دعوة الى الحوار لتشكيل تيار فكري جديد يمهد لعمل ثوري جديد..
لسنا ندعو الى اعتزال السياسة ، ولا الى طريقة خفية للإشتغال في السياسة...
ومبادرتنا هذه ليست "استراتيجية ذكية" للسيطرة أو للهيمنة الفكرية ، كما أنها لا تهدف الى الحط من شأن وقدر أية مبادرة أو ممارسة أخرى.
إن مبادرتنا ترتكز ببساطة الى ملاحظة جد واقعية وهي أن الأفكار تلعب دوراً أساسياً وتأسيسياً في الضمير الجمعي كما في التاريخ الاجتماعي السياسي للبشر.
ونظرة سريعة الى التاريخ البشري منذ عهد الفلاسفة اليونانيين (أرسطو مثالاً) والى عهد الأنظمة التوتاليتارية (ستالين ولينين وماوتسي تونغ مثالاً) ومروراً بعصور المسيحية (القديس أوغسطين وتوما الأكويني وديكارت ومكيافيللي) والفلسفة الألمانية (كانط – هيغل - ماركس ) والليبرالية الغربية (من آدم سميت الى فوكوياما)، تكفي للدلالة على كيف تؤسس الأفكار لثورات حاسمة ولتحولات جذرية مستديمة.
إن التاريخ هو طبعاً من صنع إرادات وأعمال البشر، الا أن هذه الإرادات وهذه الأعمال تندرج دائما في إطار عدد محدد من القناعات والمعتقدات والتمثلات، التي تعطيها وجهتها ومحتواها وترسم لها خياراتها.. ونحن نريد استعادة هذا المعنى عبر تجديد المثالات الاجتماعية –التاريخية – العقدية للفرد وللجماعة..
وتزداد حاجتنا الى النص الفكري مع ما نلحظه في تطور المجتعات في هذا القرن الجديد:عجزت الأحزاب والنقابات كما الحكومات والطبقة السياسية و"المجتمع المدني" عن صياغة وبلورة فكرة جديدة محددة تعيد الأمل الى شعوبنا بمستقبل ممكن للحياة في لبنان كما في بلادنا العربية أو على هذا الكوكب. لقد انتهى الإنقسام التقليدي بين يمين ويسار الى مأساة بعد انهيار جدار برلين، وانهيار المرجعيات الضابطة للفكر والحركة ، وزال وهم الحداثة قبل أن تصلنا بركاتها المفترضة، وانقشع شعار التقدم الذي كان حجاباً يمنعنا من رؤية حقيقة مجتمعاتنا وظروفها، وبان الخطر المخيف: تطور لا بل انفجار لا سابق له لوحشية الأنظمة الاستبدادية الحاكمة باسم التقدم والتغيير، وللحروب الأهلية المخبوءة، وللرأسمالية المتوحشة، وفي سيرورة غير مضبوطة النتائج وبمعزل عن قِيَم وضوابط البشر ووجودهم واستمرار نوعهم وخارج كل اهتمام بحياة الناس الفقراء الكادحين والمنتجين ومستقبلهم.
من هنا أهمية وضرورة إعادة الاعتبار للقيم وللمرجعية القيمية في صياغتنا الفكرية، وفي بلورة أنماط تفكير جديدة وخوض ممارسات جديدة، وفي اجتراح رؤية متماسكة للذات وللآخر، لبلادنا وللعالم، تكون متجاوزة للقديم، إنما غير مفارقة له، وتكون منشدّة الى الجديد، إنما غير محلقة في الفراغ، وهذا هو معنى هذه المبادرة..
أين نحن اليوم؟
إن أي تفكير نقدي جديد هو أولاً قراءة في الزمن المعيش: على أية أرض نقف؟ ما هي طبيعة المرحلة الراهنة؟ أو ما هي الظروف الموضوعية التي تحيط بنا ؟
إننا نعتقد بأننا نعيش اليوم مرحلة مفصلية، ولحظة انتقالية، ما بين قديم ينهار ويموت ببطء، وجديد لم يولد بعد، وذلك على خلفية أزمة كبرى قيل إنها نهاية التاريخ ، وهي في الحقيقة نهاية هذا التاريخ بالضبط ، تاريخ الحرب الباردة ، وليس كل تاريخ أو أي تاريخ.
