إظهار الرسائل ذات التسميات التنوير. إظهار كافة الرسائل
إظهار الرسائل ذات التسميات التنوير. إظهار كافة الرسائل
الأحد، 26 أغسطس 2012
كمال الصليبي.. عام على وفاته
سليمان بختي- المستقبل- نوافذ- الأحد 26 آب 2012
"كل معرفة تتضمن قدراً من نبذ المتداول"
في ذكراه السنوية الأولى، لا يزال المؤرّخ كمال الصليبي حاضراً فيما أرساه من قيم منهجية وعقلانية وموضوعية، في التعاطي والتفاعل والتصويب مع التاريخ. وفي مقاربته التفكيكية للأساطير المؤسسة لتاريخنا. وفي جرأته لإظهار الحقيقة وإشهارها والدفاع عنها، حتى يتبين له معطيات جديدة، فيغير ويتغير من دون أن يخشى لومة لائم. جمع كمال الصليبي بين أكاديمية صارمة وتجربة عملية مفتوحة الأفق على التاريخ والجغرافيا، وأخبار الناس وأحوالهم. جمع في كتاباته المقاييس الأكاديمية الدقيقة والربط المعرفي المفتوح الأفق. يعرف أن في الأبحاث والدراسات للعقل ألف عين وعين، أما في العلاقات الإنسانية فلا شيء سوى دفء القلب وحرارته.
أذكره في الجلسات وخصوصاً ما أسميناه ديوانية كل أحد صباحاً في منزله في رأس بيروت، يطل من شرفته على حرم الجامعة الأميركية والبحر المتوسط. ويطيل بنا المكث في ضيافة رجل نشر علينا من أنسه الكثير، ومن حديثه الطيب والحنون والأثير، وتبسط إلينا بعلمه وبأدبه، وقلّب أسماعنا على ما يقول، وقرب إلينا الموارد والمصادر وصوب الخطى، وأوضح لنا أن "كل معرفة صحيحة تتضمن قدراً من نبذ المتداول"، وأن "كل معرفة صحيحة هي أساس الفكر الصحيح ولا يتأتى عنها الفائدة مهما كان موضوعها". وأن كل معرفة جديدة تأتي بالمسرّة والكشف والسؤال والدهشة، وإذا الألفة طالعة من كل شوق ومن كل حنين.
فتح كمال الصليبي الباب الذي لا يمكن أن يقفله أحد. باب العقلانية والمنطق. باب النظر إلى العالم كما هو لا كما أريد لنا أن نراه. وفعل كل ذلك بهدوء. كتاباته كانت تثير الإشكالات والسجالات والردود. أما هو فباقٍ على صمته، الهادئ. ومن فرط رقته يكاد أن يهمس. هذا الهدوء الذي يلفك حين تلتقيه فتظن أن ثمة أمراً آخر يشغله أو يقلقه ولا علاقة له بالقضية التي تثيرها معه. أذكر حين حضرت أسئلتي لحوار مطول معه نشرته في كتابي "اشارات النص والابداع" (1995) أنني تقصدت أن أجمع في أسئلتي آراء كل منتقديه. وفاجأني أنه لم يهتز. رقة الحرير وصلابته في آن. أناقة تحوم ولا تستقر. مضني بالكلمات وكأنها حجارة ثمينة ترتجل. مُضني بقدرته على الكلام من دون كلام. متعب بما تريده الحقيقة. يفكر عنك ويصوغ السؤال معك. وإذا أراد أن يهرب فإنما يهرب بإحسان متكئاً على قول للصحافي الراحل ميشال ابو جوده "الذي يعرف لا يحكي، والذي يحكي لا يعرف، والذي لديه لا يفعل، والذي يفعل ليس لديه".
كان يغدق علينا القصص والنوادر المدهشة التي لا تنتهي وتتصل بالحياة والتاريخ والسياسة والثقافة والحضارة. وكل قصة تحمل طرافتها ومغزاها الثابت والعميق. جمع في شخصيته صفات يندر اجتماعها. ذكاء فطري حاد، ذاكرة خارقة، وقدرة فائقة على الربط بين النظرية والواقع، جرأة أدبية لافتة، وشجاعة عقلية لا تقبل الاحتفاظ بالذهن بما يثبت له خطأه، وحس أخلاقي رفيع. هو أرستقراطي في الاخلاق، وشيخ عشيرة في العلاقة مع تلاميذه (يرعاهم ويتابع خطاهم في روح ابوية أثيرة) وملكي اكثر من الملك في الكشف عن الحقيقة وإعلانها، وكادح مجاهد في مجال العقل والمثاقفة. أما الصداقة فكان يعتبرها فرصة أو دعوة لتسجيل الانتصارات على الحياة والزمن والمفارقات. لا يعجبه العجب في المنهاج ويسعى للخروج منه وعنه وعليه، خصوصاً بعد أن يتقن قواعد اللعبة. كان يردد أمامنا ما قاله أبوقراط غير مرة "الحياة قصيرة، والتجربة مخاتلة والحكم على الأمور صعب، والمسعى إلى المعرفة متواصل".
روى لنا غير مرة أنه في بداية عهده في التعليم الجامعي في الجامعة الأميركية في بيروت، نحو منتصف القرن الماضي، كان يعرف التلميذ من لهجته وطريقة لباسه، إلى أي طائفة انتمى ومن أي منطقة أتى، ثم بعد عقد أو أكثر فقد هذه الميزة وصار الطلاب يشبه بعضهم الآخر. وهذا في عرفه نجاح للفكرة اللبنانية على المستوى الاجتماعي الانصهاري والثقافي والتواصلي. وفي ملاحظته تلك، كما وفي تجربته كلها، كان همه ان ينقل صورة لبنان التاريخية من نطاق الاسطورة إلى نطاق الحقيقة التاريخية المجردة. هو خير أساس لبناء المجتمع. ويؤكد "التاريخ هو التجرد ليس الا". وأحسب انه في معالجته الموضوع التاريخي في لبنان سار على هدى صالح بن يحيى بقوله "أردت أن أجمع شيئاً يستفيد منه الخلف من معرفة أخبار السلف، لأني لا أريد متغالياً أن يصفهم بأردأ مما فيهم، ولا حسوداً فينعتهم بما ليس فيهم".
ذات مرة صغت سؤالي له على الشكل التالي: "هل تعتقد أن حرب 1967 كانت بمثابة كعب أخيل في تدهور الأوضاع العربية وتأزمها؟ فأجاب: "لا أحبذ استخدام التشابيه والاستعارات والمجازات في سياق الأحكام لأنها تخرجك قليلاً أو كثيراً من الحقيقة".
مد الصليبي شراعه في كل اتجاه، ونهل من كل اهتمام مختلف على عادة الأذكياء. أحب اللغة العربية والرواية والأدب والموسيقى. كانت لديه طريقة خاصة للكتابة بالعربية التي أحبها منذ الصغر، ومنذ أن أحضر له والده الطبيب سليمان الصليبي معلماً خاصاً ليدرس على يديه القرآن، ولحثه على الإتقان وبيان مخارج الألفاظ. كان يكتب ما يريد على صفحة ثم يحذف كل الكلمات التي لا تؤثر على المعنى. بيانه كان المعنى على ما يقول الشيخ عبدالله العلايلي. كان يسعى بأسلوبه ليصل إلى الدقة العلمية وسلامة التعبير وسلاسته. وكان لا يشرع بالكتابة بالعربية قبل أن يقرأ الحديث النبوي الشريف وديوان المتنبي ومروج الذهب للمسعودي. أحب الرواية العربية ونادراً ما تفوته رواية في طبعتها الاولى. ولعلها مصادفة قدرية ان آخر كتاب قرأه ليلة إصابته بالجلطة رواية "طيور الهوليداي آن" للروائي اللبناني ربيع جابر، والذي كتب عنه الصليبي مرة في كتاب "بيروت والزمن" متناولاً ثلاثية "بيروت مدينة العالم" ومرة في بحث قدمه في مؤتمر في اكسفورد عن رواية "يوسف الانجليزي". وكان يتوقف كثيراً في الرواية عند التصور. وكان له مع الموسيقى عملان مسرحيان من تأليفه وتلحينه. وظل يعزف على البيانو الأغاني الميلادية على مألوفه كل سنة، حتى آخر سهرة ميلاد قضاها مع الرفاق والاصدقاء.
عاش كمال الصليبي عصره ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، عاش زمانه وتصرف به زمانه، وأدخله إلى تجارب كثيرة واكتشافات كثيرة جعلت منه المؤرخ والمفكر الذي يقرأ اليوم وأمس وغداً ويستقي منه ويستمد لبناء أساسات جديدة.
كان من الصعب أن يمر صحافي أجنبي في بيروت ولا يستأنس برأي الصليبي. ومن الصعب أن يمر أحد تلاميذه في بيروت بعد غياب ولا يسأل خاطره. من الصعب أن ينعقد لقاء الأصدقاء القدامى كل سبت صباحاً في "السيتي كافيه" ( قبل اقفالها) ولا يكون بينهم. ولكن الجلسة الأحب إلى قلبه وروحه كانت حين يسند رأسه إلى احد أعمدة الجامع الأموي في دمشق، ويأخذه الوسن الخفيف إلى قنطرة في التاريخ. التاريخ الذي ظل غايته وعنوان حياته. التاريخ الذي زرع في تربته البحث والكشف وزاوية النظر، وأينما زرع أورف زرعه، في تاريخ لبنان وفي تاريخ البلدان العربية، والتي كان يسميها (بلادنا) وفي تاريخ التوراة وجلاء أسراره وغوامضه. وفي كل ذلك يبحث عن الصواب والحقيقة والكمال المأخوذ على عاتقه، وعن الصبر المتكئ على التاريخ والمتن والهامش، حتى تكون له الحلية والمكافأة في السير الكاشف عن الغموض. ومع هذا الكمال شغف هائل بالمعرفة والناس وأحوالهم، وبالأرض وهويتها. والمسؤولية عن هذا العالم الآخذ منا كل مأخذ. ورغم كل شيء كان كمال الصليبي يكتب بأمل، أمل البحث عن الحقيقة وتخليصها من الأوهام والأساطير، والأمل في البناء مع الآخرين ماضياً وحاضراً ومستقبلاُ والذي هو ضاله كل كتابة.
كمال الصليبي بعد عام على غيابه، يتأكد الشوق مثلما يتأكد الطريق الذي مهده، والقيمة والمكانة التاريخية التي صنعها لنفسه بين المؤرخين، وفرادته وتميزه في اختيار مواضيعه التي لا يخلص البحث فيها.
وفي الأفق لا بد كتابات وأبحاث وأوراق غير منشورة ستؤول إلى النشر، ومكتبة ستفتتح باسمه في جامعة الكسليك وتضم أوراقه وأرشيفه، وساحة سميت باسمه قبالة المدخل الطبي للجامعة الأميركية في بيروت. وثمة محاضرة سنوية في التاريخ باسمه في الجامعة الأميركية. والرجل الكبير، على ما يقول سعيد تقي الدين، لا ينتهي بمأتم بل لعله يحيا بولادات وبدايات جديدة.
الخميس، 21 أكتوبر 2010
محمد أركون: "إعادة التفكير في الظاهرة الدينية..."
(محاضرة ألقاها المرحوم الدكتور محمد اركون في جامعة البلمند-شمال لبنان-2002
عنوان محاضرتي هو "الظاهرة الدينية بعد حادثة 11 أيلول"، وقد اخترت هذا العنوان لنعيد التفكير في الظاهرة الدينية بعد هذا الحدث اعتماداً على ما يمكننا أن نستنتجه من أفكار جديدة وبرامج جديدة للبحث العلمي عن الاديان وتفسيرها من منطلق كونها ظاهرة.
حادثة 11 أيلول كان يمكن أن تكون منطلقاً لتفكير آخر ولسياسة أخرى. ولأنها حصلت في الولايات المتحدة، ومسّت رموز الحضارة الغربية كما نسميها، فلقد أثارت في هذه الحضارة، وفي الولايات المتحدة تحديدًا، الردود التي نعرفها اليوم، والتي هي ردود القوة والحرب. ولكن لم نسمع إلى الآن ردودًا على صعيد المعاني الرمزية التي تحملها هذه الحادثة.
1. معاني الرمزية
لقد مسّت هذه الحادثة ما يسميه العلماء في أميركا ويصفوه بمفهوم "القيم الحضارية الغربية"، مسّت تلك القيم الغربية التي، باعتقادهم، غير موجودة في حضارات أخرى. ولطالما سمعنا علماء يكررون أن هناك اقتتالاً بين الحضارات، وصدامًا بين الثقافات، بسبب تفاوت بين الثقافات والحضارات تبعًا للقيم التي بنيت عليها.
ولذلك كان من المنتظر أن نسمع، من طرف العلماء الغربيين وأيضًا من طرف العلماء المسلمين، كلاماً على هذه القيم الحضارية. خاصة أن هذه الحادثة، على ما نعرفه وتعرفه وسائل الاعلام، قد قام بها طرف إسلامي، حركة إسلامية.
هناك في أميركا معهدٌ يحمل اسم "معهد القيم الأميركية". وقد صدر عنه بيان وقّعه ثمانون عالماً وباحثاً وكاتباً أميركيًا، يبررون فيه مفهوم الحق الذي يدافع عن العدل، والمبنيّ على فكرة الدفاع عن العدل (La guerre juste). هذا المفهوم يأتينا من القديس أوغسطينوس، وهو مفهوم لاهوتي قديم يترجم تماماً ما يسميه المسلمون "الجهاد".
غير أن المفارقة تكمن في أن هؤلاء العلماء، الذين يقدمون أنفسهم كعلمانيين يفكرون في إطار حديث، يرجعون إلى معجم ديني-لاهوتي لتبرير الحرب التي نحن فيها. وقد تكرّر هذا أثناء حرب الخليج. فالرئيسان، الفرنسي فرانسوا ميتران والأميركي جورج بوش الأب، استعملا المفهوم نفسه (La guerre juste) لتبرير الحرب حينذاك. من جهتنا كذلك، نحن العرب والمسلمين، نبرّر ما نقوم به، ونبرّر حادثة 11 أيلول، بالاعتماد على مفهوم "الجهاد" بالإحالة الى المعجم اللاهوتي إياه.
هذا الواقع يفرض علينا كباحثين، وكباحثين في البلدان العربية الإسلامية تحديدًا، أن نعيد النظر في المعجم الديني برمّته، لنسأل ما هي الخلافات التي تجعلنا ندخل في حروب مع الغرب، وتجعل الغرب من جهته في حروب ضدنا. إلى الآن لم نجد حلاً، ولم نوجِد معجماً آخر نعتمد عليه كي نفكر تفكيراً جديداً في ما نسميه "القيم".
كيف يمكننا أن نقوم بهذا العمل، وننتقل بالتالي من الاستعمال الإيديولوجي لما نسميه "القيم"، الغربية أو الإسلامية، إلى إيجاد معجم آخر، وإصدار دراسات أخرى، للكلام على الحضارات والثقافات؟
أقدم مثلاً يمكّننا من الانتقال من هذه المعاجم القديمة التي نستعملها، إلى معجم آخر، وهو معجم يعتمد على اللسانيات، والتاريخ المقارن للأديان، وعلى ما نسميه "انتروبولوجيا" الأديان.
أ) المقاربة التاريخية
للظاهرة الدينية
كيف ندرس الأديان دراسة مقارنة في فضاء البحر المتوسط. في هذا الفضاء، وفي إطار فكري واحد، ظهرت ديانات استعملت المعجم نفسه و"القيم" نفسها التي نجدها في الديانات الثلاث المنزلة. غير أن ثمة استعمال لمعجم آخر، منذ القرون الوسطى خاصة، مبني على الفكر الفلسفي كما كان يمارس في تلك المرحلة. حينذاك لم يكن الفكر الفلسفي يُعنى بالفلسفة فقط، وإنما بالعلوم جميعها.
والمقاربة التاريخية للظاهرة الدينية تمكّننا من أن نقارن العلاقات الفكرية والثقافية بين الأديان التي تطوّرت معاجمها وتغيرت أثناء التطور التاريخي منذ القرون الوسطى إلى يومنا هذا. هذا ما يجب أن نبدأ منه لتكون لنا أرضية للتحليل التاريخي لكل ما يتعلق بهذه الأديان، ولتكون لنا أيضاً نظرة تحليلية نقدية للمعاجم الدينية من جهة، وللمعاجم العلمية–الفلسفية من جهة أخرى. لذلك اخترت الخوض في مسألتي المعنى والهيمنة.
ب) البحث عن المعنى
وإرادة الهيمنة
هناك توتر، في كل ثقافة وإطار فكري، بين البحث عن معنى - وهو ما تقصده الأديان - وإرادة الهيمنة من خلال استعمال المعاني التي تأتي بها الأديان والفلسفات. والهيمنة معناها: هيمنة سياسية للمجتمعات. هنا يكمن الصراع الذي نعرفه بين الأديان والسياسية. وهذا صراع لم نتمكّن بعد من فهم العلاقات التي تجري بين مكوّناته، ولم ندرك الخلاف الذي يضع الظاهرة الدينية في وجه الظاهرة السياسية.
ثمة ضرورة لشرح جميع المراحل التاريخية، من المرحلة الإغريقية والرومانية القديمة من جهة، إلى المرحلة المعاصرة لأنبياء العهد القديم في ما نسميه "الشرق الأوسط القديم" من جهة أخرى. بقيت هذه الثقافات والمدنيات القديمة في الشرق الأوسط حيّة قروناً وقروناً، ونجد لها تأثيرًا حتى في النصوص المقدّسة، التوراة والأناجيل والقرآن. هنا يأخذ البحث منحىً أفقيًا، تاريخيًا–تحليليًا، في مقابل قراءة عمودية، اعتدنا عليها، لتطوّر الأديان كأن نقول إن النصوص منزلة من الله إلى الأرض. هناك إذًا قراءتان علينا القيام بهما: قراءة أفقية–تاريخية، وأخرى عمودية على حسب الاستعارة المستعملة في القرآن، "التنزيل"، تنزيل العزيز الرحيم.
على قراءتنا للكتب المنزلة جميعها أن تعتمد على التاريخ الديني الذي سبقها. مثلاً، إذا قرأنا سورة "الكهف" في القرآن، نجد فيها قصصاً تحيلنا إلى الثقافات القديمة: قصة تحيلنا إلى من يسميه القرآن "ذو القرنين"، وهو "الإسكندر"، وقصة تحيلنا إلى أهل "الكهف" وهم المسيحيون الذين اضطهدوا في عهد "ديوكلسيان"، وهذه قصة معروفة في جميع أنحاء العالم، يستعملها القرآن ليحكي عن الذين يستشهدون بحياتهم من أجل إيمانهم بالله. وفي هذا ما يبيّن لنا أن هناك في الشرق الأوسط وعيًا لثقافة لا تزال حيّة يُستشهد بها، ويُعتمد عليها في تقديم الحقائق الدينية من العهد القديم إلى القرآن.
جـ) أوروبا، والمسيحية الرومانية واليهودية والإسلام
لهذه الأديان الثلاثة تاريخها في القرون الوسطى، وهي تحتاج لمدى أوسع لشرح العلاقات بينها. ثمة فكرة مهمة جدًا في القرون الوسطى، امتدّت من القرن السابع إلى القرن الثالث عشر، تقول إن الثقافة الفلسفية في فضاء البحر المتوسط كانت تنطق باللغة العربية، وتزدهر وتنمو في إطار سياسي هو إطار الخلافة. هذه المرحلة التاريخية مهمة جداً، ولكنها لم تحظَ بعد بالدراسة اللازمة لكي نتحرّر من كثير من التأويلات التي كانت الأديان عرضة لها، وننعتق من النصوص القديمة التي فرضها علينا المفكرون، والمفسرون، والفقهاء، وأهل الكلام في هذه الحقبة من التاريخ. ونحن، في الإسلام خاصة، لم ندرس بعد هذه الحقبة دراسة تاريخية، ولذلك نلحّ على ضرورة وضع هذه الفكرة موضع التنفيذ في برنامج للبحوث والتعليم لكي نستخرج من هذه الحقبة ما لم نستخرجه بعد من معلومات محقّقة في الظاهرة الدينية.
د) أوروبا والغرب
أشدّد هنا على ضرورة التمييز اليوم بين ما نسميه الغرب، وما نسميه أوروبا. في خطابنا العربي، نركّز على الغرب أكثر مما نركّز على أوروبا. وفي الخطابات والمناقشات التي تلت حادثة 11 أيلول، نجد الكلام موجّهًا ضد الغرب، المستعمر المهيمن، أكثر منه ضد أوروبا، لا بل لا نتكلّم على أوروبا بتاتًا.
فأوروبا مفهوم جغرافي سياسي–تاريخي، وهو يختلف عن المفهوم الموازي والذي نسميه الغرب. بمصطلح "الغرب" نشير إلى الولايات المتحدة الأميركية لأنها هي الطرف المهيمن حتى على القارة الأوروبية التي، على غرار كل بلدان العالم وقاراته، بدأت تعاني وتشكو من هذه الهيمنة وتناضل ضدّها. الفارق بين "الغرب" و"أوروبا" كبير، وبالأخصّ اليوم، لأن أوروبا دخات مرحلة تاريخية جديدة، هي مرحلة الانتقال من "الدولة–الأمة" (Etat–Nation) إلى فضاء سياسي وفضاء للمواطنة أوسع من فضاء "الدولة الامة". علينا أن نهتم بهذه الثورة التاريخية ونفكّر فيها، لما لها من أبعاد فكرية، وقيمية، وسياسية لا نجدها في المفهوم الجغرافي–السياسي الذي نستعمله عادة: الغرب. هناك حوار بدأ يتأسّس بين أوروبا وأميركا. أين نحن، كمسلمين وكعرب، من هذا الحوار الذي يتمحور حول مسألة القيم التي بدأنا الكلام بها.
ما يُحكى عن صراع بين الأديان ليس بيننا وما نسميه الغرب. هناك صراع قيَم، صراع في النظرة الفلسفية لوجود البشر وأوضاعهم، صراع حول المنحى الذي يجب أن يسلكه التغيير في المسار التاريخي لوضعهم وتسييره، صراع بين الفلسفة التي تتبناها أوروبا في إرساء هذا الفضاء التاريخي الجديد، والفلسفة التي تدّعيها الولايات المتحدة وتعتمد عليها لفرضها على العالم أجمع من طريق ما يسمّى بـ"العولمة".
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، برزت أمم عُرفت بـ"العالم الثالث"، وقد اجتمعت هذه الأمم، التي استقلّت من الاستعمار، في "باندونغ" في الخمسينات من القرن الماضي. ضمن هذا السياق التاريخي، هناك ظاهرة لم نعطِها حقّها من التحليل والدراسة، وهي ما سميناه بـ"الثورة العربية الاشتراكية" التي خيض على أساسها نضال من أجل الوحدة العربية من العام 1952 وحتى وفاة جمال عبد الناصر. بعدئذ انتقلنا إلى "ثورة" أخرى غلبت عليها التيارات التي نصفها بـ"الأصولية"، والتي تلبّس بمعجم ديني كل النضالات التي نمرّ عليها، والتي هي نضالات سياسية.
ليس لي أن أشدّد كثيرًا على هذه المرحلة التاريخية في مقاربتي للبحوث والتدريس. ففي بالي دائماً، ما أستخرجه من فائدة فكرية وعلمية نبني عليها نظاماً تربوياً يختلف عن الأنظمة التربوية التي فرضتها الأنظمة السياسية في بلداننا منذ الخمسينات وحتى يومنا هذا. وكلنا يعلم أن هذه الأنظمة التربوية لم تتبنّ هذه المقاربة العلمية لتقدّم نظرة علمية مثبتة ومحقّقة مبنية على النقد العلمي إن في المرحلة الثانوية أو في الجامعات. نحن بحاجة ماسة إلى هذا النوع من التفكير، إلى هذا النوع من البحوث كي نهيّء، على المستوى الجامعي، المدرّسين الذين بمقدورهم أن يغيّروا فهمنا لدور الدين ولدور السياسة في مجتمعاتنا.
2. إبداع الأفكار والمجتمع
هنا ندخل في ميدان أوسع لأن هذا النوع من مقاربة الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية يعتمد على ما نسميه "Ideation & Society". فـ "Ideation" تعني بالعربية "إبداع الأفكار"، وتأهيل العقل البشري ودفعه نحو إيجاد أفكار وبناء مفاهيم تعبّر عن الواقع الاجتماعي والسياسي والديني في المجتمعات، وتعيد النظر في هذه الأفكار بشكل متواصل حتى لا توظّف في استعمال إيديولوجي.
علينا التشديد على هذه النقطة أيضًا. غالبًا ما تبدأ خطاباتنا بطرح الأفكار كأفكار، بإرادة التمييز بين هذا المفهوم وذاك، بإنتاج مفاهيم تمكّننا من تحليل الواقع. ولكن سرعان ما ننتقل من هذه العمليات إلى الإيديولوجيا، إلى الصراع الإيديولوجي والصراع السياسي. للحؤول دون هذا الانزلاق، علينا أن نبقى في العملية الإنتاجية–الإبداعية للأفكار والمفاهيم التي نستعملها كأدوات علمية لتفسير ما يجري في مجتمعاتنا وفهمها.
