لن يفلح الحزب في اختصار فكرة المقاومة و"الشيعة" بحزب واحد
علي الأمين
منع قاضي التحقيق العسكري الأول رياض أبو غيدا المحاكمة عن السيد محمد علي الحسيني وتركه حراً لعدم كفاية الادلة،. وقد جاء قرار أبو غيدا مخالفاً لمطالعة النيابة العامة العسكرية التي ميزته، وبانتظار البتّ بالقرار، يبقى العلامة الحسيني موقوفاً. وجاء القرار بعد نحو 3 أشهر من اعتقال الحسيني، وهو رجل دين شيعي، بتهمة "التعامل مع العدو".
وكانت مديرية المخابرات في الجيش اللبناني اعتقلت الحسيني وتولت بعض وسائل الاعلام القريبة من حزب الله الترويج لثبوت تهمة العمالة عليه، أسوة بما جرى مع امام بلدة كفرصير الشيخ حسن مشيمش الذي لم يزل معتقلا منذ 13 شهرا في السجون سورية بإيعاز من حزب الله. وبعد تهاوي التهم بـ"العمالة للعدو"، بحق الشيخ مشيمش والسيد الحسيني، يبقى الرجلان في السجن فقط لأن من عمل على تركيب التهم بحقهما لا يريد ان يفرج عنهما، وهو في هذه الحالة اي حزب الله، كما تؤكد اوساط قريبة من عائلتيهما.
هاتان الواقعتان المتصلتان برجلي دين شيعة معروفين بأنّهما يتبنيان مواقف لا تنسجم مع مواقف حزب الله السياسية او الفكرية، تظهران مدى الضيق الذي يصيب الحزب وقيادته حيال اي تعبير سياسي او اجتماعي مخالف لتوجهاتهما. وعلى قاعدة "عدم الاختباء خلف الاصابع" كما عبر الامين العام للحزب في اطلالته الرمضانية الاخيرة، يمكن الجزم بمسؤولية الحزب عن اعتقالهما التعسفي وترويج الاتهامات الكاذبة بحقهما من دون ان يرف جفن لأيّ من مسؤوليه. ولا احد يستطيع ان يتصور أنّه في لبنان يمكن ان يقوم جهاز امني لبناني باعتقال رجل دين شيعي بتهمة العمالة لاسرائيل، من دون ايعاز من قبل حزب الله، وفي الحد الادنى "استئذانه"، قبل القيام بهذه الخطوة. اما قضية الشيخ مشيمش فكل من حاول، من سعاة الخير، لدى الاجهزة السورية للافراج عنه او لتبيان اسباب اعتقاله، كان الجواب: "تابعوا القضية مع حزب الله"، هذا من دون ان يصدر بحق الموقوف اي اتهام، بل جرت تبرئته اخيرا، وانتقل من سجنه الانفرادي، حيث قضى عاما كاملا، على ما يؤكد ذووه، الذين سمح لهم قبل شهر بزيارته اسبوعيا.
سجن مشيمش والحسيني ظلما وعدوانا يكشف ميزان "عدالة" الحزب
هذان الرجلان المظلومان من قبل حزب الله، على سبيل المثال لا الحصر، كما تبين لاحقا، واللذان لاكت الالسن سيرتهما في عمالة مفبركة للعدو، ظلما وعدوانا، وبتشجيع وتحريض حزبيين، يكشفان الميزان الذي تقيس به قيادة الحزب الظلم والعدل.
إذ حين تتهم المحكمة الدولية بعض عناصره بجريمة اغتيال رفيق الحريري، يريد حزب الله من كل الناس ان تجاريه بقناعاته حيال براءتهما، لا بل يتهم كل من يدرج هذا الاتهام في سياق قانوني وعدالة دولية، بانه متآمر ليس على عناصر في الحزب فقط، بل على المقاومة التي لا يمكن لحزب او رجل ان يختصرها في تاريخ لبنان والعرب والعالم، ولا في تاريخ الشيعة ايضا. وفي نموذج مشيمش والحسيني سؤال اخلاقي مشروع عن معايير العدل والظلم: أليس هذا النموذج تأكيد على ان القوة هي المعيار والظلم ليس الا ضريبة يدفعها الضعفاء، بنظر الظالم؟
لكأن الخطاب الخشبي ايضا بات وسيلة لتثبيت السلطة، من هنا يمكن ان نتلمس بثقة كيف ان خطاب التخوين بات اداة الهجوم والتهجم على كل مختلف ومتمايز. وبهذا المعنى يمكن ان نتلمس كيف الغى الامين العام لحزب الله اي تمايز بين الشيعة والمقاومة وحزب الله في خطابه الاخير. لم يتحدث السيد نصرالله باسم حزب الله، وربما لم يرد في خطابه هذا، كلمة حزب الله، بل وردت كلمتا "المقاومة" و"الشيعة" كطرفين مقصودين، من دون لبس على ما يوحي، في القرار الاتهامي.
لم ترد كلمة حزب الله لكنها في الواقع كانت تحاول ان تختصر الشيعة والمقاومة في الحزب. اختصار المقاومة كإرادة وتاريخ وتراث ممتد ومتنوع وخلاق، واختصارالشيعة كمذهب محكوم بالاجتهاد والتنوع بحزب واحد أحد: "الغالبون"
السبت، 20 أغسطس 2011
إنقاذ النظام من نفسه أم إنقاذ الوطن منه؟
ياسين الحاج صالح
من شأن تكرار بعض الأشياء عن سورية أن يكون مفيداً في غمرة الكثير الذي يقال عن البلد منذ خمسة شهور.
النظام في سورية هو المركّب السياسي الأمني المالي، ونواته الأصلب هي سياسية أمنية. وهو بالتحديد الحكم الدائم للرئيس مع التطلع إلى توريث الحكم في نسله أو أسرته، ثم حاكمية الأجهزة الأمنية الموثوقة وحصانتها المطلقة، وأخيراً حرية تصرف واسعة بالموارد الوطنية العامة. هذه أشياء غير عادلة وغير صالحة. الإصلاح هو التخلص منها. وبالتحديد انتخابات رئاسية قريبة، متعددة المرشحين، مكفولة النزاهة، تطوي صفحة الحكم الوراثي، وإخضاع الأجهزة الأمنية للمحاسبة القانونية وتحويل العقيدة الأمنية من التمركز حول النظام إلى التمركز حول الأمن الوطني، والمراقبة الاجتماعية والقانونية للتصرف السياسي بالموارد العامة. هذا يعني أن إصلاح النظام هو تغييره بالكامل لأن من غير المتصور أن الأشخاص أنفسهم الذين حكموا البلد بالقرابة والغصب والاستيلاء سيحكمونه بالقانون، ووفق منطق وطني عام.
النظام هو أول من يدرك هذا. لذلك لم نسمع أبداً ما يشير إلى انتخابات رئاسية قريبة، أو محاسبة الأجهزة الأمنية ووضعها تحت القانون، أو نرى ما هو أفضل من كوميديا تحول رامي مخلوف إلى رجل بر وإحسان. ولذلك أيضاً دشن النظام شهر رمضان بالفتك المجنون بحماة ودير الزور، وعشرات البلدات، بهدف سحق الانتفاضة، لأنه يعرف أنه لا يستطيع أن يعطي السوريين شيئاً ذا قيمة على الإطلاق. وهو يعرف أكثر منا أن قوانين الأحزاب والانتخابات والإعلام هي لا شيء بالتمام والكمال في ظل هذه التركيبة السياسية الأمنية المالية القائمة.
لن نرى في الأيام ولا في الأسابيع المقبلة، ولا في أي وقت، «إصلاحات» على ما ينتظر سياسيون عرب وأجانب. النظام غير صالح، وليس فيه إصلاحيون، وفاقد الشيء لا يعطيه. لا بد من تغيير النظام من اجل الإصلاح، ومن أجل أن يوجد إصلاحيون.
هذا من باب قول الأشياء الأساسية عن «النظام» في سورية. وهو ما لا ينبغي أن ينتظر شهادة سياسيين أجانب أياً كانوا
لا تتمثل خطورة التحركات السياسية العربية والدولية الجارية حول سورية في احتمال انتزاعها زمام المبادرة من الداخل السوري، أو احتمال أن يجري التعويل عليها من أطياف سورية هي الأقل ارتباطاً بالانتفاضة والداخل الاجتماعي السوري، ولكن بخاصة من المراهنة الفاشلة لتلك التحركات على أن يصلح النظام أمره ويصلح أمر البلاد. الرهان المشترك للقوى الدولية والعربية هو تعقيل النظام وإنقاذه من نفسه، وليس إنقاذ سورية من النظام على ما تراهن الانتفاضة.
وهذا متصل بحقيقة أن منظور القوى الدولية جميعاً متمركز حول الاستقرار، ولا تكاد تعنيها ممارسات النظام الدموية إلا بقدر ما إنها تهدد بتحويل سورية إلى بؤرة غير مستقرة ومنبع لعدم الاستقرار في الإقليم ككل. وإن لم يكن من حسن السياسة التفرغ لمهاجمة تلك القوى الدولية، كما يطالب الممانعون، فلا شيء يدعو إلى التعويل على تحركاتها ومبادراتها. مناسب أن نلاحظ هنا أن مركز النقاش حول التحركات الدولية، تعويلاً أو رفضاً، هو سمة أشخاص ومجموعات سورية واهية الارتباط بالمجتمع السوري والانتفاضة. في هذا الشأن يبلغ الفارق بين الممانعين والمصانعين الصفر. هذا فوق أن الطرفين شريكان أيضاً في التبعية والدوران حول مراكز السلطة، أياً تكن هذه السلطة.
ما يعول عليه، وما ينبغي أن يتمركز حوله النقاش، وتصب الجهود السياسية والفكرية والميدانية من أجله هو الانتفاضة، استمرار التظاهرات والأنشطة الاحتجاجية إلى حين تحقيق الهدف الأول الكبير للانتفاضة: تغيير النظام.
ليس تغيير النظام نهاية كفاح السوريين بل هو بالفعل بدايته. كل قيمة الانتفاضة، أو الثورة في هذا السياق، أنها تتيح نقل البلاد إلى أوضاع تقبل الإصلاح. فالثورة ليست نقيض الإصلاح ولا البديل عنه، بل هي شرطه.
وأول الصلاح المأمول في سورية نظام سياسي ذاتي الإصلاح، بما يضمن تجدد النخب السياسية والتطور السياسي للمجتمع السوري. نعرف من تجربتنا أن الحكم الأبدي اقترن بإسقاط مبدأي المسؤولية والمحاسبة، بينما يُحاسَب المحكومون تعسفياً على أفكارهم وآرائهم ومبادراتهم المستقلة. وقد اقتضى هذا سلّم قيم سياسياً مقلوباً، يكون الحاكم بموجبه معيار وطنية محكوميه، ويكون الولاء له دينهم الحقيقي (يبوسون مطرح ما يدوس، على ما يقول أحد شعارات الموالين في سورية). لا بد من قلب سلّم القيم هذا. السكان، المواطنون، هم معيار الوطنية، والحاكمون خدم، عقودهم موقتة فوق ذلك.
ومن مقتضيات الإصلاح الذاتي الانتخابات الدورية والحريات العامة والإعلام الحر والتنظيم المستقل، عناصر كانت على الدوام تطلعات جامعة للديموقراطيين العرب.
في المقام الثاني إعادة تأسيس القيم الاجتماعية على العمل والمعرفة. القيمة العليا في سورية اليوم هي السلطة، تليها الثروة. العمل قيمته متدنية، ولا يكاد يضمن لأحد فرص الترقي الاجتماعي أو احترام الذات والغير، ومن يعيشون من عملهم حصراً تبقى فرصهم الحياتية متدنية، بما في ذلك تعذر الحصول على بيت، أو إذا كان المرء متدني التأهيل... معاناة درجات متفاوتة من الفقر. ومع تدهور قيمة العمل يتدهور الوزن الاجتماعي للعاملين وقيمتهم السياسية وتأثيرهم في الحياة العامة. هذا أمر ربما يخفيه اليوم التعطيل السياسي الشامل، لكنه مرشح للظهور أكثر إذا زال هذا التعطيل. الانتفاضة السورية في جوهرها انتفاضة لمجتمع العمل ضد سلطة الحكام الأغنياء، وما يوحد طيفها المتنوع هو هذا الارتباط القوي بالعمل.
ويتصل بذلك حكم القانون. لا قانون في سورية منذ مطلع العهد البعثي الذي هو بالفعل زمن للعسف والاعتباط. طوال نحو نصف قرن دان الحكم للهوى والغريزة، ولم يكن هناك ما يحمي المجتمع السوري من أسوأ التعديات.
ولا ريب، ستفرض نفسها قضايا تتصل بالهوية الوطنية، وترتيب عناصرها الأساسية، السورية والعروبة والإسلام، بصورة تضمن وحدة السوريين والمساواة بينهم. وقد لا يمضي وقت طويل قبل أن نرى أن الثورة السورية ثورة وطنية تعيد بناء الحياة السياسية السورية حول الداخل الاجتماعي، وتالياً تهيمن فيها السورية على كل من العروبة والإسلام. المواطنة المتساوية لا تستقيم على غير أرضية السورية.
ليس من المبكر الكلام على هذه النقطة. هي تطرح نفسها بصورة ما منذ الآن، ومن المرجح أن تكون على جدول العمل الوطني قريباً.
بعد الشجاعة الاستثنائية للانتفاضة السورية في مواجهة «النظام»، ستلزم السوريين شجاعة بناء نظام مغاير، ومستقبل مشترك.
من شأن تكرار بعض الأشياء عن سورية أن يكون مفيداً في غمرة الكثير الذي يقال عن البلد منذ خمسة شهور.
النظام في سورية هو المركّب السياسي الأمني المالي، ونواته الأصلب هي سياسية أمنية. وهو بالتحديد الحكم الدائم للرئيس مع التطلع إلى توريث الحكم في نسله أو أسرته، ثم حاكمية الأجهزة الأمنية الموثوقة وحصانتها المطلقة، وأخيراً حرية تصرف واسعة بالموارد الوطنية العامة. هذه أشياء غير عادلة وغير صالحة. الإصلاح هو التخلص منها. وبالتحديد انتخابات رئاسية قريبة، متعددة المرشحين، مكفولة النزاهة، تطوي صفحة الحكم الوراثي، وإخضاع الأجهزة الأمنية للمحاسبة القانونية وتحويل العقيدة الأمنية من التمركز حول النظام إلى التمركز حول الأمن الوطني، والمراقبة الاجتماعية والقانونية للتصرف السياسي بالموارد العامة. هذا يعني أن إصلاح النظام هو تغييره بالكامل لأن من غير المتصور أن الأشخاص أنفسهم الذين حكموا البلد بالقرابة والغصب والاستيلاء سيحكمونه بالقانون، ووفق منطق وطني عام.
النظام هو أول من يدرك هذا. لذلك لم نسمع أبداً ما يشير إلى انتخابات رئاسية قريبة، أو محاسبة الأجهزة الأمنية ووضعها تحت القانون، أو نرى ما هو أفضل من كوميديا تحول رامي مخلوف إلى رجل بر وإحسان. ولذلك أيضاً دشن النظام شهر رمضان بالفتك المجنون بحماة ودير الزور، وعشرات البلدات، بهدف سحق الانتفاضة، لأنه يعرف أنه لا يستطيع أن يعطي السوريين شيئاً ذا قيمة على الإطلاق. وهو يعرف أكثر منا أن قوانين الأحزاب والانتخابات والإعلام هي لا شيء بالتمام والكمال في ظل هذه التركيبة السياسية الأمنية المالية القائمة.