لقد كانت الرأسمالية كما الاشتراكية، من نتاج حركة تاريخية ليست بالمستجدة بل أنها تملك جذوراً قديمة في الثقافة الغربية وميتافيزيقها.. فالفردية كانت موجودة بلا شك في التراث اليهودي والبروتستانتي من خلال موضوعة الخلاص الفردي.. أما فكرة التقدم فهي مولودة من فكرة أن للتاريخ بداية مطلقة ونهاية ضرورية (وهي فكرة تتكرر في العهد القديم كما عند فوكويوما مروراً بهيغل وماركس).. فتأتي السيرورة التاريخية لتؤكد على وجود مخطط إلهي أو بشري للخلاص، أكان في الكنيسة والمسجد أم في الحزب القائد، في السوق أم في ديكتاتورية البروليتاريا، لافرق. وحتى الحياة السياسية نفسها فانها تتأسس على ثيولوجية معلمنة.
ولقد غاب عن العلمانيين في بلادنا قراءة تاريخ العلمنة خارج فرنسا ، فلم يقرأوا برونو باور وكارل ماركس لمعرفة معنى المسألة اليهودية ولا قرأوا ماكس فيبر لمعرفة دور الدين والأخلاق البروتستانتية في ولادة البورجوازية ولا قرأوا فرنر شومبارت لمعرفة دور اليهودية في ولادة الراسمالية المالية العالمية.... ولم يعرفوا كيف أن الدول القومية الحديثة تماهت مع كنائسها لا بل تأسست على كنائسها: اللوثرية والكالفينية والانغيليكانية في أوروبا الشمالية عموماً وصولاً الى كل ولاية ومدينة في أميركا الشمالية. لم تخرج الرأسمالية والاشتراكية اذن من غير هذا الرحم، ولم تولد عبر انقطاعات أو تفكيكات بنيوية وانما هي نتاج سياق مجتمعي تاريخي حضاري تبلور خلال عدة قرون من الصراعات. وكل المدارس الفلسفية والتيارات الفكرية للحداثة الراسمالية والاشتراكية (ولمقلديها في بلاد الشرق: يستوي في ذلك المتمركسون والمتأسلمون غذ هما وجهان لنفس العملة)، المختلفة والمتناقضة في أسسها ، تلتقي عند نقطة جوهرية وهي فكرة أن هناك حلاً واحداً وحيداً يمكن تعميمه على الكون كله وعلى كل الظواهر الاجتماعية والاخلاقية والسياسية (نهاية التاريخ- ديكتاتورية الشيوعية- التجسد المطلق للفكرة- الخلاص بالمسيح وضرورة التبشير- مجيء المسيح الحقيقي عند اليهود وقيام مملكة القدس- مجيء المهدي المخلص..).
وبحسسب هذا المنظور فان البشرية هي مجموعة أفراد عقلانيين تدفعهم المنفعة أو المصلحة أو القناعة أو الموقف الاخلاقي أو التعاطف أو حتى الخوف ، الى تحقيق وحدتهم في التاريخ .. والتاريخ طبعاً هو تاريخ هذه أو تلك من الفرقة الناجية ، أو الطليعة البروليتارية، أو غير ذلك... وتبعاً لذلك فان التنوع البشري يصبح عائقاً أمام تقدم التاريخ، ولذا تنبغي ازالته (من الفتوحات والحروب الصليبية إلى الاستعمار-بشقيه الرأسمالي والاشتراكي- الى التمدين الى فرض التقدم على الشعوب المتخلفة أي المختلفة إلى التبشير بكل أشكاله إلى الأسلمة والجهاد). وكل ما يميز البشر (الجماعات والأمم والشعوب) يصبح بهذا المنظار حادثاً طارئاً (أي لا تاريخي- خارج التاريخ) يتم تجاوزه (فولكلوراً في أحسن الحالات) أو ضربه والغاءه لأنه خطر على البشرية الموحَّدة في مجرى التاريخ. (خطر الآخر: موضوعة تؤدي الى الغاء الآخر أو الى استتباعه وادماجه بالقوة أي الى ازالته كآخر مختلف، موجود لأنه مختلف).
