الصفحات

الخميس، 5 مارس 2009

حول مقالة "السلفية والجهاد والقاعدة

تعقيب على التعقيب: حول مقالة "السلفية والجهاد والقاعدة"

في مقالاتي (حول السلفية والجهاد والقاعدة) حاولت تبيان خطل وضلال لا بل وخطورة عملية الخلط والتعمية المقصودة التي يقوم بها البعض تحت عنوان: ان السلفية والجهادية والقاعدة كلها ملة واحدة تنتسب إلى الوهابية وإلى السلفية التي هي (بزعمهم) أصل البلاء.. وكنت قد تصدّيت (أنا المسلم الشيعي) وعلى منبر هذه الصحيفة ("المستقبل") لمثل هذه الترهات والتعميات يوم حادثة الضنية والاعتقالات التي تلتها والتي أصابت عشرات المؤمنين لا لشيء إلا لأنهم أصحاب لحى أو من المتردّدين على بيوت الله أو من المعروفين بالسلفية والوهابية.. واليوم تقوم جهات معروفة بعملية الخلط والتعمية هذه لحرف الناس عن فهم حقيقة الأمور وللتغطية على طبيعة الإرهاب والإجرام الذي يضرب لبنان منذ التمديد للرئيس لحود.. وقد جاءت مقالاتي لتشرح ظاهرة الإسلام الجهادي أو السلفية الجهادية وظاهرة القاعدة وأين صرنا اليوم في هذا الخضم المتلاطم.. فالمطلوب توضيح المسائل وتنقيح المطالب وتحقيق القضايا عملاً بسنة السلف الصالح وتميّزاً عن الهرج والمرج الذي يُحاول البعض إغراقنا فيه... وما أحوجنا إلى الأبحاث الرصينة والدراسات المتخصصة تُنقل إلى الناس بلغة واضحة سهلة فتزيل الغشاوة عن الأعين وتسمح بتكوين رأي عام واع ونقدي.. وهذا ما حاولته في مقالاتي (وما التوفيق إلا من الله). وبسبب ضيق المساحة وضرورات الاختصار وشطب مقاطع واختزال أمور، فُهمت بعض القضايا العويصة على غير مقصدي منها.. وقد نصحني الأستاذ والمجاهد الكبير الشيخ زهير الشاويش (وعلى جاري عادته معي ومع غيري) في أمور أوضحتها وصحّحتها.. ثم جاءت مقالة الأستاذ محمد محمد طه الولي لتدعوني إلى قول وتوضيح ما أنا في صدده هنا، فليعذرني هو وإخوانه للتأخير في التعقيب لظروف خارجة عن إرادتي.
أولاً: لا يهمّني أن تكون السلفية "تسمية غير سلفية جاءت بعد زمن طويل من عصر الدعوة"، فكل التسميات تحمل هذه السمة.. و"إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم".. المهم كان في نظري شرح معنى السلفية.. وقولي إن بداية استخدام المصطلح كانت مع ابن حنبل، لا ينتقص في شيء من "جهاد" بقية المذاهب (الشافعي والمالكي خصوصاً) ضد المعتزلة.. مصادري ومراجعي تقول إن الإمام ابن حنبل هو أول من استخدم كلمة سلف.. وأرجع مذهبه في القول بعدم خلق القرآن إلى روايته "عن غير واحد من سلفنا".. فالسلفية، كنسبة إلى السلف الصالح، هي عامة وخاصة في جميع المسلمين، وفي مختلف المذاهب.. وهذا ما حاولت شرحه.. دون الحاجة إلى استعراض عضلاتي الكلامية والفقهية.. ولم يكن الأمر من قبيل "الخطأ غير المقصود" (على ما صار شائعاً في الإعلام اليوم) حين جعلت أحنافاً وشوافع (كالطحاوي والبيهقي) وزيدية (كالشوكاني) وصوفية (كعثمان دان فوديو والسنوسي والمهدي) وإصلاحية تنويرية حديثة (كالأفغاني وعبده وشكيب إرسلان) وإصلاحية وطنية (كعلال الفاسي ومحمد اقبال) وصولاً إلى الإسلامية الحركية المعاصرة (حسن البنا والمودودي وسيد قطب) في إطار السلفيات التي دعت إلى إحياء الإسلام ونهضته عبر العودة إلى ينابيعه الصافية (القرآن والسنة).
