الصفحات

الخميس، 24 نوفمبر 2011

إيتا»: عندما يكون وداع السلاح خدمة للقضية الوطنية

بشير هلال
http://international.daralhayat.com/internationalarticle/327689
لم يلقَ تخلي منظمة «إيتا» الانفصالية الباسكية النهائي عن العنف المُسلّح، غير القليل من الصدى في الإعلام العربي. هناك من جهة الانشغال الطاغي بالقمع الدامي في سورية واليمن ونهاية القذافي ومسار انتخابات تونس واضطراب مصر من دون نسيان الانسحاب الأميركي من العراق وما يخلفه من سيناريوات ممكنة أفظعها الحرب الأهلية. على رغم ذلك ثمة ما يهم العالم العربي في هذا الحدث بصفته دلالة على وجهة التطور في دول ومجتمعات الضفة المقابلة لنا من المتوسط وعلى مآلات الصراع الفكري السياسي.
لجهة الجيواستراتيجيا يُجسِّد إنهاء الإيتا نشاطها العسكري اختتاماً لآخر نزاع قومي مُسَلح في ما كان يُسمَّى سياسياً بـ «أوروبا الغربية». ولا يشكِّل التيار الاستقلالي في جزيرة كورسيكا الفرنسية تكذيباً لهذا الاستنتاج بسبب قوة التشابك السياسي الاقتصادي مع «القارة» ولاتجاه غالبيته الساحقة راهناً إلى العمل السياسي. وبالتالي فبعد حل قضية الجيش الجمهوري الإرلندي ها هي أوروبا تنجز تجفيف العنف المسلح في جنوبها الإسباني واستطالته في الباسك الفرنسي. وسيعني ذلك انصراف السياسة والأجهزة الأمنيين في إسبانيا وفرنسا إلى التركيز على مواجهة القوى المتصلة بالإرهاب الإسلاموي وتقاطعاته بما يسمى الحروب غير المتكافئة وبالجريمة المنظمة التي سبق للإيتا أن عملت مع بعض شبكاتها لتأمين تمويلها.
وسياسياً، فالأهم في الحدث هو نهاية محاولات حل النزاعات القومية والمناطقية والدينية والطبقية بالعنف المسلح.
فالإعلان يعادل قبول المنظمة ومن تمثلهم أو تزعم تمثيلهم والعمل المسلح باسمهم العودة إلى السياسة ووسائلها حصراً بما يلازمها من عدة دستورية وقانونية وتواصلية لحمل المطالب «القومية» لشعب الباسك ولحل مشاكل التنظيم وأفراده في الوقت نفسه.
أما فكرياً فإن الإعلان بما يعنيه من نهاية لوجود آخر مجموعة مسلحة ماركسية لينينية وقومية في الوقت ذاته يُمثِّل هزيمة حاسمة لأقصى اليسار العنفي في أوروبا، بعد حل مجموعات مماثلة كالجيش الثوري في مقاطعة البريتاني وقبله «العمل المباشر» في فرنسا وبعد التصفية التاريخية لمجموعة بادر ماينهوف الألمانية و «الألوية الحمراء» الإيطالية والملاحقات الفاعلة ضد تشكيلات ومجموعات جديدة أكثر ضعفاً بما لا يقاس من أسلافها مثل «الألوية الحمراء الجديدة» و «الألوية الشيوعية المقاتلة».
ثمة تفسيرات متعددة لهذا الحدث ولكنها تنطلق من معطى جوهري هو ضعف «الإيتا» الذي غدا عضوياً بانفضاض التأييد الذي كانت تحظى به عملياتها ووسائل عملها في الشارع الباسكي، ما نجم عنه تآكل قوتها التجنيدية بالتزامن مع تلقيها ضربات بوليسية مُزَعزِعة لفعاليتها ولعمليانيتها كما لتمويلها الذي كان يتم بصورة خاصة عبر الخوة على رجال الأعمال المسماة الضريبة الثورية وعمليات السطو على المصارف وسواها. وقد ساعد في وصولها إلى هذا الوهن عناصر متعددة:
- الضغط البوليسي التفكيكي والذي تعاونت فيه فرنسا وإسبانيا ودول أخرى بينها الولايات المتحدة واستند إلى إدراج التنظيم في لوائح الإرهاب وجعل إنتاج القيادات والحفاظ عليها عملية متزايدة المشقة. وهو ضغطٌ تنامى بعد تفجيرات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 وانبثاق مفهوم الحرب على الإرهاب ما أجبر الإيتا على إيلاء الاهتمام الأكبر لأمنها الذاتي بالدرجة الأولى.
- الضغط التشريعي والقضائي الذي لم يضيق على «الإيتا» وحدها بل شمل أيضاً الجمعيات والتنظيمات الموازية التي شاركت في إطلاقها كواجهة شرعية لنشاطها والتي كان القضاء يعمد إلى حلها أو تقليص دائرة ترويجها لدعاوة المنظمة الانفصالية بعدما جرى تعديل القانون بما يجعل «مديح الإرهاب» جريمة بذاته، مما أدى إلى تصعيب عمل الحركة في هذه الهيئات كمصدرٍ لتجنيد أعضاء جدد.
- ضغط المجتمع المدني الذي على رغم تحبيذه الاستقلال واستغرابه معارضة الحكومة المركزية والأحزاب الحكومية إجراء استفتاء على تقرير المصير، لم يعد يحبذ العنف والاصطفاف ضمن منظومته القيمية وأساليبه الاختزالية في السياسة، بخاصة أنه أدَّى إلى توترات أهلية ناجمة عن قتل المنظمة عشرات رجال الأعمال وتهديد آلاف المُعارضين.
- ضغط الأدوات السياسية التي أنشأتها الـ «إيتا» نفسها لدعم وتغطية نشاطيتها المسلحة والتي صارت ترى الاستمرار في تأييد عرَّابها مستحيلاً، في حين بينت المشاركة في النشاط السياسي الشرعي إمكانية تحقيق نجاحات سياسية كبيرة للتيار الاستقلالي اليساري على مثال حصول التحالف الذي شكَّله للانتخابات الإقليمية على المركز الثاني بعد الحزب القومي اليميني المعتدل وقبل الحزب الاشتراكي. وكانت المعارضة لمواصلة استخدام العنف قد تمظهرت في شكل متصاعد لدى مختلف مجموعات اليسار الاستقلالي في وقتٍ تزايدت فيه إمكانات تخلصها من ربقة الانضباط بقرارات المنظمة المسلحة.
وبهذا المعنى يأتي إعلان وداع السلاح بمثابة وقائع موت مُعْلن جرت كتابته في وقائع النقاش داخل اليسار والمجتمع والتغيُّر التدريجي في مقارباتهما منذ سنوات. وجاءت ذروته المشهدية بانعقاد مؤتمر عالمي للسلام في سان سيباستيان في 17 من الشهر المنصرم شارك فيه إلى التلوينات الباسكية شخصيات عالمية بينها كوفي أنان ومفاوضو النزاع الإرلندي، ودعا الإيتا إلى إلقاء السلاح وطالب الحكومتين الإسبانية والفرنسية بالحوار مع أطياف المجتمع الباسكي. وكان الاتجاه الناقد للعنف المسلح قد افتتحه مادارياغا أحد مؤسسي المنظمة عام 1994 عندما اعتبر استخدامها السلاح مُضيِّعاً لمعركة تقرير المصير. إلاَّ أن موت التنظيم الذي تقوى المطالبة الشعبية والسياسية الإسبانية بأن يحل نفسه أيضاً تخوفاً من سوابقه بإعلان هدناتٍ يقطعها فجأة، ليس ذلك الموت العادي المنتهي بالعدم. وربما هنا المفارقة الكبرى: فهو موت مقارباتٍ ووسائل عملٍ موروثة من زمن ديكتاتورية فرانكو والحرب الباردة وإحياءٌ تحديثي لأهداف البداية من دون سلاحها ومن دون جوهرانيتها القومية - الطبقية.
ولعَّل هذا ما لم تكن تريده الأوساط الأكثر محافظة في إسبانيا وبلاد الباسك، إذ أن وداع تنظيم الإيتا سلاحه يحرمها من سلاحَيْ التخويف والتحريف ويجعل اليسار الاستقلالي أكثر جاذبية للباسك أنفسهم وأكثر إحراجاً لمن لا يريدون في إسبانيا تسوية قضيته القومية.
هل في قدرة من سار من منظماتنا وأحزابنا على هدي الإيتا أن يتعظ؟

المركزية.. اللامركزية والفيدرالية.. البدء بتشكيل الاقاليم

عادل عبد المهدي

رغم نجاحات مؤقتة تحققها المركزية لكنها لم تقد في النهاية سوى للقمع والخراب والانقسام واضعاف البلاد وكشفها للتدخلات الاجنبية.. وتاريخياً لو قارنا حال العراق للفترتين العباسية والعثمانية.. ورغم المظالم والمآسي والنظام الوراثي المنفرد فيهما، لكن الاولى كانت اكثر عطاءاً ووحدة وانفتاحاً وتقدماً من الثانية.. ولعل سببها التعددية واللامركزية في كثير من موضوعات الولايات والجبايات وتعدد الاقوام والتسامح الديني والمذهبي الذي سمح في مراحل كثيرة لازدهار المدارس وتطور المهن وانظمة الري والثقافات المختلفة وتعايش الجماعات المتباينة.
فاللامركزية ليست غريبة على ثقافتنا وممارساتنا الا عندما تتغلب المركزية ومنطقها القمعي. فتلغي ما سواها.. وتصور نفسها وكأنها الوحدة والحقوق والامر الطبيعي، وغيرها الاستثناء والفوضى والانقسام. فالتاريخ السياسي والفقهي مليء بالامثلة عن الولايات باشكالها المختلفة. ودخلنا القرن العشرين والعراق ثلاث ولايات. وبقي العراق موحداً، وسيبقى كذلك تحميه ذات العوامل التي انشاته وابقته طوال القرون. اي طبيعته وجغرافيته وانتماءاته وعمقه في التاريخ ونسيجه الاجتماعي ودوره بين الحضارات والاقوام المستوطنة او التي تأتيه ليعيد تكييفها بشخصية متعددة الابعاد.. تمنحه القوة الهائلة بحسن استخدامها.. وتضعفه وتهدده بسوء التصرف معها.
فلم يخطيء الدستور اقراره اللامركزية والفيدرالية.. نحن اخطأنا لعدم الانتقال من المفاهيم الى التنفيذ.. مما فتح الباب لشتى الانفعالات والتفسيرات. طرحنا اقليم الوسط والجنوب.. لكن الخلافات السياسية اطاحت به بعد ان كان مطلباً اتفقت عليه القوى السبعة المشكلة للائتلاف العراقي الموحد في 2005. ثم طرحت "الفضيلة" والقاضي وائل مشروع اقليم البصرة في 2008.. والذي استكمل اجراءاته.. لكنه فشل في التصويت الشعبي. وطالبت محافظات مثل الانبار وصلاح الدين ونينوى وغيرها تشكيل اقاليم منفردة او بالاتفاق مع محافظات اخرى. فان لم ترسم اليات واضحة وبغياب الخطط العملية فسنواجه اتجاهين سلبيين.. تعزيز المركزية، وفوضى الطروحات وتهديدها للوحدة الوطنية.
سابقاً كان يمكننا التعذر بالمقاطعة والظروف الامنية.. اما اليوم فان الظروف والمطالبات تجعل الموضوع ممكناً وواقعياً، بل ضرورة امنية واقتصادية وادارية وسياسية، ان التزمنا جميعاً بالدستور. وعليه نقترح اعداد مشروع قانون لتشكيل مجلس الاتحاد.. الذي من مهامه بحث الموضوع. وفي انتظاره نرى اهمية مسارعة مجلس النواب ورئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء ومجالس المحافظات لطرح ورقة عملية تضع تصوراً يضمن مصالح مختلف الاطراف، لنخرج متحدين لا مناكدين او متصادمي

سلام اليك أيها الرائع مظفر النواب

يا طير البرق القادم من جنات النخل بأحلامي!
يا حامل وحي الغسق الغامض في الشرق
على ظلمة أيامي
إحمل لبلادي
حين ينام الناس سلامي

*****

يا ملك البرق الطائر في أحزان الروح الأبدية
كيف اندس كزهرة رؤيا
في شطحة وجد صوفية !
يمسح عينيه بقلبي
في غفلة وجد ليلية
يكتب فيّ
يوقظ فيّ
ماذا يكتب فيّ ؟
ماذا يوقظ فيّ؟
يا مشمس أيام الله بضحكة عينيك
ترنم للغة القرآن
فروحي عربية
****
يا طير ... أحب وأجهل
كيف ... لماذا ... من هي ... لا أعرف شيا
الحب بأن لا تعرف شيا
هل تعرف كيف يكون الشاعر بالحب
لقاء جميع الأنهار ومجنونا وخرافيا
ويهاجر في غابة ضؤ من دمعته
ويموت لقاء أبديا
يا طير البرق لقد أوشك ماء العمر يجف قريبا
وفتحت معابد روحي المهجورة
إذ كنت سمعتك تخفق في الليل غريبا
أيقظت الأقواس وكل حروف الزهد تناديك حبيبا
ووضعت أمام سني عينيك توسل كفي
وما أبقته الأيام لدي
وانت بآفاق الروح شروقا ومغيبا
*****
يا طير هنالك في أقصى قلبي
دفنوا رابعة العدوية
وبكيت وشب الدمع لهيبا
وكشفت مقابر عمري في غسق
لتراني شوكي الشفتين غريبا
لهبي العينين كأن سماء الله تعج ذنوب

عصام العريان: نقيض الدولة المدنية ليس الإسلامية بل حكم العسكر

مقابلة مع نائب رئيس حزب "الحرية والعدالة" (الاخوان المسلمين المصريين)- ديانا سكيني
يا ابن بلدنا صوتنا امانة... رح يحاسبنا عليه مولانا"، مطلع اغنية "ضاربة" في الشارع المصري ترافق الدعاية الاخوانية لقوائم "التحالف
الديموقراطي من اجل مصر" التي يحتل مرشحو حزب "الحرية والعدالة" العدد الاكبر من مقاعدها بنسبة (60-70 %). الاغنية هي واحدة من 12 اخرى انتجتها اللجنة الفنية "الاخوانية" التي اطلقت سلسلة استعراضات فنية في الشارع للتعريف ببرنامج "الحرية والعدالة" ورؤيته بأساليب عصرية تحاول كسر الصور النمطية عن الاسلاميين.