هناك أربعة مفاهيم:
• تكوين الدولة:
تكوين الدولة أو النظام السياسي الذي يجب أن نراقبه في حركته الديناميكية وفي تكوّنه المستمر من خلال التاريخ. لذلك لا يكفي أن نقول "الدولة"، ولا يكفي أن نقول "النظام السياسي". فهناك أنظمة سياسية لها تاريخ، وقد تطوّرت من النظام القبلي إلى الأنظمة الحديثة التي نجدها في مجتمعاتنا.
• الكتابة:
الكتابة دليل على نقلة مهمة في تاريخ الحضارات والثقافات. عندما نقول "الكتابة"، يجب أن نفترض وجود مقابل لها هو "الشفاهة" (Orality). وكذلك عندما نقول الثقافة العالمة (Learned Culture)، يجب أن نفترض في المقابل وجود "ثقافة شعبية". هذه المقابلات تنتج توترات جدليّة في المجتمعات لأن هناك افتراضاً بأن الدولة تعتمد على الكتابة، والكتابة العالمة تحديدًا، وعلى قوة أخرى نطلق عليها اسم "الأرثوذكسية". ليس لهذا المفهوم (الثقافة الأرثوذكسية) مرادف في العربية. وكلما طرحتُ هذا السؤال (المفهوم) ، تلقيت الجواب نفسه (السؤال): السنّية.
هناك في الإسلام مذاهب على غرار ما في المسيحية من مذاهب (أرثوذكسية وكاثوليكية وبروتستانتية)، ولكل فرع منها أرثوذكسيتها. "الأرثوذكسية" مفهوم اجتماعي–ثقافي، ينتج من طريق الصراعات السياسية والثقافية، والصراعات الرمزية (حل الرموز). هناك في المجتمع نزاع حول "الرأسمال الرمزي": من يهيمن على "الرأسمال الرمزي" ويستعمله ويستغلّه. نستمدّ من الأديان هذا "الرأسمال الرمزي"، ونعتمد عليه لتعيين الحقيقة و"الأصالة الأرثوذكسية" التي يجب أن تفرض على الجميع. هذا المفهوم الأرثوذكسي مرتبط بالمجتمع كقوة فاعلة، وبالثقافة العالمة التي تنتجها النخبة، وبالكتابة والأدب المكتوب. علمًا أن اللغة المكتوبة، أتتنا، نحن العرب، من اللهجات العامية.
• تكوين الدولة
(State formation)
مقابل "الدولة"، هناك ما نسميه "المجتمعات الانقسامية" (Segmentary Societies) التي هي النظام القبلي الذي لا يزال حيًّا عندنا وله تأثيره في المجتمعات، وهو في نزاع مع الدولة المركزية. هذا النظام القبلي يعتمد على الشفاهة والثقافة الشعبية، ويرتبط بالأمية التي لا تزال متفشّية في مجتمعاتنا.
هناك إذًا جدلية تشدّ هذه القوى إلى بعضها. ومقابل الأرثوذكسية، هناك الهيتروذوكسية أو ما نسمّيه الفرق أوالملل أوالنحل أو، كما في لبنان، الطوائف. ثمة أهمية كبرى للجدلية الاجتماعية، المستمرة في كل مجتمع، وفي إنتاج كل مجتمع. غير أن التاريخ الذي نعلّمه لأبنائنا في المدارس الثانوية لا يتبنّى هذا الديالكتيك، هذا العرض التحليلي لجميع القوى المتواجدة والمتساكنة في المجتمع لكي نفهم معاني الصراعات، وعلى ماذا تعتمد، وإلى أين تذهب بنا.
علينا التمييز بين الدين الذي نتعلمه على أيدي الفقهاء والدين المكتوب والثقافة العالمة من ناحية، والدين الشعبي من ناحية أخرى. علينا أخذ كلّ هذا في الاعتبار لندرس التوتّرات والتناقضات والصراعات المستمرة بين الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية.
إن تأريخًا يقتصر على ذكر الظاهرة السياسية بحوادثها المتعاقبة من جهة، والظاهرة الدينية من ناحية أخرى، قد يصوّر لنا وكأن هناك فرقًا بين الدين المتعالي الذي يعلمنا أشياء متسامية، والسياسة التي تعتني بأشياء بسيطة وسيئة ومهينة. هذه المقاربة التي تدّعي العلمية هي في الحقيقة مزيِّفة للواقع، وتجعلنا بعيدين من التعمّق والتحقيق في الظاهرة الدينية ومدى تأثيرها على الظاهرة السياسية والتصارع بينهما. هذا الصراع موجود في كل المجتمعات، من أقدمها إلى أحدثها، وهو موجود في الولايات المتحدة كما هو موجود في مجتمعاتنا. هذا الطرح للإشكاليات يهدف إلى البحث عن ماهية وظائف الأديان ووظائف السياسة وتعليلها. هذا العرض يسمى عرضًا تاريخيًا-أنثروبولوجيًا.
يعتني العلم الأنتروبولوجي بجميع القوى العاملة في المجتمع، والتي نجدها في كل زمان ومكان من دون استثناء. ولهذا السبب، نسمي هذا العلم "أنتروبولوجيا": "أنتروبوس" هو الإنسان، و"لوغوس" هو العلم. أي العلم الذي يبحث في الإنسان كإنسان، في الوضع البشري. هذا ما قصدته عندما بدأت بالقول إننا لن نتفهّم مقاصد الدين ومحتوياته ووظائفه في مجتمع من المجتمعات إلا إذا امتلكنا هذه الأرضية المفهومية والنهاجية لنطرح الأسئلة اللازمة. ومثلما تكوِّن المجتمعات وظائف الدين، يكيِّف الدين، إلى حدٍّ ما، مصير المجتمعات وقيمها التي تؤمن بها جماعة من الجماعات، و يشيّد لها الذاكرات الجماعية المختلفة.
هناك اختلاف بين الذاكرات الاجتماعية. وعلى أساس هذا الاختلاف، تنتج الصراعات الاجتماعية والسياسية والدينية التي غالبًا ما نخلط بينها.
قد يشكّل هذا برنامجًا شاملاً للعلوم التي يجب أن نعتني بها ونعلّمها في قسم لدراسة الأديان في كل جامعة من الجامعات الموجودة في بلداننا. وأنتم تعلمون أن العلم الأنثروبولوجي مجهول، ونادرًا ما يُعلّم.
يؤكّد بعض الأساتذة، لا بل كثيرون منهم، باسم "الأنتروبولوجيا" ما هو في الحقيقة علم إتنوغرافي. هناك فرق كبير بين " الإتنوغرافيا" و"الأنتروبولوجيا". التحليل الأنتروبولوجي للمجتمعات لا يمكن أن يبتعد عن البحث والتحليل التاريخيين، وكذلك بالنسبة إلى التحليل التاريخي لتطور المجتمعات، فهو لن يكون كاملاً ويبرز كل الحقائق والوقائع الموجودة في المجتمع إذا لم يرتبط بالإشكاليات الأنتروبولوجية للظاهرة الدينية والظاهرة السياسية.
أقول هذا لنعي المسافة التي تفصل بين ما نقوم به اليوم في جامعاتنا ومدارسنا الثانوية، والهدف الذي يجب أن نبلغه لنخرج من المآزق المعرفية التي نتخبط فيها، كلّما حاولنا فهم ماذا يحدث في مجتمعاتنا. وإذ لا نجد لهذه المآزق حلولا، فلأنّنا لم نتمكّن من إنشاء منظومات معرفية مختلفة تماما عن المنظومات التي لا تزال تكيّف إدراكنا وتفسيرنا للأوضاع التي نعيشها الآن.
إذًا المطلوب هو دراسة وتدريس ما نعني بـ"مجتمعات الكتاب" (La société du Livre). هذا يعني أن هناك ظاهرة الكتاب. تلاحظون أن عبارة " الظاهرة" تتكرر في خطابي. لماذا أقول ظاهرة الكتابة، الظاهرة السياسية، الظاهرة البيولوجية، الظاهرة الفيزيقية. لماذا الظاهرة؟ لأن هناك أشياء ندركها بأعيننا، بآذاننا، أشياء نراها، نلمسها، نجرّبها. هناك إذًا أشياء موجودة. غير أننا غير قادرين على تفسير وفهم كل ما يتعلق بهذه الظواهر. فعلى الرغم من أنها ظاهرة أمامنا، لا نملك بعد مفاتيح فهمها. نحن جاهلون للظاهرة الدينية. كان علينا أن نبدأ بالجهل. إننا جاهلون، ولكننا نتخاطب وكأننا عالمون علم اليقين في كلّ ما يخص الدين. نحن نجهل الكثير من الأشياء الأساسية التي يعبّر عنها الدين، وما يقوم به في المجتمع والتاريخ. لذلك أستعمل كلمة "الظاهرة"، "ظاهرة الكتاب" وغيرها من الظواهر. من بمقدوره أن يفسر الظاهرة في جميع تشعباتها وأبعادها؟ إلى الآن لم نقدّم طرحًا شاملاً لظاهرة الكتاب مثلاً.
هناك كتاب ألّفه عالم الأديان السويدي وندرغرن (Windergren) بعنوان "محمد رسول الله وظاهرة الكتاب السماوي" (Mohammad the Apostle of God and the Heavenly Book). هذه الفكرة، فكرة الكتاب السماوي، كانت موجودة ومنتشرة في منطقة الشرق الأوسط، وقد استعملها الناس واستعملتها الأديان المختلفة، وبقيت حيّة قرونًا وقرونًا إلى يومنا هذا. غير أن ما كتب عن هذه الظاهرة قليل جدًا، ولا يمكننا استخدامه استخدامًا محقّقا ومثبتًا علميًا.هذه الفكرة لا تزال في مجال "العلم الميتولوجي".
كيف نقارب الظاهرة القرآنية والظاهرة الإنجيلية أو الظاهرة التوراتية؟ يطبّق هذا البيان على القرآن طبعًا، و لكن أيضًا على جميع الكتب المؤسِّسة للأديان. أبعد من ذلك، فهذا البيان يطبق على جميع الكتب أو النصوص التي يستعملها مجتمع ما كمرجعية ملزمة، كالدستور مثلا. فالدستور مرجعية ملزمة، تلزم جميع المواطنين، وهو مرجعية لفصل الخلافات القائمة بين المواطنين في المجتمع. هذا أيضا طرح أنتروبولوجي لمفهوم ظاهرة الكتابة التي لا تخصّ القرآن فقط، أو الإنجيل فقط. هذا هو الفرق بين المقاربة التاريخية الأنتروبولوجية والإنسانية، والمقاربة اللاهوتية للموضوع نفسه. ماذا يقول اللاهوت؟ يقول إن هذا كتاب منزل، وإن اليهود شعب منتخب. بهذين القول والإيمان يحدث ما يحدث، ويعمل البشر ما يعملونه. في ما يتعلق باللاهوت المسيحي يقول الكاردينال راتسينغر[إنه البابا الحالي بينيدكتوس السادس عشر] في نص نشره بعنوان "Dominus Jesus" (السيد المسيح) وعنوان فرعي "Sur l’unicité et l’universalité salvifique de Jesus-Christ et de l’Eglise" (عن الوحدة والكونية المنقذة ليسوع المسيح والكنيسة)، الكلام الآتي:
"علينا التمييز بشدّة بين "الإيمان" اللاهوتي و"العقيدة" في الديانات الأخرى. فبينما "الإيمان" هو استقبال للنعمة الإلهية وللحقيقة المنزلة، تشكّل "العقيدة" في الديانات الأخرى مجموع التجارب والأفكار الإنسانية، هذه الثروة من الحكمة والتديّن التي بلغها الإنسان في بحثه عن الحقيقة وفي تفكيره لواقع العلاقة مع كل ما هو إلهي ومطلق".
تستحق هذه الجملة التحليل والتأويل لأنها تجمع في جملة واحدة مجمل القضايا اللاهوتية التي لم نعالجها بعد معالجة تنطلق من المناهج التي ذكرت. وإذا التمسنا هذه الجملة وترجمناها من منطلق إسلامي لاهوتي وقعنا في مشاكل ومآزق يستحيل علينا الخروج منها . وهذا ما حصل تاريخيًا. فنحن في مآزق بسبب مفاهيم أتتنا من القرون الوسطى، ولا نزال إلى يومنا هذا نعلّمها، ونكرّرها، ونعتمد عليها للتمييز بين ما نسميه الإيمان (La foi) المبني على نموذج لاهوتي، ومانسميه العقائد. فالعقائد موجودة أيضًا في الأديان الأخرى. أما الإيمان النموذجي فنجده في المسيحية حسب التفسير اللاهوتي. لا يحقّ لنا أن نرفضه أو نقبله. نأتي إلى هذا النوع من الخطاب بعد أن نكون قد عبرنا جميع المراحل التي ذكرتها في ما يتعلّق بالتقديم أو التمهيد لدراسة لبّ المشاكل في النصوص المنزلة نفسها.
هناك ما نسميه" المعطى المنزل". التنزيل أعطي، ونحن تلقيناه. أعطاه الله للبشر، وهو لدينا، في متناولنا. و لكن ماذا بإمكان العقل أن يقول اليوم عن هذا المعطى؟ وهو (أي العقل) يمرّ في أزمة معرفية تمس الفكر الديني كما تمسّ الفكر الأخلاقي والفلسفي والعلمي.
قد يغيّر هذا من طبيعة علاقتنا بالخطاب اللاهوتي الذي تلقيناه. وهذا هو المقصود من كل ما قلته عن ضرورة الطرح الجديد للظاهرة الدينية ودراستها بمنهج علمي. ذلك لأن الدراسة العلمية، كما وصفتها، لا تطلب من المسيحي أن يكون أرثوذكسيا أو كاثوليكياً حتى يشارك فيها، ولا تطلب من المسلم أن يكون سنّياً أو شيعيا كي يساهم فيها. هذا علم، نعمل عليه كما نعمل في العلم البيولوجي أو في المختبر. وهذا المفهوم لا يعارض ولا ينفي الدراسة والبحث اللاهوتيين. في كلّ مرّة عرضتُ فيها هذا المفهوم، كان الردّ بأن هذه البحوث لا تعطي أهمية للإيمان وللدين. لقد كان هذا صحيحاً في الممارسة "العلماوية" (Positiviste, Scientiste) التي كان يتبناها العقل في القرن التاسع عشر. أما اليوم، فنعطي الأديان والإيمان والقيم والعقائد الدينية جميع حقوقها، ونعترف بوظائفها في المجتمع. فالدين غير الإيديولوجيا، ولذلك وجب أن ندرسها.
عندما أذكر الإنجيل أو القرآن، أشير إلى شيء أظنه معروفاً وبديهياً. غير أن هذا النوع من استعمال اللفظ يغطي مشاكل غاية في الأهمية ويخفيها عنا كي لا ندرسها دراسة تحليلية وعلمية. هذه النقطة أهملناها، ولانزال، لأننا نتّهم العلوم الاجتماعية والإنسانية بأنها علوم معادية للأديان ونافية لها. وهذا غير صحيح.
ما عسانا نغطّي، وماذا نهمّش، وماذا نترك جانباً ومدفونا دون التفكير فيه في الفكر الإسلامي المعاصر كما في الفكر المسيحي المعاصر؟ ثمة ما يمكن التفكير فيه وما لا يمكن التفكير فيه. ونحن في مجتمعاتنا نعرف ماذا نعني بما لا يمكن التفكير فيه. لا في مجال السياسة فقط، ولكن في مجال الثقافة (الإيديولوجيا) التي نتثقف ونتخاطب بها في الميدان العام، في المجتمع. أما عندما نتخاطب في ما بيننا، فنستخدم لغة أخرى، وخطابا آخر.
• "كلام الله":
أثارت هذه العبارة-المفهوم في التاريخ الإسلامي والمسيحي منذ زمن طويل نقاشات مهمة. ماذا نفهم بعبارة "كلام الله"؟ في ما يخصّ الفكر الإسلامي، الجميع يعرف مساهمة المعتزلة في إشكالية القرآن: هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟ إنها إشكالية مهمة جداً. وطبعاً نرفض هذه الإشكالية اليوم بسبب "الأرثوذكسية".
لا يمكننا التخلّي عن هذا المستوى في البحث. فهو يتطلّب منّا أن نتسلح بأسلحة غير تلك التي لا يزال الخطاب اللاهوتي الرسمي يستعملها إلى يومنا هذا.
"كلام الله" هذا ظهر في مرحلة من مراحل التاريخ وكخطاب شفاهي. لم يظهر كخطاب مكتوب. سيكتب في ما بعد. والكتابة بحدّ ذاتها تثير مشاكل عديدة. مثلاً الحروف العربية، كالكوفية في القرن الأول للهجرة، كانت من دون تنقيط ومن دون حركات. وهذا ما أثار مشاكل. ولكن أهمية هذه المرحلة التاريخية تكمن في دور "الخطاب الشفاهي" في أداء المعنى وتبليغه للمستمع. مثلاً في الكلام الذي تسمعونه مني، لا أكتفي بالأرقام التي أستخدمها لكي أبلّغ ما أريد، بل أستعين بيدي وبوجهي وبصوتي لإضافة معانٍ تسهيلاً للتبليغ. علماء اللسانية المعاصرون يعطون أهمية كبرى لهذا التعبير الشفاهي ويسمونه "سيميولوجيا الخطاب".
أقول هذا من أجل المعنى لأن كل شيء مبني عليه. على أي معنى نبني العقائد؟ وما الذي سيصبح منها عقائد دوغمائية؟ إذا لم نؤمن بها، كما تفترض الخطابات اللاهوتية، نعاقب هنا، في الدنيا.
هذه مسألة مهمة للغاية، وهي لسانية محضة لا تمس العقائد، بل تسعى إلى توضيح ماهيتها التي تبنى على إرادة إبلاغ المعنى الصحيح والأصيل والمقصود في الخطاب الأول كما ألقي على جماعة ما. هذه مرحلة أساسية من حيث الجوهر، وليس فقط من حيث المنهاج. وهذا شامل لكل الأديان. ليس من نزاع بين المسيحية والإسلام اليوم. كلّنا في الوضع نفسه، الذي هو وضع لغوي وتاريخي. لا يمكننا استرجاعه. ما لا يعاد، وما لا تمكن إعادته للتاريخ، هو ثمين.
3. النصوص
ننتقل إلى المرحلة الثالثة أي إلى المجموع الرسمي المعلن من النصوص. هذه النصوص رسمية لأنها نابعة من إرادة رسمية، إرادة الكنيسة. إنها إرادة رسمية من البشر الذين قرّروا أن هناك أناجيل أصيلة وأخرى مختلقة انتشرت في القرنين الأول والثاني بعد المسيح. الأمر عينه حصل مع الأحاديث عند المسلمين، فمنها الصحيح ومنها المختلق. أُغلق الموضوع بعد أن تقرّر أن الأناجيل الأربعة التي يجب الاعتماد عليها هي الأناجيل الصحيحة، وأن المصحف العثماني هو المصحف الصحيح الذي يجب أن يُعتمد. ومن ثمّ أغلق النقاش.
ما معنى "أُغلق"؟ معناه أنه إذا جاء راوٍ من الرواة ليقول "بلغني عن فلان وفلان أن النبي قد قال كذا وكذا بصدد آية محددة"، فالجواب أن الأمر منتهٍ، مغلق. أكثر من ذلك. في تفسير الطبري للآية 12 من سورة النساء، قراءتان. وقد قرأ الطبري في قراءتيه 28 خبراً. أخبار تروي أشياء مختلفة. لذلك نقرأ اليوم النصوص في مجموعات مغلقة. في هذا ما يثير مشاكل في طرق التفسير، وتحديد محتوى النصوص ومعناها.
4. الخطاب الديني
المجموعات المفسّرة: تفسير الطبري كناية عن مجموعة بل موسوعة من العلوم تصحّ لتكون مرجعاً لكل من يفسر القرآن، فيستمد منها المعلومات التي جمعها الطبري. والشيء عينه في ما يتعلّق بالتوراة والأناجيل. هناك مجموعات تؤلّف، فيُعتمد عليها. إنها مجموعات لاهوتية بالنسبة إلى المسيحيين، ومجموعات شرعية في ما خصّ الشريعة عند المسلمين.
تاريخ التفسير كوّن تصوراتنا، وفهمنا، وكلّ ما نسميه عقائدنا في ما تؤلفه النصوص المنزلة. فالوصول إلى النص المنزل يكون من خلال المجموعات التي تراكمت منذ القرون الوسطى إلى يومنا هذا.
ما أقدّمه هنا هو برنامجاً للعلم والبحوث، لأننا لم نقُم ببحوث علمية عن كل مرحلة من هذه المراحل. نكتفي اليوم بالإحالة إلى المستوى الأول: هذا "كلام الله". أما المستوى الثاني، فهو ما سمعناه عن النبي أو عن المسيح. كل هذا نصل إليه من خلال الكتب التي لا نزال ندرّسها حسب القواعد والمناهج المتّبعة والموضوعة منذ زمن. إنها قضايا شائكة ومهمة، ولها تأثير في خطاباتنا إلى اليوم.
بدأت حديثي بأنه، حتى في أواخر القرن العشرين، استعمل كلٌّ من بوش وميتران المعجم الديني لتبرير الحروب، وذلك من أفواه تعتقد بالنظام العلماني وتؤيّده. في المجتمعات التي أحدثت ثورة في فصل الدين عن الدولة، نجد أن الظاهرة الدينية مهملة وغير مدروسة. والدليل على ذلك ان وزيراً في فرنسا هو جاك لانغ (Jack Lang) أسّس، ولأول مرّة، معهداً أوروبيا يُعنى بدراسة الأديان. هذه خطوة جديدة. وعندما أعلن عن ذلك، طُرح عليه السؤال الأول الذي هو: أين هم المعلمون والأساتذة الذين بإمكانهم أن يدرّسوا الأديان حسب الذهنية العلمية، العلمانية، الفلسفية، الأنتروبولوجية التي ذكرتموها في مقدمتكم؟
إذا كان هذا الكلام قد قيل في فرنسا، ولفرنسا المكانة المعروفة في مجال العلماء والجامعات، فماذا نقول عندنا عن جامعاتنا؟ الحمد للّه أن عندنا جامعة البلمند التي أتاحت لنا هذه الفرصة لنطرح هذه الأفكار راجين أن تلقى من يتبنّاها في هذا البلد، الثري بثقافاته وبما يسمّونه الطوائف، وأنا أسميها "الذاكرات الجماعية" الحاملة لثروة ثقافية. يجب أن تحظى هذه الذاكرات بما تستحقّه من اهتمام، وأن نتيح لها فرصة أن تنطق وتعبّر عن نفسها بلهجاتها لا باللغة العالمة، الفصحى. وذلك لأن التعرّف على كل ذاكرة لا يستقيم إلاّ من طريق اللهجة التي يتم التكلم بها في الأسرة، في الشارع، في الخطاب اليومي. هناك كتب كثيرة نقرأها، ولكن علينا أن نقرأ السطر الأول والثاني، وألاّ نكتف بالأول فقط.
عنوان محاضرتي هو "الظاهرة الدينية بعد حادثة 11 أيلول"، وقد اخترت هذا العنوان لنعيد التفكير في الظاهرة الدينية بعد هذا الحدث اعتماداً على ما يمكننا أن نستنتجه من أفكار جديدة وبرامج جديدة للبحث العلمي عن الاديان وتفسيرها من منطلق كونها ظاهرة.
حادثة 11 أيلول كان يمكن أن تكون منطلقاً لتفكير آخر ولسياسة أخرى. ولأنها حصلت في الولايات المتحدة، ومسّت رموز الحضارة الغربية كما نسميها، فلقد أثارت في هذه الحضارة، وفي الولايات المتحدة تحديدًا، الردود التي نعرفها اليوم، والتي هي ردود القوة والحرب. ولكن لم نسمع إلى الآن ردودًا على صعيد المعاني الرمزية التي تحملها هذه الحادثة.
1. معاني الرمزية
لقد مسّت هذه الحادثة ما يسميه العلماء في أميركا ويصفوه بمفهوم "القيم الحضارية الغربية"، مسّت تلك القيم الغربية التي، باعتقادهم، غير موجودة في حضارات أخرى. ولطالما سمعنا علماء يكررون أن هناك اقتتالاً بين الحضارات، وصدامًا بين الثقافات، بسبب تفاوت بين الثقافات والحضارات تبعًا للقيم التي بنيت عليها.
ولذلك كان من المنتظر أن نسمع، من طرف العلماء الغربيين وأيضًا من طرف العلماء المسلمين، كلاماً على هذه القيم الحضارية. خاصة أن هذه الحادثة، على ما نعرفه وتعرفه وسائل الاعلام، قد قام بها طرف إسلامي، حركة إسلامية.
هناك في أميركا معهدٌ يحمل اسم "معهد القيم الأميركية". وقد صدر عنه بيان وقّعه ثمانون عالماً وباحثاً وكاتباً أميركيًا، يبررون فيه مفهوم الحق الذي يدافع عن العدل، والمبنيّ على فكرة الدفاع عن العدل (La guerre juste). هذا المفهوم يأتينا من القديس أوغسطينوس، وهو مفهوم لاهوتي قديم يترجم تماماً ما يسميه المسلمون "الجهاد".
