الثلاثاء، 16 أغسطس 2011

دعوة المسيحية إلى العقل

ميشال كيلو
يبدو أن الخراب صار عاما إلى الدرجة التي تجلعنا نغادر ونحن سعداء خير ما كان في حياتنا من عادات وتقاليد تضامنية ومفيدة. في طفولتي الأولى، اصطحبني والدي من القرية التي كان يخدم فيها كدركي إلى اللاذقية. خلال سيرنا في الشارع، كنت ارتبك واخف عندما يترك يدي أو تمر واحدة من السيارات، النادرة جدا تلك الأيام. وبينما نحن على هذه الحال، بدأ الخلق يغلقون حوانيتهم ويقفون أمامها لتلاوة الفاتحة، بينما كان المسيحيون يرسمون إشارة الصليب، ووالدي يقف باستعداد رافعا يده نحو رأسه بتحية عسكرية نظامية، بعد أن جمع قدميه بعضهما إلى بعض في وقفة انضباطية رسمية. بعد مرور الجنازة، علمت أن المتوفى كان رجلا يهوديا من آل شيحا، الأسرة المعروفة والمحترمة في لاذقية ذلك الزمن، رغم أنه لم تكن تفصلنا فترة طويلة عن مأساة فلسطين وتخلي الصهاينة العرب عنها للصهاينة اليهود .
... واليوم، تعقد في مكان محدد من دمشق حلقات رقص ودبكة وغناء، يمجد خلالها النظام القائم وتعظم رموزه، مع أن رائحة الموت تزكم أنف سوريا من مكان الرقص السعيد إلى أبواب بيوت وأحياء كثيرة يقتلها الحزن. ما الذي جرى للناس ولسوريا، حتى انقسمت إلى هذا الحد، وفقد بعض ناسها الشعور بالتضامن مع غيرهم؟ ممن يطلبون شيئا يريدونه للجميع، يفتقر إليه السوريون - بمن فيهم هؤلاء الراقصون في حضرة الموت - هو الحرية، ويعلنون في كل مناسبة أنهم يرون حتى في الراقصين أخوة لهم، وأن حريتهم هم أيضا، يجب أن تكون مضمونة بقوانين الدولة المدنية الديموقراطية، التي تستحق أن يضحي المرء من أجلها؟ أين كنا وأين صرنا؟
هذا الذي قلته هو مجرد مدخل إلى المسألة التي أريد مناقشـتها. صحيح أن الراقصين يمثلون أنفسهم فقط، بدليل أن هناك نيفا وستين صبية وشاباً مسيحيين اعتقلوا خلال الأسبوع الفائت وحده في حي باب توما، حيث يرقص هؤلاء. وصحيح أن الراقصين أحرار في أن يحبوا ويكرهوا من وما يريدون، لكن موقفهم يتحول إلى مشكلة بقدر ما يوهم بأنه يعكس حصة المسيحية السورية الرسمية من الأحداث العربية عموما والحدث السوري بوجه خاص، ويعد خروجا على تقاليد مجتمع يحترم الموتى، بغض النظر عن دينهم، وضربا من سلوك غير إنساني يصل إلى حد الرقص على جثث الآخرين، لمجرد أنهم ليسوا من طينة الراقصين، أو لأن هؤلاء يرفضون مواقفهم، مع أن بينهم ضحايا يجب أن يمتنع الراقص عن إبداء سعادته لمقتلهم هم جنود الجيش وعناصر جهاز الأمن!.
هل فاتت الراقصين هذه الحقيقة، وهل فات من يستطيعون التأثير عليهم أن رقصهم قد يفضي إلى مزيد من القطيعة والعداء بين مكونات الشعب الواحد، التي عاشت متآلفة متآخية على مر تاريخ يمتد لنيف وألف وخمسمائة عام، احترم المسلمون خلالها الوجود المسيحي في دياره، وحموه ودافعوا عنه، واعتبروه جزءا من ديانتهم الخاصة ووجودهم الثقافي والحضاري، ومكنوه من تجاوز محن وتحديات تاريخية هائلة الخطورة كالحروب الصليبية، التي دأبوا إلى اللحظة على تسميتها «حروب الفرنجة « لفصلها عن الدين المسيحي، وكالاستعمار الأوروبي، الذي لعب التبشير الديني دورا تمهيديا خطيرا في الإعداد له، ودورا لا يقل خطورة في ديمومته وسطوته، بينما لعب المسيحيون العرب، بالمقابل، دورا لا يقل أهمية في بناء وتوطيد الدولة العربية / الإسلامية، وفي التأسيس الفكري والمعرفي للثقافة التي عرفتها حقبة الازدهار التي أعقبت انتشار الدين الحنيف في أرض العرب. في حين بلغ التسامح المتبادل درجة جعلت الفهارس العربية، التي تحدثت عن علماء المسلمين، تبدأ بأسماء بن بختيشوع وحنين ابن إسحاق وسواهما من علماء الدولة والحضارة المسيحيين، من دون أن يجد مسلم واحد غضاضة في ذلك أو يسجل التاريخ أن أحدا من المسلمين اعترض على اعتبار هؤلاء العلماء المسيحيين مسلمين .
كان المسيحيون جزءا من الجماعة العربية / الإسلامية، ولأنهم رأوا أنفسهم بدلالتها، وليس بأية دلالة سياسية ضيقة، تمكنوا من لعب دورهم في حاضنة واسعة وعامة اعتبرتهم جزءا تكوينيا من نسيجها، لا حياة لها بدونهم، وبالعكس، لذلك حرصت عليهم وأبقت على إيمانهم، الذي لم يحفظ التنوع داخلها وحسب، بل وازدهر أيضا بفضل التكامل والتفاعل مع مكوناتها الإسلامية وغير الإسلامية.
