الصفحات

الجمعة، 25 نوفمبر 2011

كيف تتراجع الامبراطورية الأقوى في العالم؟(1من2)..

علامتان للأزمة الأميركية: تبذير المال بعد 11 أيلول والتشدد في قوانين الهجرة

الإثنين 21 نوفمبر 2011

آمال مدللي
سألني شاب عربي خلال زيارتي المنطقة هذا الصيف أين تعيشين؟ قلت: في الولايات المتحدة. فأجاب: آه. بلاد الأحلام. فوجئت بجوابه لأنني لم أسمع عن الحلم الأميركي منذ فترة طويلة من الأميركيين. الكثيرون هنا (في واشنطن) لا يرون في أميركا بلاد الأحلام هذه الأيام. إنهم يتحدثون بحنين عن العصر الذهبي أي السبعينات والثمانينات. كما إنني لا أعتقد أن الشبان الأميركيين الذين يعيشون في مخيم نصبوه على بعد أمتار من البيت الأبيض في إطار حملة «احتلوا وول ستريت» يعتقدون أنهم يعيشون حلماً أميركياً. على العكس كل المؤشرات والكتابات التي تصدر عن الدوائر السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية بالدرجة الأولى تشير إلى أن هذا الحلم الأميركي في خطر لأول مرة في تاريخ البلاد.
أميركا تبحث عن نفسها وتسأل ماذا حدث؟ غلاف مجلة «شؤون خارجية» الرصينة يسأل: «هل انتهت أميركا؟» بينما ترى مجلة «ذي ناشيونال إنتريست» أن «الحقبة الأميركية انتهت». مجلة «السياسة الخارجية» تسأل باستغراب «ماذا أصاب أميركا؟». أما كتاب توماس فريدمان ومايكل ماندلبوم الجديد فقد اختار عنواناً فيه حسرة من فقد شيئاً عزيزاً: «هكذا كنا نحن: كيف تراجعت أميركا في العالم الذي اخترعته وكيف يمكن أن تعود».
كل النقاش والنظريات تتمحور حول تراجع الدور الأميركي في العالم وانخفاض نفوذها الاقتصادي والسياسي وتراجع قدرتها على التأثير في مجرى الأحداث الدولية. من هنا يمكن فهم ردّ الفعل الرئيسي في الإعلام الأميركي على قمة الدول العشرين في فرنسا الأسبوع الماضي. فبينما تقف أوروبا على حافة الهاوية مالياً، كان أكثر ما لفت الصحافة الأميركية أن الرئيس الأميركي باراك أوباما لم يكن في مركز الاهتمام الأول للحاضرين وللعالم.
إن الذين نظروا إلى أميركا دائماً على أنها مشروع إمبراطوري، يرون في تراجع دورها بداية لأفول هذا المشروع كما حدث مع جميع الإمبراطوريات التي سبقته. البعض يجد أوجه شبه بين وضع أميركا اليوم ووضع بريطانيا، الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، في أوائل القرن الماضي.
ولكن يشير هؤلاء إلى أن بينما كان التحدي لقوة بريطانيا اقتصادياً، فإن التحدي الأساسي للولايات المتحدة اليوم هو تحدٍّ سياسي، بالدرجة الأولى ومن ثم اقتصادي.
انقسام داخلي
فالولايات المتحدة تعيش أكبر انقسام داخلي منذ الحرب الأهلية، كما يرى البعض. ويظهر هذا الانقسام في الشلل السياسي الذي هدّد بإقفال الحكومة أكثر من مرة هذه السنة وفي جمود القرارات الكبرى بسبب الفشل في التوصل إلى تسوية ترضي الطرفين وتحافظ على العمل الحكومي بوضعه فوق الجدال السياسي. وأصبحت تسمع لأول مرة في هذه البلاد بلغة التخوين التي كنت أعتقد أنها فقط جزء من الفولكلور السياسي اللبناني. وأدى هذا الخلاف السياسي إلى نتائج مؤلمة للولايات المتحدة حيث قامت وكالة «ستاندرد آند بورز» بالتخفيض الائتماني للولايات المتحدة لأول مرة في التاريخ الأميركي. وكان لافتاً اعتبار الكثيرين قرار الوكالة الائتمانية اللجوء إلى التخفيض بعد معركة شرسة في الكونغرس بين الديموقراطيين والجمهوريين حول خفض المصروفات ورفع الضريبة لخفض عبء الدين ورفع مستوى الاستدانة، بأنه حكم على قادة البلاد، لأن الفجوة بين الأحزاب السياسية خففت من الثقة بقدرة الحكومة على إدارة ماليتها.
