمل الطلابي في جامعات الضفة الغربية وقطاع غزة، وساعدها في شق طريقها تراجع الطروحات اليسارية والقومية، وصعود الجماعات الاسلامية الجهادية في مصر، وقيام ثورة إسلامية في إيران ، وبروز ظاهرة الجهاد الأفغاني ...وبرأيي أن تطورات الوضع اللبناني خلال الحرب الأهلية كان لها انعكاسات وتأثيرات قوية على شباب فلسطين المحتلة.. تشكلت الكتل الإسلامية في جامعات الضفة الغربية، وأخذت تخوض الانتخابات وتحقق نسبًا متقدمة. وكمثال على ذلك حصلت الكتلة الإسلامية في جامعة بيرزيت عام 1979 على 43 %. من اصوات الطلاب... أما في جامعة النجاح فقد فازت الكتلة الإسلامية عام 1979 بعشرة مقاعد من أصل أحد عشر مقعدًا، وفي العام 1980 حازت على خمسة مقاعد فقط ، وعادت في العام 1981 للاستئثار بجميع المقاعد الأحد عشر .. تحرك الشيخ أحمد ياسين نحو الضفة الغربية والأردن، وأفلح في إيجاد قنوات اتصال مع الإخوان المسلمين في الضفة الغربية. بالتوازي مع ذلك قامت في الخارج عام 1977 قائمة الحق الإسلامية، كإحدى قوائم اتحاد طلبة فلسطين في جامعة الكويت، وكان أول رئيس لها خالد مشعل. جرى تحويل اسمها إلى الرابطة الإسلامية لطلبة فلسطين في جامعة الكويت .. وفي بريطانيا قامت عام 1979 رابطة الشباب المسلم الفلسطيني، وتأسس في أمريكا الشمالية 1980 وكندا1981 الاتحاد الإسلامي لفلسطين وشارك في هذا الاتحاد عام 1983 موسى أبو مرزوق. وكانت نشأة هذه الرابطات تعبيرًا عن بحث الشباب الفلسطيني في الشتات عن دور في ساحة العمل الفلسطيني أدت المنافسة بين حركة الإخوان ومنظمة التحرير الفلسطينية على قيادة الشارع الفلسطيني في الجامعات والمدارس الثانوية والمؤسسات في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى اتهامات، وصلت إلى حد وصف الإخوان المسلمين من قبل فصائل منظمة التحرير الفلسطينية بالتخاذل وعدم المشاركة في مواجهة الاحتلال الصهيوني . ألقت هذه الاتهامات بظلالها على الإخوان المسلمين مما دفع الشباب للضغط على قيادة الحركة لانتهاج الجهاد وسيلة للمواجهة ،في حين أن قيادة الحركة رأت التريث وعدم الانجرار وراء هذه الاتهامات، لأن من شأن ذلك أن يؤثر على النهج السليم الذي سيؤدي بالحركة إلى تحقيق أهدافها. وقد استمر الجدل بين الإخوان المسلمين وفصائل منظمة التحرير، حيث أصر كل على مواقفه حيال التعامل مع الاحتلال الصهيوني في تلك المرحلة. وكثيرًا ما اعترض أنصار منظمة التحرير الفلسطينية على مبالغة الإخوان المسلمين في دورهم النضالي ضد الاحتلال، وذلك بإشارة الإخوان إلى دور الحركة الإسلامية في لبنان في مقاومة الاحتلال الصهيوني للجنوب اللبناني، واغتيال الرئيس المصري أنور السادات، وبعض العمليات العسكرية التي جرت في الضفة الغربية وقطاع غزة قبل عام 1987.. فالمقاومة في لبنان لحزب الله، والذي اغتال السادات جماعة الجهاد المصرية، أما العمليات العسكرية في فلسطين والمشار إليها فإنها من فعل حركة الجهاد الإسلامي . أما حديث الإخوان المسلمين عن دورهم في حرب عام 1948 ،فقد وصفه أنصار منظمة التحرير بأنه تشدق مستمر، وتساءلوا عن دور الإخوان في كل السنين التي تلت تلك الفترة. رد الإخوان على هذه الاعتراضات بأنه أيًا كانت الأقوال عن انتماءات هؤلاء الإخوة من ناحية تنظيمية، فهم في كل الأحوال نتاج طبيعي للحركة الإسلامية فكرًا وحركة وجهادًا. وخلاصة القول في كل ما سبق، إلا أن الإخوان شقوا طريقهم من جديد بعد عام 1967 على مراحل أولاها: المساجد، وثانيها: المؤسسات، إلى جانب الرحلات والمهرجانات ونشر الكتب الإسلامية ... الوضع العسكري في غزة 1971-1981 شهدت السنوات الأولى بعد النكسة مرحلة عودة التعاون مع حركة فتح من خلال قواعد الشيوخ في الأردن (1968-1970).. لكن أحداث أيلول ثم وفاة عبد الناصر فانقلاب الأسد في سوريا خلق وضعاً جديداً حوصرت فيه حركة فتح في الضفة وغزة فلجأت الى لبنان وغرقت في تناقضاته... ومع خروج الاخوان من السجون المصرية 1971 تدفق الشباب عليهم طلباً للبديل فكانت مرحلة عاصفة من الحوارات والنقاشات والتفاعلات داخل الاخوان استمرت حتى العام 1977 تاريخ وصول الليكود الى الحكم.. فبين أعوام 1967 و1977 تمتع الفلسطينيون في غزة بوضع اقتصادي شبه مستقر وشبه جيد ناجم عن تدفق العمالة الغزاوية الى اسرائيل بعد فتح الحدود (وبعد التحرر من القمع المصري) وتمدد التسوق الاسرائيلي في غزة، والانفتاح على الضفة الغربية وجمع شمل العائلات، وتدفق عائدات العمالة الخليجية..الخ... وكانت سياسة اسرائيل في غزة تتسم بتجاهل حركة الاخوان والتركيز على ضرب قوى الجبهة الشعبية وقوات التحرير الشعبية (وهما ورثتا القوميين العرب والناصرية) وحركة فتح وروابطها.. وهذا ما سمح للشيخ أحمد ياسين بنيل تراخيص رسمية للعمل الاجتماعي والدعوي تحت أسماء مختلفة.. لكن السياسة الاسرائيلية الانفتاحية خلقت في المقابل شعوراً بفقدان الكرامة الوطنية من جهة، وبالتعرض لغزو فكري ثقافي تغريبي من جهة أخرى، الأمر الذي أدى الى تبلور ردة الفعل الأصولية المحافظة في خطاب الهوية الدينية، خصوصاً مع تصاعد حمى هذا الخطاب في المحيط المباشر (مصر أولاً حيث تدفق الطلبة الغزاويون للدراسة في جامعاتها، ثم لبنان حيث حلت قوات الثورة الفلسطينية منذ العام 1971)... وجاءت أحداث لبنان 1973 و1975-1976، وأحداث مصر (صالح سرية) ثم زيارة الرئيس السادات للقدس (1977)، وانقسم الوضع العربي على وقع صعود اليمين الاسرائيلي الذي سدد ضربات قوية وموجعة لمنظمة التحرير في لبنان (أهمها غزو واحتلال جنوب لبنان في آذار/مارس 1978) والخارج (اغتيال عدد من قادة وكوادر الثورة) ..وتوجت تلك المرحلة بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد (26/3/1979).. في هذه الأجواء سمح الليكود ببناء أول مستوطنة في غزة..وجاء الانسحاب الاسرائيلي من سيناء بموجب كامب ديفيد ليؤدي الى نشر القوات الاسرائيلية المنسحبة حول غزة وبذلك صارت غزة هي الحدود بين مصر واسرائيل وهي مركز الحشد الاسرائيلي العسكري... ومع وصول آرييل شارون لمنصب وزير الدفاع (1981) تشكلت قوات خاصة من الجيش الاسرائيلي (القبعات الحمر) كانت أوامرها تقضي بإذلال الناس واهانتها على الحواجز التي ازداد عددها خصوصاً في وجه انتقال الطلاب الثانويين والجامعيين بين القطاع والضفة وداخل القطاع نفسه ، والضغط العنيف عليهم لمنعهم من مساندة العمليات الفدائية..وهكذا صارت غزة سجناً كبيراً...ولم يعد سهلاً السفر الى مصر أو منها الى غزة كما تم منع السفر الى الأردن وتم التضييق على دخول العمال الغزاويين الى اسرائيل باستثناء السماح لهم بالعمل في بناء المستوطنات ما ضاعف من الشعور بالمهانة..ثم كانت حرب غزو لبنان صيف 1982 ما فجًر مشاعر الفلسطينيين ضد الاحتلال.. الإخوان المسلمون يتجهون إلى العمل العسكري: اتجه الشيخ أحمد ياسين نحو شراء السلاح وتخزينه في عملية سرية وذلك في العام 1980 واستمر هذا الأمر لمدة ثلاث سنوات . كانت خبرة الإخوان المسلمين في حقل تجارة السلاح محدودة وضعيفة، وكانت هذه التجربة الأولى للحركة الناشئة مما أدى إلى انكشاف الخلية واعتقال أعضائها وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين الذي حُكِمَ عليه بالسجن 13 عامًا، وعبد الرحمن تمراز، 11 عامًا، والدكتور محمد شهاب، 10 أعوام، والدكتور إبراهيم المقادمة، 8 أعوام، وصلاح شحادة، عامان ونصف، وحرب مهرة، 4 أعوام، ومحمد سمارة، 3 أعوام. وقد أُفرج عنهم في صفقة تبادل الأسرى عام 1985.. قام الشيخ أحمد ياسين حال خروجه من السجن، بتأسيس جهاز أمني اسمه (مجد) كبداية استعداد للعمل العسكري. اتسع هذا التنظيم مع مباشرته عمله خلال عام ونصف من قيامه. مع بداية الانتفاضة كان هذا التنظيم جاهزًا للاستمرار في عمله الأمني الجهادي. ثم شكل الشيخ ياسين جهازًا عسكريًا جديدًا ومنفصلا عن مجد مع إمكانية التنسيق بينهما، وكلف صلاح شحادة بقيادة التنظيم الجديد الذي أُطلق عليه اسم (المجاهدون الفلسطينيون) .. قام صلاح شحادة بتجنيد عناصر جديدة كان من بينها محمد المصري الذي عُرف فيما بعد بـ"الضيف" والذي صار المطلوب الأول للكيان الصهيوني بعد اغتيال يحيى عياش. ومما يدل على فاعلية جهاز مجد اعتراف بعض أعضاء حركة حماس الذين حُقِّق معهم في السجون الصهيونية أن جهاز مجد كان قد باشر أعماله منذ العام 1985 . حماس والرواية الأخرى: قصة الانتماء لللإخوان بدأت بعد النكسة 67 بحسب مؤرخي حماس فإن الشيخ أحمد ياسين قرر اعادة بناء حركة الاخوان في غزة بعد عام 1967 وأنه اختار لذلك عشرة من غزة والقدس دعاهم الى اجتماع لنقاش مسألة اطلاق الحركة.. ولكن معظمهم لم يتحمس للأمر وبعضهم غادر للدراسة أو العمل في الخارج ... غير أن دروسه وخطبه استهوت شباباً من جيل جديد كانوا يحضرون الى مسجده ويدعونه لزيارتهم وتحلقوا حوله وهذه المجموعة الأولى ضمت اثنين من المعلمين مثله: عبد الفتاح دخان وحسن شمعة، وخمسة من الطلاب: ابراهيم المقادمة، اسماعيل أبوشنب، عبد العزيز عودة، فتحي الشقاقي، موسى أبو مرزوق... وكل هؤلاء درسوا في مصر لاحقاً وكان لهم دور كبير في مجتمع الطلاب الفلسطينيين هناك ..غير أن ورود أسماء عبد العزيز عودة وفتحي الشقاقي بين الطلاب المتحلقين حول الشيخ ياسين جعلني أدقق في الرواية بمقارنتها برواية بعض شهود تلك الفترة وأبرزهم عودة والشقاقي الى جانب الدكتور علي شكشك (مقيم في الجزائر اليوم) والدكتور بشير نافع (مقيم في الدوحة اليوم)... فمن أحاديث ولقاءات مع المذكورين يتبين أن فتحي الشقاقي كان ميالاً للناصرية وكان له صديق يسمى محمد محسن وهذا كان أبوه إخوانياً وكان يتعرض للمضايقات إبان الإدارة المصرية للقطاع.. وكانت تدور نقاشات في بيت فتحي يشارك فيها أقرانه مثل جمال أبو هاشم وخميس أبو ندا وإبراهيم معمر وتوفيق أبو عيادة وعلي شكشك وخليل الشقاقي وموسى أبو مرزوق وأحمد يوسف... وكان محمد محسن يتعاطف مع أبيه الاخواني وميالا لانتقاد عبد الناصر ويعزو نكسة 67 إلى أنها انتقام رباني من الله للنظام الناصري بسبب تعذيب الإخوان وإعدام سيد قطب التي كانت مازالت ذكراها حديثة العهد... وفي خضم الحوارات كان يستحضر بعض الكتب التي أخرجها أبوه من تحت الأرض بعد النكسة وبعد أن كانت مدفونة لإخفائها عن رجال أمن النظام المصري، ومن هذه الكتب كتب السيد سابق وسيد قطب، وكتاب كامل اسماعيل الشريف (الإخوان في حرب فلسطين).. وهذا الكتاب الأخير كان بمثابة غسيل مخ لكل الدعاية الناصرية وكشفا جديدا لهؤلاء الطلاب في تلك المرحلة والتي دعتهم لنفض كل المقولات السابقة والتفكير على بياض... كما كان كتاب (معالم في الطريق) كشفا مماثلا للتعرف على روح سيد قطب ومن ثم الإخوان، والبدء بعاصفة من القراءات والمناقشات... وفي العام 1968 بدأ البحث عن تنظيم الإخوان وتعرف فتحي على الشيخ أحمد ياسين وجاء به إلى بيته وجلس الشباب معه.. ولا يبدو أن شباب مخيم رفح هؤلاء كانوا قد استمعوا أي خطبة سابقة للشيخ أحمد ياسين.. أي أن التحول واكتشاف الإخوان تم بدون الالتقاء معهم.. وبعد ذلك كان السعي للبحث عنهم. تلا ذلك بداية تشكيل الأسر وكان الشيخ عبد العزيز الشاب الملتهب حماساً في ذلك الوقت خطيباً متميزاً .. يقول علي شكشك أنه كان عضواً في أكثر من أسرة وكان معه في نفس الأسرة موسى أبو مرزوق وأحمد يوسف وأنه كان عضواً في مجلس النقباء الذي كان يجتمع أسبوعياً في بيت الحاج محمود محسن والد محمد محسن (وأحد الذين أعادوا تنظيم الاخوان في غزة مع أحمد ياسين)... غادر موسى أبو مرزوق القطاع عام 1969 إلى مصر حيث كانت ظروف عائلته المادية حسنة بما أن أخاه كان ضابطاً منذ العهد المصري وخريج كلية حربية مصرية وهناك أكمل موسى الثانوية العامة والتحق بالجامعة في حين أنهى فتحي دراسة التوجيهي والتحق بكلية بير زيت وكان يأتي كل أسبوع محملاً بالكتب والحكايا "ينتظره الشباب كمن ينتظر ينبوع معرفة ويختطفون الكتب منه والمجلات"... "وتعرفنا منه على التنوع الثقافي والسياسي في الضفة مثل مقالات التحريريين خصوصاً وفكرهم"... "المخيم غيتو لكنه يموج بالشوق للانبثاق".. يعني باختصار كان ذلك بعد النكسة وقد خرج الشباب من الوطن تباعاً... موسى أبو مرزوق 1969، علي شكشك 71 وفتحي الشقاقي عام 75...إذن الانتماء للإخوان لم يكن بسبب الاستماع لخطب الشيخ أحمد ياسين وإنما كان بسبب مناخ فكري وسياسي ومعرفي تشكل بين الشباب بعد النكسة... أما بشير نافع فقد ترك القطاع بعد النكسة مباشرة الى عمان وهناك التحق بأشبال فتح وعايش مجازر أيلول وكان قد أنهى التوجيهي وجاء إلى مصر ولكنه بدأ الدراسة بعد عام نظراً لتأخره أي بدأ الدراسة عام 71 فكان يحمل في تلك السن المبكرة تجربة متميزة عن النموذج الإخواني ... خرج هؤلاء الشباب من غزة كإخوان مسلمين ولم يكن هناك تنظيم في البداية على الإطلاق.. كانوا بضعة شباب أهمهم كان الشيخ عبد العزيز عودة وقد تم بناء تنظيم من الصفر.. وكان صاحب الفضل الأكبر والجهد العالي فيه هو الشيخ عبدالعزيز... أي أنهم كانوا منظمين في الاخوان قبل خروجهم الى مصر.. كان معهم أيضاً إبراهيم المقادمة و أحمد الملح ويوسف رزقة وأحمد يوسف وعلي صايمة.. واستمر هؤلاء الشبان في التزاور والتعاون والقراءة والحوار.. كانت الأمور صعبة في مصر تلك الأيام و"الإخوان" كانت تهمة كبيرة... تعبير أنهم تركوا الجماعة غير دقيق.. والصحيح أن الجماعة لم تحتمل نمطاً مغايراً للنمط التقليدي الاخواني المصري الغزاوي فيما الشباب كانوا يقرأون الفكر اليساري الجديد ويتابعون تطور حركة المقاومة الشعبية المسلحة والمدنية، خصوصا في غزة.. وقد كان هذا يتفاعل ببطء داخل جماعة الاخوان الذين لم يستوعبوا محاولات شعرية تتحدث عن الحب على سبيل المثال وسارت وتفاقمت الأمور حتى أصبح الشباب يطالبون بانتخابات داخلية... الشيخ عبد العزيز وبشير نافع وعلي شكشك تركوا الاخوان عام 75 في السنة التي وصل فيها فتحي الشقاقي الى مصر لدراسة الطب..ومنذ العام 1975 صارت الاجتماعات تدور حول فكرتين: القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للحركة الاسلامية- وفكرة كيفية بناء الطليعة الاسلامية... بعد ذلك كانت بدايات الثورة الإيرانية ووجود مجلة المختار الإسلامي في مصر (التي كان يصدرها الشيخ يحيى عاشور) ونشاط الجماعات الاسلامية الطلابية المستقلة عن الاخوان في الجامعات المصرية (والتي شكلت حاضنة تنظيمي الجهاد والجماعة الاسلامية)... ثم كان كتاب الدكتور فتحي الشقاقي عن الثورة الايرانية قبل انتصارها (الخميني والحل الإسلامي البديل) وهو كتاب من القطع الصغير جمعه الأمن من السوق ونفذت منه طبعتان في أقل من شهر وقبض على الدكتور فتحي وتقرر ترحيله خارج البلاد.. كان ذلك عام 79 عام الثورة الإيرانية وقد رجع فتحي وعبد العزيز الى غزة في نهايات 81.... حركة الجهاد وتفجير الانتفاضة بلغت ذروة العمل الجهادي المسلح لحركة الجهاد الاسلامي في عملية البراق الشهيرة في 1/6/1987 والتي قام بها مجاهدون من سرايا الجهاد (قوة مشتركة بين شباب من فتح وحركة الجهاد) ثم المعركة الخالدة المعروفة باسم (معركة الشجاعية) في 6 تشرين الاول 1987، حيث وقع اشتباك مسلح بين قوات الاحتلال وبين عدد من مجاهدي الحركة ، الذين كان بعضهم قد تمكن من الهروب من سجن غزة المركزي المحاط باجراءات امنية اسرائيلية مشددة ، والقيام بعدة عمليات عسكرية نوعية ضد اهداف صهيونية ، كان أهمها اغتيال قائد الشرطة العسكرية في قطاع غزة (الكولونيل رون طال) في 2 آب 1987.. وقد كانت معركة الشجاعية وغيرها من العمليات العسكرية التي قام بها مجاهدو الجهاد الاسلامي ، لا سيما مجموعة المجاهدين الفارين من سجن الاحتلال ، سببا مباشرا ومقدمة الهبت الشارع الفلسطيني وقادت إلى اندلاع الانتفاضة في كانون الاول 1987..... تجدر الإشارة هنا إلى أن العمل الجهادي الذي كان يمارس تحت اسم سرايا الجهاد كان بمبادرة رئيسية من مجموعة من أبناء حركة فتح ، كانوا رموزًا على مستوى الثورة وكانوا يمتلكون الرؤية حول مركزية القضية الفلسطينية، وضرورة إطلاق الجهاد على أرض فلسطين، هذا بالإضافة إلى امتلاكهم الخبرة العملية داخل صفوف فتح، في الوقت الذي كانت التجمعات الجهادية الإسلامية في فلسطين قليلة الخبرة صغيرة ومتواضعة وبحاجة إلىأمثال أبي حسن (محمد ابحيص) وحمدي (باسم التميمي) ومروان كيالي وأمثالهم للاستفادة مما لديهم من إمكانيات وخبرة لانطلاق الجهاد في فلسطين. وقد تم إنشاء سرايا الجهاد كإطار لتنسيق جبهوي عام بغض النظر عن الجهة المعنية التي تقوم بالعملية الجهادية وذلك لتجنب التنافس والتسابق في الإعلان عن العمليات فيما بين الفصائل الفلسطينية المختلفة. وكان للشهداء أبي حسن وحمديومروان الدور المميز في ولادة سرايا الجهاد التي يعود اليها الفضل في تفجير الانتفاضة الأولى ... وتعتبر حركة الجهاد الإسلامي أن دم أبطال الحركة الذي سال على أبواب مدينة غزة، ما عرف بمعركة الشجاعية، بمثابة الشرارة التي فجرت الانتفاضة.. علماً أن حادثة دهس العمال قرب جباليا في 8/12/1987 جاءت على خلفية مقتل مستوطن صهيوني على يد أعضاء من الجهاد الإسلامي.. وتعتقد الحركة أنها تحملت مع بقية الجماهير الفلسطينية أعباء الانتفاضة الفلسطينية في أسابيعها الأولى وأصدرت البيانات والمنشورات داعية الجماهير إلى الخروج والمقاومة والجهاد على درب شهداء الشجاعية..