بكلمات أخرى: لم تكن الجماعة - الأمة - المسلمة ترى الآخر في مسيحييها، بل كانت ترى نفسها فيهم أيضا، فهم هي، في صيغة خاصة، مغايرة. وكل مساس بهم يعد مساسا بوجودها وتكاملها وطريقتها في العيش، كما في تسامحها، الذي كان معياره الرئيس الموقف من المسيحيين وديانتهم. بينما استعرت في الوقت على جبهات التنوع الإسلامي الخاص صراعات قاسية لم تعرف التسامح في أحيان وحالات كثيرة. بدورهم، اعتبر المسيحيون أنفسهم جزءا تكوينيا من جماعة تاريخية سابقة للدولة والسياسة، فلم يروا حقوقهم بدلالتهما، لأن الجماعة نفسها لم تكن تنكر عليهم حقهم في الصعود والارتقاء داخلها، دون تمييز اجتماعي أو أخلاقي، حتى أنها سمحت لهم في بعض الحالات باستثناءات تتعلق بدورهم العسكري في الدولة، الذي كانوا عادة وتقليديا بمنأى عنه .
هل فقد مسيحيو العصور الحديثة هذا الدور وتحولوا من جزء في جماعة تاريخية إلى جزء من سلطة طارئة وعابرة، فبدلوا دورهم وغربوا أنفسهم عن حاضنتهم المجتمعية، التي كانت السلطة من خارجها معظم الوقت؟ وهل يعبر الرقص الحديث عن هذا الموقف بالطريقة الفظة التي يتقنها منخلعون عن الواقع يجهلون أو يزدرون تاريخهم، يظن من رباهم كنسيا على عنصرية دينية قاتلة أنهم يجب أن يكونوا كأسلافهم خدما للسلطة، وأن عليهم تمضية أعمارهم في اتقاء شرورها وخطب ودها ولعق قفاها؟
إذا كان هؤلاء قد أصبحوا جزءا من الســلطة، فما هي المزايا الـتي عادت عليهم من لذلك؟ هل يبرر التحاقهم بالسلطة انفكاكهم عن الجماعة التاريخية، التي لطالما انتموا إليـها وتكفلت باستــمرار وجودهم بينها، وبتمتعهم بقدر كبير من الحرية الدينية والمدنية، علما بأنها هزيمتها على يد السلطة الحالية ليست غير ضـرب من المحال أو من المصادفات العابرة؟ هل وازن هؤلاء بين الربح والخسارة، وقرروا الرقص على جثث الجماعة؟ وفي هذه الحـالة، ألا يرون ما وقع للمسيحيين في العراق، حيث كان ارتباطهم بالسلطة المسوغ الذي استخدمه مجانين الإسلاميين للقــضاء على وجودهــم في بلاد الرافدين؟
وهل فكر المسيحيون بالمعنى التاريخي الهائل للتغيير الذي يشهده العالم العربي الآن، وبانعكاساته على الجماعة التي ينتمون إليها وعليهم هم أنفسهم، ويرجح أن تعقبه حقبة نهوض غير مسبوقة ستبدل أوضاع المجتمعات والدول، ستكون قيمها متفقة لأول مرة في تاريخنا مع القيم التي يقوم عليها العالم الحديث، وستتيح مصالحة تاريخية تطوي صفحة الصراع بين عالمي الإسلام والمسيحية الأوروبية، الذي بدأ عند نهاية القرن السابع الميلادي واستمر إلى اليوم، دون أن يتأثروا هم بنتائجه، مع أنه شهد مراحل حلت خلالها هزائم جسيمة بالمسلمين؟ يبدو أن الكنائس المسيحية لا تفهم ما يجري، ولا تفكر بلعب أي دور جدي فيه، وأنها تفوت السانحة الفريدة على الجماعة التي تنتمي إليها، وهي في غالبيتها من المسلمين، وعلى نفسها، وتفضل البقاء حيث هي: إلى جانب الظلم والاستبداد، والرقص على أشلاء الأموات المظلومين.
والآن، وبما أن الدين ليس ملك الكنيسة، التي تبلد شعورها وفقدت علاقتها مع الواقع ومع حساسية المسيحية الإنسانية، ولأن للعلمانية الحق في ممارسة وفهم الدين بالطريقة التي تريدها، خارج وضد الكنيسة أيضا، فإنني أدعو العلمانيين من مسيحيي المولد إلى فتح نقاش أو عقد ندوة حول موضوع وحيد هو سبل إعادة المسيحيين إلى موقعهم الصحيح من الجماعة العربية / الإسلامية، وإلى دورهم الثقافي / المجتمعي في خدمتها، بعيدا عن أية سلطة غير سلطة الجوامع الإنسانية والمشتركات الروحية والمادية التي تربطهم بها، في زمن التحول الاستثنائي الذي لا سابقة له في تاريخ العرب، ويمثل فرصتها لامتلاك وبناء الدولة التي تعبر عن حريتها وحضورها في شأن عام عاشت المسيحية فيه وبفضله، لأنه كان مرتبطا بالدولة في مفهومها المجرد والسامي، ومنفصلا عن شأن سلطوي استبدادي الطابع والدور، مما حمى المسيحية من شرور وبطش السلطوية وغرسها بعمق حاضنتها الطبيعية، المستقلة نسبيا عن السلطة والسياسة، بفضل الإسلام وفضائه الإنساني: المتسامح والرحب .
إذا كان العلمانيون في الدول العربية المختلفة يدركون أهمية هذا التحول التاريخي، الذي يجب أن يرد المسيــحية إلى مكانها الصحيح من مجتمعاتها، فإن واجبهم يكون المبادرة إلى فتح هذا النقاش أو عقد هذا المؤتمر الذي لا بد أن يضم ممثلين عنهم يلتقون في بيــروت أو القاهرة، يتدارسون خلاله كل ما هو ضروري لرد المسيحية إلى موقعها التاريخي كجزء من المجتمع العربي / الإسلامي، يخوض معاركه ويشاركه مصيره، يفرح لفرحه ويحزن لحزنه، ويرفض اعتبار نفسه جزءا من سلطاته أو خادما لديها، فيتقاسم مع مواطنيه أقدراهم، سهلة كانت أم صعبة. بغير ذلك، لن تبقى المسيحية في هذه المنطقة، وسيكون مصيرهم كمصير النظم التي يخدمونها: على كف عفريت، خاصة إن انتصرت بالفعل جماعات الإسلام السياسي المتطرفة، التي ينتحرون اليوم انتحارا مؤكدا لشدة خوفهم غير المبرر منها، ولا يجدون طريقة يردون مخاطرها بواسطتها عن أنفسهم غير الارتباط المجنون باستبداد يعلمون تماما أنه إلى زوال مهما طال الوقت، وأن طريقهم إلى التوطن في قلوب وعقول مواطنيهم لا يمكن بحال من الأحوال أن يمر من خلاله أو على جثث ضحاياه .
