الصفحات

الثلاثاء، 18 أغسطس 2009

ندى وأبطحي.. بين القتل المحترف والاعتراف المحرَّف

السيد هاني فحص
الثلثاء 18 آب (أغسطس) 2009



في حقيبة ذكرياتي صور لعدد من الشهداء الإيرانيين الذين سقطوا بالرصاص في مظاهرات الاحتجاج على الاستبداد والفساد، أو قضوا تحت التعذيب في سجن (إيوين) إياه، أو سجن (كهريزك) الذي أقفل قبل أيام، بعد الاكتشاف المتأخر جدا، من قبل أعلى هرم السلطة، بأنه تنقصه كل الشروط الإنسانية ليكون سجنا.. كان ذلك كله من فعل جهاز أمن الشاه (السافاك) الذي يلتبس في ذاكرتي وذاكرة الإيرانيين وفي لساني بـ(الموساد) وقد كانا رضيعي ثدي واحد، متعاونين ومتداخلين إلى الحد الذي يستدعي الالتباس ويفسره كذلك. شهداء أحياء وأحياء شهداء وخريجو أقبية معتمة، مرسومة في وجوههم وعلى ظهورهم وفي أعماقهم صور القتلة والخفافيش الكاسرة. (نواب صفوي والشيخ الغفاري والسيد سعيدي، ود.فاطمي وعلي شريعتي ومصطفى الخميني والسيد خامنئي والشيخ حسين علي منتظري وهاشمي رفسنجاني ومهدي كروبي والمهندس متيمي وعباس زماني الخ).

ومن بين هذه الصور صورة لخليل الوزير (أبو جهاد) مزينا بخمسين رصاصة، وصورة لمحمد الدرة الطفل الراشد لائذا بأبيه المذهول المذهل.. وصورة لفارس عودة الطفل وهو يعطب دبابة إسرائيلية بحجر فتقتله دبابة أخرى بقذيفة. ولياسر عرفات مبتسما تكاد ابتسامته تختزل وجهه المزموم ألما، صورة يظهر فيها من على سلم الطائرة ما تبقى من جسده العنيد الذاهب إلى شهادة لطالما انتظرها وانتظرته وتأخرت لأن القاتل تأخر عن موعده. إلى صورة محمد باقر الصدر ومرتضى مطهري ومفتح ومحمد منتظري ومحمد بهشتي وموسى الصدر ومنصور الكيخيا (ذهبا إلى ليبيا أولهما ضيفا والثاني كرها، ولم يرجعا حتى الآن). مع صورة جيفارا وفيكتور غارا وعمر المختار والمقدم عميروش وجول جمال الطيار السوري (المسيحي) بطل حرب السويس 1956، والمهدي بن بركة والقسام وعبد القادر الحسيني وجان دارك ودلال المغربي وبلال فحص وراغب حرب وعبد العزيز الرنتيسي. إلى آخر المنظومة المرجانية المنضدة في ضمائرنا وأحلامنا وحكايانا على خيط من حرير رفيق متين وناعم، طالع من شرنقة دؤوب.

الثاني عشر من يونيو (حزيران) يوافق في التقويم الإيراني الثاني والعشرين من شهر خرداد ذكرى بداية التصاعد في الثورة ضد نظام الشاه بقيادة الخميني، ويومها ارتكب النظام مجزرة في قم واعتقل الإمام الخميني ثم نفاه. في هذا اليوم من هذا العام صفعتني صورة الصبية الإيرانية الطهرانية (ندى سلطان آغا) مطروحة أرضا على إسفلت الشارع والدم يتدفق من فمها ويرسم على الوجه الجميل والأرض الساخنة خيوطا وخطوطا تحتاج إلى قراءة وتفسير عميق. كانت ندى عائدة من حصة الموسيقى في المعهد الفني صحبة والدها، تمر في المشهد فتجد نفسها فيه فتنضم إليه بسلام. غير أنها ماتت.

تندّيني وتناديني صورة ندى، تذكرني وتبكيني على الماضي والآتي معا.. على الدم النقي الجميل يدفق من فمها وأنفها وأنوفنا وقلوبنا. وأبوها الذاهل المذهول لا يستوعب من الهول ما يرى.. ولا أنا.