وهنا أود تذكير السيد الولي أن دعوة الوهابية أثّرت تأثيراً كبيراً وخطيراً على عموم "اليقظة الإسلامية" (بحسب كلام لوثروب ستودارد الأميركي صاحب كتاب حاضر العالم الإسلامي) لا بل إنها أثّرت في حركات هي على النقيض منها ربما، وهذا من السنن الكونية التاريخية المعروفة.. ففي الهند قامت دعوة شريعة الله وسيد أحمد (وهو غير السير سيد أحمد من عليكرة) الذي أنشأ في البنجاب دولة وهابية (1830) لم تنقرض حتى انهيار الثورة الهندية.. وهي انتقلت شرارتها إلى أفغانستان وسائر القبائل الهندية (الباكستانية اليوم) عند الحدود الشمالية الغربية (البشتون أهل الطالبان).. واستمرت الدعوة في الذين أسموا أنفسهم "أهل الحديث" وسماهم أعداؤهم هناك بالوهابيين.. وامتد نفوذ الحركة إلى قلب سومطرة.. والإمام الشوكاني في اليمن زيدي وسلفي إلى حد أنه صدر مؤخراً كتاب في اليمن عنوانه "الشوكانية الوهابية".. وللباحث الدكتور عبدالعزيز المقالح كتاب حول فكر الزيدية والمعتزلة عرض فيه لسلفية الشوكاني. أما دان فوديو أو عثمان بن محمد بن فودي فقد أسس نهضة دينية تغلغلت في افريقيا وبلغت آثارها نيجيريا، وهو صنّف أكثر من عشرين كتاباً منها كتاب "إحياء السنة وإخماد البدعة" سار فيه على نهج السلفية في تبيان حقيقة السنة وباطل البدعة في كل باب من أبواب الفقه.. وأخيراً، فإن للأمير شكيب إرسلان رأياً يستحق الذكر هنا، إذ يقول: "لا يُنكر أن الوهابية هي نهضة في الإسلام عظيمة ممتدة في أكثر بلاد العرب، وفي الهند، والقائمون بها أولو تعصب شديد، وربما أفرطوا في مباديهم وغلوا في عقائدهم شأن جميع المذاهب التي لا يقف أتباعها عند الحد الذي وضعه أصحابها. ولكن المقرر أنها حركة إنابة إلى العقيدة الحق وهدي السلف الصالح واقتفاء أثر الرسول والصحابة ونبذ الخرافات والبدع ومنع التمسح بالقبور والتعبّد عند مقامات الأولياء، ولذلك يسمونها عقيدة السلف، ويلقب الوهابيون أنفسهم سلفيين، وأكثر اعتمادهم في الاجتهاد على الإمام أحمد بن حنبل والإمام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية" (حاضر العالم الإسلامي ـ ج1 ـ ص 264).
ثانياً: يقول الإمام شمس الدين الذهبي: "غلاة المعتزلة، وغلاة الشيعة، وغلاة الحنابلة، وغلاة الأشاعرة، وغلاة المرجئة، وغلاة الجهمية، وغلاة الكرامية، قد ماجت بهم الدنيا، وكثروا، وفيهم أذكياء وعبّاد وعلماء، نسأل الله العفو والمغفرة لأهل التوحيد، ونبرأ إلى الله من الهوى والبدع، ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من الاتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما اتبع فيه بتأويل سائغ" (سير أعلام النبلاء 3/45).. فالغلو (وصولاً إلى التكفير) لا يقتصر على ابن تيمية (ونحن لنا دراسات حول ابن تيمية تشرح فتواه الشهيرة حول التتار التي يعتمدها اليوم دعاة التكفير القاعديون)، بل هو موجود عند عموم المذاهب.. ويحتاج الأمر إلى جهد وجهاد (يا حبذا يقوم به علماؤنا) لتنقية الإسلام من هذا الغلو.. وأذكّر الأستاذ الولي بحديث "الفرقة الناجية" الذي يستخدمه كل الغلاة وجماعات التكفير لامتشاق السيف ضد إخوانهم ممن يخالفونهم.. وأذكّره بالصراع الحنفي ـ الشافعي في بيروت المحروسة أيام الدولة العثمانية وبفتاوى جواز الزواج على الحنفية أو الشافعية قياساً على الذمية.. وأذكّره (وأذكّر نفسي) بأن مقاومة "السلفية التكفيرية" لا تكون على قاعدة مذهبية (أي على قاعدة أن هذه حنبلية ونحن شافعية أو حنفية) وإنما على قاعدة الإسلام السمح المستنير والسلفية الحقة، سلفية أهل السنة والجماعة.. يقول الإمام عبدالرحمن ابن الجوزي "واعلم أن عموم أصحاب المذاهب يُعظّم في قلوبهم الشخص، فيتبعون قوله من غير تدبّر بما قال، وهذا عين الضلال، لأن النظر ينبغي أن يكون إلى القول لا إلى قائله، كما قال علي للحارث بن حوط وقد قال له: أتظنّ أنا نظنّ أن طلحة والزبير كانا على باطل؟، فقال له: يا حارث إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يُعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله" (تلبيس ابليس ـ ص 101).
