الصفحات

الأحد، 23 أغسطس 2009

عن أي حوار وعن أي مصالحة وطنية يتحدّثون؟

عن أي حوار وعن أي مصالحة وطنية يتحدّثون؟
المستقبل 24 و 25 أيلول 2000
بقلم سعود المولى
تتميّز الأصوليات، القديمة، والحديثة، العلمانية كما الدينية، في إدعائها تمثيل الحقيقة المطلقة التي لا يأتيها الباطل لا من خلف ولا من قدام، ولا تعتريها النسبية أو تتأثر بأي عوامل، والتي تصدر عن ذات مفارقة للزمان والمكان، جوهر أزلي أبدي، يحمل تارة إسم الأمة أو الكنيسة أو المذهب، وأطواراً كثيرة إسم الديمقراطية والحوار والتعددية.

وفي قاموس هذه الأصوليات أن الحوار وسيلة للإقناع طالما أن الحقيقة معروفة، وأن التعددية هي من مستلزمات الصورة العصرية طالما ظلت تحت سقف الغلبة، وأن الديمقراطية تحصيل حاصل بفعل العنوان الذي أحمله أنا.. فلو كنت أنتمي إلى هذا الحزب أو ذاك، أو أكتب في هذه الجريدة أو تلك، فأنا حتماً ديمقراطي، وأكثر من ذلك: فأنا حتماً وطني، والوطنية هنا تعني رأيي أنا في الوطن وقضاياه ومصيره.. وأنا أستطيع بالتالي توزيع صكوك الغفران وشهادات الوطنية على من يناسب عقلي وشكلي وأن أفرض أيضاً فهماً معيّناً وذوقاً محدداً كأطر عامة لا تقبل النقاش ينبغي أن تندرج الثقافة والسياسة تحت سقفها وكل ما يخالفها فهو رجس من عمل الشيطان، والشيطان هنا هو الآخر، المختلف، الذي لا يحمل نفس الفهم أو الذوق أو الفكر أو العقل أو الشكل.. وما أسهل فتاوى التخوين والتكفير وهي بالمناسبة ليست شأناً خاصاً برجال الدين، بل هي أكثر ما سادت وتسود في الأوساط "العلمانية والديمقراطية والوطنية".. (طبعاً مع حفظ الألقاب)..

والقول الفصل في مسألة الإختلاف والتعدد والحوار هو في النهاية للقوة والغلبة. فالحوار يخضع لمنطق القوة، أخوضه إذا كنت ضعيفاً لكسب الوقت ولزيادة القوة ولإضعاف الخصم وتضليله أي تحت عنوان "التمسكن" قبل "التمكّن".. فإذا ما تمكّنت وتغلبت فلا حوار ولا من يحزنون..

وقد أخوض الحوار إذا كنت قوياً متمكناً وذلك كنوع من الدعاية أو التبشير أو عرض البضاعة في السوق كي يتم تشكيل عقول الناس وأذواقها حسب ما أقول ووفق منطق ميزان القوى والغلبة فالناس على دين ملوكها، والناس عبيد الدنيا، والناس تنقاد لمن غلب.. (وهكذا.. وكلها أمثلة من تراثنا والديني منه تحديداً)


الحوار هنا إذن، وفي كل الأحوال، ليس مبدأ، وليس أصلاً ثابتاً، وليس قيمة، بل هو وسيلة وآلية ضمن إستراتيجية أعم هي إستراتيجية النفوذ والقوة..

والحقيقة أن الإسلام يرفض هذا المعنى، ويرفض الأصولية بالتالي، كشكل تعبير أو تنظيم، ويرفض الإستقواء والغلبة. ذلك أن الحكمة والمعرفة والحقيقة هي ضالة المؤمن، يأخذها أنّى وجدها، ولو في قلب كافر أو عقل مشكك، ولو في الصين أو الغرب.. وهي ملك للناس ينشدونها كدحاً وجهداً ساعين في مناكب الأرض يتأملون ويتعلمون، يراكمون التجارب ويستخلصـون الدروس، يتحاورون مـع النص ـ الكتاب، ومع الطبيعة ـ الكتـاب، ومع الإنسان ـ الكتاب، وفي سنّة التدافع، ﴿ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع﴾ ... أو ﴿لفسدت الأرض﴾ ... ﴿إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم﴾، بالحوار الحق القائم على العلم والمعرفة وعلى التضامن.. وعلى قبول الآخر كما هو، لا كما أريده أنا أو أتصوّره، لأن الحوار مكاشفة ومصارحة في حديث القلب والروح وليس تكاذباً ونفاقاً، ولا زغلاً ودجلاً، ولا تكتيكاً وتقيّة..

