الثلاثاء، 10 مايو 2011

الخوف على سوريا

نهلة الشهال
يبدو جلياً أن العقلية التي انتصرت داخل النظام السوري تنتمي الى النسق الذي قاد فيما مضى مجزرة حماة وسحق بالدبابات عدة ألوف من الناس. ربما كان العكس مفاجئاً إن لم يكن مستحيلاً. فاستجابات السلطات، كما أدواتها، جزء أصيل من مكوناتها، وهي تُبنى وتترسخ مع الزمن، فتستحيل نوعاً من المسلك الجبري. وهكذا هو القمع، مكون أساسي من مكونات بنية النظام السوري. وهو محاط بآلة كاملة من التبريرات، على رأسها الادّعاء الدائم بوجود مؤامرة أو استهداف، وهما اليوم وفي الاحداث الجارية موجودان، ولهما مؤشرات وبراهين، منها تدخلات من دول مجاورة، وإن كانت سرية أو ملموسة أو ميدانية. وتحفز هذه التدخلات حسابات متنوعة، بعضها سياسي يأمل بمكاسب معينة يمكن للنظام الحالي ان يؤديها له، أو يذهب أبعد من ذلك، فيراهن على تسهيل وقوع السلطة في قبضة أخرى، وبعضها قد يكون بصدد تقديم خدمات لأميركا واسرائيل، وآخرون يقومون بهذه المناسبة بتصفية حسابات قديمة، وهناك دعم أميركي لوجستي ومالي وسياسي لبعض القوى السورية المعارضة، وهناك السيد بيلمار الذي أعلن فجأة عن تعديل جوهري على قراره الظني بخصوص اغتيال الحريري (نعم، هذا ما زال حياً ـ أقصد القرار الظني ـ وإن شاخت مفاعيله!) سيوسع على الأرجح دائرة الاتهام لسوريا من دون أن يسقط التهمة عن حزب الله... وكل ذلك ينتمي الى ما يقال له «الاصطياد في الماء العكر»، بينما الموضوع هو لماذا تكون عكراً يا هذا!
المؤامرة ولا شك موجودة، بل افتراض غيابها يُخرج الموقــف من التحــليل السيـاسي. فهذه وظيفة الأعداء. وهو ما قاله الرئيس بشار الاسد نفسه في آخر مداخلة علنية لـه. أما السؤال الفعلي فيتعلق بطبيعة التحرك الجاري في سوريا الذي تسقط نظرية المؤامرة أهميته أو تلحقه بها، بينما هو تحرك شعبي أصيل ومشروع. ويضاف الى حسناته أنه كسر حاجز خوف كان سميكاً للغاية، بل لعله الأكثر سماكة في العالم العربي. فهل حــماة قابلة للتكرار في عالم اليوم؟ وما المكان الذي سيختاره النظام لفعلته هذه، بينما التحركات الغاضبة تعم البلاد، وآخرها في قلب دمشق، التي لولا صمتها وموافقتها الضمنية في المرة السابقة لما أمكن ارتكاب حماة. وهل النظام اليوم هو نفسه ذاك الذي ارتكب حماة؟ الإجابات بالنفي تجعل من هذا «الخيار» بطاقة انتحارية، وليس أقل.
والمفجع هو أن النظام السوري يهدر بهذا مكانة كان ينفرد بها، تمــثل سنداً كان بإمـكانه أن يفتح أمامه بأمان ـ وإن نسبي بالطبع ـ خيارات أخرى. فهو النظام العربي الوحيد الذي احيط، عند بدء التحركات الشعبية في سوريا بمـناشدات تدعوه للــجرأة على الاصــلاح (لأنه حق للناس، ولأنه وسيلة لإنقاذ النظام!)، توالت من جهات متعددة، عبر أقلام كتاب وصحافيين، وعبر مبادرات قوى وحركات مناضلة. ومبعث تلك الاندفاعة، ذات الطبيعة الإنقـاذية في العمق، اعتبارات عدة على رأسها موقف السلطة في دمشق من مسألة الصراع مع إسرائيل. علماً أن في الاندفاعة تلك تغاضياً عن حذر دمشق من الانخراط المباشر في ذلك الصــراع، إلا أنه يشفع له دعمها للقوى التي تفعل، ويشفع له موقفها السـياسي الذي نجح في تحقـيق توازن بوجه الانبطاح العربي السائد في الفترة الماضية بكاملها. وهما أمران في غاية الأهمية، ولا يمكن الاستخفاف بهما.