لن نرى في الأيام ولا في الأسابيع المقبلة، ولا في أي وقت، «إصلاحات» على ما ينتظر سياسيون عرب وأجانب. النظام غير صالح، وليس فيه إصلاحيون، وفاقد الشيء لا يعطيه. لا بد من تغيير النظام من اجل الإصلاح، ومن أجل أن يوجد إصلاحيون.
هذا من باب قول الأشياء الأساسية عن «النظام» في سورية. وهو ما لا ينبغي أن ينتظر شهادة سياسيين أجانب أياً كانوا
لا تتمثل خطورة التحركات السياسية العربية والدولية الجارية حول سورية في احتمال انتزاعها زمام المبادرة من الداخل السوري، أو احتمال أن يجري التعويل عليها من أطياف سورية هي الأقل ارتباطاً بالانتفاضة والداخل الاجتماعي السوري، ولكن بخاصة من المراهنة الفاشلة لتلك التحركات على أن يصلح النظام أمره ويصلح أمر البلاد. الرهان المشترك للقوى الدولية والعربية هو تعقيل النظام وإنقاذه من نفسه، وليس إنقاذ سورية من النظام على ما تراهن الانتفاضة.
وهذا متصل بحقيقة أن منظور القوى الدولية جميعاً متمركز حول الاستقرار، ولا تكاد تعنيها ممارسات النظام الدموية إلا بقدر ما إنها تهدد بتحويل سورية إلى بؤرة غير مستقرة ومنبع لعدم الاستقرار في الإقليم ككل. وإن لم يكن من حسن السياسة التفرغ لمهاجمة تلك القوى الدولية، كما يطالب الممانعون، فلا شيء يدعو إلى التعويل على تحركاتها ومبادراتها. مناسب أن نلاحظ هنا أن مركز النقاش حول التحركات الدولية، تعويلاً أو رفضاً، هو سمة أشخاص ومجموعات سورية واهية الارتباط بالمجتمع السوري والانتفاضة. في هذا الشأن يبلغ الفارق بين الممانعين والمصانعين الصفر. هذا فوق أن الطرفين شريكان أيضاً في التبعية والدوران حول مراكز السلطة، أياً تكن هذه السلطة.
ما يعول عليه، وما ينبغي أن يتمركز حوله النقاش، وتصب الجهود السياسية والفكرية والميدانية من أجله هو الانتفاضة، استمرار التظاهرات والأنشطة الاحتجاجية إلى حين تحقيق الهدف الأول الكبير للانتفاضة: تغيير النظام.
ليس تغيير النظام نهاية كفاح السوريين بل هو بالفعل بدايته. كل قيمة الانتفاضة، أو الثورة في هذا السياق، أنها تتيح نقل البلاد إلى أوضاع تقبل الإصلاح. فالثورة ليست نقيض الإصلاح ولا البديل عنه، بل هي شرطه.
وأول الصلاح المأمول في سورية نظام سياسي ذاتي الإصلاح، بما يضمن تجدد النخب السياسية والتطور السياسي للمجتمع السوري. نعرف من تجربتنا أن الحكم الأبدي اقترن بإسقاط مبدأي المسؤولية والمحاسبة، بينما يُحاسَب المحكومون تعسفياً على أفكارهم وآرائهم ومبادراتهم المستقلة. وقد اقتضى هذا سلّم قيم سياسياً مقلوباً، يكون الحاكم بموجبه معيار وطنية محكوميه، ويكون الولاء له دينهم الحقيقي (يبوسون مطرح ما يدوس، على ما يقول أحد شعارات الموالين في سورية). لا بد من قلب سلّم القيم هذا. السكان، المواطنون، هم معيار الوطنية، والحاكمون خدم، عقودهم موقتة فوق ذلك.
ومن مقتضيات الإصلاح الذاتي الانتخابات الدورية والحريات العامة والإعلام الحر والتنظيم المستقل، عناصر كانت على الدوام تطلعات جامعة للديموقراطيين العرب.
في المقام الثاني إعادة تأسيس القيم الاجتماعية على العمل والمعرفة. القيمة العليا في سورية اليوم هي السلطة، تليها الثروة. العمل قيمته متدنية، ولا يكاد يضمن لأحد فرص الترقي الاجتماعي أو احترام الذات والغير، ومن يعيشون من عملهم حصراً تبقى فرصهم الحياتية متدنية، بما في ذلك تعذر الحصول على بيت، أو إذا كان المرء متدني التأهيل... معاناة درجات متفاوتة من الفقر. ومع تدهور قيمة العمل يتدهور الوزن الاجتماعي للعاملين وقيمتهم السياسية وتأثيرهم في الحياة العامة. هذا أمر ربما يخفيه اليوم التعطيل السياسي الشامل، لكنه مرشح للظهور أكثر إذا زال هذا التعطيل. الانتفاضة السورية في جوهرها انتفاضة لمجتمع العمل ضد سلطة الحكام الأغنياء، وما يوحد طيفها المتنوع هو هذا الارتباط القوي بالعمل.
ويتصل بذلك حكم القانون. لا قانون في سورية منذ مطلع العهد البعثي الذي هو بالفعل زمن للعسف والاعتباط. طوال نحو نصف قرن دان الحكم للهوى والغريزة، ولم يكن هناك ما يحمي المجتمع السوري من أسوأ التعديات.
ولا ريب، ستفرض نفسها قضايا تتصل بالهوية الوطنية، وترتيب عناصرها الأساسية، السورية والعروبة والإسلام، بصورة تضمن وحدة السوريين والمساواة بينهم. وقد لا يمضي وقت طويل قبل أن نرى أن الثورة السورية ثورة وطنية تعيد بناء الحياة السياسية السورية حول الداخل الاجتماعي، وتالياً تهيمن فيها السورية على كل من العروبة والإسلام. المواطنة المتساوية لا تستقيم على غير أرضية السورية.
ليس من المبكر الكلام على هذه النقطة. هي تطرح نفسها بصورة ما منذ الآن، ومن المرجح أن تكون على جدول العمل الوطني قريباً.
بعد الشجاعة الاستثنائية للانتفاضة السورية في مواجهة «النظام»، ستلزم السوريين شجاعة بناء نظام مغاير، ومستقبل مشترك.
كيف كان إدوارد سعيد سيرى الثورات العربية؟
حسام عيتاني
تصلح الثورات العربية مدخلاً لعملية تقديم وإعادة نظر في الكثير من الأفكار والأحكام التي هيمنت على الثقافة والفكر السياسيين العربيين في العقود الممتدة منذ هزيمة 1967 إلى اليوم.
صدمت تلك الحرب، على ما تقول السردية التي انتشرت بعدها، الوعي العربي الذي أدخلته الأيديولوجيا القومية العربية «الرسمية» حالاً سكونية حالت دون رؤيته الأبعاد الحقيقية للصراع مع إسرائيل وتشعب الصلات التي تقيمها هذه مع الغرب وارتقاءها جزءاً عضوياً من مصالحه وآليات الدفاع عنها. وبعدما كان «الاستعمار» هو الاسم المعتمد في وصف السياسات الأميركية والأوروبية في الشرق الأوسط، حلت كلمة «الإمبريالية» التي جاءت إلى الأدبيات السياسية العربية بجهود مثقفي اليسار الذين لاحظوا أن فارقاً شاسعاً بات يفصل بين الاستعمار بالصورة التي جاء فيها إلى المنطقة في القرن التاسع عشر ومطالع العشرين كعملية نهب مباشر لثروات البلدان المحتلة، وبين ما تنطوي عليه الإمبريالية من مكونات اقتصادية وسياسية تهدف إلى الاستتباع والإلحاق وصولاً إلى تغيير المفاهيم الثقافية والاجتماعية.
ربما كان إدوارد سعيد هو من خطف الأضواء في نقده علاقاتِ الشرق والغرب، في الجانب الثقافي خصوصاً في عدد من الكتب التي نالت شهرة واسعة خصوصاً «الاستشراق» و «الثقافة والإمبريالية». أصبح سعيد الصوت الأعلى في الدوائر الأكاديمية الأميركية (وبدرجة أقل الأوروبية)، المنافح عما يراه مصالح شعوب المنطقة العربية وفي مقدمها الشعب الفلسطيني. بيد أن سعيد وقع في عدد من المآزق. وبصرف النظر عن جملة من الأخطاء المعرفية الكبيرة (التي ناقشنا بعضها في مكان آخر)، انزلق سعيد إلى «جوهرانية ثقافوية» تقسم العالم إلى شرق مُضطَهَد يحمل القيم الروحية الراقية، وغرب مضطَهِد تسيّره شهوته إلى المادة والثروة والغزو. اعتقد البعض من تلامذة الرجل أن إدوارد سعيد إنما يساهم في الفكر اليساري التقدمي. وذهبوا إلى تكريسه بطريركاً يسارياً وهو ما لم يزعمه سعيد طوال حياته.
كان إدوارد سعيد أستاذاً للأدب المقارن معدوم الصلة تقريباً بمجالات العلوم الاجتماعية والاقتصاد السياسي التي تشكل الساحات الحقيقية للآراء اليسارية. مقاربته الثقافية للصراعات الكبرى قادته إلى تجاوزات غير بسيطة للدقة التاريخية وللبحث الموضوعي وجعلته منحازاً إلى رؤية غير نقدية لتاريخ العرب وعلاقتهم بالعالم، على قلة ما كان يعرف من تاريخ قديم ومعاصر للشرق الأوسط. هذه الرؤى يمكن العثور على مثيلاتها عند كتّاب عرب تناولوا صلات الشرق والغرب بأدوات معرفية أكثر تواضعاً من تلك التي استخدمها سعيد، كالصادق النيهوم، على سبيل المثال.
لكن سعيد كان، قبل ذلك وبعده، يتمتع بقدر لا يستهان به من الذكاء والقدرة على تعديل الموقع الذي يقف فيه. وتبرز من بين أسطر كتاباته الأخيرة محاولات لتدارك الزلل الذي وقع فيه في «الاستشراق» خصوصاً، من دون أن ينسى تغليف ذلك بعدد وفير من المبررات، ليعود في المقال الطويل الذي كتبه لمجلة «ذي نايشن» الأميركية بعنوان «صدام الجهل» بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الإرهابية، إلى فكرته الأصلية عن الانقسام العمودي للعالم، وإن بدا كمن ينقد تصور صامويل هانتنغتون عن صدام الحضارات الذي ينبع من فكرة لا تختلف كثيراً، في العمق، عن مصادر أفكار سعيد الذي يرى متوازيات في دوافع الحركات الدينية، بين أسامة بن لادن وحركة «الفرع الداوودي»، على سبيل المثال، تؤسس لـ «صدام الجهل» بين المتطرفين... إلخ. وهو المنهج ذاته الذي اتبعه تلميذه حميد دباشي في محاولته ردم الهوة بين سعيد وبين المستشرق المجري البارز غولدتسيهر، الذي رفعه دباشي إلى مستوى قريب من القداسة ثم انتهى بالقول إن سعيد محق في وضعه كل المستشرقين في خانة العمالة للمشروع الكولونيالي الغربي (بحسب المقدمة التي وضعها دباشي للجزء الأول من كتاب غولدتسيهر الشهير «دراسات في الاسلام»).
أتقن إدوارد سعيد السير في دوائر، فيما كان يبدو من بعيد لمن لا يدقق في عمل الرجل أنه يبتكر مفاهيم وآراء جديدة في نظرته التبخيسية للغرب ولسياسته وعلمه. وأسست الدوائر التي أمضى الباحث يسير فيها لموقف عام وعريض بات في صلب المواقف التي يمكن وصفها، براحة ضمير، بأنها رجعية وشديدة المحافظة في شأن علاقة العالمين العربي والإسلامي بالغرب وبالإشكاليات المعاصرة.
ويمكن القول إن سعيد وفّق في نشر آرائه وأفكاره. لكن ما لم يوفق به هو مجموعة تلامذته ومريديه أو من يقولون عن أنفسهم أنهم كذلك. وباستثناء حفنة قليلة من التلامذة اللامعين، كدباشي الذي أدرك أوجه القصور في فكر سعيد من دون أن يجرؤ على كسرها وتجاوزها، أفرط القسم الأكبر من مريدي الكاتب الفلسطيني - الأميركي بالمبالغة في حمل استنتاجاته إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه خصوصاً بعدما أضفوا عليها أبعاداً عالمثالثية نضالية، وجوهرانية، لا تمت بصلة إلى كل ما يمكن أن يوضع في خانة الفكر النقدي.
هؤلاء التلاميذ وجدوا أنفسهم في مواجهة الثورات العربية التي تشكل تحدياً سياسياً واجتماعياً لناحية استعصاء تصنيفها ووضعها في الخانات المعدّة مسبقاً للثورات وحركات التغيير، إضافة إلى الصعوبات الجدية في استشراف المآلات التي ستؤول إليها هذه الحركة التاريخية العربية. انقسم تلامذة المدرسة السعيدية إلى فرقتين كبيرتين. ساندت الأولى الثورات العربية محتفظة بتأييدها للمقاومة والممانعة في وجه إسرائيل وبالعداء للولايات المتحدة والغرب (كظواهر مطلقة غير قابلة للتبدل بتبدل موضوع الخلاف، أي السلطة في العالم العربي)، وبالرهان على قيام الأنظمة العربية التي بدأت تتشكل في تونس ومصر، ولاحقاً في سورية واليمن وليبيا، بإنجاز المهمة القومية العربية بحسم الصراع ضد إسرائيل. وجليٌ أن رؤية كهذه تتجاهل احتلال الأسباب الداخلية المكان الأول في لائحة الأسباب التي حملت الشبان العرب على النزول إلى الشوارع والسعي إلى إسقاط الأنظمة الحاكمة.
المجموعة الثانية، تركز في كتاباتها على علاقات الولايات المتحدة بالثورات العربية ولا تلبث أن تصل إلى استنتاج لا ينقصه العرج وهو أن واشنطن تستكمل غزو العراق على طريقة حصان طروادة، بإشعال الثورات العربية.
ربما استطاع إدوارد سعيد أن يتجاوز هزال أفكار مريديه وكاريكاتوريتهم، لو قيد له أن يرى الثورات العربية. ولكن لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن الثنائية التي نظر سعيد بواسطتها إلى العالم، قد تجاوزتها الثورات قبل أن تبدأ.
تصلح الثورات العربية مدخلاً لعملية تقديم وإعادة نظر في الكثير من الأفكار والأحكام التي هيمنت على الثقافة والفكر السياسيين العربيين في العقود الممتدة منذ هزيمة 1967 إلى اليوم.
صدمت تلك الحرب، على ما تقول السردية التي انتشرت بعدها، الوعي العربي الذي أدخلته الأيديولوجيا القومية العربية «الرسمية» حالاً سكونية حالت دون رؤيته الأبعاد الحقيقية للصراع مع إسرائيل وتشعب الصلات التي تقيمها هذه مع الغرب وارتقاءها جزءاً عضوياً من مصالحه وآليات الدفاع عنها. وبعدما كان «الاستعمار» هو الاسم المعتمد في وصف السياسات الأميركية والأوروبية في الشرق الأوسط، حلت كلمة «الإمبريالية» التي جاءت إلى الأدبيات السياسية العربية بجهود مثقفي اليسار الذين لاحظوا أن فارقاً شاسعاً بات يفصل بين الاستعمار بالصورة التي جاء فيها إلى المنطقة في القرن التاسع عشر ومطالع العشرين كعملية نهب مباشر لثروات البلدان المحتلة، وبين ما تنطوي عليه الإمبريالية من مكونات اقتصادية وسياسية تهدف إلى الاستتباع والإلحاق وصولاً إلى تغيير المفاهيم الثقافية والاجتماعية.