باختصار شديد: إما أن تغير الكنيسة مواقفها وتعود ثانية إلى كنف مجتمعها العربي / الإسلامي، أو أن يؤسس العلمانيون كنيسة مدنية تأخذ المسيحيين إلى حيث يجب أن يكونوا، مواطنين حريتهم جزء من حرية مجتمعهم وفي خدمتها. وللعلم، فإن التاريخ لن ولا يجوز أن يرحم أحدا: كنسيا كان أم علمانيا، إن هو وقف جانبا، أو رقص على جثث من يموتون من أجل حريته!

نحن والحداثة والعولمة


بول شاوول
ـ I ـ
"مشروع الحداثة الغربي الذي بدأ أساساً من عصر التنوير الأوروبي قد انتهى. وإننا ننتقل الآن إلى مرحلة جديدة من تاريخ الانسانية في مرحلة "ما بعد الحداثة". ومشروع الحداثة الغربي قام على أساس عدة عمد رئيسية، أهمها على الاطلاق الفردية والعقلانية، والايمان بفكرة التقدّم الانساني المطرد، والحتمية في التاريخ وفي الطبيعة" (من التحوّل الثقافي، كتابات مختارة في ما بعد الحداثة ( ـ )، تأليف فريدريك جيمسون ترجمة محمد الجندي، صادر عن أكاديمية الفنون، القاهرة).
غير أن المؤلف البارز الذي أصدر البيان الخاص بما بعد الحداثة ونعى موت عصر الحداثة هو الفيلسوف الفرنسي ليوتار في كتابه "الظرف ما بعد الحداثي: تقرير عن المعرفة" نشره بالفرنسية عام .
فالحداثة بحسب الرأيين الأول والثاني، محددة التاريخ والمعالم والقسمات. أي أنها كما يرى الاثنان ومعهما كثيرون، من صنع الحضارة الغربية، وتحديداً الأوروبية، والتنويرية. أنا شخصياً، لا أعرف حتى الآن ما معنى الحداثة أقصد أني لا أعرف لها تحديداً. ما هي الحداثة؟ ولماذا تستعمل "ال" الاطلاقية هنا التعريفية؛ بدلاً من قول "حداثة". كما أني لا أعرف متى بدأت هذه الحداثة؟ في أي عصر؟ في أي اختراع؟ في أي اجتراح؟ أو في أي معجزة؟ هل بدأت الحداثة مع اختراع "الدولاب"، أو في العصر البرونزي، أم مع الورق، أو مع الكهرباء، أو في المجتمع الزراعي، أو الصناعي؟ هل بدأت مع الفراعنة، أو حضارة ما بين الرافدين، أو الفراعنة أو الاغريق أو الرومان أو المسيحية أو الاسلام، أو مع الثورة الفرنسية...
فعندما تقول إنها بدأت مع عصر التنوير (وهو فترة حداثية بامتياز) فيعني ذلك أنها "فكرة" غربية، ويعني أن الحضارات القديمة أو المخضرمة الشرقية وغير الشرقية، هي فترات قحطاء. أي أنه تم اقتطاع تواريخ البشرية بإنجازاتها عن المساهمة في صنع هذه الحداثة. كما أنني لا أعرف ما هو تحديد الحداثة؟ ما هي الحداثة؟ هل هي مضمون؟ هل هي طريقة تفكير، أو طريقة عمل، أو سلوك، وماذا يعني أن يكون هذا الأمر حديثاً أو غير حديث، إذا قيست الأمور بالزمنية أو بالانجاز أو بالمضمون أو بالشكل أو بالأمر؟
إن محاولة ربط الحداثة بالعصر التنويري يوقع في ما يسمى فكرة "الاقتطاع" أو الاجتزاء التي روّج لها الغرب في مرحلته الاستعمارية الكبرى، وكأن التاريخ سلسلة مراحل منقطعة عنه بعضها، أو منفصلة في تجلياتها وسيرورتها. بل وكأن هذه الحداثة (التي لا نعرف لها تاريخاً ولا تحديداً) من صنع جهة واحدة، طلعت من العدم، وليس من التراكمات التاريخية. بل كأن التاريخ لحظة تضيء لدى شعب ما ثم تنطفئ، ليبدأ شعب آخر من الصفر. أي كأن التاريخ مجموعة أصفار تتلاغى وتتناكر دون لقاء أو تفاعل أو جدلية أو حوار. ونظن أن الغرب في بعض مراحل قوته وهيمنته اتبع عبر سياسة الاقتطاع هذه، نوعاً من مصادرة التاريخ وإنجازات الحضارات الأخرى، تماماً كما كان يصادر ثروات البلدان التي كان يسيطر عليها بالقوة، وبالتفوّق، أو بالغزو.
ونذكر أنه منذ الخمسينات (وما قبل) بدأت في الغرب نفسه، أوراق نعي الحداثة لتعلن موتها. فهي التي بدأت في الغرب ها هي تموت في الغرب. والذي لا يعرف تاريخ ولادة الحداثة من المستحيل أن يحدد تاريخ المراثي: "موت الانسان"، "موت الفكر"، "موت الايديولوجيا"، "موت الله"، "موت الدولة"، "موت ماركس"، "موت الفن"، "موت السينما"، "موت المسرح"، "موت الرأسمالية"، "موت أوروبا"، إلى آخر هذه الميتات المفاجئة، هذه الفكرة "العدمية" بامتياز استكملت مسيرتها لتعلن عصراً "انبعاثياً" جديداً: "ما بعد الحداثة"، ولتضيف الـ"ما بعد" إلى جملة من الظواهر والجواهر: "ما بعد الفن"، "ما بعد الفلسفة"، "ما بعد الدولة"، "ما بعد الايديولوجيا"، "ما بعد القصيدة"، "ما بعد الدراما"، "ما بعد الرواية"، انقلاب شامل، موصول، على كل ما اعتقد أنه جزء من التنوير أو ثقافة التنوير.
من الحداثة إلى ما بعد الحداثة. من مشروع إلى نقيضه. وكما حددت مهل الحداثة حدد ما بعدها. وكما عينت النهاية، عينت البداية. هكذا كرد فعل. كثورة مضادة، ومن جديد، ومن المنطلق "الغربي" نفسه (يحكى اليوم عن موت الغرب) مورست فكرة الاقتطاع. والالغاء، موت بلا قيامة، ولا ارث. والسجال الأساسي، بقي في الأساس سجالاً غربياً أيضاً. الغرب يلغي نفسه، ثم يعيد تركيبه بأدوات وأفكار "جديدة" غير مسبوقة.
ـ II ـ
يحدد الـ"ما بعد الحداثيين" معالم مرحلتهم الراهنة، بسقوط "النظرية الكبرى وعجزها عن قراءة العالم" أي سقوط "الأنساق الفكرية الكبرى المغلقة التي تتسم بالجمود، والتي تزعم قدرتها على التفسير الكلي للمجتمع ومن نماذجها البارزة الايديولوجيا (لا سيما الماركسية)، وسقوط "فكرة الحتمية سواء في العلوم الطبيعية أو في التاريخ الانساني" إذ ليس هناك، كما يرى "الما بعد الحداثيين"، حتمية في التطوّر التاريخي من مرحلة إلى مرحلة. لكن على العكس فالتاريخ الانساني "مفتوح على الاحتمالات المتعددة" ومن هنا رفض "فكرة التقدّم" الكلاسيكية التي كانت تتصوّر تاريخ البشرية "وفق نموذج خط صاعد من الأدنى إلى الأعلى". فالتاريخ الانساني، بحسب الرؤية الما بعد الحداثية، قد يتقدّم لكنه قد يتراجع أيضاً. وأحد الأمثلة: عجز فكرة التقدم عن منع الحرب العالمية الثانية، وظهور النازية والفاشية، إلخ.
وتدعوالحركة في "جانبها التشكيكي" إلى رفض الثنائية بين "الذات والموضوع"، بعدما دعت إلى إلغاء "الذات الحديثة" لأنها من اختراعات الحداثة، وربيبة "عصر التنوير والعقلانية". وتمضي هذه الحركة في محاولة تحطيمها الحداثة إلى رفض كل زعم لاحتكار "الحقيقة" لأن في ذلك "إرهاباً فكرياً غير مقبول"، وتقليص دور النظرية واستبدالها بحركة الحياة اليومية والتركيز على ديناميات التفاعل في المجتمعات المحلية، ما يؤدي إلى إلغاء "الفروق النوعية وإلغاء صور التعددية الثقافية والاجتماعية والسياسية"، أي إرادة هدم المبادئ التي قام عليها "مشروع الحداثة الغربي" برمته.
هذه الثورة "الشمولية" الرافضة، المدمرة، التي رأى بعضهم فيها "عدمية خالصة" وتعبيراً عن إفلاس "الرأسمالية الغربية"، وشكلاً من أشكال "الحتمية" المتجدّدة، أثارت سجالاً عنيفاً، وردوداً من جانب عدد من المفكرين الذي تساءل: وهل دخلنا في عالم الحداثة حتى نهتم بحركة ما بعد الحداثة".
ومن المنطلق "الغربي" بالطبع (نكرر أن السجال الحقيقي كان غير عربي)، رد الفيلسوف الألماني هابرماس وارث تقاليد المدرسة النقدية الشهيرة بمدرسة فرانكفورت (ومن أعلامها ادورنو وهوركلهيامر، وماركوز)، لينسف بدوره الفكرة المركزية لحركة ما بعد الحداثة، الزاعمة نهاية عصر الحداثة.
ولا يغيب الماركسيون، في هذا الخضم الوعر، الذين وقفوا موقفاً نقدياً عنيفاً أيضاً ضد هذه الحركة كفريديرك جميسون والانكليزي تيري إيجلنون، الذي رأوا أن الأفكار التي تدعو إليها حركة ما بعد الحداثة "أشبه ما تكون ببنية فوقية تقوم على بنية تحتية هي علاقات الانتاج الرأسمالية الاحتكارية"، وإن رؤيتها العدمية للحياة ليست إلا "إفلاساً سياسياً وفكرياً واقتصادياً للرأسمالية المعاصرة".
بين هذين السجالين نعيد السؤال بطريقة أخرى: الما بعد الحداثة هل هي في عمقها، وحتى في منحاها التدميري القاطع، جزء من الحداثة، أو خروج كلي عليها؟
المسألة الأساسية في رؤيا الما بعد الحداثيين، تكمن في اعتبار أن الحداثة كتلة تاريخية مغلقة (مدرسة أو ايديولوجيا) بلا شقوق ولا تناقضات، وأنها امتداد للتنوير الحديث. لكنها لا ترى، من خلال ما حاولت تهديمه في الحداثة وما دعت إليه، ان معظم ما هدمه أو كله تتضمنه الحداثة نفسها. فما بعد الحداثة، كأنه إحياء للحداثة، أو استنبات "حقائق" ومفاهيم من متونها، أو جزء منها. فنفي "الحقيقة"، و"اللايقين"، والبنى التاريخية والمعطيات الجاهزة والتفاعل، وتنوّع حركة التاريخ... (وما أشرنا إليه) ما هي كلها إلا من تجليات الحداثة نفسها أو من متونها أو من احتمالاتها. وهل يقول الما بعد الحداثيين جديداً عندما يعلنون موت العقلانية مثلاً؟ الدادائية والسوريالية وقبلهما المستقبلية، وما قبل الكل الصوفية، (وصولاً إلى جوانب من الفكر الشرقي والاغريقي)، وكذلك الرومانطيقية... والاتجاهات الغريزية والحدسية والماورائية، كلها تنفي العقلانية، أو تنفي أولوية العقلانية، لكنها وبرغم ذلك جزء من الحداثة التي تتميز (ولو ما زالت ناقصة باعتماد نماذجها "الغربية") بأنها تتكون أصلاً من التناقضات. وإذا كان لا بد من الاشارة أيضاً إلى نقد للايديولوجيات المغلقة (الماركسية بمشتقاتها الرأسمالية المتوحشة أيضاً) فقد كانت الحروب الفكرية مندلعة بين اليمين والليبرالية (الأوروبية) واليسار، حول هذا الشأن منذ قيام الاتحاد السوفياتي على أساس الايديولوجيا الماركسية ـ اللينينية، ليطول ذلك الايديولوجيا الأخرى الرأسمالية والليبرالية التي لم توفر هي أيضاً قيام دكتاتوريات أو تتصرّف كدكتاتوريات (ايديولوجية) في كثير من مراحلها المعاصرة. والنقد الموجه للشيوعية السوفياتية بأسسها ومكوناتها قام به أصلاً (من باب النقد الذاتي وغيره) الشيوعيون الأوروبيون أنفسهم في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، في الستينات من القرن الماضي، باعتبار أن الايديولوجيا الشيوعية ـ يمكن أن تعدل من بنيتها "المغلقة" وتنفتح على الأفكار الحرة الجديدة، لتلغي بعض الأسس الشيوعية كدكتاتورية البروليتاريا... معنى هذا أنه ليس هناك حداثة واحدة، ولا حداثة مكتملة أيضاً. وقد أشار هابرماس إلى ذلك عندما قال في إحدى مقالاته الشهيرة "الحداثة مشروع لم يكتمل". والحداثة باعتبارها مشروعاً غير مكتمل يعني أنها، بشكل أو بآخر مستوعب لكل المفارقات والامكانات بتراكماتها وبناها (التي رأى فيها الما بعد الحداثيين أنساقاً مغلقة) وشذورها، وفجواتها، وهشاشاتها الكثيرة. صحيح انه لا يبقى كل شيء من أي شيء، بفعل الزمن والتطوّرات والفجاءات غير المنتظرة، لكن الصحيح أيضاً أنه لا يطلع أي شيء من اللاشيء. وفكرة الما بعد حداثة، في سياقها الصادم، كأنما تريد أن تقول إنها، وفي تهديمها للحداثة، ونفيها، لم ترث شيئاً منها.
هذا المنطق "الانقلابي" العسفي، يوقع الما بعد حداثيين في نوع من الايديولوجيا التي ينكرونها، وتهديمهم "المنهجي" يصبح تهديماً قائماً على جهوزية، وقبلية، افتراضيين، بالمنحى التجريدي للعبارة، بل ويقعون في ما ينفونهم، أي، ومن خلال زعمهم تحطيم الأنساق المغلقة (من قيم وإطلاقية وجواهر) يسقطون في منطق هذه الأنساق. وادعاؤهم، محاولة فهم الظواهر والتواريخ فهماً "تفكيكياً" واستخلاص الأدوات من طبيعة هذا الفهم، إلا أنهم، وعبر هذا المنحى الانقلابي الشامل، أو فلنقل هذا المنحى "الاستعلائي"، أو هذا الانسلاخ التبريري، يقعون في "المحظور" الذي رفضوه (ولو افراضياً) أي نوع من اللازمنية التي تجعل العديد من مقولاتهم ضرباً من الميتافيزيقيا، أو التجريد، أو اليوتوبيا.
فهل يمكن القول مع هابرماس أن المشروع الحداثي لم يكتمل، وتالياً إن المشروع الما بعد حداثي هو فرع "متمرد" من فروع الحداثة؟
ـ III ـ
إذا كانت الحداثة ما زالت مشروعاً مفتوحاً والما بعد حداثة فرعاً من فروع هذا المشروع، فكيف نتعامل مع "العولمة"؟ أين نقف من هذين "المشروعين" آنياً على الأقل، ومن خلال كل هذه الالتباسات النظرية المتعددة؟
إن ما قلناه من أن الحداثة التنويرية جزء من الحداثة الكبرى المتمثلة بحركات التطوّر عبر الانسانية كلها، نقوله في العولمة، فهي ليست "مشروعاً" جديداً. والتاريخ مشروع عولمة مشرع منذ بداياته. وإذا كانت العولمة تعني ما في ما تعنيه، ومن دون تحديدات نهائية، انها مجموعة من القنوات والأدوات المتحوّلة التي تمت عبرها معظم الانتقالات الكبرى في الحضارات، فيعني أن العولمة، لا تقتصر على تاريخ معيّن، أو على طريقة عمل معينة، أو بطبيعة معينة، أو حتى بأمكنة معينة: إنها ملازمة لمشاريع التاريخ كله، منذ أقدم العصور وحتى اليوم.
لكن، وكما ربطت الحداثة بزمنية معاصرة، وبفعل الهيمنة والقوة والظروف، أي بزمنية التنوير "الغربي"، فإن العولمة اليوم، كأنما حدد ميلادها بمواعيد عديدة: منهم من يرى أنها بدأت منذ خروج أوروبا واهنة من الحرب العالمية الثانية، ودخول أميركا كقطب جديد في المعادلة الدولية. ومنهم من يرى أن هذه العولمة قد تكرّست أو تعززت (أو قامت) بعد سقوط جدار برلين وتوحيد الألمانيتين وانهيار الاتحاد السوفياتي؛ ومنهم يرى أن تطوّر المعلوماتية ووسائل الاتصال، بهذه الوتيرة المذهلة هو حد من الحدود الفاصلة في بروزها.
بمعنى آخر، ربطت العولمة، (حديثاً) بالأمركة، أو كما يقال "بالقطب الواحد"، و"بالقوة الأحادية" والهيمنة الأحادية، وكأنها ابنة القرن الماضي، وابنة أميركا تحديداً. عدنا من جديد إلى منطق "الاقتطاع" و"المصادرة" والتجزئة. وكما سُلخت الحداثة عن تواريخها الحضارية والثقافية السحيقة، سُلخت العولمة بحيث لم تعد مشروعاً تاريخياً متصلاً بمشروع الحداثة إلى حد كبير، بل مجرد ظاهرة آنية محكومة بالعناصر السياسية والايديولوجية والعسكرية والاقتصادية الراهنة. إنها كانت كذلك منذ فجر التاريخ. ولهذا نقول ان المعرفة كلها ظاهرة معولمة. والحضارات والانجازات. والحداثات. (والما بعد حداثة)، وكل المواصفات التي تعلق على العولمة القطبية اليوم هي مواصفات تاريخية رافقت كل القوى والأمم والامبراطوريات والأنظمة التي مثلت الامتلاك والسيطرة والتفوّق. أي أن كل قوة، تظهر في التاريخ هي قوة تسعى الى عولمة قيمها (بما في ذلك من قيم الشعوب المغلوبة أو السائدة) وعولمة مصالحها، وعولمة سيادتها. فالفراعنة وممالك الرافدين، والفينيقيون والاغريق والرومان والمسيحية والاسلام والعرب وأوروبا... كلها كانت ظواهر معولمة. والاستعمار الحديث المتمثل ببعض الامبراطوريات الحديثة كإنكلترا، وفرنسا، وإسبانيا، والبرتغال... هو استعمار اتخذت فتوحاته، بكل محمولاتها السياسية والاقتصادية والتجارية والعلمية والثقافية، منحى معولماً، والانتقالات الحضارية (وانتكاساتها أيضاً) الكبرى عبر الأزمنة، وما خلفتها من تحوّلات أصابت البشرية، تمت بفعل هذه القنوات المعولمة التي تطوّرت، بتطوّر الحاجات والضرورات المتصلة بتلك الظواهر.
فالعولمة (كالحداثة) فعل متصل. ويعني أنها ليست من صنع أمة واحدة. أو شعب واحد. بتراكماتها وإنجازاتها، لكنها، مع هذا، تتلوَّن وتتكوَّن وتتهيكل بأحوال هذه التحوّلات والمراكز والانتقالات. وهذا ما نراه اليوم. "العولمة" المدموغة بالأمركة، بالسطوة الامبراطورية، تتلوَّن وتتكوَّن وتتهيكل لسمات هذه الامبراطورية، لتحمل في ما تحمل، القيم المفترضة أو المعدلة أو المصوغة، لتتناسب وطموحات هذه الجهة المهيمنة وأطماعها وأهدافها. فهي تصبح إفرازاً "آلياً" لتلك القيم المرشحة لاختراق العالم، بحيث تصبح آلة ايديولوجية معممة تنشر مضامينها وأفكارها وبضائعها، فتستوعب ما تستوعبه من القيم الأخرى، أو تحارب ما تحاربه من الشعوب والأمم. وكأن "الامبراطوريات" لكي تبرر انتشارها، وتختبر تفوقها، وتغذي نرجسيتها التي تتجسد عنصرية، تجعل الحداثة آلة من آلاتها الخاصة. تبرمجها، أو تعيد صياغتها بما يوائم تصوّراتها وتطلعاتها ومصالحها. تجعل من الحداثة ومشتقاتها وإنجازاتها العلمية والتكنولوجية والثقافية، مستوعباً لها، وذريعة، لا لمصادرة الثقافات الأخرى، بل أيضاً، لمصادرة الحداثة، وقولبتها وتشويهها، بل وتجعلها "معطى" خاصاً، تستولي، عبره، على المنجزات، وتنسبها إلى نفسها، وتفصل من الحضارات ما تريد تفصيله على مقاسها، ولهذا رأينا الامبراطورية الأميركية، "تنهي" التاريخ، وتخترع ما سمي "صراع الحضارات" أو "صدام الحضارات"، لتجعل من الحضارات الأخرى تبريراً لما تهدمه منها. أحادية الثقافة وأحادية القوة، وأحادية التفوّق. وعندما نسمع من يقول ان العالم بات "قرية كونية" بفعل تنامي وسائط الاتصال والمعلومات، نكتشف بفعل "الاجتراحات" الامبراطورية أن هذه القرية صغرت واحترقت بمن فيها، واندلعت من نيرانها الحروب الاتنية والطائفية والدينية والقومية. وعندما نسمع بأن زوال الايديولوجيات المغلقة (كالماركسية) سيسمح بعالم تنتشر فيه الحريات والبحبوحة واليسر لا سيما عند الشعوب المغلوبة نجد بفعل انتهاب الامبراطورية خيرات العالم لا سيما الجنوب منه، عالماً يضج بالفقر والجوع والأمراض والحروب، والخوف، والتشرد، والهجرات، والعنف. لتصبح العولمة المتأمركة عولمة السيطرة والتخلف وتنامي المشاعر الدفاعية عن الذات والهوية، والخصوصية، كمتاريس أخيرة للدفاع عن آخر ما تظن الشعوب المقهورة أنها تمتلكه، لتتحقق مقولات "صراع الحضارات" و"الشعوب المختارة"، التي تقابلها الحضارة الأميركية (لا الغربية) المتفوقة. ولهذا، نجد اليوم هذه النزعة الاحتجاجية العالمية على العولمة لا سيما أوروبا، وخصوصاً فرنسا. فهذه الدول هي أصلاً من ميراث الاستعمار القديم. ويعني أنها كانت مصادر العولمة في القرون الماضية. ولهذا أيضاً نجد أن الحركة الاحتجاجية ليست على "العولمة" كإطار وقنوات ورؤيا مشتركة بين الشعوب، بل على العولمة المتأمركة.