غير أن المفارقة تكمن في أن هؤلاء العلماء، الذين يقدمون أنفسهم كعلمانيين يفكرون في إطار حديث، يرجعون إلى معجم ديني-لاهوتي لتبرير الحرب التي نحن فيها. وقد تكرّر هذا أثناء حرب الخليج. فالرئيسان، الفرنسي فرانسوا ميتران والأميركي جورج بوش الأب، استعملا المفهوم نفسه (La guerre juste) لتبرير الحرب حينذاك. من جهتنا كذلك، نحن العرب والمسلمين، نبرّر ما نقوم به، ونبرّر حادثة 11 أيلول، بالاعتماد على مفهوم "الجهاد" بالإحالة الى المعجم اللاهوتي إياه.
هذا الواقع يفرض علينا كباحثين، وكباحثين في البلدان العربية الإسلامية تحديدًا، أن نعيد النظر في المعجم الديني برمّته، لنسأل ما هي الخلافات التي تجعلنا ندخل في حروب مع الغرب، وتجعل الغرب من جهته في حروب ضدنا. إلى الآن لم نجد حلاً، ولم نوجِد معجماً آخر نعتمد عليه كي نفكر تفكيراً جديداً في ما نسميه "القيم".
كيف يمكننا أن نقوم بهذا العمل، وننتقل بالتالي من الاستعمال الإيديولوجي لما نسميه "القيم"، الغربية أو الإسلامية، إلى إيجاد معجم آخر، وإصدار دراسات أخرى، للكلام على الحضارات والثقافات؟
أقدم مثلاً يمكّننا من الانتقال من هذه المعاجم القديمة التي نستعملها، إلى معجم آخر، وهو معجم يعتمد على اللسانيات، والتاريخ المقارن للأديان، وعلى ما نسميه "انتروبولوجيا" الأديان.
أ) المقاربة التاريخية
للظاهرة الدينية
كيف ندرس الأديان دراسة مقارنة في فضاء البحر المتوسط. في هذا الفضاء، وفي إطار فكري واحد، ظهرت ديانات استعملت المعجم نفسه و"القيم" نفسها التي نجدها في الديانات الثلاث المنزلة. غير أن ثمة استعمال لمعجم آخر، منذ القرون الوسطى خاصة، مبني على الفكر الفلسفي كما كان يمارس في تلك المرحلة. حينذاك لم يكن الفكر الفلسفي يُعنى بالفلسفة فقط، وإنما بالعلوم جميعها.
والمقاربة التاريخية للظاهرة الدينية تمكّننا من أن نقارن العلاقات الفكرية والثقافية بين الأديان التي تطوّرت معاجمها وتغيرت أثناء التطور التاريخي منذ القرون الوسطى إلى يومنا هذا. هذا ما يجب أن نبدأ منه لتكون لنا أرضية للتحليل التاريخي لكل ما يتعلق بهذه الأديان، ولتكون لنا أيضاً نظرة تحليلية نقدية للمعاجم الدينية من جهة، وللمعاجم العلمية–الفلسفية من جهة أخرى. لذلك اخترت الخوض في مسألتي المعنى والهيمنة.
ب) البحث عن المعنى
وإرادة الهيمنة
هناك توتر، في كل ثقافة وإطار فكري، بين البحث عن معنى - وهو ما تقصده الأديان - وإرادة الهيمنة من خلال استعمال المعاني التي تأتي بها الأديان والفلسفات. والهيمنة معناها: هيمنة سياسية للمجتمعات. هنا يكمن الصراع الذي نعرفه بين الأديان والسياسية. وهذا صراع لم نتمكّن بعد من فهم العلاقات التي تجري بين مكوّناته، ولم ندرك الخلاف الذي يضع الظاهرة الدينية في وجه الظاهرة السياسية.
ثمة ضرورة لشرح جميع المراحل التاريخية، من المرحلة الإغريقية والرومانية القديمة من جهة، إلى المرحلة المعاصرة لأنبياء العهد القديم في ما نسميه "الشرق الأوسط القديم" من جهة أخرى. بقيت هذه الثقافات والمدنيات القديمة في الشرق الأوسط حيّة قروناً وقروناً، ونجد لها تأثيرًا حتى في النصوص المقدّسة، التوراة والأناجيل والقرآن. هنا يأخذ البحث منحىً أفقيًا، تاريخيًا–تحليليًا، في مقابل قراءة عمودية، اعتدنا عليها، لتطوّر الأديان كأن نقول إن النصوص منزلة من الله إلى الأرض. هناك إذًا قراءتان علينا القيام بهما: قراءة أفقية–تاريخية، وأخرى عمودية على حسب الاستعارة المستعملة في القرآن، "التنزيل"، تنزيل العزيز الرحيم.
على قراءتنا للكتب المنزلة جميعها أن تعتمد على التاريخ الديني الذي سبقها. مثلاً، إذا قرأنا سورة "الكهف" في القرآن، نجد فيها قصصاً تحيلنا إلى الثقافات القديمة: قصة تحيلنا إلى من يسميه القرآن "ذو القرنين"، وهو "الإسكندر"، وقصة تحيلنا إلى أهل "الكهف" وهم المسيحيون الذين اضطهدوا في عهد "ديوكلسيان"، وهذه قصة معروفة في جميع أنحاء العالم، يستعملها القرآن ليحكي عن الذين يستشهدون بحياتهم من أجل إيمانهم بالله. وفي هذا ما يبيّن لنا أن هناك في الشرق الأوسط وعيًا لثقافة لا تزال حيّة يُستشهد بها، ويُعتمد عليها في تقديم الحقائق الدينية من العهد القديم إلى القرآن.
جـ) أوروبا، والمسيحية الرومانية واليهودية والإسلام
لهذه الأديان الثلاثة تاريخها في القرون الوسطى، وهي تحتاج لمدى أوسع لشرح العلاقات بينها. ثمة فكرة مهمة جدًا في القرون الوسطى، امتدّت من القرن السابع إلى القرن الثالث عشر، تقول إن الثقافة الفلسفية في فضاء البحر المتوسط كانت تنطق باللغة العربية، وتزدهر وتنمو في إطار سياسي هو إطار الخلافة. هذه المرحلة التاريخية مهمة جداً، ولكنها لم تحظَ بعد بالدراسة اللازمة لكي نتحرّر من كثير من التأويلات التي كانت الأديان عرضة لها، وننعتق من النصوص القديمة التي فرضها علينا المفكرون، والمفسرون، والفقهاء، وأهل الكلام في هذه الحقبة من التاريخ. ونحن، في الإسلام خاصة، لم ندرس بعد هذه الحقبة دراسة تاريخية، ولذلك نلحّ على ضرورة وضع هذه الفكرة موضع التنفيذ في برنامج للبحوث والتعليم لكي نستخرج من هذه الحقبة ما لم نستخرجه بعد من معلومات محقّقة في الظاهرة الدينية.
د) أوروبا والغرب
أشدّد هنا على ضرورة التمييز اليوم بين ما نسميه الغرب، وما نسميه أوروبا. في خطابنا العربي، نركّز على الغرب أكثر مما نركّز على أوروبا. وفي الخطابات والمناقشات التي تلت حادثة 11 أيلول، نجد الكلام موجّهًا ضد الغرب، المستعمر المهيمن، أكثر منه ضد أوروبا، لا بل لا نتكلّم على أوروبا بتاتًا.
فأوروبا مفهوم جغرافي سياسي–تاريخي، وهو يختلف عن المفهوم الموازي والذي نسميه الغرب. بمصطلح "الغرب" نشير إلى الولايات المتحدة الأميركية لأنها هي الطرف المهيمن حتى على القارة الأوروبية التي، على غرار كل بلدان العالم وقاراته، بدأت تعاني وتشكو من هذه الهيمنة وتناضل ضدّها. الفارق بين "الغرب" و"أوروبا" كبير، وبالأخصّ اليوم، لأن أوروبا دخات مرحلة تاريخية جديدة، هي مرحلة الانتقال من "الدولة–الأمة" (Etat–Nation) إلى فضاء سياسي وفضاء للمواطنة أوسع من فضاء "الدولة الامة". علينا أن نهتم بهذه الثورة التاريخية ونفكّر فيها، لما لها من أبعاد فكرية، وقيمية، وسياسية لا نجدها في المفهوم الجغرافي–السياسي الذي نستعمله عادة: الغرب. هناك حوار بدأ يتأسّس بين أوروبا وأميركا. أين نحن، كمسلمين وكعرب، من هذا الحوار الذي يتمحور حول مسألة القيم التي بدأنا الكلام بها.
ما يُحكى عن صراع بين الأديان ليس بيننا وما نسميه الغرب. هناك صراع قيَم، صراع في النظرة الفلسفية لوجود البشر وأوضاعهم، صراع حول المنحى الذي يجب أن يسلكه التغيير في المسار التاريخي لوضعهم وتسييره، صراع بين الفلسفة التي تتبناها أوروبا في إرساء هذا الفضاء التاريخي الجديد، والفلسفة التي تدّعيها الولايات المتحدة وتعتمد عليها لفرضها على العالم أجمع من طريق ما يسمّى بـ"العولمة".
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، برزت أمم عُرفت بـ"العالم الثالث"، وقد اجتمعت هذه الأمم، التي استقلّت من الاستعمار، في "باندونغ" في الخمسينات من القرن الماضي. ضمن هذا السياق التاريخي، هناك ظاهرة لم نعطِها حقّها من التحليل والدراسة، وهي ما سميناه بـ"الثورة العربية الاشتراكية" التي خيض على أساسها نضال من أجل الوحدة العربية من العام 1952 وحتى وفاة جمال عبد الناصر. بعدئذ انتقلنا إلى "ثورة" أخرى غلبت عليها التيارات التي نصفها بـ"الأصولية"، والتي تلبّس بمعجم ديني كل النضالات التي نمرّ عليها، والتي هي نضالات سياسية.
ليس لي أن أشدّد كثيرًا على هذه المرحلة التاريخية في مقاربتي للبحوث والتدريس. ففي بالي دائماً، ما أستخرجه من فائدة فكرية وعلمية نبني عليها نظاماً تربوياً يختلف عن الأنظمة التربوية التي فرضتها الأنظمة السياسية في بلداننا منذ الخمسينات وحتى يومنا هذا. وكلنا يعلم أن هذه الأنظمة التربوية لم تتبنّ هذه المقاربة العلمية لتقدّم نظرة علمية مثبتة ومحقّقة مبنية على النقد العلمي إن في المرحلة الثانوية أو في الجامعات. نحن بحاجة ماسة إلى هذا النوع من التفكير، إلى هذا النوع من البحوث كي نهيّء، على المستوى الجامعي، المدرّسين الذين بمقدورهم أن يغيّروا فهمنا لدور الدين ولدور السياسة في مجتمعاتنا.
2. إبداع الأفكار والمجتمع
هنا ندخل في ميدان أوسع لأن هذا النوع من مقاربة الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية يعتمد على ما نسميه "Ideation & Society". فـ "Ideation" تعني بالعربية "إبداع الأفكار"، وتأهيل العقل البشري ودفعه نحو إيجاد أفكار وبناء مفاهيم تعبّر عن الواقع الاجتماعي والسياسي والديني في المجتمعات، وتعيد النظر في هذه الأفكار بشكل متواصل حتى لا توظّف في استعمال إيديولوجي.
علينا التشديد على هذه النقطة أيضًا. غالبًا ما تبدأ خطاباتنا بطرح الأفكار كأفكار، بإرادة التمييز بين هذا المفهوم وذاك، بإنتاج مفاهيم تمكّننا من تحليل الواقع. ولكن سرعان ما ننتقل من هذه العمليات إلى الإيديولوجيا، إلى الصراع الإيديولوجي والصراع السياسي. للحؤول دون هذا الانزلاق، علينا أن نبقى في العملية الإنتاجية–الإبداعية للأفكار والمفاهيم التي نستعملها كأدوات علمية لتفسير ما يجري في مجتمعاتنا وفهمها.
هناك أربعة مفاهيم:
• تكوين الدولة:
تكوين الدولة أو النظام السياسي الذي يجب أن نراقبه في حركته الديناميكية وفي تكوّنه المستمر من خلال التاريخ. لذلك لا يكفي أن نقول "الدولة"، ولا يكفي أن نقول "النظام السياسي". فهناك أنظمة سياسية لها تاريخ، وقد تطوّرت من النظام القبلي إلى الأنظمة الحديثة التي نجدها في مجتمعاتنا.
• الكتابة:
الكتابة دليل على نقلة مهمة في تاريخ الحضارات والثقافات. عندما نقول "الكتابة"، يجب أن نفترض وجود مقابل لها هو "الشفاهة" (Orality). وكذلك عندما نقول الثقافة العالمة (Learned Culture)، يجب أن نفترض في المقابل وجود "ثقافة شعبية". هذه المقابلات تنتج توترات جدليّة في المجتمعات لأن هناك افتراضاً بأن الدولة تعتمد على الكتابة، والكتابة العالمة تحديدًا، وعلى قوة أخرى نطلق عليها اسم "الأرثوذكسية". ليس لهذا المفهوم (الثقافة الأرثوذكسية) مرادف في العربية. وكلما طرحتُ هذا السؤال (المفهوم) ، تلقيت الجواب نفسه (السؤال): السنّية.
هناك في الإسلام مذاهب على غرار ما في المسيحية من مذاهب (أرثوذكسية وكاثوليكية وبروتستانتية)، ولكل فرع منها أرثوذكسيتها. "الأرثوذكسية" مفهوم اجتماعي–ثقافي، ينتج من طريق الصراعات السياسية والثقافية، والصراعات الرمزية (حل الرموز). هناك في المجتمع نزاع حول "الرأسمال الرمزي": من يهيمن على "الرأسمال الرمزي" ويستعمله ويستغلّه. نستمدّ من الأديان هذا "الرأسمال الرمزي"، ونعتمد عليه لتعيين الحقيقة و"الأصالة الأرثوذكسية" التي يجب أن تفرض على الجميع. هذا المفهوم الأرثوذكسي مرتبط بالمجتمع كقوة فاعلة، وبالثقافة العالمة التي تنتجها النخبة، وبالكتابة والأدب المكتوب. علمًا أن اللغة المكتوبة، أتتنا، نحن العرب، من اللهجات العامية.
• تكوين الدولة
(State formation)
مقابل "الدولة"، هناك ما نسميه "المجتمعات الانقسامية" (Segmentary Societies) التي هي النظام القبلي الذي لا يزال حيًّا عندنا وله تأثيره في المجتمعات، وهو في نزاع مع الدولة المركزية. هذا النظام القبلي يعتمد على الشفاهة والثقافة الشعبية، ويرتبط بالأمية التي لا تزال متفشّية في مجتمعاتنا.
هناك إذًا جدلية تشدّ هذه القوى إلى بعضها. ومقابل الأرثوذكسية، هناك الهيتروذوكسية أو ما نسمّيه الفرق أوالملل أوالنحل أو، كما في لبنان، الطوائف. ثمة أهمية كبرى للجدلية الاجتماعية، المستمرة في كل مجتمع، وفي إنتاج كل مجتمع. غير أن التاريخ الذي نعلّمه لأبنائنا في المدارس الثانوية لا يتبنّى هذا الديالكتيك، هذا العرض التحليلي لجميع القوى المتواجدة والمتساكنة في المجتمع لكي نفهم معاني الصراعات، وعلى ماذا تعتمد، وإلى أين تذهب بنا.
علينا التمييز بين الدين الذي نتعلمه على أيدي الفقهاء والدين المكتوب والثقافة العالمة من ناحية، والدين الشعبي من ناحية أخرى. علينا أخذ كلّ هذا في الاعتبار لندرس التوتّرات والتناقضات والصراعات المستمرة بين الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية.
إن تأريخًا يقتصر على ذكر الظاهرة السياسية بحوادثها المتعاقبة من جهة، والظاهرة الدينية من ناحية أخرى، قد يصوّر لنا وكأن هناك فرقًا بين الدين المتعالي الذي يعلمنا أشياء متسامية، والسياسة التي تعتني بأشياء بسيطة وسيئة ومهينة. هذه المقاربة التي تدّعي العلمية هي في الحقيقة مزيِّفة للواقع، وتجعلنا بعيدين من التعمّق والتحقيق في الظاهرة الدينية ومدى تأثيرها على الظاهرة السياسية والتصارع بينهما. هذا الصراع موجود في كل المجتمعات، من أقدمها إلى أحدثها، وهو موجود في الولايات المتحدة كما هو موجود في مجتمعاتنا. هذا الطرح للإشكاليات يهدف إلى البحث عن ماهية وظائف الأديان ووظائف السياسة وتعليلها. هذا العرض يسمى عرضًا تاريخيًا-أنثروبولوجيًا.
يعتني العلم الأنتروبولوجي بجميع القوى العاملة في المجتمع، والتي نجدها في كل زمان ومكان من دون استثناء. ولهذا السبب، نسمي هذا العلم "أنتروبولوجيا": "أنتروبوس" هو الإنسان، و"لوغوس" هو العلم. أي العلم الذي يبحث في الإنسان كإنسان، في الوضع البشري. هذا ما قصدته عندما بدأت بالقول إننا لن نتفهّم مقاصد الدين ومحتوياته ووظائفه في مجتمع من المجتمعات إلا إذا امتلكنا هذه الأرضية المفهومية والنهاجية لنطرح الأسئلة اللازمة. ومثلما تكوِّن المجتمعات وظائف الدين، يكيِّف الدين، إلى حدٍّ ما، مصير المجتمعات وقيمها التي تؤمن بها جماعة من الجماعات، و يشيّد لها الذاكرات الجماعية المختلفة.
هناك اختلاف بين الذاكرات الاجتماعية. وعلى أساس هذا الاختلاف، تنتج الصراعات الاجتماعية والسياسية والدينية التي غالبًا ما نخلط بينها.
قد يشكّل هذا برنامجًا شاملاً للعلوم التي يجب أن نعتني بها ونعلّمها في قسم لدراسة الأديان في كل جامعة من الجامعات الموجودة في بلداننا. وأنتم تعلمون أن العلم الأنثروبولوجي مجهول، ونادرًا ما يُعلّم.
يؤكّد بعض الأساتذة، لا بل كثيرون منهم، باسم "الأنتروبولوجيا" ما هو في الحقيقة علم إتنوغرافي. هناك فرق كبير بين " الإتنوغرافيا" و"الأنتروبولوجيا". التحليل الأنتروبولوجي للمجتمعات لا يمكن أن يبتعد عن البحث والتحليل التاريخيين، وكذلك بالنسبة إلى التحليل التاريخي لتطور المجتمعات، فهو لن يكون كاملاً ويبرز كل الحقائق والوقائع الموجودة في المجتمع إذا لم يرتبط بالإشكاليات الأنتروبولوجية للظاهرة الدينية والظاهرة السياسية.
أقول هذا لنعي المسافة التي تفصل بين ما نقوم به اليوم في جامعاتنا ومدارسنا الثانوية، والهدف الذي يجب أن نبلغه لنخرج من المآزق المعرفية التي نتخبط فيها، كلّما حاولنا فهم ماذا يحدث في مجتمعاتنا. وإذ لا نجد لهذه المآزق حلولا، فلأنّنا لم نتمكّن من إنشاء منظومات معرفية مختلفة تماما عن المنظومات التي لا تزال تكيّف إدراكنا وتفسيرنا للأوضاع التي نعيشها الآن.
إذًا المطلوب هو دراسة وتدريس ما نعني بـ"مجتمعات الكتاب" (La société du Livre). هذا يعني أن هناك ظاهرة الكتاب. تلاحظون أن عبارة " الظاهرة" تتكرر في خطابي. لماذا أقول ظاهرة الكتابة، الظاهرة السياسية، الظاهرة البيولوجية، الظاهرة الفيزيقية. لماذا الظاهرة؟ لأن هناك أشياء ندركها بأعيننا، بآذاننا، أشياء نراها، نلمسها، نجرّبها. هناك إذًا أشياء موجودة. غير أننا غير قادرين على تفسير وفهم كل ما يتعلق بهذه الظواهر. فعلى الرغم من أنها ظاهرة أمامنا، لا نملك بعد مفاتيح فهمها. نحن جاهلون للظاهرة الدينية. كان علينا أن نبدأ بالجهل. إننا جاهلون، ولكننا نتخاطب وكأننا عالمون علم اليقين في كلّ ما يخص الدين. نحن نجهل الكثير من الأشياء الأساسية التي يعبّر عنها الدين، وما يقوم به في المجتمع والتاريخ. لذلك أستعمل كلمة "الظاهرة"، "ظاهرة الكتاب" وغيرها من الظواهر. من بمقدوره أن يفسر الظاهرة في جميع تشعباتها وأبعادها؟ إلى الآن لم نقدّم طرحًا شاملاً لظاهرة الكتاب مثلاً.
هناك كتاب ألّفه عالم الأديان السويدي وندرغرن (Windergren) بعنوان "محمد رسول الله وظاهرة الكتاب السماوي" (Mohammad the Apostle of God and the Heavenly Book). هذه الفكرة، فكرة الكتاب السماوي، كانت موجودة ومنتشرة في منطقة الشرق الأوسط، وقد استعملها الناس واستعملتها الأديان المختلفة، وبقيت حيّة قرونًا وقرونًا إلى يومنا هذا. غير أن ما كتب عن هذه الظاهرة قليل جدًا، ولا يمكننا استخدامه استخدامًا محقّقا ومثبتًا علميًا.هذه الفكرة لا تزال في مجال "العلم الميتولوجي".
كيف نقارب الظاهرة القرآنية والظاهرة الإنجيلية أو الظاهرة التوراتية؟ يطبّق هذا البيان على القرآن طبعًا، و لكن أيضًا على جميع الكتب المؤسِّسة للأديان. أبعد من ذلك، فهذا البيان يطبق على جميع الكتب أو النصوص التي يستعملها مجتمع ما كمرجعية ملزمة، كالدستور مثلا. فالدستور مرجعية ملزمة، تلزم جميع المواطنين، وهو مرجعية لفصل الخلافات القائمة بين المواطنين في المجتمع. هذا أيضا طرح أنتروبولوجي لمفهوم ظاهرة الكتابة التي لا تخصّ القرآن فقط، أو الإنجيل فقط. هذا هو الفرق بين المقاربة التاريخية الأنتروبولوجية والإنسانية، والمقاربة اللاهوتية للموضوع نفسه. ماذا يقول اللاهوت؟ يقول إن هذا كتاب منزل، وإن اليهود شعب منتخب. بهذين القول والإيمان يحدث ما يحدث، ويعمل البشر ما يعملونه. في ما يتعلق باللاهوت المسيحي يقول الكاردينال راتسينغر[إنه البابا الحالي بينيدكتوس السادس عشر] في نص نشره بعنوان "Dominus Jesus" (السيد المسيح) وعنوان فرعي "Sur l’unicité et l’universalité salvifique de Jesus-Christ et de l’Eglise" (عن الوحدة والكونية المنقذة ليسوع المسيح والكنيسة)، الكلام الآتي:
"علينا التمييز بشدّة بين "الإيمان" اللاهوتي و"العقيدة" في الديانات الأخرى. فبينما "الإيمان" هو استقبال للنعمة الإلهية وللحقيقة المنزلة، تشكّل "العقيدة" في الديانات الأخرى مجموع التجارب والأفكار الإنسانية، هذه الثروة من الحكمة والتديّن التي بلغها الإنسان في بحثه عن الحقيقة وفي تفكيره لواقع العلاقة مع كل ما هو إلهي ومطلق".
تستحق هذه الجملة التحليل والتأويل لأنها تجمع في جملة واحدة مجمل القضايا اللاهوتية التي لم نعالجها بعد معالجة تنطلق من المناهج التي ذكرت. وإذا التمسنا هذه الجملة وترجمناها من منطلق إسلامي لاهوتي وقعنا في مشاكل ومآزق يستحيل علينا الخروج منها . وهذا ما حصل تاريخيًا. فنحن في مآزق بسبب مفاهيم أتتنا من القرون الوسطى، ولا نزال إلى يومنا هذا نعلّمها، ونكرّرها، ونعتمد عليها للتمييز بين ما نسميه الإيمان (La foi) المبني على نموذج لاهوتي، ومانسميه العقائد. فالعقائد موجودة أيضًا في الأديان الأخرى. أما الإيمان النموذجي فنجده في المسيحية حسب التفسير اللاهوتي. لا يحقّ لنا أن نرفضه أو نقبله. نأتي إلى هذا النوع من الخطاب بعد أن نكون قد عبرنا جميع المراحل التي ذكرتها في ما يتعلّق بالتقديم أو التمهيد لدراسة لبّ المشاكل في النصوص المنزلة نفسها.
هناك ما نسميه" المعطى المنزل". التنزيل أعطي، ونحن تلقيناه. أعطاه الله للبشر، وهو لدينا، في متناولنا. و لكن ماذا بإمكان العقل أن يقول اليوم عن هذا المعطى؟ وهو (أي العقل) يمرّ في أزمة معرفية تمس الفكر الديني كما تمسّ الفكر الأخلاقي والفلسفي والعلمي.