رابعاً: لقد استعملت مصطلح السلفية لشرح اعتقاد أهل السنة والجماعة وما هم عليه، وهم في ذلك يلتقون رغم التنازع بين الأشعرية والماتريدية من جهة وبين الحنابلة من جهة أخرى.. فلم يكن هدفي شرح اعتقادات فرق المسلمين وتبيان مسائل الخلاف فيما بينهم.. بل القول بأنهم يجمعون على أمور (سلفية) تجعل من السلفية نزعة عامة في كل المذاهب.. وإليك التفصيل:
ـ يقول عبدالله ابن مسعود: "من كان مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمَن عليه الفتنة"، أورده البغوي في "شرح السنة" (1/214) وأورده اللالكائي بنحوه، فأخرج بسنده عن عبدالله ابن مسعود قال: "ألا لا يقلدنّ أحدكم دينه رجلاً، إن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإن كنتم ولا بد مقتدين فبالميت فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة" (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ـ رقم 130 ـ 1/93).
وقال ابن تيمية: "فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع فهو من أهل السنة والجماعة" (مجموع الفتاوى 13/212). وقال الشاطبي: "يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون وما كانوا عليه في العمل به فهو أحرى بالصواب وأقوم في العلم والعمل" (الموافقات 3/57)..
وقال ابن تيمية: "فالحذر الحذر أيها الرجل أن تكره شيئاً مما جاء به الرسول أو ترده لأجل هواك، أو انتصاراً لمذهبك، أو لشيخك، أو لأجل اشتغالك بالشهوات أو بالدنيا".. (مجموع الفتاوى 16/292). وقال الشاطبي: "فعلى كل تقدير لا يتّبع أحد من العلماء إلا من حيث هو متوجه نحو الشريعة قائم بحجتها حاكم بأحكامها جملة وتفصيلاً، وإنه متى وجد متوجهاً غير تلك الوجهة، في جزئية من الجزئيات أو فرع من الفروع، لم يكن حاكماً ولا استقام أن يكون مقتدى به فيما حاد فيه عن صوب الشريعة البتة" (الاعتصام 2/503).
هذه هي حقيقة السلفية، وواضح أنها لا تقتصر على ابن تيمية أو ابن حنبل أو ابن عبدالوهاب.. وليس المقام هنا لاستعراض وشرح العقائد إنما لفتني في تعقيب الأستاذ الولي اعتراضه على ذكر عدم تكفير أهل القبلة "ما لم يستحلوا ذنباً".. فقام بشرح المقصود بذلك ليعرج من ثم على ابن تيمية ويجعله هو المكفّر الوحيد.. وهو يعلم أن مبحث الإيمان والكفر هو أعظم المباحث العقدية والكلامية بين أهل السنة والجماعة وحتى بين أهل السلف أنفسهم الذين دار بينهم خلاف كبير بسبب أقوال وتسجيلات نسبت إلى الشيخ ناصر الدين الألباني وبعض مؤيديه في "التحذير من فتنة التكفير".. ولن أطيل هنا إنما اكتفي بإيراد قاعدة من قواعد "الفقه الأكبر" تكرّرت في وصية الإمام الأعظم أبي حنيفة، وفي "بيان السنّة والجماعة" للطحاوي، و"شرح الطحاوية في العقيدة السلفية"، وفي "الرسالة القدسية" للإمام الغزالي الذي جاء "الاقتصاد في الاعتقاد" توسيعاً لها، وفي "العقائد النسفية" (والنسفي ماتريدي) ففي كتاب "الفقه الأكبر في التوحيد للإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان" المطبوع مع "الفقه الأكبر" لابن ادريس الشافعي، طبعة القاهرة الثانية 1364هـ، أو طبعة حيدر أباد 1321هـ الملحق بها شرح لأبي المنتهى، أو طبعة القاهرة 1327 هـ مع شرح لعلي القاري... نقرأ القاعدة رقم 11: "لا نكفر" مسلماً بذنب من الذنوب، وإن كانت كبيرة، إذا لم يستحلّها". وقال الإمام الطحاوي "ولا نُكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحلّه" (العقيدة الطحاوية ص60).