شباب الاخوان المتواجدون بكثافة في شوارع تحيط بميدان التحرير وغيرها من الميادين المصرية هذه الايام، كمتطوعين في الحملة الانتخابية، يمثلون الشريحة المناسبة للتفاعل مع صورة الاعتدال والطمأنة ومواكبة العصر التي يتبناها اخوان اليوم. اما بالنسبة لجيل "الشيوخ" ، فليست ذكرى اخفاق "الشيخ الشهيد" الامام حسن البنا، مؤسس جماعة الاخوان المصريين (1928) في دخول البرلمان مرتين، في العامين 1942 و 1944، ولا ما ستليها من ذكريات قاسية في العهود المصرية المقبلة وتحديدا عشية خوض "الاخوان" لكل انتخابات من تزوير وتضييق واعتقال، ليست هذه الذكريات حصراً ما يحرك وجدانهم.
في هذه المحطة الانتخابية، تتبدد نوادر في الحياة السياسية المصرية من قبيل طلب احزاب ناشئة في الماضي من هؤلاء الشيوخ اصوات "الاخوان" حين كان يقال لهم "إحنا معانا رخصة... وانتم ليس لديكم رخصة... وانتم لديكم قوة تصويتية... واحنا حزب جديد ولم يتمكن من تكوين شعبي، ومن ثم فإن رخصتنا مع قوتكم تنشئ تحالفا قويا".
الرخصة نالها اليوم حزب "الحرية والعدالة"، الجناح السياسي لجماعة الاخوان المسلمين التي تأخذ عليها بقية القوى السياسية عملها بحرية تامة سياسية ومالية وتنظيمية بعد الثورة دون ضوابط قانونية في ما يطبق على حزبها ما ينال بقية الاحزاب وخصوصا خلال الحملات الانتخابية. ويخوض الحزب انتخابات مجلس الشعب، التي ستجري في 28 تشرين الثاني الجاري على ثلاثة مراحل تنتهي في كانون الثاني 2012، من ضمن "التحالف الديموقراطي من اجل مصر" الذي بات يضم 12 حزباً فقط بعد الانسحابات المتكررة منه والتي كان ابرزها انسحاب حزب الوفد بعد فرط عقد تحالفه مع الاخوان.
وبقيت في التحالف تيارات عروبية وليبرالية ووسطية وشخصيات مستقلة ذات احجام شعبية محدودة مما سمح للاخوان في تجربة الاختبار الاولى لمزاج 25 مليون مصري (العدد التقريبي لعدد المقترعين المتوقع) بتلوين قوائمهم بأصباغ الاعتدال والانفتاح عبر وجوه هي مستفيدة بالتأكيد من وجودها على قوائم مدعومة من واحدة من اقوى الحملات الانتخابية في جميع المحافظات المصرية. في القوائم نفسها، تبلغ النسبة التقريبية للمرشحين الاقباط حوالى 8 % يُبرر ضعفها اخوانيا بآثار احداث ماسبيرو على وجه التحديد، وغالبا ما يصاحب التبرير بدعوة المسيحيين الى ممارسة المواطنة الكاملة من دون هموم خاصة مع الوعد بحل مشكلة بناء الكنائس قانونيا. المرأة تحضر في قوائم التحالف لكن بخجل بنسبة قدرت بـ8%، علما ان ضعف مشاركتها في القوائم لا تقتصر على قوائم التحالف.
واللافت ايضاً في سلوك الاخوان التحضيري للانتخابات أنهم عادوا عن قولهم بترشحهم على 45 % فقط من المقاعد (قوائم وفردي) من ضمن التحالف حيث تصل نسبة مرشحيهم الحزبيين او المحسوبين عليهم اليوم الى ما يقارب (60 - 70 %)، وهو الامر الذي تبرره القيادة الاخوانية بصعوبة توزيع الحصص والنسب وتقديم مرشحين في مقاعد القوائم والفردي من العمال والفئات ربطاً بمعايير النظام الانتخابي. تجب الملاحظة أيضاً أن تعهدهم بعدم تقديم مرشح رئاسي لم يعد واضحا في ادبياتهم، فان سُئلوا عن سعي "الحرية والعدالة" للوصول الى رأس الحكم، قالوا "من حقنا الوصول الى الحكم باعتبارنا حزبا معترفا به ".
وهو الأمر الذي ان لم يكن يترجم عودة عن توافق او تعهد ما، فانه دون شك يعكس طبيعة العلاقة المتوترة مع المجلس العسكري الذي رسمت وثيقة نائب رئيس الحكومة علي السلمي للمبادئ فوق الدستورية علامات استفهام حول محاولته المستمرة لرسم قواعد جديدة للمعادلة السياسية لمرحلة ما بعد الانتخابات من خلال تكريس دوره كسلطة مستقلة بصلاحيات تصل حد التدخل في كتابة الدستور الجديد وعزل موازنته عن رقابة البرلمان. الأمر الذي كان الاخوان، الى جانب قوى سياسية اساسية، أبرز المتصدين له ما أخضع الوثيقة لجولتي تعديل لم تؤديا الى جعلها مقبولة، فبقيت النظرة اليها بكونها ردة على التعديلات الدستورية التي تم الاستفتاء عليها في آذار المنصرم والتي حكيَ حينها عن ترجمتها تفاهما بين المجلس والاخوان.
هذه المعطيات كانت أساسا لحديث مع نائب رئيس حزب "الحرية والعدالة" عصام العريان، احد ابرز العقول المدبرة في الجماعة الذي اعتقل لمرات عدة في العهود السابقة، وهو يترأس اليوم قائمة الحزب في الجيزة ويعتبر من الوجوه المرشحة بقوة لرئاسة مجلس الشعب المصري. قال العريان لـ"النهار" جوابا عن سؤال حول "وثيقة السلمي" ان البندين التاسع والعاشر (استقلالية موازنة المجلس العسكري وانشاء مجلس دفاع وطني مستقل) اقحما في الوثيقة التي ضمت مجموعة من المبادئ الدستورية التي سبق التوافق عليها مضيفا ان التدخل في ارادة الشعب في كتابة الدستور الجديد يمثل افتئاتاً على حقوقه، "فنحن نرفض الزام الشعب بمبادىء والتعدي على ارادته وحقه في صياغة دستوره بالارادة الحرة للجمعية التأسيسية".
ويستغرب العريان نزعة المؤسسة العسكرية للاستقلالية بشؤونها مستقبلاً، "وهي بالاساس سلطة مستقلة بالمعنى الذي يجب الا تتدخل فيه بالسياسة". اما الرغبة باستقلالية الموازنة، كما اوحت "وثيقة السلمي"، فهي "مرفوضة لأن المؤسسة العسكرية ليست ميليشيات مسلحة بل جزء من الدولة وليست سلطة فوقها وشأنها شأن باقي المؤسسات العسكرية في العالم تعتبر ميزانيتها من ضمن وحدة الموازنة تماما كما يمارس الكونغرس الرقابة على موازنة الجيش الاميركي".
الاسلام هو الحل
يتمسك "الحرية والعدالة" بشعار الاسلام هو الحل الذي تعترض على وجوده في الدعاية الانتخابية اللجنة العليا للانتخابات لمعارضته القوانين باعتباره شعارا دينيا، لكن العريان يقول ان شعار "التحالف الديموقراطي" هو ازدهار مصر، اما شعار "الاسلام هو الحل" الذي يستخدمه المرشحون فهو لا يخالف القانون لانه يستخدم كقسم من أقسام الدعاية الانتخابية المختلفة مضيفا ان "شعاراتنا تحمل الخير لمصر ونحن حزب مرجعيته اسلامية ولذلك لا نستطيع أن نتخلى عن الشعار الذي لا نعده شعارا دينيا بل هو شعار يعبر عن هوية سياسية" مقللا من امكانية اثارته لهواجس شرائح قبطية وعلمانية خصوصا بعد التوافق على مبادئ عامة بين جميع القوى السياسية ابرزها الدولة المدنية الحديثة الديموقراطية.
الدولة المدنية
ينفي العريان وجود تباين حاد في فهم الدولة المدنية بين الاطراف السياسية. فما هي خصائص الدولة المدنية التي يقبل الاخوان بها؟ يجيب: هي الدولة التي تخضع السلطة فيها لارادة الشعب، والتي تتميز باستقلالية القضاء، فصل السلطات، وتداول السلطة، والحرية والعدالة الاجتماعية والمحاسبة. ويستطرد: لا وجود لدولة دينية في الاسلام، فالدولة في الاسلام تحمل كل خصائص الدولة المدنية مضيفا أن "نقيض الدولة المدنية ليس الدولة الاسلامية بل دولة او حكم العسكر، الممارسات العسكرية هي التي تنافي المدنية".
وهل تعترف الدولة المدنية بمواثيق حقوق الانسان الاممية؟ يجيب "طبعا". قبل ان يضيف: "لكن لنتذكر ان جميع الدول العربية لديها تحفظات عن بعض المواثيق خصوصا تلك المتعلقة بالاسرة ونحن نؤكد على تميزنا الثقافي والاجتماعي عن غيرنا من المجتمعات الغربية". يضرب مثالاً: "نحن كمسلمين لا نقبل بالزواج المدني لمعارضته الشريعة ناهيك عن ان الزواج الاسلامي بطبيعته مدني، فهل يقبل الاخوة المسيحيون بالزواج المدني؟ تخيلوا دولة يعتبر فيها المسيحيون اقلية يباح فيها الزواج المدني من مسلمين، في هذه الحالة هل تكون هذه الدولة المدنية في مصلحة المسيحيين او ضدها؟".
وعما اذا كان يحق للمرأة في هذه الدولة المدنية الوصول الى ارفع منصب سياسي يقول العريان "ليس هناك مشكلة في مساواة المرأة الكاملة في المواطنة مع الرجل في الميادين المهنية والسياسية. بالتأكيد لا مشكلة". وعن حق القبطي في الوصول الى منصب رئيس الجمهورية يقول: "يحق له. يصل اذا ترشح وعكس وصوله ارادة الشعب".
الرؤية الاقتصادية
وحول ما اذا كان فوز الاخوان بغالبية برلمانية يعني قيامهم بتعديل القوانين الاقتصادية بما يتوافق مع الشرع الاسلامي يقول: "لا شك هناك ضرورة لتعديل الرؤية الاقتصادية بدون اطلاق صفات ايديولوجية، فمصر تحتاج الى سياسات اقتصادية جديدة في جميع القطاعات ولا سيما الزراعة والصناعة"، رؤية بدون ادلجة المسألة، اضف الى ان الرؤية الاسلامية الاقتصادية هي واقعية تؤمن الحق والعدالة وتكافح الاحتكار والفساد، والشريعة ليست تشددا لكنها شريعة القيم الإنسانية التى أخذتها منا الدول، والسياسة الاقتصادية تنبع من المؤسسات الدستورية بتوافق بين اطرافها". هذا الى أن "الحرية والعدالة" في حال وصوله الى الحكم لا ينوي "اتخاذ اجراءات تضر بقطاع السياحة"، حيث لم ينكر الاخوان حرية السائح في احتساء الخمور على قاعدة ان "عقيدتهم لا تنهاهم عن الامر".
الضغط السلفي
"الاعتدال" الذي يبديه الاخوان في مواقفهم يساهم في تحديده وتظهيره ازدياد الضغط السلفي في المجتمع الذي يجده العريان "نتيجة للكبت الذي اتصفت به المرحلة السابقة" مؤكدا ان "مزاج الشارع المصري وخصوصا الشارع الاسلامي بشكل عام هو مزاج معتدل" ومشددا على "ضرورة ضمان حرية الممارسة السياسية لكافة التيارات الفكرية بما يتماشى مع سقف القوانين المصرية".
وحول المال السياسي الذي يدفع لتمويل تيارات واحزاب مصرية ولاسيما في المرحلة الانتخابية، يقول ان "هذه الظاهرة لن تؤثر على النتيجة السياسية وهي ذات منطق تزويري في الانتخابات لم تكن تفلح سابقا في التأثير على الناس فما بالك اليوم". لكن من يموّل؟ "نسمع عن تمويلات اوروبية كجزء من برامج يدعمها الاتحاد الاوروبي، ونسمع عن اموال اميركية وخليجية لكن ليس لدينا معلومات مؤكدة".
العلاقة مع الغرب
في موازاة الحوار الذي أُعلن عنه بين الاخوان وواشنطن على "اساس الاحترام المتبادل"، تُلحظ الزيارات الكثيرة للديبلوماسيين الاوروبيين الى مقرات الاخوان، فما هي طبيعة العلاقة الناشئة بين الطرفين وكيف ينظر الاخوان الى دور الغرب في الثورات العربية؟ يجيب العريان ان ما يدور في اللقاءات مع الاوروبيين غير البعيدين عن الموقف الاميركي في السياسة الخارجية يركز على شرح كيف ان الديموقراطية لا تناقض الشريعة الاسلامية، وكيف ان الدعاية المنتشرة عن تخلف الاسلام عن الديموقراطية تسيء الى الشعوب المسلمة. كما "اننا نبيّن لهم الخطأ الفادح الذي ارتكبه الغرب طوال العقود السابقة بدعمهم للحكام العرب المنبوذين من شعوبهم، ونخبرهم بأن هناك فرصة كبيرة لانهاء الخصام اليوم بينهم وبين الشعوب من خلال معادلة احترام المصالح المتبادلة واحترام توق الشعوب العربية الى الحرية والكرامة ونطالبهم بعدم الوقوف حجر عثرة امام تطلعات الشعوب العربية نحو التنمية والازدهار".
العريان الذي سبق ان اعلن رفض الاخوان لدروس رجب طيب اردوغان حول المزاوجة بين الاسلام والعلمانية، يبدو اكيداً من خلال استعدادات حزبه ورصد تفاعل الناس معه من اقتراب اللحظة التي سيتمكن حزبه فيها من تقديم "نموذج حقيقي" لحكم اسلام سياسي عربي معتدل تنتجه انتخابات ديموقراطية. وهو النموذج الذي يتصف حتى الآن بهموم قطرية. يقول ان "ابرزها تشكيل ائتلاف حكومي واعادة هيكلة الحياة السياسية والنظر في التشريعات بما يلبي اشواق المصريين للازدهار". اشواق المصريين تطول بدون شك ايضا استعادة مصر وزنها استراتيجي في المنطقة. وان حكى الاخوان قليلا عن السياسة الخارجية من ترك اعادة النظر بـ"كمب ديفيد" الى السلطة المنبثقة عن الانتخابات المقبلة، ومن حفاظ على اللهجة المعتدلة حيال ايران ومن تعاط مع واشنطن على اسس احترام المصالح وعدم التبعية، فانهم ومن دون شك يخفون الكثير...

المركزية.. اللامركزية والفيدرالية.. الوحدة والانقسام

عادل عبد المهدي:
هل اللامركزية والفيدرالية ممكنة؟ ام انها طريق التقسيم والانفصال؟ وللجواب لابد من طرح سؤال اخر.. هل لدينا خيار اخر؟ وهل المركزية ممكنة ويمكنها حل مشاكلنا الكثيرة ومنها وحدتنا؟
لم يفكك تغيير 2003 المركزية بل تفككت قبله بكثير. فكردستان شبه مستقلة، ومناطق واسعة اخرى وان كان بنسب مختلفة.. ناهيك عن الانقسامات النفسية والسياسية والاجتماعية لعموم الشعب والبلاد. فالمركزية رغم توغلها التاريخي لم تحمِ نفسها الا بالقمع والاجنبي. فالعراق تعددي داخلياً ويرتبط بامم وجماعات مختلفة خارجياً، فينحو بطبيعته للامركزية.. فهو ارض الانبياء والائمة والحضارات والمدارس الفقهية والفكرية والاقوام واللغات والتاريخ الطويل. وادي الرافدين لا عيش له ان لم يدم اعمال الارواء الهيدرولية تاريخياً، والاستثمار النفطي حالياً.. وما تحتمه لاستمرار الحياة من تنظيمات عالية المستوى في طول البلاد وعرضها، ومع محيطه وجواره. مع الاقرار ان نظم الري عامل توحيدي ما دامت هناك اراض ومياه.. خلاف النفط التوحيدي بموارده، والتفكيكي التصارعي باستثماراته.. والذي مع تراجع المياه والزراعة سيشكل قلقاً شديداً على وحدة البلاد، ان لم يعِ المسؤولون خطورة سياساتهم وخطاباتهم.
فالعراق ان لم يكن ارض وحدة، فبالضرورة ارض صراع. والهدنة والاستقرار تمهيد لصراع او تعب منه. والصراع بطبيعته مخرب معطل.. يكتشف رواده عبثيتهم بعد فترة.. ليعودوا -خداعاً او قناعة- الى وحدة لا خلاص لهم الا بها. فحاول كثيرون -قديماً وحديثاً- بسط يدهم استبداداً وليس تناغماً واتفاقاً. فقتلوا وسيروا الجيوش.. وحاولوا افناء الاخر او استقدام وتوطين من هم من لونهم. فسيطروا واشاعوا ثقافة الاستبداد التي ضخت مفاهيم خاطئة كثر استعمالها، ومنها المستبد العادل.. وهو المستبد بكل شيء، والعادل بتوزيع الظلم والازمات.
فليس امامنا سوى وحدة القناعات والمنافع والتي حملها عبر التاريخ وليومنا مشروعان كبيران.. اولهما الشرع او الاسلام (وليس المسلمين دائماً) الذي جعل التعددية شرعة مقدسة ابتداءً. فقبل تعدد الديانات والثقافات والقوميات ولم يرفض الا رفع السلاح والعدوان. والثاني الاجتماع والجماعات والشورى او الديمقراطية.. بكل تجلياتها -القديمة والحديثة- والتي تسمح بالاتحاد عبر التنوع والتداول والتبايع او التعاقد. فالمركزية لم تصمد رغم الدماء والمشاريع العملاقة الجهنمية التي حملتها.. ففشلت من داخلها.. والسؤال الجدي ليس جدوى العودة اليها، بل الاشكال والاجراءات لتنفيذ اللامركزية والفيدرالية.. الحامية لوحدتنا وتقدمنا وامننا.. والملائمة للظروف الواقعية وليس الافتراضية.

طارق متري: المسيحيون في العالم العربي

ا
طارق متري: يحتاجون الى نخب تقودهم لا تسودهم
استضاف دير مار الياس شويا البطريركي ندوة بعنوان: "المسيحيون في العالم العربي"، برعاية بطريرك انطاكية وسائر المشرق للروم الارثوذكس اغناطيوس الرابع، شارك فيها متروبوليت جبل لبنان للروم الارثوذكس المطران جورج خضر، الوزير السابق طارق متري، والامين العام للجنة الوطنية للحوار الاسلامي المسيحي في لبنان محمد السماك الذي القت كلمته الدكتورة اغات اللحام.
وتناول المطران خضر في مداخلته تاريخ المسيحيين العرب ومساهمتهم في الحضارة الاسلامية، فرأى "ان تاريخهم يدل على انهم ليسوا جسر معرفة بين الغرب المسيحي والاسلام فقط، فهذه المعرفة متوافرة عند المستشرقين شكلاً اكاديمياً، لكن مسيحيي هذه البلاد، بسبب اللغة، لهم مذاقة القرآن، وتاليا محبة الكثير منه ونوع من الحس بأنهم في حركته، وهو يضرب على اوتار قلوبهم، مما لا يتوافر بالترجمة لأهل الغرب".
واعتبر "ان رسالة المسيحيين في العالم العربي لن تأتي من ثقافتهم، لكن من عمق روحانيتهم. فالثقافة امست مشترك الناس والنخب العربية المختلفة في الدين في بلاد الشام باتت اليفة. لكن المسيحية في جوهرها هي ساحة القلب وبكاء التوبة ومملكة الفقراء والمتواضعي القلوب. هي اذًا عيش قبل ان تكون كلمة، والكلمة عندنا وليدة العيش الطاهر. لذلك قبل ان نكون اهل كتاب نحن اهل المسيح الذي هو الكتاب الذي كتبه الله".
ورأى متري "ان الحديث عن المسيحيين في المشرق العربي، وان من زاوية مخاوفهم وتراجع دورهم لا يتيح التبصر الجاد ما لم نبتعد عن الجنوح الى الشكاوى الأقلوية او اللجوء الى ترداد الخطابة الوطنية". وقال: "لعل المسيحيين يحتاجون الى نخب تقودهم بدلاً من ان تسودهم. والقيادة تعني في هذا المجال فتح المسالك المتعددة أمامهم، وتعني ايضاً الا يصادر السياسيون ادوار النخب الثقافية والدينية، والاّ يسعوا الى استتباعها، والا تدفع المصالح الصغيرة والعصبيات الضيقة والخوف من المستقبل بعض النخب الدينية الى ان يستتبعوا استنصاراً بشعبية الزعماء او طلبا لرعايتهم. وتزداد هذه الحاجة اليوم، لان الاسئلة القلقة والخائفة احياناً، لا تغيب عن حديث المستقبل عند الكثيرين من مسيحيي العالم العربي".
وشدد على "ان عنصر الوقاية الاول من الانزلاق الخطر، بل من الجنوح المدمر، يبقى الموقف الاخلاقي، ويعني هذا الموقف الا يجد المسيحيون انفسهم في غربة عن التوق الى الحرية ومتساهلين مع عنف الاستبداد الدموي ضد المدنيين وساكتين عن الاساءة الى كرامة الشخص الانساني بحسب التعبير المسيحي المعروف".
والقت اللحام كلمة السماك، وفيها: "هناك حاجة، في اطار الربيع العربي" العام، الى ربيع مسيحي خاص، يعيد الصدقية المسيحية المشرقية والعربية القومية، الى مجلس كنائس الشرق الاوسط، ليتمكن من ملء فراغ التحدث باسم المسيحيين جميعاً، وليستأنف تالياً دوره البناء في الحوار المسيحي – الاسلامي".
وحدد سلبيتين "اسلامية ومسيحية لا بد من تفكيكهما". واشار الى ان "السلبية الاسلامية تتمثل في تضخم او في تضخيم الحضور السياسي الاسلامي في اساس حركات "الربيع العربي". اما السلبية المسيحية فتتمثل في غياب او في تغييب مجلس كنائس الشرق الاوسط بصفته الناطق الشرعي باسم مسيحيي الشرق. وتؤجج حالة اللاتوازن هذه بين الحضور او الاستحضار الاسلامي المبالغ فيه، وبين الانكفاء او الاستغناء المسيحي المبالغ فيه ايضا، من مشاعر الخوف المسيحي، ومن مشاعر الخوف الاسلامي من هذا الخوف. فالخوف يؤسس للاثقة. ومن المستحيل ان يقوم عيش واحد او حتى عيش مشترك على قاعدة الخوف واللاثقة".

