الصفحات

السبت، 29 سبتمبر 2018


أو كهزيع من الليل عن عزالدين قلق بقلم إلياس خوري دمشق. ساحة الجبّة. طرقنا الباب. أضيء المدخل الخارجي ثم فتحت لنا فتاة تلبس فستانا أسودا. تفضلوا. هبطنا الدرج ببطء. هذه هي شقيقته قال إيليا، غريب لم تعرفني. دخلنا الصالة وقف رجل في حوالي السبعين من العمر. فتاتان، وامرأة تلبس ملاءة بيضاء، والصـور تملأ الحيطان. لم أقل شيئا. صافحت الأيدي التي امتدت وتمتمت. جلس إيليا وجلست إلى جانبه. جاءت القهوة المرة. شربت فنجاني . الله يرحمه قال إيليا. لم يجب أحد. فتحت المغلف الكبير وأعطيت الأوراق لشقيقته. ــ جاءت ليلى من باريس وهي تسلم عليكم شكرا قالت الأخت وابتسمت. ــ هذه الأوراق هي الأرشيف الصحفي عن اغتيال الشهيد. شكرا قالت الأخت وبدأت الأوراق بين يديها. ماهذا؟ قالت ونظرتْ إليّ. نَظرتْ إلى الصحيفة الفرنسية حـيث كانت صورته مرسومة بالكاريكاتير والرصاص يلفها من كل جـانب. في أسفل الصورة رجلان، كل يركض في اتجاه وقد حمل لوحة كتب عليها اسم فلسطين. “إعلام غربي” ــ قال إيليا. لابأس ــ قال الأب دون أن ينظر إلى الصورة أو إلينا . كان يجلس في طرف الصالة. ينظر إلى الأرض ويفرك عينيه بيديه . قلت له إننا نعتذر لأننا وصلنا متأخرين . قال إيليا لامؤاخذة ، فقد أضعت البيت هذه المرة. نظرت الأخت، تذكرتك ــ قالت. لقد جئتَ منذ خمس سنوات ونمت هنا في بيتنا. ملصقات الشهيد تملأ المكان. لقد أخطأوا قال الأب. إنهم يخطئون دائما. فهو ليس من مواليد الطنطورة، إنه من مواليد حيفا. أمه من الطنطورة، لكن نحن من حيفا. أنا من حيفا أيضا، قال إيليا. من أين؟ قال الأب. ــ وادي النسناس ـــ إبن من أنت؟ ــ ابن وديع البحري ــ وديع البحري. قام الأب. وقف إيليا وتعانقا -إنه صديقي- مات قال إيليا. كلنا سنموت ، كلنا على هذا الطريق ، قال الأب وجلس . وقفت. صوت المروحة الكهربائية يكسر الصمت. مشيت، تبعتني الأخت توقفنا طويلا أمام الملصقات الملونة، التي تملأ حيطان البيت. ثمّ توقفت أمام الملصق غير الملون، إنه من غيــر ألـوان، ينظر كما نظر عندما التقينا في باريس. كان قد عاد من زيارة لبيروت بعد أن عُيـّن ممثلا للمنظمة في فرنسا. كان يبتسم دائما تلك الابتسامة الغامضة، التي هي أكثر من ابتسامة وأقل من ضحكة.عينه اليمنى نصف مغمضة والعين اليسرى عادية، والضحكة غيـر متناسقة على الجانبين. ربطة العنق والانحناءة الخفيفة. تحتار ولاتفهم، هل يضحك لك أم يسخر منك . وهاهو أمامي ، بضحكته الخـاصة وإغماضة عيـنه . قالت الأخت أنه كان يرسم عندما كان صغيرا ً ، في الخامسة عشرة أو أقل . أرتني لوحـة رسمها ، إنــها نسخة من منحوتة رودان المفكر ، حيث يجلس الرجل ممسكا ذقنه بيده اليمنى . وفي أسفل الصورة كتـابـة بخط اليد : الإنسان ذلك المجهول . وتوقيع عز الدين القلق . عدت إلى الصالة ، كان إيليا يجـلس إلى جـانب الأب دون أن يتكـلما ، وأمامهمـا كوبـان من الشــاي حـاولت أن أكلمه . تنحنحت . قلـت ياعـم. قال شاي، قلت شكرا ً. سأل إيليا عن ظروف وفاة والده . تكـلم إيليا . قلت ياعم. لقد عادت قال . نظرت إلى المرأة التي تلبس ملاءة بيضاء . كانت تقف إلى جانب ، ثــــمّ جلست وتكلـمت . كـان صوتها يخرج بطيئا ومتلعثما ، ثم يرتفع وتتكلـم عن كـل شيء ، تضحـك فنضحـك .تبكي فنصمت في وجوم ، ننظر إلى الأرض أو إلى أيدينا ثم يعود صوتها إلى الارتفاع . هذه هي المرأة الفلسطينية قال إيليا . كانت المرأة التي تلبس الملاءة البيضاء تفرش صوتها على الأرض وتضحـك أو تبـكي . قالـت أنتـم أصدقاؤه ، قلنا نعم . قالت حدثوني عنه. فأنا منذ سافر لا أراه. يأتي قليلا ويقول لي جـاء دوري هذه المرة، وأن عليّ أن أتماسك لأني أمه، وأنه لايخاف. كنت أبتسم له وألاطفه. لكني لم أصدّق. كل هذه السنوات تذهب هدرا. هذا ليس هو . لماذا ملأوا البيت بالصور والملصقات والشعارات . هو يختلف عن الصورة . كانت السيارة تسرع بنا بعد أن قطعنا الحدود اللبنانية باتجاه دمشق ، أنا أحاول النوم ، وإيليا يتكلم دون توقـف . ثم ّ فجأة مدّ يده من نافذة السيارة وقال : هذا هو المعسكر ، هل تعرف معسكر الهامة؟ قلت إني لاأعرفه . وحاولت العودة إلى النوم . هنا كان منزل أبوعلي إياد . هل زرته ؟ قلت لا . أبوعلي إياد يحـمل عصـاه ، لم يعد أحد يذكر هذا الرجـل دون أن يذكر عصاه . كنا في البدايـــة . الجميع يريـــد أن يصبح فدائيا ً ، وحتى تصير فدائيا ً عليك أن تمر في معسكر التـدريـب الذي يشرف عليه أبوعلــي إيـاد ،عليـك أن تتعرف إلى عصاه . قال إيليا أنه تدرب هنا وأنه لايستطيع أن ينسى هذه التجربة . سألته عن أبوعلي فحدثني عن صورته . قال إن صورته التي علقت في جميع المكاتب تبعث فيه شعور البداية الدائمة . ــولكن كيف استشهد ؟ لاأعرف أجـابني . الحقيقة أنني ذهبت يومهــا إلى دمشق ، ومنهــا إلى الحـدود السورية الأردنية . كنـّا مئات مــن الشباب الذين تجمعوا من أجل المشاركة في معارك الأحراش . لكن لم يُسمح لنا . لاأعرف لماذا .لم يقدم أي تفسير . نقف في الطوابير استعدادا ً للتقدم واجتياز الحدود ، ثمّ يقولون غدا ً. بقيت هناك حتى جاء الخبر . فعدت إلـــــــى بيروت. لكني توقفت في الهامة .كان منزله مليئا ً برجال مثلي يعودون إلى بيروت.يتوقفون هنــــاك ، يكتبـــــــون أسماءهم على حيطان منزله . عدت بعد سنوات من باريس ، حيث كنت أتابع دراستي . ذهبت إلى الهامة ، قلت أزور منزل الرجل واكتـب اسـمـه مرة ثانية على حيطانه . دخـلت المنزل ففوجئت باللون الأبيض . طرشوا الحـيطان باللون الأبيض . جـــاء الأبيض ومسح كل الأسماء وكل الكلمات . طبعا ً هناك شباب لم يكتبوا أسماءهم فقط ، بل كانوا يكتبون الأشعار والتمنيـات ويوقعونها بأسمائهم . لكنهم طرشوا كل شيء باللون الأبيض . وبقيت صورته معلقة فوق حائط أبيض . هل تحـب زيارة منزله ؟ ” لأن ألف سنة في عينيك يارب كمثل أمس الذي عبر ، أو كهزيع من الليل ” . ــ أظن أنها كانت سنة 1930 . حدثت مناوشات بيننا وبين اليهود . كنت جالسا ً أمام الدكان فجاء الإخوان وقالوا لي بأن اليهود هجموا على وادي الصليب. تركت الدكان وخـرجـنا لمواجـهة اليهود في شارع شومير. أُطلق علينا الرصاص، وأنا أصبت برصاصتين. طبعا، الحركة الوطنية كانت تشتد. وفي حيفا، كان المناضل عزالدين القسام. كنا نذهب إلى منزله ونستمع إلى دروسه. الحقيقة أنني لم أشارك في الثورة إلاّ بعد استشهاده، لقد أثّر علينا استشهاده كثيراً، خرجنا في جنازته رجالا ً ونساء، وحملنا نعشه من حيفا إلى بلد الشيخ. وعندما وصلنا إلى مركز البوليس الانكليزي، بدأت الناس ترمي الحجارة. هرب جميع رجال البولـيس وأغـلقت البلـد. بعد استشهاده أخــذَت فصـائـل المقاومة تنتشر. أخذتني الحماسة، تركت أم عزالدين حاملا ً بابنتي جهاد وذهبت إلى يعبد، وهناك اشتريت بندقية ألمانية من شخـص اسمه فوزي وسلحلك، ولما وصلنا إلى قريــــــة جـنـيـن جرّبتها فوجدتها صالحة. ذهبنا إلى قرية اسمها رمانة، هناك شكلنا مجموعة مؤلفة من عشرة رجال نسفنا سكة حديد العفولة، وحاولنا الوصول إلى مستعمرة قرب كركور لكننا لم نوفق. حاولنا ثلاث مرات ولم نوفق. وبعد ثلاثة أيام من التحاقي ، جاء رجال وقالوا لي الأفضل أن تعود إلى حيفا ،لأنك تركت زوجتك حاملا والعيون تفتحت عليك، تركت البندقية في قرية رمانة وعدت إلى حيفا. ــ جـاء محـمد سعـيد وقال لي أريدك أن تذهبي إلى الطنطورة. رفضت. قال أنــه سيأتي مــعــي صدّقته .النساء تصدّق رجالها، لكن الرجـال يكذبون. ركبنا السيارة ووصلنا إلى البـلـد . ثم فجــأة اختفى. يبدو أنه ذهب إلى دكانه في حيفا وباع البضائع واشترى بندقية وسلحلك وراح. بعد يـوميـن قلت لأخي بأني أريد الرجوع إلى بيتي . عدنا إلى البيت فرأيت الباب مفتوحا. والخزائن مفتوحـة، ورأيت خاتم الخطبة مرميا في الدرج. جاءت الجارة وقالت لي، ياخالتي أنا لست ناطورا علــــــى بيتك. جاء زوجك وأخذ الحقيبة وترك البيت مفتوحا وهرب . بدأت ألطم على حـالي وأبكي. أقفلت الأبواب وذهبت إلى منزل والد زوجي، سألني عن محـمد ، قلت إنه ذهب ولا أعرف أكثـر من ذلك. قال بسيطة سوف يرجع. قلت لا. كيف يتركني أنا والأولاد وأنا حامل. جاء شقيقه، صرخ فـــي وجهي، ثم قال أعطينا أولادنا واذهبي إلى بيت أهلك في الطنطورة. قلت سأبلغ البوليس، كنــت أهددهم من أجل الضغط على زوجي . مفهوم مفهوم قال إيليا . أخذت الأولاد وسكنت في بيت أخي ، وذهب ابن عمي إلى يعبد، وبعد ثلاثة أيام عاد بالرجل إلى البيت. لم يشارك كثيرا في الثورة ، لكنه أدخل الثورة إلى بيتي . عندما ولد ابني الأول أسماه عزالدين، قال تيمنا بعز الدين الشهيد. وعندما كان عمره ثلاث سنوات كــانت أختــي تأخـذه وتشتري لـه الحلـوى . يمشي إلى جانبها لابسا ً القمباز الأبيض وعمامة الشيخ عزالدين . وعندما يفلت من يدها تناديه ، فيهرع الناس صوبه ويسألونه : هل أنت عزالدين القسام ، يقول نعم . يحملونه ويقبلونه. ــ أنا اشتريت له هذه الثياب ، كان يلبسها ونقول له أنت الفسام بيقول أنا القسام ونضحك . “لأن ألف سنة في عينيك يارب كمثل أمس، الذي عبر، أو كهزيع من الليل ” . كنا نسيرعلى الرصيف في شارع هوسمان . ضجة الشارع ترتفع والرذاذ الخفيف يتساقط . وهو يسير وحيدا ً في المقدمة . وأنا وزوجتي نتبعه . كان يسير بحذر ز يسرع ثم يلتفت إلى الوراء . يضحك بصوت مرتفع ثم يعاود المشي .فجأة انعطف بنا إلى اليمين وفتح بابا ً . ــ ادخلوا . ولكن هذا مخبز قلت له . ــ ادخلوا . دخلنا . كانت رائحة الخبز تنتشر في المكان . الطاولات والكراسي الخشبية شبه فارغة . ــ هذا أحد أجمل مطاعم باريس . الطاولات صنعت من خشب الصنوبر . انحنيت وشممت الطاولة ، فخـرجـت رائحة هي مزيج من رائحة الخبز ورائحة الطعام . جلسنا . كان يضحك ويخبر النكات . جاءت المرأة بالطعام فبدأنا نأكل . قالت زوجتي إن أشكال الخبز هنا عجيبة . طبعا ً، أجابها . لن تجدي هذا الإتقان فــي أي مـكـان آخر . كان الخبز مزروعا على الرفوف ، ويأخذ أشكالا ً مختلفة : فيل ، دجاجة ، ثور ، فتاة . قالت زوجتـــي أنها ستشتري منه وتأخذه معها ، من أجل الأولاد . طبعا ً أجبتها . كان يأكل بحذر ٍ وينظر إلى الوراء نظرات خفية . قال أنه اعتاد على هذا النمط من الحياة . قبل أن تدخل إلى أي مطعم عليك أن تقرر من أي باب سوف تخرج إذا فاجأوك . عليك أن تختار الباب قبل أن تختار الطعام .قلت إنه يبالغ . قال لا ، منذ اغتيال الهمشري وهم يريدون قتلي . قلت من ؟ قال الصهاينة . قلت طبعا ً . ولكن المسألة بالغة الجدّية . الحذر الدائم . يأتون على شكل لاعبي فوتبول أو رواد مقهى أو مثقفين . ويختارون من بينهم واحدا له شكل يشبه العرب . القاتل يـهـرب بسرعة ويبقى هذا ، الذي يقوم بإدخال التحـقيق في متـاهة ، ولن تثبت عليهم التهمة على أية حـال . قلت من أين سنخرج إذا فاجأونا. أشار إلى باب خلفي . من المؤكد أنهم لم يلاحظوا هذا الباب . ــ كيف يستطيعون صناعة الخبز بهذه الطريقة ؟ ــ لاأعلم أجابني ربما يخـمّرونه بشكل زائـد قليلا ، ثم يخبزونه في فرن كهربـائي وعلــى حـرارة منخـفضة . ولكنهم لايستطيعون الإحاطة بكل شيء . هل تعلمين ؟ مرة اضطررت إلى الخروج من أحد المطاعم هاربا . إنه مطعم في هذا الشارع ، لكنه قريب من المكتب . دخـلوا . لاأعلم كيف شعرت بهم . كان هناك رجل يضع نظارتين على عينيه ، وامرأة طويلة الشعر ، وشاب سميـن يشبه الزعـران الذين يظـهرون فـــــــي الافلام البوليسية . وفتى عربي . كل يجلس في ناحية ، ماعدا الرجـل الذي يضـع نظـارتين فقـد كان واقفا يحـتسـي القهوة . ــ كم ثمن الرغيف ؟ إنه السعر العادي، أو هو مرتفع قليلا ، أجاب . في لحظة ، تأكدت أنهم سيقتلونني . كـان هنـاك رجـل يتمشى في الشارع أمام المطعم ، ويبدو أنه قا ئدهم. ثم فجأة دخل رجل يشبه السنكري ويحمل في يده أدوات معدنية . قلت سأجرّب . وقفت بسرعة . تغيرت ملامح الرجل ، الذي يضع نظارتين ونظر باتجاه السنكري ، عندهــا خرجت هاربا . ركضت في الشوارع الضيقة واختلطت بالناس . ــ ولكن كيف ؟ قال أنه تعلم من خبرته . أصبح عندي حس أمني ، أجابني . قلت إنك تبالغ . قال لا. لكنــــي اعـتدت على هذا النمط من الحـياة . قال نشرب القهوة في مكـان آخـر . قالت زوجتي أنـها ستـذهب لتشتري خبزا ً. قلت لا .الأفضل أن نعود إلى هنا قـبل سفرنا ونشتري . دفع الحساب وخـرجـنا مسرعيــن من البـاب الخلفي . دخلنا إلى مقهى مليء بالناس . سألني عن رايي ، قلت أنا متأكذ أنك تبالغ ، الحذر ضروري ولكن ليس إلى هذه الدرجة . لا – أجابني . غداً عندما أقتـَل سوف تتأكذ أنني لم أكن حذرا بمافيه الكفاية . تـرَكنا ومشى . مشينا وسط الشارع المزدحم ، مشينا ببطء . والله ياخـالتي بقينا في حـيفا حتى النهاية . لكن كان لابد من الذهاب في النهاية سبعة أولاد ماذا أفعل بهم . عندما اشتد القتال وأصبح يدور في جانب الشارع الذي نقيم فيه ، لم أعـد أعـرف ماذا يجـب أن نفعل . سبعة أولاد، وابني أميـــن لايزال في حـضني . عمـره ثلاثة أشهـر. وضعت الأولاد تحـت طـاولـة الطعام وتوكلـت ، ثم رأيت زوجــي قادما وإلى جــانبه مجــموعة من المسلحين . كان غسيلي علـى الحبال وطبختي على النار، لم ينتظر . بدأ يحمل الأولاد ويعطيهم للمسلحين من فوق الحائط . لبست ثيابي ومشينا ملتصقين بحيطان البيوت . وصلنا إلى شارع الناصرة ، حيث بتنا ليلتنـا في منزل شقيقة زوجـــي . فـــــي الصباح جاء أخي واقترح الذهـاب إلى الطنطورة . محمد سعيد رفض الذهـاب . إذهبـي أنت والأولاد وأنا سأبقى . ركبنا سيارة تاكسي وذهبنا . اوقفنا الجيش الانكليزي ، وبعد تفتيش دقيق سمحوا لنا بمتابعة السفر. وصلنا إلى بيت أخي في الطنطورة لنجده وقد تحول إلى تجمع سكاني ضخم . هناك زوجة أخــــــي الذي استشهد مع أولادها ، وزوجة أخي المتـوفي مع أولادها ، وزوجـة أخـي الثالث ، الذي فـُقِد منذ شهر مـع اولادها . اربع نساء و18 طفلا . بعد حوالي اسبوعين سقطت حيفا . جاء سائق من هناك وقال إن محــمد سعيد قــُتل ، قلت لأخي أنا ذاهبة إلى حيفا . قال لايمكن . لقد سقطـت المدينة والرجل مـات. أقمنا العـزاء ثلاثة أيام . وفي اليوم الرابع قال رجل من الطنطورة إن ابوعزالدين وصل . ركضت إلى الشارع . خلعت المنديل الأسود ، الذي يغطي رأسي وركضت . رأيته في رأس الشارع يلوّح بيديه الإثنتين والحطة على رأسه . قالت أنه استشهد من القنبلة الأولى . لكنهم قالوا أنه استشهد من القنبلة الثانية . وفجأة انطلق الرصاص . حاولوا خلع الباب . كان الباب مقفلا من الداخل . أطلقوا الرصاص على القفل . لم ينفتح الباب . كانوا قد وضعوا الطاولة خلف الباب . وهم خلف الطاولة ، والرصاص من الخارج . ضرب الباب بيده ،أحدث فجوة . رمى القنبلة الأولى، رمى القنبلة الثانية، ثم أطلق ست عشرة رصاصة في الجسد المرمي خلف الطاولة. كان هو . الشظايا في كتفيه والرصاص في أنحائه ، والدم على الأرض ، وإلى جانبه رجل قــُطعت ساقاه، والدم ينزف وهو يحاول إيقاف النزف . قال الأول بعد أن اعتقل ، هل مات الرجل. قال الثاني وهو يرفع إشارة النصر، هل قتل الرجل . أما هو ، فكان ملقى على الأرض ، الدم ينزف من جبينه ، يبتسم ول ايسأل من هو القاتل . في مسجد باريس ،حيث تجمع الرفاق كان البكاء يرتفع . الجميع يرتجف بالدموع . لماذا أصبحنا نبكي على الشهداء بهذه الطريقة ؟ سألتْ ليلى وهي تبكي . قلت لها بأنني لاأعرف ولاأفهم . لكن منذ أن تكاثر الشهداء خلال الحرب الأهلية في لبنان ، أصبحنا أكثر حساسية من الموت . نعيش مع الموتى ونخاف عليهم مـــــــن الموت . ــ ولكني لاأريد أن أبكي . مشت وحيدة ومشيت وحيدا ً . “إنني قاتل أو قتيل ، لكنني قاتل وقتيل قلت لها . “لأن ألف سنة في عينيك يارب كمثل امس الذي عبر أو كهزيع من الليل” جاء أبو عز الدين ومعه المركب . قال نذهب إلى صور . مستحيل أجبته . قال اسبوعين أو ثلاثة أسابيع على أبعد تقدير ، ثم نعود إلى حيفا بعد أن تكون الأحوال قد هدأت . والله مفاتيح بيتي معـي . ثم ركبنا . لكن حدثت بعض المشاكل . قال شباب الطنطورة أن الخروج مستحيل . لن يخرج أحـــد من البلد . نحن من حيفا ولسنا من الطنطورة . اربع نساء وثمانية عشر ولدا ، ماذا نستطيع أن نفعل إذا جاؤوا . أخيرا ً اقتنعوا وسمحوا لنا بركوب المركب بعد أن كادت تحصل مصادمات في القرية . وأقلع المركب باتجاه صور . كان البحر مظلما ً . كأنه لاوجود لشاطىء فلسطين . الأولاد يبكــون . دوار البحر، ونحن فوق بعضنا . ثم وصل المركب إلى قرب شاطىء حيفا . قال لي أبوعزالديــــن انظري ، هذه هي المدينة ، نظرت ولم أرى شيئا ً . كيف أستطيع أن أرى . الأولاد في حضني وبين قدمي ، بعضهم يبكي، وبعضهم يريد طعاما ، وبعضهم يريد أن ينام . وثلاث نساء إلى جانبي يبكين على أزواجهن وعلى البلد وعلى هذه المصيبة . أما هـو فكان يجــلس وحيدا في طــرف المركــب ، يدخن سيجارته ، التي يضمها بين يديه حتى لايـُرى أي ضوء في المركب ، وينظر إلى البحر.فجـأة اشتعلت ، ورأينا الأضواء تحـيط بالمركب من كل ناحـية . تشهّدوا قال محـمد سعيـد . نتشهّد ، يعني سوف نموت في البحر ، ماهذه المصيبة . نصيبنا ــ أجابني .لكـن لحسن الحـظ كـان المـركـب الـذي سلـُط أضواءه علينا ، مركبا انجليزيا ً . نزل جنديان إلى مركبنا ، رأوا النساء والأطفال ، قالـــــــوا كلمات لم أفهم معناها ، لكنهم أشاروا بأننـا نستـطـيـع متـابعـة السير ، وسار المركب باتجاه صور ، والله لم أنظـر إلى حيفا كما نظـر إليها الجـميع . والذيـن غادروا في وقـت مبكـر قالــوا إنهم ظــلـّوا ينظرون إليها والمركب يبتعد ، حتى تحولت إلى حمامة سوداء ، تسبح فــي البحر . أنا لم ألاحظ لا الحمامة ولا غير الحمامة . كيف تـريـدون أن ألاحـظ . في التـاسعة صباحا وصلنا إلى صور . قلنا الحمد لله . ولكن فور نزولنا إلى الشاطىء رأينا الطاولات وعليها الأوراق . يسألون ألف سؤال قبل أن يسجلوا أسماءنا . سألت ماهذا ؟ قالوا تسجيل اللاجئين . محـمد سعيد رفض . لن نتسجـل قــال : نحـن لسنا لاجئين . بعـد شهر على أبعـد تقدير نعـود إلى حـيفا . فلماذا نقـف في الطوابير ونسجـل أسماءنا . قلت نتسجل . ماذا سنخسر . قال لا . بقينا على شاطىء صور وسط آلاف الناس ، الذيــن جاؤوا من شمالي فلسطين . كانت الناس تستلقي على الشاطىء ولاتعرف ماسيجري لها . ثم استأجر محمد سعيد غرفتين في صور حيث سكنا جميعا . بقينا هناك إلى أن جاءنا خبر من سليــم الشعـّار ، وهو أحد أصدقاء زوجي ، بأنه مستعد لاستقبالنا في دمشق ، فذهبنا إلى دمشق . إيليا يقف في انتظار إنجاز معاملات العودة على الحدود السورية ــ اللبنانية ويحدثني عن مصارعة الثيران .قلت له إني لاأعرف كثيرا عن الموضوع ، لكنـي معجـب بشخـصية المصارع . لـقد رسمها بيكاسو بشكــل مدهش ، الحـبر الصينـي والحركة التي تتجمد عند لحظة تشبه الـعـنـاق بيــن المـصارع والـثور . قــال لا . المصارعة شيء آخر وأكثر حدّة .قال إنه شاهد الكثير من حفلات المصارعة في اسبانيا ، لكن المدهش هو ما لا تشاهده . هل تعلم ، لايستطيع الثور أن يناطح إلا في مكان محدد في الحلبة . يركض في الحلبة بأسرها . لكنه لايستطيع أن يقاتل إلا على جزء محـدد منها . والمصارع الجيد هو الذي يستطيع تحـديد هـذا المكـان بسرعـة . المصارع يحـاول استـدراج الثور إلى الخـارج ، والثور يحاول دفع المـصارع إلى الداخل . لـذلك يستطيع المصارع الاقتراب من ضحيته بشكل ملفت للنظر في بقية أنحاء الحلبة . ومن أخبرك؟ سألته . أحد المصارعين ــ أجابني . مدريد القديمة. نبيذ وخنزير مقدد ونساء . الساحة الفسيحـة تمتلىء بالعشاق ، الذين يخـرجون من الحـانات الضيقة . في الساحة رأيته ، رأيت الناس يتجمعون حول رجل مستلق على الأرض . تقدمت منه .كان يمسح كمّه بفمه الممتلىء خمرا ً ويتـكلم ، إنـه مصارع تقاعد لأنه أصيب . كان يــروي نفس القصة دائـما ً . فضح سر المهنة ، ولايزال يسكر . أقمنا في منزل الشعار حوالي اسبوع . لكن مستحيل . لقد خرّب الأولاد كل شيء . ثمّ استأجرنا منزلا فــي حـــــي مدينة الشحم قرب سوق الحميدية وسكنـّا جميعا . بعد اسبوعين جـاءنا خبر الطنطورة ، لاأعرف كيف سقطت . أنا لم أكن هناك ، والروايات كثيرة ، الشيء المؤكد أن اليهود حيـن دخلوا القرية ، جمعـوا شبابها قرب شاطىء البحروقتلوهم . كان عددهم 158 شابا، أنت تعلم ، الطنطورة على الشاطىء ورجــــالــــها بحـّارة . لكن ماذا يستطيعون أن يفعلوا . طائرات ودبابات . أخذوهم إلى الشاطىء ، وهناك فتحوا عليهم نيران الرشاشات ، وتركوا جثثهم مرمية عدة أيام . أنـا لـم أرى المشهـد . إبنـة عمي تقول أن الجثث كانت تلتمع تحـت أشعة الشمس . ياحـيف على الشباب ، قالت إنهم كانـوا كالسمك الميـّت ، الــــذي لايلتفت إليه أحـد .لا أعلم إن تمّ دفنهم ، بلـى ، قالوا إن بعض النساء تسلل في الليل وسحـب الجثث . كانت مليئة بالرمل والغبار والديدان . ثم حُفرت حفرة وتم دفنها . أولاد عمي ماتوا هنــاك . إنهم شهداء . لايهـم الشهيد إذا دفن أو غُسل ، دمه يطهـّره . أقاموا الآن مستعمرة يهوديـة مكـان الطنطورة وسمـّوها دور . لا، لايوجد لنا أقارب هناك ، الرجال قـُتلوا والنساء والأولاد تشتتوا في لبنان والاردن . هل تعلـم ، الطنطورة بلد جميل . وكان لها عز في الماضي ، لكن راحت البلاد . أنا لم أكن أفهم فــي السياسة . السياسة ياخالتي، لها رجالها . لكنه هو ، الشهيد الله يرحمه كان يحدثني دائما في السياسة ، وكان يخـبرني عــن الطنطورة . قرأ عنها في الكتب . قال إن نابليون انهزم إليها عندما انهزم من عكا . كان يخبرني عن الجنود والطاعون والحروب . كنت أقول له يكفي ماأصابنا ، لكنه كان يقرأ فــــــي كتاب سميك ويخبرني . نهضت الأخـت وجلبت كتابا . أمسك إيليا الكتاب وأشار إليّ . “عام 1799 مرّ بالطنطورة في شهر أيار، نابليون وجيوشه المتقهقرة عن عكا وهي في طريـقها إلـــــــى مصر… رأيت بعينيْ رأسي ضباطا مبتوري الأطراف يلقيهم حمّالوهم عن نقـّالاتهم ورأيت رجالات مبتوري الأطراف وجـرحى ومرضى بالطـاعون . أو ربما يـُشتبـه فـــي إضابتهم بالطـاعون ، يـُتركون في الحقول . وكانت تضيء لنا في سيرنا المشاعل ، التي تـُحرق بها المدن والقرى والمحاصيل الغنية . وأصبح الريف كله شعلة من نار . ولم نر حولنا إلا ّ رجالا ً في النزع الأخير . وآخرين ينهبون ويسلبون وغيرهم يحرقون . كان المرضىعلى جانب الطرق يقولون بصوت لايكاد يـُسمع : إنني جريح فقط ولست مصابا بالطــاعــون . ولكي يـُقنعوا من يمرون بهم كانوا يفتحون جروحهم أو يحدثون في أجسادهم جروحا جديدة . ولكن أحدا ً لم يصدّقهم ، وكان القوم يقولون إنه ميت ، ثمّ يعبرون ” . “لأن ألف سنة في عينيك يارب كمثل أمس الذي عبر ، أو كهزيع من الليل ” . ليلى تتكلم وهو ينظر إلى يديها . لاأعلم لماذا تذكـّرني بأبي قالت له . ذهبنا إلى بعلبك . دخلنا مــــــن النفق الصخري أمامنا كان معبد باخوس مضاء بألوان خافتة تتفجرمن حجارته . كنت أسير إلى جانبه . ارتفعت الموسيقى وأنا أحاول الإمساك بيده .لكنه كان يسير مسرعا ً وسط الزحام . قلت له لا تـُسرع ،لم يلتفت إلى الوراء،ثم سقط . اعتقدت أن الموسيقى توقفت . سقط كما تسقط الشجرة . لاأعلم من أيــن جاءت المساحة الفارغة التي سقط عليها . المكان مزدحم بالناس وأنا لم أستطع اللحاق به . رأيته مرميا على الأرض وقفت أمامه. لم تتوقف الموسيقى . كان ملقى على جنبه . جلست علـى الأرض وأمسكت بيــده ، ثمّ تجـمع الناس . أبعدوني عنه . قلت لهم إنه أبي وأني أريد أن أمسك يده . جاء الأطباء . قالوا إنهم يحاولون . لكنه كـان قـد مات . عزالدين دخل إلى الجامعة وكان عمره 19 سنة . قال إنـه يريد أن يدرس الكيمياء ، قلـت لــه له ياإبني ولكن لماذا لاتدرس دكتور . تكلـّم، فلم أفهم . لكنه بعد ذلك صار دكتورا في فرنسا . قال لي إنه صار دكتورا في الكيمياء . لكنه لايشتغل دكتور . يشتغل مع الفدائيين . كـان في السنة الثانية في الجـامعة عندما جاءت المخابرات وطوّقت الحارة ، ثم طرق اثنان على الباب . فتح محمد سعيد الباب ولم ينتبه أنهم من المخابرات .صاح له بأن أصدقاءه في انتظاره . خرج واستقبلهم . قال لهم انتظروني خمس دقائق حتى ألبس ثيابي . لبس ثيابه وخرج ولم يعد . أربعة أشهر وأنا أبحث عنه ليلا ً ونهارا ً ولا أعرف عنه شيئا ً. سألت الجميـع . جميــع مراكز البوليس وجميـع الناس . لاأحد يعرف .قلت راحت عليك ياأم عزالدين . ثمّ جاءت امرأة وطرقت بابي . قالت إن ابنها اعتقل مع ابني ، وأنهم وضعوا الجميع في سجن المزّة . ذهبت أنا والمرأة إلى المزّة .العسكر على الباب . قالوا ممنوع . قلت لهم إبني ، قال ابنك ممنوع ، قلت لــهم هـو هنا وأريد أن أراه . قالوا إن الزيارات ممنوعة . ثم جاءني أحدهم وقال لي إذهبي إلــــى المباحث واجلبي ورقة من هناك ، بعدها نسمح لكم بالزيارة . أنا كنت قد حملت لإبني بعض الثياب . خرج من البيت وليس معه سوى بذلته التي كان يلبسها ، أعطيت الثياب للعسكري وذهبت دون أن أراه. بعد عدة أيام ذهبنا إلــى الشرطة العسكرية قرب الجامعة . وبعد الكلام أعطونا الأوراق . حملناها وذهبنا إلى المزّة . هنـاك كانت النساء فوق بعضها .أدخلونا بعد الرجاء والكلام كل خـمسة نساء سويا ً . لـم نتكلم معهم . السجناء خـلـف الحـديد ، ونحـن نبعد عنهم خـمسة أمتار أو أكثر ، والجـميع يتكلمون سويا ً يصرخون ويلوحون بالمناديل ويبكون . حالة لاتوصف . تكلم وتكلمت ، ولكني رأيته ، وأصبحت أذهب إلى المزّة اسبوعيا . وكل اسبوع تتكرر الحكاية نفسها . ثم توصلنا إلى اتفاق ، كل إمرأة تتكلم دقيقة واحدة مع ابنها . لكن الاتفاق لـم يطـبـّق فعليا . في كل مرة كانت إحدى النساء تستأثر بالحديث ، ثم يعلو الصراخ ، المهم أنهم قالوا لي لماذا لايوقع على الأوراق ,قولـــي لـه أن يوقع فيخـرج من السجـن . قلت له أن يـوقع ، فماقيمة الأوراق ؟ لكنه رفـض . كان يقول لي أنه لن يتبرأ من الحزب الشيوعي لأنه ليس عضوا فيــه . قلت له بسيطة . أنت لست عضوا فماذا تخسر ؟ قال أخسر كرامتي . ياابني ماهذه العقلية . كرامته متعلقة بالتوقيع . الكثيرون وقعوا وكـــانوا أعضاء . والله لاأعلم إذا كان عضوا ، أنا لست متأكدة . لكنه لم يوقع . قلت له أنا أوقع عنك . فضحك وقال بسيطة . بقي ثلاث سنوات . مرة طلب مني أن اذهب إلى وزير الداخلية وأقول له إن ابني سجين ، وهــــو فلسطيني ولاعلاقة له بشيء . حاكموه أو أطلقوا سراحه . ذهبت إلى مكتب الوزير .تستطيع أن تتخيل مبلغ الصعوبات التي واجهتها ، دخلت إلى المكتب . طبعا لم أر الوزير ، فنحن لانستطيع مقابلة الوزراء .كــان هناك حاجـب ، أخبرته قـصة إبني وبكيـت . بكـى الرجل ووعدني خيـرا . ولكن من أين يأتي الخير . بقينا هكذا ثلاث سنوات ، وأنا أدور من البيت إلى السجـن ، ومن السجـن إلى مكاتب الحكومة .