قالت الوكالة: إن التخفيض يعكس ضعف المؤسسات السياسية وضعف فاعليتها في اتخاذ القرار السياسي في وقت هناك تحديات مالية واقتصادية.
هذا الانقسام السياسي له تبعات أخطر على الولايات المتحدة لأنه يلقي بظلال تحجب الحلم الأميركي وتجعل إمكان الخروج من الوضع الاقتصادي الحالي أكثر صعوبة. فقدرة أي دولة عظمى أو إمبراطورية على لعب دور فاعل ومؤثر خارج حدودها يرتبط ارتباطاً مباشراً بقوتها الاقتصادية وعافية نظامها السياسي الداخلي. الولايات المتحدة اليوم لا تزال تحاول جاهدة الخروج من أزمتها الاقتصادية ولكن المؤشرات لا تطمئن الأميركي العادي ولا الرئيس باراك أوباما على وجه الخصوص، لأن الحملة الانتخابية الأميركية أصبحت على الأبواب وإعادة انتخابه لولاية ثانية تعتمد في شكل رئيسي على الوضع الاقتصادي الداخلي وليس على نجاحاته في السياسة الخارجية. وعلى رغم إشارة مساعدي الرئيس إلى نجاحات محددة مثل قتل بن لادن والعولقي وضعف تنظيم «القاعدة» خارجياً إلا أن الأميركي العادي سيصوّت بناء على لقمة عيشه وعلى مدى ثقته بالاقتصاد والسياسة الاقتصادية.
إن النظرة إلى هذا الوضع تظهر أن أميركا ليست نفسها في جميع المجالات. الوضع الاقتصادي جامد، بعض الولايات مفلس تماماً، البنية التحتية متآكلة وبحاجة إلى تجديد، ويبدو أن البلاد فقدت بوصلتها. فنسبة البطالة لا تزال تقف عند 9 في المئة أي أن هناك 13 مليون أميركي بلا عمل. وهناك 49.1 مليون أميركي تحت خط الفقر وفق آخر إحصاء أميركي أي نسبة 16 في المئة من الشعب الأميركي تعاني من الفقر.
وصل حجم الدين العام إلى 14.94 تريليون دولار أي بنسبة 99.6 في المئة من الناتج الإجمالي المحلي GDP أما قيمة الدين الذي يملكه أجانب فهو 4.45 تريليون، أي حوالى 47 في المئة من الدين الذي يملكه القطاع العام، و32 في المئة من الدين الذي يملكه الآخرون أي 9.49 تريليون.
وحتى شهر أيار (مايو) الماضي كانت الصين أكبر حامل للدين الأميركي بنسبة 36 في المئة من كل الدين الأجنبي.
ويرى جو باكر في مجلة «فورين أفيرز» (شؤون خارجية) أن عدم المساواة في أميركا أصل مشاكل أميركا. يقول إنه بين 1979 و2006 ارتفع مدخول الطبقة الوسطى بنسبة 21 في المئة سنوياً. وارتفع مدخول الفقراء الأميركيين 11 في المئة بينما ارتفع مدخول واحد في المئة وهي الطبقة الغنية الأميركية بنسبة 256 في المئة في الفترة نفسها. ورأى أن الحكومة لديها سياسة تفضيلية للأغنياء: «وأن عدم المساواة يحوّل المجتمع إلى نظام طبقي ويسجن الناس في الظروف التي ولدوا فيها وهذا منافٍ لفكرة الحلم الأميركي».
وأدت الأزمة الاقتصادية إلى خفض المصروفات في جميع الحقول ولكن التخفيض الأكثر إيذاء لأميركا وفكرة أميركا وتفوقها في العالم كان في مجال موازنة التكنولوجيا والأبحاث والفضاء. إن إلغاء برنامج المكوك الفضائي لأسباب مادية كان أهم رمز لهذا التراجع الأميركي. فالمكوك أقفل حقبة من تاريخ استكشاف الفضاء الذي كانت أميركا رائدته بلا منازع. كان المكوك الفضائي انعكاساً لعظمة أميركا ولصورتها الفضلى عندما كانت الأولى في العالم في كل شيء.
يقول توماس فريدمان في كتابه الجديد، إن أميركا تفكر بطريقة محدودة الآن. ففي الوقت الذي تزداد أهمية المعرفة ويصبح الاستثمار في الأبحاث والتطوير أولوية ملحّة تخفض أميركا دعمها وتمويلها لهذا القطاع. يذكر أن هذا التمويل انخفض 60 في المئة خلال 40 سنة كجزء من الناتج القومي المحلي. ويقارن بين ما صرفه المستهلك الأميركي عام 2009 على رقائق البطاطا (7.1 بليون دولار) وما صرفته الحكومة الأميركية على الأبحاث والتطوير (5.1 بليون).
إصلاح قطاع التربية
ويجمع المحللون هنا والسياسيون على أن المشكلة الأكبر هي في قطاع التربية الأميركي الذي هو بحاجة الى إصلاح شامل. وبعدما يقول فريدمان إن في هذا القرن «العلم هو أساس القوة الاقتصادية والقوة الاقتصادية هي أساس دور البلاد الحيوي الذي لا يمكن الاستغناء عنه في العالم»، يورد قولاً لدوق إلنغتون «إن معركة واترلو (1815) جرى تحقيق الانتصار فيها في ملاعب مدرسة إيتون» (المدرسة الخاصة الشهيرة في بريطانيا حيث تدرّس النخبة البريطانية)، ويسرد فريدمان بحزن كيف أن 51 في المئة من براءات الاختراع التي سُجلت في أميركا عام 2009 كانت لشركات غير أميركية، وثلثي المهندسين الذين ينالون شهادة الدكتوراه من الجامعات الأميركية ليسوا أميركيين.
لكن على رغم الاعتراف بأن هناك مشكلة في الولايات المتحدة اليوم، إلا أن الإجماع أيضاً هو أن التراجع قرار وليس مصيراً. إن المشكلة هي نحن، يقول فريدمان: «والحل هو نحن». المشكلة الداخلية تتعلق بثلاثة عقود من السياسات الاقتصادية ومن التحوّل السياسي التي أدت إلى الأزمة المالية عام 2008 وإلى انقسام سياسي حاد في المجتمع. ولكن خارجياً المشكلة بدأت وفق خبراء السياسة الخارجية عندما تمدّدت الولايات المتحدة في الخارج أكثر من قدرتها ففتحت جبهتين في أفغانستان والعراق، إضافة إلى فتح جبهة عالمية وداخلية على الإرهاب جففت الموارد الأميركية وأدت إلى سياسات داخلية خصوصاً في مجال الهجرة، أدت الى إقفال أبواب أميركا أمام الدم الجديد والمواهب الجديدة في المجتمع الأميركي. فعلى مدى مئتي عام كان الجسد الأميركي يتجدّد يومياً بوصول أفضل العقول والمواهب من حول العالم للعلم والدراسة والأبحاث والعمل.
في سيرة حياة ستيف جوبز صاحب شركة «آبل» انه كان يجلس إلى جانب الرئيس الأميركي في عشاء لأبرز رؤساء شركات سيليكون فالي (شركات تكنولوجيا المعلومات الأميركية) مثل «غوغل» و «سيسكو» و «أوركيل». أخبر جوبز الرئيس أن شركة «آبل» توظّف 700 ألف عامل في مصانعها في الصين لأنها لا تستطيع أن تجد 30 ألف مهندس في الولايات المتحدة تحتاج لهم في مصانعها. واقترح جوبز على الرئيس منح طلاب الهندسة الذين يأتون للدراسة في أميركا الجنسية الأميركية، وقال: «إذا استطعت أن تخرِّج هؤلاء المهندسين يمكن أن ننقل المزيد من أعمال التصنيع إلى أميركا. فوجئ جوبز، وفق المقال، بقول الرئيس إنه يجب الانتظار حتى التوصل إلى إصلاح أوسع لنظام الهجرة لأنه غير قادر على تحقيقه.

الواقع أن الخلاف الداخلي حول موضوع الهجرة والتشديد على إقفال الباب على سياسات الهجرة المرنة التي كانت موجودة في الولايات المتحدة وأدت إلى حيوية المجتمع الأميركي وعظمة أميركا هي أحد أبرز أسباب التراجع الأميركي.
النظر إلى لائحة الأميركيين الذين فازوا بجائزة نوبل هذه السنة هو أفضل مثال على ذلك. فقد نال ستة أميركيين جائزة نوبل في الطب والفيزياء، أربعة منهم ولدوا خارج أميركا وهاجروا إلى الولايات المتحدة.
المشكلة الأخرى والتي تتعلق في شكل عضوي بتضييق باب الهجرة هي ردّ فعل الولايات المتحدة القوي والمفرط، على أحداث 11 أيلول (سبتمبر).
يرى فريدمان أن الولايات المتحدة خصصت من الموارد ورأس المال السياسي أكثر من اللازم لمحاربة الإرهاب على رغم أهميته. وقامت بمهمة «بناء البلاد» في العراق وأفغانستان وهذا أدى إلى تراكم العجز والدين. وكان من الواضح أن العقلاء في الإدارات الأميركية المتعاقبة لاحظوا هذا الأمر. ونُقل عن وزير الدفاع السابق روبرت غيتس وهو يعلن التخفيض في موازنة الدفاع قبل تركه منصبَه: «أصبحت المؤسسات الدفاعية الأميركية معتادة على العقد الذي تلى 9/11 حيث لا أحد طرح أسئلة عن طلبات التمويل ما شجع ثقافة التبذير وعدم الفاعلية التي شبهها بنظام شبه إقطاعي. (في «شؤون خارجية»: حكمة الانكماش).
فترة ما بعد 11 أيلول جعلت من الصعب على كثيرين ليس فقط المجيء إلى أميركا للدراسة والهجرة بل حتى للزيارة وهذا أثّر أيضاً في قطاع السياحة والتبادل. فالهوس بالهمّ الأمني غيّر الشخصية الأميركية المنفتحة وخلق جواً من الخوف والريبة من الأجنبي وخصوصاً من أبناء الشرق الأوسط. إضافة إلى بلايين الدولارات التي صرفت على الأمن الداخلي والتي كان يمكن أن تصرف على التربية أو إعادة تأهيل الطرق والمطارات والجسور، والأهم على التكنولوجيا والعلوم التي كانت دائماً تداعب خيال العالم عندما يفكّر بأميركا.
هذه الصورة الداخلية أدت إلى نقاش سياسي في الدوائر الأميركية حول السياسة الخارجية ودور أميركا الحيوي في العالم وما إذا كان القرن الحادي والعشرون سيكون أميركياً كما كان القرن العشرون. وتظهر الإحصاءات أن عدد الأميركيين الذين يؤمنون بتراجع الدور الأميركي في العالم يتزايد. هناك تيارات عدة تشكّل هذا النقاش. وهي تصطّف اصطفافات سياسية. الجمهوريون يلومون الرئيس أوباما طبعاً على تراجع الدور الأميركي ويتهمونه بأنه لا يؤمن «باستثنائية» أميركا. ولكن هذا ليس جوهر النقاش. يتمحور هذا الجوهر في الدوائر السياسية والفكرية حول كيفية استعادة هذا الدور في العالم في ظل ضعف اقتصادي داخلي وانقسام سياسي.
يجمع طرفا النقاش على أن الولايات المتحدة في حاجة إلى إعادة التموضع الاستراتيجي، وتحديد الأولويات: الاقتصاد وترتيب البيت الداخلي وخفض المصروفات خصوصاً الدفاعية ونقل عبء الحمل العسكري حول العالم من أكتافها إلى أكتاف حلفائها.
نحو الانكماش
هذا التحوّل السياسي الخارجي الذي يسميه بعضهم «بضرورة الانكماش»، بينما يطلق عليه البعض الآخر «إعادة التوازن» كان يمكن أن تجد له الإدارة وصفاً استراتيجياً يدعم فلسفتها القائمة على مشاركة الأعباء مع الحلفاء ولكن مع الأسف أصبح استخدام مسؤول أميركي عبارة «القيادة من الخلف» نقطة ضعف في استراتيجية الإدارة الخارجية. والآن أصبحت هذه العبارة أكثر العبارات شعبية لدى منتقدي سياسة الرئيس أوباما الخارجية. لكن على أرض الواقع يشير المسؤولون الأميركيون إلى نجاح هذا التوجه خصوصاً في ليبيا حيث تركت الولايات المتحدة الساحة لفرنسا و الـ «ناتو» ليقودا العملية ودعمت الاثنين من الخلف.
الداعون إلى قيادة أميركية فاعلة يعتبرون أن هذا تخلٍّ عن القيادة الأميركية في العالم وله أخطار لأنه يشجع قوى إقليمية على تحدي أميركا ويضعف ثقة الحلفاء بواشنطن.
مستشار الأمن القومي الأميركي السابق زبغنيو بريجنسكي والذي يعتبر من أبرز المحللين الاستراتيجيين في أميركا قال إن الموقف الأميركي أصبح معزولاً في المنظمات الدولية، مشيراً إلى التصويت على عضوية فلسطين في منظمة «يونيسكو» وقال إن هذه شهادة سلبية على القيادة الأميركية.
وأشار إلى أن أميركا عندما أتت إدارة الرئيس جيمي كارتر، التي عمل فيها، إلى الحكم كانت لديها أربع دول حليفة قوية في منطقة الشرق الأوسط وهي: إيران والسعودية ومصر وتركيا، وقال: «انظروا إلى علاقاتنا بهذه الدول اليوم»!
ويرى آخرون أن فشل الإدارة الأميركية في حل النزاع العربي - الإسرائيلي وحتى إحراز تقدم، مؤشر آخر على تقلّص النفوذ الأميركي في المنطقة.

أما الواقعيون في مناقشة السياسة الخارجية الأميركية، فيشيرون إلى تغير العالم ويدعون الولايات المتحدة إلى اللجوء إلى سياسة تعدد الأطراف القائمة على العمل والتعاون مع أطراف إقليمية ودولية لحل الأزمات. قال لي مسؤول أميركي سابق بارز: «لا نستطيع اليوم أن نقوم بالكثير من دون تعاون البلدان الأخرى. إن قوتنا ضعفت نسبياً لأن طبيعة النظام العالمي تغيّرت. هناك انتشار أكثر للقوة. إن نفوذنا في الشرق الأوسط تغير ولكنه لم يتراجع». مشيراً إلى أن الذي أثّر في دور أميركا في الشرق الأوسط هو علاقتها بإسرائيل. ورأى أن النفوذ الأميركي في المنطقة يمكن أن يزداد بسبب الربيع العربي إذا تغيرت أنظمة الحكم في المنطقة وأصبحت أكثر ديموقراطية لأن ذلك يعني أنها ستجد المزيد من القيم المشتركة مع أميركا.
وهناك فريق آخر في هذا النقاش يقوده فريد زكريا يقول إن الأمر ليس أن نفوذ أميركا ضعف وإنما نفوذ دول أخرى وقوتها ازدادا. إن هذه القوى الصاعدة التي تتحدى النفوذ الأميركي اليوم هي الصين والهند والبرازيل الدول التي تتمتع باقتصاد قوي وقوى ذاتية واسعة. إن نشوء هذه القوى الجديدة ينهي العالم الأحادي ولحظته التاريخية التي بدأت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونصبت الولايات المتحدة قائداً للعالم. وقوة هذه الدول الصاعدة هي في اتباعها سياسة «الاحتواء» للدور الأميركي عبر تحديه وفرض قواعد عمل جديدة في النظام العالمي. وإقفال مجلس الأمن في وجه أي قرار يدين النظام السوري بسبب العنف غير المسبوق الذي يمارسه ضد الشعب السوري، من قبل دول «بريكس» (روسيا، الصين، جنوب أفريقيا والهند) هو أفضل مثال على ذلك. ومن بين الدول الصاعدة تمثل الصين التحدي الأكبر للولايات المتحدة وسياستها الخارجية. فالصين قوة اقتصادية كبرى اليوم وتنافس الولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم ومنها أفريقيا والشرق الأوسط.