قيادي في حركة النهضة لـ"العربية": لن نغير قانون حظر تعدد الزوجات

أكد أن قانون الإرث في تونس يتسق مع الشرع
أكد القيادي في حركة النهضة التونسية، علي العريض، أن الحركة بعد فوزها في الانتخابات "تريد أن تكون مقاربتها مع أي قضية لا تتعارض مع الدين، وأطروحتنا تقوم على الملاءمة بين الحداثة وبين مقاصد الدين الإسلامي"، موضحا أن الحركة لن تحدث تغييرا في قانون الأحوال الشخصية فيما يتعلق بالإرث وتعدد الزوجات الذي اعتبره غير ملائم للمجتمع التونسي، وجاء ذلك في برنامج "نقطة نظام" الذي يقدمه الزميل حسن معوض على شاشة قناة "العربية".
وقال العريض، رئيس الهيئة التأسيسية لحركة النهضة وعضو مكتبها التنفيذي، إن قانون الأحوال الشخصية في تونس "يتعامل مع فرائض الإرث وفقا لما ورد في الشرع الإسلامي".
وأكد أنه "ليس لنا أي نية لمراجعة تعدد الزوجات، لأن التعدد مشروط في الفقه بشروط كثيرة، ولولي الأمر إذا رأى سوء استعمال حق أن يقيده".
وأوضح أن الحركة "تحترم النمط الاجتماعي، وفي تونس جرى العمل على أنه لا وجود للتعدد، وسنحافظ على الأسرة التونسية المكونة من زوج وزوجة وأطفال".
وذكر "أن الدين الإسلامي واحد، وقراءته متعددة، وهو يتأقلم مع كل مجتمع بخصائصه والمرحلة التي يتطور بها، ونحن نريد الحفاظ على المكاسب الموجودة وإصلاح التجاوزات"، مؤكدا أن الحركة تؤيد "الدولة المدنية".
"نحن بعيدون عن النموذج الإيراني"
وتابع: "ليس في الدستور الذي ننوي أن نصوغه من جديد، من تمييز للرجل على المرأة في الحقوق والواجبات، وهذا ينطبق على حقوق الترشح لمختلف المناصب بشرط توافر الشروط المنصوص عليها في القوانين".وأضاف: "النهضة حركة حديثة، ولها قراءتها للحداثة ومكاسبها وخصوصيتها التونسية، ونحن لا نزايد على الآخرين، بل نستلهم من تجربة تركيا ومن تجارب الآخرين في الدول العربية ونستخرج النسخة الصالحة لنا في تونس".وقال إن "إسرائيل دولة احتلال وحرب، وليس لنا علاقات أو تطبيع مع دولة مغتصبة لحقوق الشعب الوطني الفلسطيني".
وأوضح أن "النموذج الإيراني خاص بإيران كشعب وجغرافيا وتاريخ ومذهب"، مضيفا "نحن بعيدون عن النموذج الإيراني، ولنا كامل خصوصيتنا. ننفتح ونستفيد من التجارب الأخرى".
الخطوط الحمر لحركة النهضة
وشدد على أن الخطوط الحمر للنهضة هي: "لا وجود لعلاقات مع إسرائيل، ولا وجود لنظرة دونية للهوية العربية والإسلامية، ولا وجود لصراع طبقي، فهمنا وسطي واختياراتنا وسطية في مختلف المجالات".
وأوضح أن "الخلافة الإسلامية ليست من أصول الدين، ونحن مع اتحاد المسلمين والعرب وتقوية التكامل بينهم، ولسنا من دعاة الخلافة بمفهومها التقليدي".
وتابع: "لم نتلق أموالا من الخارج. نحن تونسيون لغة وهوية، وتمويلنا جاء من قروض من أصحاب اليسر نقوم بسدادها، وحملتنا كانت أقل تكلفة من الآخرين، فقد اعتمدنا التطوع والاتصال المباشر بالمواطنين".
واكد أن "كل العوامل تدخلت في تقدم النهضة بأشواط كبيرة على منافسيهم في كل الأحياء وبين كل الفئات. نحن صورة للمجتمع التونسي".
وقال: "نحن منفتحون على كل القوى والبلدان التي لها علاقات مع تونس، وسنسافر إلى كل بلدان العالم بحثا عن مصالح تونس والاستثمارات الأجنبية".

Minorities Put Faith in Tunisia Islamists

TUNIS – Following the resounding electoral victory of Tunisia's Islamists, religious minorities are putting their faith in the country's nascent democracy.
"The Tunisian people, including the Jews, have understood that democracy is the best solution for everybody," Khelifa Attoun, a Tunis businessman who is vice-president of the local Jewish community, told Reuters.
Islamic-leaning Ennahda party won most votes in last month's election, the first since the ouster of president Zine Al-Abidine Ben Ali in a popular revolt earlier this year.
The election will result in an assembly, which will write the country's new constitution.
"The democratic spirit is there," said the Jordanian-born Roman Catholic Archbishop of Tunis, Maroun Lahham.
"This is not Iran, Pakistan or Saudi Arabia - it's not Switzerland or Sweden either," he said.
"This will be a real Arab democracy, with a Muslim coloring."
Their cautious optimism echoed comments by Muslim analysts who expect Ennahda to substantiate its claim that Islam and democracy are compatible.
"Ennahda is not going to throw away this opportunity that history has given it," said Sofiane Ben Farhat, a senior editor at the daily La Presse de Tunisie.
Tunisia's religious minorities are tiny.
There are only about 30,000 Christians, almost all foreigners of European and sub-Saharan African origin, and fewer than 2,000 Jews in a community that dates back to the Roman Empire.
Reassuring
Religious minorities say that they have no problem with an Islamist-led leadership in Tunisia.
"Ennahda will have to follow the moderate Tunisian tradition," Attoun said.
"Jews have no problem with Ennahda, only with the salafists. But Ennahda won't let them do what they want."
Led by Rachid Ghannouchi, Ennahda says it will not write religion into the country's laws and will focus instead on jobs for the unemployed and justice for all.
"Everybody is watching Ennahda and knows what they have promised," Lahham said.
"If they want to change anything, the street is there to protest."
During the campaign for the October 23 election for Tunisia's new democratic assembly, moderate Islamists in the Ennahda party promised to maintain the country's secular state and respect human rights, women's rights and other freedoms.
Among the 10,000 candidates was one Jew, kosher restaurant owner Gilles Jacob Lellouche from the Tunis port area of La Goulette, where many Jews live.
"I wanted to break the taboo that someone from a minority can't get involved in politics," said Lellouche, who was not elected.
"People saw me as a citizen who was getting involved. It all went very well."
The Ennahda candidate in La Goulette visited the Jewish nursing home to reassure the residents and party leader Ghannouchi met the Tunis community's leader.
"Ennahda has gone out of its way to reassure the Jewish community," said a senior Western diplomat in touch with Jewish communities around the country.
"It's in Ennahda's interest both as a political party and as the leader of the next government of Tunisia to show that this tradition of tolerance continues

عن نبيل مكارم فتى الجبل الشهم النبيل الصلب الرقيق الحبيب الغالي

أخذتني مشاغل الحياة ولم أف بوعدي بالكتابة عن الحبيب نبيل مكارم ابن الواحد وعشرين عاماً الذي سبق جيله وسبق رفاقه وكان قدوة ومنارة أضاءت قلوب الناس...
تذكرت بالأمس ذكرى مولده في عيد الأضحى وذكرى وفاته في أول أسبوع من تشرين الثاني...

ولد نبيل في عيتات يوم الأربعاء 24 أيار 1961 وكان أول أيام عيد الأضحى المبارك
تلقى دروسه الابتدائية في ثانوية الأرز النموذجية-عاليه ودراسته المتوسطة والثانوية في ثانوية سوق الغرب الوطنية ثم في مدرسة لبنان العالية-عاليه
درس الهندسة والعمارة في جامعة بيروت الاميركية حيث نال الماجستير في الهندسة الميكانيكية بدرجة ممتاز في حزيران 1982
درس في معهد العلوم الاجتماعية بالجامعة اللبنانية -الفرع الاول حيث نال الليسانس بدرجة ممتاز في حزيران 1981 وشرع في التحضير للماجستير في العلوم الاجتماعية حين داهمتنا حرب الغزو الاسرائيلي صيف 1982
قام بنفسه باعداد وتنفيذ عدة عمليات ضد العدو الصهيوني في الجبل واستشهد وهو يجهز لعملية كبرى على طريق بشامون بعد ظهر يوم الاثنين الاول من تشرين الثاني 1982
كتبت عنه آمال مدللي
كان واسع الثقافة حكيما على صغر سنه صبورا لا يكل ولديه طاقة على النقاش والخروج من اي حلقة ممنتصرا لا يكون البادىء بقول الاخ مهما عظم المه يكره الخسارة في اي مواجهة
الحركة الطلابية في الجامعة الاميركية لن تنسى نبيل مكارم وكان من قادة اي تحرك في السنوات الماضية وخصوصا تحرك 1981 (جريدة النهار- 3/11/1982).
وكتب بسام ضو
الى من تبتسم دماؤه فوق التراب
الى من علمني ان للكلمة حدا كنصل السيف
الى الشهيد نبيل مكارم
انا بعدك غادرت لغتي
وبحثت في جراحك عن ابجدية جديدة
وحفظت ما علمتني من صمودك وعنادك
وامنت بكتاب دمائك
وتمثلت صورة ابي ذر
ورددت ايات عصماء من سورة استشهادك
هوذا نبيل قادم
هل رايتم جبينا علته الشمس واستراحت فابتسمت للحياة
هل لمحتم وجها سكنته اسرار العمر
هل عرفتم رجلا يحمل قلبه بيديه ويبتسم كالتماع السيف ويهزا بالموت
مهلا مهلا انه نبيل انه نبيل

وقال عمه الدكتور سامي مكارم في وداعه
سأجفف دموعي التي تنهمر عليك لكي أراك حياً يا نبيل من خلال وجه رفاقك أولاً، الذين تحبهم ويحبونك، فأخال انني في يوم عرسك وأنظر الى وجهك الطاهر يتلألأ في عيونهم فاذا بك باق بهم مستمر في جهادك مواصل رسالتك مقيم على نضالك تعيش في سبيل الحق وتموت كرامة لوطنك وعزة أمتك..
هبت نسائم روحك علينا فمشى الحب أمامنا وملأ رونقة قلوبنا وملأت دنيانا صدقاً واخلاصاً وعاطفة وحباً وفرحاً وابتساماً وملأت دنياك عبقرية وذكاء وحركة متواصلة وجهاداً مستمراً لا تني ولا تتعب حتى قضيت وأنت في شرف مجدك لتواصل رحلة روحك... وكأن الله قد أنطقك بذلك عندما قلت فيما قلت: "الأصل أن تفقه رحلة الروح وترى الدرب واضحاً"....

Ghannouchi...Tunisia's Reformist Islamist

TUNIS – Seen as a reformist and a champion of public freedoms, Rachid Ghannouchi, the leader of Tunisia's Islamic-leaning Ennahda, sees himself on a mission to advocate "an applied version of Islam".
"There is some confusion in the West about Islamism," Ghannouchi told Reuters.
"Some confuse it with fundamentalism and link it to violence, extremism and takfir" -- the practice of declaring other Muslims infidels.
Ghannouchi's Ennahda party won 41.7 percent of votes in last month's election, the first poll since the ouster of president Zine Al-Abidine Ben Ali in a popular revolution earlier this year.
The election will result in an assembly that will draw up the country's new constitution.
The party says it will not write religion into the country's laws and will focus instead on jobs for the unemployed and justice for all.
Ghannouchi says Ennahda will guarantee individual freedoms, including women's rights.
He compared its approach to that of the Christian Democrats in Europe or United States politicians who invoke God and Christian values while working in a secular democracy.
"We are against the state trying to impose any particular way of life," he said.
"There shouldn't be any law to try to make people more religious. We believe in freedom of religion, including the freedom to change religion."
Ghannouchi was forced into exile in Britain for 22 years because of harassment by Ben Ali's police.
A softly spoken scholar, he dresses in suits and open-necked shirts while his wife and daughter wear the hijab.
Reformist
Ghannouchi's pragmatic policies are often described as being inspired by the moderate Islamists in Turkey's ruling Justice and Development Party (AKP), but they seem to have been just as influenced by him.
"Tunis has been a center of reformist Islamic thought since the 19th century," said Mustafa Akyol, Turkish author of the recent book "Islam Without Extremes: A Muslim Case for Liberty."
"The AKP doesn't have a Ghannouchi," he said, using the name of the ruling party of Turkish Premier Recep Tayyip Erdogan.
"Neither Erdogan nor (President Abdullah) Gul has written books about reform theology."
A rare theoretician among Islamist politicians, Ghannouchi's reformist writings were translated from Arabic into Turkish and read there as early as the 1980s.
His 1993 book "Public Liberties in the Islamic State" is "better known in Turkey than Tunisia," he said.
It was banned until Ben Ali was ousted by Tunisia's Arab Spring protests in January.
Ghannouchi believes that Islam and democracy fit together as all Islamic laws aim to preserve the universal values of life, religion, property, reason and family.
"When we establish democracy, we see that it achieves many of these aims," Ghannouchi said.
"Anything that promotes these aims is Islamic, even if it is not called Islamic.
"That's why we say that Islam and democracy are compatible."
Radwan Masmoudi, Tunisian-born director of the Center for the Study of Islam and Democracy (CSID) in Washington, said democracy was the most suitable political system for putting Ghannouchi's interpretation of Islam into practice.
"There are Islamic values that are universal and the state should uphold, such as justice, freedom and equality," he told Reuters.
"For that you need a separation of powers and an independent judiciary. Those are secular values."
Another pillar of Ghannouchi's thinking -- ijtihad, or reasoned interpretation of Islamic texts -- needs freedom to operate effectively, Masmoudi said.
"You can't practice ijtihad in a dictatorship," he said.
"People used to think we needed to reform Islam to have a democracy. I think we need democracy first, then we can reconcile Islam with modernity."
جبران خليل جبران عن الامام علي

"في اعتقادي أن الامام علي ابن أبي طالب هو أول عربي لازم الروح الكلية وجاورها وسامرها.. وهو أول عربي تناولت شفتاه صدى أغانيها فرددها على مسمع قوم لم يسمعوا مثلها من قبل؛ فتاهوا بين مناهج بلاغته وظلمات ماضيهم...فمن أُعجب بها كان إعجابه موثوقاً بالفطرة، ومن خاصمه كان من أبناء الجاهلية.
مات علي ابن أبي طالب شهيد عظمته.مات والصلاة بين شفتيه. مات وفي قلبه شوق الى ربه.ولم يعرف العرب حقيقة مقامه وقدره حتى قام من جيرانهم الفرس أُناس يدركون الفارق بين الجواهر والحصى.
مات قبل أن يبلغ العالم رسالته كاملة وافية. غير أنني أتمثله مبتسماً قبل أن يغمض عينيه عن هذه الأرض.مات شأن جميع الأنبياء الباصرين الذين يأتون الى بلد ليس ببلدهم، والى قوم ليس بقومهم، في زمن ليس بزمنهم، ولكن لربك شأناً في ذلك وهو أعلم!".

انتفاضة شعبيّة (لا شعبويّة) ضدّ السّلطة (لا الدولة)

بدرخان علي(مناقشة مع د. عزيز العظمة حول الانتفاضة السورية
2 - 11 - 2011
)
المثقّف النخبويّ العربيّ والسوريّ في ضائقة شديدة أثناء الأيام العاصفة هذه. فالأنظمة العربيّة التقدميّة والعلمانيّة التي يصطفّ وراءها أو إلى جانبها مثقّفون عرب نخبويّون، آيلة إلى السقوط الواحد تلو الآخر. وتبيّن أنّ العلمانيّة التي من المفروض أن تكون حصن الأنظمة هذه ـ كما جرى التصويرـ لم تسعف الأنظمة العربية التسلطيّة ولم تشفع لها في لحظتها الحرجة. وهذه النظريّة أُسقطت على يد جموع المواطنين المنحدرين من بيئات سياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة متنوّعة، لا من "الإسلاميّين" وحسب.
لكن المثقف العلماني المفتون بقدرة هذه السلطات الغاشمة على إسكات الإسلامييّن لبرهة من الزمان في حرج شديد وبعضهم يعاني من قلق وحزن بليغين. هل الأمر خطأ في الرهانات وحسب أم أنّه اصطفاف سياسيّ وتموضعٌ قيميّ؟
ينبغي أن نسجّل للدكتور عزيز العظمة جرأته الفائقة في توجيه بعض النقد للنظام السوري هذه الأيام، كمفكّر سوريّ تجنّب هذا الموقع طويلاً، لاعتبارات يعيدها هو إلى بُعد شخصيّته عن السياسة والعمل السياسيّ، وانهماكه في قضايا الفكر والمعرفة. لكن ينبغي أن نضيف هنا أنّ الرجل لم يتجنّب الخوض في سجالات سياسية كما قد يُفهم. بل أنّ "القضية المركزيّة" في فكره وتوجّهه لا تغيب عنها نبرة السجال السياسيّ المباشر أو غير المباشر. أعني قضية العلمانيّة وتحليله لقضايا التراث وحضوره في الخطاب الثقافي والسياسيّ العربيّ، وما يتفرّع من ذلك إلى الممارسة السياسيّة العربيّة. لكن هذا الخوض في مسائل ذات طابع سياسيّ يعاني من ترفّع كبير لدى العظمة على الوقائع والحيثيّات الحافّة بالمسائل ذات الصلة، أو هكذا يوحي.
البعد عن السياسة الواقعيّة ـ لا نقول اليوميّة بالضرورة ـ ليست فضيلة علميّة أو أخلاقيّة وموضع اعتزاز على الدوام كما يتظاهر بعض المفكّرين العرب، ومنهم الدكتور العظمة وهو صاحب كتب هامة وجديرة بالقراءة رغم مرور أعوام على صدورها، وعلى رأسها كتابه القيّم "العلمانيّة من منظور مختلف". ذلك أنّ المعرفة الخالصة والنقيّة الخالية من "الشوائب" الواقعيّة غير موجودة. "السياسة في كلّ مكان" قال الراحل إدوار سعيد.
على أيّة حال ثمّة تطورٌ محمود نسبيّ في مسيرة الرجل الذي لم يكتف بالصمت على غياب الحريات الشخصيّة والعامّة وانتهاكات حقوق الإنسان الخطيرة في بلده، بل اقتصرت قراءته النقديّة للواقع السياسيّ السوريّ على توجيه أقسى النقد والتقريع "المعرفيّ" لثلّة من المثقّفين والنشطاء السوريين الذين تداعوا لتشكيل بعض المنتديات غير المرخّصة (في منازلهم) وبعض الجمعيات الحقوقيّة والسياسيّة وإصدار بعض النداءات والبيانات مع ما كابدوه من قمع سافر، أودى بالكثير منهم إلى السجون جرّاء كلمة أو موقف أو مقال. (مقالته في الحياة بالاشتراك مع فيصل دراج إبّان نشاطات المثقفين السوريين في ربيع دمشق ودعواتهم لإعادة السياسة إلى المجتمع، والمقالة تتجنب أية إشارة للقمع السلطويّ كما تثقل كاهل المثقفين بقضايا كبيرة جلّها مفتعل).
غير أنّ في التنظير عن بعد مجازفة أخرى كذلك. ليست أخلاقية أو سياسيّة وحسب، بل معرفيّة وفكريّة هذه المرّة. إذ تختزل المسائل السياسيّة كلّها بصراعات فكريّة من قبيل "علمانيّين وغير علمانييّن". أو التثبّت عند فكرة واحدة "دولة ومن يسعى إلى هدم الدولة". وهذه الفكرة يعاني منها السيد العظمة عميقاً وتكاد تكون محور مساجلاته ومداخلاته في الشأن السياسيّ، والسوري تحديداً. فضلاً عن تحفّظ ثابت لديه على "الحرّيّة" شعاراً ومطلباً، وكذلك مقتاً خاصاً لـ"الشعبويّة" (التي يحبّ أنّ يطلقها على منقوديه). الناظم الأساسي وراء رؤيته يكمن في قراءة الواقع السياسيّ والاجتماعيّ السوريّ من زاوية: صراع العلمانية مع الحركات الإسلامية، والإسلاميين عموماً.
للأستاذ عزيز العظمة افتنان خاص بـ"الدولة" العربيّة (أيّا تكن كما يحبّ أن يضيف ويشرح دوماً) حيث هي الفاعل التاريخيّ الذي "اخترق" المجتمع وأعاد تشكيله على صورة وطنيّة تامّة الأركان، وهي مناط المواطنة والجامع الأساسي للمواطنين. لا يجد العظمة ما ينتقدها عليه أبداً. لا يهمّ هنا آليات انبثاق السلطة واستمرارها. لا تهمّ كيفيّة ممارسة السلطة أو القوانين الناظمة للدولة كي تستحقّ اسمها. لا يهمّ الالتزام بالدستور الذي وضعه الحاكم على هواه. والأهمّ هو مماهاته ـ وهو المفكّر الضليع والمدقّق والناقد ـ بين السلطة والدولة (وإن ميّز مؤخراً) حين يتّهم أيّ معارض سوريّ ـ لم يفرّق يوماً ما بين تياراتهم ـ بتفتيت الدولة حين يطالب هذا الناشط أو ذاك المثقف بدولة القانون والكفّ عن الاعتقال الكيفيّ مثلاً! ومادامت الدولة هذه تقمع الحركات الإسلاميّة فهي تستحقّ ثناءً إضافياً. كما في ثناءه على قمع المملكة الأردنية للإخوان المسلمين (في كتابه""دنيا الدين في حاضر العرب")، وابتهاجه الذي لم يخفيه بقمع حركة الإخوان المسلمين في سوريا (في حوار له مع المثقف السوري ياسين الحاج صالح في موقع الأوان).
إنها الثنائية التي تستحكم في تفكير السيد العظمة: كل ما هو ضد الحركات الإسلامية جيّد، وعلمانيّ، ودولتيّ (من الدولة). وفي ذلك تسطيح كبير للسياسة وحيثيات الصراع السياسيّ. ففي سورية مثلاً: كيف يمكن الاكتفاء بمقولة إنّ الدولة حققت إنجازاً تاريخياً، لوجه العلمانية والتقدّم والتاريخانيّة و"الدولة"، في صراع السلطة والإخوان المسلمين في الثمانينات حين ردّت السلطة على عنف جناح الطليعة المقاتلة الطائفيّة لحركة الإخوان المسلمين بعنف وحشيّ وانتقاميّ للمدن والبشر وقتلت عشرات الألوف من المواطنين شيبة وشباباً، أطفالاً وشيوخاً، وسجنت مئات الألوف وقصفت السجناء في سجن تدمر بوحشيّة قلّ نظيرها؟ قطعاً لا. ثمة في ملف صراع السلطة وحركة الإخوان المسلمين العديد من العوامل التي تقع تماماً خارج محور الصراع العلمانيّ ـ غير العلمانيّ، وخارج محور الصراع بين أنصار الدولة ـ وأنصار هدمها. وتقع تحديداً على محور غياب الدولة الجامعة المتعالية على الحساسيات الأهليّة والطائفيّة، التي يتغنّى بها السيد العظمة ويطالب الجميع بتبجيلها حتى وهي على هذه الصورة من العدائيّة واللاشرعيّة الدستوريّة، ومنخرطة في الصراع الأهليّ كطرف فيه لا متعالٍ عليه. ولم تزد السلطة الحاكمة سوى في شحن المشاعر الدينيّة والطائفيّة وزيادة الانقسام الوطنيّ. فضلاً عن ملف كارثيّ على الصعيد الحقوقيّ والإنسانيّ في حاضر ومستقبل سوريا. ودفعت سورية عقوداً من عمرها وحياة أبناءها بالمعنى البيولوجيّ والمعنويّ بعد انتصار السلطة الساحق على المجتمع بحجة الصراع مع الرجعيّة والعملاء، عقود من استعباد المواطنين ونزع حرياتهم وكرامتهم، واستتباعهم كخدم ورعايا أذلاّء، ترافقاً مع اضمحلال "الدولة" لصالح نواة سلطويّة بدأت تضيق باضطراد، وتتحوّل الدولة إلى ملك شخصيّ عضوض أكثر فأكثر.
الدولتيّة هذه تبدو في فكر العظمة ميتافيزيقاً معلّقاً: "الدولة التي ـ على علاّتها وترهّلها واستتباعها للسلطة ـ تبقى الجامع الأساسي للمواطنة والمواطنين بغض النظر عن الأصول والدم، وإنجازاً تاريخياً غير قابل للمفاوضة". نتساءل لماذا؟ هل بهذا التعميم والإطلاق يجري الكلام عن كيانات سياسية؟ أليست هناك شروط وتعيينات للدول والسلطات؟ هل دولة صدام حسين كانت مثل دولة السويد مثلاً؟ هل دولة القذافي وحافظ الأسد وابنه مثل ألمانيا وسويسرا؟ وهل أشباه الدول القائمة لدينا هي حقاً الجامع الأساسي للمواطنة والمواطنين..؟ يحتاج المرء لأن يفكر في دول أخرى حتى يقتنع بأحكام العظمة عن الدولة العربية، والسوريّة تحديداً.
هي دولة وحسب. ولهذا السبب فإن أيّ قيام في وجه هذه الدولة الموقّرة عبر كتابة مقال أو عقد حلقة نقاش أو احتجاج جماهيريّ، كما يجري اليوم، تعتبر دعوة لتخريب الدولة!! المثير للغرابة أنّ دعوات المثقّفين السوريين السلميّة جداً والواقعيّة تماماً قوبلت باستهجان وسخرية من قبل السيد العظمة ولنفس السبب والحجة: الحرص على الدولة؟ لا ندري أيّ اعتداء على الدولة السورية تأتّى من مطالبة السلطات بالرضوخ للقوانين والدستور السوري نفسه ـ على علاّته ـ والإفراج عن معتقلي الرأي والسماح بصحافة حرّة.
في بضع مواقع لا سيما في كتابه "دنيا الدين في حاضر العرب"، هناك، على سبيل المثال، كلامٌ عن عراق صدّام حسين، فتستوقفه عبارة عابرة لمعارض عراقيّ مغمور تفيد ضرورة كون الدولة صورة عن المجتمع. لكن كلّ الطغيان والإرهاب السلطويّ والحطام المجتمعيّ لم يعني للسيد العظمة أي شيء، حتّى من منظور الحرص على "الدولة" التي يبجّلها مفكّرنا ولو بنيت على أنقاض مجتمعها وأشلاء "المواطنين" الرعيّة؟ كيف يستقيم الأمر فكريّاً وسياسيّاً، كي لا نقول أخلاقياً، ونتّهم بالسذاجة والبساطة من قبل الأستاذ العظمة؟
عند العظمة فتوى شبه ثابتة بهذا الخصوص: أيّ نقد للدولة العربية الراهنة (وهي في الواقع "شبه دولة" بتعبير ياسين الحافظ، أو أقل من ذلك، كي لا نقول مع برهان غليون أنها "دولة ضد الأمة") التي ابتلعت من قبل السلطة الشموليّة وأفضت إلى نتائج كارثية على صعيد الدولة أولاً والمجتمع تالياً، يصنف في خانة "النيل من هيبة الدولة"، وفق لغته العالِمة المتعالِمة؟ (التهمة الأخيرة تطلقها محاكم النظام السوري اللاشرعية الخارجة عن الدستور السوري نفسه ـ على علاّته ـ تطلقها على المعارضين وأصحاب الرأي وتضيف إليها تهم أخرى من قبيل "وهن نفسية الأمة").
في الانتفاضة السورية الرّاهنة:
في مداخلتين له حول الانتفاضة السورية ("الحراك الجماهيري وتأزّم الحسّ السياسيّ" الجمعة 9 أيلول (سبتمبر) 2011، "الانتفاضات العربيّة في لحظتها السوريّة" الجمعة 22 نيسان (أبريل) 2011، موقع الأوان الالكتروني) يقدم الأستاذ عزيز العظمة رؤيته ـ المتوقّعة ـ إلى الحراك الجماهيريّ في سوريا. وهي رؤية موسومة بالكثير من التحفّظ والارتياب على حصيلة الحراك والانتفاضة. لكن الرؤية هذه تنتظم إلى حد بعيد في محور قراءته السياسيّة- الفكريّة للواقع السوريّ، والعربيّ استطراداً.
من غير المستغرب والحال هذه إزاء موقفه من نشاطات المثقفين السوريّين أن ينظّر السيد العظمة للانتفاضة السوريّة كما لو أنّها ثورة دينيّة في سوريا من جهة، وتستهدف "الدولة" في المحصلة من جهة ثانية. ويقف المرء باستغراب على عملية الإسقاط الذاتية الإيديولوجيّة التي يمارسها الدكتور العظمة حيال المنتفضين، والمعارضة عموماً.
"الشعبويّة" و"الشارع":
من غير تدقيق في السياق والواقع والحيثيات الملموسة للحركة الاحتجاجية في سورية يطلق العظمة العنان لأحكامه التي تصلح لأيّ زمان ومكان عن المعارضة السورية. "السياسة لا تُصنع من الشارع" يقول العظمة. والواقع أنّ السياسة الحقيقيّة تُصنع في الشارع اليوم لأنه جرى نزعها من المجتمع والدولة، بل هو المكان الطبيعي لصنع السياسة وهذه العملية ديمقراطية تماماً ومشروعة بعرف الحقّ والعدالة وليس بعرف الطغيان. يفوت منظّرنا أنّ المجال العام هو (ساحة وميدان وشارع وجامعة...) للتداول والمعارضة والنقد والاحتجاج حتّى في الدول الديمقراطيّة المؤسساتيّة، فما بالك بسلطات احتكرت الدولة والثروة والقوة والمجتمع وميادينه العامّة وحياة المواطنين الخاصة. بديل الشارع (=الاحتجاجات والمعارضة) لصنع السياسة هو "مجلس الشعب"، مجلس العبيد ومنبر التصفيق والهتاف والصّغار، أو الجبهة الوطنية التقدميّة (الجثّة السياسيّة الهامدة من لحظة نشوءها) أو الانتساب لحزب السلطة للانتفاع أو وقاية المخاطر الأمنيّة إلى حدٍّ ما. صناعة السياسة الرسميّة (احتكار الدولة والسياسة) تتم في دائرة ضيقة جداً لا يحقّ لأيّ مواطن أن يشارك فيها. وهذه الصناعة الاحتكارية هي بالضبط ما يعترض عليها المحتجّون السوريون اليوم. لا بد من فتح هذه الدائرة المغلقة.
لكن الملفت هو وسم جمهور الحركة الاحتجاجيّة السوريّة بالشعبويّة (فضلاً عن الفتوى الثابتة بالطبع: معاداة الدولة والنيل منها). والواقع أنّ الانتفاضة السوريّة أبعد ما تكون عن الشعبويّة ليس لأسباب "فكريّة" و"رقيّ" المنتفضين أو تأهيلهم الأكاديمي أو تنعّمهم بحياة الغرب الوادعة، بل لأنهم يناضلون ضدّ أوضاع بالغة التعيين والتجسي، لا من أجل مثالات إيديولوجيّة أو أوهام ذاتويّة أو ماضويّة ؛ فالمحتجّون ينتفضون على واقع ملموس ومشخّص: الاعتداء على ذواتهم وآدميتهم واستباحة كرامتهم بالإضافة إلى سرقة لقمة عيشهم. أيّة شعبويّة في جسارة المنتفضين وهم يواجهون موتاً مرجحاً في مطالبتهم بأهداف عيانيّة ومباشرة؟ هل من شعاراتهم الواضحة ضدّ التسلط والطغيان ورموزهما وأعلامهما توصّل السيّد العظمة إلى كونهم "شعبويين"؟ أم أن اصطفاف بعض "النخبة" الاقتصادية والثقافية العلمانوية والدينيّة الرجعيّة مع السلطات الغاشمة يجعل من المعارضين لها "شعبوييّن" بالضرورة؟
نشير هنا أيضاً للمناسبة إلى كمّ الاحتقار والإهانة الذي يقذفها إعلاميّو النظام ومنظّروه إلى المنتفضين (هم حثالة المجتمع السوري بحسب بسام أبو عبدالله، "أستاذ" علوم سياسية)، أو الدعوة الصريحة إلى محوهم عن الوجود فهم يستحقّون الحرق دون رحمة (طالب إبراهيم مدافع عن النظام في الإعلام، وشريف شحادة)، ويجب توجيه ضربة حاسمة وحيدة بحيث تقضي على "الفتنة" مرّة واحدة و"إلى الأبد" لأن إطالة الضربة يستجلب غضب المجتمع الدولي (بحسب "أستاذ" علوم سياسية آخر) . وفي الوسط "الفكريّ" لا تفوتنا الإشارة إلى الدفاع الركيك عن النظام الذي يقدمه فراس السواح (يستغرب المرء من فقره المدقع في التحليل والمقاربة دون أن يستغرب من موقعه السياسيّ طبعاً) عن الانتفاضة؛ إذ عابَ ـ مؤخراً ـ على المنتفضين فقرهم وسوء أوضاعهم المعيشيّة! واعتبر ذلك اختراقاً للثورة! يا للرصانة حقّاً.
"الإسلاميّون":
ليس العلمانويّون بحاجة إلى شعارات تُرفع في الاحتجاجات كـ" لن نركع إلا لله" أو"الله أكبر" و"الشهيد حبيب الله" والخروج من بعد صلاة الجمعة للتظاهرات كي ينعتوا الانتفاضة بالسلفية والدينيّة.
الواقع أن جمهوراً من المتدينين يشارك في فعاليات الانتفاضة كما غير المتدينين، وهذا حقّ للجميع إن لم نقل واجبهم. المتديّنون ليسوا كتلة واحدة. فيهم المتشدد وفيهم المتسامح والديمقراطي. فيهم السلفي ومنهم من يناهض السلفية والطائفية ويعمل لذلك. منهم دعاة لاعنف ونضال سلمي ودولة مدنيّة. ومنهم من يصلي ويصوم فقط، وليس مكترثاً لأكثر من ذلك. أمّا غير المتدينين ففيهم طيف واسع كذلك، لكن ليس بينهم علمانيّون من الصنف الذي يرى في النظام الحالي حجّة في العلمانيّة والحداثة يتعرض لهجوم متخلّفين وسلفيّين.
بيئة الانتفاضة كذلك متنوّعة. فدرعا مثلاً ـ التي انطلقت منها شرارة الاحتجاجات ـ لم تعرف يوماً ما بنزوعها السلفيّ و"الإرهابي"، على العكس كانت درعا بيئة معروفة للعروبة التقليدية وحزب البعث، وخرج منها العديد من الساسة والعسكر ورجال الأمن في ظل النظام الحالي. وفي سوريا، وبدرجة مختلفة عن مصر وتونس، لم تبدأ الانتفاضة من حركات وتيارات إسلاميّة، بل من الريف الذي شكّل قاعدة اجتماعية وإيديولوجية للنظام البعثيّ، "التقدميّ" يوماً ما.
في بقية المناطق المحتجّة يشارك في الاحتجاجات سوريون من مشارب متعدّدة وفيها حضور مدنيّ وعلمانيّ ودينيّ محافظ ، أي كما هي حقيقة المجتمع السوريّ وتكوينه. على جبهة السلطة يمكن العثور على شيء من "التعددية" هذه. لكنها هنا تفقد أيّ معنى ومضمون للتعددية بسبب ارتهانها لنواة السلطة الضيّقة جداً المقررّة لكلّ شيء والمحتكمة لأنانية مفرطة ومصالح متطرفة جداً. لا بدّ من نظرة أخرى للواقع السوري إذن غير التي ترى في الدولة المختزلة في النظام والسلطة معقل الوطنيّة ومناط المواطنة. مجتمعنا السوري لا يتكون من علمانيين وسلفيين أو أنصار الدولة وأنصار هدمها كما هي قراءة الدكتور العظمة.
بصرف النظر عن حجم الهتافات دينية المنبت فإنّها ليست طائفيّة ولا هي ضد المواطنة أو الدولة. شعار "لن نركع إلا لله" يكتسب دلالة ديمقراطية وإنسانية، وعلمانية كذلك، إن وضع في سياق الأحداث. معلوم أنّ السوريين أجبروا على الركوع والسجود، واقعاً لا مجازاً، لأصنام الرئيس وعائلته ورموز السلطة المنتشرة في طول البلاد وعرضها طوال عقود. وبرزت في الأحداث الأخيرة حالات من الاستعباد الذليل للمواطنين بالطلب منهم السجود على صورة الرئيس أو إجبارهم على قول "لا إله إلا بشار". لا يحتاج المرء لأن يكون متديناً وسلفيّاً لينبذ هذا السلوك الأرعن واللاأخلاقي. إلا إذا كان هناك من يعتقد بأن هذا السلوك يخدم تمتين بنية "الدولة" الموقّرة المعرّضة لهجمة السلفيّين الشعبوييّن! وكذلك حال شعار "الله أكبر" الذي يردده السوريون العزّل أمام آلة القتل والتدمير. لكن ماذا يتوجب على مشيّعي القتلى والشهداء والجرحى أو مشاريع الشهداء أن يرددوا في مظاهراتهم؟ "العلمانيّة هي الحل" مثلاً؟ أم تبجيل "الدولة"؟
لا بدّ أنّ عنف النظام الوحشيّ سوف يستجلب كل ما يخطر في البال من مقاومة رمزية ممكنة، ومنها الاتكاء على رموز دينيّة سيما التي تحظى بانتشار شعبي في كافة الأوساط الشعبية المتدينة وغير المتدينة.
الأكراد:
أنتهزُ الفرصة هنا للتدليل على خطأ معرفيّ كبير، واستعلاء عنصريّ مقيت، يقترفه السيد العظمة المرّة تلو المرّة كلّما حلّت المناسبة، كما هو في حديثه عن الانتفاضة السورية. فالدكتور العظمة يندهش ويستفظع وجود أناس يسمّون أنفسهم أكراداً. ودهشته تنبع من علم في التاريخ حسمه العظمة ولخّصه كالتالي: الأكراد اكتشفوا كرديّتهم بعد العام 1991؟ يا للاكتشاف حقاً (التاريخ ذاك يشير إلى وقت إصدار مجلس الأمن الدولي قرار فرض الحظر الجوي على نظام صدام حسين في منطقة كردستان، شمال العراق بعد فرار مليون إنسان إلى الجبال حيث الثلوج إثر انتفاضة شعبية كردية كبيرة ضد سلطة صدام حسين. وقد أعلن الدكتور عن هذه "النظرية" في مؤتمر العلمانية في المشرق العربي في دمشق قبل بضعة أعوام وسمعتها منه مباشرة، وهي مدوّنة في كتيب صدر بنفس العنوان عن منظمي المؤتمر). الحركة القومية الكردية التي نشأت قبل قرن ونيف تقريباً ـ نعم وليس عقد ونيف مثلاً ـ ونادت باستقلال كردستان وناضلت لأجلها وحققت مكاسب هنا وهناك وانتكاسات مريرة، لم تنقطع يوماً ما في ظل الإمبراطورية العثمانيّة وبعد انهيارها. القوميّة الكرديّة ليست شعارا زائفاً اخترعه أبناء اليوم وبتحريض من مؤامرة على العرب والعروبة أو على تركيا وإيران.
إنها حقيقة موجودة لا ينفع معها التعامي والاكتفاء بنظرات من علٍ. لا داعي لتصنّع المفاجأة بوجود مواطنين يزعمون أنهم أكراد ويعرّفون أنفسهم على أنهم غير عرب. لكنهم بنفس الوقت سوريّون ويطالبون بحقوق ديمقراطيّة وإنسانيّة، وكذلك اعترافاً بخصوصيتهم القومية في إطار وحدة البلاد، كما تنادي عموم فصائل الحركة السياسية الكردية في سوريا التي تأسّست رسمياً في صيغة حزب سياسي عام 1957 كامتداد للحركة القوميّة الكرديّة لتمثيل مطالب أكراد سوريا ضمن إطار سورية ديمقراطية. أمّا لماذا ظلّ أناس يقرّون بهوية متخلّفة جداً ومن مستحاثات التاريخ فهذا شأنهم وحقّهم في تقرير مصيرهم. يقول العظمة بعنصرية غير خافية: أن الأكراد يفضلون "إيثار النسب على الحسب اليوم"، والدلالة واضحة طبعاً. العروبة حسبٌ ومباهاة. الكردية نسبٌ معيب.
يُخشى أن يكون الدكتور العظمة قد استقى فكرته عن "حَسَب" الأكراد من بعض الأكراد المندمجين في المجتمع الشاميّ الذي هجروا لغتهم الأم ونالوا حَسَباً راقياً بمجرد تخليهم عن نسبهم المتخلّف. لم يلحظ ولم يقرأ ولم يسمع عن ملايين الأكراد، في تركيا وسوريا والعراق وإيران وغيرها في الشتات الكردي، الذين لا يتكلمون سوى الكردية ولا يعرفون غير الكردية هوية لهم هم وأجدادهم. كيف يقارب المفكر والمؤرخ ( والسياسيّ) هذه الواقعة؟ كي يريح نفسه من عناء التواضع وقراءة التاريخ المزعج له يستحسن أن يقول: هناك عرب أضلّوا حسبهم وبحثوا عن نسب آخر فسمّوا أنفسهم أكراداً! كم هو شبيه كلام الدكتور العظمة بمقولات الفاشية الأتاتوركية في تركيا! حيث تجلّى التجسيد السياسي العنيف والمدجج بجبروت أقوى جيش في المنطقة بغية محو هوية الشعب الكردي منذ ولادة الجمهورية التركية الحديثة. لكنها باءت بفشل ذريع. فلا تمكّنت الفاشيّة التركية من محو قومية ثانية وصهرها في القومية التركية، ولا هي تمكنت من اصطناع دولة ـ أمة متجانسة بلا "شوائب"، كما حلم منظرو تلك الفلسفة والسياسة العنصرية البغيضة على امتداد ما يقارب قرن من الزمان.
ولولا احترام المكانة الأكاديمية والعلمية للدكتور عزيز العظمة لأوردت هنا بعض المراجع والمصادر الرصينة عن تاريخ الأكراد الحديث أو القديم وتاريخ دعوتهم القومية (قبل العام 1991!). لأن تلك المقولة العامة والاستعلائيّة التي يستند إليها بثقة فائقة هزيلة ولا تليق به قطّ.
المواطنة والديمقراطيّة والمستقبل:
الانتفاضات الراهنة تسعى إلى تأميم الدولة وتعميمها. ومن ثمّ فتح المجال كي يعبّر المجتمع عما يعتمل في داخله بإيجابياته وسلبياته، وتراكمات السنوات المنصرمة والتوتّرات الاجتماعيّة.
نفترض مبدئيّاً أن لهذه العملية التحويليّة حصيلة ديمقراطية مرجّحة. بصرف النظر عما ستؤول إليه الأحوال فيما بعد، أو هي خطوة حاسمة على طريق الديمقراطية. لكن لن تحلّ أوضاع البلدان المنتقلة من الأنظمة التسلّطية بصورة أوتوماتيكية بعد سقوط الأنظمة (تونس ـ مصرـ ليبيا)، كذلك في اليمن وسورية بعد إسقاط أنظمتها المستولية. ويبقى الأمر متوقفاً على صراعات القوى السياسية التقليدية والجديدة، وبعض القضايا الخاصّة بكل بلد. لا نتوقع انتقالاً فوريّاً إلى الديمقراطية بعد الدمار الشامل الذي شهدته هذه البلدان، جرّاء الديكتاتورية والنهب والاستيلاء على الفضاء العام، وتغييب السياسة وتصحير المجتمعات.. هناك العديد من المعضلات الوطنية سوف تكون مطروحة على برنامج الانتفاضات المنتصرة، لتتحوّل إلى ثورات تطال مجمل البناء السياسيّ والاقتصاديّ والثقافيّ للنظام والدولة. وستبرز خلافات وصراعات. لكن من العسف الاستنتاج من ذلك أن بقاء تلك النظم المستبدّة الفاسدة خير من إسقاطها، لأنّ ذلك يؤدي إلى انكشاف مجتمعاتنا وسيادة فترة من الاضطراب ربما؛ على العكس فإنّ النظام الديكتاتوريّ هو العائق الأكبر أمام تطور المجتمعات والدول. ثم أنّ المشكلات الكبيرة التي تعتمل في داخل هذه الدول موجودة دائماً، لكن بسبب القبضة الحديدية وتجميد الحياة السياسية يبدو وكأنها غير موجودة لمن يأخذ بهذه النظرة التشاؤميّة العدميّة، غير البعيدة عن الاستقطاب السياسيّ.
يبقى السؤال المركزيّ مستقبلاً هنا: كيف يمكن استيعاب التعددية الاجتماعيّة في سوريا الموجودة حقيقة لا افتعالاً في ظل رابطة مواطنة حقيقية، وفي ظل دولة متصالحة مع مجتمعها، لكن تعلو بنفس الوقت على البنى الأهليّة. هذا سؤال راهنيّ وتاريخيّ. نجزم أن النظام السوري ليس في صدد بناء هذه الدولة المنشودة كما يعتقد الدكتور العظمة بثقة دوماً. هذا سؤال لسورية المستقبل الديمقراطية الحرّة، ما بعد حكم العائلة والمخابرات والشبّيحة.
الحركة الاحتجاجية الراهنة ليست حركة ملائكة وأناس مطهّرين بالإطلاق ولا هي فوق النقد والاختلاف، سيما بعض الناطقين باسمها وراكبي الموجة ومقتنصي الفرص.
سورية المستقبل سوف تواجه كافة قضاياها الوطنيّة المتراكمة. النظام الحالي لا يساهم في ذلك أبداً، سياسياً، بل يزيد من أعباء سورية والسوريّين. أمّا أخلاقياً فلا يحبّذ أن نتكلم فيه لأن الدكتور العظمة لا يستسيغ الكلام الأخلاقويّ لأنه ـ ربما ـ يمنح المتدينّين حقّ الصراخ والشعور بألم الرصاص والتعذيب في السجون، وهذا محرّمٌ "علمانيّاً".

العراق فتح طريق التغيير.. والتاريخ محاميه

الدكتور عادل عبد المهدي- بغداد

قبل وبعد 2003 تحركت الة لئيمة ضخمة تتهم العراقيين.. فالفضائيات التي ترفع اليوم شعارات التغيير والتدخل لحماية المدنيين ظلمت العراقيين اكثر مما ظلمهم القتل والسجون. وغرقت المؤسسات الاقليمية والدولية بشرعية الانظمة ونست شرعية الشعوب. وعدا دولة او دولتين، وقفت الانظمة العربية مواقف غريبة زادت الفتنة والانقسام، رغم ان بعضهم صوت لقرار الاحتلال 1483، وكان غيرهم غارق لاذنيه في القواعد ومعاهدات الحماية. فاستثمرت "القاعدة" وبقايا النظام الاجواء لتنظيم نفسها وشن حرب جديدة على العراقيين.. وساعد ذلك سلسلة حماقات للسياسة الامريكية، واهمها منع العراقيين تشكيل حكومتهم واعلان الاحتلال.. مما شوه التغيير واربك العملية في ملفات ضخمة ومعقدة. ومنها، الوجود الاجنبي.. والارهاب والعنف.. ودمار المؤسسات والبنى التحتية وانظمة الخدمات.. والمديونية وحجز اموال العراق والفصل السابع.. واعداد الدستور والانتخابات وتشكيل الحكومة واستعادة السيادة.. وموروثات الاوضاع السابقة والانقسامات الداخلية السياسية والقومية والمذهبية.. والصراعات الاقليمية والدولية، في وحول العراق.. وهذا عبء لا نرى مثيله في مكان اخر.. فوقعنا بالضرورة باخطاء وانحرافات كبيرة ايضاً.
لم يقتنع المعاندون والمغالطون بعدالة القضية العراقية طوال عقود، قُتل واضطهد الشعب فيها اقسى بكثير من اي شعب اخر.. فقالوا الاولوية للقضية الوطنية وليس لحقوق المواطنين. ولم يقتنعوا بعدالة القضية عندما شن صدام الحرب على ايران والكويت وهلاك الملايين بين قتيل وجريح واسير ومشرد.. فقالوا الاولوية الوقوف ضد المطامح الايرانية والاستغلال الكويتي. ولم يقتنعوا عند الانتفاضة الشعبانية وسقوط مئات الالاف بين قتيل وجريح وسجين ومشرد فقالوا الاولوية منع تقسيم العراق.. ولم يروا معاناة الشعب في 2003 فقالوا الاولوية الدفاع عن النظام ومقاتلة الامريكان. واليوم سقطت جميع هذه الاولويات.. وارتفعت الاصوات -التي نفترض صدقها- باولوية الشعب في الحرية والسيادة والحقوق، وهذا ما كنا نقوله. في وقت تنسحب القوات من العراق ويبدأ او يتواصل حضورها في غيره.. فالدول تدخلها الجيوش في ظرف ما.. ويبقى الاهم انهاء احتلالها، ليأتي التعاون ندياً وسيادياً.. فالوطنية تصنعها الشعوب قبل الحكام.. والشرعية اساسها الشعوب وليس الحكام.. والدفاع عن الوطن جذوته الشعوب لا الحكام.. والخيانة ارضها خصبة عند الحكام وبائرة عند الشعوب.. فالاولوية للشعوب ولا اولوية للحكام قبلها او على حسابها. هذا درس العراق.. فالتاريخ قال حكمه في العراق وكان افضل محام له.

دلالات الانتخابات التونسية وفوز النهضة

الدكتور عادل عبد المهدي- بغداد

جرت الانتخابات بجو ديمقراطي باشراف الامم المتحدة ومختلف الدول والاعلام العالمي.. وكما عندنا، نظمت الانتخابات "المفوضية العليا المستقلة للانتخابات" واعتمدت خليطاً من النسبية والمفتوحة.. واظهرت النتائج بعد مشاركة واسعة فوز حزب النهضة برئاسة الشيخ راشد الغنوشي، فما هي دلالات هذه الانتخابات.
• بدأ الربيع العربي يعطي ثماره. فكانت تونس اول شرارة، فانها –ايضاً- اول من فتح درب الاصلاحات والديمقراطية والحرية لتؤكد تاريخية الانتفاضات. سيقول قائل ان العراق قد سبق الى ذلك، وهذا صحيح.. لكن دور العراق كان اقرب لدور الديناميت الذي ازاح جبل الافكار المتخلفة المتداولة بحجز الموروثات لطريق الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة.. بعد ان اصبحت الانقلابات وموت الحاكم هي الوسيلة الوحيدة لذلك. امام هذه الحقيقة التاريخية نتذكر بفخر فتوى المرجع الاعلى السيد السيستاني بلزوم اعداد دستور دائم تكتبه جمعية منتخبة.. وهو ما فرضه الشعب العراقي في نهاية المطاف، رافضاً الحل العسكري او النخبوي. وهو ما قام به –ايضاً- الشعب التونسي بانتخاب مجلس لكتابة الدستور.
• برهن فوز "النهضة" ان ما يسمى بـ"الاسلام السياسي" ليس تياراً هابطاً كما يقولون، بل هو تيار قوي طالما يتبنى الشعارات والبرامج الصحيحة.. وسيكون له موقعاً مؤثراً في اية انتخابات حرة تجري في اي بلد اسلامي، شريطة تبني الاطروحات المناسبة والمناهج واللغة التي يقبل بها الناخبون بحرية ومساواة متاحة للجميع.
• ان التزاوج بين الافكار الاسلامية والديمقراطية الذي دعا اليه الشيخ راشد الغنوشي هو امر ممكن. فالاسلام هو دين التعاقد والبيعة وهو اقرب لاحتواء الممارسات والمفاهيم الديمقراطية من اي فكر انقلابي او نخبوي او طبقي. فلا حاجز في الاسلام لتحقيق ذلك.. الحاجز قد يضعه المسلمون او غيرهم بسلسلة من الافكار التي يخترعونها.. وهي ليست من الاسلام في شيء.
• تبرهن الانتخابات التونسية ان الحرية هي لمصلحة المسلمين ولغيرهم.. وهي ضمانة للدفاع عن دينهم افضل من العنف والارهاب. وجادلهم بالتي هي احسن.. وبالحكمة والموعظة الحسنة.. هي اسلحة من يمتلك الحجة والبرهان. اما الجبر والقسر وفرض الحلول فانه لم يكن طريق الثقلين القائم على الاستماع للرأي.. وقبول رأي المخالفين.. واقرار تعددية الاديان والافكار والجماعات والقوميات ابتداءاً.. والاستناد للشورى.. وهذا امير المؤمنين عليه السلام يخاطب قومه قائلاً "وليس لي ان احملكم على ما تكرهون".
تونس وثقافة الانتخابات.. التعلم من الخسارة.. ومحاذير الفوز
فرحنا ونحن نستمع الى ردود الفعل بعد ظهور النتائج الاولية للانتخابات التونسية موقف الخاسرين وهم يهنئون «النهضة» بفوزها.. والرابحين وهم يتكلمون لغة متواضعة تشدد على الوحدة الوطنية وعدم عزل اي طرف.. فلا تتكلم عن سحق الاخرين او ازاحتهم. وهذه ليست مجرد كلمات.. بل هي ثقافة تفهم التنافس واهمية طرح وجهات النظر المتعددة.. لكنها تفهم الوحدة واهمية الاختلاف في اطارها. وهذه ثقافة يصنعها طرفان وليس طرف واحد.. ولعل اهم ما يهدد الفوز هو ليس مشاعر الغبطة والفرح فهذا امر طبيعي.. لكن ما يعقب ذلك من استنتاجات تعطي الفوز ابعاداً وهمية واستنتاجات منحرفة تنسي الفائزين وعودهم، وتعمي عيونهم عن معادلات الساحة التي احترموها وفازوا بها.. فكم من انتصار قاد الى غرور المنتصر فحوله انتكاسة.. وكم من هزيمة علمت المهزوم هفواته ومهدت له الفوز.
انتصر "النهضة" لانه مثل الانقطاع الكامل عن النظام السابق، بينما شوشت ارتباطات الكثير من معارضيه بالانظمة السابقة من الرؤية الجماهيرية ازاءهم. فالشعب التونسي ذهب الى التجديد الكامل الجذري وليس الى عمليات ترقيع وتجميل لتجربة عانوا منها ودفعوا ثمنها.. انتصر "النهضة" لانه احسن ربط المشاعر الدينية بالقومية بالمدنية. فلم يرفع شعار الحكومة الدينية فكسب القوى المدنية.. لكنه رفض تسميته بالعلمانية، شارحاً ان "العلمانية" التونسية تطرح نفسها كمناهضة للدين.. وهذا ما لا يرتضيه الشعب التونسي، فكسب القوى الدينية. وارتبط بالقضايا القومية فكسب المشاعر الوطنية المعادية للتدخل الاجنبي بكل حساسياته.. انتصر "النهضة" لان زعيمه الشيخ راشد الغنوشي مفكر اسلامي ومتنور من الطراز الاول.. شعبي وترابي ومتواضع.. عميق مبدع في افكاره لا يتعبه الشرح والتوضيح.. قاوم الاستعمار الفرنسي والمرحلة البورقيبية ومرحلة بن علي بجهادية وصبر عاليين. فاستحق ثقة التونسيين وتأييدهم. ولمعرفتنا بالرجل وعمقه الفكري وتاريخه الناصع وسلوكه المعتدل المتوازن، فاننا متفائلون ومطمئنون انه سيساهم مع اخوانه ليس في "النهضة" فقط، بل مع باقي القوى ايضاً بقيادة تونس الى شاطىء البر والامان والنجاح.. فاثار التجربة الايجابية ستؤثر على بقية البلدان العربية.. مما سيعطي للانتفاضات العربية طابعها التجديدي العميق.. لتدخل المنطقة في مرحلة جديدة تماماً، بعيداً عن كل ما عرفناه سابقاً من ظلم وتناحر وتخلف وتبعية وفقر واستبداد.