ولنا في رسول الله أفضل مثال وأسوة، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، وهو ناقل الوحي، أي الحقيقة المطلقة، فإذا به يدعو مخالفيه والكافرين برسالته إلى كلمة سواء يقف فيها وإياهم على قدم المساواة.. (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) (قرآن كريم).

ولنا في سيرة الصحابة والأئمة أكثر من دليل ومثال.. ويكفي أن نردّد مقولة الإمام الشافعي رضوان الله عليه: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب) وأن نستعيد القاعدة الذهبية لمجلة المنار وللشيخ رشيد رضا ومن بعده للشهيد الإمام حسن البنا وهي مأخوذة أيضاً من أئمة الفقه: (نعمل في ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا البعض في ما نختلف فيه)..

ولن تكفي مقالة واحدة في هذه الصفحة لتعداد آداب الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن ومعاني المحبة والعفو والإحسان والعدل ولو على الأقربين، والتي أرساها الإسلام في حياة البشر ليكون دين السماحة واليسر لا العصبية والعسر، دين العدل والمساواة لا القوة والغلبة، دين الوفاء بالعهود والصدق والإستقامة والأمانة لا مكان فيه لدجل أو نفاق أو تكاذب أو نكث أو ارتداد..

أسوق هذا الكلام، وربما نحتاج إلى الكثير غيره، ونحن نشهد ما نشهد اليوم من تقاصف بالبيانات والخطب والإجتماعات ومن تكذيب وتخوين وتكفير ومن توزيع لشهادات الوطنية والديمقراطية ومن حجب لصكوك الغفران أو إعطاء لمفاتيح الجنان.. وكاننا وبعد عشر سنوات على الطائف لم نتعلم شيئاً ولم نفقه أمراً..
ولقد سبق لي أن كتبت وفي هذه الصفحة بالذات مقالات كثيرة في ربيع هذا العام، وكلها تحدثت عن ضرورة العدل في سلوكنا وفي حياتنا السياسية وعن وجود خلل كبير في ممارستنا للسلطة وفي بنائنا للدولة والمجتمع بعد اتفاق الطائف وعن وجود شعور كبير بالغبن والظلم لدى قطاعات واسعة من المسيحيين، وعن وجود شعور بالغلبة والإستقواء لدى قطاعات من المسلمين، وعن ضرورة الحوار الوطني حول هذه الأمور وحول العلاقة مع سوريا ومع العرب ومع العالم.. وعن أمور كثيرة.. لا بل إن الوثيقة اليتيمة التي أصدرتها اللجنة الوطنية للحوار الإسلامي المسيحي والتي أمثل فيها المرجعية الشيعية إلى جانب إخواني ممثلي بقية المرجعيات، هذه الوثيقة الصادرة في 5 كانون الثاني 1995 تحدثت منذ ذلك الوقت عن هذه الأمور، وحملت تواقيع المرجعيات الروحية كافة، وهي دعت إلى تصحيح الخلل وإلى إقامة العدل والتوازن قبل إستحفال الأمور وتفاقم العواقب..

فكل إنسان عاقل مدرك، وكل غيور على الوطن، وكل عامل في سبيل الحوار والوحدة والتضامن، كان يدرك أن الظلم والغبن لا بد أن يولدا صرخة وصرخات، وتحركات.. ولقد سبق أن خبرنا ذلك حين صدور "النداء الخير" عن سينودوس الأساقفة الكاثوليك المنعقد في الفاتيكان من 26 تشرين الثاني إلى 14 كانون الأول 1995.. فكيف نستهجن إذن ونستغرب ما صدر أخيراً في نداء إجتماع المطارنة الموارنة؟ (وهو نداء وليس بياناً أي أنه يستعيد نفس صيغة النداء الأخير هادفاً إلى طرح الصوت وإعلان الصرخة التي يأتي بعدها البيان الشافي كما حصل مع الإرشاد الرسولي).