خامساً: تبلور فكر أهل السنّة والجماعة في ثلاثة اتجاهات: الأشاعرة والماتريدية والحنابلة، يقول أبو مظفر الاسفراييني "لقد امتاز أهل السنّة بما نقلوه من الاخبار والآثار عن الرسول والصحابة" (التبصير في الدين ـ ص 114). اذن هم اخباريون أو اثريون أو سلفيون.. إلى حد ان بعض العلماء تساءل ان كان مصطلح أهل السنّة، وأهل السلف، والصفاتية، يدل على نفس المذهب.. فبالرجوع إلى كتب المقالات والفرق نجد البغدادي يذكر ان الصفاتية هم صنف من أصناف أهل السنّة والجماعة الذين يؤرخ لهم (الفرق بين الفرق ـ ص 300). اما الشهرستاني فيقول ان الصفاتية هم "سلف أهل السنّة والجماعة وعلى رأس هؤلاء مالك بن أنس" (الملل والنحل ـ ج1 ـ ص118).
وهو يقول ان أحمد ابن حنبل أعقب مالكاً، ثم ابن كلاّب، والمحاسبي والقلانسي.. اما الاشعري فيعيد إسناده عقيدة أهل السنّة والجماعة إلى الإمام علي بن أبي طالب نفسه إذ يعتبره أول المتكلمين من علماء السنّة والجماعة حين جادل الخوارج وناظرهم كما رد على القدرية (مقالات الإسلاميين ـ ج1 ـ ص320).
كما ان الإمام الأعظم أبا حنيفة النعمان ساهم في تأصيل عقيدة أهل السنّة والجماعة خصوصاً في كتابه الفقه الأكبر ورسالة الرد على القدرية ورسالة العالم والمتعلم، وأخيراً وصيته إلى عثمان البتي، كما يذكر ابن النديم في الفهرست (ص 202).. خلاصة ما أريد قوله هنا ان أهل المذاهب الشافعية والحنفية والمالكية، وهم أشعريون وماتريديون، لا ينكرون سلفيتهم بل يعتزون بها. وهم وقفوا إلي جانب الإمام ابن حنبل في محنته المعروفة مع المعتزلة وقد أدى صراع الأشاعرة ضد المعتزلة إلى صياغة مدوّنات العقائد الاشعرية والماتريدية والطحاوية والنسفية وغيرها، وكلها سلفية في الأمور الأساسية.. لا بل ان الإمام الاشعري كان سلفياً بامتياز في مطلع صراعه مع المعتزلة وخصوصاً في كتابه "الابانة عن أصول الديانة" (طبعة القاهرة 1348 هـ). وها هو تلميذه ابن عساكر يدافع عنه في كتاب عنوانه "تبيين كذب المفتري في ما نسب إلى الإمام أبي الحسن الاشعري" (دمشق 1374 هـ). فالأشعري يبتدئ كتابه بمدح ابن حنبل مدحاً يبلغ حد الإفراط. وهو يقرر جملة قواعد للايمان من ضمنها: "ونصدّق بجميع الروايات التي أثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا... ونقول ان القرآن كلام الله غير مخلوق، وإن من قال بخلق القرآن كان كافراً... وندين بحب السلف الذين اختارهم لصحبة نبيّه. ونقول ان الإمام بعد رسول الله أبو بكر ثم عمر ابن الخطاب ثم عثمان ثم علي بن أبي طالب.. ونعوّل فيما اختلفنا فيه على كتاب الله وسنّة نبيّه وإجماع المسلمين وما كان في معناه.. وندين بترك الخروج على أئمة المسلمين بالسيف وترك القتال في الفتنة.. ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها ولا نقول على الله ما لا نعلم.. ومن ديننا ان نصلي الجمعة والأعياد خلف كل برّ وفاجر.. ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم وتضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة.." الخ...
