من نافلة القول إن الهيئات العربية المعاصرة ، على اختلاف أنواعها وألوانها (مؤسسات دينية ورسمية وأهلية، أحزاب وجماعات وحركات سياسية ، جمعيات ومشاريع خيرية ودعوية ، ومجتمع مدني حتى...) لا تقيم أدنى وزن أو اعتبار في وعيها وسلوكها لما يمكن نعته بالديموقراطية . أكان ذلك في طريقة تشكيلها وتكوين نفسها أم في وسيلة وكيفية إدارة شؤونها الداخلية وعلاقاتها الخارجية . وهي تستوي في ذلك مع الأنظمة والسلطات من حيث إمتناع المراقبة والمساءلة والمحاسبة والشورى وتداول السلطة وانتقالها وغياب حرية الرأي والتعبير وحق الاختلاف واحترام الآخر..
وتبدو السمة العامة الغالبة والمشهورة ( ولا عبرة باستثناءات أو مظاهر ذات طابع إعلامي فولكلوري) في فكر وممارسة الهيئات والحركات السياسية العربية (هي) سمة الإدارة المركزية والقيادة الآمرة والقاعدة المنضبطة المطيعة مما أعطى صورة سلبية واقعية عن الحزبية والعمل الحزبي في بلادنا.. هذا دون أن نتحدث عن صورة العمل الأهلي (جمعيات ومنتديات) الذي لا يخرج عن الانقسام الطائفي أو المذهبي أو العشائري أو المناطقي-الجهوي... وليس هنا مجال استعراض الظروف التاريخية والسياقات الاجتماعية والفكرية والثقافية التي ساهمت في نشوء الأحزاب السياسية الحديثة ، أو في تحوّل المذاهب والفرق الكلامية والفقهية إلى أحزاب أيديولوجية حملتها كتل اجتماعية ذات ديناميات عصبوية لا علاقة لها بالكلام او الفقه أو الاجتهاد العقلي ... . ولا يختلف الحزبيون الإسلاميون عن البعثيين أو القوميين السوريين أو الماركسيين في تقولبهم ضمن أشكال من النمطية الجامدة المنغلقة التي لا تتسع للحياة في المجتمع الواسع أو الوطن المتنوع الانتماءات أو الأمة المتعددة الشعوب والأعراق والاقاليم..وهنا سر اختفاء أحزاب عربية دون أن تترك أثراً.
إنغلق الحزبيون العرب ( كما أسلافهم) في مجتمعهم الخاص (الجماعة أو الحزب أو الطريقة) وبنوا وطنهم الخاص وأمتهم الخاصة وأنتجوا "فتاويهم" وأنظمتهم وقوانينهم الخاصة، مكررين التجربة الحزبية القومية واليسارية للغرب من حيث بناء التنظيم النخبوي ومن حيث الشعار والممارسة السياسية ومن حيث استهداف الإمساك بسلطة الدولة وخصوصاً من حيث تركيز القوة في رأس الهرم الحزبي- السلطوي- الدولتي بدل نشر القوة في المجتمع... وهم كرروا التجربة الغربية نمطاً وشكلاً، لا روحاً ولا فكراً...
ولم يُعدم الحزبيون العرب نصوصاً "دينية" (إسلامية كانت أم قومية أم ماركسية) تبرر التسلط والاستبداد والمركزية وعبادة الشخصية وتحنيط الحزب ، وتعطي معنى الأمر والقيادة المركزية والطاعة الإلزامية..
ولا يفيد في شيء محاولة التقصّي الوصفي لظواهر غياب الديموقراطية عن وعي وسلوك الحركة الحزبية المعاصرة ، فالأمر أظهر وأبرز من أن يُشار اليه، وهو يرتكز الى موروث تاريخي سلفي يستوي فيه الاسلامي مع القومي مع الماركسي...
لم تبحث الأحزاب عندنا عن مصدر الشرعية السياسية وعن قبول الناس لها ، وعن مصدر السلطات وطبيعتها وعن طريقة ممارسة هذه السلطات ... ولم تعرف الأحزاب عندنا الانتخاب أي إحترام رأي الشعب الذي هو مصدر الشرعية في النظام السياسي، ولا عرفت احترام الدستور وهو أهم ضوابط الشرعية فيه ، ولم تبحث أيضاً عن مسألة من هو صاحب السلطة والقرار في الدولة والحزب والمجتمع؟ أي من هو ”الآمر“وما هي مواصفاته وما هي ضوابطه؟ ومن يملك صلاحية تعيين أو اختيار "ولي الأمر" هذا (القائد أو الزعيم أو الأمين العام) ، ومن يملك صلاحية مراقبته ومساءلته وعزله عند الضرورة ؟ ما مدى شرعية الغلبة والوراثة ؟ ومن هم أهل الحل والعقد بلغة القدماء، أي النخبة أو الطليعة بلغة العصر؟ وما هي صلاحياتهم ومن يقررها؟ وما هي آليات مقاومة الاستبداد الداخلي؟ الخ...
أسئلة كثيرة أعاقت تبلور حياة حزبية صحيحة في بلادنا. فهل يفتح الربيع لبعربي الباب أمام ظاهرة حزبية ديموقراطية سليمة ومعافاة؟...