ما أن يصدر كلام مسيحي حتى نسارع إلى إصدار كلام مسلم مضاد له.. ما أن يتحدث أحد قادة الموارنة حتى نسارع إلى فتح ملف التكفير والهجرة..

عشر سنوات والكنيسة والشارع المسيحي يشكوان ويشتكيان ونحن نقول لهما أننا نفهم الشكوى ونوافق على أن المطلوب تصحيح الخلل وإعادة التوازن ولكن فليتم ذلك تحت سقف الدولة ومن خلال المؤسسات.. عشر سنوات مضت فإذا بنا نحن نقول علناً جهاراً أن الدولة ليست دولة، وإن المؤسسات غير موجودة.. وإن القضاء ليس قضاءً، بل هو أقدار مرسومة. ثم جاءت انتخابات الألفين وقلنا نحن المسلمين فيها ما لم يقله مالك في الخمر، وكانت ثورة شعبية عفوية أطاحت بكل الخطوط الحمر والصفر، في بيروت والبقاع والجنوب والجبل.. وتبلورت المواقف في إكتساح جماهيري درزي وسني وشيعي حول رموز وقيادات من طينة الحريري وبري وجنبلاط.. وصفقنا لذلك باعتباره الدليل الأمثل على الخيار الشعبي.. فلماذا نصم الآذان ونغلق العيون إذن عن رؤية ما تبلور في الشارع المسيحي؟ لماذا نريد أن نفرض رموزاً مهترئة على الشارع المسيحي الذي رفض هذه الرموز ونبذها وأسقطها في الإنتخابات رغم مقاطعته الكبيرة لها؟ لماذا نصفق لوليد جنبلاط حين يتحدث عن الوجود السوري ونرجم المطارنة بأقذع السباب حين يقولون بضرورة العلاقات المميزة والمتوازنة مع سوريا؟ لم يتحدث نداء المطارنة بغير اللغة التي تحدث بها كل النواب والوزراء ممن أجمعوا على القول بأن قانون الإنتخابات كان فاسداً وظالماً ومعيباً. ولم يرد في النداء أي مقطع أو جملة لم يتكررا خلال الأسابيع الماضية في كل وسائل الإعلام المسموع والمقروء والمرئي وعلى ألسنة كل السياسيين معارضين وموالين.

ولقد سبق لي أن كتبت أنا شخصياً بان الحكمة الخفية في قانون الإنتخابات كانت الإمعان في تشتيت وإضعاف المسيحيين، وفي تهميش السنة وشق الدروز.. كان الرد العفوي الطبيعي إكتساحاً جماهيرياً سنياً لم يسبق له مثيل متحالفاً مع وحدة درزية صلبة حول الزعيم جنبلاط وهي وحدة لطالما حصلت في الأوقات الصعبة حين يدق ناقوس الخطر على الطائفة، ومتقاطعاً مع وحدة شيعية "مقدسة".
ألم يكن طبيعياً والحال هذه أن ينتفض الجسم المسيحي ويعيد تركيب أعضائه فيطرح من داخله ما لصق عليه خلال السنوات العشر الماضية ويعاقب من ادعى تمثيله والنطق بإسمه؟ أليس غريباً أن نرتد على هذا الوضع المسيحي ونتهمه بالإحتماء بسقف أميركي ـ إسرائيلي نعلم يقيناً أنه غير موجود وإذا كان موجوداً ففي غير هذا المكان؟ وإذا كانت أميركا تريد الضغط على سوريا عبر تحريك ورقة الإنسحاب من لبنان، أفليس صحيحاً أن هذا الضغط يهدف إلى تقديم سوريا تنازلات على جبهة التسوية في الجولان مقابل السكوت عن وجودها في لبنان؟ ألا يعرف المسيحيون ذلك؟

أعتقد انهم يعرفون ويدركون ومن هنا قولهم وقولنا معهم أن مصلحة سوريا ولبنان هي في التكامل وفي النهوض معاً وفي العلاقات الصحيحة المعافاة المتوازنة التي تحمي أمن البلدين وتصون مصالح الشعبين وتحقق سيادة واستقرار الدولتين.

إن ما حدث في الأيام الأخيرة، من إستنفار إسلامي و "وطني علماني" ضد البطريرك صفير ونداء المطارنة، لا يبشّر بالخير، وهو إساءة كبيرة إلى الحوار وإلى السلم الأهلي والمصالحة الوطنية..

أولاً: لأن ما قاله النداء هو ما قاله ويقوله كل الناس، ومن دون إستثناء، اللهم إلا شلة المستفدين الناهبين مصاصي الدماء.

ثانياً: لأن النداء جاء في لغة معتدلة وحوارية وطرح التعاون والتوازن على المستوى الداخلي كما على مستوى العلاقة مع سوريا.

ثالثاُ: لأننا كنا قد صرعنا الآذان حديثاً عن المصالحة الشاملة وعن الحكومة الوفاقية السياسية الممثلة للجميع.. فماذا قصدنا بالمصالحة وبالوفاق وبالتمثيل الشامل؟ هل كان ذلك شعارات استهلاكية؟ أم أننا لا نعرف ماذا نقول؟

رابعاً: لأنه لم يعد مقبولاً وتحت أي ذريعة استمرار سجن جعجع ونفي عون.

خامساً: لأن التكفير والتخوين واستحضار تهم العمالة لأميركا وإسرائيل أصبحت كاريكاتوراً مضحكاً مبكياً خاصة حين تصدر عمن صدرت عنهم.

سادساً: لأن أول أسس الحوار هو أن نسمع رأي الآخر وأن نعرف ماذا يقول وكيف يفكّر، لا أن نفرض عليه رأياً وتفكيراً نمطياً ولغة خشبية جامدة لم تعد تصلح حتى في الجنائز والأعراس.

سابعاً: لأننا نحترم أنفسنا ونحترم مواثيقنا وعهودنا، ونحترم دستورنا وهو القائل "لا شرعية لأية سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك".

ثامناً: لأننا نحترم مرجعياتنا الروحية، صمام أمان الوحدة الوطنية، ونحترم كلامها الذي ينم عن روح المسؤولية الوطنية العامة، ولا نحتكم إلى نقيق الضفادع، التي دمرت الوطن خلال الفتنة ثم أصبحت اليوم توزع علينا شهادات الوطنية والديمقراطية.

تاسعاً: لأننا نريد لسوريا الخير والتقدم، ونريد للعرب العز والسؤدد، فإننا نقول صديقك من صَدَقك.. لا من صدّقك.. ولا خير في صديق لا يقول لك عيوبك، ولا خير في علاقة تقوم على الدسائس والتكاذب وعلى تبديل البندقية لحظة إنقلاب موازين القوى.. ونحن نعرف من التجربة أن المدافعين اليوم عن سوريا (نفاقاً وتزلقاً) هم الذين أنجزوا إخراج سوريا من لبنان عام 1983، والذين وقّعوا اتفاق القاهرة هم أنفسهم ألغوه ووقعوا 17 أيار ثم ألغوه ووقعوا غيره.

عاشراً: لأن الحوار ينطلق من الإعتراف بالإختلاف، وبالآخر شريكاً مختلفاً، وبحق الآخر بهذا الإختلاف وباحترام هذا الحق، وبالبحث معه عن الشراكة لا القطعية، وعن التآلف لا التنابذ، وعن إكتشاف مساحات مشتركة لتطويرها والإنطلاق منها لصياغة رؤية ونظر مشتركين إلى الأمور (كما فعل اتفاق الطائف) وذلك عكس الدعوة إلى الإستيعاب أو الإلغاء أو تذويب الآخر أو الطلب منه مغادرة مواقعه الطبيعية كشرط لقبوله.. فالحوار هو توليد لشراكة حقيقية قائمة على المعرفة وعلى الإحترام وعلى الإختلاف ولذا فإن أصعب خطواته هو حوار الذات، ونقد الذات، ومساءلتها.

حادي عشر: إن المؤسسات القائدة للمجتمع الأهلي (المرجعيات) هي، حسب ما صدر في بيان للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بتاريخ 25 أيلول 1975: "أعمدة حضارية للوطن ولربط حاضره بماضيه ومستقبله وبالتالي فإنها مسؤولة عن صيانة المعالم الحضارية للطوائف وللبلاد وليست أطراً طائفية رجعية كما يريد أن يصورها البعض. وإذا كانت السلطات هي المسؤولة عن إدارة العلاقات العامة بين المواطنين وتنظيمها، فإن هذه المؤسسات ـ المرجعيات تصون المحتوى وتحفظ الوحدة الوطنية والترابط بين الأجيال"، وهي كانت على الدوام ضمير الوطن وذاكرة العيش المشترك وحاملة لواء الوطن الواحد والدولة الجامعة.