وهكذا نرى أن الأمم المغلوبة على أمرها، والأمم المتقدمة في حداثاتها، تجتمع على محاربة العولمة التي صادرتها الامبراطورية. وتلتبس هنا الحداثة (وما بعدها) بالعولمة هذه. فيزدوج العداء لهما عند الشعوب المغلوبة، وينمو حذر شديد لدى الدول المتقدمة ومؤسساتها وأنظمتها من هذه الحداثة المتأمركة المعولمة التي تغزوها، بثقافاتها، ومصادرها، وحتى "هويتها": من صراع الحضارات، إلى الفنون، إلى التكنولوجيا، إلى درجة أنه بات يحكى اليوم عن "غربين" لا عن غرب واحد: الغرب الأميركي، والغرب الأوروبي، وعن صراع "حضاري" يبن هذين الغربين، وبين حروب ثقافية بينهما. إزاء كل ذلك ماذا يمكن أن نفعل، نحن العرب؟
ـ IV ـ
إلتباس العولمة بجوهر الحداثة، واستيعابها لها، وجعلها مسألة (وبضاعة) خاصة تستخدم، في كل مستوياتها وتعابيرها، وأشكالها، لقهر الشعوب، وفرض القيم الاستنسابية عليها، وتهديد مصائرها، أحدثت في شرائح كثيرة من العالم العربي والاسلامي والعالم الثالث هواجس ومخاوف خطرة، جعلتها ترتد إلى مواقع النقيض في علاقتها بهذه العولمة "الأحادية"، وجعلتها تلجأ إلى ينابيعها الأولى القومية والدينية والطائفية والاثنية. فالعولمة العنصرية (التوتاليتارية) تستدعي ما يشبهها. والعولمة ذات الامتدادات الثقافية الأصولية (التعصب، ومشاعر التفوّق والنرجسية الدينية)، والانحياز إلى الخطأ والظلم (القضية الفلسطينية، غزو العراق...)، تستحضر الأصولية، والتطرّف يستسقي التطرّف، ومنطق الفسطاطين يستدعي منطق الفسطاطين، والثنائية المانوية (خير، شر، أبيض، أسود) تستدعي شبيهتها. لكن المشكلة، عندنا، كشعوب أصبحت مغلوبة ومسبوقة ومهمشة ومهزومة ان هذه الهواجس المشروعة، خلطت بين أمور كثيرة: الحداثة كمشروع كوني مفتوح، والحداثة (المعولمة أحادياً) كمشروع هيمنة ومصادرة؛ الغرب كمرجعية خصبة في ثقافته المتراكمة والمتقدمة، والغرب كصورة مستعمرة؛ العولمة كوسيلة تكسر الأسوار وتزيل العوائق، وتقرب الشعوب، وتلغي المسافات، وتؤدي إلى تبادلية غنية بين الأمم والثقافات، وعولمة تفرض بضاعتها وايديولوجيتها وخصوصياتها. كل هذا عائد إلى أننا جمعنا الغرب كله وأميركا كلها (هناك أميركا الأخرى الابداعية التي اطلعت عظماء في العلوم والثقافة والآداب والفنون) والعولمة كلها (كمبدأ)، في سلة واحدة، وتراجعنا إلى المقاعد الخلفية، متحصنين بالرفض والانكفاء والخوف والعزلة. وإذا اعتبرنا، لأننا خارج لعبة "الحداثة" التي نسميها غربة (وهي ليست غربية)، لوهن أوضاعنا، وقصورنا عن المشاركة في صنع هذه الحداثة، وقمنا بردود فعل آنية، مباشرة، عاطفية، أو لا عقلانية، اننا خارج التاريخ والحضارة والعولمة، فإننا نرتكب بذلك الخطأ الذي تريد "الامبراطورية" وسواها أن نرتكبه: أي السقوط في القوقعة، والتعصب والانغلاق الاثني والديني والمذهبي والقومي، للتحصن في ما يسمى الخصوصية والسعي إلى استرداد الهوية والمحافظة عليها، وتقويمها، والعودة إلى الوراء لمقاومة الحاضر والمستقبل، كبديل من المشاركة في هذه الحداثة، أي النقاء الأول بديلاً من الحاضر المتعدد.
من الطبيعي أن نقول ان كل الثقافات كانت ثقافات اثنية، (وربما ما زالت كذلك حتى اليوم)، ولكن، وعبر تراكمات عشرات القرون من التحديث تم ما يمكن أن نسميه "الخروج"، أو مغادرة هذه "الاتنيات" بأشكال متفاوتة بين الشعوب، إلى أن أدت هذه الحداثات المتراكمة إلى نظرة جديدة للعالم، تحاول الخروج من الخصوصيات التقليدية، إلى ما هو مشترك بين الناس، وإلى ما هو "انساني" عام (لا إلى ما هو نقي خاص)، وإلى ما يدفع خارج الذوات المغلقة، لقيم، وإن انطلقت من منها، فإنها تتجاوزها إلى ما هو أبعد؛ أو بالأحرى تستنبش ما هو كوني في هذه الذوات، وصولاً إلى ما يتقاسمه البشر أينما كانوا، بصرف النظر عن أعراقهم ولغتهم وخصوصياتهم الاتنية.
فالعولمة القطبية التي صادرت إنجازات الحضارات، وتريد أن تخترع صراعات "حضارية" هي التي صادرت (سياسياً واقتصادياً) وحاولت مصادرة "الحداثة" الكونية هذه، التي صنعت كل الشعوب على امتداد ألوف السنين، ونسبتها في مرحلة قوة وتفوّق وطغيانية معينة من التاريخ، إلى ذاتها النرجسية المغلقة، لرفضها تقاسم "الحياة" و"المخيّلة" و"العقل" والتنوير والابداع مع غيرها، إنها الاحادية. كأنها سطو على كنوز البشرية الألفية والمليونية، وعملية إخضاع مبرمجة لسيادة الصوت الواحد، والأنا الذاتية المضخمة.