ربما كان إدوارد سعيد هو من خطف الأضواء في نقده علاقاتِ الشرق والغرب، في الجانب الثقافي خصوصاً في عدد من الكتب التي نالت شهرة واسعة خصوصاً «الاستشراق» و «الثقافة والإمبريالية». أصبح سعيد الصوت الأعلى في الدوائر الأكاديمية الأميركية (وبدرجة أقل الأوروبية)، المنافح عما يراه مصالح شعوب المنطقة العربية وفي مقدمها الشعب الفلسطيني. بيد أن سعيد وقع في عدد من المآزق. وبصرف النظر عن جملة من الأخطاء المعرفية الكبيرة (التي ناقشنا بعضها في مكان آخر)، انزلق سعيد إلى «جوهرانية ثقافوية» تقسم العالم إلى شرق مُضطَهَد يحمل القيم الروحية الراقية، وغرب مضطَهِد تسيّره شهوته إلى المادة والثروة والغزو. اعتقد البعض من تلامذة الرجل أن إدوارد سعيد إنما يساهم في الفكر اليساري التقدمي. وذهبوا إلى تكريسه بطريركاً يسارياً وهو ما لم يزعمه سعيد طوال حياته.
كان إدوارد سعيد أستاذاً للأدب المقارن معدوم الصلة تقريباً بمجالات العلوم الاجتماعية والاقتصاد السياسي التي تشكل الساحات الحقيقية للآراء اليسارية. مقاربته الثقافية للصراعات الكبرى قادته إلى تجاوزات غير بسيطة للدقة التاريخية وللبحث الموضوعي وجعلته منحازاً إلى رؤية غير نقدية لتاريخ العرب وعلاقتهم بالعالم، على قلة ما كان يعرف من تاريخ قديم ومعاصر للشرق الأوسط. هذه الرؤى يمكن العثور على مثيلاتها عند كتّاب عرب تناولوا صلات الشرق والغرب بأدوات معرفية أكثر تواضعاً من تلك التي استخدمها سعيد، كالصادق النيهوم، على سبيل المثال.
لكن سعيد كان، قبل ذلك وبعده، يتمتع بقدر لا يستهان به من الذكاء والقدرة على تعديل الموقع الذي يقف فيه. وتبرز من بين أسطر كتاباته الأخيرة محاولات لتدارك الزلل الذي وقع فيه في «الاستشراق» خصوصاً، من دون أن ينسى تغليف ذلك بعدد وفير من المبررات، ليعود في المقال الطويل الذي كتبه لمجلة «ذي نايشن» الأميركية بعنوان «صدام الجهل» بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الإرهابية، إلى فكرته الأصلية عن الانقسام العمودي للعالم، وإن بدا كمن ينقد تصور صامويل هانتنغتون عن صدام الحضارات الذي ينبع من فكرة لا تختلف كثيراً، في العمق، عن مصادر أفكار سعيد الذي يرى متوازيات في دوافع الحركات الدينية، بين أسامة بن لادن وحركة «الفرع الداوودي»، على سبيل المثال، تؤسس لـ «صدام الجهل» بين المتطرفين... إلخ. وهو المنهج ذاته الذي اتبعه تلميذه حميد دباشي في محاولته ردم الهوة بين سعيد وبين المستشرق المجري البارز غولدتسيهر، الذي رفعه دباشي إلى مستوى قريب من القداسة ثم انتهى بالقول إن سعيد محق في وضعه كل المستشرقين في خانة العمالة للمشروع الكولونيالي الغربي (بحسب المقدمة التي وضعها دباشي للجزء الأول من كتاب غولدتسيهر الشهير «دراسات في الاسلام»).
أتقن إدوارد سعيد السير في دوائر، فيما كان يبدو من بعيد لمن لا يدقق في عمل الرجل أنه يبتكر مفاهيم وآراء جديدة في نظرته التبخيسية للغرب ولسياسته وعلمه. وأسست الدوائر التي أمضى الباحث يسير فيها لموقف عام وعريض بات في صلب المواقف التي يمكن وصفها، براحة ضمير، بأنها رجعية وشديدة المحافظة في شأن علاقة العالمين العربي والإسلامي بالغرب وبالإشكاليات المعاصرة.
ويمكن القول إن سعيد وفّق في نشر آرائه وأفكاره. لكن ما لم يوفق به هو مجموعة تلامذته ومريديه أو من يقولون عن أنفسهم أنهم كذلك. وباستثناء حفنة قليلة من التلامذة اللامعين، كدباشي الذي أدرك أوجه القصور في فكر سعيد من دون أن يجرؤ على كسرها وتجاوزها، أفرط القسم الأكبر من مريدي الكاتب الفلسطيني - الأميركي بالمبالغة في حمل استنتاجاته إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه خصوصاً بعدما أضفوا عليها أبعاداً عالمثالثية نضالية، وجوهرانية، لا تمت بصلة إلى كل ما يمكن أن يوضع في خانة الفكر النقدي.
هؤلاء التلاميذ وجدوا أنفسهم في مواجهة الثورات العربية التي تشكل تحدياً سياسياً واجتماعياً لناحية استعصاء تصنيفها ووضعها في الخانات المعدّة مسبقاً للثورات وحركات التغيير، إضافة إلى الصعوبات الجدية في استشراف المآلات التي ستؤول إليها هذه الحركة التاريخية العربية. انقسم تلامذة المدرسة السعيدية إلى فرقتين كبيرتين. ساندت الأولى الثورات العربية محتفظة بتأييدها للمقاومة والممانعة في وجه إسرائيل وبالعداء للولايات المتحدة والغرب (كظواهر مطلقة غير قابلة للتبدل بتبدل موضوع الخلاف، أي السلطة في العالم العربي)، وبالرهان على قيام الأنظمة العربية التي بدأت تتشكل في تونس ومصر، ولاحقاً في سورية واليمن وليبيا، بإنجاز المهمة القومية العربية بحسم الصراع ضد إسرائيل. وجليٌ أن رؤية كهذه تتجاهل احتلال الأسباب الداخلية المكان الأول في لائحة الأسباب التي حملت الشبان العرب على النزول إلى الشوارع والسعي إلى إسقاط الأنظمة الحاكمة.
المجموعة الثانية، تركز في كتاباتها على علاقات الولايات المتحدة بالثورات العربية ولا تلبث أن تصل إلى استنتاج لا ينقصه العرج وهو أن واشنطن تستكمل غزو العراق على طريقة حصان طروادة، بإشعال الثورات العربية.
ربما استطاع إدوارد سعيد أن يتجاوز هزال أفكار مريديه وكاريكاتوريتهم، لو قيد له أن يرى الثورات العربية. ولكن لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن الثنائية التي نظر سعيد بواسطتها إلى العالم، قد تجاوزتها الثورات قبل أن تبدأ.
«الموت ولا المذلة» طريق انتصار
محمد علي الأتاسي
في منتصف شباط (فبراير) 2011، قبل أسابيع من اندلاع الثورة السورية، تعرض شاب في مقتبل العمر لصفعة من شرطي في حي الحريقة التجاري في العاصمة السورية، وما هي إلا دقائق معدودات حتى تجمع مئات الشبان، في ظاهرة غير مسبوقة في ذلك الوقت، وراحوا يهتفون بصوت واحد «الشعب السوري ما بينذل». وقتها لم يكن محمد البوعزيزي هو الحاضر في الأذهان فقط، بل ثِقَلُ عقود طويلة من الذل والقهر جاثمة على كاهل الشعب السوري. هذا الشعار العفوي الذي انطلق من قلب دمشق التجاري، أصبح في غضون أسابيع قليلة احد أهم شعارات الشارع السوري، وشكَّل في مضمونه أحدَ أهم مفاتيح فهْم الأسباب التي فجرت الثورة السورية وجعلتها تلاقي كل هذا الصدى والاتساع.
يمكن القول إن هذه الثورة هي أولاً وقبل كل شيء، ثورة الكرامة في مواجهة عقود طويلة من الاستبداد أمعنت فيها الدولة الأمنية باستباحة الإنسان السوري وتجريده من أي حقوق أو وسائل حماية مشروعة في مواجهة آلة القتل والهوان الكلية القدرة والمطلقة الصلاحيات.
من هنا، لم يكن مفاجئاً عندما بدأ مسلسل القتل والسحل في درعا، أن يتجذر هذا الشعار ويتحول، بالفعل لا بالقول فقط، إلى تلك الصرخة الدرعاوية القصوى «الموت ولا المذلة»، التي باتت السلاح السلمي الأمضى للشباب في مواجهة الدبابات والرصاص القاتل.
يُروى أن الرئيس السوري شكري القوتلي، غداةَ التوقيع على اتفاقية الوحدة الاندماجية بين مصر وسورية في 1958، بادر الرئيسَ جمال عبد الناصر بالقول: «أنت لا تعرف ماذا أخذتَ يا سيادة الرئيس! أنت أخذتَ شعباً يعتقد كل من فيه أنه سياسي، ويعتقد 50 في المئة من ناسه أنهم زعماء، و25 في المئة أنهم أنبياء، وهناك عشرة في المئة على الأقل يعتقدون أنهم آلهة».
التراجيدي في هذه المرويّة، أن اتفاقية الوحدة، وبمعزل عن موقفنا من الوحدة ذاتها، كانت البداية التأسيسية لمسلسل وأد السياسة داخل المجتمع، وكسر شوكة هذا الشعب العظيم، كونها أدخلت البلاد في أوحال الدولة الأمنية، التي ستؤدي بها رويداً رويداً، بدءاً من تسلمّ البعث السلطة وصولاً إلى الحركة التصحيحية، إلى تدشين عصر «السادة والعبيد»، عصر النخبة المقدسة والرعية المدنسة، عصر «القائد إلى الأبد» و «سورية الأسد».
إن ما نراه اليوم من انتهاكات مقززة لكرامات الناس واستباحة لأجسادهم وسفك لدمائهم، ما هو إلا تتويج لممارسات دأبت السلطة عليها منذ الثمانينات، وجعلت منها طبيعة ثانية لها، وأمعنت فيها خلف الأبواب المغلقة للسجون والمعتقلات. إلاّ أن اندلاع الثورة السورية واتساع رقعة الاحتجاجات الشعبية وحضور كاميرات الهواتف الخليوية في كل مكان، جعلت الشوارع معسكر اعتقال كبيراً تمارس فيه شتى أعمال القتل والتنكيل، وأتاحت للعالم أن يرى بأم عينه ليس فقط كيف يداس السوريون كل يوم بالبسطار العسكري من قرية البيضا إلى حوران، ولكن كيف تنبعث كرامتهم من جديد من تحت نعل هذا البسطار وبرغم أنف منتعله.
قد يسأل سائل، كيف يسود منطق البسطار في تعامل السلطة مع شعبها في مثل هذه اللحظات الحرجة؟ ولماذا تغيب السياسة، بما هي فن الممكن وبما تعنيه من أخذ وعطاء؟
والجواب يبدو بسيطاً على فداحته، فمثل هذه السلطة يمكن لها في الظروف العادية أن تجنح إلى السياسة في تعاملها مع الناس وفي إدارة شؤون البلاد، أما عندما يصل الأمر إلى مساءلةِ بُنْيَة السلطة نفسها، وإلى طرح مبدأ تداول السلطة ومحاسبتها، فمنطق البسطار العسكري هو الذي يسود، أو بالأحرى، منطق اللامنطق هو الذي يطغى، وإلا فكيف نفسر الكم الهائل من الفرص الضائعة التي لم تعرف السلطة السورية كيف تستثمرها في الوقت المناسب! وكيف نفهم عجزها عن الاستفادة من هامش المناورة الواسع الذي كان متاحاً أمامها في الأيام الأولى للثورة.
الواقع يدل على أن هناك في الدوائر الضيقة لمراكز صنع القرار مَن لا يزال يعتقد أن الدولة، بما تضمه من بلاد وعباد، هي بمثابة ممتلكات شخصية وحق متوارث، بالتالي من المستحيل الدخول في أي مسار يمكن له أن يؤدي في النهاية إلى تقاسم السلطة، حتى لا نقول تداولها. ويستند هذا الاعتقاد في جزء منه، إلى أسلوب عصابي في التنشئة قائم على مسلَّمة «تأمر فتطاع»، وعلى حاشية لا تتقن سوى التطبيل لشخوص السلطة، وعلى قناعة راسخة بأن ما لا تحسمه القوة سيحسمه استخدام المزيد منها. من هنا، لا يبقى أمام هذه الحلقة الضيقة المتمسكة بالسلطة سوى الهروب إلى أمام بتطبيق سياسة «فرِّقْ تَسُدْ»، ومحاولة بث الفوضى والتفرقة والاقتتال الأهلي.
في المقابل، ومن أتون هذا الصراع الدامي، وفي مواجهة إستراتيجية الحرائق وزرع الفتنة التي تتبعها السلطة، يبزغ جيل جديد يملك وعياً سياسياً سلمياً بامتياز، ينشد الحرية والكرامة، وتتولد منه قيم مغايرة عمادها الشجاعة والتضحية ونكران الذات، وتتبلور عبره هوية وطنية سورية جامعة تؤمن بالتنوع وتحترم الاختلاف.
خصوصية الحالة السورية لا تأتي من نشر السلطة للجيش في شوارع المدن والقرى، واستخدامها للمدافع والرشاشات الثقيلة والرصاص المتفجر في مواجهة المظاهرات. كما لا تأتي من إرسال فرق الموت والشبيحة لخطف الناشطين وقتلهم، ولا من ملء السجون ومراكز التحقيق بالمعتقلات والمعتقلين. خصوصية الحالة السورية تأتي من قدرة الناس، وبعد خمسة أشهر من استباحة المجتمع بمثل هذه الانتهاكات الخطيرة، على الاحتفاظ بالمجمل بسلمية تحركهم وعدم الانزلاق إلى لعبة السلطة الباحثة بأي طريقة عن جرِّهم إلى النزاع المسلح. أما ما تعجز السلطة عن إدراكه حتى يومنا، فهو أن الدبابات والمدافع والرشاشات الثقيلة يمكن لها أن تبيد الفرق والعصابات المسلحة، هذا إن وجدت، لكن ما لا يمكن لها أن تنجح فيه، خصوصاً في عصر الإنترنت واليوتيوب، هو أن تنتصر على شعب أعزل خرج مطالباً بكرامته وحريته بعد أن صبر عقوداً طويلة على الذل والهوان. من هنا، فمآل هذا الصراع بات واضحاً وجلياً لكل ذي بصيرة، وكل ما عداه مسألة وقت يمر وأثمان تدفع وإرادات تتصارع، وفي هذه النقاط الثلاث، لن تكون الغلبة إلا للشعب السوري.
إن من ينادي «الموت ولا المذلة» في مواجهة الدبابات، لا يمكن إلا أن يكون النصر حليفَه، لأن هذا النداء لا يأتي حباً بالموت بل إصراراً على أن تكون الحياة صنواً للكرامة.