لا بل أن أول بيان حمل اسم المقاومة الاسلامية في فلسطين هو كراس صغير (8 صفحات) أصدرته حركة الجهاد يوم الجمعة 16/10/1987 بعنوان (انطلاقة الدم والشهادة) خصصته للحديث عن فلسفة الشهادة وعن سيرة الشهداء الخمسة أبطال الشجاعية . عوامل تبلور خيار حماس 1-كانت الساحة الطلابية في الجامعة الإسلامية بغزة مشتعلة بالنقاشات، وكان الطابع الغالب على النقاش والمناظرة هو الطابع السياسي حيث كانت الكتل الطلابية المختلفة توجه سؤالاً واحداً ومحرجاً للكتلة الإسلامية، وهو: أين أنتم على ساحة المقاومة؟ وكان شباب الكتلةالاسلامية يستحضرون التاريخ والنضالات السابقة للإخوان المسلمين في حرب 1948 وفي الخمسينات من القرن العشرين، وكذلك في نهاية الستينات حيث شارك الإخوان فيما يطلقون عليه اسم عمليات الشيوخ، وقد أصدرت الكتلة في هذا المجال كتيباً للمرحوم فتحي يكن (الحقيقة الغائبة)، استعرض خلاله كل جهود الإسلاميين الكفاحية لأجل القضية الفلسطينية منذ بدايتها وحتى نهاية الستينات وأضاف إليها تجربة أسرة الجهاد بقيادة الشيخ عبد الله نمر درويش داخل فلسطين المحتلة سنة 1948، وكذلك اعتقال الشيخ أحمد ياسين ومجموعة من إخوانه سنة 1984 ؛ بتهمة حيازة أسلحة وتشكيل تنظيم مسلح لإبادة دولة إسرائيل . وقد أفضى هذا التطور الى المرحلية في ترتيب أولويات الحركة الإسلامية: وما بين أولوية التمكين، وأولوية التحرير، والتغيير، خلصت الحركة الإسلامية إلى صيغة عضوية متداخلة، تحاول أن تزيل أي تناقض بينهما، بل وتمزج وتوازي العمل بهما معا، وفي آن واحد، من خلال الحراك والتفاعل الداخلي 2-كان إنشاء الجامعات والكليات الجامعية في الضفة الغربية وقطاع غزة، منذ عام 1977 وما بعدها، والتي استوعبت الآلاف من الطلبة، قد جعل منها بؤر استقطاب قوية أدت إلى نمو بعض الحركات الإسلامية .. كما شكلت تلك الجامعات، رافداً قوياً، رفد الحركة الإسلامية بمجموعة من الكوادر والقيادات الشابة المدربة، والمتمرسة في العمل الدعوي، والعمل الجماهيري، والعمل السياسي، الذين شكلوا فيما بعد قيادة حركة المقاومة الإسلامية وكوادرها، وكان لهم الدور الطلائعي الفاعل في الانتفاضتين الأولى والثانية. 3-أدى ظهور حركة الجهاد الإسلامي، وتناميها السريع، وتنفيذها لعمليات جريئة، منافساً قوياً للإخوان على الصعيد المعنوي، ومن هنا كان على الإخوان المسلمين أن يقوموا بخطوات للحد من تسليط الأضواء على حركة الجهاد الإسلامي المنافسة. فبدأ الإخوان سراً بالتجهيز للعمل العسكري المسلح، مستندين في ذلك إلى منظومة الدعم المادي الذي كان يرسل لأجل إعداد البنية التحتية والاجتماعية والخيرية والطلابية من جماعة الإخوان المسلمين العالمية، وخاصةً جماعة الإخوان المسلمين في الأردن .. 4-المنافسة بين جماعة الإخوان المسلمين وفصائل منظمة التحرير، فقد نافس الإخوان المسلمون فصائل منظمة التحرير في جميع المجالات داخل الأرض المحتلة، وخارجها، وكان لا بد أن تشمل أيضا ساحة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، خاصة بعد تردي أوضاع منظمة التحرير، وانحسار دورها في الكفاح المسلح من الخارج على إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وما ترتب عنه من إخراج قوات المنظمة من لبنان وتشتيتهم في الأقطار العربية. شعر الإخوان أن عدم اشتراكهم الفاعل في مواجهة قوات الاحتلال في الفترة الماضية ترتّب عليه خسران الساحة الفلسطينية لصالح فصائل المقاومة، ولهذا لم يعد من المعقول والمقبول أن تبقى الجماعة خارج دائرة الفعل المقاوم . وكان لا بد للحركة الإسلامية من الانخراط في العمل المسلح لتكريس شرعيتها السياسية من خلال مقاومة المحتل، إلى جانب الشرعية الدينية التي تتمتع بها 5-أثر النخب الإخوانية الجديدة، صاحبة الخبرة "الوافدة" المتأثرة بالتجارب الإخوانية في البلدان العربية، في تغيير استراتيجية الإخوان المسلمين اتجاه الصراع مع الاحتلال الصهيوني، ومن العوامل الفكرية التي ساهمت في هذا التحول يمكن خصوصاً رصد تأثير الأفكار الثورية التي طرحها سيد قطب في كتابيه "في ظلال القرآن" و"معالم في الطريق" والتي كان شباب الجهاد يركزون عليها في مجلتهم (الطليعة الاسلامية). 6-دور الضفة الغربية في تأسيس حركة حماس، فعند الحديث عن تأسيس الحركة تتجه الأنظار إلى الروايات التي تتحدث عن دور قطاع غزة وقيادة الإخوان المسلمين في غزة في هذا التأسيس، وتختصر هذه الرواية أكثر في الحديث عن دور الشيخ أحمد ياسين فقط، مهملة الدور التكاملي للإخوان المسلمين في الضفة الغربية وقطاع غزة وخارج فلسطين في هذا القرار، ونادرا ما تجد إشارات تؤكد دور الضفة الغربية، لكنها تبقى إشارات مجملة مبهمة بحاجة لتفصيل، فيأتي نص الباحث بلال شلش ومقابلاته وأحاديثه مع عدنان مسودي ليكشف عن جهد كبير بذل في الضفة الغربية مواز للجهد المبذول في قطاع غزة وفي خارج فلسطين من أجل الوصول إلى لحظة الانطلاقة التي قررها بداية المكتب الإداري العام الذي يمثل الضفة وغزة... وفي مذكرات مسودي حديث عن شخصيات كان لها الأثر الكبير في مسيرة الحركة الإسلامية، أسقطت من الروايات التاريخية، كالحاج راضي السلايمة والمهندس حسن القيق والأستاذ ناجي صبحة والشيخ سعيد بلال وغيرهم... وفيه أيضاً تفاصيل حول آليات اتخاذ القرار في حركة حماس، وحديث عن اجتماعات قيادة حماس الأولى، وكيفية صياغة بيانات الانتفاضة ومركزيتها، وعن صياغة ميثاق حماس، وعن الفشل في التنسيق مع القيادة الموحدة حول إدارة الانتفاضة . 7-وهكذا كانت حماس" النسخة الفلسطينية " للحركة الإسلامية الأم، جماعة الإخوان المسلمين، وهي تتطابق معها أيديولوجياً بشكل تام، فعندما يتعلق الأمر بشعارات الحركة الدينية العامة، نجد أنها لا تختلف شيئاً عن الإخوان ، وعلى سبيل المثال:" الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانيننا" أما فيما يخص القضية الفلسطينية، فقد تبّنت الحركة الكثير من الشعارات التي تؤكد وجهة نظرها المستندة إلى الشعارات الإسلامية التقليدية حول القضية الفلسطينية، مثل كون فلسطين أرض وقف إسلامي .. خاتمة: لا بد في الختام من التأكيد على أن حماس ككل ظاهرة اجتماعية سياسية ليست حركة جامدة أو أن خطابها خطاب ثابت لم ولا يتغير؛ فقد شهد هذا الخطاب، كما شهدت الحركة نفسها وممارستها، العديد من التطورات والتغيرات المهمة أدت إلى تحولها تدريجياً من حركة ذات طابع دعوي ديني على النمط الاخواني الكلاسيكي إلى حركة وطنية جهادية (من نوع جديد) ذات خطاب سياسي برغماتي (على النمط الفتحاوي) لا يرتكز على الإحالات الدينية أو على مرجعية الشرع وحده... فبين خطاب وعمل المؤسسين الأوائل أيام المجمع الاسلامي والجامعة الاسلامية في غزة ونشاطاتهم السياسية والاجتماعية الدعوية (1967-1987) من ناحية، وخطاب وممارسة المقاومة الوطنية ضد إسرائيل وصعود الجناح العسكري للحركة من ناحية أخرى، فرق كبير هو بالتأكيد لصالح السياسة البرغماتية وفكرة التحرر الوطني والمقاومة الشعبية.. لا بل يمكننا القول مع خالد الحروب بأن "هذا الاتجاه سيتعزز أكثر في الفترة التي تلت اتفاقيات أوسلو 1993؛ حيث اختفى "الديني" من خطاب حماس ليحل محله السياسي بشكل شبه كامل، كما ستطغى الاعتبارات السياسية على حسابات الحركة، وتتضاءل أهمية المحور الدعوي"، كما شهدت تلك الفترة "تحولاً محوريا يتعلق برؤية الحركة للصراع مع إسرائيل؛ حيث بدأت الحركة تدرك أن مطلب " تحرير فلسطين من النهر إلى البحر" غير واقعي، بعد أن تجاوزته التطورات والأحداث؛ وهو ما تمثل في تصريحات الشيخ أحمد ياسين بأن الحركة مستعدة لقبول دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولعقد هدنة طويلة مع إسرائيل" . وقد مثلت انطلاقة حركة حماس ودخولها ميدان المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني كحالة استثنائية في جماعة الإخوان المسلمين تأسيسًا لوضع جديد، إذ أصبحت حماس طرفًا في الصراع الوطني ضد الاحتلال سياسيًا وعسكريًا وخفت العلاقة الصدامية مع الحركة الوطنية ومع أطراف إقليمية عدة منها إيران، وانتهى الخطاب التكفيري للشيعة... ومن جهة أخرى مثل تغييب الشيخ أحمد ياسين وخليفته عبد العزيز الرنتيسي نقطة مفصلية في مسيرة تحولات الحركة؛ فبغياب هذين القائدين الرمزيين لم تعد هناك سلطة مركزية في الحركة تستفرد بعملية اتخاذ القرار، بل توزعت سلطة اتخاذ القرار بين قيادات عدة... وما يثير الاهتمام هو أن كل القرارات الرئيسة التي اتخذتها حماس (مثل قرار خوض الانتخابات وتشكيل حكومة) تم تبريرها على أساس سياسي صرف دون الدخول في جدل ديني حول حل أو حرمة المشاركة في انتخابات تنظم بمقتضى اتفاقات مع العدو الصهيوني . أيديولوجية الحركة اليوم هي خليط من أفكار واتجاهات عدة، دون أن يعني ذلك قطيعة مع ميراث الإخوان المسلمين. هذا الميراث يتمثل في حرص الحركة على الحفاظ على وحدتها؛ فحماس هي الفصيل الفلسطيني الوحيد الذي لم يشهد انشقاقات داخل صفوفه حتى اليوم بفضل استعدادها للتضحية بأي مكسب إستراتيجي مهما كانت أهميته إذا كان ذلك سيهدد وحدتها الداخلية، فيجب أن لا تغيب الحسابات والاعتبارات الداخلية للحركة عن بال من يحاول تحليل مواقفها وقراراتها .

فلسطين بين الإخوان وفتح


تحاول هذه المقالة دراسة العلاقة بين حركتي فتح وحماس من خلال العودة إلى سياقها التاريخي الأول ، في بداياته الإخوانية الغامضة والملتبسة، الأمر الذي يسمح لنا بطرح الاشكالية الأساسية التي حكمت هذه العلاقة... فحركة فتح كانت من جهة أولى نتاج تطور فلسطيني في أزمة الاخوان المسلمين في منتصف القرن العشرين... ولكنها من جهة ثانية شكلت قطيعة تاريخية مع تراث الإخوان التقليدي وتنظيمهم الديني حين هدفت الى بلورة الشخصية الوطنية الفلسطينية المستقلة وأسست لحركة تحرر وطني حقيقية... ويسمح لنا تتبع مسار هذه الاشكالية ، بأن نطل على الحاضر من خلال حوادث ومجريات الماضي القريب.. 1- الإخوان وفلسطين: البدايات بحسب رواية إسلامية معاصرة فإن حسن البنا (1906-1949) كتب في مطلع العشرينات، حين كان طالباً في كلية دار العلوم (1923-1927)، مقالاً لمجلة الفتح (صدرت في القاهرة في 10 حزيران 1926 وتوقفت عام 1948) ينبّه فيه إلى الخطر الصهيوني على فلسطين ..كما يبدو أن الحاج محمد أمين الحسيني (1895-1974) قال في رثائه لحسن البنا بعد إستشهاده إنه عرفه للمرة الأولى من كتاب أرسله البنا إليه سنة 1927 . وبحسب مصادر أخوانية فقد بعث حسن البنا فى عام 1931 برسالة مطوّلة إلى المؤتمر الإسلامي العام المنعقد بالقدس فى الفترة من 7-17 كانون الأول/ديسمبر 1931 ، تضمنت حلولاً ومقترحات عملية لقضية فلسطين وكان من أبرزها : مسألة شراء الأرض بفلسطين : "فحبذا لو وفق المؤتمر إلى إيجاد نواة لصندوق إسلامي مالي ، أو شركة لشراء أرض فلسطين المستغنى عنها ، وتنظيم رأس المال وطريق جمع الإكتتابات وسهوم هذه الشركة ...والجمعية تكتتب مبدئيا فى هذه الفكرة بخمسة جنيهات مصرية ترسلها إذا قرر المؤتمر ذلك على أن تتوالى بعدها الإكتتابات ، ولا يضحك حضراتكم هذا التبرع الضئيل فالجمعية تقدر الفكرة ، وتعلم أنها تحتاج إلى الآلاف من الجنيهات ولكنها جرأت على ذلك إظهاراً لشدة الرغبة فى إبراز الفكرة من حيز القول إلى حيز العمل". ورد سماحة مفتى فلسطين على الإخوان برسالة فى 24/1/1932 قال فيها : " بسم الله الرحمن الرحيم .حضرات السادة الكرام وأعضاء جمعية الإخوان المسلمين بالإسماعيلية المحترمين . السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد.. فقد تلى بيانكم فى مكتب المؤتمر الإسلامي العام فكان موضع التقدير والإعتبار، وستهتم اللجنة التنفيذية بما جاء فيه كل الإهتمام وبهذه المناسبة فإنا نشكر لكم ما تبذلون من جهود لإعلاء كلمة الإسلام، ونأمل أن يكون منكم ومن فروع جمعيتكم الموقرة فى الديار المصرية أكبر مساعد على تنفيذ مقررات المؤتمر ومشروعاته الطيبة . وفى الختام نرجو الله أن يوفقنا وإياكم لخير الإسلام والمسلمين" . ويكتب حسن البنا في مذكراته خبر تأسيس جمعية عربية في أميركا: "نشرت جريدة الضياء بتاريخ 22 من المحرم 1350 (9 حزيران، يونيو 1931) ما يأتي: تألفت في الولايات المتحدة جمعية غايتها بث فكرة وحدة العرب والمطالبة بإستقلالهم...وكان من أعمالها هذا القَسَم الذي يحلف به كل عربي وهو كالتالي: باسم العرب نحيا وباسم العرب نموت.أقسم بالهي وبشرفي وبتربة أجدادي أن أعمل للوحدة العربية وأسعى لإستقلال العرب بكل وسيلة وطريقة ..إني لا أعترف مطلقاً بالتقسيم الذي أجراه الأحلاف في البلاد العربية ولا بأي انتداب أو وعد مثل وعد بلفور، ولا بأي حل لا يتفق مع أماني العرب، بل إني أعتبر كل البلاد العربية جسماً واحداً لا يتجزأ وأعترف أن وجود العناصر الغريبة والمهاجرين الأجانب في البلاد العربية هو غير طبيعي وجائر واغتصاب لحقوقي وحقوق أمتي وسلب لحريتي وحرية بلادي، وإني أتعهّد بان أطهِّر البلاد من كل استعمار أو احتلال أو انتداب أجنبي وأن أهدم كل عقبة في سبيل الغاية العامة وألا أجعل أية غاية شخصية أو اقليمية تقف في سبيل الوحدة العربية.. والله شهيد.. والتوقيع فرسان الوحدة العربية ".. ثم يعلّق البنا على الخبر بعبارة واحدة: "كما قرروا يوم 17 حزيران بدء العمل بهذا الميثاق لأنه يوم إعدام السلطة الانكليزية لشهداء فلسطين". الخبر كما ينقله البنا لا صلة له بما سبقه أو بما يليه.. فما العبرة ؟ خصوصاً وأن الخبر يؤسس لتيار أو حزب قومي عربي بوضوح وليس إسلامياً البتة..أم أن البنا كان يتبع التسلسل الزمني للأحداث في مذكرات الدعوة والداعية؟ يبدو ذلك...إذ هو يعود إلى ذكر فلسطين في أحداث العام 1936 وهو العام الذي أدى فيه البنا فريضة الحج (سافر على باخرة من السويس يوم غرة ذي الحجة 1354 ، 24 شباط/فبراير 1936)..."وفي هذه الأثناء تحركت قضية فلسطين وثار الشعب الفلسطيني الباسل على التصرفات البريطانية التي تمالئ اليهود في كل شيء وتحرم العرب من كل شيء..وكانت الهيئات السياسية والأحزاب في مصر منصرفة كل الانصراف عن مناصرة فلسطين مناصرة جدية بحكم النعرة الوطنية الخاصة التي لم تكن قد تطورت الى ذلك الشعور الدفاق بحق العروبة ورابطة الإسلام" ... وقد شكّل الإخوان لجان دعم لثوار فلسطين (وللإضراب العام الكبير الذي استمر لعدة أشهر) ونظموا المهرجانات والمظاهرات والبعثات الصيفية للطلاب الى الريف لشرح قضية فلسطين، وجمع التبرعات المالية .. في نيسان/أبريل عام 1936 أعلن الشعب العربي الفلسطيني إضرابه العام التاريخي ونشبت الثورة الفلسطينية الكبرى في أعقابه ، وأجمعت كلمة الشعب على إنشاء منظمة سياسية موحّدة تمثله وتنطق باسمه وتتولى زعامة الحركة السياسية ، فتشكلت "اللجنة العربية العليا لفلسطين" برئاسة الحاج محمد أمين الحسيني، مفتي فلسطين الأكبر . وقد كان لتأسيس اللجنة العربية العليا ورئاسة المفتي لها أثر كبير في مصر وبين الإخوان تحديداً الذي كانوا على صلة بالمفتي منذ سنة على الأقل.. وكان البنا أرسل في 6 آب/أغسطس 1935 إثنين من قادة الجماعة هما شقيقه عبد الرحمن (الساعاتي) ومحمد أسعد الحكيم، بمعية الزعيم التونسي عبد العزيز الثعالبي، في مهمة لفلسطين وسوريا ولبنان "لبَث الدعوة" و"رسالة الإخوان" و"تقوية الروابط مع مسلمي الشام" .. فالتقى المبعوثان بالمفتي الحسيني الذي "استقبلهما ببالغ الحفاوة والعطف، وزودهما بخطابات كريمة لرؤساء الهيئات والجمعيات في البلدان التي سيزورونها" . وبحسب رواية فتحي الشقاقي فقد "تطورت العلاقة بين الإمام البنا والمفتي بعد الزيارة واستمرت الرسائل بينهما حتى وفاة الإمام.. كما أن الإخوان بشكل عام احتفظوا بمكانة عالية للمفتي حتى كان اسمه أحد الأسماء التي ترددت لإنتخابه خليفة للبنا كمرشد عام للإخوان مطلع الخمسينات ".. وفي يوم السبت 25 صفر 1355 (17 أيار/مايو 1936) انعقد اجتماع كبير بدعوة من البنا في مركز الجماعة انتهى إلى تشكيل "اللجنة المركزية العامة لمساعدة فلسطين" أذاعت بيانات الى الشعب ورسائل الى المسؤولين ونظمت حملات التبرعات كما حملات "القنوت في الصلاة من أجل فلسطين" ..