«يوم ترونَها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وترى الناس سكارى وما هم بسكارى».

هل يمكن لأبله، فضلا عن النبيه، أن يصدق أن موظف الـ (بي بي سي) هو الذي قتلها وبهذه السرعة بعدما استأجر قاطع طريق للمهمة؟ وقد سبق لجهاز أمن النظام السابق في بغداد أن أجبر الناس على الاعتقاد بأن الحسين قتل في حادث سير في شارع أبي نؤاس!

سأضع صورة ندى في حقيبتي وأصغي لندائها مع أول قطرة ندى تستقر على ورقة حبق أو دهنون أو وردة بين صخور جبل البرز المطل على طهران من الشمال، فيفوح العطر ويحتشد الرحيق. لا أريد أن أقتل أو أثأر أو أدعو إلى الثأر. كفانا ثارات تحذف مستقبلنا أو ترميه في أقبية الماضي.. وأدعو إلى السلام، إلى التسوية والتنازل الشجاع والشريف من أجل السلام. وأصغي لصوت ذلك الإيراني المكلوم قلبه وصوته يصرخ بالشرطي عشرات المرات بفارسية صريحة واضحة وجريحة، حتى بح صوته وتهدج، والشرطي يجلد والدته بالسوط والرجل يهيب به «بير زن نزن» لا تضرب العجوز. ولكن ضربها. ثم غابت الصورة ولم تغب.

كانت أوامر الجنرال (أويبسي) حاكم طهران العسكري بإطلاق النار على المظاهرات قبل أسابيع من انتصار الثورة في إيران في 11 (فبراير) شباط 1979 وراء المجزرة التي ذهب ضحيتها عشرات الشهداء ومئات الجرحى وعجلت بسقوط النظام. وسميت الساحة التي وقعت فيها المجزرة في جنوب طهران بالفارسية «ميدان هيفده شهريور» أي ساحة السابع عشر من شهر (شهريور) الإيراني. وقد أكد كثير من المطلعين وقتها أن (الموساد) شارك بعملية القتل مستخدما طوافات عسكرية إسرائيلية شوهدت في سماء المعركة.

كان اسم الميدان قبل المجزرة «ميدان جاله» أي الندى. وللندى في الفارسية اسم آخر هو «شب نما» أي علامة أو دليل الليل. سلام الندى يا ندى، يا علامة النهار. حسنا أنك لم تموتي بمرض السحايا برغم التكسير الطازج لأسنانك.. كما جرى للشابين اللذين دخلا سجن (كهريزك) صحيحي العقل والبدن، وخرجا جثتين.. هكذا بسهولة.

كل معارض أو إصلاحي في إيران ضد النظام والسلطة والشعب والثورة والإمام والدين والمذهب الخ، هو عميل وخائن لأنه غير صديق أو معاد لحماس وحزب الله وغير معجب بالدكتاتور (هوغو شافيز) أو (فيديل أو راؤول كاسترو) أو (دانيال أورتيغا) الذي عاد إلى السلطة في (نيكاراغوا) بالتفاهم مع واشنطن بعدما ذاقت (ماناغوا) الأمرّين من استبداد وفوضى الساندينيين، ويمكن دس السم له بالعسل، أو تمرير حبوب الهلوسة له مع الطعام أو الشراب، بعد العزل الطويل والجلد المتكرر والتحقيق المتواصل، ليسجل ويتلو ما يملى عليه من اعترافات مصممة مسبقا، ولكن لا أحد مهما كان ذكيا أو متذاكيا أو مستهترا بالحقوق والقوانين، يستطيع أن يفعل ذلك مع ندى لتعترف بأنها لم تمت، أو أن الـ (بي بي سي) هي التي أطلقت النار عليها من الكاميرا فأصابت قلبها!! ذلك لأن ندى ماتت. والدم المتدفق من قلبها وأحشائها على أرض طهران الدافئة والخصبة، وتزداد خصوبة بالدم الذكي والزكي، وثيقة دامغة بالغة وبليغة وفصيحة، لا يمكن إنكارها إلا مكابرة وكيدا.