في منتصف شباط (فبراير) 2011، قبل أسابيع من اندلاع الثورة السورية، تعرض شاب في مقتبل العمر لصفعة من شرطي في حي الحريقة التجاري في العاصمة السورية، وما هي إلا دقائق معدودات حتى تجمع مئات الشبان، في ظاهرة غير مسبوقة في ذلك الوقت، وراحوا يهتفون بصوت واحد «الشعب السوري ما بينذل». وقتها لم يكن محمد البوعزيزي هو الحاضر في الأذهان فقط، بل ثِقَلُ عقود طويلة من الذل والقهر جاثمة على كاهل الشعب السوري. هذا الشعار العفوي الذي انطلق من قلب دمشق التجاري، أصبح في غضون أسابيع قليلة احد أهم شعارات الشارع السوري، وشكَّل في مضمونه أحدَ أهم مفاتيح فهْم الأسباب التي فجرت الثورة السورية وجعلتها تلاقي كل هذا الصدى والاتساع.
يمكن القول إن هذه الثورة هي أولاً وقبل كل شيء، ثورة الكرامة في مواجهة عقود طويلة من الاستبداد أمعنت فيها الدولة الأمنية باستباحة الإنسان السوري وتجريده من أي حقوق أو وسائل حماية مشروعة في مواجهة آلة القتل والهوان الكلية القدرة والمطلقة الصلاحيات.
من هنا، لم يكن مفاجئاً عندما بدأ مسلسل القتل والسحل في درعا، أن يتجذر هذا الشعار ويتحول، بالفعل لا بالقول فقط، إلى تلك الصرخة الدرعاوية القصوى «الموت ولا المذلة»، التي باتت السلاح السلمي الأمضى للشباب في مواجهة الدبابات والرصاص القاتل.
يُروى أن الرئيس السوري شكري القوتلي، غداةَ التوقيع على اتفاقية الوحدة الاندماجية بين مصر وسورية في 1958، بادر الرئيسَ جمال عبد الناصر بالقول: «أنت لا تعرف ماذا أخذتَ يا سيادة الرئيس! أنت أخذتَ شعباً يعتقد كل من فيه أنه سياسي، ويعتقد 50 في المئة من ناسه أنهم زعماء، و25 في المئة أنهم أنبياء، وهناك عشرة في المئة على الأقل يعتقدون أنهم آلهة».
التراجيدي في هذه المرويّة، أن اتفاقية الوحدة، وبمعزل عن موقفنا من الوحدة ذاتها، كانت البداية التأسيسية لمسلسل وأد السياسة داخل المجتمع، وكسر شوكة هذا الشعب العظيم، كونها أدخلت البلاد في أوحال الدولة الأمنية، التي ستؤدي بها رويداً رويداً، بدءاً من تسلمّ البعث السلطة وصولاً إلى الحركة التصحيحية، إلى تدشين عصر «السادة والعبيد»، عصر النخبة المقدسة والرعية المدنسة، عصر «القائد إلى الأبد» و «سورية الأسد».
إن ما نراه اليوم من انتهاكات مقززة لكرامات الناس واستباحة لأجسادهم وسفك لدمائهم، ما هو إلا تتويج لممارسات دأبت السلطة عليها منذ الثمانينات، وجعلت منها طبيعة ثانية لها، وأمعنت فيها خلف الأبواب المغلقة للسجون والمعتقلات. إلاّ أن اندلاع الثورة السورية واتساع رقعة الاحتجاجات الشعبية وحضور كاميرات الهواتف الخليوية في كل مكان، جعلت الشوارع معسكر اعتقال كبيراً تمارس فيه شتى أعمال القتل والتنكيل، وأتاحت للعالم أن يرى بأم عينه ليس فقط كيف يداس السوريون كل يوم بالبسطار العسكري من قرية البيضا إلى حوران، ولكن كيف تنبعث كرامتهم من جديد من تحت نعل هذا البسطار وبرغم أنف منتعله.
قد يسأل سائل، كيف يسود منطق البسطار في تعامل السلطة مع شعبها في مثل هذه اللحظات الحرجة؟ ولماذا تغيب السياسة، بما هي فن الممكن وبما تعنيه من أخذ وعطاء؟
والجواب يبدو بسيطاً على فداحته، فمثل هذه السلطة يمكن لها في الظروف العادية أن تجنح إلى السياسة في تعاملها مع الناس وفي إدارة شؤون البلاد، أما عندما يصل الأمر إلى مساءلةِ بُنْيَة السلطة نفسها، وإلى طرح مبدأ تداول السلطة ومحاسبتها، فمنطق البسطار العسكري هو الذي يسود، أو بالأحرى، منطق اللامنطق هو الذي يطغى، وإلا فكيف نفسر الكم الهائل من الفرص الضائعة التي لم تعرف السلطة السورية كيف تستثمرها في الوقت المناسب! وكيف نفهم عجزها عن الاستفادة من هامش المناورة الواسع الذي كان متاحاً أمامها في الأيام الأولى للثورة.
الواقع يدل على أن هناك في الدوائر الضيقة لمراكز صنع القرار مَن لا يزال يعتقد أن الدولة، بما تضمه من بلاد وعباد، هي بمثابة ممتلكات شخصية وحق متوارث، بالتالي من المستحيل الدخول في أي مسار يمكن له أن يؤدي في النهاية إلى تقاسم السلطة، حتى لا نقول تداولها. ويستند هذا الاعتقاد في جزء منه، إلى أسلوب عصابي في التنشئة قائم على مسلَّمة «تأمر فتطاع»، وعلى حاشية لا تتقن سوى التطبيل لشخوص السلطة، وعلى قناعة راسخة بأن ما لا تحسمه القوة سيحسمه استخدام المزيد منها. من هنا، لا يبقى أمام هذه الحلقة الضيقة المتمسكة بالسلطة سوى الهروب إلى أمام بتطبيق سياسة «فرِّقْ تَسُدْ»، ومحاولة بث الفوضى والتفرقة والاقتتال الأهلي.
في المقابل، ومن أتون هذا الصراع الدامي، وفي مواجهة إستراتيجية الحرائق وزرع الفتنة التي تتبعها السلطة، يبزغ جيل جديد يملك وعياً سياسياً سلمياً بامتياز، ينشد الحرية والكرامة، وتتولد منه قيم مغايرة عمادها الشجاعة والتضحية ونكران الذات، وتتبلور عبره هوية وطنية سورية جامعة تؤمن بالتنوع وتحترم الاختلاف.
خصوصية الحالة السورية لا تأتي من نشر السلطة للجيش في شوارع المدن والقرى، واستخدامها للمدافع والرشاشات الثقيلة والرصاص المتفجر في مواجهة المظاهرات. كما لا تأتي من إرسال فرق الموت والشبيحة لخطف الناشطين وقتلهم، ولا من ملء السجون ومراكز التحقيق بالمعتقلات والمعتقلين. خصوصية الحالة السورية تأتي من قدرة الناس، وبعد خمسة أشهر من استباحة المجتمع بمثل هذه الانتهاكات الخطيرة، على الاحتفاظ بالمجمل بسلمية تحركهم وعدم الانزلاق إلى لعبة السلطة الباحثة بأي طريقة عن جرِّهم إلى النزاع المسلح. أما ما تعجز السلطة عن إدراكه حتى يومنا، فهو أن الدبابات والمدافع والرشاشات الثقيلة يمكن لها أن تبيد الفرق والعصابات المسلحة، هذا إن وجدت، لكن ما لا يمكن لها أن تنجح فيه، خصوصاً في عصر الإنترنت واليوتيوب، هو أن تنتصر على شعب أعزل خرج مطالباً بكرامته وحريته بعد أن صبر عقوداً طويلة على الذل والهوان. من هنا، فمآل هذا الصراع بات واضحاً وجلياً لكل ذي بصيرة، وكل ما عداه مسألة وقت يمر وأثمان تدفع وإرادات تتصارع، وفي هذه النقاط الثلاث، لن تكون الغلبة إلا للشعب السوري.
إن من ينادي «الموت ولا المذلة» في مواجهة الدبابات، لا يمكن إلا أن يكون النصر حليفَه، لأن هذا النداء لا يأتي حباً بالموت بل إصراراً على أن تكون الحياة صنواً للكرامة.
تحولات في نظرة النخب السورية إلى لبنان
شمس الدين الكيلاني
لم يكن بمقدور المثقف السوري أن يتنبأ بمدى التبدل الذي سيصيب الجغرافية السياسية لبلاد الشام بعد الحرب الكونية الأولى، انجذب هذا المثقف للجمعيات العربية وانشد إلى ثورة الشريف حسين، كان يأمل على الأقل بدولة تضم بلاد الشام، أو بلاد آسيا العربية تحت راية الهاشميين. منذ تأسيس الكيانات: عندما ألَّف فيصل حكومته الأولى، ضمت في صفوفها رياض الصلح اللبناني وزيراً للداخلية، إلى جانب ذلك أجمعت أحزاب العهد الفيصلي في سورية على رفع شعار وحدة "سورية الطبيعية"، وحافظت حتى نهاية الثلاثينيات على هذا الهدف، دون إغفالها الهدف الأبعد: الوحدة العربية. ينطبق الأمر نفسه على الكتلة الوطنية، التي تأسست بعد الثورة السورية الكبرى، وانضم إليها الكثير من شخصيات حزب الشعب والاستقلال، والوطني السوري. عقدت شخصياتها مؤتمراً لها في بيروت في 27 تشرين الأول 1927م، برئاسة هاشم الأتاسي، حضره من الجانب اللبناني كلاً من عبد الحميد كرامي، وعبد الله اليافي، وعبد الرحمن بيهم، ومظهر أرسلان قرر فيه المؤتمرون خوض الانتخابات المزمع إجراؤها لانتخاب جمعية تأسيسية باسم الكتلة الوطنية في تموز عام 1928م، وعند فوزها بأكثرية مقاعد الجمعية التأسيسية صاغت دستوراً نص على وحدة البلاد السورية، فحذف منه الفرنسيون ست مواد بداعي تعارضها مع أوضاع قامت في لبنان وفلسطين وشرقي الأردن. لكن نتيجة لما أفرزه الانتداب من وقائع، وانخراط النخب السياسية المدنية ممثلة بـ"حزب الكتلة الوطنية" في عمليات التفاوض للوصول إلى معاهدة تعاقدية، انصرفت النخب النافذة في سورية للبحث عن أقصر السبيل لنيل الاستقلال، مع اقترانه بشعار الوحدة العربية، دون المرور بوحدة سورية الطبيعية، أو بالوحدة بلبنان. أما المثقف القومي الراديكالي، أو المثقف الإسلامي التقليدي والإصلاحي، فقد حافظ على نظريته إنكاره للحدود القائمة باعتبارها زائلة بزوال الاحتلال، فبرز في الثلاثينيات وبداية الأربعينيات، مثقفون قوميون راديكاليون، أبرزوا قضية الوحدة العربية في مقدمة عملهم. فظهرت (عصبة العمل القومي)، في 1933م، خرجت ببرنامج قومي راديكالي، كان بمثابة التربة التي استقت منها الأحزاب القومية (القوميين العرب، والبعث) بعض توجهاتها، شدَّد برنامج العصبة على تأليف دولة العرب الكبرى دون احترام للتنوعات والخصوصيات القطرية والثقافية والمذهبية. وفي بداية الأربعينيات، على إثر التصدعات التي أصابت (العصبة)، ظهرت النواة المؤسسة لحزب البعث، الذي دمج بين مسألتي الوحدة والاشتراكية، والطريقة الانقلابية للوصول إلى بعث الأمة عبر استعادة وحدتها، ثم ظهرت حركة القوميين العرب في مناخ النكبة بنواتها الفلسطينية - السورية الصلبة، وضعت الوحدة العربية في سلم أولوياتها، وإلى جوار هذا التوجه اختار جماعة (الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي تأسس في 16 تشرين الثاني 1932م) وحدة سورية الطبيعية. فتضاءل في برامج تلك الأحزاب العقائدية الاهتمام الملموس والبرامجي، بمصير العلاقة اللبنانية - السورية، بعد أن وضعوا تلك العلاقة في سياق رابطة أشمل: الوحدة العربية، أو وحدة البلاد الشامية. وبموازاة ذلك، اتجهت النخب النافذة المعبر عنها بالكتلة الوطنية، إلى الإفلات من البحث الشائك عن المصير المشترك: اللبناني السوري، لمصلحة التعاضد بين البلدين للوصول إلى معاهدات منفردة لنيل الاستقلال، واكتفت بالطرح النظري لمسألة الوحدة العربية. الانتقال من التكامل إلى التباعد: عندما دخلت جيوش فرنسا إلى لبنان، كان يربط المشرق العربي نوع من وحدة اقتصادية، تشمل متصرفية جبل لبنان، فأبقت السلطات الفرنسية الوضع الاقتصادي على ما كان عليه، وكرَّست التعامل بالليرة السورية في البلدين، وأبقت دائرة الجمارك واحدة، والتشريع الجمركي والاقتصادي واحد. لكن ما أبقاه الانتداب من وحدة اقتصادية بين البلدين، فرقته نخب الطبقة الوسطى الليبرالية، منذ إمساكها مقاليد الأمور بعد الاستقلال، فعندما التقى ممثلو الحكومتين: الجانب السوري (سعد الله الجابري وجميل مروم)، واللبناني (رياض الصلح)، في عام 1943م، قرَّروا فصل سائر المصالح التي كانت موحدة تحت الإدارة الفرنسية، وعقدوا بدلاً من ذلك الوحدة الجمركية، ثم تولى خالد العظم إلغاء هذه الوحدة الجمركية، في آذار 1951م. بموازاة هذا الانتقال إلى التباعد الاقتصادي، جرى انتقال مماثل على الصعيد السياسي، فقد تماثلت مدوناتهما التاريخية السياسية، فمن ثورة العشرينيات إلى معاهدة 36، إلى العهد الوطني 1943م، إلى الجلاء عام 1946م، ثم مع بداية العهد الوطني، انجذبت النخب الليبرالية السورية نحو المجال العربي دون المرور بالعلاقة اللبنانية. تجلى ذلك في برامج الأحزاب التي نشأت عن تفكك الكتلة الوطنية، اتجهت النخب السورية في أغلبها باتجاه المحيط العربي الأكبر، ونظرت إلى العلاقة مع لبنان على أنها مجرد جزء من العمل الوحدوي العربي الشامل. من تماثل الحياة السياسية إلى انقطاعها 1949م ـ 1954م: رغم اختلاف قواعد التوازنات الاجتماعية الكبرى في كلا البلدين، فإن مدونة حياتهما السياسية ظلَّت متماثلة: حريات عامة، سياسية وثقافية وصحافية في عالم برلماني مفتوح على الحوار والتنوع، وبقيت الصلات بين نخب البلدين، حاكمة ومحكومة منفتحة، فرياض الصلح وبشارة الخوري كانا يجددان دائماً ما يماثلهما، في دمشق وحلب، في المنبت والثقافة والميول مثل القوتلي والكيخيا مروراً بخالد العظم، وفارس الخوري .