ولا أظن أن دور الإخوان في القضية الفلسطينية كان سيتجاوز مسألة الدعم السياسي والمالي و"القنوت في الصلاة" إلى ما هو أبعد لولا وقوع "المعاهدة المشؤومة" (المعاهدة المصرية البريطانية التي أُعلنت في 26 آب/ أغسطس 1936 (والتي ألغاها مصطفى النحاس باشا في 18 أكتوبر 1951 قائلاً كلمته الشهيرة: من أجل مصر عقدتها ومن أجل مصر ألغيها) "وكان الإخوان المسلمون من المعارضين لها المتبرمين بها" . وهكذا نلحظ تأسيس الجوالة (1936) ثم الكتائب (1937) "مع بداية إهتمام الإخوان بفلسطين وبدء نشاطهم فيها، وهي القضية التي شكلت مع الاحتلال البريطاني الركيزة الأساسية لطموح الجماعة لممارسة النشاط السياسي المؤثر إجتماعياً" غير أن الإخوان يقولون إنهم شاركوا في ثورة فلسطين 1936 "وحين قامت القلاقل في فلسطين أخذوا يمدون المجاهدين بما يقع في ايديهم من مال وسلاح ، حتى كانت ثورة 1936 حين نجح عدد من شبابهم في التسلل اليها والاشتراك مع الثوار في جهادهم وخاصة في مناطق الشمال حيث عملوا مع المجاهد العربي الكبير الشيخ عز الدين القسام" .. والإخوان كانوا كما رأينا على إتصال بالحاج أمين الحسيني الذي كان يدير الصراع السياسي وليس العسكري في فلسطين.. وعقب اندلاع ثورة 1936 أصدر مكتب الإرشاد (حسن البنا) بياناً إلى إخوان مصر وإلى كل الشعوب العربية (مسلمين ومسيحيين) يدعوهم فيه للوقوف إلى جانب شعب فلسطين ويقرر فيه أشكال الدعم وأساسها كما جاء في البيان: "موالاة الكتابة تذكيراً بالواجب نحو فلسطين وحثّ التجار الذين يساعدون اليهود على التضامن مع العرب ومقاطعة المعتدين الغاصبين" .. وقد بحثت كثيراً في وثائق البنا والإخوان فلم أعثر على أي موقف جهادي متميّز ما بين العامين 1936 و1947 بإستثناء برقية البنا الى المؤتمر العربي الذي إنعقد في بلودان في 10 ايلول/سبتمبر 1937 لنصرة شعب فلسطين، يُعلن فيها "استعداد جماعة الإخوان المسلمين للدفاع عن فلسطين بدمائهم وأموالهم" ..كما أن هناك شهادة حسن البنا أمام لجنة التحقيق البريطانية الأميركية يوم 5 آذار/مارس 1946 وفيها موقف لافت من المسألة اليهودية حيث ميّز الشهيد البنا بين "معاداة اليهود لمجرد كونهم يهوداً، وبين معاداة اليهود الغزاة المحتلين في فلسطين"..وقال بأن اليهود هم "أهل كتاب تجري عليهم الأحكام العامة ولهم حقوقهم المعروفة في الفقه الاسلامي".. في حين أن "اليهود الصهاينة المعتدين تجب محاربتهم لقيامهم باغتصاب فلسطين".. وقد أعلن البنا أمام لجنة التحقيق رفض الظلم الذي تعرض له اليهود في أوروبا مؤكداً عدم جواز تحقيق إنصافهم على حساب ظلم أهل فلسطين والعرب، قائلاً: "لا شك أننا نتألم لمحنة اليهود تألماً شديداً ولكن ليس معنى هذا أن يُنصفوا بظلم العرب وأن ترفع عنهم المظالم بهلاك غيرهم والعدوان عليهم" .. وقد استفاض الإخوان لاحقاً في الكتابة عن دورهم الكبير في نشاطات دعم فلسطين وبالتحديد في المؤتمر العربي من أجل فلسطين.. وبحسب رواية الإخوان فقد بدأ الإخوان حملة مقاطعة المحلات اليهودية المساندة للصهيونية بالقاهرة فى19-5-1936 وتم طبع كشوف بأسماء تلك المؤسسات وأسماء أصحابها اليهود مذيلة بالعبارة التالية: "إن القرش الذى تدفعه لمحل من هذه المحلات ، إنما تضعه فى جيب يهود فلسطين ليشتروا به سلاحاً يقتلون به إخوانك المسلمين فى فلسطين" . وبذلك كانت جماعة الإخوان أول هيئة تنادي بفكرة مقاطعة البضائع الصهيونية فى مصر ، وقد وجهت نداءً لذلك إلى التجار العرب الذين يتعاملون تجارياً مع اليهود . وكان لهذه الجهود المبذولة من الإخوان تقدير وإشادة من الجانب الفلسطيني ممثلاً فى اللجنة العربية العليا بفلسطين فأرسل رئيس اللجنة سماحة المفتي الحسيني خطاباً يحيي فيه هذه الجهود المبذولة لنصرة فلسطين قال فيه: "حضرات السادة الأفاضل رئيس وأعضاء جمعية الإخوان المسلمين المحترمين بالقاهرة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد، فقد كتب إلينا عدد من الأصدقاء فى القاهرة عن الجهود المشكورة والأعمال المبرورة التى تقومون بها فى سبيل هذه البلاد الإسلامية العربية المقدسة (فلسطين) التى تقوم بجهادها فى سبيل حريتها وإستقلالها لتراث الإسلام والعروبة الخالدة فيها. كما أننا إطلعنا فى الصحف المصرية على كثير من تلك الجهود والأعمال المباركة التى تقومون بها بكل حمية ونشاط فحق علينا أن نشكركم بما أنتم أهله ونقدر لكم شعوركم الفياض وحميتكم الإسلامية حق تقديرها ". . وفى شهر تموز/يوليو 1938 قام الإخوان بتوزيع كتاب "النار والدمار فى فلسطين الشهيدة" الذي يكشف فظائع الإنكليز وتآمرهم على مسلمي فلسطين ، وصفحات الكتاب كلها تروي وتصوّر مآسي أهل فلسطين على أيدي الإنكليز.. وطبع الكتاب سراً بمطبعة الإخوان المسلمين وقام الإخوان بتوزيعه فى فترة وجيزة ، وقبض على الإمام الشهيد حسن البنا بسبب ذلك ثم أفرج عنه . وفى أيلول/سبتمبر 1938 بدأ مشروع قرش فلسطين : قررت اللجنة المركزية لمساعدة فلسطين تنظيم أسبوع خاص بفلسطين إبتداءا من ليلة الإسراء (22 أيلول/سبتمبر)على أن يوزع فيه قرش فلسطين ، ورأوا ضرورة عقد مؤتمر تشترك فيه الهيئات الإسلامية الأخرى فى مصر بهدف تنظيم الوسائل العملية لإنقاذ فلسطين من محنتها... وتكونت منهم هيئة عرفت باسم "جمعية القرش لإعانة منكوبي فلسطين ". وكانت توجيهات مكتب الإرشاد أن يقوم الإخوان في كل أنحاء البلاد بالدعاية القوية لجمع التبرعات. وبالفعل تم تشكيل لجان عامة وفرعية لجمع المساعدات المالية؛ وفي نفس السنة قامت لأول مرة مظاهرات عامة فى جميع أنحاء البلاد في ذكرى وعد بلفور المشؤوم بهتافات موحدة، وكانت هذه المظاهرات أول تنبيه لأذهان الشعب المصري فى القرى و المدن نحو قضية فلسطين.. كما أنها كانت أول مظاهرات تقوم فى أقاليم مصر عامة بعد مظاهرات 1919 . وإثر نجاح المؤتمر العربى الأول من أجل فلسطين في بلودان نشأت فكرة عقد مؤتمر لبرلمانات العالم الإسلامي كله لأجل قضية فلسطين ، وانعقد المؤتمر بسراي آل لطف الله بالقاهرة من 7 الى 11 تشرين الأول/أكتوبر 1938 و تحدث فيه الكثير من الزعماء .. كما انعقد مؤتمر عربي إسلامي كبير من أجل فلسطين في المركز العام للإخوان بالعتبة بالقاهرة، وانتهى بقرارات وتوصيات تطالب حكومات الدول العربية والإسلامية بالتدخل لإنقاذ فلسطين من المؤامرة الإنكليزية اليهودية وذلك برفض عد بلفور وإيقاف الهجرة اليهودية . وقد أدركت بريطانيا خطورة تكرار تلك الاجتماعات البرلمانية والشعبية، ولمنع هذا التجمع العربي الإسلامي مرة أخرى دعت الى عقد مؤتمر لبحث قضية فلسطين يعقد فى لندن وتمثل فيه الدول العربية على مستوى الحكومات لا الهيئات النيابية...وفي أعقاب ذلك المؤتمر المعروف باسم "مؤتمر المائدة المستديرة" (لندن-شباط/ فبراير 1939) أصدرت حكومة بريطانيا ما يسمى بـ "الكتاب الأبيض". والحال أن كل ما سبق يؤكد تماماً ما قاله البنا نفسه من اقتصار مهمة الإخوان في تلك المرحلة على تقديم الدعم الأدبي والمعنوي والمالي للجهاد الفلسطيني. وما سوى ذلك، وبحسب كلام البنا نفسه: "إنتهاز الإخوان فرصة استقرار المسألة الخارجية بعض الشيء فاتجهوا إلى الإصلاح الداخلي في محيطهم وفي محيط الأمة كلها (المقصود طبعاً الأمة المصرية)، فأخذ مكتب الإرشاد يضع الإرشادات والرسائل التوجيهية القوية من مثل "دعوتنا" و"إلى أي شيء ندعو الناس" و"رسالة الشباب" وغيرها، يطالب فيها بالعودة إلى نظام الإسلام، وأورد في نهايتها خمسين مطلباً عملياً تطبيقياً من مطالب الإصلاح الداخلي.." يضاف إلى ذلك رسائل من مكتب الإرشاد بتوقيع البنا، أهمها تلك الموجهة إلى سفير بريطانيا وإلى رئيس الوزراء المصري وتتعلق بقضية فلسطين (بمناسبة وعد بلفور: 2 نوفمبر 1937).. وتوجيه تحية من المؤتمر الخامس للإخوان "إلى المفتي الأكبر والمجاهدين الكرام في فلسطين المباركة وأعضاء اللجنة العربية العليا وفضلاء أعضاء الوفود الإسلامية الأمجاد بمؤتمر لندن الخ.. " وقد تحققت من نشاطات البنا والإخوان خلال فترة الحرب العالمية الثانية فلم أجد أدنى إشارة إلى فلسطين.. لا بل أن درسَي أو حديثَي الثلاثاء والخميس من نوفمبر 1939 وحتى مارس 1940 (أي حتى صدور الأوامر العسكرية البريطانية ومنع الإجتماعات بسبب الحرب) لم تتضمن أي درس أو حديث عن فلسطين. ولا يشذ عن ذلك سوى الرسالة الشهيرة والخطيرة التي وجهها البنا الى رئيس الحكومة علي ماهر باشا (في 20 شعبان 1358/ 4 اكتوبر 1939) والتي تعرض موقف الإخوان من كل القضايا عند اندلاع الحرب، وهي تضمنت نقطة مهمة بخصوص فلسطين تدعو "الحليفة بريطانيا إلى الإفراج عن المعتقلين السياسيين والسماح بعودة المهاجرين والإعتراف لهذا الوطن العربي الباسل الكريم بكامل حقوقه غير منقوصة" .ثم تلاها مؤتمر فلسطين في لندن ورسالة من البنا الى علي ماهر باشا تشكره على قرار حكومته "دفع إعانة للأُسر الفلسطينية المجاهدة" وتلفت انتباهه الى أن "المسعى السياسي لحل قضية فلسطين أهم بكثير من هذا المسعى الإنساني على جلاله ورحمته"، وتعرض الرسالة لمطالب أربعة لحل القضية "إيقاف الهجرة اليهودية" و"العفو الشامل" و"تأمين الاعانات والمساعدات والتعويضات" وأخيراً ، وهنا الأهم: "اعتراف بريطانيا بإستقلال فلسطين عربية مسلمة والتعاقد معها تعاقداً شريفاً على نحو ما حدث في مصر والعراق مثلاً" ..ولن نغوص في تحليل تلك المرحلة ولكن الواضح أن البنا كما الإخوان كانوا يناورون سياسياً على ما تقتضيه السياسة في زمن الحرب الكبرى من جهة وصعود الشيوعية والقومية من جهة أخرى... إذن خلال الأعوام 1940-1945 توقف كل نشاط إخواني وغير إخواني بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية لتنطلق مرة جديدة حملات الإخوان مع انتهاء الحرب.. غير أن الدكتور توفيق الشاوي وكان أحد أبرز رجال "قسم الاتصال بالعالم الاسلامي" الذي أسسه حسن البنا كذراع خارجي للإخوان، يقول بأن الحرب العالمية الثانية "كانت فترة نشاط كبير للإخوان بالنسبة لقضية فلسطين"..وهو يوضح مغزى هذا الأمر بقوله "وكان أغلب نشاطنا في الحقل السياسي خاصاً بقضية فلسطين وخصوصاً لأن المفتي الحاج أمين الحسيني كانت له علاقة بالاخوان المسلمين عن طريق الهيئات الاسلامية في فلسطين"..غير أنه لا يذكر سوى واقعة سفره للدراسة في باريس عام 1946 كدليل على هذا النشاط السياسي حيث "أفهمه" الشهيد حسن البنا "أن قضية فلسطين ستبقى هي مهمتي الأولى حيث أن المفتي الأكبر الحاج أمين معتقل هناك تحت الإقامة الجبرية وهدفنا هو مساعدته ليقوم بدوره في قيادة الجهاد الفلسطيني الذي كان هو محور نشاط الاخوان في تلك الفترة".. وقد أشار البنا إلى نشاط الإخوان في تلك المرحلة قائلاً بأن الإخوان وقفوا على مناصرة فلسطين "كل جهودهم مالياً وأدبياً من حيث الدعاية والخطابة والنشر وجمع المال". ولكن يبدو أن فترة الحرب كانت مناسبة لبناء التنظيم السري الخاص أو الجناح العسكري للإخوان والقيام بتدريبات واستعدادات..وهو الأمر الذي فتح باب العلاقة بالظباط المصريين الأحرار من خلال عزيز المصري ومحمود لبيب وأنور السادات كما سنرى لاحقاً. كما يبدو كذلك أن فترة الحرب كانت مناسبة للتحرك خارج مصر وافتتاح فروع للإخوان في البلاد العربية وبالأخص فلسطين وسوريا ولبنان، وإقامة علاقات مع حركات التحرر والاستقلال في المغرب الكبير (تونس والجزائر ومراكش) .. 1- الإخوان وفلسطين بعد الحرب الكبرى في ذكرى وعد بلفور 2-11- 1945 أقام الإخوان مظاهرات ضخمة فى جميع أنحاء مصر تأييداً لقضية فلسطين ، كان عنفها و شمولها تعبيراً عن موقف المصريين عامة من قضية مصير فلسطين .. وفي عام 1946 استمرت المقالات الصحفية القوية في صحف الإخوان، تكشف أبعاد القضية، وأصدر أحد رجالات الإخوان (هو المرحوم الأستاذ أنور الجندي) كتاباً تحت عنوان "كفاح الذبيحين: فلسطين والمغرب". غير أن الإخوان ينسبون لنفسهم أدواراً أخرى منها على سبيل المثال توحيد منظمتي النجادة والفتوة في فلسطين في العام 1947 (ودمجمهما في منظمة إسمها منظمة الشباب العربي ) بعد خلاف بينهما "سارع خلاله الإخوان لرأب هذا الصدع والتوفيق بين المختلفين وانتهت جهود الإخوان إلى إرسال الصاغ محمود لبيب وكيل الإخوان للشؤون العسكرية قائداً و مدرباً لهذه المنظمات، وتمكن بمساعدة الهيئة العربية فى فلسطين من تكوين جيش ضخم من أبناء فلسطين، ولما أحس الإنكليز بذلك أخرجوه من فلسطين بالقوة " . أما القضية الكبرى التي ينسبها الإخوان لنفسهم فهي المعروفة باسم "حملة الإخوان الكبرى لتسليح المجاهدين" : فقد أخذت الهيئة العربية العليا لفلسطين تصاريح من الحكومة المصرية بجمع السلاح و شراؤه ، وتم الاتصال بين الهيئة و جماعة الإخوان ، فصدرت تعليمات الإمام الشهيد لقادة النظام الخاص وبعض قادة الجماعة ببذل أقصى جهد فى جمع السلاح من مخلفات الحرب العالمية الثانية في الصحراء الغربية و شراؤه من قبائل البدو في الصحراء وصعيد مصر..كما قام الإخوان بإنشاء مصانع وورش لصيانة وإصلاح الأسلحة فى حلمية الزيتون للهيئة العربية العليا..وإلى ذلك أشار مفتى فلسطين بقوله " أقامت الهيئة فى مصر عدة مصانع وورش ومخازن لإصلاح السلاح وصيانته وتخزينه لأن أكثره من مخلفات الجيوش أو كان مدفوناً فى باطن الأرض أو ملقى فى الصحراء"..كما قاموا بجمع وصيانة وإصلاح السلاح بمرسي مطروح؛ وكان القائمون على ذلك الإخوان العاملون بسلاح الصيانة.. وكان الإخوان بعد إصلاح قطع السلاح من مختلف الأنواع الخفيفة والمتوسطة يقومون بتجربتها على ساحل البحر الأبيض المتوسط. وقام القائد الفلسطيني عبد القادر الحسيني بزيارة تلك الورشة ، وتحرك مع الإخوان فى عدة جولات لجمع السلاح والذخيرة ..كما قام النظام الخاص للأخوان بتطوير نشاطه فبدأ في تصنيع بعض المتفجرات التي لاتتوافر فى الأسواق مثل قطن البارود .. .وكذلك قام بتطوير الساعات العادية إلى ساعات توقيت تستخدم فى تحديد وقت إنفجار العبوات الناسفة ، وكان لهاتين الصناعتين أثر كبير فى نجاح العمليات الفدائية ضد الصهاينة والإنكليز... وزوّد النظام الخاص المجاهد الفلسطيني البطل عبد القادر الحسيني بكمية كبيرة من ساعات التوقيت الزمنية من صنع ورش النظام الخاص لعدم توافرها بالأسواق"..."كما قابل أحد ممثلى الهيئة العربية العليا فضيلة المرشد العام وطلب منه مساعدة الإخوان في شحن سفينة عربية بالأسلحة والذخائر الموجودة بالفعل لدى إحدى بطاريات المدفعية المصرية على ساحل مدينة بور سعيد وأن ضباط هذه البطارية جاهزون للمساهمة في هذه العملية بأشخاصهم فضلا عن تخزين هذه الأسلحة والذخائر لديهم ، وتم نقل حمولة الأسلحة كاملة إلى السفينة" . وفى شهر تشرين الثاني/نوفمبر1947 تشكلت هيئة وادي النيل لإنقاذ القدس وكان أعضاؤها (وعلى رأسهم حسن البنا وصالح حرب وعلي علوبة باشا ) يمثلون مختلف القوى السياسية فى مصر؛ وكان يمثل الجامعة فيها مصطفى مؤمن من زعماء طلبة الإخوان، ويمثل الإخوان الأستاذ صالح أبو رقيق ، ونظمت الهيئة أسبوعاً من أجل فلسطين تم فيه جمع التبرعات لصالح مجاهدي فلسطين . وحين صدر قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية فى 29-11-1947، أعد الإخوان لمظاهرة مصر الكبرى لتأييد فلسطين التي قارب عدد المشاركين فيها نصف المليون مواطن من قيادات ورجال الأزهر الشريف والجامعات المصرية والعمال، وانطلقت من داخل الجامع الأزهر، وشارك الإمام الشهيد حسن البنا في تنظيمها، حيث كان يقف على باب الأزهر ينادي بمكبر الصوت على كل فرقة من المشاركين بالعلم الذي يتبعها ، ووصلت المظاهرات إلى ميدان الأوبرا.. ومن القيادات والزعامات التي شاركت فيها – بالإضافة إلى حسن البنا – رياض الصلح (لبنان) والأمير فيصل بن عبد العزيز (السعودية) والشيخ محمود أبو العيون (شيخ الأزهر) وأحمد حسين (زعيم مصر الفتاة) والقمص متياس الأنطوني، وعبد الرحمن عزام باشا ومحمد علوبة باشا، واللواء صالح حرب (رئيس جمعية الشبان المسلمين). وفي ميدان الأوبرا تحدث رؤساء الوفود وعدد من الشخصيات العامة؛ وكان مما جاء في كلمة الإمام الشهيد حسن البنا: "إنني أعلن من فوق هذا المنبر أن الإخوان المسلمين قد تبرعوا بدماء عشرة آلاف متطوع للإستشهاد في سبيل الله في فلسطين، وهم على أتم الاستعداد لتلبية ندائكم..". وفي هذا اليوم أعلن الإخوان فتح باب التطوع للجهاد في فلسطين، وتقدم الآلاف من شباب الإخوان من جميع محافظات مصر، ودبّت روح الجهاد وحب الاستشهاد في الساحة السياسية بصورة تدعو للفخر بأبناء الشعب المصري". . ومن مذكرات المرحوم الدكتور توفيق الشاوي نعلم بأن قسم الاتصال بالعالم الاسلامي لعب دوراً كبيراً في بلدان المغرب العربي لجهة التعبئة والتحريض حول قضية فلسطين وقضية التحرر والاستقلال..وقد لعبت الأمانة العامة لجامعة الدول العربية (الحديثة الولادة) دوراً كبيراً في هذا المجال بفضل الأمين العام السيد عبد الرحمن عزام (1893-1976)، "وكانت علاقته وثيقة بالاخوان المسلمين وبالشهيد حسن البنا بصفة خاصة".. ويعتقد الشاوي بأن "علاقة عزام بالبنا والاخوان وإخلاصه لقضية فلسطين وقضايا شمال أفريقيا كان من أهم الأسباب التي أدت إلى عزله من الأمانة العامة عام 1952 عقب حركة الجيش مباشرة بدون مبرر معروف حتى الآن" .وبحسب توفيق الشاوي أيضاً فإن قسم الاتصال بالعالم الاسلامي لعب دوراً كبيراً في تهريب المفتي الحسيني من مكان إقامته الجبرية في ضواحي باريس (بوجيفال) إلى مصر .. كما أن علاقات الإخوان بزعماء الحركة الاستقلالية في تونس والمغرب والجزائر سمح لهم بتنظيم نشاطات كبرى في فرنسا دعماً للقضية الفلسطينية وباشراك العمال العرب في هذه النشاطات.. ولعل من أهم هذه النشاطات إعادة إحياء جمعية "أصدقاء فلسطين العربية" التي كان قد أسسها في باريس اللبناني "نجيب صدقة"، وإطلاق نشاطها الفرنسي بدعم من الأمين العام للجامعة العربية عبد الرحمن عزام وسكرتيره اللبناني أسعد داغر، وبمشاركة من الزعيم الجزائري مصالي الحاج ورفاقه محمد يزيد وشوقي مصطفاي من حزب الشعب الجزائري، وعلال الفاسي القريب من الإخوان وزعيم حزب الاستقلال المغربي ورفاقه عبدالرحيم بوعبيد وعبدالله ابراهيم وعبداللطيف بن جلون ، والحبيب بورقيبة الإبن زعيم حزب الدستور التونسي ورفاقه جلولي فارس ومحمد الميلي ..أما جمهور هذه النشاطات فكان من العمال الجزائريين الذين كانوا يحضرون بالآلاف فهم كانوا في فرنسا قبل المغاربة والتوانسة وبأعداد كبيرة، وذلك بسبب الإحتلال الاستيطاني للجزائر.. ولم يتحول التوانسة والمغاربة إلى قوة عددية في فرنسا إلا في مرحلة لاحقة.. وبعد تهريب المفتي الى مصر والتي شارك فيها العمال الجزائريون في مرفأ مرسيليا (كما ساهموا بتمرير أسلحة فرنسية إلى لبنان خلال حرب فلسطين) استمرت الصلة بين جمعية أصدقاء فلسطين العربية في باريس والهيئة العربية العليا في فلسطين وذلك من خلال مندوب المفتي هناك الدكتور يعقوب الخوري الذي افتتح مكتباً للهيئة في باريس، أو بواسطة السيد إميل خوري عضو الهيئة العربية والذي بقي إلى جانب المفتي طوال حياته .. وصلة الحاج أمين بالإخوان مؤكدة وقد تقوت بتزويج ابنته للإخواني أبي المكارم عبد الحي وتم عقد القران في منزل ابنة حسن البنا السيدة وفاء وزوجها القيادي الإخواني سعيد رمضان ..كما يذكر كامل الشريف أنه سمع شخصياً من البنا والحسيني أنهما كانا على تنسيق سياسي واسع جداً بما يشمل التعبئة الشعبية والنفسية وحتى جمع السلاح..كما كان هناك تنسيق عسكري بين الإخوان ومنظمة الجهاد المقدس التي كان يشرف عليها المفتي الحسيني وذلك في سنوات 1947-1948..وقد اجتمع الشريف مع حسن سلامة قائد منطقة يافا للتنسيق بتعليمات من البنا والحسيني معاً..كما يذطر يوسف عميرة أن الحاج أمين كان يحترم الإخوان وآراءهم وكثيراً ما كان يستشيرهم .. وبعد النكبة، وفي أول أيلول/سبتمبر 1948 أعلن الإخوان المصريون عن مشروعهم لمساعدة "المشردين" بفلسطين؛ فوجهوا خطاباً إلى أمين عام الجامعة العربية ، وذكروا فيه أن الإخوان قد ألفوا لجنة لهذا الغرض برئاسة الصاغ محمود لبيب المفتش العام لفرق الإخوان على أن تكون مهمتها "محددة بتكوين لجان فرعية فى المملكة المصرية لجمع الملابس والأغطية والتبرعات النقدية خلال المدة من 15 الى 25 أيلول/سبتمبر تحت عنوان "أسبوع مساعدة اللاجئين بفلسطين".. " وكان مطلب الإخوان من الأمين أن يقوم بالتوسط لدى وزارة الشؤون الإجتماعية المصرية عن طريق الأمانة العامة للجامعة العربية لتأذن للجنة بمباشرة مهمتها" .. وكان المشروع ينقسم إلى قسمين: 1- قطار اللاجئين : وذلك بأن يقوم قطار من أسوان لغاية مصب النيل ليجمع من أهل المروءة والشهامة مايزيد على حاجتهم من أي شيء؛ وإتصل الإخوان بالحكومة وأخذوا تصريحاً من دسوقى أباظة باشا وزير المواصلات بذلك.. 2- عربات اليد : إبتكرها الإخوان وتقضي بإطلاق عدة عربات يد تجوب القاهرة لجمع الملابس والأغطية للاجئين؛ وكان المتطوع الأول فى هذا المشروع الأستاذ البنا رحمه الله. ولكن فوجئ الإخوان بأن وزير الداخلية أمر بالإمتناع عن هذا العمل المزدوج .. وكان لذلك أسوأ الأثر فى النفوس لأن الأمر كان مقصوداً به الإخوان . يقول عارف العارف : " من الواجب أن أذكر بالتقدير والثناء ما قام به الإخوان المسلمون المصريون من أجل فلسطين فقد ركضوا لنجدتها فور نشوب القتال ، وعندما قامت حركة اللاجئين بعث المرشد العام لهذه الجماعة الشيخ حسن البنا رجاله إلى المدن والأرياف المصرية ليجمعوا باسم اللاجئين الملابس والأطعمة والأدوية والأغطية ومواد الإسعاف اللازمة ، ولكن النقراشي أصدر أوامره بوصفه الحاكم العسكري العام بمنعهم " .. لكن معظم الذين كتبوا مذكراتهم من قادة الإخوان ورجالهم الكبار لا يذكرون أي مساهمة جهادية مسلحة للإخوان في فلسطين قبل العام 1947 ولا أي تأثير جهادي على فكر تلك المرحلة.. فعمر التلمساني يذكر إسم فلسطين في مذكراته حين يتحدث عن عالمية دعوة الإخوان، فيعطي الدليل عليها مشاركة الإخوان في الحرب في فلسطين .أي أنه لا يتذكر مدى تأثير القضية الفلسطينية على أي تطور في تاريخ الإخوان.. ومحمود عبد الحليم لا يتحدث عن فلسطين قبل العام 1946 وذلك بمناسبة كلمة المرشد العام أمام لجنة التحقيق البريطانية الأميركية ثم بمناسبة مظاهرة القاهرة الكبرى في 15/12/1947 بعد قرار التقسيم، وصولاً الى الحرب (1948-1949) "التي شارك فيها الإخوان بقوة والتي كانت السبب المباشر في الصدام مع حكومة النقراشي وما أدى اليه لجهة إغتيال البنا نفسه." فيبدو وكأن القضية الفلسطينية لم يكن لها ذلك التأثير الكفاحي والمسلح على خيارات الإخوان الداخلية والعربية . وهو أمر غريب إذا لاحظنا كل ما سبق وكذلك اندفاعتهم بعد ذلك في حرب فلسطين إلى جانب الضباط الأحرار.. فهل كان ذلك الاندفاع بسبب مشاركة الضباط الأحرار ودورهم المميز في حرب فلسطين؟؟ وهل كان الإخوان والظباط وجهان لعملة واحدة ؟ ...ولعل المفيد تسجيله هنا هو تلك الروابط والعلاقات بين النخب السياسية الوطنية في المشرق والمغرب والتفافها حول فلسطين من جهة ، وتعاطفها مع الاخوان من جهة أخرى...والتفسير الوحيد لذلك هو أن الإخوان ما كانوا يومها بعد تنظيماً أصولياً أو حزباً سلطوياً ... وبالتالي فإن تطور الحركات الوطنية المشرقية والمغربية كان في ارتباط وثيق مع مناخ عام وطني استقلالي شارك فيه الاخوان يومها، الأمر الذي يفسر علاقتهم بالظباط الأحرار من جهة، وبمؤسسي حركة فتح من جهة أخرى... 2- الإخوان المسلمون والضباط الأحرار في شهادات لعدد من الضباط الأحرار نقرأ وقائع عن قيام جمال عبد الناصر بعقد البيعة للنظام الخاص (الجهاز السري للإخوان) على المصحف والمسدس مع عبد الرحمن السندي (رئيس الجهاز) وبحضور المرشد حسن البنا وذلك في أوائل العام 1946. وبحسب الشهادات المذكورة فإن الضباط السبعة الذين شكلوا أول خلية للنظام الخاص التابع للإخوان بين ضباط الجيش المصري هم عبد المنعم عبد الرؤوف- حسين حمودة- جمال عبد الناصر- كمال الدين حسين- سعد توفيق- صلاح الدين خليفة- وخالد محي الدين.... ويؤكد خالد محي الدين ذلك في مذكراته ... كما يذكر عبد اللطيف بغدادي في مذكراته أن الضباط الأحرار كانوا على صلة بالنظام الخاص وأن عبد الرحمن السندي حاول دمج التنظيمين وأخذ موافقة حسن البنّا على ذلك إلا أن الضباط الأحرار رفضوا هذا الأمر إذ خافوا من الذوبان داخل بحر الإخوان . إلا أن هناك روايات أخرى تعيد الإتصالات الأولى للإخوان بالجيش إلى عام 1940. فالرئيس المصري الراحل أنور السادات يروي أنه كان يقود مجموعة ثورية داخل الجيش تسعى إلى الحصول على دعم علي ماهر وعزيز المصري المعاديان بشدة للإنكليز، وأن تنحية علي ماهر من الحكومة صيف 1940 جعلت مجموعة السادات تركز على عزيز المصري الذي كان على صلة قوية بحسن البنّا إلى حد أنه كان يسعى إلى توحيد الإخوان ومصر الفتاة.. ويقول السادات إنه كان مع صديقه الضابط عبد المنعم عبد الرؤوف على صلة قوية بالإمام البنّا وإنهما إتصلا بعزيز المصري بواسطة البنّا نفسه وإلتقيا به في عيادة الدكتور إبراهيم حسن أحد قادة الإخوان وذلك عام 1940 وأنه تم الإتفاق في هذا الإجتماع على توحيد العمل بين الإخوان وجماعة مصر الفتاة وضباط الجيش .. في حين يذكر حسين حمودة أنه تم الإتفاق بين الفريق عزيز المصري وأنور السادات على تشكيل تنظيم سري في الجيش يرتبط بالإخوان .. أما الرئيس المصري الأول بعد الثورة محمد نجيب فقد ذكر أن محمود لبيب (وهو ظابط تقاعد عام 1936 وبدأ العمل مع حسن البنّا كمستشار خاص له لفرق الجوالة وللشؤون العسكرية كما للإشراف على تجنيد وتدريب المتطوعين لفلسطين) أجرى أول إتصال بالضباط الأحرار صيف 1944 حين إلتقى عبد الناصر في حديقة الحيوانات بالجيزة.. ويؤكد محمد نجيب أن الرجل الثاني في اللقاء مع الإخوان بعد عبد الناصر كان رشاد مهنا، ويأتي بعدهما كمال الدين حسين وحسين الشافعي، في حين أن عبد المنعم عبد الرؤوف وحسين حمودة وأبو المكارم عبد الحي، كانوا من ضباط الإخوان داخل الجيش ... غير أن حسين حمودة يؤكد أن عبدالمنعم عبد الرؤوف هو من أدخل عبد الناصر إلى الجمعية السرية للضباط عام 1944 وأنه ظل (أي عبد الرؤوف) هو المسؤول عن التنظيم السري في الجيش حتى نكبة فلسطين (15 أيار/مايو 1948) ومتعاوناً مع "القادة الروحيين للتنظيم وهم البنا ولبيب والمصري" . المهم في كل الأحوال أن هؤلاء الضباط كانوا يتحلقون ويتجمعون في أطر لم تكن بعيدة عن نشاط وتنظيم الإخوان وخصوصاً قيادة النظام الخاص، وتنظيم محمود لبيب... إلا أن اللحظة التاريخية الحاسمة هي بلا شك لحظة حرب فلسطين وما تلاها حيث يمكن القول بأن تنظيم الضباط الأحرار قد إتخذ شكله النهائي بقيادة عبد الناصر بدءاً من عام 1949 وبعد إغتيال حسن البنّا ووقوع الإخوان تحت سيف الملاحقة والإضطهاد وحصول فراغ كبير في قيادتهم بسبب عدم التمكن من إنتخاب مرشد يحل محل البنّا حتى آخر عام 1951.. لعل بداية التردي في علاقة الضباط بالإخوان تعود إلى المرحلة التي تلت الحرب العالمية الثانية وما تولد عنها من أوضاع سياسية جديدة. ولعل الجانب الأبرز يعود إلى إضطراب وضع الإخوان في آخر عام 1946 ومطلع عام 1947 بسبب الأزمة الداخلية العنيفة التي أصابتهم والتي لعب فيها جماعة النظام الخاص دوراً سلبياً. فقد أدى تزويج البنّا شقيقته الكبرى من عبد الحكيم عابدين إلى فتنة حيث أن بعض قدامى المؤسسين خافوا من منافسة عبد الحكيم لهم في مناصبهم البارزة في الدعوة لما له من مواهب تؤهله للبروز في المجتمع بعد أن أصبح صهراً للمرشد العام ...وقد أدى ذلك إلى حصول إستقالات وإلى إعتكاف مجموعات بدأت تجتمع خارج الإطار التنظيمي إلى أن صدرت قرارات طرد حسين عبد الرازق (شقيق علي عبد الرازق صاحب كتاب الإسلام وأصول الحكم) وإبراهيم حسن (الذي جمع السادات والبنا في عيادته) وأحمد السكري (أول القادة التاريخيين للإخوان بعد البنا) وكمال عبد النبي، وغيرهم، وذلك في 1/3/1947. وبحسب السادات فإن هذه الأزمة كانت بداية الإستياء لدى الضباط الذين فقدوا الثقة في النموذج المثالي للإخوان . ولا يمكن الفصل بين هذه الأزمة الداخلية وحقيقة إرتباطها بالموقف الإخواني المهادن لحكومة صدقي والمعارض للوفد حيث يبدو أن المنتفضين المطرودين كانوا من الوفديين الصرحاء داخل الإخوان.. إلا أن ما جرى لم يقطع الصلة بسبب حاجة الضباط للإخوان كسند شعبي في حركتهم الثورية. غير أن الإخوان يشرحون تدهور العلاقة بينهم وبين الظباط الأحرار بالقول بنظرية المؤامرة... إذ ينسبون إلى عبد الناصر تخطيطاً جهنمياً للإستئثار بالتنظيم وبالثورة... فيقولون إنه في أيلول/ سبتمبر 1949 ظهر خلاف كبير بين الضابطين البارزين في تنظيم الضباط الأحرار:عبدالرؤوف وعبدالناصر؛ فعبد الناصر يريد الإسراع في عمل الإنقلاب، ويريد فتح التنظيم (الضباط الأحرار) أمام ضباط الجيش عموماً ، ولو لم يكونوا ملتزمين مع الإخوان المسلمين، ولا مع الخُلق الإسلامي الكريم! فيما عبد الرؤوف ملتزم بالبيعة مع الإخوان ، وبالطاعة لتعليمات مكتب الإرشاد للجماعة ، ويطالب بقصر عضوية التنظيم على الضباط الإخوان ، وعدم إنضمام أي ضابط آخر له .. فبحسب الإخوان إستقلّ عبد الناصر إذن بتنظيم "الضباط الأحرار" بعد عام 1950، وإنفصل عن قيادة الإخوان المسلمين ، وضمّ إليه من غير الإخوان عدداً من الضباط مثل: عبد الحكيم عامر، وزكريا محيي الدين، وصلاح سالم ، وجمال سالم ، وغيرهم … وأمام هذا الأمر ، رأت قيادةُ جماعة الإخوان المسلمين الإستمرار في ربط الضباط الملتزمين مع الجماعة، وجعلت لهم قيادةً خاصة مرتبطة بقيادة الجماعة. وبما أن عبد الناصر إنفصل عن قيادة الجماعة ، وبما أن عبد الرؤوف كان في سيناء ، و تتعذر عليه ممارسة مهام وصلاحيات القيادة ، لذلك أسند مكتب الإرشاد قيادةَ الضباط الإخوان في الجيش للمقدم أركان حرب أبو المكارم عبد الحي. . من هذا التلخيص الموجز ، نعرف أن تنظيم "الضباط الأحرار" (الذي قام بثورة عام 1952 في مصر)، كان بحسب الإخوان تنظيماً إخوانياً أساساً ، وأنه ظل إخوانياً صِرفاً حوالي خمس سنوات منذ تأسيسه عام 1946، و حتى إستقلال عبد الناصر به عام 1950 …ومع ذلك بقي وجود الضباط الإخوان ، حاضراً ومؤثراً ومتميزاً وقوياً ، في تنظيم " الضباط الأحرار"، و بقي فيه ضباطٌ إخوان نشطاء مثل : كمال الدين حسين ، وحسين حمودة ،وعبد المنعم عبد الرؤوف، وصلاح خليفة، وغيرهم، بالإضافة إلى التنظيم الإخواني للضباط ، المستقل عن الضباط الأحرار ، والذي صار يرأسه الضابط الإخواني أبو المكارم عبد الحي.... ويبدو أنه حين إنقطع الإتصال بين عبد الناصر وقيادة الإخوان (والذي كان يتم عن طريق عبد الرؤوف وحسين حمودة وغيرهم من الضباط الإخوان الملتزمين بالجماعة)، أوجد عبد الناصر قناة إتصال أخرى عن طريق جديد ، طريق الضابط الإخواني صلاح شادي... يقول صلاح شادي إن لقاءات الإخوان بعبد الناصر نشطت بعد حريق القاهرة (26 كانون الثاني- يناير 1951) فتكثفت الإجتماعات في منزل عبد القادر حلمي لدراسة سبل التعجيل بالثورة . وقامت الثورة في 23 يوليو 1952 بتنسيق كبير بين عبد الناصر والإخوان المسلمين لا بل أن صلاح شادي أصر في الإجتماع الأخير قبل الإنقلاب (21 تموز/يوليو) وفي حضور عبد المنعم عبد الرؤوف وأبو المكارم عبد الحي (من الضباط الإخوان) وعبد الرحمن السندي وحسين كمال الدين وحسن عشماوي وصالح أبو رقيق وفريد عبد الخالق (من الإخوان) على التذكير بالبيعة وإشهاد عبد الناصر ورفاقه على هذا العهد بقراءة الفاتحة .... والضابط الإخواني عبد المنعم عبد الرؤوف هو الذي قام بمحاصرة الملك في قصره بالإسكندرية وأجبره على التنازل ... وفي 26 تموز/يوليو صاغت الهيئة التأسيسية للإخوان بيانها الشهير للإعراب عن فرحتها بنجاح الحركة المباركة لضباط الجيش في تحرير مصر... وفي مطلع آب/ أغسطس وفي أول ظهور له منذ وفاة ابنه، صلَّى والد حسن البنّا في المركز العام للإخوان وخاطب المصلين قائلاً: "أيها الإخوان اليوم تحققت رسالتكم. إنه فجر جديد لكم ويوم جديد للأمة" ... ومنذ الأيام الأولى للثورة ألغى الضباط الأحرار قسم البوليس السري من وزارة الداخلية وصفوا نفوذه تماماً وتم الإعلان عن إعادة فتح التحقيق في قضية إغتيال حسن البنّا كما جرى إعتقال العديد من أعداء الإخوان وعلى رأسهم محمد الجزار أحد رؤساء البوليس السري المتخصصين في شؤون الإخوان والمتهم بالمشاركة في تدبير إغتيال البنا. وفي المقابل جرى إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وأغلبهم من الإخوان، وجرى تعيين رشاد مهنا كواحد من الأوصياء الثلاثة على العرش .....