قد يغيّر هذا من طبيعة علاقتنا بالخطاب اللاهوتي الذي تلقيناه. وهذا هو المقصود من كل ما قلته عن ضرورة الطرح الجديد للظاهرة الدينية ودراستها بمنهج علمي. ذلك لأن الدراسة العلمية، كما وصفتها، لا تطلب من المسيحي أن يكون أرثوذكسيا أو كاثوليكياً حتى يشارك فيها، ولا تطلب من المسلم أن يكون سنّياً أو شيعيا كي يساهم فيها. هذا علم، نعمل عليه كما نعمل في العلم البيولوجي أو في المختبر. وهذا المفهوم لا يعارض ولا ينفي الدراسة والبحث اللاهوتيين. في كلّ مرّة عرضتُ فيها هذا المفهوم، كان الردّ بأن هذه البحوث لا تعطي أهمية للإيمان وللدين. لقد كان هذا صحيحاً في الممارسة "العلماوية" (Positiviste, Scientiste) التي كان يتبناها العقل في القرن التاسع عشر. أما اليوم، فنعطي الأديان والإيمان والقيم والعقائد الدينية جميع حقوقها، ونعترف بوظائفها في المجتمع. فالدين غير الإيديولوجيا، ولذلك وجب أن ندرسها.
عندما أذكر الإنجيل أو القرآن، أشير إلى شيء أظنه معروفاً وبديهياً. غير أن هذا النوع من استعمال اللفظ يغطي مشاكل غاية في الأهمية ويخفيها عنا كي لا ندرسها دراسة تحليلية وعلمية. هذه النقطة أهملناها، ولانزال، لأننا نتّهم العلوم الاجتماعية والإنسانية بأنها علوم معادية للأديان ونافية لها. وهذا غير صحيح.
ما عسانا نغطّي، وماذا نهمّش، وماذا نترك جانباً ومدفونا دون التفكير فيه في الفكر الإسلامي المعاصر كما في الفكر المسيحي المعاصر؟ ثمة ما يمكن التفكير فيه وما لا يمكن التفكير فيه. ونحن في مجتمعاتنا نعرف ماذا نعني بما لا يمكن التفكير فيه. لا في مجال السياسة فقط، ولكن في مجال الثقافة (الإيديولوجيا) التي نتثقف ونتخاطب بها في الميدان العام، في المجتمع. أما عندما نتخاطب في ما بيننا، فنستخدم لغة أخرى، وخطابا آخر.
• "كلام الله":
أثارت هذه العبارة-المفهوم في التاريخ الإسلامي والمسيحي منذ زمن طويل نقاشات مهمة. ماذا نفهم بعبارة "كلام الله"؟ في ما يخصّ الفكر الإسلامي، الجميع يعرف مساهمة المعتزلة في إشكالية القرآن: هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟ إنها إشكالية مهمة جداً. وطبعاً نرفض هذه الإشكالية اليوم بسبب "الأرثوذكسية".
لا يمكننا التخلّي عن هذا المستوى في البحث. فهو يتطلّب منّا أن نتسلح بأسلحة غير تلك التي لا يزال الخطاب اللاهوتي الرسمي يستعملها إلى يومنا هذا.
"كلام الله" هذا ظهر في مرحلة من مراحل التاريخ وكخطاب شفاهي. لم يظهر كخطاب مكتوب. سيكتب في ما بعد. والكتابة بحدّ ذاتها تثير مشاكل عديدة. مثلاً الحروف العربية، كالكوفية في القرن الأول للهجرة، كانت من دون تنقيط ومن دون حركات. وهذا ما أثار مشاكل. ولكن أهمية هذه المرحلة التاريخية تكمن في دور "الخطاب الشفاهي" في أداء المعنى وتبليغه للمستمع. مثلاً في الكلام الذي تسمعونه مني، لا أكتفي بالأرقام التي أستخدمها لكي أبلّغ ما أريد، بل أستعين بيدي وبوجهي وبصوتي لإضافة معانٍ تسهيلاً للتبليغ. علماء اللسانية المعاصرون يعطون أهمية كبرى لهذا التعبير الشفاهي ويسمونه "سيميولوجيا الخطاب".
أقول هذا من أجل المعنى لأن كل شيء مبني عليه. على أي معنى نبني العقائد؟ وما الذي سيصبح منها عقائد دوغمائية؟ إذا لم نؤمن بها، كما تفترض الخطابات اللاهوتية، نعاقب هنا، في الدنيا.
هذه مسألة مهمة للغاية، وهي لسانية محضة لا تمس العقائد، بل تسعى إلى توضيح ماهيتها التي تبنى على إرادة إبلاغ المعنى الصحيح والأصيل والمقصود في الخطاب الأول كما ألقي على جماعة ما. هذه مرحلة أساسية من حيث الجوهر، وليس فقط من حيث المنهاج. وهذا شامل لكل الأديان. ليس من نزاع بين المسيحية والإسلام اليوم. كلّنا في الوضع نفسه، الذي هو وضع لغوي وتاريخي. لا يمكننا استرجاعه. ما لا يعاد، وما لا تمكن إعادته للتاريخ، هو ثمين.
3. النصوص
ننتقل إلى المرحلة الثالثة أي إلى المجموع الرسمي المعلن من النصوص. هذه النصوص رسمية لأنها نابعة من إرادة رسمية، إرادة الكنيسة. إنها إرادة رسمية من البشر الذين قرّروا أن هناك أناجيل أصيلة وأخرى مختلقة انتشرت في القرنين الأول والثاني بعد المسيح. الأمر عينه حصل مع الأحاديث عند المسلمين، فمنها الصحيح ومنها المختلق. أُغلق الموضوع بعد أن تقرّر أن الأناجيل الأربعة التي يجب الاعتماد عليها هي الأناجيل الصحيحة، وأن المصحف العثماني هو المصحف الصحيح الذي يجب أن يُعتمد. ومن ثمّ أغلق النقاش.
ما معنى "أُغلق"؟ معناه أنه إذا جاء راوٍ من الرواة ليقول "بلغني عن فلان وفلان أن النبي قد قال كذا وكذا بصدد آية محددة"، فالجواب أن الأمر منتهٍ، مغلق. أكثر من ذلك. في تفسير الطبري للآية 12 من سورة النساء، قراءتان. وقد قرأ الطبري في قراءتيه 28 خبراً. أخبار تروي أشياء مختلفة. لذلك نقرأ اليوم النصوص في مجموعات مغلقة. في هذا ما يثير مشاكل في طرق التفسير، وتحديد محتوى النصوص ومعناها.
4. الخطاب الديني
المجموعات المفسّرة: تفسير الطبري كناية عن مجموعة بل موسوعة من العلوم تصحّ لتكون مرجعاً لكل من يفسر القرآن، فيستمد منها المعلومات التي جمعها الطبري. والشيء عينه في ما يتعلّق بالتوراة والأناجيل. هناك مجموعات تؤلّف، فيُعتمد عليها. إنها مجموعات لاهوتية بالنسبة إلى المسيحيين، ومجموعات شرعية في ما خصّ الشريعة عند المسلمين.
تاريخ التفسير كوّن تصوراتنا، وفهمنا، وكلّ ما نسميه عقائدنا في ما تؤلفه النصوص المنزلة. فالوصول إلى النص المنزل يكون من خلال المجموعات التي تراكمت منذ القرون الوسطى إلى يومنا هذا.
ما أقدّمه هنا هو برنامجاً للعلم والبحوث، لأننا لم نقُم ببحوث علمية عن كل مرحلة من هذه المراحل. نكتفي اليوم بالإحالة إلى المستوى الأول: هذا "كلام الله". أما المستوى الثاني، فهو ما سمعناه عن النبي أو عن المسيح. كل هذا نصل إليه من خلال الكتب التي لا نزال ندرّسها حسب القواعد والمناهج المتّبعة والموضوعة منذ زمن. إنها قضايا شائكة ومهمة، ولها تأثير في خطاباتنا إلى اليوم.
بدأت حديثي بأنه، حتى في أواخر القرن العشرين، استعمل كلٌّ من بوش وميتران المعجم الديني لتبرير الحروب، وذلك من أفواه تعتقد بالنظام العلماني وتؤيّده. في المجتمعات التي أحدثت ثورة في فصل الدين عن الدولة، نجد أن الظاهرة الدينية مهملة وغير مدروسة. والدليل على ذلك ان وزيراً في فرنسا هو جاك لانغ (Jack Lang) أسّس، ولأول مرّة، معهداً أوروبيا يُعنى بدراسة الأديان. هذه خطوة جديدة. وعندما أعلن عن ذلك، طُرح عليه السؤال الأول الذي هو: أين هم المعلمون والأساتذة الذين بإمكانهم أن يدرّسوا الأديان حسب الذهنية العلمية، العلمانية، الفلسفية، الأنتروبولوجية التي ذكرتموها في مقدمتكم؟
إذا كان هذا الكلام قد قيل في فرنسا، ولفرنسا المكانة المعروفة في مجال العلماء والجامعات، فماذا نقول عندنا عن جامعاتنا؟ الحمد للّه أن عندنا جامعة البلمند التي أتاحت لنا هذه الفرصة لنطرح هذه الأفكار راجين أن تلقى من يتبنّاها في هذا البلد، الثري بثقافاته وبما يسمّونه الطوائف، وأنا أسميها "الذاكرات الجماعية" الحاملة لثروة ثقافية. يجب أن تحظى هذه الذاكرات بما تستحقّه من اهتمام، وأن نتيح لها فرصة أن تنطق وتعبّر عن نفسها بلهجاتها لا باللغة العالمة، الفصحى. وذلك لأن التعرّف على كل ذاكرة لا يستقيم إلاّ من طريق اللهجة التي يتم التكلم بها في الأسرة، في الشارع، في الخطاب اليومي. هناك كتب كثيرة نقرأها، ولكن علينا أن نقرأ السطر الأول والثاني، وألاّ نكتف بالأول فقط.
الثلاثاء، 10 مارس 2009
What is Enlightenment?KANT
IMMANUEL KANT
An Answer to the Question:
What is Enlightenment? (1784)
Enlightenment is man's emergence from his self-imposed immaturity. Immaturity is the inability to use one's understanding without guidance from another. This immaturity is self-imposed when its cause lies not in lack of understanding, but in lack of resolve and courage to use it without guidance from another. Sapere Aude! [dare to know] "Have courage to use your own understanding!"--that is the motto of enlightenment.
Laziness and cowardice are the reasons why so great a proportion of men, long after nature has released them from alien guidance (natura-liter maiorennes), nonetheless gladly remain in lifelong immaturity, and why it is so easy for others to establish themselves as their guardians. It is so easy to be immature. If I have a book to serve as my understanding, a pastor to serve as my conscience, a physician to determine my diet for me, and so on, I need not exert myself at all. I need not think, if only I can pay: others will readily undertake the irksome work for me. The guardians who have so benevolently taken over the supervision of men have carefully seen to it that the far greatest part of them (including the entire fair sex) regard taking the step to maturity as very dangerous, not to mention difficult. Having first made their domestic livestock dumb, and having carefully made sure that these docile creatures will not take a single step without the go-cart to which they are harnessed, these guardians then show them the danger that threatens them, should they attempt to walk alone. Now this danger is not actually so great, for after falling a few times they would in the end certainly learn to walk; but an example of this kind makes men timid and usually frightens them out of all further attempts.
Thus, it is difficult for any individual man to work himself out of the immaturity that has all but become his nature. He has even become fond of this state and for the time being is actually incapable of using his own understanding, for no one has ever allowed him to attempt it. Rules and formulas, those mechanical aids to the rational use, or rather misuse, of his natural gifts, are the shackles of a permanent immaturity. Whoever threw them off would still make only an uncertain leap over the smallest ditch, since he is unaccustomed to this kind of free movement. Consequently, only a few have succeeded, by cultivating their own minds, in freeing themselves from immaturity and pursuing a secure course.
But that the public should enlighten itself is more likely; indeed, if it is only allowed freedom, enlightenment is almost inevitable. For even among the entrenched guardians of the great masses a few will always think for themselves, a few who, after having themselves thrown off the yoke of immaturity, will spread the spirit of a rational appreciation for both their own worth and for each person's calling to think for himself. But it should be particularly noted that if a public that was first placed in this yoke by the guardians is suitably aroused by some of those who are altogether incapable of enlightenment, it may force the guardians themselves to remain under the yoke--so pernicious is it to instill prejudices, for they finally take revenge upon their originators, or on their descendants. Thus a public can only attain enlightenment slowly. Perhaps a revolution can overthrow autocratic despotism and profiteering or power-grabbing oppression, but it can never truly reform a manner of thinking; instead, new prejudices, just like the old ones they replace, will serve as a leash for the great unthinking mass.
Nothing is required for this enlightenment, however, except freedom; and the freedom in question is the least harmful of all, namely, the freedom to use reason publicly in all matters. But on all sides I hear: "Do not argue!" The officer says, "Do not argue, drill!" The tax man says, "Do not argue, pay!" The pastor says, "Do not argue, believe!" (Only one ruler in the World says, "Argue as much as you want and about what you want, but obey!") In this we have examples of pervasive restrictions on freedom. But which restriction hinders enlightenment and which does not, but instead actually advances it? I reply: The public use of one's reason must always be free, and it alone can bring about enlightenment among mankind; the private use of reason may, however, often be very narrowly restricted, without otherwise hindering the progress of enlightenment. By the public use of one's own reason I understand the use that anyone as a scholar makes of reason before the entire literate world. I call the private use of reason that which a person may make in a civic post or office that has been entrusted to him. Now in many affairs conducted in the interests of a community, a certain mechanism is required by means of which some of its members must conduct themselves in an entirely passive manner so that through an artificial unanimity the government may guide them toward public ends, or at least prevent them from destroying such ends. Here one certainly must not argue, instead one must obey. However, insofar as this part of the machine also regards himself as a member of the community as a whole, or even of the world community, and as a consequence addresses the public in the role of a scholar, in the proper sense of that term, he can most certainly argue, without thereby harming the affairs for which as a passive member he is partly responsible. Thus it would be disastrous if an officer on duty who was given a command by his superior were to question the appropriateness or utility of the order. He must obey. But as a scholar he cannot be justly constrained from making comments about errors in military service, or from placing them before the public for its judgment. The citizen cannot refuse to pay the taxes imposed on him; indeed, impertinent criticism of such levies, when they should be paid by him, can be punished as a scandal (since it can lead to widespread insubordination). But the same person does not act contrary to civic duty when, as a scholar, he publicly expresses his thoughts regarding the impropriety or even injustice of such taxes. Likewise a pastor is bound to instruct his catecumens and congregation in accordance with the symbol of the church he serves, for he was appointed on that condition. But as a scholar he has complete freedom, indeed even the calling, to impart to the public all of his carefully considered and well-intentioned thoughts concerning mistaken aspects of that symbol, as well as his suggestions for the better arrangement of religious and church matters. Nothing in this can weigh on his conscience. What he teaches in consequence of his office as a servant of the church he sets out as something with regard to which he has no discretion to teach in accord with his own lights; rather, he offers it under the direction and in the name of another. He will say, "Our church teaches this or that and these are the demonstrations it uses." He thereby extracts for his congregation all practical uses from precepts to which he would not himself subscribe with complete conviction, but whose presentation he can nonetheless undertake, since it is not entirely impossible that truth lies hidden in them, and, in any case, nothing contrary to the very nature of religion is to be found in them. If he believed he could find anything of the latter sort in them, he could not in good conscience serve in his position; he would have to resign. Thus an appointed teacher's use of his reason for the sake of his congregation is merely private, because, however large the congregation is, this use is always only domestic; in this regard, as a priest, he is not free and cannot be such because he is acting under instructions from someone else. By contrast, the cleric--as a scholar who speaks through his writings to the public as such, i.e., the world--enjoys in this public use of reason an unrestricted freedom to use his own rational capacities and to speak his own mind. For that the (spiritual) guardians of a people should themselves be immature is an absurdity that would insure the perpetuation of absurdities.
But would a society of pastors, perhaps a church assembly or venerable presbytery (as those among the Dutch call themselves), not be justified in binding itself by oath to a certain unalterable symbol in order to secure a constant guardianship over each of its members and through them over the people, and this for all time: I say that this is wholly impossible. Such a contract, whose intention is to preclude forever all further enlightenment of the human race, is absolutely null and void, even if it should be ratified by the supreme power, by parliaments, and by the most solemn peace treaties. One age cannot bind itself, and thus conspire, to place a succeeding one in a condition whereby it would be impossible for the later age to expand its knowledge (particularly where it is so very important), to rid itself of errors,and generally to increase its enlightenment. That would be a crime against human nature, whose essential destiny lies precisely in such progress; subsequent generations are thus completely justified in dismissing such agreements as unauthorized and criminal. The criterion of everything that can be agreed upon as a law by a people lies in this question: Can a people impose such a law on itself? Now it might be possible, in anticipation of a better state of affairs, to introduce a provisional order for a specific, short time, all the while giving all citizens, especially clergy, in their role as scholars, the freedom to comment publicly, i.e., in writing, on the present institution's shortcomings. The provisional order might last until insight into the nature of these matters had become so widespread and obvious that the combined (if not unanimous) voices of the populace could propose to the crown that it take under its protection those congregations that, in accord with their newly gained insight, had organized themselves under altered religious institutions, but without interfering with those wishing to allow matters to remain as before. However, it is absolutely forbidden that they unite into a religious organization that nobody may for the duration of a man's lifetime publicly question, for so do-ing would deny, render fruitless, and make detrimental to succeeding generations an era in man's progress toward improvement. A man may put off enlightenment with regard to what he ought to know, though only for a short time and for his own person; but to renounce it for himself, or, even more, for subsequent generations, is to violate and trample man's divine rights underfoot. And what a people may not decree for itself may still less be imposed on it by a monarch, for his lawgiving authority rests on his unification of the people's collective will in his own. If he only sees to it that all genuine or purported improvement is consonant with civil order, he can allow his subjects to do what they find necessary to their spiritual well-being, which is not his affair. However, he must prevent anyone from forcibly interfering with another's working as best he can to determine and promote his well-being. It detracts from his own majesty when he interferes in these matters, since the writings in which his subjects attempt to clarify their insights lend value to his conception of governance. This holds whether he acts from his own highest insight--whereby he calls upon himself the reproach, "Caesar non eat supra grammaticos."'--as well as, indeed even more, when he despoils his highest authority by supporting the spiritual despotism of some tyrants in his state over his other subjects.
If it is now asked, "Do we presently live in an enlightened age?" the answer is, "No, but we do live in an age of enlightenment." As matters now stand, a great deal is still lacking in order for men as a whole to be, or even to put themselves into a position to be able without external guidance to apply understanding confidently to religious issues. But we do have clear indications that the way is now being opened for men to proceed freely in this direction and that the obstacles to general enlightenment--to their release from their self-imposed immaturity--are gradually diminishing. In this regard, this age is the age of enlightenment, the century of Frederick.
A prince who does not find it beneath him to say that he takes it to be his duty to prescribe nothing, but rather to allow men complete freedom in religious matters--who thereby renounces the arrogant title of tolerance--is himself enlightened and deserves to be praised by a grateful present and by posterity as the first, at least where the government is concerned, to release the human race from immaturity and to leave everyone free to use his own reason in all matters of conscience. Under his rule, venerable pastors, in their role as scholars and without prejudice to their official duties, may freely and openly set out for the world's scrutiny their judgments and views, even where these occasionally differ from the accepted symbol. Still greater freedom is afforded to those who are not restricted by an official post. This spirit of freedom is expanding even where it must struggle against the external obstacles of governments that misunderstand their own function. Such governments are illuminated by the example that the existence of freedom need not give cause for the least concern regarding public order and harmony in the commonwealth. If only they refrain from inventing artifices to keep themselves in it, men will gradually raise themselves from barbarism.
I have focused on religious matters in setting out my main point concerning enlightenment, i.e., man's emergence from self-imposed immaturity, first because our rulers have no interest in assuming the role of their subjects' guardians with respect to the arts and sciences, and secondly because that form of immaturity is both the most pernicious and disgraceful of all. But the manner of thinking of a head of state who favors religious enlightenment goes even further, for he realizes that there is no danger to his legislation in allowing his subjects to use reason publicly and to set before the world their thoughts concerning better formulations of his laws, even if this involves frank criticism of legislation currently in effect. We have before us a shining example, with respect to which no monarch surpasses the one whom we honor.
But only a ruler who is himself enlightened and has no dread of shadows, yet who likewise has a well-disciplined, numerous army to guarantee public peace, can say what no republic may dare, namely: "Argue as much as you want and about what you want, but obey!" Here as elsewhere, when things are considered in broad perspective, a strange, unexpected pattern in human affairs reveals itself, one in which almost everything is paradoxical. A greater degree of civil freedom seems advantageous to a people's spiritual freedom; yet the former established impassable boundaries for the latter; conversely, a lesser degree of civil freedom provides enough room for all fully to expand their abilities. Thus, once nature has removed the hard shell from this kernel for which she has most fondly cared, namely, the inclination to and vocation for free thinking, the kernel gradually reacts on a people's mentality (whereby they become increasingly able to act freely), and it finally even influences the principles of government, which finds that it can profit by treating men, who are now more than machines, in accord with their dignity.
I. Kant
Konigsberg in Prussia, 30 September 1784
An Answer to the Question:
What is Enlightenment? (1784)
Enlightenment is man's emergence from his self-imposed immaturity. Immaturity is the inability to use one's understanding without guidance from another. This immaturity is self-imposed when its cause lies not in lack of understanding, but in lack of resolve and courage to use it without guidance from another. Sapere Aude! [dare to know] "Have courage to use your own understanding!"--that is the motto of enlightenment.
Laziness and cowardice are the reasons why so great a proportion of men, long after nature has released them from alien guidance (natura-liter maiorennes), nonetheless gladly remain in lifelong immaturity, and why it is so easy for others to establish themselves as their guardians. It is so easy to be immature. If I have a book to serve as my understanding, a pastor to serve as my conscience, a physician to determine my diet for me, and so on, I need not exert myself at all. I need not think, if only I can pay: others will readily undertake the irksome work for me. The guardians who have so benevolently taken over the supervision of men have carefully seen to it that the far greatest part of them (including the entire fair sex) regard taking the step to maturity as very dangerous, not to mention difficult. Having first made their domestic livestock dumb, and having carefully made sure that these docile creatures will not take a single step without the go-cart to which they are harnessed, these guardians then show them the danger that threatens them, should they attempt to walk alone. Now this danger is not actually so great, for after falling a few times they would in the end certainly learn to walk; but an example of this kind makes men timid and usually frightens them out of all further attempts.
Thus, it is difficult for any individual man to work himself out of the immaturity that has all but become his nature. He has even become fond of this state and for the time being is actually incapable of using his own understanding, for no one has ever allowed him to attempt it. Rules and formulas, those mechanical aids to the rational use, or rather misuse, of his natural gifts, are the shackles of a permanent immaturity. Whoever threw them off would still make only an uncertain leap over the smallest ditch, since he is unaccustomed to this kind of free movement. Consequently, only a few have succeeded, by cultivating their own minds, in freeing themselves from immaturity and pursuing a secure course.
But that the public should enlighten itself is more likely; indeed, if it is only allowed freedom, enlightenment is almost inevitable. For even among the entrenched guardians of the great masses a few will always think for themselves, a few who, after having themselves thrown off the yoke of immaturity, will spread the spirit of a rational appreciation for both their own worth and for each person's calling to think for himself. But it should be particularly noted that if a public that was first placed in this yoke by the guardians is suitably aroused by some of those who are altogether incapable of enlightenment, it may force the guardians themselves to remain under the yoke--so pernicious is it to instill prejudices, for they finally take revenge upon their originators, or on their descendants. Thus a public can only attain enlightenment slowly. Perhaps a revolution can overthrow autocratic despotism and profiteering or power-grabbing oppression, but it can never truly reform a manner of thinking; instead, new prejudices, just like the old ones they replace, will serve as a leash for the great unthinking mass.
Nothing is required for this enlightenment, however, except freedom; and the freedom in question is the least harmful of all, namely, the freedom to use reason publicly in all matters. But on all sides I hear: "Do not argue!" The officer says, "Do not argue, drill!" The tax man says, "Do not argue, pay!" The pastor says, "Do not argue, believe!" (Only one ruler in the World says, "Argue as much as you want and about what you want, but obey!") In this we have examples of pervasive restrictions on freedom. But which restriction hinders enlightenment and which does not, but instead actually advances it? I reply: The public use of one's reason must always be free, and it alone can bring about enlightenment among mankind; the private use of reason may, however, often be very narrowly restricted, without otherwise hindering the progress of enlightenment. By the public use of one's own reason I understand the use that anyone as a scholar makes of reason before the entire literate world. I call the private use of reason that which a person may make in a civic post or office that has been entrusted to him. Now in many affairs conducted in the interests of a community, a certain mechanism is required by means of which some of its members must conduct themselves in an entirely passive manner so that through an artificial unanimity the government may guide them toward public ends, or at least prevent them from destroying such ends. Here one certainly must not argue, instead one must obey. However, insofar as this part of the machine also regards himself as a member of the community as a whole, or even of the world community, and as a consequence addresses the public in the role of a scholar, in the proper sense of that term, he can most certainly argue, without thereby harming the affairs for which as a passive member he is partly responsible. Thus it would be disastrous if an officer on duty who was given a command by his superior were to question the appropriateness or utility of the order. He must obey. But as a scholar he cannot be justly constrained from making comments about errors in military service, or from placing them before the public for its judgment. The citizen cannot refuse to pay the taxes imposed on him; indeed, impertinent criticism of such levies, when they should be paid by him, can be punished as a scandal (since it can lead to widespread insubordination). But the same person does not act contrary to civic duty when, as a scholar, he publicly expresses his thoughts regarding the impropriety or even injustice of such taxes. Likewise a pastor is bound to instruct his catecumens and congregation in accordance with the symbol of the church he serves, for he was appointed on that condition. But as a scholar he has complete freedom, indeed even the calling, to impart to the public all of his carefully considered and well-intentioned thoughts concerning mistaken aspects of that symbol, as well as his suggestions for the better arrangement of religious and church matters. Nothing in this can weigh on his conscience. What he teaches in consequence of his office as a servant of the church he sets out as something with regard to which he has no discretion to teach in accord with his own lights; rather, he offers it under the direction and in the name of another. He will say, "Our church teaches this or that and these are the demonstrations it uses." He thereby extracts for his congregation all practical uses from precepts to which he would not himself subscribe with complete conviction, but whose presentation he can nonetheless undertake, since it is not entirely impossible that truth lies hidden in them, and, in any case, nothing contrary to the very nature of religion is to be found in them. If he believed he could find anything of the latter sort in them, he could not in good conscience serve in his position; he would have to resign. Thus an appointed teacher's use of his reason for the sake of his congregation is merely private, because, however large the congregation is, this use is always only domestic; in this regard, as a priest, he is not free and cannot be such because he is acting under instructions from someone else. By contrast, the cleric--as a scholar who speaks through his writings to the public as such, i.e., the world--enjoys in this public use of reason an unrestricted freedom to use his own rational capacities and to speak his own mind. For that the (spiritual) guardians of a people should themselves be immature is an absurdity that would insure the perpetuation of absurdities.