ما لبث الوضع أن انقلب برمته مع الإطلالة الأولى لحكم العسكر في ما بين 1949م ـ 1954م ، عندها حدث نوع من الانقطاع بين الحياة السياسية لكلا البلدين، دخلت سوريا حينها في حقبة حكم الثكنة للمدينة. ولكن في هذا العهد بدأت تزهو صورة لبنان وبيروت في نظر النخب السورية، ولا سيما المعارضة منها، إذ بدأ يُنظر إلى بيروت على أنها الملجأ من اضطهاد العسكر، وتزايدت قيمة الحرية البيروتية في كل انقلاب، والتجأ إلى بيروت وجوه كثيرة من المعارضة السورية عندما كان للديموقراطية قيمتها الكبرى في أذهان أغلب النخب السورية، قبل أن ينزلها الزمن التقدمي إلى أسفل سافلين! كل الدروب تمر بالقاهرة: تخلصت سوريا من حكمها العسكري عام 1954م، واستعادت حياتها الديموقراطية، في مناخ عربي جديد، افتتحته حركة 23 يوليو بقيادة ناصر، وفي عام 1956م خرج عبد الناصر من اختبار العدوان الثلاثي زعيماً بدون منازع للعرب، تحولت بعدها القاهرة إلى مركزٍ للعمل الوحدوي والقومي. فتجاذبت النخب السورية ما بين 1954 ـ 1958م خيارات عدة للوحدة العربية لم تمر أي منها في بيروت، كان هناك الخيار العراقي: حزب الشعب، وخيار الهلال الخصيب (مع الأردن)، إلى أن استقر الخيار الحاسم على مصر الناصرية، التي خاضت مع سوريا جنباً إلى جنب المعركة ضد الأحلاف، وفي غمار هذه المعمعة تقارب هذان المركزان، وإنقادا إلى وحدة1958. لقد استقطبت زعامة عبد الناصر أغلبية الشعب السوري، بما فيها قواعد أحزاب: الشعب والوطني والبعث، والإخوان والشيوعيين. وساندت هذا الخيار الكتل المختلفة في الجيش التي أثخنتها الانقلابات، والكتلة الشعبية الأساسية، وانحنى للعاصفة الشعبية قادة الأحزاب المختلفة، أما العلاقة مع لبنان فلم تعد سوى تفصيل ضئيل أمام الطريق إلى الوحدة العربية، وبالمقابل غلبت على القوى الوحدوية اللبنانية، والكتلة الإسلامية نزعة الولاء للقاهرة، وليس دمشق، وظل هذا الحال حتى وفاة عبد الناصر وتحول السادات. راقبت النخب القومية في سوريا تداعيات أحداث الوحدة، فشهدت حوادث 1958 في لبنان بتشجيع من السراج، غير أنها عقب دروس هذه الحوادث المؤلمة، أخذت موقفاً إيجابياً من الرئيس شهاب، ولم تعد تتوقع أن يكون لبنان رافداً إضافياً للوحدة، بل اتجهت أنظارها نحو العراق، بعد أن اندلعت حركة 14 تموز في العراق، إلا أن العراق أخذ وجهة أخرى تحت قيادة قاسم. وحدها النخب البرجوازية الليبرالية بعد أن تضررت من تأميمات 1961م، وجدت في لبنان متنفساً لها أمام ضيق سبل التعبير لديها، وحرية الاستثمار، أما الكتلة الشعبية الأساسية، فكان ولاؤها لعبد الناصر وللوحدة حاسماً، هانت دونها مسألة الحريات العامة، وهو ما يؤشر إلى بداية تضاؤل قيمة الديموقراطية في عيون النخب القومية السورية. وهنا ظهر بعض التباين في موقف البرجوازية اللبنانية الإسلامية عن زميلتها السورية من عبد الناصر، وزاد شعور النخب السورية بكل تلويناتها بتوطد الدولة اللبنانيةوالاعتراف العملي باستقلالها. أما في في فترة الانفصال 1961 -1963 فقد عادت النخب الليبرالية السورية، المألوفة لدى النخب الحاكمة في لبنان، إلى الحكم، وعادت الحياة البرلمانية والحريات العامة، في مناخ سياسي مضطرب متقلب مُهدَّداً من العسكر، ومن الحركة الناصرية الوازنة، أما العلاقة بلبنان فلم تكن (موضوعاً) للنقاش والاختلاف، في ظل هيمنة الجدل الصاخب حول العلاقة مع مصر عبد الناصر! صعود نخب جديدة مع انقطاع لغة التخاطب1963م ـ 1971م: تدهور حال النخب الليبرالية السورية، التي عرفتها النخبة اللبنانية واعتادت التعامل معها، وطال هذا التدهور للنخب قادة الحزب الوطني، وحزب الشعب، وإلى جوارهم الشيوعيون، لتأييدهم الانفصال، لم يسلم منه أبرز قادة البعث أكرم حوراني، وصلاح البيطار، وهذا ما أحدث فراغاً هائلاً في الزعامة، فبدأت دورة تجديد النخب فاجترح الشارع قيادات جديدة للتعبير عن توجهاته الناصرية الوحدوية، وتقدَّم الجيش في 8 آذار 1963م، للمشاركة في ملء ذلك الفراغ، وليعلن ميلاد مرحلة جديدة في تاريخ سوريا، وتاريخ علاقات نخبها الجديدة بملامحها الراديكالية المتجهمة بلبنان. سيطرت (الثقافة التقدمية) لتلك النخب بوجوهها المتصلبة، وجملها القاطعة ويقينها الثابت بطلائعيتها للأمة! ونظرت النخب المضطهدة إلى ديموقراطية بيروت كملجأ، في وقت ضاق الحاكمون بها ذرعاً، أما النخب البرجوازية الليبرالية فباتت ترى في بيروت حلمها الذي ضاع، أو ضيعته في دمشق، فأقامت فيها روحاً وأحياناً جسداً. وبقي البعث الممسك بالسلطة حذراً من المناخ الحر للجار اللبناني اللدود، لا يجد اللغة المشتركة التي يمكن أن يتحدث بها مع نخبه الحاكمة، فهي ليست عنده سوى برجوازية ليبرالية مرتبطة بالإمبريالية، وتميل في ظل هيمنة القاهرة على النظام العربي، إلى إعطاء الأرجحية لعبد الناصر، وهو المنافس الأخطر له، كما وجد الأبواب موصدة أمام علاقاته مع ما سُمِّي القوى الوطنية والإسلامية التي رأت في القاهرة المرجع للعروبة، من هنا ذهب الفرقاء اللبنانيون إلى عبد الناصر لتوقيع اتفاقية القاهرة وليس إلى دمشق. إلا أن خبرة الأيام علمت المثقف السوري، في صوره المختلفة، قيمة المتنفس الثقافي اللبناني الحر، حينما افتقد في بلده حرية التعبير، وضاقت أمامه مساحة النشر، التي تقلصت في بلده من عشرات الصحف والمجلات في أيام العز، إلى صحيفتين لهما صوت واحد، فسمع العرب عبر النافذة البيروتية صوت: الياس مرقص، وياسين الحافظ، وطرابيشي، ومطاع صفدي، وبرهان غليون، وغيرهم. التدخُّل في (الساحة اللبنانية): استلم الأسد السلطة عام1970، في ظروف مواتية، أزاح القيادة اليسراوية، فاستطاع جذب بعض (القوى التقدمية) إلى (الجبهة الوطنية التقدمية) تحت سقف قيادته، وخاض بالتنسيق مع القاهرة حرب تشرين 1973م، ووثّق علاقاته مع الاتحاد السوفياتي على قاعدة قبوله التسوية، ثم أتيح له ملء الفراغ الإقليمي، إثر غياب دور مصر في زمن السادات، وانشغال العراق في الحرب مع إيران، فتعاظمت علاقة السلطة السورية بالقوى اللبنانية والفلسطينية في (الساحة اللبنانية)، إلى أن احتلت موقع مصر الناصرية في لبنان. أما النخب السياسية القومية واليسارية السورية، فكانت تنظر إلى لبنان على ضوء ما يوفره من مناخ مساعد لنهوض العمل الفدائي ضد العدو الصهيوني. لهذا فقد استقبلت هذه النخب والأغلبية الشعبية بالسلبية والمرارة، دخول الجيش السوري إلى لبنان، عندما بدا لها أن هذا التدخل يساند (للجبهة اللبنانية)، لضرب المقاومة الفلسطينية، ولـ(لحركة الوطنية اللبنانية). فكان لهذا الحدث وقعه الكبير على السوريين انتهت به مرحلة التوافق الوطني النسبي الممتدة منذ عام 1970م، انقسمت بدلالاته البلاد، وقفت السلطة وحلفاؤها في (الجبهة الوطنية التقدمية)، في طرف والأكثرية الشعبية في موقع مغاير. وقد عبر المثقفون السوريون آنئذ في بيان لهم عن احتجاجهم على هذا التدخل، كما أصدر الحزب الشيوعي - المكتب السياسي، وحزب الاتحاد الاشتراكي العربي (د. جمال الأتاسي) موقفاً معارضا لهذا التدخل، لأنه لا يخدم القضية العربية، ولا النضال الفلسطيني، ولن يعزز وحدة اللبنانيين. أما عن تأثير ذلك على النظام الديموقراطي واستقلال لبنان، فلم يكونا سوى فرع صغير من اهتمام هذه النخبة. وحده ياسين الحافظ ومعه قلة من المثقفين السوريين، أدرك مسؤولية ما يسميه الانقسامات الاجتماعية العمودية في إثارة الحرب الأهلية اللبنانية، وأدرك حجم الخسارة التي تصيب الحياة العربية، إن فقدت نافذة الحرية في بيروت، وعبر عن شعوره هذا بقوله: "أحسست وأنا ذو الهوى القومي العربي، أنه ليس وطني فقط الذي يحترق، بل بيتي أيضاً، وأن كثيرة هي الأسباب الأصلية والمباشرة التي دفعت إلى إحراق لبنان، لكن يُخيل إلي أنه لقي هذا المصير لأنه نافذة للديموقراطية، مهما بدت مثلومة، جعلت من لبنان مختبراً فكرياً للوطن العربي، ومن بيروت عاصمته الثقافية والسياسية، وكانت تستهدفه بلا شك". أما الليبراليون السوريون الذين كاد ذكرهم أن ينطفئ، فلم يروا في ما يجري في لبنان، إلا تكراراً أكثر مأساوية، لما جرى في بلدهم سابقاً من عسكرة الحياة السياسية، وانطفاء السياسة كمشاركة حرة في الشأن العام، وفضل بعضهم، مثال خالد العظم، أن يدفن في لبنان، اعترافاً بالجميل للبلد الذي رقد فيه حتى نهاية العمر، في زمن خفت فيه صوت الحرية والقيم الديموقراطية. تحولات في النظرة: بقيت المشكلات التي طرحها الوجود السوري في لبنان في مرمى نظر النخب السياسية السوري، مع حدوث تحولات في مواقفها إثر انحيازها للديموقراطية، فإن الجماعات التي عبرت عن نفسها تحت لافتة (التجمع الوطني الديموقراطي) وضمت ناصريين وماركسيين، أعلنت عن برنامج ديموقراطي عام 1980م، يقوم على اعتماد أسس النظام الديموقراطي البرلماني في بلدهم، وأعربت عن عدم رضاها على طريقة تعاطي السلطات السورية في الشأن اللبناني، حيث رأوا أنها لعبت على التوازنات الاجتماعية والطائفية لتستديم الطلب على بقائها من جهة، واعتمدت على الحلول الأمنية، فزادت من تمزق الاجتماع اللبناني، وأضعفت الحياة الديموقراطية فيه. وخلصت إلى قراءة جديدة للحرب اللبنانية، اعتبرت أن أهدافها الرئيسية ضرب نظامها الديموقراطي، الذي "كان أفضل حالاً من كل الإمبراطوريات العربية، وكان عليه بسبب ذلك أن يدفع الثمن غالياً، فالشكل اللبناني للديموقراطية أخاف الحكام العرب من أن تمتد جرثومته إلى أقطارهم وشعوبهم، وكان هذا أحد الأسباب التي دعتهم إلى أن يسوقوه ويسوقوا معه المقاومة الفلسطينية إلى محنة تدمير الذات". على الرغم مما واجه الحياة السياسية السورية حالة من الانطفاء، في ظل محنة الثمانينبات، فإن النخب السياسية السورية لم تكف عن التعبير عن وجهة نظرها تجاه ما يجري في لبنان، فعبرت عن ارتياحها لعودة دورة الحياة الطبيعية بعد مؤتمر الطائف، على طريق استرجاع لبنان عافيته وحياته الديموقراطية، والتعايش عبر إحياء مؤسساته السياسية الشرعية، رغم ما يشوب كل ذلك من نواقص، ولا سيما في ما يخص الحضور السوري الكثيف في الشأن اللبناني. ولم تعد تشكك هذه القوى لا في خطابها السياسي، ولا في شعورها في شرعية الكيان اللبناني، بينما امتلأ خطاب السلطة بالإشارات المتناقضة حول شرعية هذا الكيان. مع العهد الجديد: تجدد اهتمام النخب السورية المعارضة بالشأن اللبناني مع الانتعاش النسبي للحياة السياسية والثقافية السورية آنئذ في بداية العهد الجديد، يوجُّهها إدراك متزايد بتعاظم ترابط المسألة الديموقراطية في كلا البلدين. لكن آمال السوريين في الإصلاح الداخلي، وفي تصحيح العلاقة مع لبنان على قاعدة الاستقلال والاحترام المتبادلين، ما لبثت أن تبددت، مع استعادة هيمنة دورة الدولة الأمنية الأوامرية آلية عملها. في الداخل وفي العلاقة بلبنان، وبلغ هذا المنطق ذروة انفضاحه، بمناسبة التمديد للرئيس لحود. لهذا لم تتفاجأ المعارضة السورية بتعالي أصوات اللبنانيين المطالبة بالحرية وبخروج القوات السورية، على إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط 2005، ولقد راقبت النخب السورية المعارضة بالإعجاب خروج اللبنانيين من رماد الألم بثورتهم المخملية نحو الحلم بالحرية، فكان لصرخة الحرية في بيروت صداها الطيب لديهم. وإذا كان المثقفون السوريون المعارضون لم يستطيعوا تغيير أداء السلطة تجاه لبنان، فإنهم نأوا بأنفسهم عنها، وأصدروا بياناً أعربوا فيه عن تأييدهم لمطالب اللبنانيين، ودعوا السلطة إلى سحب قواتها من لبنان، كما أصدرت المعارضة ممثلة بـ(التجمع الوطني الديموقراطي) بياناً إلى الشعب في 15 شباط. جاء فيه " إن تلك الجرائم ما كان لها أن تنجح لو أن العلاقات اللبنانية -السورية صحيحة، وصحِّية، مبنية على أساس الاحترام المتبادل والعلاقة المتكافئة, دون تدخل في الشؤون الداخلية، ثم دعا "إلى الاستجابة لإرادة الشعب اللبناني". بينما شجَّع أنصار السلطة على نشر نزعة شوفينية سورية في وجه اللبنانيين ناكري الجميل! وقد أطلق (التجمع الوطني) والعشرات من القوى والشخصيات في اكتوبر 2005 (إعلان دمشق)، دعوا فيه بشأن لبنان إلى "تصحيح العلاقة مع لبنان، لتقوم على أسس الحرية والاستقلال والسيادة والمصالح المشتركة بين الشعبين والدولتين". ولعل هذا التوجه شكَّل قاسماً مشتركاً للنخب السورية المعارضة، وقد عبَّر عن هذا التوجه المثقفون السوريون الذين وقعوا مع مثقفين لبنانيين على إعلان بيروت - دمشق لتصحيح العلاقة السورية اللبنانية، فكان جزاؤهم المعتقل! وقد أطلق الحراك الشعبي الراهن العديد من الشعارات التي تدعو لخلاص الشعبين، اللبناني والسوري من هيمنة النهج التسلطي الأوامري للسطة السورية.