كما صدر عفو خاص في 11 أكتوبر 1952 عن المحكوم عليهم في قضية مقتل المستشار الخازندار وكذلك صدر عفو خاص عن المحكوم عليهم في قضية مقتل النقراشي باشا وقد أفرج عنهم قبل صدور المرسوم بقانون رقم 241 لسنة 1952 (16 أكتوبر) بالعفو الشامل عن الجرائم السياسية التي أرتكبت في الفترة ما بين توقيع معاهدة 1936 إلى ثورة 23 يوليو 1952 . ومن مظاهر الود والإرتباط بين ضباط الثورة والإخوان قيام قادة الثورة بزيارة الإخوان في مركزهم العام للتهنئة بعيد المولد النبوي الشريف (2 ديسمبر 1952) وكان محمد نجيب على رأس الوفد الذي زار مع الهضيبي قبر الشهيد البنا. كما قرر قادة الثورة إعادة التحقيق في قضية إغتيال البنّا وتقديم إبراهيم عبد الهادي (رئيس الوزراء المتهم بإصدار أوامر الإغتيال) إلى محكمة الثورة (حكم بالسجن المؤبد ثم أفرج عنه صحياً في شباط/ فبراير 1954).كما جرى تعيين عدد من الإخوان في المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومي (مرسوم قانون في 2 أكتوبر 1952) وفي المجلس الدائم للخدمات العامة (مرسوم قانون في 17 أكتوبر 1953) والأول هو المجلس المكلف بحث المشروعات الاقتصادية ووضع خطط التنمية في السياسة العامة ووضع الخطط الرئيسية للتعليم والصحة والعمران والإشراف على المرافق العامة والشؤون الإجتماعية. وقد عُيّن في لجنة التعليم سيد قطب وفي مجلس الإنتاج الدكتور حسين كمال الدين وغيرهما. . إلاّ أن شهر العسل لم يدم طويلاً.. ففي 30 تموز-/يوليو 1952 جرى اللقاء الأول بين الهضيبي وعبد الناصر في منزل صالح أبو رقيق وفي هذا اللقاء رفض عبد الناصر طلب الهضيبي التشاور مع الإخوان في الأمور السياسية الرئيسية قبل إتخاذ أي قرار نهائي، وقال عبد الناصر يومها "إنه لا يقبل وصاية من أية جهة على الثورة" ... وفي مطلع أيلول/ سبتمبر سقطت وزارة علي ماهر (وكان توليه رئاسة الوزارة أحد أبرز شروط الإخوان لدعم الثورة). وقيل إن سبب سقوط وزارة علي ماهر يكمن في معارضته للإصلاح الزراعي خاصة وأن أول ما صدر عن الوزارة الجديدة برئاسة محمد نجيب كان قانون الإصلاح الزراعي كما إقترحه الضباط الأحرار.وكان الخلاف بين الهضيبي وعبد الناصر قد إبتدأ منذ اللقاء الأول لهما (في 30 تموز/ يوليو) وذلك حول قضية الإصلاح الزراعي إذ أن الهضيبي تبنى موقف علي ماهر بتحديد الملكية بحدود 500 فدان كحد أقصى في حين أن مجلس قيادة الثورة رأى التحديد بمائتي فدان فقط .. وقد إنفجر الخلاف في العلن إثر تشكيل وزارة محمد نجيب حين قرر مجلس قيادة الثورة إشراك الإخوان عبر ثلاثة منهم على أن يكون الشيخ الباقوري أحد الثلاثة. والذي حصل هو أن الهضيبي وافق في البداية وأبلغ الباقوري موافقته وذلك قبل العودة إلى مكتب الإرشاد وهو رشح حسن العشماوي ومنير الدلة اللذين رفضهما الضباط، ولا ندري لماذا، خاصة وأن العشماوي كان الصديق المخلص لعبد الناصر. عند ذلك أخطر الهضيبي مكتب الإرشاد بعرض الحكومة دون إبلاغهم بأنه قدّم فعلاً أسماء رفضت. وقد قرر مكتب الإرشاد بالاجماع الإمتناع عن المشاركة في الوزارة. أما الباقوري الذي كان الهضيبي قد أبلغه موافقته على تعيينه فهو لم يتبلغ قرار مكتب الإرشاد وبالتالي فإنه وافق على التعيين ولم يقدر فيما بعد على التراجع حتى لا يُسجل عليه الإخلال بالمواثيق أو نكث العهود فكان أن جرى فصله من الجماعة لاحقاً . وبسبب هذا الموقف بدأ الإنقسام داخل الجماعة بين مجموعة تؤيد الحكومة (أحمد الباقوري- عبد الرحمن السندي- صالح العشماوي-محمد الغزالي- البهي الخولي)، ومجموعة بقيادة المرشد حسن الهضيبي تتخذ منها موقف السلبية إن لم يكن العداء. حتى أن تعليمات وصلت بعد هذه الحادثة إلى شُعَب الإخوان تفيد بأن موقف الجماعة سيكون منذ الآن موقفاً سلبياً من الحكومة .. وبعد إبعاد علي ماهر والإمساك بالحكومة الجديدة، جرى إعتقال ومحاكمة مجموعة من الضباط من مجلس قيادة الثورة المرتبطين بالجماعة (عبد المنعم عبد الرؤوف وحسين حموده ومعروف الحضري وغيرهم) .. وحين صدر قرار حل الأحزاب (16 يناير 1953) فإنه إستثنى الإخوان من الحل وتعامل معهم بإعتبارهم حزب الثورة أو الغطاء الشعبي لها. وبدا ذلك واضحاً أيضاً عند قرار تشكيل هيئة التحرير وطلب ضباط الثورة من قيادة الإخوان الإندماج في هيئة التحرير. وهذه النقطة عرضها محمد نجيب بإعتبارها أحد أسباب إستثناء الإخوان من قرار حل كافة الأحزاب السياسية . وفي حين إعتبر الإخوان قرار حل الأحزاب خطوة صحيحة في إتجاه الإصلاح السياسي فإنهم زاروا عبد الناصر بعد يوم واحد من صدور قرار الحل لتهنئة الحكومة على خطوتها ولمناقشة مستقبل البلاد .. وبحسب رواية لصلاح شادي فإن قرار تشكيل هيئة التحرير ودخول الإخوان فيها نوقش في إجتماع كبير جرى نهاية شهر ديسمبر 1952 في منزل عبد القادر حلمي وحضره منير دلة، وفريد عبد الخالق، وصالح أبو رقيق، وحسن عشماوي، وصلاح شادي من الإخوان، وجمال عبد الناصر، وعبد الحكيم عامر، وكمال الدين حسين وصلاح سالم، وعبد اللطيف بغدادي، وأنور السادات، وأحمد أنور من جانب الضباط الأحرار. وينقل شادي عن ناصر قوله في هذا الاجتماع، إن رغبته هي أن تنصهر جماعة الإخوان داخل هيئة التحرير فلا يعود لها شكلها المعروف وإنما تذوب بقيادتها في الهيئة الجديدة لتكون تنظيماً جديداً تدخله جميع الأحزاب بدون حساسيات تمنع حالياً إنضمام أي منها إلى هيئة الإخوان المسلمين . إن هذا الاجتماع هو بلا شك من أخطر الإجتماعات وليس مجرد لقاء عابر في بيت صديق. ويشهد على خطورته كمية ونوعية الحضور من الجانبين، والرأي الخطير الذي طرحه جمال عبد الناصر ورفضه الإخوان (موقف مستغرب من جماعة ترفض الحزبية وتطالب بحل كل الأحزاب). ولعل مبرر الرفض يعود إلى حذر الهضيبي وشكوكه تجاه نوايا عبد الناصر ورفاقه حيث رأى المرشد أن الهيئة الجديدة لن تمثل فكراً جديداً بل ستكون تكتلاً حكومياً يريد عبد الناصر استخدامه لإذابة الإخوان (ولعله طموح سلطوي ما فتئ يتجدد).. إلا أن زيارة عبد الناصر ومحمد نجيب لضريح البنّا في الذكرى الرابعة لإستشهاده، (12 شباط/فبراير 1953)، ثم تعيين البهي الخولي (أحد قادة الإخوان) ضابطاً للإتصال بين الجماعة وهيئة التحرير ومديراً للإرشاد الديني بالهيئة المذكورة، في شهر آب/ أغسطس، وتشكيل محكمة الثورة في الشهر نفسه لمحاكمة إبراهيم عبد الهادي وغيره من قادة النظام السابق، وإعلان بلدية الإسكندرية إطلاق إسم البنّا على أحد أكبر شوارع المدينة، وفتح الباب أمام أفواج الإخوان لدخول معسكرات التدريب التي أقامتها الحكومة إبان المفاوضات مع الإنكليز حول مسألة السويس، كل هذه الأمور تشير إلى جدية ضباط الثورة في التعامل مع الإخوان كحزب صديق، إن لم يكن الحزب الوحيد المقبول منهم . وبالمقابل تشهد تلك الفترة قبول الجماعة التعامل مع هيئة التحرير بإرسال دعاة ينضمون إليها. ويبدو أن الإخوان كانوا يريدون أن يظلوا وحدهم في الساحة، فهم رحبوا بقرار حل الأحزاب، وخافوا من قرار إنشاء هيئة التحرير؛ في حين أن النظام كان يريد إستخدام الإخوان كحزب شعبي مؤيد لهم. وحين ظهر أن الإخوان يتعاملون مع النظام بإعتبار أنهم أصحاب فضل عليه، وأن النظام يتعامل مع الإخوان بإعتبارهم من أهل البيت وأن عليهم الإنضواء تحت سياسات الدولة دون إستقلالية فكر أو عمل، بدأ التناقض وبدأ الصراع يأخذ أبعاده الحقيقية..ويبدو من تصرفات وكلام الإخوان في تلك المرحلة أنهم كانوا يعتبرون الجيش والضباط غير قادرين على حكم البلاد وعلى بناء حكومة إسلامية وأن عملهم يقتصر على التمهيد لذلك عبر قيامهم بالإنقلاب وترك الأمور من ثم للإخوان .. ويلفت الانتباه في هذا المقام مقال معبّر نشرته مجلة المسلمون الناطقة بإسم الإخوان في شهر أغسطس/آب 1952، أي بعد شهر على الإنقلاب، وفيه التفريق بين عملين : "الأول يزيل الكابوس الجاثم فوق صدر الأمة" ، والثاني "إنفاذ أحكام الإسلام بواسطة جيل مسلم العقل والعاطفة والأخلاق"..وقالت المجلة إن العمل الأول "قام به الجيش بحركته الميمونة" أما الثاني فلا يستطيع تنفيذه إلا "أولئك الذين يستطيعون فهم الإسلام فهماً دقيقاً والتربية الحية التي تصنع لهذا الدين قادة من نوع جديد وجنداً لا تزيغ أبصارهم ولا أقدامهم في معركة الحق والباطل الرهيبة" ... فيظهر من ذلك أن الإخوان اعتقدوا أنهم يستطيعون توجيه حركة الضباط وحكومتهم توجيهاً إسلامياً وأنهم قبلوا منها "أن تنفّذ من خير الإسلام ما تستطيع تنفيذه" إلى أن يحين الوقت لإستكمال الجيل الجديد العدة، وأنهم أعطوها لذلك مهلة عشر سنوات.. ويروى عن عبد الناصر قوله: "لقد قلت للمرشد سابقاً إننا لن نقبل الوصاية، وإنني أكررها اليوم مرة أخرى في عزم وإصرار" ...وهكذا إتسعت شقة الخلاف وصار الإخوان يهاجمون الحكومة والضباط ويتسللون الى داخل الجيش والشرطة عبر تنظيم خلايا لهم ويسعون للسيطرة على النقابات وذلك بتخطيط من الجهاز السري. والأمر الجديد في الصراع بين الجيش وقيادة الإخوان أن عناصره كلها إنتمت أو كانت تنتمي إلى الإخوان.. وأن الإخوان كحركة أو كجماعة منظمة لم يكونوا في موقف موّحد أثناء هذا الصراع. 3- الإخوان في فلسطين من المعلوم أنه خلال الحرب الكبرى انضم أفراد كثيرون للجماعة في فلسطين ولكن من دون تشكيل شُعب رسمية.. وكانت مجلة الإخوان تصلهم بانتظام إضافة الى تدفق الرسل والدعاة من مصر..كما انضم العديد من الطلبة الفلسطينيين الدارسين في مصر للاخوان مثل الشيخ مشهور ضامن بركات الذي صار رئيس المعهد الديني في عكا ورئيس شعبة الإخوان في نابلس عند تأسيسها عام 1946 .. وبحسب البعض فإن البداية الحقيقية كانت عند تأسيس جمعية المكارم في القدس عام 1943 كواجهة للإخوان .. وأول فرع رسمي في غزة تأسس بعد الحرب العالمية برئاسة الحاج ظافر الشوا ثم أصبح الشيخ عمر صوان رئيس الإخوان في غزة بعد حرب فلسطين 1948 . وبحسب يوسف عميرة (من مؤسسي فرع يافا أواخر 1945 أو بداية 1946) فقد أقيم حفل كبير عند افتتاح الفرع في يافا شارك فيه مصريون؛ وتولى المكتب الإداري ليافا ظافر الدجاني ومعه 9 أعضاء منهم الحاج محمد أمين الغلاييني وخليل الوفائي والشيخ حسين أحمد حسن المصري (سكرتير الشعبة) .. وكان الافتتاح الرسمي لمكتب الإخوان في القدس يوم 6 أيار 1946 في احتفال كبير أيضاً شارك فيه مندوب من مصر هو عبد المعز عبد الستار وقيادات فلسطينية بارزة مثل جمال الحسيني وناصر النشاشيبي والشيخ عبد الحميد السائح .. وفي نهاية عام 1946 أسس الشيخ جليل أبو غصيب من بيسان والشيخ عبد العزيز الخياط وزكي المصري وعامر المصري وناظم بكير، من نابلس، أسسوا فرع بيسان برئاسة الخياط، ثم تولى الرئاسة الشيخ محمد فخر الدين من نابلس ... وفي حيفا إنضم كل أعضاء جمعية الاعتصام لتأسيس فرع الإخوان يتقدمهم رئيس الجمعية عبد الرازق عبد الجليل؛ وقد حضر وفد كبير من مصر (كان بينهم سعيد رمضان) لإقناع جماعة الاعتصام بالموضوع.. ولم ينضم للإخوان نائب رئيس الجمعية وهو تقي الدين النبهاني الذي أسس لاحقاً حزب التحرير .. وقد تتابع خلال عامي 1946-1947 إنشاء الفروع في قلقيلية واللد ونابلس (برئاسة مشهور ضامن) وطولكرم والمجدل وسلواد والخليل.. وفي شمال ووسط وجنوب فلسطين حتى زاد عدد الفروع عن عشرين كما يذكر حسن البنا .. وقد زار البنا فلسطين في 19-20 آذار 1948 يرافقه عبده قاسم وسعد الدين الوليلي والشيخ محمد الفرغلي، وزار رفح وخان يونس حيث كان له استقبال حاشد وزار شعبة غزة وكتب كلمة في دفتر الزيارة .. وعند إعلان تأسيس دولة إسرائيل شكّل الإخوان 3 كتائب للقتال في فلسطين: الأولى بقيادة أحمد عبد العزيز والثانية بقيادة الشيخ محمد الفرغلي والثالثة بقيادة محمد عبده.. وقد لعبت هذه القوات أدواراً مهمة في الدفاع عن البلدات الفلسطينية وفي صد الهجمات الصهيونية كما في خوض المعارك الكبيرة والحاسمة .. وبعد الضغوط البريطانية والمصرية سحب الإخوان مشاركتهم المستقلة وانضموا الى معسكر الهاكستب الذي كان بقيادة الجامعة العربية وتشكلت منه 3 كتائب مشتركة بين الجيش والإخوان والمتطوعين المصريين ، قاد الأولى منها الإخواني أحمد عبد العزيز والثانية البكباشي عبد الجواد طبالة من الجيش المصري... وقد لعبت كتيبة عبد العزيز دوراً كبيراً في الحرب كما تشهد بذلك مذكرات الظباط وشهادات من شارك في الحرب .. وقد شارك الإخوان السوريون في الحرب بقوة وشكلوا كتيبة بقيادة زعيمهم مصطفى السباعي دخلت فلسطين وقاتلت في منطقة القدس والمثلث.. كما شارك إخوان فلسطين في كتائب جيش الانقاذ الفلسطيني وخصوصاً تحت قيادة الجهاد المقدس (عبد القادر الحسيني وحسن سلامة وابراهيم أبودية).. كما شارك إخوان مسلمون من تونس وليبيا والسودان والمغرب واليمن في القتال في فلسطين وسقط لهم شهداء وجرحى ... وبعد ضم الضفة الغربية إلى الأردن صار إخوان الضفة ضمن جماعة الإخوان في الأردن. "وخلت مسيرتهم من عام 1950 وحتى 1968 من أي جهد عسكري حقيقي" .. 4- غزة في مطلع الخمسينيات من القرن العشرين بعد حرب فلسطين 1948 كان قطاع غزة يضم ثماني شُعب للإخوان المسلمين هي : المكتب الإداري والرمال والشجاعية، في مدينة غزة؛ ثم النصيرات والبريج ودير البلح وخان يونس ورفح..أما في الضفة الغربية فلم يكن هناك نشاط خاص وإنما كان النشاط من خلال الهيئات الاسلامية الموجودة منذ زمن العلاقة بالمفتي الحسيني وبعز الدين القسام.. وكانت شُعب قطاع غزة تتبع المكتب الإداري بطبيعة الحال.. والمناهج الدراسية والتربوية كانت نفس تلك المتبعة في مصر.. وقد استقبل قطاع غزة في الخمسينيات الشيخ محمد الغزالي والشيخ محمد الأباصيري والشيخ محمود عيد، كمبعوثين من الأزهر وهم كانوا في الوقت نفسه من الإخوان.. وكان هناك صلة قوية بين إخوان غزة وإخوان العريش المصرية (القريبة جداً جغرافياً) خصوصاً لوجود الأستاذ كامل الشريف في العريش (قائد كتائب الإخوان في حرب فلسطين 1948 ).. وكانت أنشطة الإخوان تشمل المحاضرات العامة في الشُعب وخطب المساجد واجتماعات الأسر والكتائب والمعسكرات الكشفية التربوية والدعوة عن طريق الإتصالات الفردية الشخصية.. كذلك ضمت الحركة أقساماً للطلاب والعمال وكان القسم الطالبي أنشطها . وكان هناك أيضاً نشاط سري يعنى بالتدريب على استعمال السلاح وعلى جمع مختلف أنواع السلحة الخفيفة وتخبئتها.. ويبدو أن التنظيم السري المسلح للإخوان (النظام الخاص) كان له قواعد قوية بين إخوان غزة والعريش بسبب الصلة بالظباط والعسكر والسلاح منذ حرب فلسطين.. وكان كامل الشريف يوجه التنظيم السري من العريش وكان صلة الوصل بينه وبينهم محمد أبو سيدو حيث يتولى مسؤولية التنظيم وإيصال الأوامر إلى أفراده في القطاع الذي كان مقسوماً إلى ثلاثة أقسام (الشمال والوسط والجنوب). وكان أبو جهاد خليل الوزير مسؤولاً في منطقة غزة (شمال القطاع)، و(خ.أ) في خان يونس (المنطقة الوسطى) ، ومحمد يوسف النجار في رفح (جنوب القطاع). وقد نفذ هذا التنظيم عدداً من العمليات الفدائية خصوصاً التعاون مع البدو عن طريق عبد الله أبو مريحيل ومحمد حسن الأفرنجي. وقد استفاد الإخوان من وجود ضباط مصريين إسلاميين في الجيش المصري قاموا بتدريبهم سراً من أمثال عبد المنعم عبد الرؤوف . وقد ظهر في محيط طلاب الإخوان تكتلان التف أحدهما حول سليم أديب الزعنون بينما التف الآخر حول حسن عبد الحميد صالح.. مجموعة الشباب التي تجمعت حول سليم الزعنون أطلقت على نفسها إسم كتيبة الحق وقد انضموا جميعهم فيما بعد إلى حركة فتح ، في حين استمر صالح في تنظيم الإخوان ورفض تكتل فتح باعتباره خروجاً على النظام الخاص.. وحين قامت ثورة يوليو كان الإنطباع العام لدى إخوان غزة أن حركة الجيش هي من صنع الإخوان أو ما يقرب من ذلك...لذا إنضم "الكثيرون من علية القوم ومن كبار الموظفين إلى الإخوان في غزة لكي ينالوا الحظوة لدى السلطة....وقد أصبح معظم رؤساء الشُعب وأعضاء إدارتها من هذا الصنف إذ أن فتح الشُعب تزامن مع بداية عهد الثورة" . ولكن مع الصدام بين الظباط والإخوان وصدور قرار حل الإخوان في مصر (14/1/1954) وما تلاه من إعتقالات، إنفض أكثر هؤلاء عن التنظيم ومنهم رئيس المكتب الإداري للإخوان في القطاع الذي كان رئيساً للبلدية بالتعيين وأصدر بياناً يؤيد فيه خطوات الظباط وإجراءاتهم. ولم يبق في غزة غير أفراد قلائل وانحلت الشُعب وانضم من بقي إلى أسرة واحدة واصلت إجتماعاتها الأسبوعية دون أي نشاط آخر.. وكان يرافقهم القاضي المصري مأمون حسن الهضيبي الذي كان عضواً في المحكمة العليا بغزة .. ولا توجد معلومات عن انعكاسات الانقسام الذي حصل بين إخوان مصر في العام 1954 على الوضع الاخواني في غزة، خصوصاً وأن أحد أطراف هذا الانقسام وهو الشيخ محمد الغزالي كان مبعوثاً أزهرياً في القطاع وأن ابن الطرف الآخر كان أيضاً في غزة (مأمون حسن الهضيبي).. ولكن من شهادة عبدالله أبو عزة نعلم أنه لم يبق من القياديين الإخوان في غزة غير بضعة أفراد "لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد الواحدة.. ويرافقهم مأمون الهضيبي.. وقد انحل الهيكل التنظيمي الرسمي والعلني وهرب الكثيرون"، إلى حد أن أبو عزة يعترف بأنه أصيب نتيجة لذلك "بانهيار جسدي ونفسي" .