ثاني عشر: ينبغي أن نضع خطاً واضحاً بين القوى التي حاربت مشروع الدولة، ثم إستفادت منه وأكلته وشربت خيره، وبين القوى والمقامات التي حملت مشروع الدولة وحضنته ودفعت الثمن في سبيل ذلك، ولم تنل منه أي إعتراف بالجميل ولا نالت منه أي خير، لأنها رأت عن صواب أن الخير هو للوطن وللمجتمع.. إن للوفاق وللوحدة الوطنية وللسلم اللأهلي آباء حقيقيين معروفين ولا يستطيع آباء "الفرصة السانحة" أو الأنابيب الإصطناعية أن يغيروا حقائق علم الوراثة.

ختاماً، فإن مسيرة السلم الأهلي والمصالحة وبناء الدولة ومؤسساتها قد إنتكست وتراجعت وهي تعاني من ثغرات أساسية ونقاط خلل فاضحة، اعترف بها الجميع، وليس أقلها ذلك الإلتباس في ممارسة السلطات بين الرئاسات الثلاث، وعدم وجود القضاء كسلطة دستورية مستقلة توازن السلطتين الإشتراعية والإجرائية وتضمن وتصون الحريات العامة والخاصة، وعدم وجود قانون إنتخابات شرعي وعادل (من المثير للسخرية أن يعترف الرئيسان الحص وبري بمعارضتهما لقانونهما للإنتخابات من دون أن يقولا لنا كيف مر هذا القانون اللقيط في مجلس الوزراء والنواب).. وعدم إنجاز إصلاح إداري حقيقي بل تفاقم الفساد وسوء الإدارة، وعدم حصول أي إنماء متوازن خصوصاً في البقاع الشمالي وعكار والضنية، والعجز المستمر عن بناء علاقات أخوة وتعاون حقيقية ثابتة ومتوازنة مع سوريا، إلى الإنهيار الشامل في القيم والأخلاق الناظمة للحياة السياسية وللعلاقات داخل إطار النخب السياسية الحاكمة (وقد إنضمت إليها مؤخراً أزمة الأحزاب العقائدية كالشيوعي والقومي وحزب الله والجماعة الإسلامية).

إن ذلك كله، مضافاً إليه حالة الشعور بالغبن والظلم في الشارع المسيحي، قد أسس ويؤسس لشعور وطني عارم بالفراغ السياسي وبالإحباط واليأس، يضاعف منه ويفاقمه مفاعيل الأزمة الإقتصادية الإجتماعية مما يخلق حالة جفاء بين فئات واسعة من المواطنين وبين الدولة ومؤسساتها.. وما لم تعالج الشكوى من الخلل في التوازن السياسي في السلطة وفي إدارة الشؤون العامة، وما لم يتم التوافق الحقيقي على شؤون الحكم، والمصالحة الحقيقية، وطي صفحة الماضي بكل ما يعنيه ذلك (ولنا في مبادرات الزعيم وليد جنبلاط خير النماذج الوطنية) وما لم يتم الإعتراف بحق الآخرين في التعبير عن ذاتهم وعن مشاعرهم، وبضرورة تمثيل الجميع في حكومة وطنية سياسية تستطيع وضع استراتيجية إنقاذ حقيقية.

ما لم يتم ذلك فإن مجمل الإنجازات التي حققتها جمهورية ما بعد الطائف ستبقى على أهميتها قاصرة عن تأمين ضرورات صيانة العيش المشترك وبناء الدولة.

والحال أن المطلوب اليوم بلورة تضامن وطني حقيقي، جامع غير اختزالي، في إطار حوار صريح وواقعي، وإطلاق لغة سياسية جديدة وثقافة سياسية جديدة، من أجل المستقبل، وإلا فسلام على لبنان وعلى المستقبل.. نعم هكذا بكل وضوح!

وليتحمل الجميع مسؤولياتهم!