أفلا ترى يا أخي محمد ان الاعتقاد واحد عند "السلفية" وعند الاشعرية... أفلا تقرأ قول ابن عساكر في تبيينه: "تبيّنوا فضل أبي الحسن (الاشعري) واعرفوا إنصافه واسمعوا وصفه لأحمد بن حنبل بالفضل واعترافه، لتعلموا انهما كانا في الاعتقاد متفقين وفي أصول الدين ومذهب السنّة غير مفترقين".
أفلا تعلم ان الاشعري احتفظ لنفسه (كما ابن عبدالوهاب) بشيء من الاستقلال بين المذاهب الفقهية في زمانه حتى ظنّ كل إمام انه يذهب إلى ما يذهب إليه هو.. وحتى أدّى ذلك ببعض المؤرخين إلى ان يذكروه تارة مالكياً (بسبب كون تلميذه والمدافع عنه الباقلاني مالكياً) وطوراً حنفياً (مسعود بن شيبة وعبدالقادر القرشي والمقريزي).. في حين يطيب للأغلبية ان تراه شافعياً (يتساءل السيد المرتضى ان كان الاشعري شافعياً وحنفياً في آن معاً وهو أمر وقع لغيره أيضاً).. وكان الاشعري يقول: "كل مجتهد مصيب وكلهم على الحق وانهم لا يختلفون في الأصول وإنما يختلفون في الفروع".. وهو رجع إلى ما كان عليه أهل السنّة أي القرآن وتعاليم السلف.. مما أوقعه في اضطراب كبير بسبب استخدامه لعلم الكلام الذي يعني استخدام العقل في شرح العقيدة.. وقد نبّه غولدزيهر (الذي يستشهد به السيد الولي) إلى ان الاشعري "ما يزال من علم الكلام على عتبته"، وإنه من الخطأ ان يسوى ببساطة بينه وبين الأشاعرة من بعده الذين ارتضوا أكثر مما ارتضى هو التقيّد بعلم الكلام في تكييفهم المذهبي للعقيدة.
فالأشعري كان أولاً معتزلياً صميماً ومن أنصار العقل المتهوّسين، ولذا فإنه حين انتقل للرد على المعتزلة مستخدماً علم الكلام سار (ككل المنشقين في التاريخ) سيراً أصولياً سلفياً.. فتقيّد بتأويل النص بالظاهر إلى حدّ بدا معه انه من أتباع ابن حنبل.. وهذا ما جاءت به "عقيدته" التي استهل بها كتابه في الابانة حين صرّح بالانتساب إلى الإمام المتشدّد ومن الثناء عليه حد الإفراط.. وهذه "الظاهرية" الشديدة لدى الاشعري انفرد بها هو دون تلامذته ومن لحق بهم، الأمر الذي أدّى إلى نشوب النزاع بينهم وبين الحنابلة (ابن تيمية خصوصاً) والظاهرية (ابن حزم تحديداً).
والنقطة الفصل بين الأشاعرة والحنابلة تتعلق كما سبق القول في الأخذ بعلم الكلام والجدل العقلي لإثبات قضايا التوحيد والايمان أي للدفاع عن الموقف السلفي الذي هو موقف أهل الحديث.. ولعل في موقف الغزالي اللاحق من الكلام والفلسفة على العموم ما يقرّب لنا المعنى المراد من قولنا بسلفية هؤلاء الأشاعرة.. لا بل بالسلفية الكامنة صلب كل مذهب إسلامي على الإطلاق (حتى مذهب الاصوليين الشيعة أعداء الاخباريين)، والحقيقة ان الماتريدية كانت أكثر التصاقاً بالعقل وبالتسامح العقلي، وأكثر التصاقاً بالمذهب الحنفي.. حتى قيل عنهم انهم "معتزلة يتسترون".. إذ يتصوّرون العقل قادراً على ان يدلنا حتى بدون الشرع على ان معرفة الله أمر واجب، في حين يرى الأشاعرة ان الوحي وحده هو الذي يطلعنا على هذا الوجوب.. والفروق بين الأشاعرة والماتريدية تفوق الخمسين، كلها في الفروع، حتى قيل عنهما انهما "أهل السنّة والحديث".. فالاشاعرة في القسم الغربي من العالم الإسلامي (مصر والعراق والشام) والماتريدية في القسم الشرقي (آسيا الحنفية على العموم).. ولم يستتبّ النصر للاشعرية إلا بعد ان أنشأ نظام الملك (الوزير السلجوقي المشهور) مدارسه (النظاميات) في بغداد ونيسابور، فانتشرت على يد السلاجقة ومن بعدهم الايوبيون والمماليك.