وفي الفترة من 1954 (تاريخ حل الإخوان) و1956 (العدوان الثلاثي واحتلال القطاع) كان "وضع الإخوان في غاية الضعف...لقد انفض رؤساء وأعضاء إدارات الشُعب وذوو الأسماء والوزن العلمي أو الاجتماعي..ولم يبق إلا أعداد قليلة من الشباب الصغار" ...والحقيقة أنني لم أستطع الحصول من أبو جهاد على معلومات وافية حول الموضوع لأنني في فترة اللقاءات به كنت مشغولاً بمعرفة تفاصيل انطلاق فتح والكفاح المسلح ولم أكن أعير انتباهاً لموضوع الإخوان المسلمين (لم تكن قد تشكلت حركة حماس بعد).. كما أن كل قادة فتح لم يذكروا في أحاديثهم ومذكراتهم ورواياتهم عن تلك المرحلة أية إشارة إلى سابق انتمائهم للإخوان وكيفية خروجهم منه.. وباعتقادي فإن الشيخ محمد الغزالي ورفاقه المبعوثين الخارجين على سلطة المرشد الهضيبي، كان لهم بلا شك تأثير في إخوان غزة، ولكن التأثير الأساسي جاء من مجريات هذا الصراع نفسه وآثاره السياسية والمعنوية من حيث انكشاف غرق الإخوان في حسابات "دنيوية" بعيدة كل البعد عن العناوين الكبرى، ومن حيث انفراط عقد التنظيم وانهيار قياداته، ناهيك عن اكتشاف عدم أولوية فلسطين في برنامجهم... فكان اعتزال الكثيرين قرفاً، في حين أنه لم يكن بامكان عدد من الفلسطينيين المقاتلين أن يعتزلوا في وجه عدو محتل مستوطن ومجرم... فقرروا التقدم الى الأمام.. وهكذا تطور بين إخوان غزة "الفارطين" عمل شبه عسكري قام بعمليات ضد العدو في الأراضي المحتلة مثل زرع الألغام ونسف بعض المنشئات وتخريب خطوط المياه والكهرباء..ولا ننسى أن جماعة النظام الخاص العسكريين كانوا ضد قيادة الهضيبي لإخوان مصر وهم كانوا صلة الوصل مع مجاهدي فلسطين.. وفي نفس تلك الفترة قامت مصر بإدخال قوات من الحرس الوطني المصري إلى قطاع غزة وبتنظيم عمليات فدائية بواسطة فلسطينيين وبإشراف مدير مخابرات القطاع مصطفى حافظ (إغتاله الإسرائيليون لاحقاً بواسطة طرد بريدي ملغوم).. وقد قام إخوان غزة (بقيادة خليل الوزير) بعدة عمليات وأدى ذلك إلى إعتقال الوزير وتعذيبه في إدارة المباحث في السرايا (مقر الحكم والإدارة في غزة) وكان ما يزال طالباً في نهاية المرحلة الثانوية .. وبحسب أبو جهاد فإن الدافع لهذه العمليات لم يكن توريط السلطات المصرية في حرب مع إسرائيل يتمناها الفلسطينيون، ولا كان الإنتقام من الظباط الإنقلابيين بسبب حملتهم على الإخوان، وإنما كان هناك "هدف كبير وخطير" يتمثل بإفشال "المشروع الأميركي-المصري لتوطين اللاجئين في سيناء".. وقد روى أبو جهاد كيف تعاقدت حكومة عبد الناصر مع وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، "ومن خلفها كانت تقف أميركا"، على توطين وإسكان اللاجئين في شمال غرب سيناء .. وبغض النظر عن الإتهامات الإخوانية للنظام الناصري بأنه كان "يعقد آمالاً كبيرة على الأميركيين في بداية عهده وحتى العام 1955، وأنه لذلك كان ميالاً إلى تصفية الجزء المصري من قضية اللاجئين (أي تكدسهم في غزة)" ، يبدو فعلاً أن شيئاً ما كان قيد الترتيب بدليل قيام مظاهرات في القطاع ومسارعة الإدارة المصرية إلى إصدار بيانين الأول في 28 أيار/مايو 1953 والثاني في 9 أيلول/سبتمبر 1953. كما أن نائب الحاكم العام للقطاع خاطب الأهالي ليؤكد بأن الأونروا "تقدمت بمشروع لإسكان وتشغيل اللاجئين في شبه جزيرة سيناء وغزة"..وأن بيان 28/5 كان يعني الإعلان الرسمي عن "إرجاء البحث في هذا الموضوع"...ثم يقول "إن موضوع إسكان اللاجئين هو محل إعادة نظر السلطات المختصة في الوقت الحاضر ولن تتخذ فيه أية إجراءات أو خطوات إلا بما يحقق أماني الفلسطينيين ومصالحهم..ولذلك نلفت النظر إلى أن الحديث حول هذا المشروع قد أصبح غير ذي موضوع" . وبحسب أبو جهاد فقد تصاعدت العمليات العسكرية الفدائية إنطلاقاً من قطاع غزة بحيث صارت تقلق دولة اسرائيل الحديثة الولادة .. ويكشف تصريح أدلى به بن جوريون رئيس الوزراء الإسرائيلي في الكنيست في مارس 1956 بأن عدد الإصابات الإسرائيلية بسبب الحوادث الحدودية سنة 1951 بلغ 137 إصابة، وفي سنة 1952 بلغ 147 إصابة، وسنة 1953 بلغ 162 إصابة، وسنة 1954 بلغ 180 إصابة، وسنة 1955 بلغ 258 إصابة . أما حسين أبو النمل فينقل إحصائية تذكر أن عدد قتلى الإسرائيليين منذ توقيع وقف إطلاق النار في مارس 1949 وحتى حرب اجتياح القطاع وسيناء في آخر أكتوبر 1956 قد بلغ 1176 قتيلاً . ومن العمليات المهمة التي أثارت دوياً كبيراً عملية الباص في 17 مارس 1954 حيث هاجمت مجموعة فدائية باصاً إسرائيلياً على طريق إيلات - بير السبع، قرب معاليه أكربيم مما أدى إلى مقتل 11 إسرائيلياً وجرح 3 آخرين . وقد عدَّها رئيس الوزراء الإسرائيلي عملية عسكرية مدبرة بعناية، وأشارت التحقيقات إلى أن مركز المجموعة الفدائية هو القسيمة جنوب شرقي العريش في سيناء، وأشير إلى احتمال أن يكون الإخوان المسلمون وراءها، كما وضعت احتمالات أخرى كأن تكون من تدبير جماعة المفتي الحاج أمين ... وكانت العمليات الفدائية تُقابل بردود فعل متغطرسة من الكيان "الإسرائيلي"، فيقوم بارتكاب المذابح وقصف المدنيين.وقد أحدثت مذبحة غزة، التي قامت بها القوات الصهيونية في 28 فبراير 1955 وقتلت 39 شهيدا وجرحت 32 آخرين، أحدثت انتفاضة عارمة في القطاع في الأول من مارس 1955 تطالب الحكومة المصرية بإعطاء الحرية للعمل الفدائي الفلسطيني، وتوفير السلاح . ووافقت الحكومة المصرية تحت هذا الضغط، ووضعت العمل الفدائي تحت إشراف الضابط المصري مصطفى حافظ الذي قام بواجبه خير قيام. وقد تدفق الآلاف للتطوع، غير أنه تم انتقاء العناصر ذات الخبرات القتالية والمعرفة بالأرض، وزاد عدد الفدائيين العاملين عن ألف. وقاموا بعمليات يومية خاطفة، وأحيانا بعمليات كبيرة واسعة. وقد نشط هذا العمل بدءاً من شهر سبتمبر 1955 وحتى أكتوبر 1956. وكان من أبرز العمليات: العملية التي شارك فيها أكثر من 300 فدائي توغلوا حتى عمق 47كم ووصلوا إلى مسافة 15كم إلى الجنوب من تل أبيب. وقد قسموا أنفسهم إلى مفارز متعددة، قامت بالكثير من العمليات، وأثارت الرعب في الكيان الإسرائيلي، وقد تواصلت عملياتهم أسبوعاً كاملاً 6- 13 أبريل 1956. وقد استشهد مصطفى حافظ في 14 يوليو 1956 نتيجة انفجار طرد ملغوم، أرسله له رجال الموساد "الإسرائيلي" عن طريق عميل مزدوج . وقد توقف العمل الفدائي عن طريق قطاع غزة إثر الاحتلال "الإسرائيلي" للقطاع وسيناء (آخر أكتوبر 1956 - 6 مارس 1957)، وبعد تعهد الرئيس عبد الناصر بإغلاق الحدود في وجه الفدائيين. 5- حركة فتح: الميلاد والمسير من أحاديث كثيرة مع الشهيد خليل الوزير خرجت برأي مفاده أن الشهيد القائد يرى في مرحلة 1948-1957 المهد الفعلي لنشوء حركة فتح من رحم الإخوان في غزة... كما أن هذه المرحلة كانت من جهة أخرى هي المعجن والمخبز للأفكار والتطلعات التي تطورت لتحدث قطيعة فكرية وسياسية ونفسية مع الإخوان... فهذه المرحلة (ويسميها أبو جهاد وكمال عدوان المرحلة الأولى التمهيدية ) تميزت بادىء الأمر بشيوع الذهول والحيرة بين صفوف الجماهير في السنوات التي تلت النكبة واللجوء، حيث حرصت الأنظمة العربية على قمع أي نشاط سياسي في المخيمات وأماكن التجمعات الفلسطينية (في دول الطوق خصوصاً).. ثم بإنخراط الشباب الفلسطيني في العمل السياسي والحزبي والعقائدي (من خلال الإخوان المسلمين والحزب القومي السوري وحزب التحرير) أو في إنتظار التحرير على يد قادة الإنقلابات العسكرية (من حسني الزعيم 1949 إلى محمد نجيب وجمال عبد الناصر 1952).. وقد شهدت هذه المرحلة غياب القيادات التقليدية والتاريخية الفلسطينية وتفكك العلاقات الإجتماعية الحاضنة للحراك السياسي بفعل التشتت واللجوء في المنافي..يضاف إلى ذلك كمية المشاكل اليومية التي اعترضت اللاجئين في حياتهم البائسة في المخيمات ومظالم الإستخبارات العربية...الأمر الذي أوجد بين جيل الشباب حالات كثيرة من البحث عن أطر تملأ الفراغ وتوحِّد الطاقات وتحمي الناس..كما أن عدداً كبيراً من الشباب أُضطر للهجرة إلى الخليج هرباً من الملاحقة أو بحثاً عن لقمة العيش..وفي تجمعات الخليج كان الشعور بالمرارة هو السائد ليتولد منه شعور بضرورة القيام بعمل ما لإنقاذ هذا الشعب من حالة البؤس واليأس .. وشهدت المرحلة ولادة عشرات التجمعات والمجموعات الصغيرة من الشبان بدأت تدرس التجارب الثورية للشعوب (وخصوصاً تجارب الصين وكوبا والجزائر وفيتنام وقد كانت في أوج إنطلاقتها الثورية) بعد أن فقدت أملها بالثوار العرب الإنقلابيين (بسبب تكاثر وتعدد الإنقلابات السورية وتصفياتها الداخلية من جهة، كما بسبب الصدام الكبير بين محمد نجيب وعبد الناصر أولاً، ثم بين الظباط الأحرار والإخوان المسلمين بعد عام 1954 ثانياً)..وليس صدفة أن تولد في تلك الأجواء نواة حركة القوميين العرب على يد شبان فلسطينيين يدرسون في بيروت..أو أن تنشط مجموعات كثيرة داخل الجيوش العربية (وجيش التحرير الفلسطيني) حملت كلها إسم جبهة تحرير فلسطين أو جبهة التحرير الفلسطينية (أبرزها مجموعات الظباط عثمان حداد وعبد اللطيف شرورو وعلي بشناق وأحمد جبريل في سوريا، وأحمد زعرور وعبد الله العجرمي وعصام السرطاوي في مصر، وصالح سرية في العراق، إضافة إلى مجموعة شفيق الحوت ومحمد الشاعر في لبنان، وإلى القوميين العرب المستقلين أحمد السعدي وبهجت أبو غربية وصبحي غوشة في الأردن والضفة الغربية)...إلا أن التجربة الأهم هي تلك التي قامت بين اللاجئين في قطاع غزة والذين كانوا على تماس مع بقايا كتائب المتطوعين من الإخوان المسلمين والظباط الأحرار بعد نكبة 1948. ويبدو أن تجربة الإخوان في حرب فلسطين استهوت عدداً من الشبان في غزة (أبرزهم خليل الوزير وياسر عرفات ومحمود عباس وصلاح خلف وحمد العايدي ومحمد الإفرنجي) إتصلوا بالظابط الإخواني المصري عبد المنعم عبد الرؤوف.. وقد استمرت الصلة بالإخوان حتى اندلاع الصدام العنيف بينهم وبين النظام الناصري 1954 بعد إبعاد محمد نجيب وسجن وطرد ظباط الإخوان.. ...وقد روى أبو جهاد كيف أنه كان يتدرب على السلاح منذ العام 1949 على يد ظباط مصريين من الإخوان في قطاع غزة وأنه قام معهم بعدة عمليات عسكرية ضد الإحتلال في أعوام 1950-1954. . وبين العامين 1953 و1957 كان هناك أكثر من 50 مجموعة صغيرة في مخيمات وتجمعات اللاجئين في غزة، لم يكن بينها أي تنسيق أو حتى إتصال، وكلها تبحث عن التشكل في هيكلية تشبه جبهة التحرير الجزائرية أو جبهة التحرير الفيتنامية (وهما انطلقا عام 1954) .. فالمثال الذي كان يداعب خيال هؤلاء الشباب هو المثال الوطني التحرري تقوده حركة ثورية مسلحة... ويقرر أبو جهاد أن نقطة التحول الرئيسية لدى هؤلاء الشباب لتشكيل حركة وطنية فلسطينية تحررية كانت في 29 شباط 1955 حين انطلقت المظاهرات من ثانوية فلسطين في غزة لتشييع 38 جندياً مصرياً من كتيبة فلسطين التي كان يقودها عبد المنعم عبد الرؤوف حين وقعت دوريتهم في كمين إسرائيلي .. 6- الإخوان وفتح بعد الانطلاقة والحرب الشعبية كان العدوان الثلاثي حافزاً على التفكير بضرورة التنظيم والقيادة الفلسطينية المستقلة عن الأنظمة العربية.. وقد بدأ الشباب الفلسطيني يطرح "تفكيراً جديداً وشعارات جديدة تدعو الى لقاء فلسطيني عريض ووحدة وطنية قوية من أجل ثورة مسلحة تحرر الأرض..." .. وكان اتحاد طلبة فلسطين في غزة (إدارته كانت تضم 4 مدرسين و7 طلاب وكان بقيادة أبو جهاد) ورابطة فلسطين في مصر (بقيادة عرفات)، ومجلتهما المشتركة (فلسطين) الصادرة في القاهرة، المحضن لولادة هذا الحراك الشبابي والفكري الذي انتهى الى تشكيل حركة فتح ، خصوصاً بعد انتقال أبو جهاد للدراسة في القاهرة واللقاء بياسر عرفات وسليم الزعنون ومحمود عباس وصلاح خلف .. ومن القاهرة توزع الرفاق للعمل ما بين السعودية والكويت وقطر..كما كان هايل عبد الحميد وخالد وهاني الحسن ينشطون بين الطلاب في ألمانيا وأوروبا.. فكانت ولادة فتح بين عامي 1956-1958، وأعتقد أن أحداث العام 1958 من قيام الوحدة المصرية-السورية وتصاعد الثورة الجزائرية ثم إنقلاب عبد الكريم قاسم في العراق والثورة في لبنان، هي التي تفسر مفصلية هذا التاريخ بالنسبة للحراك الوطني الفلسطيني التحرري.. كما أن انتصار الثورة الجزائرية وحدوث الانفصال المصري-السوري هو الذي عزز مصداقية طروحات فتح وتكوين اجماع فلسطيني حول سلامة خطها الوطني.. في شباط 1959 صدرت مجلة (فلسطيننا) في بيروت لتكون لسان حال الحركة الجديدة، وقد رعاها وشارك فيها عدد من أبناء العائلات البيروتية المعروفة (حوري، بلعة، شاتيلا، فاخوري، آغا، سلام) ممن كانوا على صلة بجماعة عباد الرحمن الدينية التي تستحق علاقتها بمؤسسي حركة فتح دراسة خاصة نظراً إلى كون الجماعة تعبير عن صراع غير معروف في داخل الإخوان نتج عنه افتراق بينها وبين وليدها الإخواني اللبناني (الجماعة الاسلامية).. كان مؤسسو حركة «فتح»، في معظمهم، من اللاجئين الذين وفدوا الى قطاع غزة بعد سنة 1948 أمثال محمد يوسف النجار (أبو يوسف) وسليم الزعنون (أبو الأديب) وخليل الوزير (أبو جهاد) وصلاح خلف (أبو أياد)،وقد بدأوا حياتهم السياسية في حركة الإخوان المسلمين لأنهم لم يجدوا أمامهم في غزة آنذاك إلا الإخوان والشيوعيين. وكان الشيوعيون يدعون الى التعايش مع إسرائيل، ووافقوا على قرار التقسيم في سنة 1947، فنفر منهم اللاجئون. ولهذا، على الأرجح، التحقت طلائعهم بجماعة الإخوان المسلمين . خليل الوزير التحق بالإخوان المسلمين سنة 1951، وبادر الى تأسيس مجموعات مستقلة قليلة العدد شرعت في التدرب على السلاح في معسكرات بدائية أقيمت سراً في ضواحي مدينة العريش سنة 1952(ويبدو أنه اتصل بجماعة النظام الخاص من خلال هذا التدريب وبواسطة كامل الشريف) وكان معه في هذه المجموعات حمد العايدي (أبو رمزي) وكمال عدوان ومحمد الافرنجي وعبد الله صيام ونصر عبد الجليل. ثم انضم إليهم لاحقاً سليمان الشرفا (أبو طارق) ومعاذ عابد (أبو سامي) وسعيد المسحال ومنهل شديد وسعيد المزين وغالب الوزير. اضطر خليل الوزير الى مغادرة قطاع غزة في أواسط سنة 1956 للالتحاق بجامعة القاهرة. وفي القاهرة توثقت علاقته بياسر عرفات الذي كان التقاه في غزة سابقاً. لكنه لم يتابع دراسته وسافر الى السعودية ليعمل في سلك التعليم. غير أنه لم يتمكن من البقاء أكثر من ثلاثة أشهر فيها فجاء الى الكويت ليلتقي ياسر عرفات مجدداً، ويبدآن في تأسيس حركة فتح . وانسحب صلاح خلف (أبو إياد) من الإخوان عام 1955 ليؤسس مجموعة صغيرة باسم «جبهة الكفاح المسلم الثورية» انضمت الى «فتح» في سنة 1959. وكان محمود عباس طالباً في سوريا وأسس هو ومحمود المغربي ومحمد السهلي (مجموعة طلاب فلسطين) التي عملت في سبيل تدريب الفلسطينيين على السلاح في الكليات العسكرية السورية، ونجحت في ذلك . في 13/9/1957، ذهب عباس إلى قطر، وبدأ ببناء تنظيم جديد، كان يضم أبو يوسف النجار وأبو طارق الشرفا، ثم بعد ذلك، جاء سعيد المسحال وكمال عدوان، وعبد الفتاح حمود، ورفيق النتشة. وكان هناك في الكويت أصدقاء لهم من سوريا مثل عبد الله الدنان وعادل عبد الكريم ومنير سويد (كان شيوعياً وترك الحزب)..وكان في الكويت أيضاً أبو جهاد، وأبو عمار، وأبو الأديب... وقد انسجمت مجموعة قطر مع مجموعة فتح في الكويت وقررت الانضمام اليها لتكون فرعها في قطر .. وقد ساعد على الالتقاء أن هؤلاء جميعاً إما كانوا في رابطة الطلاب الفلسطينيين في الخمسينيات، أو في اتحادات الطلبة الفلسطينيين حول العالم.. وقد توزع أعضاء حركة فتح الأوائل من القادمين من صفوف الإخوان على مختلف العواصم العربية. ففي الكويت كان ياسر عرفات وعبد الفتاح حمود وخالد الحسن وعبد الله الدنان ويوسف عميرة وعادل عبد الكريم وكمال عدوان وزهير العلمي وتوفيق شديد ؛ وفي قطر كان محمود عباس ومحمد يوسف النجار ومحمود المغربي؛ وفي السعودية صلاح خلف ووليد أحمد نمر الحسين (أبو علي إياد) وممدوح صيدم ورفيق النتشة؛ وفي الجزائر خليل الوزير ثم منهل شديد؛ وفي غزة سليم الزعنون ورياض الزعنون وأسعد السفطاوي ومعاذ عابد وهاشم الخازندار وحمد العايدي وغالب الوزير وسعيد المزين؛ وفي دمشق محمود الخالدي؛ وفي ليبيا محمود أبو الفخر وكمال السراج (أبو نبيل) . وفي الكويت كان هناك هاني القدومي ، الذي شغل منصب سكرتير أمير الكويت عبد الله السالم الصباح، بما أمكنه استخراج التأشيرات لرفاقه بحكم موقعه. وكان هناك خالد الحسن الذي كان مسؤولاً في حزب التحرير الإسلامي، وكذلك شقيقه الأكبر علي الحسن الذي من زعماء الإخوان المسلمين... كما تم استقطاب الشيخ محمد أبو سردانة وأبو ماهر «محمد غنيم» وحمود فلاحة وآخرين في الأردن. وكذلك جرى ضم الحاج مطلق ومحمد علي الأعرج «أبو الرائد»، وماجد أبو شرار، وعبد العزيز السيد، وسليمان أبو كرش، وغيرهم. وبحسب أبو الأديب فقد غادر عرفات مصر متوجهاً إلى الكويت، حيث عمل مهندساً، والتقى هناك خليل الوزير الذي كان مدرساً فيها، وقد اتفق الرجلان، مع يوسف عميرة، الذي كان من الإخوان المسلمين، على فكرة الكفاح المسلح، والتقى هؤلاء مع شابين من فلسطينيي سوريا وهما عادل عبد الكريم وعبد الله الدنان. وبعدها جرى استقطاب فاروق القدومي وسليم الزعنون وخالد الحسن، وكان هؤلاء هم أول لجنة مركزية لفتح، أي مؤسسي الحركة. بينما عقد أول اجتماع للجنة المركزية الموسعة، وفيها أبو الأديب، عام 1961."