But would a society of pastors, perhaps a church assembly or venerable presbytery (as those among the Dutch call themselves), not be justified in binding itself by oath to a certain unalterable symbol in order to secure a constant guardianship over each of its members and through them over the people, and this for all time: I say that this is wholly impossible. Such a contract, whose intention is to preclude forever all further enlightenment of the human race, is absolutely null and void, even if it should be ratified by the supreme power, by parliaments, and by the most solemn peace treaties. One age cannot bind itself, and thus conspire, to place a succeeding one in a condition whereby it would be impossible for the later age to expand its knowledge (particularly where it is so very important), to rid itself of errors,and generally to increase its enlightenment. That would be a crime against human nature, whose essential destiny lies precisely in such progress; subsequent generations are thus completely justified in dismissing such agreements as unauthorized and criminal. The criterion of everything that can be agreed upon as a law by a people lies in this question: Can a people impose such a law on itself? Now it might be possible, in anticipation of a better state of affairs, to introduce a provisional order for a specific, short time, all the while giving all citizens, especially clergy, in their role as scholars, the freedom to comment publicly, i.e., in writing, on the present institution's shortcomings. The provisional order might last until insight into the nature of these matters had become so widespread and obvious that the combined (if not unanimous) voices of the populace could propose to the crown that it take under its protection those congregations that, in accord with their newly gained insight, had organized themselves under altered religious institutions, but without interfering with those wishing to allow matters to remain as before. However, it is absolutely forbidden that they unite into a religious organization that nobody may for the duration of a man's lifetime publicly question, for so do-ing would deny, render fruitless, and make detrimental to succeeding generations an era in man's progress toward improvement. A man may put off enlightenment with regard to what he ought to know, though only for a short time and for his own person; but to renounce it for himself, or, even more, for subsequent generations, is to violate and trample man's divine rights underfoot. And what a people may not decree for itself may still less be imposed on it by a monarch, for his lawgiving authority rests on his unification of the people's collective will in his own. If he only sees to it that all genuine or purported improvement is consonant with civil order, he can allow his subjects to do what they find necessary to their spiritual well-being, which is not his affair. However, he must prevent anyone from forcibly interfering with another's working as best he can to determine and promote his well-being. It detracts from his own majesty when he interferes in these matters, since the writings in which his subjects attempt to clarify their insights lend value to his conception of governance. This holds whether he acts from his own highest insight--whereby he calls upon himself the reproach, "Caesar non eat supra grammaticos."'--as well as, indeed even more, when he despoils his highest authority by supporting the spiritual despotism of some tyrants in his state over his other subjects.
If it is now asked, "Do we presently live in an enlightened age?" the answer is, "No, but we do live in an age of enlightenment." As matters now stand, a great deal is still lacking in order for men as a whole to be, or even to put themselves into a position to be able without external guidance to apply understanding confidently to religious issues. But we do have clear indications that the way is now being opened for men to proceed freely in this direction and that the obstacles to general enlightenment--to their release from their self-imposed immaturity--are gradually diminishing. In this regard, this age is the age of enlightenment, the century of Frederick.
A prince who does not find it beneath him to say that he takes it to be his duty to prescribe nothing, but rather to allow men complete freedom in religious matters--who thereby renounces the arrogant title of tolerance--is himself enlightened and deserves to be praised by a grateful present and by posterity as the first, at least where the government is concerned, to release the human race from immaturity and to leave everyone free to use his own reason in all matters of conscience. Under his rule, venerable pastors, in their role as scholars and without prejudice to their official duties, may freely and openly set out for the world's scrutiny their judgments and views, even where these occasionally differ from the accepted symbol. Still greater freedom is afforded to those who are not restricted by an official post. This spirit of freedom is expanding even where it must struggle against the external obstacles of governments that misunderstand their own function. Such governments are illuminated by the example that the existence of freedom need not give cause for the least concern regarding public order and harmony in the commonwealth. If only they refrain from inventing artifices to keep themselves in it, men will gradually raise themselves from barbarism.
I have focused on religious matters in setting out my main point concerning enlightenment, i.e., man's emergence from self-imposed immaturity, first because our rulers have no interest in assuming the role of their subjects' guardians with respect to the arts and sciences, and secondly because that form of immaturity is both the most pernicious and disgraceful of all. But the manner of thinking of a head of state who favors religious enlightenment goes even further, for he realizes that there is no danger to his legislation in allowing his subjects to use reason publicly and to set before the world their thoughts concerning better formulations of his laws, even if this involves frank criticism of legislation currently in effect. We have before us a shining example, with respect to which no monarch surpasses the one whom we honor.
But only a ruler who is himself enlightened and has no dread of shadows, yet who likewise has a well-disciplined, numerous army to guarantee public peace, can say what no republic may dare, namely: "Argue as much as you want and about what you want, but obey!" Here as elsewhere, when things are considered in broad perspective, a strange, unexpected pattern in human affairs reveals itself, one in which almost everything is paradoxical. A greater degree of civil freedom seems advantageous to a people's spiritual freedom; yet the former established impassable boundaries for the latter; conversely, a lesser degree of civil freedom provides enough room for all fully to expand their abilities. Thus, once nature has removed the hard shell from this kernel for which she has most fondly cared, namely, the inclination to and vocation for free thinking, the kernel gradually reacts on a people's mentality (whereby they become increasingly able to act freely), and it finally even influences the principles of government, which finds that it can profit by treating men, who are now more than machines, in accord with their dignity.
I. Kant
Konigsberg in Prussia, 30 September 1784
الخميس، 5 مارس 2009
مئوية مجلة "العرفان
(مئوية مجلة "العرفان"(5 شباط 1909 - 5 شباط 2009
المجلة ومؤسسها في الدائرتين الصغرى والكبرى بقلم الدكتور طريف الخالدي
-1-
لو أننا تدبرنا لحظة من الوقت أمر دائرتين متحدتي المركز تقريباً إحداهما أصغر في العيان من الاخرى؛ ولو أننا تصورنا ان خطوط كفافهما الخارجية او محيطيهما متشابهان أقرب الشبه؛ ولو أننا تدبرنا كرة أخرى في الدائرة الصغرى باعتبارها عالماً مصغراً [انساناً] في داخل الدائرة الكبرى، العالم الاكبر [الكون]؛ ولو أننا تذكرنا أن الدائرة الصغرى لا تعكس الدائرة الكبرى فحسب، بل تعمل بنشاط في تكييف مناخها الفكري كذلك، لو أننا وضعنا كل هذه الاخيلة أمام ناظرنا فسنتوصل الى صورة متعددة الابعاد للعلاقة بين جبل عامل ومجلة العرفان. ففي جبل عامل كانت أي مجلة تسمى ببساطة "العرفان"(1). كان الامر كما لو ان اسم العلم قد امسى مرادفاً لاسم الجنس، وكان الحال كذلك على الاخص في الفترة بين 1909 و1939. فالعرفان لم تكن محض مرآة صادقة لمكانها وزمانها. إنها كانت ايضاً ادارة ووسيطاً مباشرين للتحوّل الفكري. وقد كان للدائرتين المتحدتي المركز، معاً، من الأثر المشترك ما تجاوز بعيداً حدود جبل عامل الجغرافية.
لذا، فبتحليل العرفان وموقعها في الحياة الفكرية في المشرق العربي خلال هذه الفترة، سيكون الامر في النهاية سيّان سواء بدأ التحليل التاريخي من الدائرة الخارجية وانتقل الى الدائرة الداخلية او العكس بالعكس. وعلى هذا فسأبدأ بتحليل موجز لطبيعة الشبه بين العرفان ومجتمعها الأم ولدرجته. ثم أمضي لفحص بعض الموضوعات (الثيمات) الرئيسية التي كوّنتها العرفان والمجتمع الذي أفرزها، او تلك التي انعكس فيها. وأنتهي الى تقويم موقت لأهمية العرفان في مجتمعها المباشر. وقد يبدو كما لو ان التحليل ينتقل من الحيّز الداخلي الى الخارجي ولكن هذا هو مجرد وسيلة شكلية لتسهيل الامر او وسيلة في الاسلوب لا مقولة فلسفية رصينة بشأن العلاقة بين الافكار والمجتمع في التاريخ. وسيجري التأكيد، في كل نقطة من نقاط هذا التحليل، على الطبيعة الفذة لهذه العلاقة، وعلى تلك الموضوعات والاحداث التي أضافت اليها العرفان شيئاً من ميزاتها الخاصة او ألقت عليها شيئاً من ضيائها الخاص بعينه.
ولو وقفنا على تخوم الدائرة الداخلية، أي تخوم العرفان، لبدت المجلة مفتقرة الى أي خط مذهبي واضح او الى أي التزام حزبي كان. ولعل هذا الافتقار لمذهبية التحرير هو ابرز مزايا المجلة لأن المحرر لا يمارس في حقيقة الامر رقابة ايديولوجية على المساهمين في التحرير. والرقابة الوحيدة التي مارسها كانت ذات طبيعة لغوية، رقابة تطبق بأناقة وذلك بايلاج علامة تعجب بين حين وحين توضع بين قوسين جنب سقطة ما. ولا يعني هذا ان المحرر يفتقر الى المبادئ. بل انه كان يعتنق مبادئ قوية وكان هو نفسه ينتصر سياسياً [لبعض الاراء] بين حين وحين. بيد ان مبادئه تتسم بانفتاحها وبثباتها. وأعني بالانفتاح القيمة المثلى التي يوليها المحرر لحرية الكتابة، التي ولدتها بلا ريب الفورة النشطة للأزمة العثمانية لعام 1908. وأعني بالثبات أن تمسّك المحرر بالحرية وبقلة أخرى من المبادئ الاخلاقية الحيوية كالتعليم والوطنية لم يطرأ عليه أي تغيير تقريباً، من بداية المرحلة قيد الدرس (1909) الى نهايتها (1939)، وحتى أبعد من ذلك(2). إن هذا التمسك الجامد بالحرية قد مكّن المجلة أن تعمل كمنبر لآراء من مختلف الالوان. وما تفتقر اليه المجلة من إثارة فكرية إنما تعوضه بتحسسها للقضايا الخاصة بالمراحل التاريخية المتلاحقة.
-2-
انتقل بعد ذلك الى تخوم الدائرة الخارجية، دائرة جبل عامل، حيث أزمع أن أتناول بالبحث موضوعات وحقائق معينة كما أتنازل صورها كما ظهرت في المجلة. وهذه الموضوعات لا تبرز فقط لمحض أهميتها الاحصائية الكمية، بل تبرز لأن عدداً منها قد تم توضيبه من ناحية كيفية بطريقة المجلة الفذة، او غير العادية على الاقل، لذا فإن المؤرخ وهو يقترب من مجلة كالعرفان يجد انه يتناول بالبحث، من حيث النتيجة، كلاً من مؤسسة تاريخية فضلاً عن مصدر تاريخي في آن واحد. إن العرفان غالباً ما توصف بأنها مدرسة، مدرسة صاغت عقول المثقفين لجماعة معينة من الناس في مرحلة معينة من الزمن. لكن "العرفان" ايضاً مصدر أدبي رئيسي لتاريخ جبل عامل خلال فترة زمنية أطول بكثير. لذا فالمجلة هي تاريخ ومؤرخ معاً، إذ تستخرج المادة التاريخية القديمة والقيّمة ثم تصنع تلك المادة بطريقة أسهمت في التحول التاريخي.
وهذه الوظيفة المزدوجة من الاستخراج والتصنيع تقود المرء اول ما تقوده الى فحص الصورة الذاتية التاريخية الموجودة في العرفان، أي الى فحص وضع التأريخ historiography (كما وُضع) في المجلة. والمقالات الافتتاحية تكشف عن رجل يتمتع بحس عميق ودائم بصلة التاريخ الوثيقة. على أن الهم من ذلك إنما يتمثل بأن المجلة شجعت بصورة فاعلة ظهور وضع تاريخ شيعي خلق، بكليته، صورة ذاتية تاريخية فريدة لجماعة من الناس.
-3-
ما هي السمات الرئيسية لهذه الصورة الذاتية، ولماذا خلقت وكيف؟
إنها، باختصار، صورة جماعة اسلامية شيعية التي هي عربية منذ الازل والتي يقال ان مذهبها الشيعي مستمد من كون افرادها هم أتباع الصحابي الشهير أبو ذر الغفاري. وجوهر هذه الرسالة (الشيعية) انها عربية منذ البدء ومسلمة منذ البدء(3). إنها كذلك صورة ذاتية اسلامية شيعية، وهي صورة تعكس حساً أكيداً بالتضامن الديني - الجغرافي. أنا لا أتكلم هنا عن شعور اقلية إزاء اكثرية، لأن الاقليات والاكثريات في تاريخ الشرق الاوسط ككل موجودة غالباً في عين الناظر. ولعل الكتّاب الشيعة في جبل عامل كانوا قد شعروا بأنهم اقلية في "لبنان الكبير" Greater Lebanon. لكنهم عوّضوا عن ذلك بالادعاء بأن الشيعة داخل لبنان هم أكبر طائفة منفردة(4). ولعلهم في الوطن العربي ككل كانوا قد شعروا بأنهم اقلية إزاء السنة. لكنهم عوضوا بالانتساب الى عالم الاسلام الاكبر حيث لا يعودون اقلية من الاقليات، كما عوضوا بالاحساس بأنهم قد حافظوا على عقيدة اسلامية صافية وأصيلة. والمجلة منذ أوائل أيامها قد فتحت صدرها، كتموجات في بركة، لإيران وجاوة والصين واليابان، وهي في زمنها قد قدمت ما يحتمل أن يكون أوسع تغطية اخبارية صحفية عن ايران والشرق الاقصى مما هو موجود في أي مجلة عربية.
بيد ان هذه التغطية للمشرق لم تكن ثابتة، بل متغيرة. ففي الفترة بين 1909 ونحو 1924 فحصت العرفان المشرق بدقة. غير ان التغطية من أواخر العشرينات حتى 1939 تنكمش متقلصة من الشرق الاقصى الى الشرق الاوسط، وهو انكماش يتزامن، كما سأناقش ذلك فيما بعد، او ينشأ عن هجمة استعمارية فرنسية قوية وتبعث على التفرقة وذلك في جبل عامل خاصة وفي الشرق الاوسط العربي عامة. وهذا الانكماش في التغطية الجغرافية عنى تعزيزاً للجسور العربية والاسلامية. وهذا لا يعني ان الصلات العربية الاسلامية للعرفان كانت خافية في البداية. فالدفعة الاولى بالذات من القوميين الذين القي القبض عليهم في 1915 كانت تتألف في أكثرها من مجموعة من العامليين ولدينا سرد قيّم من شاهد عيان شيعي عن الحياة اليومية في الديوان العرفي في عاليه كان كاتبه قد استطاع أن يهرّب قلماً ومفكرة الى السجن(5). ولكنه يعني انه يظهر في الصحيفة، منذ أوائل العشرينات على الاقل، تركيز كثير على الشؤون السياسية لسوريا وفلسطين والعراق ومصر على حساب جميع المناطق الاخرى. وكانت المجلة، ضمن هذه المنطقة العربية، مناصرة للهاشميين في سياستها العربية العامة ومناصرة للحاج أمين الحسيني في فلسطين. كانت العاطفة الشيعية التاريخية في المقدمة في كلا هاتين القضيتين، لكن هذه العاطفة عززت حسن التضامن السياسي - الجغرافي والاقتصادي القائم اصلاً مع شمال فلسطين، وخاصة مع المدينتين التوأم حيفا وصفد. وما ان تعاظم نطاق تغطية المجلة لاخبار سوريا وفلسطين في أواخر العشرينات وفي الثلاثينات حتى اتضحت المقولة الخاصة بمسألة الشرق وهو بإزاء الغرب في ذهن المحرر وكذلك في ذهن عدد من كتاب المقالات في مجلته. واصبحت مقولة الشرق/ الغرب، والتي ابتدأت كأزمة اخلاقية عميقة عجّل بحدوثها الغرب في الشرق، اصبحت في مرحلة لاحقة عبارة عن ظاهرة تاريخية تؤثر بالحضارات أكثر مما تؤثر في البلدان وجرى تقبلها كجزء من نمط تاريخي اكبر للمد والجزر في الحضارة ذاتها(6).
على ان العرفان إنما اسهمت اسهاماً مهماً ومثيراً للتطلع وذلك في تغطيتها لشؤون الاسلام والمذهب الشيعي في الوطن العربي. لقد ألحت آنفاً ان المجلة فتحت صدرها بدءاً بالامتداد الى الشرق وأنها انكمشت انتهاء الى شؤون العرب والاسلام. بيد ان الاسلام بكل اشكاله قد ظل بالنسبة للعرفان مجالاً دولياً حيوياً من مجالات الاهتمام زج المجلة بمجادلات مع اليسوعيين وكذلك مع السنّة وأفضى الى طرحها ما قد يطلق عليه المرء نظرية في الوحدة الطائفية الاسلامية. فالمجلة في العشرينات قامت، وقد خاب فألها بالعلمانية الساذجة المنتشرة في ايران وافغانستان وتركيا، قامت بتركيز اهتمامها على وحدة طائفية عربية واسلامية باعتبارها الهدف الديني العاجل. ويمكن القول، في واقع الامر، ان العرفان قد أخذت المبادأة لتنظيم الحوار الديني ضمن العالم الاسلامي وأثنت في الوقت عينه على الملك حسين عاهل الحجاز عن مقولته الشهيرة وهي: "نحن عرب قبل أن نكون مسلمين"(7).
ولو ابتغى المرء تفسيراً فكرياً لهذا الموقف المناهض للطائفية لأمكنه القول ان المذهب الشيعي بالنسبة للعرفان قد أمسى، ولاسيما بعد الانتداب الفرنسي، موقفاً ذهنياً أكثر مما هو التزام طائفي. إنه موقف تغذيه نهضة في كتابة التاريخ شجعتها المجلة باطراد. إن المقالات عن جبل عامل، الطويلة منها والقصيرة، العتيقة والعصرية، الجيدة والرديئة والوسط، موجودة في كل مجلد، وربما في كل عدد من صحيفة كانت على العموم شهرية. هذه المقالات هي في بعض الاحيان قاموسية الى حد كبير وتتناول تفصيلات اصول المعاني لاسماء القرى(8). وهي في أحيان أخرى تتناول المسألة الأوسع الخاصة بالحضور الشيعي في التاريخ العربي والكفاح الملحمي بين علي ومعاوية وعقبهما. كما كشفت المجلة كذلك عن اوراق مهمة تسرد الوقائع اليومية مثل السجل الشعبي الممتع للراكوني (او الركيني) الذي عاش في أواخر القرن الثامن عشر في صور، وهو مصدر اجتماعي - اقتصادي فذ عن هذه المرحلة الزمنية ويذكّر بمعاصره سجل الحكايات الدمشقية للبديري الحلاق(9).
إن تدقيق المجلة المفصل في تاريخ سراة القوم وعوامهم في جبل عامل إنما يرفده في صفحاتها اهتمام شديد بتاريخ العراق وايران. ولست في وضع يمكنني من تقدير قيمة المعلومات التاريخية عن هذين البلدين، وأغلبها يتعلق بالقرن العشرين. لكن المكانة التي احتفظ بها جبل عامل تقليدياً في النجف وايران جعلت العرفان، بمعنى من المعاني، صحيفة للتاريخ الاسلامي المقارن. إن مشكلة الطائفية الاسلامية، تحت ظلال التاريخ، قد أضحت مشكلة جهل لا مشكلة اضداد لا يمكن التوفيق بينهم(10).
إن المجلة، وقد قدم بها العهد، قد اكتسبت قوة دفع تبشيرية كان من أبرز سماتها اتخاذ موقف وسياسة من التفاهم الفاعل القائم على الحلول الوسط. أما المماحكات الجدلية ضد شخصيات سنية مثل رشيد رضا ومحمد كرد علي واسعاف النشاشيبي فقد نظر اليها كرد لاهانات يولدها الجهل. وقد دعت تلك المجادلات الى الوحدة الاسلامية باعتبارها مثلاً أعلى دينياً وسياسياً كذلك، باسم فهم تاريخي أعمق للنصوص الاسلامية(11). وهو موقف غير بعيد كثيراً عن موقف مؤرخين أوائل للاسلام كان الكثير منهم مشايعين لعلي في عاطفتهم، تلك العاطفة التي استخدمت التاريخ كحقل أولي للجدل. ويمكن، في الواقع، تعريف المذهب الشيعي بأنه لجوء الى التاريخ، والعرفان تحوي الكثير من ذلك.
إني امر سراعاً على صور وموضوعات أخرى تظهر في المجلة، فأختار التأكيد على تلك الجوانب فقط التي تبدو لي نموذجية بالنسبة للعرفان. وأنا أحصرها في فقرة واحدة على أنها مسألة المرأة، ومسألة الاشتراكية، ومسألة العلم ومسألة المهاجرين الى افريقيا والاميركيتين بالدرجة الاولى.
المسألة الاولى تتركز على قضية الحجاب والسفور. وباختصار، بدأت المجلة بتبني موقف مؤيد للحجاب بصورة واضحة، وانتهت الى قبولها بالسفور على مضض وبالتسامح مع رأي سائد مفاده ان القضية الحقيقية هي تعليم المرأة لا مظهرها الخارجي. أما في مسألة الاشتراكية فقد فسحت المجلة المجال لآراء من مختلف الالوان لكنها نظرت الى المسألة اساساً بصدد ديني لا صدد اقتصادي - اجتماعي. والمقصود بهذا ان العدد القليل نسبياً من الكتاب عن الاشتراكية نزعوا الى أن يروا في الاشتراكية نظاماً من القيم الاخلاقية الموجودة في الاسلام اصلاً. وأما اهتمام العرفان بالعلم فهو ناشئ عن اهتمام المحرر الدائم بالتعليم وبتحسين احوال الريف. والكثير من المادة العلمية يحتوي على ارشاد زراعي او طبي موجه الى القرويين صراحة، مع وجود باب دائم آخر في المجلة بعنوان "التقدم العلمي" يشتمل بالدرجة الاولى على المخترعات الحديثة. ويتصاعد اعجاب المحلة بالتقنية الغربية نسبة عكسية مع ارتيابها بالاخلاق الغربية. وكان الافتتان باليابان بالنسبة لعدد من الكتاب رمزاً للكيفية التي يستطيع بها المرء أن يستخلص التقنية من الغرب دون أن يثقل كاهله بنظامه الخلقي(12).
وقبل الانتقال الى الجزء التالي من هذه الدراسة، والذي يتناول بالبحث المجتمع الذي انبثقت عنه المجلة، لا بد من توجيه النظر الى الحركة القوية الادبية والدينية التي ازدهرت في جبل عامل من أواسط والى أواخر الثلاثينات وتبلورت حول ما كان يعرف بـ"عصبية الأدب العاملي" وهي عصبة أدبية لم تتلق بعد ما تستحقه من تقدير في تاريخ الادب العربي الحديث وفي تاريخ النهضة على العموم. وقد تأسست هذه العصبة أولاً في النجف، في أواخر العشرينات او أوائل الثلاثينات من قبل جماعة يمكن تسميتها بـ"شيوخ العلم من الشباب الغاضب"، وذلك كتمرد ضد فئة (مؤسسة) العلماء(13).
سأؤجل الآن بحث تلك المؤسسة وأحاول عرض الآراء الدينية والسياسية لهذه العصبة.