أزمة العصر:
لقد سيطرت رغبات الحرية والمساواة على المتخيَّل الجماهيري وقود كل الثورات. غير أن الواقع يقول لنا إن هذه الثورات (البورجوازية والبروليتارية على السواء) خانت وغدرت قيم الحرية والمساواة. ذلك أن الافراد وقد بتروا عن الجماعات التي كانت تحضنهم وتحميهم وتقدّم في الوقت نفسه شكلاً ومضموناً (ومعنىً) لوجودهم، أصبحوا خاضعين لسوط آليات كبيرة من السيطرة والهيمنة تقف حريتهم أمامها عاجزة أو بالأصح شكلية باهتة في إزائها. إن الأفراد يواجهون فرادى القوة الكونية للسوق وللعلم التقني وللاتصالات والمواصلات وللدولة الرأسمالية الحديثة دون أن يكون بامكانهم تقرير مجراها أو التحكم بمسارها.
ونفس الفشل المزدوج ينطبق على شعار المساواة: لقد خانته الشيوعية حين أقامت الأنظمة الكليانية الأكثر وحشية في التاريخ (وقلدتها في ذلك الديمقراطيات الشعبية والجماهيريات الثورية في البلاد العربية والعالم الثالث عموماً). وكما أن الرأسمالية قد تلاعبت بها حين أعطت شرعية للفروقات والتفاوتات الاقتصادية والاجتماعية الأكثر مأساوية ورعباً في عالم اليوم تحت ستار الديمقراطية والليبرالية، فإن الماركسية نادت بحقوق كثيرة دون أن تؤمن وسائل ممارستها.. لقد أججت الرأسمالية (ومعها وجهها الآخر:الماركسية) وأثارت كل الرغبات والحاجات وهي خلقت يومياً حاجات ورغبات أكثر وأكبر ولا تفسح في المجال لاشباعها إلا لقلة قليلة من الأغنياء والحكام ما يترك القطاع الأوسع من الناس في حالة كبت وإحباط وغضب وتوتر .
أما أيديولوجية التقدم التي جاءت لتلبية انتظارات الشعوب للمهدي والمخلص فأدامت الوعود بمجيء عالم أفضل، وها هي اليوم تدخل أزمتها الجذرية: فالمستقبل الغامض والمقلق لم يعد حاملاً لبشائر الأمل وانما لنذر الخطر والخوف (من ثقب الاوزون والتصحر والجفاف وتلوث البيئة الى الايدز والسرطان وعودة الأوبئة الكبرى). لقد عاد الانسان ليواجه الخوف على المستقبل والقلق على المصير وعدم الثقة باليوم الذي يجيء أو باحتمال بقاء النوع الانساني أو بسعادة أولاد الغد.. وكل جيل جديد يجد نفسه في مواجهة عالم مختلف عن عالم آبائه.. هذا "التجدد" الدائم والمستمر والمؤسَّس على الحط من قدر البنّوة والنسب والتجارب السابقة وخبرة الأجيال ، في حين يتم التحول وبسرعة رهيبة من نمط حياة الى آخر ومن وسط بيئي الى آخر، هذا التجدد لم يعد حاملاً لأحلام السعادة والطمأنينة بقدر ما أنه أزال كل عوامل الأمان والثقة وأحل القلق والتوتر إنتظاراً للمجهول المخيف..هذا ناهيك عن الحروب القبلية والاثنية والدينية والمذهبية المنتشرة في كل مكان.
