الصفحات

الخميس، 19 يناير 2012

حمى التاريخ: صراع الذاكرات أساس الأزمة الطائفية

سعود المولى
الذاكرة التاريخية هي اليوم أعظم مفرِّق بين السنة والشيعة.. ويكفي أن نأخذ حقبة واحدة من التاريخ الإسلامي لكي نكتشف ما تفعله الذاكرة التاريخية الخاصة بكل جماعة من استنفار للأحقاد وتوتير للمشاعر... وعلى سبيل المثال فإن صورة الحروب الصليبية تختلف في الثقافة السنية عنها في الثقافة الشيعية، فينتج عن ذلك ذاكرتان متضادتان متعاديتان.. هذا ما توصل اليه الباحث الموريتاني محمد بن المختار الشنقيطي في رسالته للدكتوراه (ناقشها في 29 أيلول- سبتمبر 2011)، وعنوانها: "أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية-الشيعية"...
والشنقيطي كاتب وشاعر ومحلل سياسي من مواليد موريتانيا 1968، ويعيش اليوم في الدوحة حيث يعمل في مؤسسة قطر للتربية والعلوم، ويكتب في الجزيرة- نت.. درس الشريعة الاسلامية (بكالوريوس 1989) والترجمة (بكالوريوس 1994) وادارة الاعمال (ماجستير 2007 من جامعة كولومبيا الجنوبية-أميركا)..وأكمل برنامج الماجستير والدكتوراه في تاريخ الأديان بجامعة تكساس حيث ناقش مؤخراً رسالته...
الأطروحة التي قدمها الشنقيطي تحاول فهم منحى تطور العلاقات السنية الشيعية باتجاه الصراع العنيف والتكفيري بين الطرفين، ودور ما خلفته ذاكرة الحروب الصليبية لدى الطرفين من جراح وآلام تحولت إلى سكين يمزّق النسيج الواحد...
وفرضية الرسالة هي أن الحروب الصليبية أسهمت في انحسار التشيع في مصر والشام خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر ميلاديين، وربما في انتقال ثقل التشيع إلى بلاد فارس فيما بعد؛ وأن الحروب الصليبية فرّقت السنة والشيعة على المدى القريب في بداياتها لكنها جمعتهم في صف واحد على المدى البعيد، مع إبرازه للفروق بين علاقة السنة بالإمامية الإثني عشرية وعلاقتهم بالإسماعيلية...وقد طرح الباحث على نفسه مهمة تفكيك الذاكرة التاريخية المتفجرة حول الموضوع.. إذ هو يعتبر أن الذاكرة التاريخية الجمعية هي أصل الداء اليوم...
ولتأكيد مقولته هذه ينتقل الشنقيطي من الماضي الى الحاضر، من التاريخ الى الذاكرة، فيستخدم صورة صلاح الدين كما هي في الذهنية السنية والشيعية اليوم، مثالاً على الذاكرة التاريخية المتفجرة... حيث أن أهل السنة يرون صلاح الدين بطلاً مجاهداً ومسلماً مثالياً، في حين يراه الشيعة مغامراً لا مبدأ له ويتهمونه بالتواطؤ مع الصليبيين... ويعتمد الشنقيطي هنا على كتابات حجاجية معاصرة، سنية وشيعية، لتبيان هذا الانشطار في الذاكرة التاريخية، منها كتابات شاكر مصطفى ومحمد علي الصلابي من الجانب السني، وصالح الورداني وحسن الأمين من الجانب الشيعي..
دور الأتراك في الوحدة ومقاومة الفرنجة
ومن جهة أخرى فقد حاول الباحث في أطروحته أن يبين أن الأتراك هم من استثاروا الحملات الصليبية على بلاد الإسلام بتوغلهم في الأناضول وتدميرهم الجيش البيزنطي في موقعة ملاذكرد عام 1071...وهم أيضاً من قاوموا الوجود الصليبي طيلة قرنين من الزمن تقريباً (1095-1291) حتى هزموه نهائياً...فكل القادة البارزين في مقاومة الفرنجة من أراتقة وزنكيين ومماليك كانوا أتراكاً... وحتى صلاح الدين الأيوبي فإن الباحث يراه جزءاً من النخبة العسكرية التركية رغم خلفيته الكردية.. ولأن الأتراك سنة فقد كان انحسار التشيع أثراً جانبياً لا مفر منه للمقاومة الاسلامية للحملات الصليبية.. وقد اعتبر الباحث كل ذلك جزءاً من مسار ما أسماه "القافلة التركية" المتجهة غرباً طيلة الألف عام المنصرمة، من مواطن الأتراك الأصلية في غرب الصين إلى فارس فالعراق فمصر فالأناضول...إلى محاولة تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي اليوم.. موضحاً أن ذلك جزء من "اللحظة التركية" في تاريخ الإسلام التي امتدت 8 قرون ونصف القرن، من تتويج أول سلطان سلجوقي ببغداد عام 1055 إلى عزل آخر سلطان عثماني عام 1909. ولعله كتب بحثه وأنهاه قبل اتضاح معالم صورة العودة التركية إلى قيادة العالم العربي والاسلامي منذ رحلة أسطول الحرية صوب شواطئ فلسطين ووصولاً إلى الموقف التركي المتميّز من الربيع العربي...