الدولة العراقية الى اين؟

الدكتور عادل عبد المهدي- بغداد
1-العصبية
العصبية بالمعنى الخلدوني بالنسبة للجماعات والدول هي كالنواة بالنسبة للمادة تمنحها حركتها وخصائصها.. انها عصب الشبكة. انها بالنسبة للدول اما عقائدية، «ملك الدين» و»الخلافة» او عقلية، ملك الحزم والملك السياسي او غريزية، ملك الهوى والملك الطبيعي، حسب ابن المقفع وابن خلدون بالتوالي. العصبية رابطة لجماعة محددة بتصورات تقتنع بها وتحملها سراً اوعلناً كمشروع تسعى لانتصاره.. والمشروع في سعته او ضيقه سيعكس محدودية الفكرة او ثرائها. ولكل تنظيم او دولة عصبية كالامويين والعباسيين وغيرهما. ورغم انتقال الدول للحياة الدستورية، لكن العصبيات ما زالت حاضرة في حركة الجماعات والانظمة والدول. يقول الجواهري.. «لي في العراق عصابة.. لولاهم ما كان محبوباً الي عراق». والعصبية قد يكون محورها الفرد والعائلة والقبيلة والجيش.. انها الحزب او النخبة من الطائفة والقومية والطبقة.. انها النواة الصالحة او الطالحة التي تعطي المرحلة طابعها وبرامجها وادواتها ومستقبلها. فهي النازية والبعثية والناصرية والشيوعية والديغولية والعثمانية الجديدة والمحافظون الجدد.. انها الاسلاموية والمسيحية والشيعية والسنية والكردية والتركمانية وهلم جرا.. فهل لدينا عصبية حاكمة؟ او حمالو مشروع.. ام ان الحكم سائب.. وتحالف او تصادم عصبيات؟
سقطت سلطة الادارة المدنية ولم تتشكل بعد سلطة الدستور بقدر تعلق الامر بثنائي الحضور الخارجي والدستور كمؤثرات في السلطة والدولة.. اما العصبية كعنصر ثالث معهما، فلقد اسقط التغيير سلطة او عصبية ال المجيد وال الحسن.. والمرحلة ما زالت تدافع عصبيات وجماعات في رحم الدولة، رغم اختلاف الاوزان.. فالكرد مستقرة قيادتهم وعصبيتهم القومية لحد ما.. ولم تستقر قيادات وعصبيات الاخرين بعد، ناهيك ان تستقر قيادة البلاد... مما يولد موجات التصعيد والتهدئة.. والتشبث بالدستور ورفضه.. كيف لا، واكثر القوى السياسية عصبيتها الفرد.. وتفتقد داخلها التقاليد الديمقراطية والوعي الدستوري.. في بلد خلاصه السير في هذا الطريق.. فما تقبله جماعات كبيرة ومؤثرة ترفضه جماعات كبيرة ومؤثرة اخرى. ولم تتمكن واحدة منها ان تزيح الاخرين او تجعلهم يدورون في فلكها، ناهيك اجتماعهم على عقد مشترك.. لذلك تراوح البلاد مكانها، بل تواجه اخطاراً لانقسامات متصاعدة. ولا طريق للخروج امام حاملي المشروع سوى التعصب للدستور، واعطاء كل ذي حق حقه.. وبناء طبقة سياسية نزيهة كفوءة تؤمن بالمبادىء التي تسطرها، لتستطيع ان تمنح البلاد الاستقرار والوحدة والتقدم.
2-الدولة الى أين؟ عصبيات متصادمة أم دستور حاكم؟
ما زالت التطبيقات الدستورية اضعف من الجماعات والعصبيات. لهذا سنستمر بهذا المخاض بكل مخاطره. فالقائلون بثغرات الدستور، وانه كتب بظروف خاصة قد يقدمون توصيفاً صحيحاً، لكنهم سيخطئون ان ارادوا تعطيل الدستور.. وما لم يخرج الشعب مجدداً لاستفتاء جديد، فلا مرجعية مدنية لنا غيره.. والقائلون ان هناك جماعات مهمة قاطعت الدستور يقولون الحقيقة.. لكنهم ينسون حقيقة اعظم بتأييد الغالبية للدستور.. بل يتجاهلون التحاق المخالفين وخوضهم الانتخابات، واحتلالهم مقاعدهم البرلمانية وفي المحافظات وفق الدستور. فالدستور حاكم لمن يعارض ويؤيد.. ويتفق ويختلف.. ويطلب التعديلات او يرفضها، وباختلاف الجماعات والعصبيات. وكما يفعل الشعب وهيئاته، فان السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية مكلفة بالعمل وفق الدستور تماماً.. وان تعتبر اي اجراء او قانون معارض له باطلاً، وان تحترم وتلتزم بكل قانون واجراء وفقه. وما لم نقم بذلك، وبالاستمرار باجتهاداتنا وتقديراتنا الخاصة للمصلحة، فاننا سنبقى مجرد افراد وعصبيات، لكل عصبيته.. تمزق البلاد وتعطل اليات عمل الدولة.
لذلك عندما تطالب البصرة او صلاح الدين او غيرهما بالتحول الى اقليم فانها تمارس حقها الدستوري.. فهي قد تصيب وتخطىء، كما قد يصيب ويخطىء الناخب في انتخاب هذا الحزب وتلك القائمة.. فتقدير المصلحة شيء والالتزام بنص وروح الدستور شيء اخر.. ومن يعترض، وهذا حقه وواجبه، يعترض وفق الدستور لا وفق رأيه الخاص. فمعنى الدستور وهدفه ايقاف المجادلات الخاصة والالتزام بالنصوص والمبادىء والاجراءات الحاكمة. فان وضعنا حساباتنا فوق الدستور، فاننا سنخضعه لنا بدل ان نخضع له.. فنلغي ضرورته.. لينتهي العقد الذي يجمعنا، والوثيقة التي تضبط سلوكنا. فالشعب قد حدد بالدستور هوية ووحدة ونظام البلاد.. وحدد الحقوق والصلاحيات والسلطات والمبادىء والاجراءات. واي تعطيل لذلك -ومهما كانت النوايا- سيقود البلاد الى الوراء والى الفرقة والانقسام. وكأي تشريع عام قد يعرضنا لمخاطر و خسائر وصعوبات لا نستطيع دفعها الا بالدستور.. ليبقى دون غيره الضمان الافضل لاعلى مصلحة واكثرها ديمومة. فالالتزام بالدستور مدنيا، كالايمان دينياً. يقول ابن المقفع "الدين يسلم بالايمان.. والرأي يثبت بالخصومة.. ومن جعل الدين خصومة، فقد جعل الدين راياً.. ومن جعل الراي ديناً فقد صار شارعاً، ومن كان يشرع لنفسه الدين فلا دين له". ومن يقف فوق الدستور، لا دستور له. وهذه ازمة الدولة والبلاد.

منطق الثورات ومآلاتها

محمد بن المختار الشنقيطي
تضفي الثورات الشعبية على الاجتماع السياسي مغزاه الإنساني، وتحول الشعب من ركام من البشر لا يجمع بينه إلا جامع الجغرافيا، إلى مجموعة من العقلاء يربط بينهم عقد اجتماعي مقدس. فالخنوع للسلطة غير الشرعية ليس خيارا شرعيا، بل هو لا يليق بكرامة الإنسان وإنسانيته، وفكرة احترام الذات واحترام الآخرين هي الأساس الفلسفي للثورات الشعبية. وقد تحررت شعوبنا من اليأس والخضوع، واتجهت وجهة الأمل والعمل في صراعها مع الاستبداد والفساد، وواجب أهل الفكر والنظر اليوم هو توجيه هذه الطاقة الشعبية المتحررة إلى تحقيق الحرية والكرامة بأقل ثمن ممكن من الدماء والأموال. والمؤسف أنه لا يوجد في تراثنا فكر لصناعة الثورات، وإنما فقه للتحذير من الفتن. وقد كتب بعض المنظرين منتصف القرن العشرين لتسويغ انقلابات عسكرية وإضفاء شرعية ثورية عليها، بل تحول بعض العسكريين بقدرة قادر إلى منظرين محترفين. لكن كل ذلك لم يكن فكرا تأسيسيا، بل كان حجاجا تسويغيا، وما أبعد الشقة بين التأسيس الفكري والتسويغ الجدلي.
إن غاية الثورات الشعبية ليست استبدال حكام بآخرين، بل حكم الشعب نفسَه بنفسه، وبناء فضاء مفتوح يملك آليات التصحيح الذاتي سلميا، ويقسِّم الحرية والعدلَ بعدلٍ. فالحذرَ الحذرَ من التنافس على مغانم الثورة، أو رفع المطالب الجزئية في لحظات الحسم الكلية. فغاية الثورة تحرير الشعوب لا حكمها.

بيد أن انبلاج فجر الثورات في بلداننا العربية اليوم يستلزم بناء أفق نظري يكون زادا للشعوب في ملحمتها، وضامنا لعدم وأد جهدها وجهادها السياسي. ويقتضي هذا الأمر تأملا في منطق الثورات ومآلاتها، واستيعاب العبرة التي توفرها لنا التجربة التاريخية، وهضم الحصاد الفكري الذي أبدعته العقول الإنسانية في هذا المضمار. ولسنا ندعي تحقيق هذه المهمة هنا، وإنما هذه إرشادات نرجو أن تحفز من هم أحسن تأهيلا للإدلاء بدلوهم.
لقد أصبح لفظ “الثورة” لفظا مبتذلا لكثرة ما أسيء استعماله. لذلك يحسن الحرص على التحديد من خلال التمييز بين ثلاثة مفاهيم: الثورات، وأنصاف الثورات، والانقلابات. وغاية هذا التمييز ألا يعمينا التعميم اللفظي عن الفروق الهائلة بين الظواهر السياسية والاجتماعية التي تحمل اسم “الثورة” في لغتنا اليومية.
فالثورات تحقق الحرية في حياة الشعوب، وتجعلها سيدة قرارها واختيارها السياسي والثقافي والاجتماعي، وهي قليلة جدا في تاريخ البشرية. ويمكن أن ندرج ضمن الثورات بمفهومها الحق: الثورة الأميركية، والثورة الفرنسية.
أما أنصاف الثورات فهي لا تحقق الحرية الكاملة للشعوب، وإن كانت قد تحقق تحريرا من غازٍ أجنبي كالثورة الجزائرية، أو شيئا من أوجه العدالة الاجتماعية كالثورة البلشفية والثورة الناصرية، أو حريةً سياسية منقوصة كالثورة الإيرانية.
وتدخل ضمن مفهوم أنصاف الثورات كل حركات التحرير في القرن العشرين التي حققت تحررا للأوطان ولم تحقق حرية للإنسان. وُيستثنى من هذا التعميم حركات التحرير التي بنت ديمقراطيات في بلدانها فور رحيل الاستعمار، مثل حركة غاندي في الهند.
وأما الانقلابات العسكرية التي لم تغير البنية السياسية والاجتماعية، أو التي استبدلت الإقطاع التقليدي بإقطاع عسكري، فهي لا تستحق تسمية ثورة ولا نصفها، بل ولا حتى عشرها.
ولعل أكثر الثورات جدارة بهذا الاسم، نظرا لكثافة ثمراتها المتحققة، هي الثورة الأميركية، لأنها كانت ثورة تحرر وحرية في الوقت ذاته: تحرر من الاستعمار البريطاني، وحرية من السلطة الملكية. وإذا نجحت الثورات القائمة والقادمة في الدول العربية فستستحق هذه التسمية بجدارة أيضا، لأن نتائجها ستكون تركيبا من الحرية الداخلية والتحرر الخارجي.
ويذهب المؤرخ الأميركي كرين بريتون في كتابه “تشريح الثورة” إلى أن الثورات تولد من الأمل لا من اليأس، على عكس ما يتصوره كثيرون. صحيح أن عمق الإحساس بالظلم وعمومه في المجتمع شرط سابق على كل ثورة، كما لاحظ عبد الرحمن الكواكبي، لكن تحويل هذا الإحساس بالظلم إلى أمل في التغيير وإيمان بإمكانه هو الذي يفجر الثورات. وقد تتزامن لحظتا اليأس والأمل مما يجعل التمييز بينهما عسيرا. فلحظة “البوعزيزي” في تونس كانت قمة اليأس، لكنها كانت في الوقت ذاته لحظة ميلاد الأمل والثقة في نفوس الشعب.
وأول ما يحتاجه قادة الثورات الشعبية هو تحديد طبيعة الصراع. فقد يكون الصراع بين الحكام والمحكومين في بعض الدول صراع بقاء لا مجال فيه لأرضية مشتركة، ولا حل له سوى التغيير الشامل، مثل الثورة ضد سلطة عسكرية مستبدة.
وقد يكون في دول أخرى صراعا محدودا يمكن حله بإعادة تعريف العلاقة بين الحاكم والمحكوم في صيغة جديدة، مثل تحويل ملكية مطلقة إلى ملكية دستورية. فالصراع بين الحكام والمحكومين في بعض الدول صراع وجود، وفي بعضها الآخر صراع حدود (دستورية وسياسية)، وعدم وضوح الرؤية حول طبيعة الصراع يربك حركة التغيير ابتداءً، ويفشلها انتهاءً.
وأحيانا يعاد تعريف الصراع أثناء مسار الثورات، فالثورات ظاهرة ديناميكية متحركة، وهي تبدأ في الغالب صراعا حدوديا لا وجوديا، أقصد أنها تبدأ بمطالب متواضعة، لكن السلطة المطلقة تُعمي أهلها، فيتمنَّعون من قبول تلك المطالب، فيطالب الشعب بأكثر، في مسار تصاعدي ينتهي بانبتات العلاقة بين الطرفين، ويصبح منطق التغيير الشامل هو السائد. وهذا يصدِّق مقولة الرئيس الأميركي الأسبق كينيدي: “إن من يمنعون الثورات السلمية يجعلون الثورات العنيفة حتمية”.
ففي يوميات تاريخ الثورة الأميركية نجد أن الملك البريطاني جورج الثالث رفض مطالب مواطنيه في المستعمرات الأميركية بتخفيف الضرائب التي فرضها عليهم بعد حرب الأعوام السبعة مع فرنسا، فطلبوا التمثيل في البرلمان البريطاني فرفض، فطلبوا الحكم الذاتي في مناطقهم فرفض، فأعلنوا الاستقلال عن الإمبراطورية البريطانية.
وأحيانا تبدأ الثورة محاولة لاستعادة نظام قيم سياسية وقانونية قديمة داس عليها الحكام، وهكذا كانت الثورة الفرنسية والأميركية في بدايتهما، لكن الثورة تتطور أمام عناد المستبد إلى مشروع جديد تماما، يتأسس على قيم سياسية وقانونية جديدة.
والمفارقة أن المستبد المعاند حينما يضيق عليه الخناق يتحول مطالبا بما كان الشعب يريده منه، لكن الشعب يرفض أنصاف الحلول بعد أن يستعذب طعم الحرية ويرى بوارق النصر.
ويدل استقراء تاريخ بعض الثورات القديمة والمعاصرة على أن أهم الشروط الضامنة لنجاح الثورات هي: (1) صلابة الإرادة والتصميم لدى الثوار، (2) الحفاظ على الصورة الناصعة للثورة، (3) وحدة الصف والتلاحم بين القوى الشعبية، (4) حسن التسديد إلى مراكز ثقل النظام، (5) الوعي بأجنحة النظام المختلفة ومخططاتها، (6) تقديم البديل السياسي حتى لا تجد فلول النظام فراغا للتمكن، (7) رفض السقوف الواطئة والتغييرات الشكلية في النظام، (8) التمسك بمنطق المغالبة لا المطالبة.
أما وسائل اغتيال الثورات التي تلجأ إليها القوى العتيقة، فمنها: (1) كسر الإرادة بالقمع والبطش، (2) تلطيخ صورة الثوار وتزييف الوعي الشعبي، (3) تفريق الثوار وتمزيقهم بالإغراء والإغواء، (4) توجيه جهد الثوار إلى حواشي النظام وهوامشه، (5) التضحية ببعض أجنحة النظام إبقاءً على البعض الآخر، (6) سد الفراغ الذي تحدثه فوضى ما بعد الثورات، (7) تقديم بدائل مزيفة ترقِّع الواقع ولا تغيره، (8) تحويل الثورة إلى حركة مطالَبة دون مغالَبة.
ولعل مما يعين شعوبنا في ثوراتها القائمة والقادمة استيعاب ثقافة النضال السلمي. ومما يُؤسِف أن ثقافة المقاومة السلمية ازدهرت لدى شعوب كثيرة، وبرهنت على فاعلتيها وأخلاقيتها، وأصبح لها منظروها وفلاسفتها، لكنها لا تزال ضعيفة لدى شعوبنا العربية. وباستثناء الجهود التي قدمها شباب “أكاديمية التغيير” في مصر، فإني لم أطلع على ثقافة عملية جدية حول مبدأ المقاومة السلمية باللغة العربية.
يتأسس منطق الثورات السلمية على مبدأين اثنين:
المبدأ الأول: أن السلطة المستبدة ليست جسدا واحدا أصم، وإنما هي بناء ديناميكي مركب، وهي لا تتحكم في الناس إلا لقبولهم بذلك. لذا فإن الثورة لا تحتاج إلى مواجهة النظام القمعي مواجهة مباشرة، وإنما يكفيها أن تحرمه من التحكم في المجتمع، وتظهر عجزه أمام العالم. فالتحكم هو رأسمال الحاكم المستبد، فإذا فقد التحكم في حياة الناس فقد الثقة في نفسه، وأصبح سقوطه محتما.
ويستخدم هشام مرسي ووائل عادل وأحمد عبد الحكيم في كتابهم المشترك “حرب اللاعنف” –وهو من منشورات أكاديمية التغيير- مصطلحا بديعا للتعبير عن هذا المبدأ، وهو مصطلح “التجويع السياسي”. فالثورات السلمية لا تهدم النظام المستبد مباشرة، وإنما تستنزفه من خلال حرمانه من دعم بعض مكونات سلطته، فينهدُّ البنيان الاستبدادي من تلقاء ذاته.
المبدأ الثاني: أن العنف الدموي المباشر ضد السلطة المستبدة ليس خيارا مناسبا، والمقاومة السلمية أجدى وأبقى. وقد بين المنظِّر السياسي الأميركي جين شارب في كتابه المعنون “من الدكتاتورية إلى الديمقراطية” أن الثورات السلمية تنبني على فكرة “البطولة الهادئة” التي ترفض الرد على عنف الاستبداد بعنف مضاد. فالانجراف إلى العنف الدموي يمنح الاستبداد أخلاقية الرد العنيف، ويسبغ على تمسكه بذاته طابعا شرعيا.
لكن الثورات السلمية ليست مبرأة من العنف بإطلاق، ولا من الممكن أن تكون كذلك، بحكم تعرضها لعنف السلطة المستبدة. بيد أن عنف الثورة السلمية عنف رمزي ودفاعي، لا يستهدف القتل أو الأذية الجسدية كما يفعل المستبدون، وإنما يستهدف زعزعة إيمان المستبد بنفسه، وإضعاف ثقة الناس فيه وفي بقائه، تمهيدا لتفكك سلطته في النهاية.
فالنيران المتصاعدة من مقر حزب حاكم كان يضفي الشرعية على الاستبداد، أو من مركز شرطة قمع كانت حربة المستبد، عنف رمزي بامتياز، وهو يحمل رسالة سياسية وإعلامية على قدر كبير من الأهمية.
وقد تحتاج الثورات الشعبية إلى عنف دفاعي في حالة التعامل مع أنظمة لا تتورع عن شيء. والعنف في هذه الحالة لا يتنافى مع المنطق السلمي للثورة.
فالوقفة الباسلة التي وقفها شباب ميدان التحرير في وجه الأوباش الذين بعثهم النظام المتهاوي في مصر كانت حاسمة في معادلة الصراع. ولم يكن لدى أولئك الشباب من سلاح سوى الحجارة، لكن التصدي بها لأولئك الطغام كان ضروريا.
وحينما يكون رأس نظام الاستبداد في مأزق لا مخرج منه بحكم تراكم مظالمه وجرائمه، وسوء علاقته بالعالم –كما هي حال القذافي- فإنه يقاتل قتال اليائس، ويجعل ثمن الثورة غاليا. وفي هذه الحالة يحتاج الشعب الثائر إلى الاستعداد لدفع ثمن أكبر، كما يحتاج إلى شيء من العنف الدفاعي أمام سطوة المستبد اليائس.
الثورات الشعبية مزيج من العفوية والتنظيم، فالعفوية تعصمها من الاستئصال، والتنظيم يعينها على حسن التسديد. وتحتاج كل ثورة إلى قيادة، لكن القيادة في عصر الإنترنت قيادة انسيابية، وليست هرمية، وهذا ما يجعل استهدافها عسيرا، واستئصالها مستحيلا.. تطارد النظام المستبد فتدركه، ويطاردها فتفوته، كما قال سلمة بن الأكوع رضي الله عنه للمشركين: “والذي كرَّم وجه محمد لا يطلبني رجل منكم فيدركني ولا أطلبه فيفوتني”. فهذا النوع من القيادة الانسيابية تجعل للمجتمع اليد العليا ضد السلطة التي اعتادت الهرمية القيادية.
كما تحتاج الثورة الشعبية إلى خطاب، ولا بد أن يكون خطابها هذا بسيطا، سهل الاستيعاب، وأن يكون جامعا لا مفرقا. فالثوار تجمعهم المبادئ وتفرقهم البرامج، ومن أهم شروط نجاح الثورات أن يركز الثوار على المبادئ الجامعة، ويتجنبوا الخوض في البرامج التفصيلية أثناء الثورة. فالشيطان يكمن في التفاصيل كما يقال، والاختلاف وقت مقارعة الاستبداد مُهلك للثورات.
ويحسن التأكيد هنا على أن أخطر ما في الثورات ليس البدايات، وإنما النهايات. ففي عام 1948 حاول أحرار اليمن الثورة على حكم الإمام المتحجر، وفشلت الثورة. فانقلب إمام اليمن على الثوار الأحرار تقتيلا وتنكيلا. وكتب شاعر اليمن عبد الله البردوني تعليقاً شعرياً يأخذ فيه على الأحرار اليمنيين ضعف الإرادة وسوء التخطيط، جاء فيه:
والأباة الذين بالأمس ثاروا *** أيقظوا حولنا الذئاب وناموا
حين قلنا قاموا بثورة شعب *** قعدوا قبل أن يُروا كيف قاموا
ربما أحسنوا البدايات لكن *** هل يحسُّون كيف ساء الختامُ
فمع ميلاد كل ثورة تولد ثورة مضادة، تحاول وأدها في مهدها، أو تحريفَها عن مسارها، أو السطو على ثمراتها. ويعتقد عالم الاجتماع تشارلز ميلز أن وجود الثورة المضادة هو أبلغ دليل على أن الثورة تحمل رسالة تغيير جدية.
وأحيانا تنجح الثورة في معركة الهدم، فتهدُّ النظام القائم هدًّا، لكنها تفشل في معركة البناء، ويقطف ثمارها آخرون من فلول النظام القديم، أو من المتسللين تحت غبار المعركة. وأسوأ ما يصيب الثورات أن يصادر ثمارها متسلقون في جنح الظلام، فيحيلونها نسخة منقحة من النظام الاستبدادي القديم، أو أن يتحول بعض مَن أشعلوا الثورة إلى وقود للثورة المضادة، جرَّاء أنانية سياسية مزمنة، أو لمجرد سوء التفكير والتقدير.