وتروي "نهاية الايديولوجيات "حكاية النضوب التاريخي لكل النصوص التحشيدية التعبوية والتي تجسدت في اللبيرالية والاشتراكية والقومية والفاشية والشيوعية والنازية.. لقد شهد القرن العشرون مرور كل هذه الايديولوجيات على مسرح الفعل التاريخي وكانت نتائجها أكوام الجثث والمذابح الجماعية والحروب العالمية بين الامم والشعوب، والمنافسة المستمرة بين الأفراد (البقاء للأقوى) والكوارث البيئية والفوضى الاجتماعية وفقدان كل مرجع معياري حامل للمعنى (تتحدث الأفكار الغربية لما بعد الحداثة عن أزمة المعنى). إن الرأسمالية المتوحشة والاشتراكية الاستبدادية بتدميرهما للعالم المعيش لحساب العقل الأدوي (في صراعهما وحروبهما) قد ضاعفتا من النمو والتطور المادي الذي قابله إفقار رهيب لا مثيل له للفكر وللروح. لقد عممتا القلق والوسواس وعدم الثقة في الحاضر المعيش، في عالم يفتقد الى الماضي ولا يجرؤ على التطلع الى المستقبل. لقد تولدت عن هذه المنافسة الحضارة الأكثر فراغاً في تاريخ البشرية. لقد أصبحت لغة الدعاية الإعلانية هي الأنموذج والمثال لكل اللغات الاجتماعية ، وأصبح المال هو الآلة الذي يستبطن السلعة والسوق، وتحوّل الانسان نفسه الى سلعة أو غرض، للتدوال، في جو من المتعية الفقيرة. أما التقنية فهي تخنق العالم المعيش في شبكة مسالمة وعقلانية من التحفظ والدعة فيما تنتشر جرائم الأحدات والعاطلين عن العمل والعنف، وفقدان حس المواطنة والحياة المدنية، انتشار النار في الهشيم على شكل حرب يخوضها الكل ضد الكل ، والفرد ضد ذاته وضد غيره ، فيقبع هذا الفرد القلق ، المنبت، لا ظهراً أبقى ولا ضرعاً حلب، ويحلق في عوالم موهومة متوهمة من المخدرات ومن الصور الافتراضية ومن التوسط الشيئي الإعلامي التشييئي.. تتصحر القرى من الإنماء "المتوازن" والتنمية "المستديمة" لأموال الصناديق الدولية التي تهجّر الحجر والبشر من الريف الى الضواحي البائسة والمتوحشة والتي لا يمكن أن يسكنها بشر، في مدن- عواصم متضخمة متخومة تستفرغ أحشاءها حديداً واسمنتاً مسلحاً وطرقات- أوتوسترادات للموت المجاني.. وها هو الفرد الوحيد المستوحد يذوب وسط الجمهرة- حشود مجهولة الإسم والرسم ، متوترة الى حدود العداء والعدوان، فيما الأشكال القديمة للتوسط والتضامن والتراحم والتكافل، الاجتماعية منها والسياسية، كما الثقافية والدينية، تصبح شيئاً فشيئاً هشة، متقلبة، على غير سوية ،أو في أحسن الاحوال هي شكلانية فارغة، من طقوس وعادات مفارقة للزمان والمكان ، مغايرة للمألوف والمعتاد، وقد أصبح نمطياً.
وهذه الأزمة العنيفة انتشرت وتنتشر في كل مناحي حياتنا...
وفي عصر اليوتوبيا الكونية المؤسسة العمومية للحداثة، والتي تكاد تصبح واقعاً حقيقياً مع العولمة الليبرالية ، آذنت نهاية القرن العشرين بنهاية الأزمنة الحديثة، ودخولنا في عصر ما بعد الحداثة ، الحاملة لإشكاليات جديدة : بروز الهم البيئي ، البحت عن نوعية الحياة، دور "القبائل" و"الشبكات" (واللوبيات)، عودة الأهمية الى الجماعات على اختلافها ، سياسة الاعتراف بالمجموعات، تضاغف الحروب والنزاعات ما تحت وما فوق الدولتية ، عودة العنف الاجتماعي (من ملاعب الرياضة الى أزمة الضواحي البائسة والأرياف القاحلة)، تصاعد الهوة ما بين الشعوب والنخب (الحاكمة والمثقفة على السواء).. لقد فقد الحكام، وأصحاب الايديولوجيا المسيطرة القدرة على تفسير ما يحدث، ولم يعد لديهم ما يقولونه إزاء "الشبح" المرعب الزاحف في أنحاء العالم.. والحرب اليوم هي حرب الكل ضد الكل، والفرد ضد ذاته وضد الآخر (قتلنا أن الواحد منا يحمل في الداخل ضده- كما يقول مظفر النواب).
إن هذا هو أفق ما بعد الحداثة المنظور، أو الفعل المؤسس لها : كسر كل مرجعيات المعاني المشتركة بين البشر وذلك لتحويلهم الى أفراد وحيدين متنازعين متصارعين في حرب أزلية على نمط الأفلام الأميركية الرائجة..
لقد خرجت البشرية من مرحلة الحروب على الطريقة الكلاوسفيتزية (الحرب هي امتداد للسياسة بأشكال أخرى) لتدخل في مرحلة الانبجاس حيث الحرب تنتشر في كل العلاقات الانسانية فتجعل السياسة هي امتداد للحرب بأشكال أخرى .. فيصير السلم أملا منشوداً أكثر من أي وقت مضى: السلم الداخلي، مع الذات عبر الطمأنينة والسكينة، والسلم الأهلي والعام، عبر احترام حق الآخر والاختلاف والتنوع، كسنة الهية كونية بشرية..