الشيعة والسنة وقضية المقاومة:
ويُقدّم الشنقيطي في أطروحته صورة عن التقسيم الطائفي في القرنين العاشر والحادي عشر في مصر والشام والعراق بناء على استقراء واسع لما كتبه المؤرخون والرحالة والجغرافيون المسلمون أمثال ياقوت الحموي وابن جبير والمقدسي وناصر خسرو، وذلك لكي يوضح بأن العراق كان يتقاسمه السنة والشيعة مع صعود سياسي للسنة منذ سقوط الدولة البويهية الشيعية وبزوغ الدولة السلجوقية؛ وأن مصر كانت تحكمها آنذاك نخبة شيعية في حين أن الشعب ظل سنياً في العمق طوال الحقبة الفاطمية، وأن الشام كانت فيه أغلبية شيعية يقودها حكام سنة منذ سقوط الدول الشيعية المتعاقبة على حكم حلب (الدولة الحمدانية والعقيلية والمرداسية)...ولم يكن للشيعة دول في الشام وقت الحملة الصليبية الأولى باستثناء دولة بني عمار بطرابلس... وهنا تحدث الباحث عن الإنشطارات داخل السنة والشيعة في تلك الأيام، خصوصاً الصراع بين الحنابلة والأشاعرة من الجانب السني والصراع بين الإمامية الإثني عشرية والإسماعيلية من الجانب الشيعي...
ويبيّن الباحث بأن الشيعة الإمامية والسنة قاتلوا الصليبيين صفاً واحداً، على عكس ما يشاع اليوم في الخطاب الطائفي، مقدماً نموذج طرابلس بقيادة فخر الملك بن عمار الأمير الإمامي الذي قاوم حصار الصليبيين لطرابلس مدة 7 سنين بدعم من القادة في دمشق وحمص... ناهيك عن نموذج حلب حيث قاد القاضي الشيعي الإمامي أبو الفضل ابن الخشاب جيشاً سنياً تركياً من ماردين إلى معركة سرمدا (أي حقل الدم)الحاسمة ضد القوات الصليبية، وقتال سنة دمشق وحمص مع شيعة عسقلان أكثر من مرة ضد الفرنج، ثم علاقة صلاح الدين القوية بإماميي جحلب ودمشق، وهذا ما جعل مؤرخاً إمامياً هو ابن أبي طي يكتب أول سيرة لصلاح الدين في حياته... وأخيراً أشعار الوزير الفاطمي ذي العقيدة الإمامية طلائع ابن زريك... ويفسّر الشنقيطي هذا التعاضد بين أهل السنة والشيعة الإمامية في وجه الفرنج بعوامل ثلاثة: التقارب المذهبي، والقرب الجغرافي، وعدم تشكيل الإمامية تحدياً سياسياً للقيادة السنية حينها، على عكس الشيعة الإسماعيلية...
ويوضح الباحث بأن الشيعة الإسماعيلية بشقهم الفاطمي الحاكم في مصر آنذاك لم يتحمسوا قط للتعاون مع أهل السنة ضد الفرنج، لكنهم اضطروا في النهاية لتسليم مصر للقيادة السنية بعد أن أصبحت على شفا السقوط في أيدي الفرنج، وأن الشيعة الإسماعيلية النزارية بالشام (المعروفة باسم الحشيشية أو الحشاشين) لعبت دوراً معيقاً للمقاومة السنية من خلال اغتيالهم لقيادات سنية وإمامية بارزة مثل آق سنقر والقاضي ابن الخشاب، ومودود، وزنكي...الخ... لكنهم دخلوا في تفاهم ضمني مع السنة أيام صلاح الدين وبدأوا يستهدفون قيادات فرنجية حيث اغتالوا منهم أربعة كما يوضحه الكشف الذي يقدمه الباحث بأهم الاغتيالات السياسية التي نفذها الحشاشون... ويكشف الشنقيطي في هذا الفصل عن مفارقات تاريخية مهمة ومنها أن الفقيه والشاعر السني عمارة اليمني هو الذي قاد محاولة للانقلاب على صلاح الدين وإحياء الدولة الفاطمية فشنقه صلاح الدين جزاء ذلك... وعمارة هو القائل في مدح الفاطميين:
وزرت ملوك النيل أرتاد نيلهم فأحمد مرتادي وأخصب مرتعي
مذاهبهم في الجود مذهب سنة وإن خالفوني باعتقاد النتشيع

خاتمة:
برأي الشنقيطي فإن جذور الأزمة الطائفية اليوم تكمن في "حنبلة" (نسبة إلى التيار الحنبلي) الثقافة السنية المعاصرة من خلال طغيان الخطاب السلفي عليها، و"سمعلة" (نسبة إلى الإسماعيلية) الثقافة الشيعية المعاصرة عبر الحركية السياسية المتفجرة التي جاءت بها الثورة الإيرانية، وطغيان النظرات التبسيطية المطلقة على الرؤى النسبية التركيبية في قراءة التاريخ...