سادساً: ولا أريد هنا الدخول في صراعات ونزاعات وسجالات علماء المسلمين من المذاهب كافة حول الأمور التفصيلية في العقيدة وفي الفقه، إنما المراد صار واضحاً وهو الإشارة إلى معنى السلفية الكامن في صلب كل المذاهب.. ومن الدلائل الأكثر قرباً من على صحة ما أقول انه تكفي نظرة واحدة إلى الجماعات الإسلامية المعاصرة حتى نتبيّن ان "السلفية الجهادية" أو تلك "التكفيرية"، ليست حنبلية أو وهابية.. فالجماعة الإسلامية والجهاد المصريتان نشأتا في بيئة شافعية ومالكية وكذلك الأمر بالنسبة لجماعات اندونيسيا وماليزيا وتلك الاصقاع الشافعية والحوثيون نشأوا في بيئة شيعية زيدية.. وطالبان تنتمي إلى المذهب الحنفي.. والجماعات المغربية والجزائرية كلها مالكية.. وليس المقام هنا لعرض كيفية انتقال طلبة العلم الأحناف أو الشوافع أو المالكية إلى حضن الأصولية التكفيرية، فتلك تحتاج إلى تحليل سوسيولوجي تاريخي وليس فقط إلى استعراض كلامي ـ فقهي، (الأمر الذي عرضته في الحلقات 2 و3 من مقالتي السالفة الذكر)، إنما أختم مرة أخرى بالدعوة إلى الحرص على عدم تكفير أي كان، وبالمطلق، وإلى عدم تنصيب أنفسنا قضاة أو ولاة على عقول وأفكار وأرواح البشر.. وتكفينا العبرة في ان المعتزلة، أهل العقل والعدل، كانوا أشد استبداداً وقمعاً دموياً من خصومهم الحنابلة.. وأن الخوارج أسلاف كل دعوة سلفية تكفيرية كانوا يقولون كلام حق يريدون به الباطل (على حد وصف الإمام علي لهم).. فليس العلّة في ابن تيمية أو في ابن عبدالوهاب، وإنما في حالة ثقافية ـ فكرية سيطرت على العالم الإسلامي منذ محنة الحنابلة والمعتزلة، وتطوّرت بعد سيطرة المماليك على مقاليد السلطة.. وهي حالة مات فيها العقل والفلسفة والنهضة وعلم الكلام وساد الجمود والجفاف حتى ان الاشعرية والماتريدية فقدت كل طراوة نشاطها الأول وجمدت في الأطر التي تتناقلها "الكتب المدرسية" أو "المدارس" التي صارت تشرح وتعيد تكرار شرح الكتب نفسها.. وإلا فكيف نفهم ظاهرة طالبان المنبثقة من مدارس الديوبندية الحنفية في باكستان وأفغانستان، أو ظاهرة "أمراء التوحيد والجهاد"، أولئك الجهلة الذين صاروا يُفتون في الشاردة والواردة ويكفرون كل من ليس معهم؟. ولم يعد الاجتهاد (الذي يتبجح به بعض الفقهاء) سوى تكرار وتوضيح وتنقيح ضمن أطر المذهب والتقليد.. ويكفي ان نراجع أسماء الكتب التي يدرسها طلبة العلوم الدينية في النجف وقم، أو في الأزهر والزيتونة.. فلا نجد فرقاً بين السنوسي المالكي والباجوري الشافعي والشهيد الأول الشيعي.. أفلا نتفكر أيضاً ونتدبر في موقف المجدد والمصلح الكبير الإمام محمد عبده المصري الذي يرفض سلطان المذاهب القائم على الاجماع ويرفض التقليد (تماماً كمحمد ابن عبدالوهاب على ما بينهما من فروق واختلافات) ويدعو إلى اعتبار القرآن والسنّة الصحيحة وحدهما أساس الاجتهاد.. هذا هو ما قصدته في شرح معنى السلفية وفي عرض الاختلافات والفروق بين أهلها، وفي الدعوة إلى التقصي الدقيق وإلى التمحيص العلمي، فلا ننساق وراء كل ناعق في غربال.. فما قتل العقل في بلادنا ولا أذل أمتنا وشعوبنا سوى الجهل والتخلف والتحول إلى قطعان هائجة يقودها مشعوذون دجّالون.. ليس العيب في عداوة الإمبريالية والصهيونية ومؤامراتهما.. إنما العيب في جهلنا وتخلفنا.. ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم.