الصفحات

الجمعة، 25 نوفمبر 2011

خمسون عاما على رحيل فرانز فانون

صاحب «معذبو الأرض»..هل عذّبته إنسانيته
لويس جورج تين
إذا أردنا أن نقرأ الاستعمار والعنصرية وعواقبهما الإنسانية فالكتاب الأهم هو كتاب فرانز فانون «جلد أسود، أقنعة بيضاء»، وإذا أردنا كتاباً عن نهاية الاستعمار وأشكاله وإشكالياته فالكتاب الأهم سيكون ذاك الذي كتبه فانون: «معذبو الأرض».
إنه دائماً في كل مكان، بالقوة نفسها والوضوح نفسه. الجرأة في فضح المستور عن جرائم الفكر الاستعماري جعلته يحتل مكانة متميّزة في الوعي الإنساني، هناك في مقبرة العظماء التي افتتحت في العام 1950، يقيم فانون إلى جانب تشي غيفارا وهو شي منه وشخصيات كبرى من العالم الجديد.
«معذبو الأرض» كان، ولا يزال، الإنجيل المقدّس لحركات العالم الثالث الثورية. أما كاتبه فما زال يسبّب إحراجاً اليوم كما كان دائماً. ففي كانون الأول من العام 1960، وإثر انتشار خبر وفاته في باريس، بدأت الشرطة الفرنسية بمصادرة نسخ «معذبو الأرض» بحجة أنها «تهدّد أمن الدولة».
كتابات فانون أزعجت الجميع. فضحت عنصرية اليمين ولم يسلم منها الفكر اليساري الذي لم يتخذ موقفا واضحا من القضية الجزائريّة. وفي جزيرة المارتينيك، حيث أبصر النور، كان فانون مزعجاً كذلك. صحيح أن هناك شارعاً يحمل اسمه في بورت ـ دو ـ فرانس، ولكن تلك المستعمرة، التي اختارت «الخنوع» ورضيت أن تصبح مقاطعة فرنسية، مقتت جرأة ابنها وتململت من أفكاره. لقد ذهب فانون حتى النهاية في كفاحه من أجل التحرّر الوطني، حتى وصل به الأمر إلى الدفاع عن استقلال الجزائر على أرض الجزائر نفسها. وأمام كل هذا الإحراج الذي تسبّب به فانون، قرّرت المارتينيك نسيانه.
ولكن هل فعلت الجزائر؟ لو اجتمعت أعراف الكون كلها لقرّرت أن تضع فانون في مصاف الأبطال الوطنيين في الجزائر، كيف لا وهو كان عضواً في جبهة التحرير الوطني. ولكن القومية الجزائرية رفضت، كقومية عربية ـ إسلاميّة، قبول رجل «أسود» و«غريب».. فكيف إذا كان ملحداً.
باختصار، لم يستطع أحد أن يحدّد ما إذا كان ينبغي النظر إلى فانون كـ«مارتينيكي» أو «فرنسي» أو «جزائري» أو «أفريقي» أو «أسود»، لم يستطع أحد أن يفعل، وربما لم يرغب أحد في تبنيه. فهل أصبح فانون هو نفسه «معذباً»؟
طبيب نفسي، مقاتل، منظّر... بعد 50 عاماً على وفاته، كثيرة هي المؤلفات التي استحضرت ذكراه وإرثه الفكري ومستقبله. فمن السيرة المهمة التي كتبها الأميركي دافيد ماسي «فرانز فانون، حياة»، إلى منشورات «لا ديكوفرت» التي ترجمت إلى الفرنسية على شكل كتاب عرض نتائج بحوث غنية وشاملة ودقيقة تنقل حياة الكاتب من المارتينيك إلى الجزائر، مروراً بتونس وفرنسا وغانا. ومن الصراع ضد النازية إلى الصراع ضد الاستعمار، مآس كبرى تختصر القرن العشرين بأكمله.
اليوم، بعد أن طويت صفحة الاستعمار، هل أصبح فانون، وكما يقال في فرنسا أحيانا، من الماضي؟ أحقاً حدث ذلك؟
كيف ذلك وضوء كتاباته «المؤلم» ما زال حاضراً في نقاشاتنا المعاصرة؟ فحول مسألة الحجاب، على سبيل المثال، يكفي الرجوع إلى كتاب «العام الخامس للثورة الجزائريّة» (1959). فالكتاب الرائع، الذي يجمع بين البحث الإتنوغرافي والتقرير الحربي والأطروحة السياسية، هو أفضل ما يؤرخ للحال التي كانت عليه الجزائر خلال «سنوات النار».
فإلى العديد من المواضيع التي طرحها، ناقش الكتاب الرغبة «المسعورة» لدى المستعمرين في نزع حجاب الجزائريات.. رغبة مدفوعة بنزعات جنسية «عدائية» ودوافع سياسية. وبحسب فانون، «يريد الأوروبي، وهو يقابل الجزائرية، أن يرى، لذا فإنه يتصرف بطريقة عدائية أمام هذا التقييد لرؤيته، ويمضي الحرمان والعدائية هنا في تناسق تام».
وبحسب تحليل فرانز فانون فإن تاريخ الغزو الفرنسي للجزائر بما شهده من هتك لأعراض النساء أسهم في بلورة هذه النشوة، فَـ«تَذكُّر هذه الحرية المعطاة لسادية المستعمر تجعل اغتصاب المرأة الجزائرية مسبوقا في حلم الرجل الأوروبي بتمزيق الحجاب».
ويروي فرانز فانون كيف تحول الحجاب إلى معركة ضخمة عبأت قوى الاحتلال من أجلها أغزر الموارد وأكثرها تنوعا، وأظهر فيها المستعمر قوة مذهلة. وقد بدأت المعركة الحاسمة بين عامي 1930 و1935. ذلك أن «المسؤولين عن الإدارة الفرنسية في الجزائر، وقد أوكل إليهم تحطيم أصالة الشعب مهما كان الثمن، زودوا السلطات لممارسة تفتيت أشكال الوجود المؤهلة لإبراز حقيقة وطنية من قريب أو بعيد» وقد عملوا على بذل أقصى مجهوداتهم ضد ارتداء الحجاب بوصفه «رمزا لحريّة المرأة الجزائرية». والاختصاصيون في المسائل التي تدعى بمسائل السكان الأصليين، والمسؤولون في الدوائر المختصة بالعرب «نسقوا عملهم بالاستناد إلى تحليلات علماء الاجتماع وعلماء الأخلاق». وتم العمل وفقا للصيغة المشهورة التي تحدث عنها فانون: «لنعمل على أن تكون النساء معنا وسائر الشعب سيتبع».
يتابع فانون :«تمّ تهديد الموظفين بالفصل، وأبعدت النساء الفقيرات عن ديارهن، وتمّ اقتياد المومسات إلى الساحات العامة ونزع ملابسهن بصورة رمزيّة وسط هتافات «عاشت الجزائر الفرنسية! عاشت الجزائر الفرنسية!».
أما بالنسبة لمسألة «السود».. فرانز فانون.. أي وضوح وأي بصيرة! مرت فترات طويلة أراد الفرنسيون فيها تجاهل الموضوع. ولكن بعدما وصلت «العبودية» إلى ذروتها، كان الموضوع غير وارد. عندما عملت مع ناشطين في مجال مناهضة العنصرية، ألححت على استخدام كلمة «أسود»، لكنهم خافوا مما قد يثيره الموضوع من حساسية ولكن فانون كان أول من ساعدني في الدفاع عما أريده. فهو كان عالج موضوع «التبييض» لدى النساء السود اللواتي يصررن حتى اليوم على استخدام مبيضات للبشرة مهما حمل هذا الأمر من مخاطرة بصحتهن أو حياتهن.
وهو من قال إن «الأسود عبد لدونيته والأبيض عبد لتفوقه، والاثنان يتصرفان وفقا لتوجه عصابي».
راهنيّة فانون تنبع من انعكاس كتاب «معذبو الأرض» اليوم في ساحات العالم أجمع، حيث يتظاهر «الغاضبون ـ المعذبون» في الشمال والجنوب، في «وول ستريت» و«بويرتا ديل سول». وقد صدق الفيلسوف ماتيو رينو حين وصف نظرية فانون بالنظرية «المتنقلة»، إذ بات غير ذي أهمية اليوم تحديد مصدر النظرية أو تاريخها أو حتى «حقيقتها»، مقارنة بأهمية اتباع مسارات الفكر المتحركة التي تدعونا إلى الانتقال والسفر أكثر من دعوتنا لـ«ارتكاب» التجاوزات. فكر فانون حظي باهتمام فلاسفة كبار مثل جان بول سارتر وحنا أردنت وإدوارد سعيد وشارل تايلور وجوديث بوتلر وكثيرين غيرهم، إذ يشكل مفترق طرق بالغ الأهمية فكريا وسياسياً في عالمنا المعاصر.
عندما نقرأ فانون.. نلتقط قلماً ونقرّر وضع خط أسفل الفكرة التي تثيرنا.. أسفل مقطع لا يمكن نسيانه.. لكننا نرتبك.. نتراجع.. ثم نتوقف.. كل سطور الكتاب تستحق خطاً أسفلها.