كان الشيخ علي الزين هو الروح المحركة وراء العصبة، وهو من جبشيت، عالم شاب درس في النجف، ومن الموهوبين المعروفين. وقد نشر في أيار 1937 بيان العصبة في العرفان حدد فيه المبادىء الاساسية لجماعته. ويبدو ان الشيخ وهو يسم مناخ زمانه بأنه "اقطاعي" و"رجعي" و"غير ديموقراطي" (وهذا استعمال مبكر للكلمة العربية "رجعي" واحياء لكلمة "ديموقراطي") يبدو وكأنه يعلن الحرب على عدة جبهات في الوقت عينه(14). وقد طرحت نظرية في الشعر والنقد الادبي لأن الادب، بنظر عصبته، قد غدا الاداة الاساسية للكفاح السياسي ضد "العلماء"، واصحاب الاراضي الحاكمين والانتداب(15). ويحدد الشعر الذي توافق عليه العصبة بأنه بسيط في اسلوبه وصادق مع واقع الحياة اليومية. لذا فقد شن عبد اللطيف شرارة، عضو العصبة، هجوما لاذعا على ادباء جبل عامل، وسفههم لوصفهم اوروبا كما ترى "من مقاهي النبطية" وقال ان "قوة العاطفة" هي جوهرية للكمال الادبي(16). وجرت محاسبة الشعراء لانهم لا يولون عناية كافية لوحدة القصيدة، ولأنهم ينظمون قصائدهم بيتاً بيتاً على وجه الاستقلال. كما جرى انتقاد الشعراء ايضا لتناولهم مواضيع نظرية يحسن بحثها بمقالات، او لتناولهم مواضيع بالية محاكاة لاسلوب ابي تمام او السيد الحميري(17).
وقد صب الشعر الذي أطلقه الشيخ علي وعصبته في قالب فلسفي معين يمكن وصفه بأنه متحرر ومشكك. وقد اخفى هذا كفاحا سياسيا اعمق ضد التسلط الاجنبي والطائفية والتعمية الدينية، وهذه الاخيرة تستحق الملاحظة على الخصوص وذلك لأغراضنا في هذا البحث. وقد جرى الهجوم على "العلماء" وهو جزء من هجمة عامة على جميع رجال الدين، باسم المبادىء العليا لذلك الدين ذاته(18). وقد خلع الكثير من الشيوخ اعضاء العصبة أرديتهم التقليدية [كالجبة والعمامة] الواحد تلو الآخر مدعين بقاءهم من المسلمين الاتقياء، فأحدثوا ضجة في اوساط "العلماء". وجرى تسخيف مبدأ الاجتهاد ذاته الذي هو فخر الشرع الشيعي وفقهه لأنه امسى شعارا فارغا، ومشوشا وباليا. إن الاسلام الاصيل يجب ان يكون مفتوحا باستمرار للمعرفة وللطوائف الاسلامية الاخرى(19).
وقد قيل ان العصبة تلقت بعض تصوراتها عن النقد الادبي من النوادي الادبية العربية في [المهجر] في اميركا الشمالية والجنوبية. على ان البيئة الخانقة للنجف يجب ان تعتبر سبباً بالاهمية نفسها(20). فضلا عن ذلك فإن احوال جبل عامل قد اوحت بأسلوب واداء شعريين قائمين بذاتهما. واضفى ادخال الفاظ عامية معينة متداولة في جبل عامل في الشعر الكثير من البساطة والجمال والقدرة على الترداد. وقد أثار التهجم المضحك من قبل احد الشعراء على الكهنوتية غضب احد العلماء مما حدا به الى اصدار فتوى تحلل قتله عن الكفر(21). إن العصبة قد نقلت الراديكالية الى طبقة العلماء.
-4-
انتقل الآن الى القسم الاخير من هذه الدراسة التي تروم أساساً الى الاجابة عن السؤال او الاسئلة المطروحة سابقاً: كيف ولماذا ظهرت هذه الصورة بعينها في العرفان؟ وعلى وجه التحديد ايّ نمط من المجتمع اخرجت العرفان؟ ولا توجد بالطبع طريقة يمكن المرء بواسطتها ان يمسح الاقليم بأسره. إن البحوث الثانوية الشاملة لهذا العصر التاريخي (1909 – 1939) نادرة وذات نوعية مجهولة. والمشكلة الاخيرة هي أعقد الجميع، إلا وهي انسجام العلاقة، او تصادفيتها، او حتى عرضيتها بين هذا العالم القلق من الافكار المبينة آنفاً وبين المجتمع القلق لجبل عامل. لذا فاني اطرح انطباعاتي عن هذا التاريخ بكثير من التردد(22). على انه يمكن تقديم بضع ملاحظات تاريخية عامة، ويعود الفضل في ذلك الى مجلة العرفان من جهة والى المقابلات مع شهود العيان من جهة اخرى.
إن مجلة العرفان نفسها تقول للقارىء ان هناك مفتاحين مهمين للفهم التاريخي للبنية الاقتصادية – الاجتماعية لجبل عامل. المفتاح الاول هو التقسيم الرباعي للطبقات الى "زعماء" و"علماء" و"وجهاء" و"عامة" من الفلاحين (سأبحث الاخيرين معا). والمفتاح الثاني هو نظام ضريبة الارض والتغييرات التي طرأت على الاقتصاد الريفي بمختلف القوانين الخاصة بضريبة الارض و[باجراءات] تسوية الاراضي(23). والمرء قد يغريه احياناً ان يعتبر المفتاح الثاني هو العامل الحاسم لولا ان "العلماء" و"الوجهاء" هم ايضا من الطبقات القلقة ومناوئون للتغيير.
ومهما كان الحل لهذا اللغز الخاص بمفاتيح الفهم فسأحاول اولا تعريف هذه الطبقات. فالزعيم لهذه المرحلة (وربما ينبغي الرجوع الى ثمانينات القرن التاسع عشر) كان ينظر اليه باعتباره الملاّك الزراعي الذي يحتفظ بوعي منه ببعض صفات شيخ العشيرة. واولى هذه الصفات التي حددها جميع الذين حادثتهم هي وجود بيت يوفر المأكل والمسكن مجانا لكل من هب ودب، حتى ولو لم يكن الزعيم موجودا فيه لاستقبال ضيوفه. والزعيم يرجع نسبه بفخر الى عشيرة عربية صحراوية. وكان له حتى اواسط او اواخر القرن التاسع عشر سلطة الحياة والموت على سكان اقطاعه. وهو في العادة ملتزم الضريبة الوحيد في مناطق شاسعة، تعاونه شبكة من الوكلاء الاقطاعيين منتشرة في ارجاء الجبل. والزعيم يظهر وشيجة خاصة مع العامة من اتباعه. وفي مستهل القرن الحالي كانت العائلتان او العشيرتان اللتان تتوفر فيهما صفات الزعامة هما آل الاسعد وآل الفضل(24).
اما طبقة "العلماء" في هذه الفترة نفسها فهي اكثر تعقيدا لأنها احسن توثيقا بكثير. واسر العلماء تنتمي الى جميع الفئات في المجتمع فيما يختص بالمكانة الاجتماعية وروابط الزواج. ومما يعزز من هذه المكانة، وهي في اوجها، ان العلماء كانوا يمارسون قدرا كبيرا من السلطة القضائية الذاتية ضمن الامبراطورية العثمانية. وقد حكموا في عدد كبير جدا من القضايا المدنية لأن اغلبية المدعين الشيعة يفضلون الفصل في قضاياهم وفق المذهب الجعفري دون المذهب الحنفي التابع للدولة. ويقف في قمة الترتيب الهرمي للمراتب العلمية المجتهدون، ويندر ان يكون عددهم اكثر من اثنين او ثلاثة. يليهم العلماء والشيوخ من مختلف درجات العلم والمكانة الاجتماعية. والمنظومة مفتوحة لأن بامكان اي واحد من اي طبقة اجتماعية الانضمام الى طبقة العلماء والصعود الى القمة اذا كان ينعم بالاقتدار الفقهي. وينزع العلماء الى خلق سلالات (مثل أسر الامين، شرف الدين، شمس الدين وهكذا) لكن الدخلاء يجري التغاضي عنهم دائماً وكانت كليات النجف اعرض معاهد الشيعة العلمية صيتاً ولذا كان ينظر الى العالم النجفي، على الاقل حتى 1935 باحترام خاص. ولم يكن من غير المألوف بالنسبة للفلاحين الأميين ان يبيعوا اراضيهم وماشيتهم لكي يرسلوا ابناءهم الى النجف(25).
وكان علماء هذه الفترة المعنيين مباشرة بالقانون، يعتمدون لغرض تنفيذ احكامهم على السلطة التنفيذية لزعيم منطقتهم. لذا تنبثق مخالفات سياسية مفككة بين عالم او اكثر وبين زعيم معين، ولكن، وبقدر ما استطعت تبنيه، لم يستقطب في هذه الفترة اي عالم مجموعة من علماء آخرين لغرض عمل سياسي منظم على الاطلاق. ومن بين مئات المقالات المكتوبة في العرفان بقلم علماء من مواضيع شتى لا يوجد سوى مثل واحد لعالم طرح النظرية السياسية الشيعية عن "ولاية الفقيه" التي تقول بأن "العلماء" هم افضل من يقود المسلمين في غياب المهدي(26). اما بصدد النشاط السياسي فثمة تناقض ملموس بين علماء الشيعة العامليين والايرانيين. ففي اواخر العشرينات وفي الثلاثينات اتخذ علماء الجبل مواقف على طرفي الخط السياسي، لكن هذا الخط كان قد رسمه سلفاً آخرون. كان العلماء عبارة عن جماعة مفككة اكثر مما هم طبقة اقتصادية – اجتماعية محددة بوضوح.
كان العلماء يسيطرون كذلك على التعليم والوعظ بالاضافة الى الشرع. وهذه السيطرة موثقة كل التوثيق اعتباراً من القرن الرابع عشر. وقد افلح علماء جبل عامل في القرن السادس عشر، ثم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، في تأسيس مركز مهم للفقه الشيعي (ومركز حيوي بقدر تعلق الامر بايران). ولم استخرج عينات من جملة الفكر الشيعي بالتوسع الذي كان يجدر بي، لكن انطباعي العام، من وجهة النظر المستندة الى مناهج التدريس، هو ان الاهتمام كان منصبا على العلوم الدنيوية بدرجة اكبر مما هو في مناهج التدريس السنية لتلك الفترة نفسها. ان اغلب المدارس اسسها العلماء في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لم تدم بعد وفاة مؤسسها الاصلي. لكنهم عوضوا عن الافتقار في الاستمرارية الزمانية والمكانية بتوزيع جغرافي في ارجاء الجبل. وعلى اي حال كان العالم في كل الاوقات اهم من مكان التعليم(27).
اما بشأن مصدر دخل العلماء فان قلة منهم فقط كانت تملك الاراضي في حين يعيش اغلبهم على الصدقات والمعونة الخيرية. وعلماء القرى الصغيرة يعيشون كليا على كرم القرويين الذين يزودونهم بالسكن والحاجيات الضرورية الاساسية ويقدمون لهم العطايا في مختلف المناسبات الاجتماعية والدينية. وكان الخمس، وهو ضريبة دينية قديمة، مساهمة طوعية كليا في هذه الفترة، ويدفع من ابناء الجماعة الاتقياء والاثرياء الى كبار العلماء من السادة من سلالة اهل البيت. ولم يكن الخميسي يدفع بانتظام كما كان مقداره خاضعا للمساومة. وفي اوقات الاستقطاب السياسي الشديد يجتذب زعيم جماعة من العلماء الى جانبه وذلك بدفعه رواتب سنوية منتظمة لهم. وكان جل علماء النجف والذين كانوا في مركز سيطرة حتى مستهل القرن الحالي، يميلون الى الوقوف سياسياً بجانب المجتهد الاكبر في النجف لأن اغلبهم كان يعيش ابان التلمذة على مكرمته(28). وعلى العموم فان طبقة العلماء كانت اقل الطبقات تأثيرا بالتغير الاقتصادي. لقد كان العلماء، ومن جميع النواحي العملية، يعيشون على الصدقة.
والمجموعة الثالثة هي مجموعة "الوجهاء" التي ظهرت اول ما ظهرت على الصعيد السياسي في جبل عامل في اواخر القرن التاسع عشر حينما انطلقت ثلاث او اربع اسر في صيدا وصور والنبطية وبنت جبيل فرفعت نفسها الى طبقة الزعماء وذلك باكتسابها لملكية الارض او لصيرورة افرادها من الملتزمين. ان صعود هذه المجموعة الصغيرة من تجار المدن الى طبقة الزعماء وثيق الصلة بتاريخ ضرائب الارض وتسوية الاراضي العثمانية، كما طبقت في جبل عامل. ثمة معلومات عن هذا الموضوع وعن هذه الفترة في العرفان وان كانت المعلومات الاكثر تفصيلاً لا يزال بالوسع الحصول عليها من مصادر شفوية(29). وهكذا فان ظهور مجموعة الزعماء المحدثين هذه كانت امارة من امارات التغييرات الاقتصادية المهمة والباقية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(•) أقدم شكري بادئ ذي بدء لزميلي الدكتور مروان بحيري الذي كان أول من اقترح عليّ هذا الموضوع. اسجل كذلك خالص امتناني الى الذين زودوني بالمعلومات وهم صاحبا المعالي كاظم الخليل وعادل عسيران والسادة محمد قرة علي وموسى الزين شرارة. وآمل أن تكون الصورة التي رسمتها لجبل عامل قريبة من تلك التي في أذهانهم مع العلم أن جميع من ذكرت في حل من المسؤولية تجاه الآراء الواردة في هذا البحث. والدراسة مهداة لسماحة الإمام السيد موسى الصدر الذي أدين اليه باهتمامي بجبل عامل.
(2) أنظر: افتتاحيات "العرفان"، الاعداد 1، ص1-2 و8؛ 10، ص215؛ 14، ص1 وما بعدها؛ 17، ص281، و25، ص1 وما بعدها.
(3) أنظر خاصة مقالات الشيخ سليمان الزاهر ومحمد جابر آل صفا المتعددة في: "العرفان"، العدين 8، و27، ص460 وما بعدها على التوالي. أنظر ايضاً الجدال حول المثالية الشيعية في: "العرفان" العدد 24، ص813-841.
(4) أنظر خاصة: "العرفان"، العدد 17، ص504 والاحصاءات السكانية المهمة في: "العرفان"، العددين 26، ص595 و649، و27، ص3.
(5) ورد هذا في عرض محمد جابر المهم لكتاب أمين سعيد: الثورة العربية الكبرى في: "العرفان"، العدد 25، ص743 وما بعدها. وحول نشاط عبد الكريم الخليل في صيدا عام 1915 كما ذكرها المحرر، أنظر: "العرفان"، العدد 28، ص468.
(6) أنظر على سبيل المثال: العرفان، الاعداد 1، ص29؛ 15، ص606؛ 21، ص394؛ 25، ص769، و27، ص266-267. وقد ظهرت التحذيرات الاولى من الخطر الصهيوني في فلسطين عام 1910 في مقال عُرّب عن مجلة فرنسية في: العرفان، العدد 2، ص554.
(7) يقال ان كلمة "طائفية" بما تعنيه اليوم كانت "جديدة" عام 1931، أنظر: العرفان، العدد 2، ص17. وحول تعليق الملك حسين، أنظر: العرفان، العدد 2، ص631. وقد اعتبر الجدل مع اليسوعيين دفاعاً ثقافياً عن الاسلام ضد الهجمة اليسوعية التي ابتغت اعطاء التاريخ العربي الاسلامي، في بواكيره، صبغة شقاقية، أنظر: العرفان، العدد 28، ص78.
(8) مثلاً، سلسلة مقالات للشيخ سليمان الزاهر عن اسماء القرى في جبل عامل التي ظهرت، على نحو متقطع، اعتباراً من عام 1909 فصاعداً.
(9) يبدأ سجل الركيني في: العرفان، العدد 27، ص3.
(10) أنظر مثلاً؛ العرفان، الاعداد 7، ص317؛ 27، ص354، و28، ص52، 579 و769.
(11) أنظر: العرفان، الاعداد، ص350، 11، ص292؛ 12، ص4؛ 15، ص813، 17، ص401؛ 23، ص144-148؛ 26، ص619، و28، ص579.
(12) حول المرأة، أنظر: "العرفان"، الاعداد 1، ص82؛ 6، ص505؛ 11، ص262؛ 13، ص603؛ 14، ص4؛ 15، ص841، و19، ص322. حول الاشتراكية والبلشفية، ما لهما وما عليهما، أنظر: "العرفان"، الاعداد 6، ص95؛ 11، ص458؛ 15، ص622؛ 25، ص594، و28 ص12 وما بعدها. حول العلم والتكنولوجيا، أنظر: "العرفان"، العددين 1، ص46-57 و520، و17، ص307. حول اليابان، أنظر: "العرفان"، الاعداد، 1، ص291؛ 7، ص113، و17، ص121.
(13) حول منشأ العصبة، أنظر: العرفان، العدد 27، ص243. وقد أفادني السيد موسى الزين شرارة في مقابلة شخصية بتاريخ 23/5/1979 بمنشئها النجفي. حول الفجوة بين الاجيال، أنظر: العرفان، العدد 27، ص124.
(14) حول البيان، أنظر: العرفان، العدد 27، ص243.
(15) أنظر مثلاً: العرفان، العدد 27، ص20 و25 وقد ا كد السيد موسى الزين شرارة هذا الامر في المقابلة معه بتاريخ 23/5/79.
(16) حول هجوم شرارة، أنظر: العرفان، العدد 27، ص328.
(17) حول هذه المواضيع وما اليها، أنظر: العرفان، العدد 27، ص328 و397.
(18) أنظر مثلاً: العرفان، العدد 26، ص435-438. وقد اكد السيد موسى الزين شرارة هذا الامر.
(19) من المشايخ الذين تخلوا عن الزين الديني، الحوماني، حسين مروة، محمد شرارة، هاشم الأمين= صدر الدين شرف الدين وجعفر همدر (المقابلة مع السيد محمد قرة علي بتاريخ 24/5/1979 والسيد موسى الزين شرارة). الهجوم على الاجتهاد في: العرفان، العدد 28، ص72 وما بعدها. وعقيدة الاسلام "المفتوح" في: العرفان، العدد 28، ص165 وما بعدها.
(20) التأثير الادبي العربي - الاميركي، اشار اليّ به الدكتور وضاح شرارة (24/5/1979). وقد اكتسب المهاجرون أهمية اقتصادية وأدبية متزايدة في الثلاثينات، أنظر: العرفان، الاعداد 25، ص637؛ 28، ص1 وما بعدها، و29، ص599.
(21) ثمة الكثير من الشعر المناهض لرجال الدين في الاعداد 26؛ 27، و28 من العرفان. وقد قرأ لي السيد موسى الزين شرارة عدداً كبيراً من أبيات ذلك الشعر كما اطلعني على قصة العالم الغاضب.
(22) اخبرني الدكتور وضاح شرارة ان هناك 4 او 5 رسائل جامعية حول التاريخ الحديث لجبل عامل قدمت الى الجامعة اللبنانية في السنوات الاخيرة. ويشير الدكتور شرارة في: "النهار"، 25/5/1979، ص7، الى مقال لأحمد بيضون عن أحداث بنت جبيل عام 1936 نشر في "دراسات عربية" عام 1968.
(23) حول هذا التقسيم الاجتماعي، انظر: العرفان، العددين 25، ص637، و27، ص243. حول النظام الضريبي في جبل عامل في أواخر القرن التاسع عشر، أنظر: العرفان، العدد 27، ص385. هذا التقسيم الرباعي أكده كل من صاحبي المعالي عادل عسيران في مقابلة بتاريخ 22/5/1979 وكاظم الخليل في مقابلتين بتاريخ 24/5 و26/5/1979 والسادة محمد قرة علي وموسى الزين شرارة.
(24) المعلومات تفضل بها السادة محمد قره علي وموسى الزين شرارة.
(25) المعلومات حول العلماء تفضل بها صاحبا المعالي كاظم الخليل وعادل عسيران والسيد محمد قرة علي. حول كليات النجف الاشرف، أنظر: M.F. Jamali, "The Theological Colleges of Najaf", in: R. al-Droubie. ed, Arabic and Islamic Garland: The Tibawi Fesischrifi (London: The Islamic Cultural Centre, 1397/ 1397/1977), pp. 135-140.
(26) أنظر: العرفان، العدد 21، ص552.
(27) ثمة سلسلة مهمة من المقالات حول علماء ومدارس جبل عامل بقلم محمد جابر في: العرفان، الاعداد 27، ص460 وما بعدها؛ 27، ص630 وما بعدها، و28، ص22 وما بعدها و226 وما بعدها.
(28) المعلومات حول احوال العلماء المعيشية تفضل بها صاحب المعالي كاظم الخليل والسيد محمد قرة علي.
(29) حول النظام الضريبي في الفترة العثمانية الاخيرة وآثاره الاجتماعية، أنظر: العرفان، العدد 27، ص385-390. والكثير من المعلومات المفصلة حول نظام الضريبة والوجهاء تفضل بها صاحب المعالي كاظم الخليل.
حلقة أخيرة غداً
طريف الخالدي
( استاذ التاريخ في الجامعة الاميركية في بيروت )
الأحد 08 شباط 2009 - السنة 76 - العدد 23606
الاثنين 09 شباط 2009 - السنة 76 - العدد 23607
(2009-1909) مجلة "العرفان" ومؤسّسها في الدائرتين الصغرى والكبرى [2]
الحلقة الثانية الاخيرة من دراسة الدكتور طريف الخالدي حول مجلة "العرفان":
وقد بقيت طبقة الوجهاء ككل تحتل الصدارة السياسية وتمتاز عن بقية السكان باعتبار افرادها من الوجهاء وذلك عقب قانون الاراضي العثماني لسنة 1858. ولم يوضع هذا القانون موضع التنفيذ مباشرة بل جرى سريانه تدريجيا في مختلف مناطق الامبراطورية بمختلف الاوقات. وبدأ تأثيره بالظهور في جبل عامل في سبعينات وثمانينات القرن الماضي. ان تسوية الاراضي، على بدائيتها وعدم دقتها، قد نظمت ضرائب الارض وجعلت من جبل عامل، الى جانب ذلك، وحدة اقتصادية اكثر رشادا فغدت الزراعة اجزى دخلاً من ذي قبل. واخيرا، خلق قانون الضريبة وتسوية الاراضي جيشا صغيرا من الموظفين الماليين والقضائيين كان اغلبهم على درجة كبيرة من ضعف المرتب بحيث انهم سرعان ما توصلوا الى تفاهم مع وجهاء المدن فأخذ النظام الضريبي يعمل لمنفعة الطرفين معا. وامسى الوجهاء انفسهم من موظفي الدولة في كثير من الحالات. وفي هذه الطبقة من الوجهاء وجدت في صور تسعينات القرن الماضي جمعية واحدة على الاقل في الجمعيات الادبية والسياسية الجنينية التي هويت الاشتغال بأمور من المعروف جيداً انها محرمة من قبل الدولة العثمانية(30).
ان مناقشتي تقتصر حتى الآن على القول ان الوجهاء هم في الاصل مجموعة من تجار الحبوب في جبل عامل في الفترة من اواسط الى اواخر القرن التاسع عشر، استغل عدد صغير منها القوانين العثمانية الجديدة لشق طريقهم الى طبقة الزعماء المجزية والاعرض صيتاً، وذلك عن طريق صيرورتهم ملاكين للارض وملتزمين للضرائب وموظفين في الدولة. وابرز ثلاث عوائل امكنها تحقيق شق طريقها هي آل عسيران وآل الخليل وآل الزين. فبمستهل القرن دخل كل هؤلاء الثلاثة، بطريقة او بأخرى، في طبقة الزعماء. وفي هذه الاثناء لم يبق من طبقة الزعماء العشائرية القديمة سوى عشيرة الاسعد. وبذا اقتسمت هذه الاسر الاربع فيما بينها عمليا التزام الضرائب والكثير من السلطة السياسية في جبل عامل. اما القوى المحركة لعلاقاتها المتشابكة فهي موضوع معقد. والمنازعات بينها غالبا ما كانت منازعات بشأن الحاجة التي تمليها الحدود الاقليمية: حدود التزامهم للضرائب وقد زودهم استخدامهم الموفق لنظام الضريبة كما زودهم سلطانهم على موظفي الدولة الماليين بثقة بالنفس وبشعور بالاستقلال تمخض عنهما اعتناق نوع أو آخر من انواع القومية. واختار الزعماء على العموم من بين القوميتين المتوفرتين وهما الاسلامية والعربية/ السورية، فاختاروا الثانية. وان احد الاسباب التي مكنت الشيخ احمد عارف الزين من اصدار العرفان لذلك الامد الطويل هو تمتعه بالدعم السياسي الثابت لأسرة الزين، والتي لم تفرض عليه، مع ذلك مذهبا صارما بعينه.
وحين اندلعت الحرب العالمية الاولى كان قد مر على قوانين الارض العثمانية الجديدة في جبل عامل نحو ثلاثين او اربعين سنة. ومع تقدم الحرب كان من الواضح ان جبل عامل اخذ بالرخاء. وقد عاد تولي العسكريين للادارة على الملتزمين والفلاحين بأرباح طائلة. وبنيت شبكة من مستودعات الجيش التي كانت تصرّف، في كل يوم، كميات هائلة من الحبوب.
واخذ الجيش العثماني والدولة يطلبان الآن ضرائب الارض عيناً بدلا من طلبها نقدا من الملتزمين كما في الفترة السابقة. فكان المخمنون المكلفون بهذا الواجب يصلون بسرعة الى اتفاق مع الملتزمين يتم بموجبه تخمين حاصل الارض في جبل عامل بأقل من حقيقته وتكون النتيجة زيادة نصيب الفلاحين والملتزمين والمخمنين جميعاً من حصتهم المقررة من وارد الضريبة على حساب الدولة العسكرية والادارة(31). ومن هنا فان قلاقل جبل عامل في اوائل العشرينات وفي الثلاثينات مثل كلاسيكي للانتفاضات التي تحدث لأن الامور كانت تتحسن ثم تتوقف بغتة.