صعود الصين أبرز التحديات الاستراتيجية لواشنطن وهناك شبه هوس في الولايات المتحدة بكيفية التعامل مع صعود نجم بكين، خصوصاً أنها الشريك التجاري الثالث لأميركا وتحتل المرتبة الأولى بين الدول التي تدين الولايات المتحدة لها. ولكن الكثيرين يقولون إن الصين ليست مشكلة أميركا. إن مشكلة أميركا داخلية. توم فريدمان مثلاً يقول إن «الصين مرآة. إننا في الحقيقة نتحدث عن أنفسنا وعن خسارتنا ثقتنا بأنفسنا. نرى في الصينيين بعض الصفات التي كنا نتمتع بها مرة وكانت تعرّف من نحن كأمة والتي يبدو أننا فقدناها».
ما الحل؟
الحل في أن تعيد أميركا صوغ بنيتها الداخلية بالتوصل إلى إجماع يذكِّر بما كان سبب قوة أميركا وتفوقها. وخارجياً عبر العمل لإعادة بناء استراتيجي عالمي يأخذ في الاعتبار التغيرات الجديدة في العالم ويبني على عوامل القوة الأميركية ويقوم نظام عالمي جديد يشبه القرن الحادي والعشرين وليس القرن الماضي.
هناك شبه إجماع على أن أميركا ستتعافى وستستعيد قوتها الاقتصادية ونفوذها السياسي في الخارج بعد أن تضمن وحدة داخلية حول فكرة أميركا «المدينة فوق الجبل» التي يتطلع إليها العالم بإعجاب واحترام كما فعل من قبل. خبراء السياسة الخارجية يرون أن أميركا لا تزال تتمتع بقوة بنيوية هائلة ولكنها تحتاج إلى قرار لكي تعيد تصويب وجهتها نحو مستقبل أفضل. يشير فريد زكريا في كتابه «عالم ما بعد أميركا»، إلى أن الاقتصاد الأميركي هو الأكبر في العالم باستمرار منذ 1880. وهذا الاقتصاد وفق التقديرات سيبقى حتى عام 2025 أكبر من الاقتصاد الصيني بمرتين من الناتج المحلي الاسمي، والقوات العسكرية الأميركية لا تزال تسيطر في جميع المجالات ولا تزال تصرف على أبحاث الدفاع والتطوير، على رغم التخفيض، أكثر من العالم مجتمعاً. ويرى هؤلاء أن دينامية أميركا والحرية الفردية والجامعات الأميركية التي لا تزال الأفضل في العالم والتكنولوجيا الأميركية من «آي فون» إلى «فايسبوك» والماركة الأميركية لا تزال وفق الاستفتاءات الأولى في العالم.
أميركا التي عرفها العالم لا تزال موجودة ولكنها بحاجة إلى إعادة اكتشاف نفسها كما يقول توم فريدمان أو إلى استراتيجية جديدة.
وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون شددت في مقال كتبته في «فورين بوليسي» عن مستقبل الدور الأميركي واستراتيجية الولايات المتحدة للقرن الحادي والعشرين»، على أن العالم ما زال يحتاج إلى قيادة أميركا. قالت: «أسمع في كل مكان أن العالم يتطلع إلى أميركا وقيادتها». وقدمت تحليلاً متفائلاً للقوة الأميركية. قالت إن «قواتنا المسلحة هي الأقوى واقتصادنا هو الأكبر في العالم، وعمالنا الأكثر إنتاجاً وسمعة جامعاتنا واسعة حول العالم». وأكدت أن لا يجب «أن يكون هناك أدنى شك في قدرة الولايات المتحدة على ضمان واستمرار قيادتنا العالمية في هذا القرن كما فعلنا في القرن الماضي».
ولكن، بينما كان القرن الماضي قرناً أميركياً - أطلسياً، يبدو أن الولايات المتحدة حسمت أمرها بجعل القرن الحادي والعشرين قرناً أميركياً باسيفيكياً (نسبة إلى المحيط الهادي). أميركا تتطلع هذه المرة نحو آسيا لتستشرف مستقبلها.