بوغوص وعلي والمال العام
سعود المولى
بوغوص بك يوسفيان، أو الخواجه بوغوص، كما كانوا يسمونه في مصر زمن محمد علي باشا الكبير، أرمني عثماني تولى قيادة فرقة من الأرناؤوط في مصر...ولما برهنت تجارب الأيام وسنوات الانتصارات والهزائم، عن مدى صدقه ونزاهته وإخلاصه لمصر وواليها ، أبقاه محمد علي باشا موضع ثقته وكاتم أسراره..وكان يتولى الإشراف على أعمال الصناعة والتجارة وحتى العلاقات الخارجية لوالي مصر...واستمر في ذلك زمناً حتى أن كل دخل الموارد المصرية كان يُعرض عليه..
ولما تدهورت حالة محمد علي باشا الصحية وداهمته الشيخوخة والعجز ولم يعد قادراً على إدارة الأمور، بدأ بوغوص بك يعاني من المضايقات...وما أكثر الحاسدين والمتآمرين حين تتغيّر الأحوال..ولفرط حساسيته وشدة نبله انقطع بوغوص عن المأكل والمشرب حتى مات من الضعف والهزال في الإسكندرية في كانون الثاني 1844 وعمره 72 سنة..
ولما فحصوا تركته اتضح أنه لا يملك شيئاً من المال سوى تسعة عشر شلناً رغم أنه كان مطلق اليد واسع السلطة في المالية ، ورغم أن أوامر محمد علي باشا كانت صريحة في أن يأخذ بوغوص كل ما يحتاج إليه من غير حساب..
ولما علم محمد علي باشا أن بوغوص لم يترك وراءه ثروة فوجىء وظن أن الرجل تعرض لسرقة ما، ذلك ان الباشا كان قد أودع عنده سبعة عشر قيراطاً من الماس!!
وأمر محمد علي باشا بتفتيش منزل بوغوص فوجدوا السبعة عشر قيراطاً من الماس في صندوق الفقيد ومعها ستة أوراق بيضاء موقع عليها بختم محمد علي باشا نفسه ..وكان الباشا قد أعطاها قبل سفره إلى السودان لبوغوص بك ليتصرف بها كما يشاء طبقاً لمصلحة البلاد...فبقيت الأوراق (شيكات على بياض) كما هي بلا استخدام ومعها الماسات... وكلها من المال العام!!.
تذكرت هذه الحكاية وأنا أقرأ في نهج البلاغة كلاماً للإمام علي (ع):"لا ينبغي أن يكون الوالي على الناس البخيل ، فتكون في أموالهم نهمته ، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع"....تذكرت علياً وأنا أنظر من حولي : نحن يا قوم نعيش في زمن صار فيه الوالي ليس البخيل النهم فقط بل الجشع الشره الفاسد..وصار فيه الفساد سمعة حسنة ، والرشوة رتبة معتبرة ، والمحسوبية عزوة مقدّرة... وصارت فيه مصالح الناس تتناهشها اللئام ويضيعها معسول الكلام... نعم: ضاق العدل واستبد الجور، وضعف المنصف وقوي الفاجر حتى أكل مال التاجر...هاجر الشباب وماتت المدن والقرى وافتقر الشرفاء.. حتى رددنا قول الإمام علي: "الفقر هو الموت الأكبر"..وأيضاً: "لو كان الفقر رجلاً لقتلته"...
وقديماً كان يُقال إن الفقر شعار الأنبياء والصالحين ومنه قول البحتري:
فقرٌ كفقر الأنبياء وغربةٌ وصبابةٌ ليس البلاء بواحد
وقال بعض الحكماء: الفقيرمخف آمن ولا عدو له، والغني مثقل خائف ولا تحصي أعداؤه..
ومن أحسن ما قيل في هذا المعنى قول أبو العتاهية:
ألم تر أن الفقر يُرجى له الغنى وأن الغنى يُخشى عليه من الفقر
أما علي فهو القائل أيضاً في صورة من أروع التوصيفات الإجتماعية-النفسية: "الغنى في الغربة وطن ، والفقر في الوطن غربة"..
ولكن ما بالنا وعلي!! ليس هو من النوع العادي من البشر.. حتى ليكاد القائل يقول "لن نقدر على التحلي بفضائله وخصاله"...طيب فليكن! ولكن ماذا عن بوغوص يا قوم ؟؟؟ بوغوص الموظف الأرمني المصري؟؟ ألا يوجد في كل هذا الزمن العربي الممتد من المحيط إلى الخليج أمثال بوغوص؟؟