عن تونس ونهضتها المباركة

سعود المولى
نكتب اليوم عن تونس الجديدة وهي ترسم مستقبلها بالانتخابات الحرة الديموقراطية التي ستُنتج سلطة سياسية جديدة من برلمان وحكومة وأجهزة ومؤسسات قيادية.. نكتب اليوم والتونسيون الأحرار يواجهون حملات التخوين والتشهير والشتم والتحريض على الحقد والكراهية لأنهم اختاروا حزب النهضة الاسلامي... ومرة جديدة نعيد ونكرر جملة من المواقف والبديهيات وندعو المخلصين والشرفاء والحريصين على تونس وشعبها وعلى الأمة العربية واستقلالها وتحررها أن يسمعوا: لقد عانت تونس كما غيرها من البلدان العربية من الظلم والاستبداد ومن القمع والتنكيل...وخلال المحنة التي ضربت تونس (والتي لم توفّر إسلامييها من علمانييها، ولا ثورييها من اصلاحييها) كانت المقاومة الشعبية الحقيقية تتمثل في السعي الدائم نحو الوحدة الوطنية بين مكونات الشعب التونسي، ونحو بناء دولة القانون والمؤسسات وتحقيق الحرية والاستقرار والعدالة والكرامة للجميع..وكان هذا يعني صوغ سياسات واضحة تُراكم انجازات حقيقية تحت سقف مشروع وطني ديموقراطي حقيقي واستراتيجية وطنية صادقة وبرنامج عمل متكامل، لإعادة بناء المجتمع المتعدد والموحد في آن معاً، ولبناء الدولة الحديثة لتونس الجديدة، دولة تجمّع ولا تفرّق، تصون ولا تبدد، تحمي ولا تهدد، تتقدم بالبلاد والعباد الى بر الأمان ولا تأخذها الى شطآن الظلام. واليوم وبعد تمكن الشعب التونسي من التحرر ومن التقدم على طريق بناء تجربته الجديدة، فإن الوضع التونسي (كما كل الاوضاع العربية) يحتاج الى مقاربة جديدة تخرج عن التهويمات الأيديولوجية الإسقاطية والأوهام القومجية الفارغة والأصوليات الاستقصائية النابذة، أكانت أصوليات علمانية ويسارية أم ظلاميات إسلاموية قاتلة. المطلوب اليوم التفكير الاستراتيجي في ما تواجهه تونس على طريق استكمال حريتها ووحدتها واستقرارها وازدهارها..
تتمزق تونس (وكل بلاد العرب) داخلياً بين فئات تعيش هواجس الماضي وآلامه وترفض عودته وبين فئات أخرى تعيش قلق المستقبل وأخطاره وتريد إعادة الماضي..إلا أن كل هذه الهواجس ليست ولا يجوز أن تكون من النوع الذي يهدد استقرار وأمن وأمان شعبها وإنما ينبغي أن تكون من نوع التحديات التي يتوجب أن نعمل جميعاً وكل من موقعه على وضعها في سياقاتها الفعلية وطرحها ضمن أطرها وإيجاد حلول لها تكون واقعية وعملية ولمصلحة تونس وأهلها أولاً ثم لمصلحة كل العرب والمسلمين ثانياً، ناهيك عن مصالح المجتمع الدولي والسلم العالمي..
إن العملية السياسية الجارية في تونس الجديدة تقوم على ثوابت ينبغي ترسيخها وتعميقها وتعميمها:
أ-بناء الدولة الوطنية الحديثة السيدة الحرة المستقلة ، وإنجاز وحدة وطنية حقيقية وسلم أهلي راسخ بين كل مكونات الشعب.. .
ب-تطوير المشاركة الشعبية والاستفادة من تجارب الشعوب ومن دراسات متخصصة وعدم الوقوع ضحية الارهاب الايديولوجي الذي يمنع الحوار ويقمع الابداع، وإنما إطلاق طاقات الخير الكامنة في الشعب من أجل إيجاد الحلول الصحيحة والمناسبة لقضايا الحكم والإدارة ، مع الانتباه الى ضرورة تعزيز مكتسبات المرأة.
ج-إن الصيغة الأنسب لحكم وإدارة تونس لن تكون صيغة مكررة من الدولة المركزية الاستبدادية ولا ديكتاتورية الفرد أو الحزب ولا غلبة تيار أو فئة، إنها صيغة جديدة مركبة تحتاج الى إعمال الفكر والدراسات وتغليب مصلحة الناس أولاً وأخيراً..فلا مقدس في السياسة والاجتماع سوى الإنسان: حياته وحريته وكرامته وحقوقه...
إن المطلوب اليوم هو الدعوة الى صياغة شراكة استراتيجية حقيقية بين القوى السياسية كافة وبين المجتمع السياسي والمجتمع المدني تضمن دوراً محدداً لكل طرف وحدوداً منطقية معقولة ومقبولة ومتعاهد عليها لكل دور، دون افتئات ولا طغيان، وعلى أسس الحوار الدائم، وحل المنازعات بالوسائل السلمية، والتحكيم في النزاعات، والاحترام المتبادل لمصالح الجميع، والتعاون والتضامن على البر والتقوى ورد الإثم والعدوان، وحسن القول، وعدم الاستعلاء أو الاقصاء..وبإمكان التجربة التونسية أن تلعب دور المحرّض والمحفّز لإقامة مجتمعات عربية جديدة تتحقق فيها الحرية والكرامة والعدالة والمساواة والديموقراطية والتنمية...

الأزهر: عار أن تظل المنطقة العربية قابعة دون سائر العالم في التخلف والقهر والطغيان

اراقة دماء المواطنين المسالمين تسقط شرعية السلطة
الثلثاء 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011
القاهرة (رويترز) - أيد الازهر الشريف يوم الاثنين الانتفاضات الشعبية التي أطاحت بعدد من القادة العرب وطالب من بقوا منهم في الحكم باصلاح سياسي واجتماعي ودستوري "طوعا" مشددا على أن أي حاكم ليس بوسعه الان "أن يحجب عن شعبه شمس الحرية."
وفي بيان تلاه شيخ الازهر أحمد الطيب على الصحفيين قالت أقدم مؤسسة للتعليم الديني السني في العالم العربي والاسلامي ان "الشعوب العربية تخوض نضالا مشروعا من أجل الحرية والعدالة والديمقراطية."
وأضاف الازهر أن "شرعية السلطة الحاكمة من الوجهة الدينية والدستورية تعتمد على رضا الشعوب واختيارها الحر من خلال اقتراع علني يتم في نزاهة وشفافية ديموقراطية باعتباره البديل العصري المنظم لما سبقت به تقاليد البيعة الاسلامية."
وخلال الشهور الماضية عقدت عدة اجتماعات في الازهر شارك فيها علماء دين ومثقفون ومفكرون مصريون نوقشت خلالها تطورات الربيع العربي وانتهت مناقشاتهم الى اصدار البيان الذي حمل عنوان "بيان الازهر والمثقفين لدعم ارادة الشعوب العربية".
نظم الحكم في الدولة الحديثة وما استقر ّّ عليه العرف الدستوري
وطالب البيان الدول العربية بتطبيق ما انتهى اليه "تطور نظم الحكم واجراءاته في الدولة الحديثة والمعاصرة وما استقر عليه العرف الدستوري من توزيع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والفصل الحاسم بينها ومن ضبط وسائل الرقابة والمساءلة والمحاسبة بحيث تكون الامة هي مصدر السلطات جميعا."وقال البيان ان الارادة الشعبية هي "مانحة الشرعية وسالبتها عند الضرورة." وأضاف "الاخلال بشروط أمانة الحكم وعدم اقامة العدل... (يجيز) عزل المستبد الظالم اذا تحققت القدرة على ذلك وانتفى احتمال الضرر والاضرار بسلامة الامة ومجتمعاتها."وتابع "تعد مواجهة أي احتجاج وطني سلمي بالقوة والعنف المسلح واراقة دماء المواطنين المسالمين نقضا لميثاق الحكم بين الامة وحكامها ويسقط شرعية السلطة ويهدر حقها في الاستمرار."
وفيما يبدو أنها اشارة الى سوريا واليمن ناشد البيان الجيوش "أن تلتزم بواجباتها الدستورية في حماية الاوطان من الخارج ولا تتحول الى أدوات للقمع وارهاب المواطنين وسفك دمائهم."وقتل ألوف المتظاهرين وأصيب عشرات الالوف في مواجهات مع السلطات في كل من تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا والبحرين منذ بدء احتجاجات الربيع العربي. وشاركت جيوش عربية الى جانب الشرطة في محاولات قمع الانتفاضات.
وفي نفس الوقت طالب البيان القائمين بالانتفاضات بأن تكون تحركاتهم سلمية. وقال "يتعين على قوى الثورة والتجديد والاصلاح أن تبتعد كليا عن كل ما يؤدى الى اراقة الدماء وعن الاستقواء بالقوى الخارجية أيا كان مصدرها ومهما كانت الذرائع والتعللات التي تتدخل بها في شؤون دولهم وأوطانهم."والا كانوا بغاة خارجين على أمتهم وعلى شرعية دولهم. ووجب على السلطة حينئذ أن تردهم الى وحدة الصف الوطني."وقال البيان ان الانتفاضات "انتصرت في تونس ومصر وليبيا ولا تزال محتدمة في سوريا واليمن."ولم يشر البيان الى احتجاجات البحرين التي تقوم بها الاغلبية الشيعية في المملكة.وقال البيان "يناشد علماء الازهر والمثقفون المشاركون لهم النظم العربية والاسلامية الحاكمة الحرص على المبادرة الى تحقيق الاصلاح السياسي والاجتماعي والدستوري طوعا والبدء في خطوات التحول الديموقراطي فصحوة الشعوب المضطهدة قادمة لا محالةَ."وأضاف "وليس بوسع حاكم الان أن يحجب عن شعبه شمس الحرية. ومن العار أن تظل المنطقة العربية وبعض الدول الاسلامية قابعة دون سائر بلاد العالم في دائرة التخلف والقهر والطغيان وأن ينسب ذلك ظلما وزورا الى الاسلام وثقافته البريئة من هذا البهتان." وقبل شهور أصدر الازهر وثيقة أيد فيها أن تكون مصر بعد الانتفاضة التي أطاحت بالرئيس السابق حسني مبارك في فبراير شباط دولة مدنية لا دولة دينية مثلما كان سائدا في أوروبا في العصور الوسطى بحسب قول الوثيقة.

الدولة المدنية ليست اكتشافاً إنها دستور سوريا الذي نسيناه

المستقبل - الاثنين 24 تشرين الأول 2011 - العدد 4154 -
محمد م. الارناؤوط- أكاديمي سوري
في صيف 2001، حين كان لا يزال الحديث عن "ربيع دمشق"، تلقيت دعوة من مركز الدراسات الحضارية في دمشق لإلقاء محاضرة هناك فانتهزت هذه الفرصة لأتحدث عن الذكرى الثمانين لمشروع الدولة العربية الذي سقط في ميسلون 1920، وذلك بمناسبة صدور كتاب كان قد نُشر لي حديثاً في عمان ولم يصل دمشق، ألا وهو "دراسات حول الحكومة/ الدولة العربية في دمشق 1918-1920".
كانت تلك فترة مخاض جديد في المنتديات الجديدة بعد ثلاثة عقود من الحكم الشمولي المغلف بدستور 1973 الذي أعطى صلاحيات رئاسية لم يسبق لها مثيل لحافظ الأسد الذي تولى الحكم بعد انقلاب عسكري على قيادة الحزب في ما سمي "الحركة التصحيحية". وقد اخترت هذه المناسبة لأذكّر السوريين بأي دستور كان لهم في 1920 وأين أصبحنا بعد ثمانين سنة من ذلك الدستور.
وكان الأمير فيصل قد أعلن في بلاغه الأول بعد دخوله دمشق على رأس قوات الثورة العربية في 5/10/1918 عن تشكيل "حكومة دستورية" في البلاد، وحين افتتح "المؤتمر السوري" الذي كان بمثابة برلمان في 7/5/1919 وسّع من مهامه لتشمل "سنّ القانون الأساسي ليكون دستور سوريا المستقبل". وبعد إعلان الاستقلال في 8/3/1920 ألّف "المؤتمر السوري" لجنة لوضع الدستور برئاسة هاشم الأتاسي التي استغرق عملها عدة أسابيع درست فيه دساتير الدول الأوروبية، وقدمت مشروع الدستور السوري الأول للمؤتمر الذي أخذ بمناقشته والمصادقة عليه مادة مادة منذ مطلع تموز 1920.
وقد استثارت المادة الأولى من الدستور التي تتعلق بنظام الحكم مناقشات النواب في البرلمان عدة أيام الى أن أقرت في 12 تموز 1920، حيث تضمنت ما يلي "حكومة المملكة السورية العربية حكومة مدنية نيابية عاصمتها دمشق الشام ودين ملكها الإسلام". ويلاحظ هنا أن هذا النص الدستوري كان الأول من نوعه في البلاد العربية سواء في ما يتعلق بنطام الحكم (حكومة مدنية) أو العلاقة بين الدين والدولة التي اقتصرت على ذكر دين رأس الدولة. ومن البنود التي أثارت نقاشاً حامياً البند(10) الذي انتصر لحق المرأة في الانتخاب والترشيح للمجلس النيابي وأُقرّ في 15 تموز 1920.
وللأسف فإن النواب كانوا يناقشون ويقرّون مواد الدستور واحدة بعد الأخرى مع تهديد الجنرال غورو ومن ثم تقدم القوات الفرنسية الى ضواحي دمشق لتنهي في ميسلون صباح 24 تموز هذا الحلم السوري المبكر بالاستقلال والحكم الدستوري. ومع ذلك فإن المواد التي أقرت حتى ذلك الحين من مشروع الدستور الأول الذي وصل الينا، توضح أن فكرة "الدولة المدنية" لم تكن غريبة عن السوريين في 1920، بل إن المناقشات التي دارت حولها وكانت تنقلها الصحافة يوماً بيوم تدل على أن أجداد السوريين الحاليين الذين يطالبون بالحرية والديموقراطية كانوا قد وضعوا الأسس لأحفادهم، ولكن الحكم الشمولي الذي دام عدة عقود أنسى الناس دستور 1920 وغيره. فقد ولد جيل كامل في سوريا بعد 1970 يمثل ثلث السكان في سوريا لا يعرف شيئا سوى دستور 1973 الذي أعطى صفة دستورية للحكم الشمولي.
ومن عجائب الصدف أن أحد المستمعين لمحاضرتي عن دستور 1920 عرّفني عن نفسه في نهاية المحاضرة واعترف لي أنه كان أحد أفراد المجموعة الضيقة التي جُمعت في مطلع 1972 لتضع للرئيس الجديد حافظ الأسد أقصى ما يمكن من صلاحيات رئاسية لم تجتمع لغيره، وذلك باسم الانتقال من "حكم الدستور المؤقت" الى "حكم الدستور الدائم". فقد أصبح وضع "الدستور الدائم" إنجازاً في حد ذاته، ولم يعدّل إلا في 10 حزيران/ يونيو 2000 ليسمح للابن بوراثة الوالد في أول تحول من نوعه نحو الجمهورية الوراثية في العالم العربي.
المطلوب من السوريين أن يعتزوا بالسبق لتبني نوابهم "الحكومة المدنية" في دستور 1920 وألا يتعاملوا مع "الدولة المدنية" في 2011 باعتبارها تنازلاً من بعضهم لحساب بعضهم الآخر في المعارضة!

رحلة إلى أقاصي العنف / بقلم سمير فرنجية

صدر عن "لوريان دي ليفر"، وهي دار نشر لبنانية جديدة بالفرنسية والعربية، بالاشتراك مع دار "آكت سود" الفرنسية، كتاب سمير فرنجية voyage au bout de la violence ننشر في ما يأتي، مقدمته الفذة، التي ترجمها الباحث محمد حسين شمس الدين، والتي قد تصلح منطلقاً لحوار وتأمل عميقين.