لم يكن بمقدور المثقف السوري أن يتنبأ بمدى التبدل الذي سيصيب الجغرافية السياسية لبلاد الشام بعد الحرب الكونية الأولى، انجذب هذا المثقف للجمعيات العربية وانشد إلى ثورة الشريف حسين، كان يأمل على الأقل بدولة تضم بلاد الشام، أو بلاد آسيا العربية تحت راية الهاشميين. منذ تأسيس الكيانات: عندما ألَّف فيصل حكومته الأولى، ضمت في صفوفها رياض الصلح اللبناني وزيراً للداخلية، إلى جانب ذلك أجمعت أحزاب العهد الفيصلي في سورية على رفع شعار وحدة "سورية الطبيعية"، وحافظت حتى نهاية الثلاثينيات على هذا الهدف، دون إغفالها الهدف الأبعد: الوحدة العربية. ينطبق الأمر نفسه على الكتلة الوطنية، التي تأسست بعد الثورة السورية الكبرى، وانضم إليها الكثير من شخصيات حزب الشعب والاستقلال، والوطني السوري. عقدت شخصياتها مؤتمراً لها في بيروت في 27 تشرين الأول 1927م، برئاسة هاشم الأتاسي، حضره من الجانب اللبناني كلاً من عبد الحميد كرامي، وعبد الله اليافي، وعبد الرحمن بيهم، ومظهر أرسلان قرر فيه المؤتمرون خوض الانتخابات المزمع إجراؤها لانتخاب جمعية تأسيسية باسم الكتلة الوطنية في تموز عام 1928م، وعند فوزها بأكثرية مقاعد الجمعية التأسيسية صاغت دستوراً نص على وحدة البلاد السورية، فحذف منه الفرنسيون ست مواد بداعي تعارضها مع أوضاع قامت في لبنان وفلسطين وشرقي الأردن. لكن نتيجة لما أفرزه الانتداب من وقائع، وانخراط النخب السياسية المدنية ممثلة بـ"حزب الكتلة الوطنية" في عمليات التفاوض للوصول إلى معاهدة تعاقدية، انصرفت النخب النافذة في سورية للبحث عن أقصر السبيل لنيل الاستقلال، مع اقترانه بشعار الوحدة العربية، دون المرور بوحدة سورية الطبيعية، أو بالوحدة بلبنان. أما المثقف القومي الراديكالي، أو المثقف الإسلامي التقليدي والإصلاحي، فقد حافظ على نظريته إنكاره للحدود القائمة باعتبارها زائلة بزوال الاحتلال، فبرز في الثلاثينيات وبداية الأربعينيات، مثقفون قوميون راديكاليون، أبرزوا قضية الوحدة العربية في مقدمة عملهم. فظهرت (عصبة العمل القومي)، في 1933م، خرجت ببرنامج قومي راديكالي، كان بمثابة التربة التي استقت منها الأحزاب القومية (القوميين العرب، والبعث) بعض توجهاتها، شدَّد برنامج العصبة على تأليف دولة العرب الكبرى دون احترام للتنوعات والخصوصيات القطرية والثقافية والمذهبية. وفي بداية الأربعينيات، على إثر التصدعات التي أصابت (العصبة)، ظهرت النواة المؤسسة لحزب البعث، الذي دمج بين مسألتي الوحدة والاشتراكية، والطريقة الانقلابية للوصول إلى بعث الأمة عبر استعادة وحدتها، ثم ظهرت حركة القوميين العرب في مناخ النكبة بنواتها الفلسطينية - السورية الصلبة، وضعت الوحدة العربية في سلم أولوياتها، وإلى جوار هذا التوجه اختار جماعة (الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي تأسس في 16 تشرين الثاني 1932م) وحدة سورية الطبيعية. فتضاءل في برامج تلك الأحزاب العقائدية الاهتمام الملموس والبرامجي، بمصير العلاقة اللبنانية - السورية، بعد أن وضعوا تلك العلاقة في سياق رابطة أشمل: الوحدة العربية، أو وحدة البلاد الشامية. وبموازاة ذلك، اتجهت النخب النافذة المعبر عنها بالكتلة الوطنية، إلى الإفلات من البحث الشائك عن المصير المشترك: اللبناني السوري، لمصلحة التعاضد بين البلدين للوصول إلى معاهدات منفردة لنيل الاستقلال، واكتفت بالطرح النظري لمسألة الوحدة العربية. الانتقال من التكامل إلى التباعد: عندما دخلت جيوش فرنسا إلى لبنان، كان يربط المشرق العربي نوع من وحدة اقتصادية، تشمل متصرفية جبل لبنان، فأبقت السلطات الفرنسية الوضع الاقتصادي على ما كان عليه، وكرَّست التعامل بالليرة السورية في البلدين، وأبقت دائرة الجمارك واحدة، والتشريع الجمركي والاقتصادي واحد. لكن ما أبقاه الانتداب من وحدة اقتصادية بين البلدين، فرقته نخب الطبقة الوسطى الليبرالية، منذ إمساكها مقاليد الأمور بعد الاستقلال، فعندما التقى ممثلو الحكومتين: الجانب السوري (سعد الله الجابري وجميل مروم)، واللبناني (رياض الصلح)، في عام 1943م، قرَّروا فصل سائر المصالح التي كانت موحدة تحت الإدارة الفرنسية، وعقدوا بدلاً من ذلك الوحدة الجمركية، ثم تولى خالد العظم إلغاء هذه الوحدة الجمركية، في آذار 1951م. بموازاة هذا الانتقال إلى التباعد الاقتصادي، جرى انتقال مماثل على الصعيد السياسي، فقد تماثلت مدوناتهما التاريخية السياسية، فمن ثورة العشرينيات إلى معاهدة 36، إلى العهد الوطني 1943م، إلى الجلاء عام 1946م، ثم مع بداية العهد الوطني، انجذبت النخب الليبرالية السورية نحو المجال العربي دون المرور بالعلاقة اللبنانية. تجلى ذلك في برامج الأحزاب التي نشأت عن تفكك الكتلة الوطنية، اتجهت النخب السورية في أغلبها باتجاه المحيط العربي الأكبر، ونظرت إلى العلاقة مع لبنان على أنها مجرد جزء من العمل الوحدوي العربي الشامل. من تماثل الحياة السياسية إلى انقطاعها 1949م ـ 1954م: رغم اختلاف قواعد التوازنات الاجتماعية الكبرى في كلا البلدين، فإن مدونة حياتهما السياسية ظلَّت متماثلة: حريات عامة، سياسية وثقافية وصحافية في عالم برلماني مفتوح على الحوار والتنوع، وبقيت الصلات بين نخب البلدين، حاكمة ومحكومة منفتحة، فرياض الصلح وبشارة الخوري كانا يجددان دائماً ما يماثلهما، في دمشق وحلب، في المنبت والثقافة والميول مثل القوتلي والكيخيا مروراً بخالد العظم، وفارس الخوري .ما لبث الوضع أن انقلب برمته مع الإطلالة الأولى لحكم العسكر في ما بين 1949م ـ 1954م ، عندها حدث نوع من الانقطاع بين الحياة السياسية لكلا البلدين، دخلت سوريا حينها في حقبة حكم الثكنة للمدينة. ولكن في هذا العهد بدأت تزهو صورة لبنان وبيروت في نظر النخب السورية، ولا سيما المعارضة منها، إذ بدأ يُنظر إلى بيروت على أنها الملجأ من اضطهاد العسكر، وتزايدت قيمة الحرية البيروتية في كل انقلاب، والتجأ إلى بيروت وجوه كثيرة من المعارضة السورية عندما كان للديموقراطية قيمتها الكبرى في أذهان أغلب النخب السورية، قبل أن ينزلها الزمن التقدمي إلى أسفل سافلين! كل الدروب تمر بالقاهرة: تخلصت سوريا من حكمها العسكري عام 1954م، واستعادت حياتها الديموقراطية، في مناخ عربي جديد، افتتحته حركة 23 يوليو بقيادة ناصر، وفي عام 1956م خرج عبد الناصر من اختبار العدوان الثلاثي زعيماً بدون منازع للعرب، تحولت بعدها القاهرة إلى مركزٍ للعمل الوحدوي والقومي. فتجاذبت النخب السورية ما بين 1954 ـ 1958م خيارات عدة للوحدة العربية لم تمر أي منها في بيروت، كان هناك الخيار العراقي: حزب الشعب، وخيار الهلال الخصيب (مع الأردن)، إلى أن استقر الخيار الحاسم على مصر الناصرية، التي خاضت مع سوريا جنباً إلى جنب المعركة ضد الأحلاف، وفي غمار هذه المعمعة تقارب هذان المركزان، وإنقادا إلى وحدة1958. لقد استقطبت زعامة عبد الناصر أغلبية الشعب السوري، بما فيها قواعد أحزاب: الشعب والوطني والبعث، والإخوان والشيوعيين. وساندت هذا الخيار الكتل المختلفة في الجيش التي أثخنتها الانقلابات، والكتلة الشعبية الأساسية، وانحنى للعاصفة الشعبية قادة الأحزاب المختلفة، أما العلاقة مع لبنان فلم تعد سوى تفصيل ضئيل أمام الطريق إلى الوحدة العربية، وبالمقابل غلبت على القوى الوحدوية اللبنانية، والكتلة الإسلامية نزعة الولاء للقاهرة، وليس دمشق، وظل هذا الحال حتى وفاة عبد الناصر وتحول السادات. راقبت النخب القومية في سوريا تداعيات أحداث الوحدة، فشهدت حوادث 1958 في لبنان بتشجيع من السراج، غير أنها عقب دروس هذه الحوادث المؤلمة، أخذت موقفاً إيجابياً من الرئيس شهاب، ولم تعد تتوقع أن يكون لبنان رافداً إضافياً للوحدة، بل اتجهت أنظارها نحو العراق، بعد أن اندلعت حركة 14 تموز في العراق، إلا أن العراق أخذ وجهة أخرى تحت قيادة قاسم. وحدها النخب البرجوازية الليبرالية بعد أن تضررت من تأميمات 1961م، وجدت في لبنان متنفساً لها أمام ضيق سبل التعبير لديها، وحرية الاستثمار، أما الكتلة الشعبية الأساسية، فكان ولاؤها لعبد الناصر وللوحدة حاسماً، هانت دونها مسألة الحريات العامة، وهو ما يؤشر إلى بداية تضاؤل قيمة الديموقراطية في عيون النخب القومية السورية. وهنا ظهر بعض التباين في موقف البرجوازية اللبنانية الإسلامية عن زميلتها السورية من عبد الناصر، وزاد شعور النخب السورية بكل تلويناتها بتوطد الدولة اللبنانيةوالاعتراف العملي باستقلالها. أما في في فترة الانفصال 1961 -1963 فقد عادت النخب الليبرالية السورية، المألوفة لدى النخب الحاكمة في لبنان، إلى الحكم، وعادت الحياة البرلمانية والحريات العامة، في مناخ سياسي مضطرب متقلب مُهدَّداً من العسكر، ومن الحركة الناصرية الوازنة، أما العلاقة بلبنان فلم تكن (موضوعاً) للنقاش والاختلاف، في ظل هيمنة الجدل الصاخب حول العلاقة مع مصر عبد الناصر! صعود نخب جديدة مع انقطاع لغة التخاطب1963م ـ 1971م: تدهور حال النخب الليبرالية السورية، التي عرفتها النخبة اللبنانية واعتادت التعامل معها، وطال هذا التدهور للنخب قادة الحزب الوطني، وحزب الشعب، وإلى جوارهم الشيوعيون، لتأييدهم الانفصال، لم يسلم منه أبرز قادة البعث أكرم حوراني، وصلاح البيطار، وهذا ما أحدث فراغاً هائلاً في الزعامة، فبدأت دورة تجديد النخب فاجترح الشارع قيادات جديدة للتعبير عن توجهاته الناصرية الوحدوية، وتقدَّم الجيش في 8 آذار 1963م، للمشاركة في ملء ذلك الفراغ، وليعلن ميلاد مرحلة جديدة في تاريخ سوريا، وتاريخ علاقات نخبها الجديدة بملامحها الراديكالية المتجهمة بلبنان. سيطرت (الثقافة التقدمية) لتلك النخب بوجوهها المتصلبة، وجملها القاطعة ويقينها الثابت بطلائعيتها للأمة! ونظرت النخب المضطهدة إلى ديموقراطية بيروت كملجأ، في وقت ضاق الحاكمون بها ذرعاً، أما النخب البرجوازية الليبرالية فباتت ترى في بيروت حلمها الذي ضاع، أو ضيعته في دمشق، فأقامت فيها روحاً وأحياناً جسداً. وبقي البعث الممسك بالسلطة حذراً من المناخ الحر للجار اللبناني اللدود، لا يجد اللغة المشتركة التي يمكن أن يتحدث بها مع نخبه الحاكمة، فهي ليست عنده سوى برجوازية ليبرالية مرتبطة بالإمبريالية، وتميل في ظل هيمنة القاهرة على النظام العربي، إلى إعطاء الأرجحية لعبد الناصر، وهو المنافس الأخطر له، كما وجد الأبواب موصدة أمام علاقاته مع ما سُمِّي القوى الوطنية والإسلامية التي رأت في القاهرة المرجع للعروبة، من هنا ذهب الفرقاء اللبنانيون إلى عبد الناصر لتوقيع اتفاقية القاهرة وليس إلى دمشق. إلا أن خبرة الأيام علمت المثقف السوري، في صوره المختلفة، قيمة المتنفس الثقافي اللبناني الحر، حينما افتقد في بلده حرية التعبير، وضاقت أمامه مساحة النشر، التي تقلصت في بلده من عشرات الصحف والمجلات في أيام العز، إلى صحيفتين لهما صوت واحد، فسمع العرب عبر النافذة البيروتية صوت: الياس مرقص، وياسين الحافظ، وطرابيشي، ومطاع صفدي، وبرهان غليون، وغيرهم. التدخُّل في (الساحة اللبنانية): استلم الأسد السلطة عام1970، في ظروف مواتية، أزاح القيادة اليسراوية، فاستطاع جذب بعض (القوى التقدمية) إلى (الجبهة الوطنية التقدمية) تحت سقف قيادته، وخاض بالتنسيق مع القاهرة حرب تشرين 1973م، ووثّق علاقاته مع الاتحاد السوفياتي على قاعدة قبوله التسوية، ثم أتيح له ملء الفراغ الإقليمي، إثر غياب دور مصر في زمن السادات، وانشغال العراق في الحرب مع إيران، فتعاظمت علاقة السلطة السورية بالقوى اللبنانية والفلسطينية في (الساحة اللبنانية)، إلى أن احتلت موقع مصر الناصرية في لبنان. أما النخب السياسية القومية واليسارية السورية، فكانت تنظر إلى لبنان على ضوء ما يوفره من مناخ مساعد لنهوض العمل الفدائي ضد العدو الصهيوني. لهذا فقد استقبلت هذه النخب والأغلبية الشعبية بالسلبية والمرارة، دخول الجيش السوري إلى لبنان، عندما بدا لها أن هذا التدخل يساند (للجبهة اللبنانية)، لضرب المقاومة الفلسطينية، ولـ(لحركة الوطنية اللبنانية). فكان لهذا الحدث وقعه الكبير على السوريين انتهت به مرحلة التوافق الوطني النسبي الممتدة منذ عام 1970م، انقسمت بدلالاته البلاد، وقفت السلطة وحلفاؤها في (الجبهة الوطنية التقدمية)، في طرف والأكثرية الشعبية في موقع مغاير. وقد عبر المثقفون السوريون آنئذ في بيان لهم عن احتجاجهم على هذا التدخل، كما أصدر الحزب الشيوعي - المكتب السياسي، وحزب الاتحاد الاشتراكي العربي (د. جمال الأتاسي) موقفاً معارضا لهذا التدخل، لأنه لا يخدم القضية العربية، ولا النضال الفلسطيني، ولن يعزز وحدة اللبنانيين. أما عن تأثير ذلك على النظام الديموقراطي واستقلال لبنان، فلم يكونا سوى فرع صغير من اهتمام هذه النخبة. وحده ياسين الحافظ ومعه قلة من المثقفين السوريين، أدرك مسؤولية ما يسميه الانقسامات الاجتماعية العمودية في إثارة الحرب الأهلية اللبنانية، وأدرك حجم الخسارة التي تصيب الحياة العربية، إن فقدت نافذة الحرية في بيروت، وعبر عن شعوره هذا بقوله: "أحسست وأنا ذو الهوى القومي العربي، أنه ليس وطني فقط الذي يحترق، بل بيتي أيضاً، وأن كثيرة هي الأسباب الأصلية والمباشرة التي دفعت إلى إحراق لبنان، لكن يُخيل إلي أنه لقي هذا المصير لأنه نافذة للديموقراطية، مهما بدت مثلومة، جعلت من لبنان مختبراً فكرياً للوطن العربي، ومن بيروت عاصمته الثقافية والسياسية، وكانت تستهدفه بلا شك". أما الليبراليون السوريون الذين كاد ذكرهم أن ينطفئ، فلم يروا في ما يجري في لبنان، إلا تكراراً أكثر مأساوية، لما