كان الانتداب الفرنسي في جبل عامل مثيرا للحنق بشكل خاص لأنه انهى فجأة ازمان الحرب "السعيدة" واعاد نظام الضريبة العثماني لما قبل الحرب، وهي حالة استمرت نحو 12 سنة الى ان اجرى الفرنسيون اولاً تسوية الاراضي في اوائل الثلاثينات ثم الغوا بعدئذ جميع ضرائب الارض. وقد أحكم الانتداب الفرنسي في العشرينات قبضته الاقتصادية على لبنان الكبير واقتطع لحسابه مبالغ طائلة من الذهب من سوريا، او قيل انه فعل ذلك، لربط العملية السورية بالفرنك الفرنسي المتأرجح.
وتفاقم على صفحات العرفان جدل اقتصادي عنيف مثير للاهتمام. وتغدو مناهضة الطائفية مسألة من المسائل حينما ادرك كثيرون ان وحدة العمل الاقتصادي ضد الانتداب هي هدف جدير بالاعتبار(32). واصبحت بيروت عاصمة مزدهرة على عجل، فتبدو وكأنها بابل العصرية لمحرر العرفان المنذهل. والجبل تفرض عليه الضرائب الباهظة ويجري تجاهله باطراد من قبل الفرنسيين. وتعكس افتتاحيات العرفان في العشرينات بين حين وحين خيبة الأمل العميقة في الانتداب، فيبرز منها الرأي القائل بأن الانتداب ليس افضل من الحقبة العثمانية بل ربما كان اسوأ منها بكثير.
انطلق العنف في جبل عامل على مرحلتين رئيسيتين. المرحلة الاولى هي تمرد ادهم خنجر وصادق حمزة، والثانية هي حادث سنة 1936 في بنت جبيل. في الحالة الاولى كان التمرد عبارة عن تمرد فلاحي عفوي تصادف مع فجاءة التغييرات الضريبية. وفي الثانية كان الامر هو ان ادارة انحصار التبغ التابعة للدولة فرضت اجراءات اقتصادية قاسية انتقاما من الزعماء الراديكاليين والوجهاء الجدد الذين يقودون مزارعي التبغ المتذمرين. وبذا تكون طبقة الفلاحين متورطة مباشرة في الازمتين السياسيتين الكبريين لجبل عامل خلال الانتداب الفرنسي.(33)
-5-
لم تستطع العرفان تسجيل هذين الحدثين بالدرجة نفسها من الحرية التي سجلت بها الحقبة العثمانية الطويلة. فالمجلة، شأنها شأن طبقة العلماء التي ينتسب اليها المحرّر، حملت عن الامور نظرة اخلاقية متشددة، وكانت بمعزل عن السياسة اليومية، وان لم تكن منفصلة عن الموضوعات السياسية النظرية. وكان الانفصال السياسي انعكاساً لسياسة الحذر التي تنهمك بها طبقة العلماء. فعلماء جبل عامل ينحدرون من "لا وعي جماعي" علمهم الوقوف على مسافة امينة من الامبراطوريات كما علمهم معاملتها بحذر. والشيخ احمد عارف الزين قد اوجد مجلة حصيفة سياسية في روحيتها والتي تتيح لنا ان نلاحظ كيف رأى العلماء بخاصة دنيا جبل عامل. والمدارس المؤسسة في اواخر القرن التاسع عشر علمت العامليين تفهما ادق من الناحيتين التاريخية واللغوية للنصوص الاسلامية الشيعية. وغرست هذه المدارس في طبقة الوجهاء خاصة تفهما اكثر تهذيبا للتحول السياسي والاقتصادي. وكان العلماء، حتى قبل ان يصطرع الزعماء القدامى والجدد مع العثمانيين والفرنسيين، كانوا مندفعين وحدهم ضد الهيمنة الفكرية للنجف. مع هذا، ومع ان العلماء كانوا هم اوائل حَمَلة التغيير العقائدي في هذه الفترة فانهم كانوا آخر المجموعات الاربع في انضمامها للكفاح السياسي، عقب اضطرابات 1936.
ان العرفان، مجلة "العلماء" تعطينا نظرة شاملة وهادئة عن هذه التحولات التاريخية. ان نهضة جبل عامل كما تعكسها المجلة موضوع جدير بالتقويم الشامل. وينبغي القيام بذلك عاجلاً، حين يكون لا يزال بوسع الباحث مقابلة الاحياء من ذلك الجيل الفائت.
الهوامش
(30) حول هذه الجمعيات الادبية والسياسية "الجنين"، أنظر: العرفان، العدد 24، ص704 وما بعدها. والفترة موضوع البحث هي تسعينات القرن الماضي.
(31) الكثير من المعلومات حول اقتصاد جبل عامل خلال الحرب الكبرى تفضل بها صاحب المعالي كاظم الخليل.
(32) أنظر مثلاً: العرفان، الاعداد 9، مواضع متفرقة؛ 14، ص361، و25، ص776. حول خروج الذهب من سوريا، أنظر: العرفان، العدد 16، ص1 وما بعدها.
(33) المعلومات حول هاتين الانتفاضتين تفضل بها صاحبا المعالي عادل عسيران وكاظم الخليل والسيد موسى الزين شرارة.
طريف الخالدي
(استاذ التاريخ في الجامعة الاميركية في بيروت)
.........................................................................................................................................................................................
المجلة ومؤسسها في الدائرتين الصغرى والكبرى بقلم الدكتور طريف الخالدي
-1-
لو أننا تدبرنا لحظة من الوقت أمر دائرتين متحدتي المركز تقريباً إحداهما أصغر في العيان من الاخرى؛ ولو أننا تصورنا ان خطوط كفافهما الخارجية او محيطيهما متشابهان أقرب الشبه؛ ولو أننا تدبرنا كرة أخرى في الدائرة الصغرى باعتبارها عالماً مصغراً [انساناً] في داخل الدائرة الكبرى، العالم الاكبر [الكون]؛ ولو أننا تذكرنا أن الدائرة الصغرى لا تعكس الدائرة الكبرى فحسب، بل تعمل بنشاط في تكييف مناخها الفكري كذلك، لو أننا وضعنا كل هذه الاخيلة أمام ناظرنا فسنتوصل الى صورة متعددة الابعاد للعلاقة بين جبل عامل ومجلة العرفان. ففي جبل عامل كانت أي مجلة تسمى ببساطة "العرفان"(1). كان الامر كما لو ان اسم العلم قد امسى مرادفاً لاسم الجنس، وكان الحال كذلك على الاخص في الفترة بين 1909 و1939. فالعرفان لم تكن محض مرآة صادقة لمكانها وزمانها. إنها كانت ايضاً ادارة ووسيطاً مباشرين للتحوّل الفكري. وقد كان للدائرتين المتحدتي المركز، معاً، من الأثر المشترك ما تجاوز بعيداً حدود جبل عامل الجغرافية.
لذا، فبتحليل العرفان وموقعها في الحياة الفكرية في المشرق العربي خلال هذه الفترة، سيكون الامر في النهاية سيّان سواء بدأ التحليل التاريخي من الدائرة الخارجية وانتقل الى الدائرة الداخلية او العكس بالعكس. وعلى هذا فسأبدأ بتحليل موجز لطبيعة الشبه بين العرفان ومجتمعها الأم ولدرجته. ثم أمضي لفحص بعض الموضوعات (الثيمات) الرئيسية التي كوّنتها العرفان والمجتمع الذي أفرزها، او تلك التي انعكس فيها. وأنتهي الى تقويم موقت لأهمية العرفان في مجتمعها المباشر. وقد يبدو كما لو ان التحليل ينتقل من الحيّز الداخلي الى الخارجي ولكن هذا هو مجرد وسيلة شكلية لتسهيل الامر او وسيلة في الاسلوب لا مقولة فلسفية رصينة بشأن العلاقة بين الافكار والمجتمع في التاريخ. وسيجري التأكيد، في كل نقطة من نقاط هذا التحليل، على الطبيعة الفذة لهذه العلاقة، وعلى تلك الموضوعات والاحداث التي أضافت اليها العرفان شيئاً من ميزاتها الخاصة او ألقت عليها شيئاً من ضيائها الخاص بعينه.
ولو وقفنا على تخوم الدائرة الداخلية، أي تخوم العرفان، لبدت المجلة مفتقرة الى أي خط مذهبي واضح او الى أي التزام حزبي كان. ولعل هذا الافتقار لمذهبية التحرير هو ابرز مزايا المجلة لأن المحرر لا يمارس في حقيقة الامر رقابة ايديولوجية على المساهمين في التحرير. والرقابة الوحيدة التي مارسها كانت ذات طبيعة لغوية، رقابة تطبق بأناقة وذلك بايلاج علامة تعجب بين حين وحين توضع بين قوسين جنب سقطة ما. ولا يعني هذا ان المحرر يفتقر الى المبادئ. بل انه كان يعتنق مبادئ قوية وكان هو نفسه ينتصر سياسياً [لبعض الاراء] بين حين وحين. بيد ان مبادئه تتسم بانفتاحها وبثباتها. وأعني بالانفتاح القيمة المثلى التي يوليها المحرر لحرية الكتابة، التي ولدتها بلا ريب الفورة النشطة للأزمة العثمانية لعام 1908. وأعني بالثبات أن تمسّك المحرر بالحرية وبقلة أخرى من المبادئ الاخلاقية الحيوية كالتعليم والوطنية لم يطرأ عليه أي تغيير تقريباً، من بداية المرحلة قيد الدرس (1909) الى نهايتها (1939)، وحتى أبعد من ذلك(2). إن هذا التمسك الجامد بالحرية قد مكّن المجلة أن تعمل كمنبر لآراء من مختلف الالوان. وما تفتقر اليه المجلة من إثارة فكرية إنما تعوضه بتحسسها للقضايا الخاصة بالمراحل التاريخية المتلاحقة.
-2-
انتقل بعد ذلك الى تخوم الدائرة الخارجية، دائرة جبل عامل، حيث أزمع أن أتناول بالبحث موضوعات وحقائق معينة كما أتنازل صورها كما ظهرت في المجلة. وهذه الموضوعات لا تبرز فقط لمحض أهميتها الاحصائية الكمية، بل تبرز لأن عدداً منها قد تم توضيبه من ناحية كيفية بطريقة المجلة الفذة، او غير العادية على الاقل، لذا فإن المؤرخ وهو يقترب من مجلة كالعرفان يجد انه يتناول بالبحث، من حيث النتيجة، كلاً من مؤسسة تاريخية فضلاً عن مصدر تاريخي في آن واحد. إن العرفان غالباً ما توصف بأنها مدرسة، مدرسة صاغت عقول المثقفين لجماعة معينة من الناس في مرحلة معينة من الزمن. لكن "العرفان" ايضاً مصدر أدبي رئيسي لتاريخ جبل عامل خلال فترة زمنية أطول بكثير. لذا فالمجلة هي تاريخ ومؤرخ معاً، إذ تستخرج المادة التاريخية القديمة والقيّمة ثم تصنع تلك المادة بطريقة أسهمت في التحول التاريخي.
وهذه الوظيفة المزدوجة من الاستخراج والتصنيع تقود المرء اول ما تقوده الى فحص الصورة الذاتية التاريخية الموجودة في العرفان، أي الى فحص وضع التأريخ historiography (كما وُضع) في المجلة. والمقالات الافتتاحية تكشف عن رجل يتمتع بحس عميق ودائم بصلة التاريخ الوثيقة. على أن الهم من ذلك إنما يتمثل بأن المجلة شجعت بصورة فاعلة ظهور وضع تاريخ شيعي خلق، بكليته، صورة ذاتية تاريخية فريدة لجماعة من الناس.
-3-
ما هي السمات الرئيسية لهذه الصورة الذاتية، ولماذا خلقت وكيف؟
إنها، باختصار، صورة جماعة اسلامية شيعية التي هي عربية منذ الازل والتي يقال ان مذهبها الشيعي مستمد من كون افرادها هم أتباع الصحابي الشهير أبو ذر الغفاري. وجوهر هذه الرسالة (الشيعية) انها عربية منذ البدء ومسلمة منذ البدء(3). إنها كذلك صورة ذاتية اسلامية شيعية، وهي صورة تعكس حساً أكيداً بالتضامن الديني - الجغرافي. أنا لا أتكلم هنا عن شعور اقلية إزاء اكثرية، لأن الاقليات والاكثريات في تاريخ الشرق الاوسط ككل موجودة غالباً في عين الناظر. ولعل الكتّاب الشيعة في جبل عامل كانوا قد شعروا بأنهم اقلية في "لبنان الكبير" Greater Lebanon. لكنهم عوّضوا عن ذلك بالادعاء بأن الشيعة داخل لبنان هم أكبر طائفة منفردة(4). ولعلهم في الوطن العربي ككل كانوا قد شعروا بأنهم اقلية إزاء السنة. لكنهم عوضوا بالانتساب الى عالم الاسلام الاكبر حيث لا يعودون اقلية من الاقليات، كما عوضوا بالاحساس بأنهم قد حافظوا على عقيدة اسلامية صافية وأصيلة. والمجلة منذ أوائل أيامها قد فتحت صدرها، كتموجات في بركة، لإيران وجاوة والصين واليابان، وهي في زمنها قد قدمت ما يحتمل أن يكون أوسع تغطية اخبارية صحفية عن ايران والشرق الاقصى مما هو موجود في أي مجلة عربية.
بيد ان هذه التغطية للمشرق لم تكن ثابتة، بل متغيرة. ففي الفترة بين 1909 ونحو 1924 فحصت العرفان المشرق بدقة. غير ان التغطية من أواخر العشرينات حتى 1939 تنكمش متقلصة من الشرق الاقصى الى الشرق الاوسط، وهو انكماش يتزامن، كما سأناقش ذلك فيما بعد، او ينشأ عن هجمة استعمارية فرنسية قوية وتبعث على التفرقة وذلك في جبل عامل خاصة وفي الشرق الاوسط العربي عامة. وهذا الانكماش في التغطية الجغرافية عنى تعزيزاً للجسور العربية والاسلامية. وهذا لا يعني ان الصلات العربية الاسلامية للعرفان كانت خافية في البداية. فالدفعة الاولى بالذات من القوميين الذين القي القبض عليهم في 1915 كانت تتألف في أكثرها من مجموعة من العامليين ولدينا سرد قيّم من شاهد عيان شيعي عن الحياة اليومية في الديوان العرفي في عاليه كان كاتبه قد استطاع أن يهرّب قلماً ومفكرة الى السجن(5). ولكنه يعني انه يظهر في الصحيفة، منذ أوائل العشرينات على الاقل، تركيز كثير على الشؤون السياسية لسوريا وفلسطين والعراق ومصر على حساب جميع المناطق الاخرى. وكانت المجلة، ضمن هذه المنطقة العربية، مناصرة للهاشميين في سياستها العربية العامة ومناصرة للحاج أمين الحسيني في فلسطين. كانت العاطفة الشيعية التاريخية في المقدمة في كلا هاتين القضيتين، لكن هذه العاطفة عززت حسن التضامن السياسي - الجغرافي والاقتصادي القائم اصلاً مع شمال فلسطين، وخاصة مع المدينتين التوأم حيفا وصفد. وما ان تعاظم نطاق تغطية المجلة لاخبار سوريا وفلسطين في أواخر العشرينات وفي الثلاثينات حتى اتضحت المقولة الخاصة بمسألة الشرق وهو بإزاء الغرب في ذهن المحرر وكذلك في ذهن عدد من كتاب المقالات في مجلته. واصبحت مقولة الشرق/ الغرب، والتي ابتدأت كأزمة اخلاقية عميقة عجّل بحدوثها الغرب في الشرق، اصبحت في مرحلة لاحقة عبارة عن ظاهرة تاريخية تؤثر بالحضارات أكثر مما تؤثر في البلدان وجرى تقبلها كجزء من نمط تاريخي اكبر للمد والجزر في الحضارة ذاتها(6).
على ان العرفان إنما اسهمت اسهاماً مهماً ومثيراً للتطلع وذلك في تغطيتها لشؤون الاسلام والمذهب الشيعي في الوطن العربي. لقد ألحت آنفاً ان المجلة فتحت صدرها بدءاً بالامتداد الى الشرق وأنها انكمشت انتهاء الى شؤون العرب والاسلام. بيد ان الاسلام بكل اشكاله قد ظل بالنسبة للعرفان مجالاً دولياً حيوياً من مجالات الاهتمام زج المجلة بمجادلات مع اليسوعيين وكذلك مع السنّة وأفضى الى طرحها ما قد يطلق عليه المرء نظرية في الوحدة الطائفية الاسلامية. فالمجلة في العشرينات قامت، وقد خاب فألها بالعلمانية الساذجة المنتشرة في ايران وافغانستان وتركيا، قامت بتركيز اهتمامها على وحدة طائفية عربية واسلامية باعتبارها الهدف الديني العاجل. ويمكن القول، في واقع الامر، ان العرفان قد أخذت المبادأة لتنظيم الحوار الديني ضمن العالم الاسلامي وأثنت في الوقت عينه على الملك حسين عاهل الحجاز عن مقولته الشهيرة وهي: "نحن عرب قبل أن نكون مسلمين"(7).
ولو ابتغى المرء تفسيراً فكرياً لهذا الموقف المناهض للطائفية لأمكنه القول ان المذهب الشيعي بالنسبة للعرفان قد أمسى، ولاسيما بعد الانتداب الفرنسي، موقفاً ذهنياً أكثر مما هو التزام طائفي. إنه موقف تغذيه نهضة في كتابة التاريخ شجعتها المجلة باطراد. إن المقالات عن جبل عامل، الطويلة منها والقصيرة، العتيقة والعصرية، الجيدة والرديئة والوسط، موجودة في كل مجلد، وربما في كل عدد من صحيفة كانت على العموم شهرية. هذه المقالات هي في بعض الاحيان قاموسية الى حد كبير وتتناول تفصيلات اصول المعاني لاسماء القرى(8). وهي في أحيان أخرى تتناول المسألة الأوسع الخاصة بالحضور الشيعي في التاريخ العربي والكفاح الملحمي بين علي ومعاوية وعقبهما. كما كشفت المجلة كذلك عن اوراق مهمة تسرد الوقائع اليومية مثل السجل الشعبي الممتع للراكوني (او الركيني) الذي عاش في أواخر القرن الثامن عشر في صور، وهو مصدر اجتماعي - اقتصادي فذ عن هذه المرحلة الزمنية ويذكّر بمعاصره سجل الحكايات الدمشقية للبديري الحلاق(9).
إن تدقيق المجلة المفصل في تاريخ سراة القوم وعوامهم في جبل عامل إنما يرفده في صفحاتها اهتمام شديد بتاريخ العراق وايران. ولست في وضع يمكنني من تقدير قيمة المعلومات التاريخية عن هذين البلدين، وأغلبها يتعلق بالقرن العشرين. لكن المكانة التي احتفظ بها جبل عامل تقليدياً في النجف وايران جعلت العرفان، بمعنى من المعاني، صحيفة للتاريخ الاسلامي المقارن. إن مشكلة الطائفية الاسلامية، تحت ظلال التاريخ، قد أضحت مشكلة جهل لا مشكلة اضداد لا يمكن التوفيق بينهم(10).
إن المجلة، وقد قدم بها العهد، قد اكتسبت قوة دفع تبشيرية كان من أبرز سماتها اتخاذ موقف وسياسة من التفاهم الفاعل القائم على الحلول الوسط. أما المماحكات الجدلية ضد شخصيات سنية مثل رشيد رضا ومحمد كرد علي واسعاف النشاشيبي فقد نظر اليها كرد لاهانات يولدها الجهل. وقد دعت تلك المجادلات الى الوحدة الاسلامية باعتبارها مثلاً أعلى دينياً وسياسياً كذلك، باسم فهم تاريخي أعمق للنصوص الاسلامية(11). وهو موقف غير بعيد كثيراً عن موقف مؤرخين أوائل للاسلام كان الكثير منهم مشايعين لعلي في عاطفتهم، تلك العاطفة التي استخدمت التاريخ كحقل أولي للجدل. ويمكن، في الواقع، تعريف المذهب الشيعي بأنه لجوء الى التاريخ، والعرفان تحوي الكثير من ذلك.
إني امر سراعاً على صور وموضوعات أخرى تظهر في المجلة، فأختار التأكيد على تلك الجوانب فقط التي تبدو لي نموذجية بالنسبة للعرفان. وأنا أحصرها في فقرة واحدة على أنها مسألة المرأة، ومسألة الاشتراكية، ومسألة العلم ومسألة المهاجرين الى افريقيا والاميركيتين بالدرجة الاولى.
المسألة الاولى تتركز على قضية الحجاب والسفور. وباختصار، بدأت المجلة بتبني موقف مؤيد للحجاب بصورة واضحة، وانتهت الى قبولها بالسفور على مضض وبالتسامح مع رأي سائد مفاده ان القضية الحقيقية هي تعليم المرأة لا مظهرها الخارجي. أما في مسألة الاشتراكية فقد فسحت المجلة المجال لآراء من مختلف الالوان لكنها نظرت الى المسألة اساساً بصدد ديني لا صدد اقتصادي - اجتماعي. والمقصود بهذا ان العدد القليل نسبياً من الكتاب عن الاشتراكية نزعوا الى أن يروا في الاشتراكية نظاماً من القيم الاخلاقية الموجودة في الاسلام اصلاً. وأما اهتمام العرفان بالعلم فهو ناشئ عن اهتمام المحرر الدائم بالتعليم وبتحسين احوال الريف. والكثير من المادة العلمية يحتوي على ارشاد زراعي او طبي موجه الى القرويين صراحة، مع وجود باب دائم آخر في المجلة بعنوان "التقدم العلمي" يشتمل بالدرجة الاولى على المخترعات الحديثة. ويتصاعد اعجاب المحلة بالتقنية الغربية نسبة عكسية مع ارتيابها بالاخلاق الغربية. وكان الافتتان باليابان بالنسبة لعدد من الكتاب رمزاً للكيفية التي يستطيع بها المرء أن يستخلص التقنية من الغرب دون أن يثقل كاهله بنظامه الخلقي(12).
وقبل الانتقال الى الجزء التالي من هذه الدراسة، والذي يتناول بالبحث المجتمع الذي انبثقت عنه المجلة، لا بد من توجيه النظر الى الحركة القوية الادبية والدينية التي ازدهرت في جبل عامل من أواسط والى أواخر الثلاثينات وتبلورت حول ما كان يعرف بـ"عصبية الأدب العاملي" وهي عصبة أدبية لم تتلق بعد ما تستحقه من تقدير في تاريخ الادب العربي الحديث وفي تاريخ النهضة على العموم. وقد تأسست هذه العصبة أولاً في النجف، في أواخر العشرينات او أوائل الثلاثينات من قبل جماعة يمكن تسميتها بـ"شيوخ العلم من الشباب الغاضب"، وذلك كتمرد ضد فئة (مؤسسة) العلماء(13).
سأؤجل الآن بحث تلك المؤسسة وأحاول عرض الآراء الدينية والسياسية لهذه العصبة.
كان الشيخ علي الزين هو الروح المحركة وراء العصبة، وهو من جبشيت، عالم شاب درس في النجف، ومن الموهوبين المعروفين. وقد نشر في أيار 1937 بيان العصبة في العرفان حدد فيه المبادىء الاساسية لجماعته. ويبدو ان الشيخ وهو يسم مناخ زمانه بأنه "اقطاعي" و"رجعي" و"غير ديموقراطي" (وهذا استعمال مبكر للكلمة العربية "رجعي" واحياء لكلمة "ديموقراطي") يبدو وكأنه يعلن الحرب على عدة جبهات في الوقت عينه(14). وقد طرحت نظرية في الشعر والنقد الادبي لأن الادب، بنظر عصبته، قد غدا الاداة الاساسية للكفاح السياسي ضد "العلماء"، واصحاب الاراضي الحاكمين والانتداب(15). ويحدد الشعر الذي توافق عليه العصبة بأنه بسيط في اسلوبه وصادق مع واقع الحياة اليومية. لذا فقد شن عبد اللطيف شرارة، عضو العصبة، هجوما لاذعا على ادباء جبل عامل، وسفههم لوصفهم اوروبا كما ترى "من مقاهي النبطية" وقال ان "قوة العاطفة" هي جوهرية للكمال الادبي(16). وجرت محاسبة الشعراء لانهم لا يولون عناية كافية لوحدة القصيدة، ولأنهم ينظمون قصائدهم بيتاً بيتاً على وجه الاستقلال. كما جرى انتقاد الشعراء ايضا لتناولهم مواضيع نظرية يحسن بحثها بمقالات، او لتناولهم مواضيع بالية محاكاة لاسلوب ابي تمام او السيد الحميري(17).
وقد صب الشعر الذي أطلقه الشيخ علي وعصبته في قالب فلسفي معين يمكن وصفه بأنه متحرر ومشكك. وقد اخفى هذا كفاحا سياسيا اعمق ضد التسلط الاجنبي والطائفية والتعمية الدينية، وهذه الاخيرة تستحق الملاحظة على الخصوص وذلك لأغراضنا في هذا البحث. وقد جرى الهجوم على "العلماء" وهو جزء من هجمة عامة على جميع رجال الدين، باسم المبادىء العليا لذلك الدين ذاته(18). وقد خلع الكثير من الشيوخ اعضاء العصبة أرديتهم التقليدية [كالجبة والعمامة] الواحد تلو الآخر مدعين بقاءهم من المسلمين الاتقياء، فأحدثوا ضجة في اوساط "العلماء". وجرى تسخيف مبدأ الاجتهاد ذاته الذي هو فخر الشرع الشيعي وفقهه لأنه امسى شعارا فارغا، ومشوشا وباليا. إن الاسلام الاصيل يجب ان يكون مفتوحا باستمرار للمعرفة وللطوائف الاسلامية الاخرى(19).