هذا الكتاب شهادةٌ على العنف: بواعثه، آليات اشتغاله، منطقه التبريري... وذاك العمى الذي يجعلنا لا نرى في عنفنا الخاص سوى ردّ فعل "مشروع" على عنف آخر.
غنيّةٌ هي الحرب اللبنانية بالدروس والدلالات. ذلك أن العنف الذي أنتجته وظهّرته لا يحدّه نموذج واحد من نماذج العنف المعروفة. فهذه الحرب لم تقتصر على دول، كتلك الحروب التي شهدتها أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية؛ ولا هي مجرّد حرب استقلال بين حركة تحرّر وطني وقوة استعمارية. ثم إنها ليست من صنف حروب الهويات الطائفية أو الإثنية فحسب، كتلك التي عرفتها افريقيا وبلاد البلقان. تبدو هذه الحرب اللبنانية عصيّة على التصنيف، لأنها في الواقع خليط من كل تلك الحروب. فلقد كانت حرباً بين دول، لكنها في الوقت نفسه كانت حربَ استقلال وطني ضد محتلّ اختلفت هويته من مرحلة إلى أخرى ومن فريق داخلي إلى آخر. وكانت حرباً طائفية بين مسلمين ومسيحيين، لكنها شهدت أيضاً صدامات مذهبية بين سنّة وشيعة. كذلك كانت عنفاً دموياً – لعلّه الأشدّ دمويةً- داخل جماعة طائفية أو مذهبية واحدة في بعض الأحيان: "حرب الإلغاء" بين المسيحيين (1990)، و"حرب إقليم التفاح" بين الشيعة (1987). إلى ذلك يمكن اعتبارها حرب اسرائيل في لبنان وعلى لبنان، لتنفيذ مشروعها القديم الرامي إلى إنشاء "حلف بين أقليات المنطقة ضد الأكثرية العربية- الاسلامية"، مثلما هي في الوقت ذاته حرب القيادة السورية "الاسدية" في لبنان وعلى لبنان، طمعاً في إعادة تكوين "سوريا الكبرى" بـ"حدودها التاريخية".
يمكن أن نسمّي هذه الحرب بأسماء مختلفة تبعاً لتغيّر المراحل. غير أن المشترك الثابت فيها جميعاً هو هذا العنف المرافق، والجاهز على الدوام لتسعيرها، ولإنعاش ذاكرات تاريخية مثقلة بتباريح الماضي السحيق وآلامه.
هذا الكتاب هو حكاية بحث طويل ومتعرّج، وربما مشوَّش، عن "مخرج" من العنف، بحث صعب لأن العنف أثناء الحرب لم يُسَمَّ يوماً باسمه الحقيقي. كان يُحكى عن هجوم، ردٍّ على اعتداء، مؤامرة، ثأر واقتصاص، دفاع مشروع، مقاومة... وما إلى ذلك من كلمات لا تستخدم، في الواقع، الا للتنصّل من مسؤولية لم يكن أحدٌ يريد أن يتحمّلها. وهو بحث صعب، لأنه يفتقر أيضاً إلى أدوات التحليل المناسبة والناجعة. فمفاهيم "الصراع الطبقي" و"التحرّر الوطني" و"العنف الثوري" التي طالما استخدمناها، أيامَ "اليسار"، بدت محدودة القدرة على تفسير هذا العنف.
شاءت المصادفة أن يقع بين يديَّ كتاب حملني على كثير من التفكير المعمّق في هذه المسألة. عنوان الكتاب: "أشياء مخبّأة منذ بداية هذا العالم"Des choses cachées depuis la fondation du monde لمؤلفه رينه جيرار.
لدى قراءتي مؤلفات جيرار اكتشفتُ الطابع الميميائي للعنف المؤسَّس على "الرغبة في امتلاك رغبة الآخر". وهو عنفٌ يُشاكِل (يماثل) بين الناس، بحيث "يغدو كل واحد توأمَ خصمه أو نسخةً عنه". إنه عنفٌ قائم على التبادليّة réciprocité. وهي "تبادليّة فعلية"، لكنها عبارة عن "مجموع لحظات غير متبادَلة، لأن الخصمين لا يتخذان الموقف ذاته في وقت واحد، وإنما على التوالي"... لأصل إلى خلاصة مفادها أن "قرار الرفض المطلق للعنف، كل عنف، هو وحده الذي يُنْجينا من الوقوع في العنف الميميائي".
هذه القراءة أرشدتني إلى قراءات أخرى. في محاولة لفهم العنف الذي دمّر بلدي، كما أنها حرّرتني من التحليلات السياسية القاصرة عن الإحاطة بالمشكلة والنفاذ إلى جوهرها. مع ذلك ظلّت أفكاري بعيدة عن الوضوح المرتجى. وكان عليَّ أن أعتمد أسلوب التلمُّس.
في وقت مبكر من الحرب شرعتُ في إجراء حوارات والبحث عن تسويات بين المتحاربين بغية وقف العنف؛ حوارات وتسويات بين مسلمين ومسيحيين، لبنانيين وفلسطينيين، لبنانيين وسوريين. هنا اعترضني سؤال جديد: ماذا يعني وقف العنف؟ هل هو "وقف لإطلاق النار" بين معسكرات متقابلة؟ هدنة طويلة الأمد؟ هل يعني السلام؟ وأيّ سلام؟ أهو "سلام الشجعان المجيد" الذي قرأنا عنه في كتب التاريخ، أم هو سلام عادي تافه، وربما حقير، يقوم على امتيازات أو حتى صفقات مشينة؟ في مثل هذه الحال ماذا نفعل بـ"المبادئ السامية" التي باسمها اقتتلنا بنشاط فائق على مدى عقود؟ هل نخبئها "ذخيرة" لحروب مقبلة وعنف يأتي بعد حين؟
احتجتُ إلى وقت غير قليل كي أدرك أن نقيض العنف ليس، ببساطة، السلام بين طوائف وأحزاب، وإنما هو "صلة الوصل" بين أفراد ينتمون إلى طوائف وجماعات مختلفة. وهذا فارق يبدو صغيراً، لكنه جوهري وحاسم. وعليه، فقد اتخذ الحوار الذي اضطلعتُ به بُعداً آخر مختلفاً. لم يعد الهدف هو البحث عن تسويات، بل صار التوصّل إلى بلورة مشروع مشترك للحياة بين مختلفين. عندئذ بدأت تنجلي أمامي فكرة "العيش معاً" le vivre ensemble وتتقدّم على فكرة التعايش الطائفي coexistence communautaire التي كانت سائدة حتى ذلك الوقت.
في هذه المرحلة من التلمّس والتفكير برزت صعوبة جديدة: إذا كان العيش معاً يتعلّق بالأفراد على نحو خاص، فأين نجد هؤلاء في مجتمع تسوسه طائفية صلبة لم تزدها الحرب إلا صلابةً وتَغَوُّلاً؟ هل نقوم بعملية فرز بين "علمانيين" و"طائفيين"، فنتوجه إلى الفئة الأولى وننحّي الثانية؟ وكيف يمكن الفرز والانتقاء حين تكون هوية الفرد الواحد مكوّنة من انتماءات متعددة؟ هل ينبغي "اختزال" الهوية بحيث لا نحتفظ منها إلا بمكوّن واحد، أم ينبغي "ترتيب" الانتماءات المتعددة داخل ذواتنا، بحيث نوفر لها إمكان التناغم بدلاً من التنافر، فنتقبّل بالتالي مبدأ "الهوية المركّبة"؟
ثم إن الإشكالية ذهبت إلى أبعد من ذلك. فهذا "العيش معاً" بين أفراد لا يتحقّق إلا عبر عملية "تفريد" indivisualisation. وهذه العملية لا تنتمي إلى حقل السياسة وإنما إلى نظام القيم ومجال الأخلاق. إن اتخاذ مسافة من انتماءاتنا الطائفية يوجب علينا الاعتراف بمسؤوليتنا "المشتركة" عن الحرب التي دمّرت بلدنا. هذا الاعتراف هو الذي يتيح لنا – أي لكل منا – أن نتجاوز الأخطاء وأن نفكّر في "ما بعد" الحرب. من هنا فصاعداً يغدو التمييز المطلوب بين نوعين من الأفراد: بين هؤلاء الشجعان الذين أجروا المراجعة الذاتية وتحمّلوا المسؤولية، وبين أولئك الذين يواصلون التخلّي عن حريتهم واستقلال شخصيتهم، سعياً وراء "أمان" موهوم، داخل "قبيلة" ما، أكانت قبيلةً طائفية أم حزبية، تقليدية أم "حديثة"، موروثة أم مختارة، يهيمن عليها شعار دينيّ، ويعيّن حدودها لونٌ وبيرق وشارة.
هكذا لا يعود التمييز مرتبطاً بانتماءات طائفية، وإنما يصبح متوقّفاً على درجة النضج لدى كلٍّ منا. وهذا النضج يبقى في حالة امتحان دائم جرّاء التطورات والأحداث. إذ يمكن أن يُمتَحن، في بعض الأوقات، بما قد يرى من تجاوزات طائفية تدفعه إلى انقطاع الرجاء، أو بانبعاث "مخاوف" من ماضٍ سحيق حَسِبَ أنه مضى وانقضى، أو بالخشية من مستقبل يبدو غامضاً.
هذا الكتاب هو حكاية كل تلك الأسئلة، وذاك المشوار الطويل بحثاً عن السلام. وهو ليس رواية سياسية، ولا تحليلاً للحرب. إنه حكايةُ "رحلة إلى أقاصي العنف"، حكايةٌ منسوجة من وجوه ولقاءات ومبادلات، من تجارب ناجحة... ولكن من محاولات خائبة أيضاً.
وهذا الكتاب هو أيضاً، من بعض الوجوه، حكايةُ عنف لازمني طويلاً؛ إذ تعرَّفتُ إليه وأنا في مقتبل العمر.
كنتُ في الثانية عشرة من عمري حين وقعت مجزرةٌ بين أهالي بلدتي زغرتا، المعروفة بالعنف الذي يحكم علاقاتها الداخلية. حدث ذلك في 16 حزيران 1957، أثناء فترة الانتخابات النيابية، وأدّى إلى مقتل 33 شخصاً، فكان بمثابة صدمة مهولة. ذلك لأن المجزرة حدثت داخل كنيسة، هي كنيسة مزيارة، وخلال مرحلة من التوتّر الشديد في كل أنحاء البلاد. تعليقاً على ما جرى، كتب غسان تويني في افتتاحيته ("النهار 18 حزيران 1957) محذّراً من انتشار العنف في كل أنحاء لبنان، إذا لم تتدخّل الدولة لتطبيق القانون بالحزم اللازم. هناك خشيةٌ كبيرة – كتب- من أن تغدو كلُّ قرى لبنان "مزيارات"!، وتحذيره هذا كان إنذاراً صادقاً. فبعد أشهر قليلة كان البلد كلُّه يتردَّى في حرب أهلية!
ولدتُ ونشأتُ في "بيت سياسي". والدي – الذي تولّى الوزارة والنيابة مرات عدة، ويُعَدُّ من آباء الاستقلال اللبناني – كان شديد الكراهية والعداء لكل أشكال العنف. قبل شهر من حادثة مزيارة، في 3 أيار 1957، بعث برسالة إلى حاضرة الفاتيكان يحذّر فيها من العنف الذي أخذت بوادره تظهر بقوة في لبنان. ولقد رسم في رسالته صورة متشائمة لوضع المسيحيين اللبنانيين آنذاك، مما جاء فيها: "إن لبنان اليوم مهدَّد بانشطار طائفي حقيقي. فالميثاق الوطني لعام 1943 وُضع مجدداً في دائرة التشكيك (...) ونحن، بعضَ المسيحيين – من بينهم البطريرك الماروني، ورئيس الجمهورية السابق بشارة الخوري، وأنا شخصياً – نرى أن استقلال لبنان، وحماية وجوده ومصالحه، يقتضيان انتهاج سياسة بعيدة عن المغامرات". بعد شهور، وفي ربيع 1958، اندلعت حربنا الأهلية الأولى! ولقد زعزعت حادثة مزيارة حميد فرنجية... ولن ينجو منها. ففي الثاني من تشرين الأول 1958 تعرّض لنزف دماغيّ أرغمه على الانسحاب من الحياة السياسية.
هذا العنف الذي اختبرتُه شخصياً سوف يلاحقني خلال سنوات طوال.
في صبيحة ذلك الأحد 16 حزيران 1957 كان هناك، داخل كنيسة مزيارة، شخصيتان ستلعبان لاحقاً دوراً من الدرجة الأولى في الحياة السياسية اللبنانية، هما سليمان فرنجية ورينه معوّض.
سليمان فرنجية – وهو في المناسبة عمّي - انتخب نائباً في البرلمان عام 1960، وبعد عشر سنين أصبح رئيساً للجمهورية. مرة جديدة كنا على موعد مع العنف. فالتوتّر الذي كان مخيماً على البلاد، بين مؤيّدي الوجود الفلسطيني المسلّح ومعارضيه، أفضى إلى اشتباكات مسلحة. هكذا وجد سليمان فرنجية نفسه بين نارين: بين حزب الكتائب الذي يأخذ على الدولة عجزها عن التصدّي للفلسطينيين، وبين الفريق "الاسلامي-التقدمي" الذي يتهمها بأنها تريد تصفية المقاومة الفلسطينية للحفاظ على الامتيازات السياسية للطائفة المسيحية. تردّد سليمان فرنجية في البداية، وحاول أن يكسب الوقت، ثم انحاز أخيراً إلى الصفّ المسيحي. غير أنه لم يمكث في هذا الموقع طويلاً. ففي عام 1978، وفي حزيران بالذات، حدثت مجزرة جديدة في إهدن: ابنه البكر وزوجة ابنه وطفلتهما، بالإضافة إلى ثلاثين شخصاً، قُتلوا جميعاً أثناء هجوم شنّته ميليشيا حزب الكتائب على منزل طوني فرنجية!
الشخصية الثانية التي كانت حاضرة صبيحة الأحد 16 حزيران 1957 في كنيسة مزيارة هي رينه معوّض. انتُخب معوّض ذلك العام نائباً في البرلمان، ثم أصبح رئيساً للجمهورية في 5 تشرين الثاني 1989 بُعيد اتفاق الطائف الذي وضع حداً للحرب اللبنانية. لكنه كان على موعد جديد مع العنف: بعد 17 يوماً من انتخابه رئيساً، اغتيل رينه معوّض!
بعد نحو خمسين سنة، عام 2006، صدر كتاب بعنوان "مطر حزيران" (لجبور الدويهي)، يستعيد حكاية مزيارة، ويحمل القارئ على إجراء مقارنة بين ذلك العنف الذي عرفته زغرتا في الخمسينات وبين العنف الذي سيتردّى فيه لبنان اعتباراً من 1975. كانت نتيجة المقارنة مثيرة للاهتمام: "الاستثناء" الزغرتاوي صار القاعدة التي سارت عليها البلاد في هذه الحرب، حيث سلكت الطوائف الدينية دروب العشائر والعائلات!
بعد عشر سنين من حادثة مزيارة شهدتُ تمريناً جديداً على العنف!
في 7 تشرين الثاني 1968، وبينما كان عدد من الطلاب مجتمعين في حَرَم "المدرسة العليا للآداب"، اعتراضاً على قمع تعرّضت له إحدى منظمات المقاومة الفلسطينية في الاردن، هاجم محازبون كتائبيون أولئك الطلاب بعنف، ما أدى إلى جرح عدد كبير منهم. أثار الحادث اضطراباً شديداً في البلاد، فقامت إضرابات في العديد من المدارس والجامعات، وما لبثت أن انطلقت تظاهرات في مختلف الأنحاء، لا سيما في طرابلس التي قُتل واحدٌ من أبنائها الطلاب.
بعد عشرة أيام، 17 تشرين الثاني 1968، نظَّمت جريدة "الاوريان" لقاءً ("وجهاً لوجه") بين أولئك القادة الشبّان الذين "أثاروا الاضطرابات". كنتُ واحداً من بين الشبّان السبعة. وفي تقديمها لندوة "الحوار المشادّة"، كتبت "الاوريان" ما يأتي: "هؤلاء الشبّان السبعة، الذين تعرفون أسماءهم جيداً، كانوا أصل الأحداث التي هزّت لبنان في الأيام العشرة الأخيرة. لقد كانوا وجهاً لوجه في الشارع، مثلما هم الآن وجهاً لوجه في مكاتب "الاوريان". أنْ يأتوا كلهم تقريباً من جامعات فرنسية، فليس هذا محض مصادفة. ففي هذه الجامعات بالذات اندلعت المعركة بين فريقي الطلاب، حتى وإنْ جرت التظاهرات في أماكن أخرى. فرنجية، الجميّل، غانم، حَوّا، معلوف، مجدلاني، وبقرادوني: هؤلاء هم الذين قادوا رفاقهم من الضفتين، بمن فيهم أولئك الذين لا ينتسبون إلى جامعات هؤلاء وكلّياتهم. كانوا الخميرة التي فعلت في العجين، وكانوا المحرّضين بامتياز (...). كلُّهم متفقون على المطالبة بحقّهم في الاعتراض على المجتمع (...)".
هذا الاصطدام الأول بين أنصار المقاومة الفلسطينية وخصومها في لبنان، أشار إلى بداية الانقسام الذي سيقود إلى الحرب الأهلية. وهو انقسام أُضيف آنذاك إلى اعتراضنا على النظام القائم، بوصفه نظاماً تقليدياً شديد التحجّر، ولرغبة لدينا جامحة في التغيير، تغيير بدا لنا أن المقاومة الفلسطينية ستشكل رافعته في لبنان والعالم العربي. كانت خياراتنا في تلك الحقبة جذرية راديكالية، ولم نكن نساوم على أدقّ التفاصيل والفروق. وينبغي القول إن العنف لم يكن له آنذاك طعم المرارة، كما صار في ما بعد أو اليوم.
في مناقشة مع "فريق المعترضين" الذي كان يرفض "نظاماً مولِّداً للكثير من التعسّف واللامساواة" كتب جورج نقاش، مؤسس جريدة "الاوريان" عن التجربة اللبنانية فقال: "هذا اللبنان، الذي ترفضونه، هذا اللبنان كما هو – بنواقصه وتشوّهاته والغفلة الفظيعة لدى طبقته السياسية – لا يمكنه في طبيعة الحال الادّعاء بأنه خلق مجتمعاً عادلاً وسعيداً. لكنه الوحيد بين بلدان الشرق الأوسط، وحتى بالمقارنة مع بعض البلدان الأكثر تقدّماً في العالم، الذي يمكنه أن يتباهى بكونه المجتمع الأقلّ فظاظةً ربما في هذا العالم".
كان جورج نقاش على حقّ. أما نحن، في تلك الحقبة، فلم يكن في وسعنا أن نتقبّله. سيلزمنا وقت طويل كي نفهمه.
مسارات أولئك "المحرِّضين" السبعة ومصائرهم، بعد وقوفهم "وجهاً لوجه" عام 1968، تدل على تطور الأحوال في هذا البلد. في 23 آب 1982 وصل بشير الجميّل إلى رئاسة الجمهورية، واغتيل بعد ثلاثة أسابيع من انتخابه، فارتفع بذلك إلى مرتبة "الشهداء". كريم مجدلاني، الذي كان في بيروت أثناء الحصار الاسرائيلي 1982، قُتل في 2 آب من تلك السنة. أمين معلوف، الذي كان قد غادر لبنان ليقيم في فرنسا، نال عام 1993 جائزة "غونكور" للآداب عن روايته "صخرة طانيوس"، ثم اختير بعد 43 سنة من "وجهاً لوجه" عضواً في "الأكاديمية الفرنسية"، فاندرج بذلك في "سجل الخالدين".
أما أنا فقد انطلقتُ في تجوال طويل، نقلني من فكرة "الصراع الطبقي" إلى مشروع "العيش معاً"، فأرسيتُ – على ما أزعم – نهجَ تواصل وحوار بين اللبنانيين، وانصبّ جهدي على تحضير التربة الصالحة لتكوين معارضة وطنية "متعددة الأطياف والطوائف" ضد الوصاية السورية على لبنان... وفي 18 شباط 2005، بعد أربعة أيام على اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري، رأيتُني أعلن باسم المعارضة "انتفاضة الاستقلال" التي ستكون البشارة الاولى لـ"الربيع العربي".
ترجمة محمد حسين شمس الدين