ان تجاوز أزمة الرأسمالية/الاشتراكية لن يأخذ شكل "سهرية" أو حفلة راقصة (نسخة معلمنة لرؤيا يوحنا في رجعة المسيح) وانما هو سيكون عبارة عن انبثاق مئات المطالع لفجر جديد للبشرية، أي تفتح مئات الورود والأزهار (بحسب تعبير ماوتسي تونغ) أو بالأحرى مئات المساحات والفضاءات المستقلة المتحررة من السيطرة الحداثوية الغربية (الرأسمالية الجديدة المتوحشة).
ولا يمكن تجاوز الحداثة الغربية وما بعد الحداثة، بالعودة الى الوراء وانما باستنباط قيم ومعايير أصيلة متجذرة في تراثاتنا الروحية، ومندرجة في سياقات معاصرة ، وفي تطلعات ورؤى حديثة. علينا توليد فكرنا الجديد الخاص بنا، على صورتنا، أي صبغتنا الخاصة التي تسمح لنا بإعادة التأسيس الجذرية لمسارنا.
ما العمل؟
إن السنوات والتجارب الماضية قد كشفت لنا عن أن الهول الذي يواجهنا عرباً ومسلمين، كما مسلمين ومسيحيين، كبير جداً، ويتناول سلامتنا الجسدية المادية، ومضموننا الثقافي والقيمي، ومصالحنا الإقتصادية، في أخص ما لها من خصائص وفي أشمل ما لها من أطر. كما يتناول دورنا في العالم، إذ يراد لنا أن نكون مجموعة من البشر تزّود العالم المتقدم إمكانات السوق وتستهلك ما ينتجه على كل الصعد، وتبقى كماً مهملا لا دور لها ولا ريادة في صنع هذه المرحلة من التاريخ.
إننا في العالمين العربي والإسلامي (وفي القلب منهما لبنان) بما نحمل من قِيَم ، نريد أن نتواصل مع العالم ونثريه، ونتعاطى معه على قاعدة "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا"... فليس موقفنا من أية صيغة للنظام الدولي موقف الرفض أو التبني، وإنما نريد أن نكون جزءاً من هذا النظام الجديد إذا كان عادلاً ونريد أن نتكامل معه على أساس المساهمة في صيغته لا على أساس التلقي والخضوع.
إن الوضع العالمي الجديد يبعث على القلق وهو يثير أسئلة قلقة حارة لا نملك أجوبة لها بعد. وعلينا أن نطرح هذه الأسئلة وأن نقترح ما ينبغي أن يكون وأن نطلق حالة حوار فكري ثقافي سياسي تتواصل مع غيرها من المؤتمرات والمنتديات العربية والإسلامية ومع حركات اليقظة والتجديد والإبداع في اجتراح الأطروحة الثورية المعاصرة.
إن العالم الثالث عموماً، والعالم العربي والإسلامي بالتحديد، ولبنان على الأخص، يسير نحو أوضاع مثيرة للقلق الشديد. ولا تنفع هنا الوصفات الجاهزة من قبيل <<الإسلام هو الحل>> أو <<الدولة المدنية هي البديل>> أو رفع شعارات العلمنة أو طرح نظريات مستوردة من خارج مكاني وزماني وثقافي وتاريخي مغاير، أو ما شاكل كل ذلك... إن علينا تقديم أجوبة على التحديات التي تثيرها إشكالية بناء الدولة المدنية في عالمنا العربي والإسلامي، وإشكالية العلاقات بين الطوائف، وإشكالية العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين الأمة والوطن، وبين الفرد والجماعة، وبين المواطنة والطائفية الثقافية والسياسية.
إن من همومنا أيضاً أن نبحث مع غيرنا عن الشروط الضرورية لبناء الدولة الوطنية المدنية الجامعة المتواصلة مع مجتمعها، المتكاملة معه والمعبّرة عنه، الدولة المتوازنة غير المستبدة أو المتسلطة، ولا الغائبة أو المغيبة. إن إجتراح صيغ تنظيمية جديدة لفكر سياسي جديد، هو الطريق لنهضة حقيقية وتاريخية.
إن الحريات شرط للمعرفة وبقاء المجتمع الأهلي والمدني، وإن الديموقراطية شرط لتطور مجتمعاتنا ونهوض أمتنا وتقدم شعوبنا. إن الدولة الحديثة في العالمين العربي والإسلامي لم تنتج نموذجاً للديموقراطية الخاص بها فلجأت إلى أشكال من الديكتاتورية الظاهرية والمقنعة، يستوي في ذلك أنظمة السلاطين وأنظمة الظباط.. ولكن الجرح الذي تسببت به ديكتاتورية النخب الطائفية العسكرية الملتحفة برداء الثورة والتقدم والتغيير، هو جرح خطير أدى ويؤدي إلى تدمير البلاد والعباد...
إننا ندعو إلى المهادنة والمصالحة الداخلية ووقف الاحتراب والنزيف في مجتمعاتنا العربية وذلك على قاعدتي الحوار والتعددية : الحوار الإسلامي المسيحي، والحوار الإسلامي العلماني، والحوار بين الأنظمة الجديدة والقوى السياسية والجماهير الشعبية. إن هذه الدعوة قد تكون مثيرة للجدل الكبير والكثير ذلك أنها تصدم نمطاً وسياقاً في العمل السياسي وفي الفكر والمناهج، حكمت أمتنا ومجتمعاتنا وحركاتنا السياسية، وكانت برأينا المسؤولة عما نحن عليه اليوم من تخلف وهزيمة ومن إنتظار وتوقع لأكبر المخاطر في المستقبل. ولقد آن الأوان لإطلاق طاقات الحوار السياسي وقبول الآخر، والسلم الأهلي، والنهضة والإنماء الإنساني الشامل، ولقبول التعددية الحزبية والسياسية، وتداول السلطة بالوسائل السلمية وعبر صناديق الاقتراع، ولتوطين الديموقراطية في حياة مجتمعاتنا وصون الحريات واحترام الحقوق والواجبات.
إن دخولنا عالم الغد باعتبارنا شركاء ومسؤولين لا عملاء وتابعين مرهون بتنظيم شروط ذلك أي أن نغيّر ما بنا ليمكننا الله من تغيير وضعنا وما حولنا.
إن الشرط الداخلي للنهضة هو نحن: وحدتنا الداخلية وسلامنا الأهلي وديموقراطيتنا وحرياتنا.
وإن الشرط الخارجي للنهضة هو التوازن والعدل في السياسة الدولية. غير إن عدم تأمين الشرط الخارجي لا ينبغي أن يؤدي بنا إلى التضحية بالشرط الداخلي.
إن طموحنا هو المساهمة في أطروحة انخراط الأمة من خلال قياداتها كلها في مجال الفكر والمعرفة والسياسة والتنظيم لمواجهة التحديات، وإلى دمج القوى الكامنة في أمتنا عبر المصالحة والحوار الحي المفتوح بين مجموعاتنا دولاً وموارد وقوى سياسية وفئات ثقافية وإجتماعية.
إن السياقين الكبيرين في صنع الحاضر والمستقبل منفصلان. فالقرار السياسي يعمل في سياق ومؤسسات الفكر والبحث تعمل في سياق آخر. صحيح أنه توجد مادة معرفية ولكنها لا تدخل في الآلية التي تحولها إلى طاقة. فآلياتنا تعمل من دون طاقة لأن طاقاتنا مبددة أو مخزونة أو مستغلة للآخرين. لن تستطيع المبادرة بالطبع حل هذه الإشكالات ولكن يكفي طرحها بوضوح وجرأة والحوار حولها وتعميم ذلك لتكوين حالة من المعرفة ومن التضامن تسمح بخطوات لاحقة.
إن المطلوب طرح الأسئلة بطريقة جديدة تستعيد وتستدعي وتحمل هموم مفكري النهضة جميعاً، من مسلمين ومسيحيين، ومن إسلاميين وعلمانيين، ومن اجتماعيين واشتراكيين، ومن اصلاحيين وثوريين، وإعادة طرحها آخذين في الاعتبار ما استجد من معرفة ومن تجارب وتحولات واحتمالات مستقبلية وشؤون حياتية وعلاقات بين الأمم والشعوب، تمهيداً للإنشغال في الإجابة المفتوحة القابلة للاغتناء بكل ما يطرأ ويستجد بالعلاقة مع وقائع التاريخ ومعايشة الحاضر واستشراف المستقبل.