وكان الإخوان المسلمون يصبون غضبهم على ثلاثة من أعضاء اللجنة المركزية هم يوسف عميرة، سليم الزعنون، وصلاح خلف، فقد اعتبروا أننا أخذنا معنا مئات من الأشخاص الذين كانوا في حركتهم" . كما تعرض محمد يوسف النجار لمحاكمة إخوانية وصدر بحقه قرار بالفصل من التنظيم . وبحسب أبو مازن فقد تشكلت اللجنة المركزية الأولى من: ياسر عرفات (أبو عمار)، خليل الوزير (أبو جهاد)، عبد الله الدنان (فتحي القاضي)، عادل عبد الكريم (نبيل حمدان)، محمود عباس (أبو مازن)، محمد يوسف النجار (أبو يوسف)، محمود أبو الفخر، محمود الخالدي، حسام الخطيب، محمد الإفرنجي . 7- الرد الإخواني بعد انفراط عقد إخوان غزة وتشكيل حركة فتح عاش إخوان فلسطين حالة تشتت كان عنوانها الأبرز تدخل إخوان مصر في عملية إعادة التنظيم استناداً إلى الفلسطينيين المقيمين خارج غزة وتنظيم طلاب قطاع غزة في جامعات مصر.. فإخوان فلسطين الذين كانوا خارج قطاع غزة ومصر صاروا جزءاً من تنظيمات البلدان التي يعيشون فيها..أما الطلاب فقد كانوا يعودون في العطلات الجامعية إلى القطاع فينخرطون في تنظيم غزة ويساعدونه في عملية التنظيم والبناء.. وفي العام 1960 اتخذ تنظيم مصر قراراً باعادة تشكيل التنظيم الفلسطيني وذلك في اجتماع عام انعقد في القاهرة في العام 1961 وحضره كوادر الإخوان من غزة ومصر وسوريا والأردن ومنطقة الخليج وتقرر فيه ترك الإخوان الفلسطينيين في الأردن ضمن التنظيم الأردني ... وكان الدافع الأساسي لهذا الاجتماع ولإعادة التنظيم هو التهديد الجدي الذي شكلته لهم حركة فتح التي صارت تستهوي قطاعات واسعة من كوادر وقواعد الإخوان كانوا يتركون تنظيمهم ويلتحقون بها ..وكان هذا التهديد مصيرياً إلى حد أن أحد قادة الإخوان يقول إنه "هدد وجودهم تهديداً خطيراً...حيث تعرضوا لضغوط ذات طبيعة مختلفة عما اعتادوه وذلك من أجل إغرائهم بترك تنظيمهم والانخراط في تنظيم جديد... وكان هذا الضغط يلاحق الإخوان الفلسطينيين أينما حلوا، في قطاع غزة وفي مصر والأردن وسوريا والعراق وأقطار الخليج.. وكانت الجهة الضاغطة تعرف عناصر الإخوان وأماكن وجودهم...فكانت تلاحقهم وتتصيدهم وتنصب الشباك لأفرادهم في كل مكان..." والحال أنه في تموز 1957 وزع أبو جهاد وثيقة خطيرة من بضع صفحات كانت باعتقادي هي النص التأسيسي لمعنى حركة فتح كحركة تحرر وطني تقوم على أنقاض تفسخ الاخوان والظباط الأحرار وتطرح في منتصف الخمسينيات تشكيل إطار وطني جامع شامل يستنهض الشعب الفلسطيني ويركز جهوده وقواه صوب فلسطين من خلال مزج خلاق (ندر نظيره) بين الاسلام والوطنية المدنية، بين الأصالة والمعاصرة، بين التنظيم الحركي والتيار الجماهيري، بين العمل السياسي والكفاح المسلح، بين التعددية الفكرية السياسية والمركزية الكفاحية... والوثيقة المذكورة هي عبارة عن مذكرة سرية هي "مشروع سياسي عسكري جديد" موجه أولاً إلى الإخوان المسلمين لنقاشه وتبنيه تنظيمياً... وكان سعيد المزين وغالب الوزير هما صلة وصل أبو جهاد مع الإخوان في القطاع حيث حضر أبو جهاد من مصر ومكث طوال شهور الصيف... ومن بنود المذكرة (على ما روى أبو جهاد وعبدالله أبو عزة) دعوة الإخوان إلى إقامة تنظيم وطني فلسطيني مستقل لا يحمل لوناً إسلامياً في مظهره وشعاراته وإنما يحمل شعار تحرير فلسطين عن طريق الكفاح المسلح وتوحيد كل الجهود على هذا الطريق . وقد دعا أبو جهاد كل شباب فلسطين إلى الانضمام إلى هذا التنظيم الوطني الجديد على أساس الانتماء الفلسطيني الخالص وبمعزل عن آرائهم الإخوانية أو التزاماتهم الحزبية ..كما دعاهم إلى الامتناع عن الدعوة لأية عقيدة أو أيديولوجية حزبية غير عقيدة تحرير فلسطين وأن لا يقفوا مع أو ضد أية حكومة عربية وأن يحرصوا على استقلال حركتهم وعلى قرارهم الوطني الفلسطيني الحر.. وكان واضحاً أن هذا الكلام موجه ايضاً إلى أبناء البعث وحركة القوميين العرب تحديداً وليس فقط إلى الإخوان (رغم أنهم الفريق الأساسي المستهدف هنا) وأن ما جاء في هذه المذكرة التاريخية (التي لم نعثر للأسف على أي أثر لها) هو الخط العام لحركة فتح الذي به اشتهرت ومن خلاله استطاعت كسب الجماهير الفلسطينية... وبحسب أبو عزة فإن المذكرة تضمنت لفتة خاصة إلى وضع الإخوان الفلسطينيين حيث أن أبو جهاد حاول دغدغة مشاعرهم من خلال القول بأن هذا التنظيم الوطني المستقل سيفتح الأبواب بينهم وبين الجماهير بعد سنوات العزلة والتشتت ويفك عنهم الحصار الناصري كما أن الكفاح المسلح سينقل القضية الفلسطينية إلى مستوى لا تستطيع الأنظمة تطويقه. . ويبدو من شهادات إخوانية لاحقة أن المذكرة أحدثت بلبلة في صفوف الإخوان "شغلتهم ما يزيد على الثلاث سنوات إلى أن توصلوا إلى رأي واضح محدد وحاسم حيال تلك الفترة، ولكن بعد أن فقدوا عدداً كبيراً من أنشط عناصرهم" .ويعتقد أبو عزة (عن حق ) بأن مذكرة أبو جهاد لم تكن هي الخطوة الأولى على طريق تاسيس فتح بل سبقتها خطوات أخرى قام بها هو ورفاقه وأن المذكرة هدفت إلى "تقريب الإخوان إلى المدى الذي وصلوا اليه" ..ويذكر كمال عدوان أن حركة فتح ولدت في عام 1958 بحيث أنه لم يمض عام حتى كان قد انضم إليها عدد كبير من إخوان غزة على رأسهم سعيد المزين وغالب الوزير وسليم الزعنون وصلاح خلف وأسعد السفطاوي، وهذان الأخيران كانا يعملان مدرسين في مدرسة خالد ابن الوليد الثانوية في منطقة النصيرات في حين كان الزعنون وكيل نيابة قطاع غزة .. وقد اضطر التنظيم الدولي للإخوان ومركزه مصر أن يعقد الاجتماع الفلسطيني الذي أشرنا إليه وذلك لإعادة لملمة التنظيم الذي فقد أفضل عناصره وكوادره في غزة..وبعد لقاء القاهرة 1961 صاغ إخوان غزة مذكرة سياسية مطولة في حوالي عشرين صفحة فولسكاب ردوا فيها على بيانات وتوجهات حركة فتح ودافعوا عن موقفهم بعد القيام بأي عمل مسلح مبررين ذلك بأنهم إنما يعترضون على الخطة والأسلوب وليس على هدف التحرير.. ورأوا في ما تقوله فتح "تخيلات غير واقعية لن توصل إلى هدف التحرير.. وفتحاً لمعركة من غير أن تكون القوى الأساسية مستعدة لها" .وقالت المذكرة إن الإخوان على استعداد لتجميد نشاطهم الاسلامي والعمل لتحرير فلسطين بشرط اقتناعهم "بدرجة يقينية" بأن الخطة ستؤدي الى التحرير.. وقالوا بأن المشروع سيواجه بعدد من العقبات الكأداء التي لا يمكن تجاوزها من مثل معارضة الحكومات العربية، وعدم جواز المقارنة بالجزائر، ولكن الحجة الأبرز عند الإخوان كانت أن هدف التحرير لا يمكن أن يتم إلا من خلال كل الأمة الإسلامية وليس الشعب الفلطسيني وحده..والحل البديل الذي يطرحه الإخوان هو استمرار الاستعداد الاسلامي "لأن انتصار حركة الاخوان هو الذي سيحرر فلسطين" .. 8- أزمة تنظيم قطر الإخواني لا يمكن فهم تأثير نشوء حركة فتح على الإخوان المسلمين إن اقتصر حديثنا على التأثير في غزة وحدها على الرغم من أهميته المحورية لا بل الحاسمة في تاريخ حركة فتح.. ذلك أن الإخوان المسلمين غير الفلسطينيين في البلاد العربية، وضمن إطار ما كان يُعرف باسم المكتب التنفيذي (1965-1969) وقفوا إلى جانب فتح وضد قيادة إخوان غزة.. وقد عرفت قطر معركة حادة بين التنظيمين وذلك بسبب وضع قطر الخاص بالنسبة للطرفين. ويعود منشأ الوضع الخاص الى فرار كثير من كوادر الإخوان من مصر وغزة إلى قطر بعد العام 1954 واستلامهم مواقع مهمة في التعليم خصوصاً نظراً لحاجة قطر في تلك الأيام للخبرات التي كانت متوفرة عند المصريين والفلسطينيين..وقد أصبح المصري عبد البديع صقر مديراً للمعارف في الدوحة ثم حل محله البعثي السوري المنشق عبدالله عبد الدايم.. ولكن نفوذ الإخوان ظل كبيراً في وزارات ودوائر التربية والتعليم خصوصاً في أيام مدير التربية الإخواني السوري الحلبي الدكتور عبد الرحمن عطبة.. "وحين ظهرت فتح كانت معظم المناصب الرئيسية في دائرة التربية بأيدي الإخوان". وبمناسبة ذكر الشيخ عبد البديع صقر، فقد ذكر الشيخ يوسف القرضاوي في مذكراته على موقعه الخاص أنه عرفه في معتقل الطور سنة 1949م. حيث أنه كان من دعاة الإخوان المعروفين في مصر، وكان على صلة طيبة بالإمام حسن البنَّا، وقد عمل فترة بالمركز العام للإخوان. "وكان الوجيه قاسم درويش في عهد الشيخ علي بن عبد الله (الحاكم السابق لقطر) هو المسؤول عن المعارف قبل الشيخ قاسم بن حمد، وكان له صلة بالعلامة السيد محب الدين الخطيب صاحب مجلتي (الفتح) و(الزهراء). فأرسل إليه يطلب منه ترشيح شخصية إسلامية قوية تتولى إدارة المعارف. فرشّح له في أول الأمر: الكاتب الإسلامي الصاعد محمد فتحي عثمان، ولكن ظروفًا خاصة حالت دون استجابة الأستاذ فتحي، فطلب من الإخوان أن يرشحوا له شخصا للقيام بالمهمة المطلوبة فرشحوا له الأستاذ عبد البديع. وسافر الشيخ عبد البديع إلى قطر مبكرًا سنة 1954، وعُيِّن مديرًا للمعارف مع الشيخ قاسم بن درويش. وقد انضم إلى عبد البديع بعد ذلك عدد من الإخوان الذين فروا من حملة عبد الناصر بمصر، فمنهم من ذهب إلى دمشق، ومنهم من ذهب إلى السودان، وغيرها. ومن هذه البلاد جاءوا إلى قطر. كان ممن جاءوا من دمشق: عز الدين إبراهيم ، وحسن المعايرجي، ومحمد الشافعي، وعبد اللطيف مكي؛ وممن جاءوا من السودان: كمال ناجي، وعلي شحاتة، ومصطفى جبر. وقد تعاقد الشيخ عبد البديع مع عدد من أبناء فلسطين، معظمهم من الإسلاميين الذين أصبح لهم شأن ومكان فيما بعد، منهم: رفيق شاكر النتشة، الذي عمل مديرًا لمكتب وزير المعارف الشيخ قاسم بن حمد، وكان له سطوته ونفوذه. ومنهم: محمد يوسف النجار، الذي عمل أيضًا في مكتب الوزير، وكان له أثره في حركة فتح وتأسيسها فيما بعد؛ ومنهم: أحمد رجب عبد المجيد، وغيرهم وغيرهم" . وعند قيام فتح "كان الإخوان المصريون يعتبرونها حركة إخوانية استناداً إلى مشاركة ياسر عرفات لهم في حرب العصابات التي شنوها ضد القوات البريطانية في منطقة قناة السويس سنة 1951 وإلى أن معظم قيادييها وكثيرين من أفرادها كانوا من الإخوان..ولم يستطع الإخوان المصريون أن يستوعبوا المبررات التي أملت على التنظيم الفلسطيني موقفه منها" ...ويبدو أن "صراعاً حاداً نشب في نطاق الإخوان العاملين في التربية من أجل السيطرة والاستئثار بمناصب القوى فطارت من وقع صدام المعركة بعض العناصر الإخوانية البارزة...بينما اختارت عناصر أخرى الاستقالة والهرب من البلاد" ...ومن كيفية ذكر أبو عزة لموضوع هذا الصراع يبدو أن الإخوان الفلسطينيين الفتحاويين لعبوا دوراً فيه وتطرفوا في العداء للإخوان غير الفتحاويين بمقابل تطرف الإخوان الغزاويين في عدائهم لفتح في قطر.. كما يبدو أن الكثيرين من الإخوان المصريين والعرب وقفوا مع فتح وضد إخوان غزة.. وقد انتهت المعركة بقرار فصل أبو يوسف النجار الذي اتخذه الاجتماع العام لأول مجلس شورى للإخوان في قطاع غزة صيف 1961 حيث يظهر واضحاً أن النجار (ولعل غيره أيضاً) ظل عضواً في الإخوان رغم كونه قيادياً في فتح حتى صيف العام 1961... في ذلك اليوم كانت فتح قد اكتمل نموها وصلب عودها ولم يعد ينفع معها التوتير والصدام.. 9- التعاون الإخواني الفتحاوي 1965-1970 من الغريب أن لا يذكر أي قيادي فتحاوي أية معلومات عن مرحلة انتمائهم الإخواني الأولي ولا عن مرحلة التعاون مع الإخوان بعد الإنطلاقة..ويفعل الإخوان نفس الشيء إذ يتجاهلون هذا التاريخ وكأنه لم يكن.. وباستثناء عبدالله أبو عزة لم يتطرق أي إخواني فلسطيني أو فتحاوي إلى تلك العلاقات الملتبسة بين الطرفين.. فكأنها كانت هي الإثم الكنعاني!! ولكننا نعرف، من مصادر متعددة، بأن الإخوان في مصر والكويت (وبعض قادة إخوان الأردن من الفلسطينيين) كانوا يتعاطفون مع حركة فتح ويتعاملون معها باعتبارها إخوانية؛ في حين كانت علاقة إخوان غزة بفتح يسودها التوتر والصراع الحاد.. ومن أبرز الأسماء الإخوانية التي تعاونت مع فتح نذكر عبدالله العلي المطوع من الكويت، والدكتور عز الدين ابراهيم والدكتور توفيق الشاوي من مصر ، وعصام العطار وعمر بهاء الدين الأميري من سوريا، والشهيد محمد خيضر . ويبدو أنه كان للإخوان دور في بناء الصلة بين ثورة الجزائر وحركة فتح.. وكان محمد خيضر هو أول من بنى هذه الصلة حين كان في مصر وكان صديقاً لجمال عرفات (شقيق أبو عمار) الذي كان من الإخوان هو أيضاً وعضواً في جمعية دينية مصرية يرأسها الشيخ عبداللطيف دراز صهر الشيخ الباقوري.. وقد التقى محمد خيضر يرافقه توفيق الشاوي بوفد من قيادة حركة فتح في الكويت في نهاية عام 1962 . وكان أبو جهاد حاضراً هذا اللقاء يرافقه كمال عدوان وخالد الحسن وعلي الحسن .. ومنذ تلك اللحظة تقرر أن يتولى أبو جهاد العلاقة بالجزائر من خلال محمد خيضر الذي صار من أشد المقربين إلى حركة فتح..ومن هنا مصدر الشائعات التي سرت بعد إغتيال خيضر حول صندوق أموال جبهة التحرير الذي كان بحوزته في المنفى والذي كان يرفض تسليمه للحكومة الجزائرية، وقيل يومها إنه أعطاه لحركة فتح.. حتى أن توفيق الشاوي يعتقد بأن هذا الأمر كان سبب إغتيال خيضر .. في خريف 1965 قام الإخوان بإعادة إحياء المكتب التنفيذي وذلك مع تصاعد الحملة المصرية عليهم وإعادة اعتقال سيد قطب (أعدم في آب 1966).. وهكذا انعقد أول اجتماع للمكتب التنفيذي للإخوان في بيروت وضم مندوبين عن معظم فروع الإخوان في العالم العربي (لم يحضره فرع غزة) وقد بحث هذا الاجتماع موضوع التعاون مع حركة فتح ما أثار ثائرة إخوان غزة وقسم من إخوان الأردن الفلسطينيين الذين كانوا يتندرون في مجالسهم على انطلاقة فتح والكفاح المسلح (وصل بهم الأمر إلى حد القول بأن قادة فتح يستأجرون بعض المهربين ليطلقوا بضع طلقات على الحدود ويصدرون بها بيانات عسكرية) ..وبسبب موقف إخوان غزة المعارض بحدة للتعاون مع فتح طوي الموضوع حتى كانت نكسة حزيران 1967.. إلا أن طي الموضوع في المكتب التنفيذي لم يمنع قادة الإخوان الرئيسيين فيه وخصوصاً توفيق الشاوي وعز الدين ابراهيم وعصام العطار من استمرار اللقاء والتعاون مع قيادة فتح.. ويروي عبد الله أبو عزة أنه كان أحياناً يصادف خليل الوزير خارجاً من منزل عصام العطار في رأس بيروت .كما يروي عزالدين ابراهيم وتوفيق الشاوي أنهما استمرا في الاتصال بقيادة فتح والتنسيق معها والدعاية لها خصوصاً في دول الخليج العربي وبين قيادات المغرب العربي . وكانت الثورة قد دخلت مرحلة بناء القواعد تحت الإحتلال لإعلان المقاومة المسلحة وتأجيج المقاومة المدنية الشعبية التي شهدت تصاعداً كبيراً خلال عامي 1967 و1968..وبعد أن أرسيت الدعائم الأولى لهذا الإتجاه كان من الضروري للثورة أن تعمل باتجاه مواز خارج الأرض المحتلة "لتنتقل من قاعدة الحماية في سوريا إلى قاعدة الإرتكاز في الضفة الشرقية- الأردن حيث المناعة الطبيعية والجماهير المؤيدة لنا وقوانا المسلحة الكافية للدفاع والمواجهة" . وباعتقادي أن ما عجّل في إتخاذ قرار الانتقال من الإعتماد على سوريا وبناء قوة قي الأردن هو التطورات الدراماتيكية في الصراع على السلطة في سوريا بعد حرب حزيران وخصوصاً بعد ضرب جناح الجنرال سويداني القريب من فتح..وهكذا وجدت فتح نفسها في الأردن أسيرة وضع معقّد مركّب لا تملك السيطرة عليه بعكس ما توقعت أو أملت.. وجاءت معركة الكرامة الخالدة (21 آذار 1968) لتجعل من فتح مارداً جماهيرياً ولتتدفق عليها أمواج المتطوعين من كل مكان.. وانتعشت بقية التنظيمات أيضاً وبعضها أطلق كفاحه المسلح الخاص..وقد نجحت فتح ، وبدعم مصري-سوري في السيطرة على منظمة التحرير الفلسطينية (1969) ولتنتقل إلى مستوى أعلى من التحشيد والمواجهة على إمتداد الحدود الأردنية مع فلسطين.. وقد واجهت فتح أول هجوم "أردني" على قواعد الإرتكاز في مخيم الكرامة في 10 شباط 1968، ثم في 4 تشرين الثاني في عمان..