جرى في بلدهم سابقاً من عسكرة الحياة السياسية، وانطفاء السياسة كمشاركة حرة في الشأن العام، وفضل بعضهم، مثال خالد العظم، أن يدفن في لبنان، اعترافاً بالجميل للبلد الذي رقد فيه حتى نهاية العمر، في زمن خفت فيه صوت الحرية والقيم الديموقراطية. تحولات في النظرة: بقيت المشكلات التي طرحها الوجود السوري في لبنان في مرمى نظر النخب السياسية السوري، مع حدوث تحولات في مواقفها إثر انحيازها للديموقراطية، فإن الجماعات التي عبرت عن نفسها تحت لافتة (التجمع الوطني الديموقراطي) وضمت ناصريين وماركسيين، أعلنت عن برنامج ديموقراطي عام 1980م، يقوم على اعتماد أسس النظام الديموقراطي البرلماني في بلدهم، وأعربت عن عدم رضاها على طريقة تعاطي السلطات السورية في الشأن اللبناني، حيث رأوا أنها لعبت على التوازنات الاجتماعية والطائفية لتستديم الطلب على بقائها من جهة، واعتمدت على الحلول الأمنية، فزادت من تمزق الاجتماع اللبناني، وأضعفت الحياة الديموقراطية فيه. وخلصت إلى قراءة جديدة للحرب اللبنانية، اعتبرت أن أهدافها الرئيسية ضرب نظامها الديموقراطي، الذي "كان أفضل حالاً من كل الإمبراطوريات العربية، وكان عليه بسبب ذلك أن يدفع الثمن غالياً، فالشكل اللبناني للديموقراطية أخاف الحكام العرب من أن تمتد جرثومته إلى أقطارهم وشعوبهم، وكان هذا أحد الأسباب التي دعتهم إلى أن يسوقوه ويسوقوا معه المقاومة الفلسطينية إلى محنة تدمير الذات". على الرغم مما واجه الحياة السياسية السورية حالة من الانطفاء، في ظل محنة الثمانينبات، فإن النخب السياسية السورية لم تكف عن التعبير عن وجهة نظرها تجاه ما يجري في لبنان، فعبرت عن ارتياحها لعودة دورة الحياة الطبيعية بعد مؤتمر الطائف، على طريق استرجاع لبنان عافيته وحياته الديموقراطية، والتعايش عبر إحياء مؤسساته السياسية الشرعية، رغم ما يشوب كل ذلك من نواقص، ولا سيما في ما يخص الحضور السوري الكثيف في الشأن اللبناني. ولم تعد تشكك هذه القوى لا في خطابها السياسي، ولا في شعورها في شرعية الكيان اللبناني، بينما امتلأ خطاب السلطة بالإشارات المتناقضة حول شرعية هذا الكيان. مع العهد الجديد: تجدد اهتمام النخب السورية المعارضة بالشأن اللبناني مع الانتعاش النسبي للحياة السياسية والثقافية السورية آنئذ في بداية العهد الجديد، يوجُّهها إدراك متزايد بتعاظم ترابط المسألة الديموقراطية في كلا البلدين. لكن آمال السوريين في الإصلاح الداخلي، وفي تصحيح العلاقة مع لبنان على قاعدة الاستقلال والاحترام المتبادلين، ما لبثت أن تبددت، مع استعادة هيمنة دورة الدولة الأمنية الأوامرية آلية عملها. في الداخل وفي العلاقة بلبنان، وبلغ هذا المنطق ذروة انفضاحه، بمناسبة التمديد للرئيس لحود. لهذا لم تتفاجأ المعارضة السورية بتعالي أصوات اللبنانيين المطالبة بالحرية وبخروج القوات السورية، على إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط 2005، ولقد راقبت النخب السورية المعارضة بالإعجاب خروج اللبنانيين من رماد الألم بثورتهم المخملية نحو الحلم بالحرية، فكان لصرخة الحرية في بيروت صداها الطيب لديهم. وإذا كان المثقفون السوريون المعارضون لم يستطيعوا تغيير أداء السلطة تجاه لبنان، فإنهم نأوا بأنفسهم عنها، وأصدروا بياناً أعربوا فيه عن تأييدهم لمطالب اللبنانيين، ودعوا السلطة إلى سحب قواتها من لبنان، كما أصدرت المعارضة ممثلة بـ(التجمع الوطني الديموقراطي) بياناً إلى الشعب في 15 شباط. جاء فيه " إن تلك الجرائم ما كان لها أن تنجح لو أن العلاقات اللبنانية -السورية صحيحة، وصحِّية، مبنية على أساس الاحترام المتبادل والعلاقة المتكافئة, دون تدخل في الشؤون الداخلية، ثم دعا "إلى الاستجابة لإرادة الشعب اللبناني". بينما شجَّع أنصار السلطة على نشر نزعة شوفينية سورية في وجه اللبنانيين ناكري الجميل! وقد أطلق (التجمع الوطني) والعشرات من القوى والشخصيات في اكتوبر 2005 (إعلان دمشق)، دعوا فيه بشأن لبنان إلى "تصحيح العلاقة مع لبنان، لتقوم على أسس الحرية والاستقلال والسيادة والمصالح المشتركة بين الشعبين والدولتين". ولعل هذا التوجه شكَّل قاسماً مشتركاً للنخب السورية المعارضة، وقد عبَّر عن هذا التوجه المثقفون السوريون الذين وقعوا مع مثقفين لبنانيين على إعلان بيروت - دمشق لتصحيح العلاقة السورية اللبنانية، فكان جزاؤهم المعتقل! وقد أطلق الحراك الشعبي الراهن العديد من الشعارات التي تدعو لخلاص الشعبين، اللبناني والسوري من هيمنة النهج التسلطي الأوامري للسطة السورية.
مجتمع أهلي/ مدني!
ميشيل كيلو
الأصل في المجتمع المدني أنه مجتمع يعطي الأولوية في منظوراته ونظمه ومصالحه للفرد
باعتباره مواطنا حرا في الدولة، يرى الجماعات من خلاله وبدلالته باعتبارها جماعات تتكون من مواطنين أحرارا ينظم القانون علاقاتها معهم، سواء انضووا في هيئات وأحزاب ومؤسسات أم لم يفعلوا. والأصل في المجتمع الأهلي أنه مجتمع يعطي الأولوية للجماعة ويرى الفرد من خلالها، باعتباره منتميا ثانويا أو تابعا إليها، ينضوي فيها ويلتزم بقيمها ومصالحها، فلا تعريف له إلا بواسطتها، ولا دور له إلا بدلالتها أو من خلالها، مع أن هذا المجتمع غالبا ما يكون تقليديا ومغلقا، بصورة كلية أو جزئية . وفي حين يحمل المجتمع المدني القيم التي تتصل بحرية المواطن كفرد ويقوم عليها، ومنها قبل كل شيء المواطنة والفردية والحرية الشخصية والعامة والاستنارة والانفتاح والحزبية المرتبطة بالفردية كنزعة والمصالح العامة المعرفة من خلال مصالح المواطنين الأفراد ... الخ، يرتبط المجتمع الأهلي بقيم تبدو معاكسة لها : من أولوية الجماعات، التي تعتبر الدولة أعلى أشكالها وتنظيماتها، إلى تغليب قيم التضامن والوحدة والتماسك والتقليد والهوية والخصوصية، وترجيح الطابع العضوي لأبنية وأدوار المؤسسات السياسية، بما في ذلك مؤسسة الدولة، التي لا تكون مهمتها الرئيسة عندئذ تنمية الحرية، كما هو حالها في المجتمع المدني، بل تنمية كل ما هو جمعي مثل ذلك الضرب من "النزعة الوطنية "، الذي يربط الوطن بالسلطة أو ببعض الجماعات الاجتماعية، ويعلي ما يسميه "المصلحة العامة"، بما هي مصلحة سلطوية أساسيا، على مصالح المواطنين الفردية. والدولة هنا كيان يحتوي المجتمع، وهي تعبيره السياسي الذي يخرجه من المجال العام، بينما هي في المجتمع المدني هذا المجتمع نفسه، الذي له حاملا مشتركا معها هو المواطن الحر، الذي يجب أن يتيحا له التجسد الحر والتعاقدي داخلهما. ومع أن المجتمع المدني يعتبر مرحلة في التطور تالية للمجتمع الأهلي، السابق في وجود الدول لسيادة المواطنة والحرية الفردية، فإن هذان كثيرا ما يوجدان معا، خاصة في البلدان التي تنتقل من حالة التقليد إلى حالة الحداثة، ومن الجماعية كإطار للهوية السياسية إلى الفردية التي تعبر عن المواطنة. ولعله من المفارق أن تكون نظم الاستبداد، التي تؤله الدولة كسلطة، هي التي دفعت بالمجتمع الأهلي إلى حركتين متعاكستين هما : التقوقع على الذات اتقاء لخطر اختراقه والتلاعب بأقداره بواسطة أجهزتها، التي تمارس سياسات تفتيتية / تحكمية حياله من جهة، والبقاء خارج منظومتها، كي لا تنجح في كسر آليات حمايته الذاتية التقليدية وتجلبه إلى حيث يصير خادما لها من جهة أخرى، يعيد إنتاج نفسه انطلاقا من رؤاها ومصالحها وبدلالتها، فيفقد خصوصيته وتماسكه، ويتفكك أو يتعطل ويضيع ضوابط وحدته وأدوات تسييره. في الحالة الثانية، يتبنى المجتمع الأهلي قيم المجتمع التقليدي، وفي مقدمها قيمة الحرية بما هي أداة فاعلة لمقاومة السلطة، ووسيلة عملية وحيدة للمحافظة على الذات. وإذن، فإن الاستبداد هو الذي يخير المجتمع الأهلي بين أن يصير مجتمع سلطة بلا هوية وتماسك، وبين تبني أفكار وقيم تنتمي إلى المرحلة التالية من تطوره، هي أفكار وقيم المجتمع المدني، التي تمكنه من الدفاع عن نفسه في الحاضر، وحمل بذور مستقبله في أحشائه وتسريع تحوله وانتقاله الروحي إليه، مع أن هذه العملية المعقدة والمؤلمة كثيرا ما تعرضه لمخاطر التصدع، وتحمل مخاطر على كيانه ذاته وعلى المنتمين إليه. ولعل تبني أفكار وقيم المجتمع المدني كان من المفاجآت السارة التي أعدها لنا المجتمع الأهلي وهو يبدأ تمرده التاريخي، ويستخدمها في صراعه من أجل حرية تتخطى تكويناته الجزئية إلى المجتمع بكامله، الذي يحدث وعيه قبل أن تتحدث بناه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويتبنى مواقف تقيّد طابعه كمجتمع أهلي، تقليدي، ركودي الطابع عموما، وتفقده هويته كمجتمع أهلي أو تقليدي صرف، وتدخله في حالة انتقالية تحركها وتعمقها قيمة الحرية كرابط جديد ومتزايد الأهمية والفاعلية بين أفراده، الذي يرون أنفسهم أكثر فأكثر بدلالتها، ويعملون بالتالي على ترقيته ونقله إلى حال مدنية أو شبه مدنية، يفسر توطنها فيه مطالبة قوى كثيرة تنتمي إليه بدولة مكافئة لها: نسميها اليوم الدولة المدنية / الديموقراطية، التي كثيرا ما أثار استغرابنا - واستهجان بعضنا - أن بنات وأبناء لقرى والبلدان الصغيرة والمتوسطة والمدن الموزعة على أحياء تتعايش فيها جماعات متنوعة هم الذين يطالبون بتحقيقها ويموتون تحت رايتها، ويعلنون أنها الإطار الذي سينظم مستقبلا علاقتهم بالمجال العام، وبمصالحهم وأدوارهم، في إطار المواطنة: المفهوم الجديد الذي يتبنونه ويجعلونه هدفهم ومطلبهم، ويناضلون تحت لوائه. لئن كان المجتمع الأهلي قد حافظ على شيء من تقليديته على صعيد أبنيته وعلاقاته الضيقة، فإنه تحول إلى مجتمع مدني على صعيد خطابه السياسي، الذي انطبع بطابع حديث، ما بعد سلطوي/ ما بعد استبدادي، هو حقل الشأن العام البديل، الذي يفسر وجوده في الوعي الحاجة إلى إقامته في الواقع، من خلال تعاظم الحراك المدني، الذي لطالما كان ضعيفا إلى الأمس القريب في بلداننا، وشرع يلعب دورا حاسما في إعادة إنتاج الواقع انطلاقا من فكرته المستقبلية البديلة، لذلك نراه يحد اليوم ونعتقد أنه سيحد أكثر فأكثر في الزمن الآتي من تأثير أيديولوجيات المجتمع الأهلي التقليدية والغيبية السائدة عليه، ويجعلنا نستبشر بإمكانية انتقاله حقا إلى مجتمع مدني ديموقراطي متطور وحديث، حامله مواطن يريد استعادة حريته ليعيد بمعونتها بناء حلمه: المجتمع البديل ودولته. هذه واحدة من أهم النتائج المباشرة للاستبداد، فهل ستزول بزواله؟ هل يتخلى المجتمع الأهلي عن إيمانه بالحرية، بعد زوال الاستبداد، أو في حال استمر ضمن أشكال معدلة؟ أعتقد أن هناك عوامل متعددة يتوقف عليها جواب هذا السؤال، منها : ما إذا كان إيمانه بالحرية موجها ضد النظام القائم وحده، وليس إيمانا بالحرية كمبدأ يصلح لكل زمان ومكان، ويصعب أو يستحيل التخلي عنه. وما إذا كان سينجح في تحرير نفسه من خلاله، وسيواصل تحويل وعيه إلى واقع مادي، ومكوناته إلى جماعات أفراد/ مواطنين يرى ذاته ومصالحه بدلالتهم وليس العكس، على غرار ما هو حادث اليوم. وما إذا كان نمط التضامن الوطني/ السياسي الجديد، الأفقي والواسع جدا، الذي ينشأ الآن في المجتمع الأهلي بفضل وحدة كفاحه ومطالبه ووعيه للحرية، سيترجم نفسه بنجاح حقيقي من قبل النخب السياسية، القديمة والجديدة، إلى نظام سياسي حديث وضارب، يقنع مواطن المجتمع الأهلي أن المدنية لا تنفي بالضرورة علاقاته وارتباطاته المحلية وحتى الفئوية وخصوصياته وحتى هويته، وإن أعادت تعريفها وشحنتها بمضامين إضافية وجديدة، وأن تمسكه بها وتطويرها مصلحة حقيقية له وللشعب عموما، فلا بد إذن من إعادة بناء حياته بما يتفق معها وينميها ويحميها، لتكون أساس وجوده السياسي والمجتمعي البديل، الذي يلبي حاجته إلى التقدم والقانون والكرامة والمشاركة في تقرير مصيره الشخصي. ثمة اليوم جديد على صعيد الوعي والواقع، السياسة والمجتمع، تجسده فدائية وسلمية ومدنية مواطن المجتمع لأهلي أساسا في وجه سلطات محدثة أمنيا ومسلحة حتى الأنياب وعدوانية، مثلما يجسده التبني العام لقيم وأفكار المجتمع المدني، مع أنه لم يكن إلى الأمس القريب يعلق كبير أهمية على الحرية كقيمة حياتية، وكان يرى حريته في التضامن مع مجتمعه الخاص، الذي فقد قدرته على حمايته من الاستبداد، ووجد نفسه مكرها على القيام بنقلة في وعيه وواقعه، أعادته إلى السياسة كطرف مقابل للسلطة، بعد أن كان الاستبداد قد زوده بكم من لغضب يكفي لخوض أصعب المعارك وأكثرها تطلبا للتضحية، معركة حريته الشخصية كمعركة تمثل جوهر الشأن العام، يخوضها اليوم ويضحي بحياته فيها، رغم عدم وجود قوى سياسية تمسك بيده وتقوده، يدفعه إليها إيمانه بأنها قضيته الشخصية، التي قد لا يملك الكثير مما يستطيع يقوله عنها، لكنه يملكها هي ذاتها في ذاته، بما هي حاجة يتوقف عليه مجمل مصيره. ينتقل المجتمع الأهلي العربي إلى واقع مغاير، بينما ينتقل معه المجتمع العربي الكبير من حال إلى أخرى، وينتقل مواطنه إلى وضع يكون فيه عقله في المجتمع المدني وقدماه في مجتمعه الأهلي، يكتسب بفضله سمات جديدة تؤهله لأن يصير الحامل الحقيقي للحرية، وكان يظن ويقال بالأمس فقط إنه بعيد عنها بعد الأرض عن السماء. هذه مرحلة انتقال أقل ما يقال فيها إن النظام القائم اليوم، الذي صار يستحق لقب النظام القديم، لن ينجح في تخطيها او التغلب عليها، ما دام تحول وعي المجتمع الأهلي إلى وعي مدني يلعب دورا خطيرا في تجفيف منابع قبوله الشعبي، ويحوله إلى عبء يجب التخلص منه، بفضل هذه الظاهرة الجديدة، عندنا وعند غيرنا، التي تجعل المجتمع الأهلي يقاتل في سبيل حرية المواطن الفرد، ودولة المجتمع المدني الديموقراطية، بكل تصميم.
الأصل في المجتمع المدني أنه مجتمع يعطي الأولوية في منظوراته ونظمه ومصالحه للفرد
باعتباره مواطنا حرا في الدولة، يرى الجماعات من خلاله وبدلالته باعتبارها جماعات تتكون من مواطنين أحرارا ينظم القانون علاقاتها معهم، سواء انضووا في هيئات وأحزاب ومؤسسات أم لم يفعلوا. والأصل في المجتمع الأهلي أنه مجتمع يعطي الأولوية للجماعة ويرى الفرد من خلالها، باعتباره منتميا ثانويا أو تابعا إليها، ينضوي فيها ويلتزم بقيمها ومصالحها، فلا تعريف له إلا بواسطتها، ولا دور له إلا بدلالتها أو من خلالها، مع أن هذا المجتمع غالبا ما يكون تقليديا ومغلقا، بصورة كلية أو جزئية . وفي حين يحمل المجتمع المدني القيم التي تتصل بحرية المواطن كفرد ويقوم عليها، ومنها قبل كل شيء المواطنة والفردية والحرية الشخصية والعامة والاستنارة والانفتاح والحزبية المرتبطة بالفردية كنزعة والمصالح العامة المعرفة من خلال مصالح المواطنين الأفراد ... الخ، يرتبط المجتمع الأهلي بقيم تبدو معاكسة لها : من أولوية الجماعات، التي تعتبر الدولة أعلى أشكالها وتنظيماتها، إلى تغليب قيم التضامن والوحدة والتماسك والتقليد والهوية والخصوصية، وترجيح الطابع العضوي لأبنية وأدوار المؤسسات السياسية، بما في ذلك مؤسسة الدولة، التي لا تكون مهمتها الرئيسة عندئذ تنمية الحرية، كما هو حالها في المجتمع المدني، بل تنمية كل ما هو جمعي مثل ذلك الضرب من "النزعة الوطنية "، الذي يربط الوطن بالسلطة أو ببعض الجماعات الاجتماعية، ويعلي ما يسميه "المصلحة العامة"، بما هي مصلحة سلطوية أساسيا، على مصالح المواطنين الفردية. والدولة هنا كيان يحتوي المجتمع، وهي تعبيره السياسي الذي يخرجه من المجال العام، بينما هي في المجتمع المدني هذا المجتمع نفسه، الذي له حاملا مشتركا معها هو المواطن الحر، الذي يجب أن يتيحا له التجسد الحر والتعاقدي داخلهما. ومع أن المجتمع المدني يعتبر مرحلة في التطور تالية للمجتمع الأهلي، السابق في وجود الدول لسيادة المواطنة والحرية الفردية، فإن هذان كثيرا ما يوجدان معا، خاصة في البلدان التي تنتقل من حالة التقليد إلى حالة الحداثة، ومن الجماعية كإطار للهوية السياسية إلى الفردية التي تعبر عن المواطنة. ولعله من المفارق أن تكون نظم الاستبداد، التي تؤله الدولة كسلطة، هي التي دفعت بالمجتمع الأهلي إلى حركتين متعاكستين هما : التقوقع على الذات اتقاء لخطر اختراقه والتلاعب بأقداره بواسطة أجهزتها، التي تمارس سياسات تفتيتية / تحكمية حياله من جهة، والبقاء خارج منظومتها، كي لا تنجح في كسر آليات حمايته الذاتية التقليدية وتجلبه إلى حيث يصير خادما لها من جهة أخرى، يعيد إنتاج نفسه انطلاقا من رؤاها ومصالحها وبدلالتها، فيفقد خصوصيته وتماسكه، ويتفكك أو يتعطل ويضيع ضوابط وحدته وأدوات تسييره. في الحالة الثانية، يتبنى المجتمع الأهلي قيم المجتمع التقليدي، وفي مقدمها قيمة الحرية بما هي أداة فاعلة لمقاومة السلطة، ووسيلة عملية وحيدة للمحافظة على الذات. وإذن، فإن الاستبداد هو الذي يخير المجتمع الأهلي بين أن يصير مجتمع سلطة بلا هوية وتماسك، وبين تبني أفكار وقيم تنتمي إلى المرحلة التالية من تطوره، هي أفكار وقيم المجتمع المدني، التي تمكنه من الدفاع عن نفسه في الحاضر، وحمل بذور مستقبله في أحشائه وتسريع تحوله وانتقاله الروحي إليه، مع أن هذه العملية المعقدة والمؤلمة كثيرا ما تعرضه لمخاطر التصدع، وتحمل مخاطر على كيانه ذاته وعلى المنتمين إليه. ولعل تبني أفكار وقيم المجتمع المدني كان من المفاجآت السارة التي أعدها لنا المجتمع الأهلي وهو يبدأ تمرده التاريخي، ويستخدمها في صراعه من أجل حرية تتخطى تكويناته الجزئية إلى المجتمع بكامله، الذي يحدث وعيه قبل أن تتحدث بناه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويتبنى مواقف تقيّد طابعه كمجتمع أهلي، تقليدي، ركودي الطابع عموما، وتفقده هويته كمجتمع أهلي أو تقليدي صرف، وتدخله في حالة انتقالية تحركها وتعمقها قيمة الحرية كرابط جديد ومتزايد الأهمية والفاعلية بين أفراده، الذي يرون أنفسهم أكثر فأكثر بدلالتها، ويعملون بالتالي على ترقيته ونقله إلى حال مدنية أو شبه مدنية، يفسر توطنها فيه مطالبة قوى كثيرة تنتمي إليه بدولة مكافئة لها: نسميها اليوم الدولة المدنية / الديموقراطية، التي كثيرا ما أثار استغرابنا - واستهجان بعضنا - أن بنات وأبناء لقرى والبلدان الصغيرة والمتوسطة والمدن الموزعة على أحياء تتعايش فيها جماعات متنوعة هم الذين يطالبون بتحقيقها ويموتون تحت رايتها، ويعلنون أنها الإطار الذي سينظم مستقبلا علاقتهم بالمجال العام، وبمصالحهم وأدوارهم، في إطار المواطنة: المفهوم الجديد الذي يتبنونه ويجعلونه هدفهم ومطلبهم، ويناضلون تحت لوائه. لئن كان المجتمع الأهلي قد حافظ على شيء من تقليديته على صعيد أبنيته وعلاقاته الضيقة، فإنه تحول إلى مجتمع مدني على صعيد خطابه السياسي، الذي انطبع بطابع حديث، ما بعد سلطوي/ ما بعد استبدادي، هو حقل الشأن العام البديل، الذي يفسر وجوده في الوعي الحاجة إلى إقامته في الواقع، من خلال تعاظم الحراك المدني، الذي لطالما كان ضعيفا إلى الأمس القريب في بلداننا، وشرع يلعب دورا حاسما في إعادة إنتاج الواقع انطلاقا من فكرته المستقبلية البديلة، لذلك نراه يحد اليوم ونعتقد أنه سيحد أكثر فأكثر في الزمن الآتي من تأثير أيديولوجيات المجتمع الأهلي التقليدية والغيبية السائدة عليه، ويجعلنا نستبشر بإمكانية انتقاله حقا إلى مجتمع مدني ديموقراطي متطور وحديث، حامله مواطن يريد استعادة حريته ليعيد بمعونتها بناء حلمه: المجتمع البديل ودولته. هذه واحدة من أهم النتائج المباشرة للاستبداد، فهل ستزول بزواله؟ هل يتخلى المجتمع الأهلي عن إيمانه بالحرية، بعد زوال الاستبداد، أو في حال استمر ضمن أشكال معدلة؟ أعتقد أن هناك عوامل متعددة يتوقف عليها جواب هذا السؤال، منها : ما إذا كان إيمانه بالحرية موجها ضد النظام القائم وحده، وليس إيمانا بالحرية كمبدأ يصلح لكل زمان ومكان، ويصعب أو يستحيل التخلي عنه. وما إذا كان سينجح في تحرير نفسه من خلاله، وسيواصل تحويل وعيه إلى واقع مادي، ومكوناته إلى جماعات أفراد/ مواطنين يرى ذاته ومصالحه بدلالتهم وليس العكس، على غرار ما هو حادث اليوم. وما إذا كان نمط التضامن الوطني/ السياسي الجديد، الأفقي والواسع جدا، الذي ينشأ الآن في المجتمع الأهلي بفضل وحدة كفاحه ومطالبه ووعيه للحرية، سيترجم نفسه بنجاح حقيقي من قبل النخب السياسية، القديمة والجديدة، إلى نظام سياسي حديث وضارب، يقنع مواطن المجتمع الأهلي أن المدنية لا تنفي بالضرورة علاقاته وارتباطاته المحلية وحتى الفئوية وخصوصياته وحتى هويته، وإن أعادت تعريفها وشحنتها بمضامين إضافية وجديدة، وأن تمسكه بها وتطويرها مصلحة حقيقية له وللشعب عموما، فلا بد إذن من إعادة بناء حياته بما يتفق معها وينميها ويحميها، لتكون أساس وجوده السياسي والمجتمعي البديل، الذي يلبي حاجته إلى التقدم والقانون والكرامة والمشاركة في تقرير مصيره الشخصي. ثمة اليوم جديد على صعيد الوعي والواقع، السياسة والمجتمع، تجسده فدائية وسلمية ومدنية مواطن المجتمع لأهلي أساسا في وجه سلطات محدثة أمنيا ومسلحة حتى الأنياب وعدوانية، مثلما يجسده التبني العام لقيم وأفكار المجتمع المدني، مع أنه لم يكن إلى الأمس القريب يعلق كبير أهمية على الحرية كقيمة حياتية، وكان يرى حريته في التضامن مع مجتمعه الخاص، الذي فقد قدرته على حمايته من الاستبداد، ووجد نفسه مكرها على القيام بنقلة في وعيه وواقعه، أعادته إلى السياسة كطرف مقابل للسلطة، بعد أن كان الاستبداد قد زوده بكم من لغضب يكفي لخوض أصعب المعارك وأكثرها تطلبا للتضحية، معركة حريته الشخصية كمعركة تمثل جوهر الشأن العام، يخوضها اليوم ويضحي بحياته فيها، رغم عدم وجود قوى سياسية تمسك بيده وتقوده، يدفعه إليها إيمانه بأنها قضيته الشخصية، التي قد لا يملك الكثير مما يستطيع يقوله عنها، لكنه يملكها هي ذاتها في ذاته، بما هي حاجة يتوقف عليه مجمل مصيره. ينتقل المجتمع الأهلي العربي إلى واقع مغاير، بينما ينتقل معه المجتمع العربي الكبير من حال إلى أخرى، وينتقل مواطنه إلى وضع يكون فيه عقله في المجتمع المدني وقدماه في مجتمعه الأهلي، يكتسب بفضله سمات جديدة تؤهله لأن يصير الحامل الحقيقي للحرية، وكان يظن ويقال بالأمس فقط إنه بعيد عنها بعد الأرض عن السماء. هذه مرحلة انتقال أقل ما يقال فيها إن النظام القائم اليوم، الذي صار يستحق لقب النظام القديم، لن ينجح في تخطيها او التغلب عليها، ما دام تحول وعي المجتمع الأهلي إلى وعي مدني يلعب دورا خطيرا في تجفيف منابع قبوله الشعبي، ويحوله إلى عبء يجب التخلص منه، بفضل هذه الظاهرة الجديدة، عندنا وعند غيرنا، التي تجعل المجتمع الأهلي يقاتل في سبيل حرية المواطن الفرد، ودولة المجتمع المدني الديموقراطية، بكل تصميم.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)