إن على المشروع الحضاري الجديد للنهضة أن يطل عبر هذه الإشكاليات والتحديات على رحابة الفكر الانساني العالمي وقدرته على الإغناء والتجديد والتطوير والإنماء. وأن يطل على ضرورة تكوين مناخ نفسي وجداني عقلي يعزز ويدعم الشخصية الحضارية السوية للفرد وللمجتمع.
إن ثقافة الحرب والاحتراب، والفتنة والجهل، والتكفير والهجرة، قد أكلت وتأكل عقول الناس، وأفسدت وتفسد قلوب وأذواق الناشئة. وهي أفقدت مجتمعاتنا روحها السمحة وفرحها القرآني والانجيلي ، وسويتها المدنية المطمئنة، وإن من أولى واجباتنا إطلاق طاقات الخير والبركة والحب والتضامن، وإعادة ترميم ذاكرة العيش المشترك وثقافة الوحدة، أي إعادة بناء الشخصية الحضارية السوية للفرد وللمجتمع، للوطن وللدولة.
إن إعادة البناء هذه هي عملية ثقافية ضرورية تشمل اللغة السياسية اليومية والأفكار المسبقة الرائجة، والمسلمات الخاطئة، والسلوكيات الشاذة المقيمة بين ظهرانينا، والأخلاق المستوردة والمشوهة، والانبهار السطحي بالخارج، والامتلاء المغرور الفارغ، وفقدان الشخصية الواثقة الناضجة الحكيمة المطمئنة... إن إعادة البناء والتأهيل هذه تمر عبر تأصيل القيم والمبادئ الدينية المشتركة والأخلاق الإنسانية العالمية ودروس التجارب الثورية الأممية.
إن فهم الواقع واستشراف آفاق المستقبل وبالتالي رسم خطة لانتقال صحي سليم باتجاه المرتجى لا يمكن أن تتم إلا من خلال الحوار كمنهج وليس فقط كشعار. ان الحوار الساعي إلى تطوير المساحات المشتركة وتعزيز التضامن حولها، بعيداً عن نزعات الاجتزاء أو المصادرة، هو منهجنا.
إن هذا المعنى يتطلب صياغة تفكير ثوري جديد، نقدي وتقدمي، أصيل ومجدد، منفتح ومتجذر، تطويري وتضامني، يعيد إدراج الناس في التاريخ وفي صنع المستقبل.
إننا ندعو إلى الإرتباط الفكري النظري، كما السياسي العملي، بمدرسة الممارسة العملية، عبر التعلم من التجارب والاستفادة من منجزات الحضارة العالمية والبناء على أرض صلبة وخوض حرب الشعب المدنية الطويلة الأمد في ظروف ثورة المعلوماتية والنظام الدولي الجديد..
إن الهدف هو بناء تيار فكري يعترف بحق الآخر في الوجود وبعطائه للشعب في الحاضر والماضي، والتعاون معه من أجل عطاء متجدد في المستقبل...
إننا ندعو إلى بلورة تيار ثوري جديد يمثل جمهرة العرب من الرجال والنساء البسطاء، وهم في الغالب فقراء ولكنهم دائماً صادقون ومخلصون ومتدينون وشرفاء، وهم ضد التبعية والتغريب، ومع حقوق الشعوب في كل أرض، وضد عدو الناس من كل لون، ومع المقهورين المسلمين والمسيحيين والعلمانيين والملحدين، وضد الطغاة الظالمين...
إن مشروع النهوض الحضاري وتياره هو مشروع لتجاوز التفكير المذهبي والطائفي الضيق الأفق، ونقصد به هنا ليس فقط المذهبي الديني والطائفي الديني وإنما أيضاً وخصوصاً المذهبي العقائدي والديني الأيديولوجي. وهو مشروع لإعادة الاعتبار للعلم والمعرفة، للفكر والوعي النقدي، للجد والجهد والاجتهاد، للحوار وللممارسة النظيفة، للتضامن وللمشاركة، فنعيد الاعتبار بذلك للسياسة كعلم وفن، كممارسة نظرية وكفاعلية إجتماعية، لمصلحة الناس، وبواسطة الناس، أي لنعيد موضعة السياسة في سياق تجربة الحق والعدل في حياة البشر.