أذكر أن شابا فلسطينيا لا يتعدى الثامنة عشرة من عمره، عام 1987، اعترف تحت التعذيب بأنه قتل السيد موسى الصدر، الذين كان قد أخفي في ليبيا عمدا قبل تسع سنوات، حيث كان عمر الفتى المعترف من أجل أن يعدَم ويستريح، تسع سنوات!

وقبل ذلك بسنتين اعترف آخر في لبنان، تحت ضغط أحد الأحزاب على جهاز أمن فلسطيني، بأنه قتل مواطنة قريبة من الحزب في قريته في جنوب لبنان، وعندما قابله أحد رجال الدين الكبار بثوب مدني أصر على ذلك، وعلى أنه نفذ أمرا إسرائيليا بالقتل، أي أنه عميل. وبعد ذلك خرج السيد وعاد إليه مرتديا جبته وعمامته، فبكى الشاب وقال له: عندما قتلت المرأة كنت في بيروت وهي في الجنوب وكان عمري وقتها أحد عشر عاما!!

وقد قرأنا أن صدام حسين نصح القذافي في السنوات الأولى لانقلابه، بعزل المعارضة والتفنن في تعذيبها إلى أن ينسى كل فرد منها اسمه، كما (فعلنا في العراق) ولم يقصر القذافي في العمل بهذه النصيحة كما هو معلوم. وقد ذكر لي صديق كبير أنه وقع في فخ إعلامي مريع وذهب إلى ليبيا مع زملائه لمقابلة العقيد، وقد جرجرهم الأمن أياما وجوعهم وعطشهم وسهَّرهم حتى فقدوا التركيز على أي شيء. أما هو فقد كان، كما قال لي: مستعدا من الإرهاق ومن أجل فنجان من القهوة أو الشعور بالأمان مع رجال الأمن المحدقين به وبأنفاسه، أن يقول إذا شاء رجل الأمن أن يقول، ويقسم بأن اسمه (خديجة) بدل (أحمد) مثلا. ولكن رأينا وسمعنا بسجناء رأي، من زمن الحجاج وحتى الآن، بعضهم عذب وبقيت آثار التعذيب في عقله وأعصابه وجسده، وبعضهم ترك عشرين سنة معزولا عن الدنيا من دون سؤال أو محاكمة، حتى فقد صوابه وذاكرته وقدرته على التمييز بين الخير والشر وبين رأس البطيخ وكرة الطاولة.

لقد استفزني وضع الصديق محمد علي أبطحي، وأعادني إلى ندى وأعاد إلى ذاكرتي كل الجروح البليغة التي ارتكبت وترتكب باسم الدين والوطن. وكأن الدين والوطن يقعان خارج الإنسانية وخارج أنظمة القيم والأخلاق العامة!!. استفزني عندما رأيته وقد كبر عشرين عاما في ستة أسابيع، وانخفض وزنه عشرين كيلوغراما، وكأنه كان في عهدة قصَّاب! أنا ممن يعرفون أبطحي، وأعلم يقينا بأنه بشر يمكن أن يفكر بأن يكون له رأي مختلف مع الأجهزة أو السلطة، وأنه كان يختلف أحيانا مع الرئيس محمد خاتمي وهو مستشاره ونائبه، ويمكن أن يفكر بالحياة الدنيا، وقد فكر بها الأنبياء والصالحون من عباد الله. ويمكن مساومته على ذلك لتبرئته أو إدانته تحت سقف القانون.

أما أن يملي عليه المحققون ما يقوله وبعد ستة أسابيع من العزل والتجويع والتعذيب والتركيز على أعصابه لإشعاره بالذنب والجريمة. وأن يكتب له بخطه ويوقع عنه بيده على اعترافات هزلية تناسب السلطات وتعسفاتها الهزيلة، فإن ذلك دليل دامغ على التزوير وبطلان الاعتراف وموجب لمحاكمة المرتكبين وإدانتهم، بعد التحقيق معهم طبعا.