ثم تكررت الصدامات طوال عامي 1969-1970 وصولاً إلى صدام حزيران/يونيو 1970 الذي مهّد لحرب أيلول السبعين.. حدث ذلك بفعل إنشقاق الساحة العربية والأردنية-الفلسطينية من حول عبد الناصر (وليس الملك حسين) بفعل مشروع روجرز الذي وافق عليه عبد الناصر تكتيكياً من أجل إعادة بناء قواته التي دمرها عدوان حزيران 67.. انقلبت موازين القوى التي راهنت فتح عليها (وبعضها كان يرتبط بالظباط الأحرار والناصريين داخل الجيش الأردني، وبعضها الآخر بالدعم السوري والعراقي) واختلت حالة التوازن التي حكمت العلاقة بين الثورة الفلسطينية والنظام الأردني.. فكان لا بد من مراجعة الحسابات ووضع خطة بديلة وتحديد أهداف مباشرة..وكل ذلك كان يحتاج إلى وقت وإلى وحدة موقف لعادة ترتيب الأمور..لكن النظام الأردني اندفع في تفجير الحرب مدعوماً بموقف غلاة اليسار الذين رفعوا شعارات إسقاط النظام وانتقال "كل السلطة لسوفياتات العمال والفلاحين والجنود الثوريين" (شعار للجبهة الديمقراطية) وتحويل عمان إلى هانوي العرب (مطار الجبهة الشعبية).. وفاة الرئيس عبد الناصر (28 أيلول 1970)، وانقلاب الرئيس حافظ الاسد (بدأ في أيلول وانتهى يوم 16 تشرين الثاني 1970)، وانسحاب القوات العراقية المفاجىء، والموقف السوفياتي المتفرج والشامت، كل ذلك "حال دون إستثمار أي عامل زمني وجعل المبارزة تتم ضمن ظروف ومعادلة قوى ما بعد مشروع روجرز" ... وباعتقادي فإن السوفيات وسوريا والعراق لم يريدوا تغيير المعادلة في الأردن المحسوب كموقع أميركي-بريطاني أساسي؛ في حين أن موقفهم تغّير في لبنان الساحة المفتوحة!! وهكذا خرجت فتح والثورة مهزومة من الأردن بعد معارك جرش وعجلون (تموز 1971) .. فتح والإخوان بعد حرب حزيران أدت نكسة حزيران وتصاعد العمل الفدائي بقيادة فتح إلى إهتمام أخواني ملحوظ بحيث أن موضوع العمل الفدائي صار الشغل الشاغل لاجتماعات المكتب التنفيذي للإخوان في البلاد العربية ولمؤتمر قادة الإخوان في البلاد العربية. ودارت نقاشات حادة في هذه اللقاءات حول ضرورة قيام وجود عسكري للإخوان وإقامة معسكرات تدريب في الأردن ومباشرة العمل الفدائي..وقد حمل لواء هذه الدعوة إخوان مصر والسودان والكويت والأردن في حين عارضها بشدة إخوان غزة ووقف إخوان لبنان وسوريا والعراق موقفاً متردداً..وقد قام إخوان الأردن وبمعاونة إخوان مصر والسودان والكويت، وبمشاركة رمزية من إخوان العراق وسوريا ولبنان، بانشاء معسكر تدريب تحت حماية حركة فتح في الأردن، بل أنه كان يحمل اسم فتح بصراحة... تلا ذلك تصاعد الخلاف مع إخوان غزة ما أدى إلى اجتماع استثنائي للمكتب التنفيذي (أوائل خريف 1967 وكانت فتح قد أعلنت الانطلاقة الثانية في آب 67) وقف فيه المندوب الفلسطيني وحيداً في وجه بقية المندوبين الذين شددوا على دعم القاعدة العسكرية والتعاون مع فتح..وقد قاد موقف إخوان الأردن الدكتور إسحق الفرحان الذي صار قائداً للمعسكر الذي أقيم في غور الأردن (وحمل إسم معسكر الشيوخ).. وبعد انتهاء التدريبات كان للإخوان 3 سرايا مقاتلة موزعة على أربعة قواعد تحت مسمى قواعد الشيوخ. وكان عبدالله عزام أميراً لقاعدة منها حملت اسم بيت المقدس في مرو .. وقد ساهمت قواعد الشيوخ بعدة عمليات عسكرية أشهرها عملية الحزام الأخضر التي قادها عبدالله عزام والى جانبه أبو مصعب السوري الذي أصيب إصابات بالغة ..ويبدو أن مروان حديد كان أيضاً ضمن نفس المجموعة ... وبعد سنتين على قيام المعسكر حصلت أحداث أيلول التي أدت إلى هزيمة المقاومة الفلسطينية وفقدانها لقواعدها في الأردن. وقد قررت قيادة الإخوان في الأردن وفلسطين النأي بالنفس عن تلك الحرب بين الأخوة ؛ لا بل أن إسحق الفرحان زعيم تيار الصقور الداعين للمقاومة المسلحة والارتباط بفتح وقائد معسكر الشيوخ، وافق على المشاركة في الحكومة التي شكلها الملك الأرردني إبان حرب أيلول تلك ... ومع هذه المشاركة انتهت تجربة قاعدة الإخوان الفتحاوية التي قدم الإخوان فيها عدداً من الشهداء (معلومات الإخوان تقول إنهم 13) نذكر منهم صلاح حسن من مصر ومحمد سعيد باعباد من اليمن ومهدي الإدلبي ونصر عيسى وزهير قشيشو من حماه، ورضوان بلعة من دمشق، ورضوان كريشان من معان الأردن، ومحمود البرقاوي وأبو الحسن ابراهيم الغزي من فلسطين .. وهكذا انتقلت العلاقة بين فتح والإخوان إلى الحيز السياسي من جديد من خلال التنسيق مع المكتب التنفيذي بالتحديد، فاستمر دعم إخوان العالم العربي لفتح واستمر عداء إخوان غزة لها... خاتمة: محاولة تقييم هدفت حركة فتح بانطلاقتها التنظيمية إلى "تحريك الوجود الفلسطيني وبعث الشخصية الفلسطينية محلياً ودولياً من خلال المقاتل الفلسطيني الصلب العنيد القادر على تحطيم أسطورة المناعة الإسرائيلية" ... وهي كانت ضد الحزبية بمفهوم التعصب الحزبي على حساب الولاء لفلسطين.. فجعلت الولاء لفلسطين فوق كل الخلافات العربية وفوق كل الصراعات الحزبية..وكان شعارها أن فلسطين هي طريق الوحدة العربية في حين كان الشعار السائد في ذلك الوقت أن الوحدة هي السبيل لتحرير فلسطين ... ثم جاء إنفصال الوحدة بين مصر وسوريا (28 أيلول 1961) ثم انتصار الثورة الجزائرية (5 تموز 1962) ليصبا في صالح الموقف الفتحاوي "الفلسطيني" القائم على الإعتماد على الذات أولاً وعلى تجميع وحشد كل الطاقات في سبيل التحرير ثانياً.. ومن هنا جاءت المادة 2 من مبادىء النظام الأساسي لحركة فتح تقول إن "الشعب الفلسطيني هو صاحب الحق الطبيعي والشرعي في فلسطين وهو ذو شخصية مستقلة ويملك وحده حق تقرير مصيره واستلام زمام قضيته دون وصاية أو تبعية أو توجيه ، وله السيادة المطلقة على جميع أراضيه".. وفي المادة 10 إن "حركة فتح حركة وطنية ثورية مستقلة وهي تمثل الطليعة الثورية للشعب الفلسطيني".. وفي المادتين 26 و27 : "عدم الزج بالقضية الفلسطينية في الخلافات العربية والدولية واعتبار القضية فوق أي خلاف".."حركة فتح لا تتدخل في الشؤون المحلية للدول العربية ولا تسمح لأحد بالتدخل في شؤونها." .. كما أن فتح أطلقت في البلاد العربية شعار الحرب الشعبية الطويلة الأمد على اعتبار أنه ليس السلاح هو العامل الحاسم، بل أن العامل الحاسم هو السياسة التي توجه السلاح والفكر الذي يقود الثورة... لقد شكلت انطلاقة فتح على أسس مغايرة تماماً لأسس الاخوان والتيار الديني كما القومي والشيوعي، في منتصف القرن العشرين، حالة جديدة من نوعها في الوسط السياسي والحزبي العربي. ذلك أن فتح، امتلكت تلك القدرة الغريبة على تغليب الموقف الوطني على أي اعتبار أيديولوجي أو ديني أو مذهبي أو عشائري، وعلى توحيد كل طاقات الشعب الفلسطيني، صوب الهدف المركزي أي تحرير فلسطين... وأسست فتح لحركة وطنية فلسطينية تحررية تميزت بنوعية من القادة والكوادر كرسوا حياتهم من أجل الثورة والشعب الى حدود التفاني ونكران الذات وعدم الاهتمام بالمصالح الشخصية والمكاسب الذاتية... وتميزوا بالجرأة على النضال ضد الأخطاء والنواقص وضد الذات قبل الآخرين، وبإنماء روحية تقويم العمل والتجارب والتشجيع على روح النقد بأخوية (قانون المحبة الفتحاوي) ونزاهة وحرية... ولم يكن قرار البدء بالعمل المسلح تحت إسم قوات العاصفة قراراً سهلاً في ظل ظروف عربية ودولية معادية.. ويبدو أن ما عجل في اتخاذ القرار ليس مشروع تحويل نهر الأردن كما قيل ويقال... فلعل المشروع الإسرائيلي كان حافزاً لعقد القمة العربية وإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية..أما من جانب فتح فإن العلاقة مع الصين وفيتنام من جهة، ومع الجزائر الحديثة الإستقلال من جهة ثانية، سمحت ليس فقط بإنشاء مكاتب والبدء بالتدريب والحشد والتسليح، وإنما كان لها دور كبير في تبلور الخيار الوطني الحركي التحرري المستقل الذي شكل قطيعة كاملة مع حركة الاخوان المسلمين.. وجاء التورط المصري في اليمن والصراع المصري-السعودي من جهة، ودخول سوريا حقبة حكم البعث وإنقلاباته ومزايداته من جهة أخرى، ليطرحا على فتح ضرورة المبادرة والتحرك لإطلاق المارد الفلسطيني من قمقمه.. وقد قوبلت حركة فتح بحملات تشكيك واتهام من قبل الأنظمة العربية (سوريا بالأخص) ومن الأحزاب القائمة (الشيوعيون والقوميون العرب والبعثيون وقد رأوا في فتح منافساً وغريماً قد يكتسح قواعدهم الفلسطينية وهي أهم وأشرس قواعد حزبية عربية)..أما القوميون السوريون الذين انتهوا في سوريا منذ اغتيال عدنان المالكي، وكانوا يقبعون في السجون اللبنانية بعد محاولة الإنقلاب الفاشلة على الرئيس شهاب؛ فقد كانت فتح نافذة أمل لتجديد شبابهم. هذا في حين لم يغفر "الإخوان المسلمون" لقادة فتح خروجهم عليهم في غزة، ولا مبادرتهم إلى حمل راية فلسطين التي كان من المفترض أن يحملها الإخوان.. منذ البداية ووجهت فتح بحملات مطاردة واعتقال واغتيال ما بين الأردن وسوريا، وحتى لبنان (الشهيد جلال كعوش).. كما شهدت الساحة الفلسطينية إغراقاً بالتنظيمات التي تصدر البلاغات العسكرية عن عمليات وهمية وذلك بقصد سرقة الوهج والمبادرة من فتح...وابتدأت حركة القوميين العرب تلملم كوادرها وقواعدها (ما بين فلسطين والأردن والمخيمات) الذين كانت أنهكتهم وشردتهم المطاردات، ولكن أيضاً المناظرات والإنشقاقات..لكن حركة فتح رفعت يومها شعار "اللقاء فوق أرض المعركة" ؛ لا بل أنها دخلت في عمليات إندماج مع جبهة التحرير الفلسطينية ومع حزب البعث السوري، لتخرج منها، بعد محاولات إنقلاب عليها وتصفية لقادتها، أكثر تصميماً على حفظ إستقلالية القرار الوطني الفلسطيني والمبادرة الثورية الكفاحية..وانتهى الفصل الأول من هذه المرحلة بنكسة الخامس من حزيران 1967.. وقد كانت حركة فتح أسرع القوى في تجميع صفوفها لأنها لم تكن أسيرة الإرتباط بالأنظمة المهزومة في الحرب أو بالمعادلات الدولية والإقليمية القائمة..ولذا فقد كانت فتح الوحيدة التي لم تصبها النكسة بإرتباك أو بإنهيار (كما حدث للقوميين العرب والبعثيين والشيوعيين)..لا بل أن حركة فتح رأت في النكسة فرصة ممتازة للعمل الفلسطيني المستقل ، وقد "اختفت قدرة القمع العربية ونشأ واقع جديد وعادت القضية إلى صورتها الحقيقية: صراع فلسطيني-إسرائيلي" ..كما أن كوادر فتح الموجودين في سوريا كانوا قد شاركوا في القتال في الجولان، بقيادة عرفات والوزير، وانضم إليهم عشرات ومئات قدموا من دول الخليج بقيادة صلاح خلف ومحمود عباس..وفي دمشق عقدت قيادة فتح إجتماعها التاريخي في 12 و13 حزيران والذي طرح فيه أبو عمار وأبو جهاد "الإنتقال إلى الأرض المحتلة وإعادة تاسيس الكفاح المسلح".وقد طرح كوادر وقادة فتح في الأردن نفس الموقف (بقيادة أبو ماهر عبد الفتاح غنيم).. وهكذا سارع أبو عمار إلى الإنتقال إلى الضفة الغربية (منطقة القدس ثم الخليل) ليعيد تنظيم الشباب وربطهم بالقيادة وتأمين لوجستيات العمل المسلح..وبعد عودته إنعقد مؤتمر فتح التاريخي في منزل خليل الوزير في دمشق أوائل تموز وكانت مصر قد قررت إعادة بدء القتال على إمتداد قناة السويس.. فرأى قادة فتح أن الفرصة سانحة للدعوة لبقاء الناس في أرضهم وللإعداد للمقاومة الفلسطينية المسلحة.. وبعد زيارات متكررة قام بها عرفات إلى داخل الأرض المحتلة وإلى الأردن وسوريا ولبنان قررت القيادة "رفع وتيرة التدريب والتسليح وإرسال موجات الثقة والأمل إلى الداخل والبدء بإنشاء قواعد إرتكاز أمنية في الأرض المحتلة والإنتقال لاحقاً إلى حرب تحرير شعبية" .. ومطلع آب عاد عرفات إلى الضفة على رأس 30 مقاتلاً وأنشأ مركز قيادته في نابلس لُيعلن الإنطلاقة الثانية للكفاح الفلسطيني المسلح في28 آب 1967.. ومن عام 1967 حتى العام 1987 كانت حركة فتح تبلور الخط الوطني التحرري للصراع مع العدو الصهيوني ولتحقيق الاستقلال الفلسطيني المنشود... ولم يستطع الإخوان العودة إلى طريق فلسطين قبل أواخر العام 1987 وتشكيل حركة حماس بعد أن كان تنظيم الجهاد الإسلامي (الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي) سبقهم في إطلاق المقاومة الإسلامية في العام 1980 .. والحال فإن ما أردنا قوله في هذه المقالة هو أن العلاقة بين حركتي فتح وحماس تحمل إرثاً تاريخياً-نفسياً لم يستطع الجيل الأول من مؤسسي حماس التخلص منه... إلا أنها تحمل أيضاً إرثاً سياسياً-نظرياً صار من الضروري اليوم العودة الى إطلاقه والحوار حوله... إن فتح، وعلى الرغم مما كان يعتريها من نواقص من الناحية التنظيمية الداخلية أو من الناحية المسلكية بالنسبة الى البعض، أو من ناحية العقلية والتركيبة العشائرية، إلا أنها كانت أفضل انجاز ثوري تحرري عربي، وأفضل انجاز وطني استقلالي فلسطيني، في القرن العشرين...ولم تكن فتح لقادرة على تحقيق ما حققته للشعب الفلسطيني لولا تمتعها بشيئ مميز يشكل قطيعة تاريخية مع تراث الاخوان وأحزاب البعث والشيوعي من الأساس... ففتح هي التي صنعت انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة وهي التي أعادت المبادرة للكفاح المسلح والمقاومة بعد نكسة حزيران 67، وهي التي أخذت قرار الصمود والمواجهة في الكرامة 68، وهي التي حمت استمرارية البنادق وخط الكفاح المسلح ووقفت في مقدمة الصدامات ضد العدو الصهيوني.. وفتح هي التي جمعت في صفوفها الحشد الأكبر من الكفاءات والقدرات الثورية والانسانية ، وهي التي قدمت أكبر التضحيات في الأرض المحتلة كما على خطوط التماس في الأردن ولبنان...والشيء المميز وسر نجاحات فتح هو تلك التعددية التي لم يسبق أن عرفت أية تجربة ثورية عالمية مثيلاً لها... ونحن نتكلم عن منتصف القرن العشرين أي قبل نصف قرن على بروز موضوعات التعددية والرأي الآخر في الفكر السياسي العالمي... لقد كانت فتح تتقدم في قيادتها للشعب الفلسطيني وفقاً لقانون المحصلة: أي خروج محصلة عامة من خلال تصارع عدة آراء واتجاهات في داخلها ومن خارجها.. ففتح لم تعمل ضمن خط الانتظام الصارم المركزي الفوقي على غرار الأحزاب الشيوعية والبعث والاخوان... تقدمت فتح من خلال الاجتهادات المتعددة وأحياناً المتضاربة في الأيديولوجية والسياسة والممارسة ومن خلال التنوع المشهود من جهة الأصول التي جاءت منها قياداتها وكوادرها وقواعدها.. فهي كانت تعكس في داخلها كل الوضع العربي الرسمي والشعبي، والوضع الفلسطيني بمختلف تياراته... فهي كانت حالة مركبة معقدة... كما أن قيادة فتح اتسمت بروح عجيبة في احتمال النقد والتجريح والتهجمات التي كانت تصل الى حدود من القسوة والعدائية لا يمكن احتمالها... وكان هناك دائماً في فتح وحدة على مستوى القيادة الأساسية ولا سيما في مواجهة التحديات الكبرى، وكان هناك قدرة لعودة المياه الى مجاريها كأن شيئاً لم يكن ودون أن يمنع ذلك أو يلغي العودة المستمرة لتفجر الخلافات والتناقضات والاتهامات...وهذا ما دفع بالكثيرين الى اعتبار أن ما يحصل هو من قبيل توزيع الأدوار بينما هو في الواقع تعبير عن تلك التركيبة الداخلية الفتحاوية ابتداء من مستوى القيادة، والتي لا تقوم على أساس المركزية والطوطمية الحزبية، بل تسمح بتعدد وجهات النظر ونزولها الى الكوادر والقواعد وخروجها الى العلن وتشجيع المبادرات على اختلافها.. إن الذي سمح بمثل هذا النمط من العلاقات الداخلية هو طبيعة العلاقة بين أفراد القيادة أولاً، ثم منهج قيادة فتح في احتواء كل التناقضات والاتجاهات بداخلها، ومنهجها في مراعاة الضغوط والمحاور العربية والدولية، الأمر الذي كان يفترض التسامح الى حد ما بالاختراقات لكن ضمن حدود... فما ميّز فتح بالنسبة لجيلنا العربي أمر أساسي ألا وهو الخط السياسي الصحيح المتماسك والمتمحور حول قضية التحرير والاستقلال والعودة ، والتحليل الصحيح للوضع العام ولميزان القوى، المحلي والاقليمي والدولي، وعند كل مرحلة ومنعطف، مع خط فكري صحيح هو خط مرحلة التحرر الوطني الديموقراطي وحرب الشعب الطويلة الأمد، وهو خط أصيل وتاريخي، ينسجم مع واقع وتطلعات الشعب الفلسطيني كما الشعوب العربية في المزاوجة بين الأصالة والحداثة، وفي التوفيق بين القديم والجديد، وفي الاطلالة على روح العصر ومتغيراته، مع التمسك بموقف مبدئي يحمل أكبر درجة من الثبات... وقد حافظت فتح في بداياتها على معنى ثوري عميق وهو أن المبادئ ليست شيئاً مؤجلاً، كما أن الاستراتيجية ليست مسألة بعيدة قائمة بذاتها لا علاقة لها بالتكتيك اليومي...فاستحقت عن جدارة شرف قيادة حركة التحرر الوطني الفلسطيني... إن هذه الأفكار والمنهجيات هي ما نحتاج اليوم الى الحوار حوله والى استعادته وتطويره وذلك من أجل نهضة جديدة للشعب الفلسطيني وثورته وحركته الوطنية التحررية....