كذلك استفاد النظام السوري من مواقــف داعمة أو ناصــحة أو متريثة، وذلك على المستوى العام: هناك المسعى التركي للمساعدة في تجـاوز الازمة، وتركـيا هي الجــار القــوي والمهم في حياة ســوريا، الذي عقد معها اتفــاقيات متعددة ، منها تلك الدفــاعية المشــتركة. وهناك الموقف الاوروبي الذي تريث في الادانة، ليس حباً ببشار الاسد، بل لمعرفته بالنتائج التي ستترتب على انهيار الوضع في سوريا، سواء على صعيد المعطيات الداخلية للبلد أو على صعيد مجمل المنطقة. فسيادة الفوضى في سوريا تطرح مسألة تأثيرها على بلدان مهتزة أصلاً كالعراق والاردن ولبنان، بل وحتى على اسرائيل، مما يفتح الافق أمام احتمالات كلها مخيف. ومسألة مصير المسيحيين تعني الدول الاوروبية، وقد شاهدنا الاضطهاد الذي تعرض له مسيحيو العراق، حيث هُجرتهم سائرة على قدم وساق، وهي أيضاً واحدة من النتائج المفجعة لانهيار الاوضاع في ذلك البلد.
بل، وربما كدليل على حس عال بالمسؤولية الوطنية، وبسبب إدراك عميق لتعقيد المعطيات القائمة، سواء منها المحلية ـ المرتبطة بطبيعة السلطة وبتكوين سوريا ـ أو تلك الاقليمية، وخوفاً من التفكك والتصارع والفوضى في بلد انصهاره الوطني هش، بدأت التحركات الشعبية والمطلبية «تصالحية»، لا تطالب بإسقاط النظام، بل تدعوه الى خطوات كلها بديهي ومحق، ولا يمكن لكائن عاقل الدفاع عن موقف الامتناع عنها بحجة الحفاظ على السيطرة والضبط والربط. فهذا المنحى يختزن اتهام الناس بالقصور الوطني، وبأنهم متى ما امتلكوا بعض الحرية، فسيسيئون استخدامها أو سيخونون، أو أن مطالبتهم بتدابير اقتصادية تخفف من نسبة من هم من بينهم تحت خط الفقر ـ ثلث السكان ـ بوجه شبكة كاملة ومتينة تقوم بنهب منظم لاقتصاد البلد، اعتداءً وتطاول على أولي النعمة.
لقد بددت السلطة في سوريا كل هذه المميزات، بل راحت تقرأها بطريقة خاطئة. فهي تعتبر أن اللحظة تفترض «التضامن» الكامل معها، ومن لا يفعل يصنَّف عدواً، وهو منطق يبدو عشائرياً ولكنه مبتذل، حيث يقوم التضامن العشائري نفسه على سنن وقوانين تضبط السلوكيات وتجعل العشيرة تكسر عصا مَن يخالف من أبنائها تلك السنن!
سيطول تداعي الوضع في سوريا، حاملاً معه كل يوم مزيداً من الدماء ومن الاعتقالات ومن مشاهد الدبابات التي تقتحم المدن، ومن فوات الأوان، ومن نزف كل الشرعيات... ومن صمت النظام إلا عن ترداد لغة محنطة، ومبررات وهمية لا يصدقها أحد، لازمتها هذه الاسطوانة المشروخة عن المؤامرة، مما لا يجدي ولا يغير من الامر شيئاً