ثم إن وجه أبطحي معروف دوليا والكل يتذكر علامات العافية والشباب في وجهه وعينيه وحركاته، فمن أين جاءه هذا الشحوب وهذا الذهول وهاتان العينان المطفأتان والنظرات الزائغة وهذا الهزال الشديد والفاضح في جسده!! ماذا جرى لمحمد علي بن السيد آية الله حسن أبطحي، الذي كان أساسيا وفاعلا في فريق الإمام الخميني، والذي أضرت به شجاعته وصراحته ونقده، بعد رحيل الخميني، فنزعت عمامته عقوبة ونفي كرها أو طوعا إلى مدينة مشهد ليعيش بين كتبه؟. أليس ما حدث لأبطحي يمكن أن يكون قد حدث للمسؤول والقائد التاريخي بهزاد بنوي وميردامادي ورفاقهما من القيادات اللاحقة والمضحية والمعروفة بالاستقامة والنظافة والثقافة؟

قياسا على ما حدث لأبطحي ولسعيد حجاريان المقعد جراء جريمة (ارتكبها في حقه موظف مرموق ثم انتحر أو مات في ظروف غامضة) لأن حجاريان صاحب رأي ورؤية، إلى حد أن يكتئب ويعتصم بالصمت ويحني حجاريان رأسه ويشيح بوجهه عن العالم، ويبكي بمرارة أمام زوجته التي صرخت من زكام في أنفها وقلبها وعقلها وروحها بسبب رائحته الكريهة المنبعثة من جسده المعلول، إهمالا وتشفيا وإصرارا على كسر الخاطر والإرادة.

ألا يجعلنا هذا نعيد النظر بما صدقناه من محاكمات وعقوبات وتشهيرات على آخرين وفي السنوات الأولى من عمر الثورة والدولة ومن وراء ظهر الإمام الخميني كما ثبت في كثير من الحالات وقد يثبت في حالات أخرى بقيت مستورة؟. إنه يذكرنا بعزت الله سحابي العالم الشريك في الثورة نضالا، والدولة مسؤولية، إلى جانب أبيه القائد العالم وزير العلوم في أول وزارة بعد الثورة الدكتور يد الله سحابي. يذكرنا به، عندما عبر عن رأيه وهو لا يملك إلا قوت يومه ولا سلاح لديه سوى قلمه، فكان منزله في سجن إيوين زنزانة واحدة كل ما فيها أبيض ناصع البياض. كان لباس السجن ولون النظارات أبيض وطبق الطعام أبيض والملعقة بيضاء والأرز أبيض ورغيف الخبز أبيض، ولا أسود إلا القلب ووجه لمحقق وسوط الجلاد، حتى فقد الرجل قدرته على التمييز بين الأسود والأبيض وبين الدين واللا دين وبين الثورة والثورة المضادة وبين الواقع والخيال وبين الحقيقة والوهم وبين الليل والنهار وبين الأمس واليوم وبين العدو والصديق وبين روحه وجسده وبين زوجته وسجانه!. وأتذكر أسد الله لاجوردي المدعي العام، وما كشفته اللجنة التي كلفها الإمام الخميني بالتحقيق في شأن السجون والسجناء من تعذيب وحشي وموت تحت التعذيب. لقد قتل لاجوردي لاحقا برصاصة من مسدس في يد شاب ما زال مجهولا، ولعله واحد ممن قتل لاجوردي آباءهم أو أشقاءهم من دون محاكمة، ويومها علق السيد علي أكبر محتشمي المختفي أو المتخفي الآن، وقال لي: إن لاجوردي المدعي العام كان يشتغل في دكان للخياطة وليس لديه أي مؤهل علمي. ولا يدري محتشمي كيف أن هذا الرجل تسلق، حتى أصبح مشرفا على الإذاعة والتلفزيون، وعندما وصلت تقارير عن سوء إدارته وجهالاته إلى الإمام كلف السيد محتشمي بالأمر، ولكن لاجوردي تجاهل ذلك واستمر في عمله مما اضطر محتشمي للاستقالة!

«قلتم لي: لا تدسس أنفك في ما يعني جارك/ لكني أسألكم أن تعطوني أنفي، وجهي في مرآتي مجدوع الأنف». هذا الشعر لصلاح عبد الصبور يحلو لي أن أكتبه في بداية أو نهاية كل مقالاتي عن الفوضى والخيبة. *
مفكر وكاتب لبناني عاصر الثورة الإيرانية وشارك في أحداثها منذ بدايتها