وماذا يمكن أن نفعل، عندما تلتبس، عندنا وعبر ردود الفعل، مفهوم الثقافة "بالاثنية"، أو العرقية، أو بالأصولية، أو بهوية "نقية" جد مختزلة؟ والذي يؤدي إلى المجازفة بتضخيم الفروقات والتمايزات الثقافية بيننا وبين الثقافات الأخرى. هذا التضخيم يعزل كل الشعوب ليس عن العالم وإنجازاته، وتجلياته، وعن التواريخ وصناعتها، بل عن تلك الذوات المتفتحة التي لا ترى أملاً في إخصابها، سوى بما يمكن أن نسميه الآخر. (والآخر هو الذات في النهاية، لكي لا نقع في هذه الثنائية). إذ إن أخطر ما نواجهه حالياً في العالم، ولدى الشعوب المغلوبة بأيدي العولمة الامبراطورية، والحداثة الامبراطورية، والسطوة الامبراطورية، انها، في ارتداداتها الدفاعية إلى الوراء، وإلى القيم والأمجاد والهويات البائدة، منها، وغير البائدة، انها تسهل أكثر فأكثر توسع "الأمركة"، وأشكال الهيمنات الأخرى عليها وعلى العالم.
فتضخيم الفروق يصب في مصلحة "القوى" العظمى، أقصد قوى السيطرة والاستغلال، ويؤدي إلى أنظمة غير متنوعة من العنصرية، تماماً كما هي الحال، اليوم، لا عند بعض شعوب العالم الثالث فقط بل وقبلها وربما بعدها، مع أميركا الجديدة (التي خرجت حتى على دستورها) ومع الصهيونية العدوانية، إحدى الظواهر الظلامية التي خلفتها شقوق الحداثة الاستعمارية.
إن مكتسبات الحداثة (الكونية المتراكمة) هي التي، عبر تنوّعها، وتنويريتها وقيمها الانسانية، ما يجب التمسك به. فالعقل التنويري (كعولمة تبادلية عادلة)، كأنه الينبوع المحايد الذي يمكن أن نستفيد منه، وتستفيد منه كل البشرية، (مقاومة العولمة والحداثة المتأمركة لا تعني استقالة العقل الحداثي التنويري). هذه الاستفادة خارج كل اعتبار ديني أو ايديولوجي أو اثني أو عرقي، بحيث إننا، كعرب، وعبر هذا "العقل" يمكن أن نفضي إلى نوع من "الأفكار العالية" قابلة، وبنسب ما، للتحقيق في هذه المستويات الاثنية (المفتوحة) والسياسية والاقتصادية. ويعني هذا، في ما يعنيه، التمسك بالقيم العقلانية التي من انجازاتها الحداثية الديموقراطية، والفردية، والمجتمعات المدنية، واحترام حقوق الانسان... فأي سلاح أفعل، في مواجهة أشكال التعصب الدوغماتي الذي يفيض حالياً من كل جهات العالم، غير التفكير (العقلاني) النقدي (من أسس الحداثة المعولمة الكونية)، الذي يملك القدرة على الخروج من ذاته، وكسر "المركزية الذاتية"، وإدراك قيم انسانية عالمية محايدة.
إن هذه "القيم العالمية "المحايدة" ايديولوجياً" (كما يقول المفكر الايراني المتنوّر درويش شايفانا في إحدى مقالاته)، المتحررة من كل لون طائفي، أو عنصري، تكون في حد ذاتها مشروع "هوية" مستقبلية، (والهوية مشروع مفتوح) خاصة، لأنها ليست اثنية أو دينية ولا وطنية (بالمعنى الشوفيني)، هوية تنتمي إلى العقل (التنويري) ذاته، وهذا لا يعني، بالضرورة، أن يفضي إلى نوع من "الاقتلاع"، أو الانسلاخ، بقدر ما يعني الانخراط في الذات للخروج منها إلى ما هو أشمل. وهذا لا يعني الاستكانة إلى ما هو نظري فحسب، ولا إلى ما هو "عمومي"، ولكن يعني أيضاً الانخراط في فعل الحداثية التنويرية (العقلانية في المقدمة)، للعمل على إقامة نظم عادلة، ومفتوحة، تتجاوز تحايل الأنظمة الاستبدادية التي تحاول، قدر استطاعتها، تغييب هذه العقلانية النقدية عند الناس خصوصاً أن اللجوء إلى الغيوب وأوهام الهوية، والتمسك بخصوصيات مكتفية، تصب كلها عند هذه الأنظمة سواء كانت ايديولوجية أو دينية أو طائفية.
فالمطلوب إذاً، لمواجهة العولمة "الموجهة"، و"الحداثة" "المصادرة" من قبل الاستبداد بين والاستعماريين، والامبراطوريين، الانخراط في "عولمة" (عالمية)، ذات قيم تسبق حدود الانقسامات الاتنية، بدلاً من أن نلجأ إلى تهويمات الانغلاق والعصبية والذات النرجسية، والهلوسات اليوتوبية المجنونة، و"المقدس"، والثابت.
إذا كان علينا الخروج من هذه الأزمات التي تتصل بالعولمة وما آلت إليه، وبالحداثة وما آلت إليه، (والما بعد الحداثة) وما آلت إليه ولو كفرع من فروع الحداثة، لا بد لنا من العودة إلى ينابيع التنوير بكل ما تضمنته، وإلى مقاومة كل ظاهرة تخرج على هذه التنويرية، ومواجهة الاستبدادية الآتية من "العولمة المتأمركة"، وكذلك مواجهة الاستبدادية الداخلية المتمثلة، في العالم الثالث؛ بالنظم الطغيانية، وعنف هذه الأنظمة القمعية، وكذلك عنف، ما يسمونه، اليوم "المقدس" الطالع من أعماق العصور والقبور الظلامية.

@ قدمت في المؤتمر الدولي بدعوة من معهد سرفانتس بعنوان "الحداثة والعولمة