لكـن لكـل شيء نهاية . كان على ماأعتقد نهار الاثنين ، صلّيت العصر وجـلست عـلى الشرفة أبكي . كنت متأكذة أنـه لـن يخرج . قـُرع الجرس ، فتحت الباب ، كان أحد فتيان الحي يقف خلفه لاهثا ً . قال لي أنه التقى عـزالـدين في رأس الشارع ، وأن عـز طلب منـه أن يأتـي ويخـبـرني بأنه قادم . خـرجـت مـن البيـت وتركت الباب مفتوحا . ركضت في الشارع فرأيته . كان يمشي ببطء ، يلبس البذلة نفسها ،التــي ذهب بهـا إلـى السجن ، حليق الذقــن ويبتسم . أدخـلته إلى البيت ولم أره . جـاءت الناس لتهنئته بالخـروج . لكني فرحـت ، قلـت فـُرجت . وبعدها صاريــذهب إلى الجامعة ويــدرس. أنهى الليسانس وسافر إلــى السعــودية . عاش فـــي السعودية بضع سنوات ثم عاد إلى دمشق . قال إنه سيسافر إلى فرنسا من أجل إكمال دراسته . سافر. أخذ الدكتوراة في الكيمياء وبقي هناك . كنت أكتب له أن يرجع ، لكنه لم يجـاوب . ثم علمت أنـه يعمل معـهـم . وعندما استشهد الهمشري خفت كثيرا .قلت له بأنهم سيقتلونك فلماذا لاتعود . قال لا ، لاأستطيع . قـلت لـه إني أتمنى لويدخل السجن ، هناك يرتاح بالي وهو يرتاح . صار يضحك . القبـرأكثر راحة أجـابني .كـان يمازحني دائما ً عن الموت والقبر . ظل هناك حتى جلبوه في النعش ، فهو شهيد ، وقد اختار طريقه . لكنه مات . سبعة كانوا، وثامنهم كان الهمشري ، أولهم دخل أحـد السجون العربية فور وصوله إلى بلده .قيل لأنــه قذف قنبلة يدوية في الشارع على رجال الشرطة . وقيل أنه جاء وأعلن الكفاح المسلح ، وقيلت أشياء كثيرة ، لكنه دخل السجن وبقي هناك . تساقطت أسنانه وأصيب بجميع الأمراض الممكنة . وثلاثة قتلوا في باريس . الأول كان الهمشري . أخذ سماعة الهاتف فانفجرت . قيـل إنها كانت ردا على عملية ميونيخ . وقيـل إن الصهايـنـة يستطيعون الانتقام وقيل. لكنه لم يقل شيئا ً . كان يعمل ويعمل. وحين مات دفن في مقبرة بير لاشيز فــــــــي باريس . وإلى جانبه دفن الثالث ، حيث أطلق عليه الرصاص وهو خارج من المكتبة ، فسقط في الشارع وسط الحي اللاتيني وشرب من بركة الدم التي نزفت من جسده .ورابعهم قتل فــــــــي مكتبه فــــي شارع هوسمان . خامسهم سُحب منه جواز سفره ، وهـو يعيـش الآن باحـثا ً عن جواز سفر وعن امرأة . وسادسهم وسابعـهم وثامنهم و…لقد مات الكثيرون فـــــــي الحرب الاهلية ، ومازال الفدائيون يتكاثرون . هو كان الرابع ، الغرفة الضيقة على سطح إحدى البنايات . العمل ، النشاط ، الموت . لكن برد باريس كان شديدا ً . لم يتعود هذا البرد . معطفه كان قديما ومهلهلا . يركـض مـن المترو إلى الإجتماع ومـن الإجتماع إلى الموت . والغرفة الصغيرة الباردة ، حيث علـّق معطفه للمرة الأخيرة ، كانت هناك . قيل أنه اشترى قبرا ً قرب قبر الهمشري . وقيل أنه كان يفضل أن يـُدفن هناك . لكن من يـدري . تراب الـوطـن افضل قالوا . إنه الآن أكثر قربا من أرضه .لكنه كان يعلم . رابعهم كان يعلم أنه سيقتل ، لم يتوقع القنبلة . كان يعتقد أنه سيقتل بمسدس له كاتم صوت . قال إن الرصاصة لاتؤلم كثيرا ً . وماذا يهم ، تدخل الرصاصة فـــــي الجسد وتـتّـبع حركته، الافلام البوليسية مزورة . الرصاصة لاترميك ، أنت ترميـها ، تدخـل إلى جسدك فينهار الجسد ، ولايندفع ، وتنهار الرصاصة التي في داخله . لكنهم قذفوه بقنبلة. كنت أتمنى له أن يستشهد برصاص الصهاينة ، قال الأب . لكن الصهاينة هم الذين قتلوه ، أجاب إيليا . ــ طبعا ً ، طبعا ً . لكن كان من الأفضل أن يـُقتل برصاص صهيوني . ــ لكن الصهاينة هم الذين قتلوه . الشهداء لهم الجنة ، قال الأب . الموت حق، قال إيليا . الموت حق . الياس خوري – كاتب لبناني المصدر : دورية “شؤون فلسطينية” – العدد 83 تاريخ أيار (مايو) 1979