وقد قيل ان العصبة تلقت بعض تصوراتها عن النقد الادبي من النوادي الادبية العربية في [المهجر] في اميركا الشمالية والجنوبية. على ان البيئة الخانقة للنجف يجب ان تعتبر سبباً بالاهمية نفسها(20). فضلا عن ذلك فإن احوال جبل عامل قد اوحت بأسلوب واداء شعريين قائمين بذاتهما. واضفى ادخال الفاظ عامية معينة متداولة في جبل عامل في الشعر الكثير من البساطة والجمال والقدرة على الترداد. وقد أثار التهجم المضحك من قبل احد الشعراء على الكهنوتية غضب احد العلماء مما حدا به الى اصدار فتوى تحلل قتله عن الكفر(21). إن العصبة قد نقلت الراديكالية الى طبقة العلماء.
-4-
انتقل الآن الى القسم الاخير من هذه الدراسة التي تروم أساساً الى الاجابة عن السؤال او الاسئلة المطروحة سابقاً: كيف ولماذا ظهرت هذه الصورة بعينها في العرفان؟ وعلى وجه التحديد ايّ نمط من المجتمع اخرجت العرفان؟ ولا توجد بالطبع طريقة يمكن المرء بواسطتها ان يمسح الاقليم بأسره. إن البحوث الثانوية الشاملة لهذا العصر التاريخي (1909 – 1939) نادرة وذات نوعية مجهولة. والمشكلة الاخيرة هي أعقد الجميع، إلا وهي انسجام العلاقة، او تصادفيتها، او حتى عرضيتها بين هذا العالم القلق من الافكار المبينة آنفاً وبين المجتمع القلق لجبل عامل. لذا فاني اطرح انطباعاتي عن هذا التاريخ بكثير من التردد(22). على انه يمكن تقديم بضع ملاحظات تاريخية عامة، ويعود الفضل في ذلك الى مجلة العرفان من جهة والى المقابلات مع شهود العيان من جهة اخرى.
إن مجلة العرفان نفسها تقول للقارىء ان هناك مفتاحين مهمين للفهم التاريخي للبنية الاقتصادية – الاجتماعية لجبل عامل. المفتاح الاول هو التقسيم الرباعي للطبقات الى "زعماء" و"علماء" و"وجهاء" و"عامة" من الفلاحين (سأبحث الاخيرين معا). والمفتاح الثاني هو نظام ضريبة الارض والتغييرات التي طرأت على الاقتصاد الريفي بمختلف القوانين الخاصة بضريبة الارض و[باجراءات] تسوية الاراضي(23). والمرء قد يغريه احياناً ان يعتبر المفتاح الثاني هو العامل الحاسم لولا ان "العلماء" و"الوجهاء" هم ايضا من الطبقات القلقة ومناوئون للتغيير.
ومهما كان الحل لهذا اللغز الخاص بمفاتيح الفهم فسأحاول اولا تعريف هذه الطبقات. فالزعيم لهذه المرحلة (وربما ينبغي الرجوع الى ثمانينات القرن التاسع عشر) كان ينظر اليه باعتباره الملاّك الزراعي الذي يحتفظ بوعي منه ببعض صفات شيخ العشيرة. واولى هذه الصفات التي حددها جميع الذين حادثتهم هي وجود بيت يوفر المأكل والمسكن مجانا لكل من هب ودب، حتى ولو لم يكن الزعيم موجودا فيه لاستقبال ضيوفه. والزعيم يرجع نسبه بفخر الى عشيرة عربية صحراوية. وكان له حتى اواسط او اواخر القرن التاسع عشر سلطة الحياة والموت على سكان اقطاعه. وهو في العادة ملتزم الضريبة الوحيد في مناطق شاسعة، تعاونه شبكة من الوكلاء الاقطاعيين منتشرة في ارجاء الجبل. والزعيم يظهر وشيجة خاصة مع العامة من اتباعه. وفي مستهل القرن الحالي كانت العائلتان او العشيرتان اللتان تتوفر فيهما صفات الزعامة هما آل الاسعد وآل الفضل(24).
اما طبقة "العلماء" في هذه الفترة نفسها فهي اكثر تعقيدا لأنها احسن توثيقا بكثير. واسر العلماء تنتمي الى جميع الفئات في المجتمع فيما يختص بالمكانة الاجتماعية وروابط الزواج. ومما يعزز من هذه المكانة، وهي في اوجها، ان العلماء كانوا يمارسون قدرا كبيرا من السلطة القضائية الذاتية ضمن الامبراطورية العثمانية. وقد حكموا في عدد كبير جدا من القضايا المدنية لأن اغلبية المدعين الشيعة يفضلون الفصل في قضاياهم وفق المذهب الجعفري دون المذهب الحنفي التابع للدولة. ويقف في قمة الترتيب الهرمي للمراتب العلمية المجتهدون، ويندر ان يكون عددهم اكثر من اثنين او ثلاثة. يليهم العلماء والشيوخ من مختلف درجات العلم والمكانة الاجتماعية. والمنظومة مفتوحة لأن بامكان اي واحد من اي طبقة اجتماعية الانضمام الى طبقة العلماء والصعود الى القمة اذا كان ينعم بالاقتدار الفقهي. وينزع العلماء الى خلق سلالات (مثل أسر الامين، شرف الدين، شمس الدين وهكذا) لكن الدخلاء يجري التغاضي عنهم دائماً وكانت كليات النجف اعرض معاهد الشيعة العلمية صيتاً ولذا كان ينظر الى العالم النجفي، على الاقل حتى 1935 باحترام خاص. ولم يكن من غير المألوف بالنسبة للفلاحين الأميين ان يبيعوا اراضيهم وماشيتهم لكي يرسلوا ابناءهم الى النجف(25).
وكان علماء هذه الفترة المعنيين مباشرة بالقانون، يعتمدون لغرض تنفيذ احكامهم على السلطة التنفيذية لزعيم منطقتهم. لذا تنبثق مخالفات سياسية مفككة بين عالم او اكثر وبين زعيم معين، ولكن، وبقدر ما استطعت تبنيه، لم يستقطب في هذه الفترة اي عالم مجموعة من علماء آخرين لغرض عمل سياسي منظم على الاطلاق. ومن بين مئات المقالات المكتوبة في العرفان بقلم علماء من مواضيع شتى لا يوجد سوى مثل واحد لعالم طرح النظرية السياسية الشيعية عن "ولاية الفقيه" التي تقول بأن "العلماء" هم افضل من يقود المسلمين في غياب المهدي(26). اما بصدد النشاط السياسي فثمة تناقض ملموس بين علماء الشيعة العامليين والايرانيين. ففي اواخر العشرينات وفي الثلاثينات اتخذ علماء الجبل مواقف على طرفي الخط السياسي، لكن هذا الخط كان قد رسمه سلفاً آخرون. كان العلماء عبارة عن جماعة مفككة اكثر مما هم طبقة اقتصادية – اجتماعية محددة بوضوح.
كان العلماء يسيطرون كذلك على التعليم والوعظ بالاضافة الى الشرع. وهذه السيطرة موثقة كل التوثيق اعتباراً من القرن الرابع عشر. وقد افلح علماء جبل عامل في القرن السادس عشر، ثم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، في تأسيس مركز مهم للفقه الشيعي (ومركز حيوي بقدر تعلق الامر بايران). ولم استخرج عينات من جملة الفكر الشيعي بالتوسع الذي كان يجدر بي، لكن انطباعي العام، من وجهة النظر المستندة الى مناهج التدريس، هو ان الاهتمام كان منصبا على العلوم الدنيوية بدرجة اكبر مما هو في مناهج التدريس السنية لتلك الفترة نفسها. ان اغلب المدارس اسسها العلماء في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لم تدم بعد وفاة مؤسسها الاصلي. لكنهم عوضوا عن الافتقار في الاستمرارية الزمانية والمكانية بتوزيع جغرافي في ارجاء الجبل. وعلى اي حال كان العالم في كل الاوقات اهم من مكان التعليم(27).
اما بشأن مصدر دخل العلماء فان قلة منهم فقط كانت تملك الاراضي في حين يعيش اغلبهم على الصدقات والمعونة الخيرية. وعلماء القرى الصغيرة يعيشون كليا على كرم القرويين الذين يزودونهم بالسكن والحاجيات الضرورية الاساسية ويقدمون لهم العطايا في مختلف المناسبات الاجتماعية والدينية. وكان الخمس، وهو ضريبة دينية قديمة، مساهمة طوعية كليا في هذه الفترة، ويدفع من ابناء الجماعة الاتقياء والاثرياء الى كبار العلماء من السادة من سلالة اهل البيت. ولم يكن الخميسي يدفع بانتظام كما كان مقداره خاضعا للمساومة. وفي اوقات الاستقطاب السياسي الشديد يجتذب زعيم جماعة من العلماء الى جانبه وذلك بدفعه رواتب سنوية منتظمة لهم. وكان جل علماء النجف والذين كانوا في مركز سيطرة حتى مستهل القرن الحالي، يميلون الى الوقوف سياسياً بجانب المجتهد الاكبر في النجف لأن اغلبهم كان يعيش ابان التلمذة على مكرمته(28). وعلى العموم فان طبقة العلماء كانت اقل الطبقات تأثيرا بالتغير الاقتصادي. لقد كان العلماء، ومن جميع النواحي العملية، يعيشون على الصدقة.
والمجموعة الثالثة هي مجموعة "الوجهاء" التي ظهرت اول ما ظهرت على الصعيد السياسي في جبل عامل في اواخر القرن التاسع عشر حينما انطلقت ثلاث او اربع اسر في صيدا وصور والنبطية وبنت جبيل فرفعت نفسها الى طبقة الزعماء وذلك باكتسابها لملكية الارض او لصيرورة افرادها من الملتزمين. ان صعود هذه المجموعة الصغيرة من تجار المدن الى طبقة الزعماء وثيق الصلة بتاريخ ضرائب الارض وتسوية الاراضي العثمانية، كما طبقت في جبل عامل. ثمة معلومات عن هذا الموضوع وعن هذه الفترة في العرفان وان كانت المعلومات الاكثر تفصيلاً لا يزال بالوسع الحصول عليها من مصادر شفوية(29). وهكذا فان ظهور مجموعة الزعماء المحدثين هذه كانت امارة من امارات التغييرات الاقتصادية المهمة والباقية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(•) أقدم شكري بادئ ذي بدء لزميلي الدكتور مروان بحيري الذي كان أول من اقترح عليّ هذا الموضوع. اسجل كذلك خالص امتناني الى الذين زودوني بالمعلومات وهم صاحبا المعالي كاظم الخليل وعادل عسيران والسادة محمد قرة علي وموسى الزين شرارة. وآمل أن تكون الصورة التي رسمتها لجبل عامل قريبة من تلك التي في أذهانهم مع العلم أن جميع من ذكرت في حل من المسؤولية تجاه الآراء الواردة في هذا البحث. والدراسة مهداة لسماحة الإمام السيد موسى الصدر الذي أدين اليه باهتمامي بجبل عامل.
(2) أنظر: افتتاحيات "العرفان"، الاعداد 1، ص1-2 و8؛ 10، ص215؛ 14، ص1 وما بعدها؛ 17، ص281، و25، ص1 وما بعدها.
(3) أنظر خاصة مقالات الشيخ سليمان الزاهر ومحمد جابر آل صفا المتعددة في: "العرفان"، العدين 8، و27، ص460 وما بعدها على التوالي. أنظر ايضاً الجدال حول المثالية الشيعية في: "العرفان" العدد 24، ص813-841.
(4) أنظر خاصة: "العرفان"، العدد 17، ص504 والاحصاءات السكانية المهمة في: "العرفان"، العددين 26، ص595 و649، و27، ص3.
(5) ورد هذا في عرض محمد جابر المهم لكتاب أمين سعيد: الثورة العربية الكبرى في: "العرفان"، العدد 25، ص743 وما بعدها. وحول نشاط عبد الكريم الخليل في صيدا عام 1915 كما ذكرها المحرر، أنظر: "العرفان"، العدد 28، ص468.
(6) أنظر على سبيل المثال: العرفان، الاعداد 1، ص29؛ 15، ص606؛ 21، ص394؛ 25، ص769، و27، ص266-267. وقد ظهرت التحذيرات الاولى من الخطر الصهيوني في فلسطين عام 1910 في مقال عُرّب عن مجلة فرنسية في: العرفان، العدد 2، ص554.
(7) يقال ان كلمة "طائفية" بما تعنيه اليوم كانت "جديدة" عام 1931، أنظر: العرفان، العدد 2، ص17. وحول تعليق الملك حسين، أنظر: العرفان، العدد 2، ص631. وقد اعتبر الجدل مع اليسوعيين دفاعاً ثقافياً عن الاسلام ضد الهجمة اليسوعية التي ابتغت اعطاء التاريخ العربي الاسلامي، في بواكيره، صبغة شقاقية، أنظر: العرفان، العدد 28، ص78.
(8) مثلاً، سلسلة مقالات للشيخ سليمان الزاهر عن اسماء القرى في جبل عامل التي ظهرت، على نحو متقطع، اعتباراً من عام 1909 فصاعداً.
(9) يبدأ سجل الركيني في: العرفان، العدد 27، ص3.
(10) أنظر مثلاً؛ العرفان، الاعداد 7، ص317؛ 27، ص354، و28، ص52، 579 و769.
(11) أنظر: العرفان، الاعداد، ص350، 11، ص292؛ 12، ص4؛ 15، ص813، 17، ص401؛ 23، ص144-148؛ 26، ص619، و28، ص579.
(12) حول المرأة، أنظر: "العرفان"، الاعداد 1، ص82؛ 6، ص505؛ 11، ص262؛ 13، ص603؛ 14، ص4؛ 15، ص841، و19، ص322. حول الاشتراكية والبلشفية، ما لهما وما عليهما، أنظر: "العرفان"، الاعداد 6، ص95؛ 11، ص458؛ 15، ص622؛ 25، ص594، و28 ص12 وما بعدها. حول العلم والتكنولوجيا، أنظر: "العرفان"، العددين 1، ص46-57 و520، و17، ص307. حول اليابان، أنظر: "العرفان"، الاعداد، 1، ص291؛ 7، ص113، و17، ص121.
(13) حول منشأ العصبة، أنظر: العرفان، العدد 27، ص243. وقد أفادني السيد موسى الزين شرارة في مقابلة شخصية بتاريخ 23/5/1979 بمنشئها النجفي. حول الفجوة بين الاجيال، أنظر: العرفان، العدد 27، ص124.
(14) حول البيان، أنظر: العرفان، العدد 27، ص243.
(15) أنظر مثلاً: العرفان، العدد 27، ص20 و25 وقد ا كد السيد موسى الزين شرارة هذا الامر في المقابلة معه بتاريخ 23/5/79.
(16) حول هجوم شرارة، أنظر: العرفان، العدد 27، ص328.
(17) حول هذه المواضيع وما اليها، أنظر: العرفان، العدد 27، ص328 و397.
(18) أنظر مثلاً: العرفان، العدد 26، ص435-438. وقد اكد السيد موسى الزين شرارة هذا الامر.
(19) من المشايخ الذين تخلوا عن الزين الديني، الحوماني، حسين مروة، محمد شرارة، هاشم الأمين= صدر الدين شرف الدين وجعفر همدر (المقابلة مع السيد محمد قرة علي بتاريخ 24/5/1979 والسيد موسى الزين شرارة). الهجوم على الاجتهاد في: العرفان، العدد 28، ص72 وما بعدها. وعقيدة الاسلام "المفتوح" في: العرفان، العدد 28، ص165 وما بعدها.
(20) التأثير الادبي العربي - الاميركي، اشار اليّ به الدكتور وضاح شرارة (24/5/1979). وقد اكتسب المهاجرون أهمية اقتصادية وأدبية متزايدة في الثلاثينات، أنظر: العرفان، الاعداد 25، ص637؛ 28، ص1 وما بعدها، و29، ص599.
(21) ثمة الكثير من الشعر المناهض لرجال الدين في الاعداد 26؛ 27، و28 من العرفان. وقد قرأ لي السيد موسى الزين شرارة عدداً كبيراً من أبيات ذلك الشعر كما اطلعني على قصة العالم الغاضب.
(22) اخبرني الدكتور وضاح شرارة ان هناك 4 او 5 رسائل جامعية حول التاريخ الحديث لجبل عامل قدمت الى الجامعة اللبنانية في السنوات الاخيرة. ويشير الدكتور شرارة في: "النهار"، 25/5/1979، ص7، الى مقال لأحمد بيضون عن أحداث بنت جبيل عام 1936 نشر في "دراسات عربية" عام 1968.
(23) حول هذا التقسيم الاجتماعي، انظر: العرفان، العددين 25، ص637، و27، ص243. حول النظام الضريبي في جبل عامل في أواخر القرن التاسع عشر، أنظر: العرفان، العدد 27، ص385. هذا التقسيم الرباعي أكده كل من صاحبي المعالي عادل عسيران في مقابلة بتاريخ 22/5/1979 وكاظم الخليل في مقابلتين بتاريخ 24/5 و26/5/1979 والسادة محمد قرة علي وموسى الزين شرارة.
(24) المعلومات تفضل بها السادة محمد قره علي وموسى الزين شرارة.
(25) المعلومات حول العلماء تفضل بها صاحبا المعالي كاظم الخليل وعادل عسيران والسيد محمد قرة علي. حول كليات النجف الاشرف، أنظر: M.F. Jamali, "The Theological Colleges of Najaf", in: R. al-Droubie. ed, Arabic and Islamic Garland: The Tibawi Fesischrifi (London: The Islamic Cultural Centre, 1397/ 1397/1977), pp. 135-140.
(26) أنظر: العرفان، العدد 21، ص552.
(27) ثمة سلسلة مهمة من المقالات حول علماء ومدارس جبل عامل بقلم محمد جابر في: العرفان، الاعداد 27، ص460 وما بعدها؛ 27، ص630 وما بعدها، و28، ص22 وما بعدها و226 وما بعدها.
(28) المعلومات حول احوال العلماء المعيشية تفضل بها صاحب المعالي كاظم الخليل والسيد محمد قرة علي.
(29) حول النظام الضريبي في الفترة العثمانية الاخيرة وآثاره الاجتماعية، أنظر: العرفان، العدد 27، ص385-390. والكثير من المعلومات المفصلة حول نظام الضريبة والوجهاء تفضل بها صاحب المعالي كاظم الخليل.
حلقة أخيرة غداً
طريف الخالدي
( استاذ التاريخ في الجامعة الاميركية في بيروت )
الأحد 08 شباط 2009 - السنة 76 - العدد 23606
الاثنين 09 شباط 2009 - السنة 76 - العدد 23607
(2009-1909) مجلة "العرفان" ومؤسّسها في الدائرتين الصغرى والكبرى [2]
الحلقة الثانية الاخيرة من دراسة الدكتور طريف الخالدي حول مجلة "العرفان":
وقد بقيت طبقة الوجهاء ككل تحتل الصدارة السياسية وتمتاز عن بقية السكان باعتبار افرادها من الوجهاء وذلك عقب قانون الاراضي العثماني لسنة 1858. ولم يوضع هذا القانون موضع التنفيذ مباشرة بل جرى سريانه تدريجيا في مختلف مناطق الامبراطورية بمختلف الاوقات. وبدأ تأثيره بالظهور في جبل عامل في سبعينات وثمانينات القرن الماضي. ان تسوية الاراضي، على بدائيتها وعدم دقتها، قد نظمت ضرائب الارض وجعلت من جبل عامل، الى جانب ذلك، وحدة اقتصادية اكثر رشادا فغدت الزراعة اجزى دخلاً من ذي قبل. واخيرا، خلق قانون الضريبة وتسوية الاراضي جيشا صغيرا من الموظفين الماليين والقضائيين كان اغلبهم على درجة كبيرة من ضعف المرتب بحيث انهم سرعان ما توصلوا الى تفاهم مع وجهاء المدن فأخذ النظام الضريبي يعمل لمنفعة الطرفين معا. وامسى الوجهاء انفسهم من موظفي الدولة في كثير من الحالات. وفي هذه الطبقة من الوجهاء وجدت في صور تسعينات القرن الماضي جمعية واحدة على الاقل في الجمعيات الادبية والسياسية الجنينية التي هويت الاشتغال بأمور من المعروف جيداً انها محرمة من قبل الدولة العثمانية(30).
ان مناقشتي تقتصر حتى الآن على القول ان الوجهاء هم في الاصل مجموعة من تجار الحبوب في جبل عامل في الفترة من اواسط الى اواخر القرن التاسع عشر، استغل عدد صغير منها القوانين العثمانية الجديدة لشق طريقهم الى طبقة الزعماء المجزية والاعرض صيتاً، وذلك عن طريق صيرورتهم ملاكين للارض وملتزمين للضرائب وموظفين في الدولة. وابرز ثلاث عوائل امكنها تحقيق شق طريقها هي آل عسيران وآل الخليل وآل الزين. فبمستهل القرن دخل كل هؤلاء الثلاثة، بطريقة او بأخرى، في طبقة الزعماء. وفي هذه الاثناء لم يبق من طبقة الزعماء العشائرية القديمة سوى عشيرة الاسعد. وبذا اقتسمت هذه الاسر الاربع فيما بينها عمليا التزام الضرائب والكثير من السلطة السياسية في جبل عامل. اما القوى المحركة لعلاقاتها المتشابكة فهي موضوع معقد. والمنازعات بينها غالبا ما كانت منازعات بشأن الحاجة التي تمليها الحدود الاقليمية: حدود التزامهم للضرائب وقد زودهم استخدامهم الموفق لنظام الضريبة كما زودهم سلطانهم على موظفي الدولة الماليين بثقة بالنفس وبشعور بالاستقلال تمخض عنهما اعتناق نوع أو آخر من انواع القومية. واختار الزعماء على العموم من بين القوميتين المتوفرتين وهما الاسلامية والعربية/ السورية، فاختاروا الثانية. وان احد الاسباب التي مكنت الشيخ احمد عارف الزين من اصدار العرفان لذلك الامد الطويل هو تمتعه بالدعم السياسي الثابت لأسرة الزين، والتي لم تفرض عليه، مع ذلك مذهبا صارما بعينه.
وحين اندلعت الحرب العالمية الاولى كان قد مر على قوانين الارض العثمانية الجديدة في جبل عامل نحو ثلاثين او اربعين سنة. ومع تقدم الحرب كان من الواضح ان جبل عامل اخذ بالرخاء. وقد عاد تولي العسكريين للادارة على الملتزمين والفلاحين بأرباح طائلة. وبنيت شبكة من مستودعات الجيش التي كانت تصرّف، في كل يوم، كميات هائلة من الحبوب.
واخذ الجيش العثماني والدولة يطلبان الآن ضرائب الارض عيناً بدلا من طلبها نقدا من الملتزمين كما في الفترة السابقة. فكان المخمنون المكلفون بهذا الواجب يصلون بسرعة الى اتفاق مع الملتزمين يتم بموجبه تخمين حاصل الارض في جبل عامل بأقل من حقيقته وتكون النتيجة زيادة نصيب الفلاحين والملتزمين والمخمنين جميعاً من حصتهم المقررة من وارد الضريبة على حساب الدولة العسكرية والادارة(31). ومن هنا فان قلاقل جبل عامل في اوائل العشرينات وفي الثلاثينات مثل كلاسيكي للانتفاضات التي تحدث لأن الامور كانت تتحسن ثم تتوقف بغتة.
كان الانتداب الفرنسي في جبل عامل مثيرا للحنق بشكل خاص لأنه انهى فجأة ازمان الحرب "السعيدة" واعاد نظام الضريبة العثماني لما قبل الحرب، وهي حالة استمرت نحو 12 سنة الى ان اجرى الفرنسيون اولاً تسوية الاراضي في اوائل الثلاثينات ثم الغوا بعدئذ جميع ضرائب الارض. وقد أحكم الانتداب الفرنسي في العشرينات قبضته الاقتصادية على لبنان الكبير واقتطع لحسابه مبالغ طائلة من الذهب من سوريا، او قيل انه فعل ذلك، لربط العملية السورية بالفرنك الفرنسي المتأرجح.
وتفاقم على صفحات العرفان جدل اقتصادي عنيف مثير للاهتمام. وتغدو مناهضة الطائفية مسألة من المسائل حينما ادرك كثيرون ان وحدة العمل الاقتصادي ضد الانتداب هي هدف جدير بالاعتبار(32). واصبحت بيروت عاصمة مزدهرة على عجل، فتبدو وكأنها بابل العصرية لمحرر العرفان المنذهل. والجبل تفرض عليه الضرائب الباهظة ويجري تجاهله باطراد من قبل الفرنسيين. وتعكس افتتاحيات العرفان في العشرينات بين حين وحين خيبة الأمل العميقة في الانتداب، فيبرز منها الرأي القائل بأن الانتداب ليس افضل من الحقبة العثمانية بل ربما كان اسوأ منها بكثير.
انطلق العنف في جبل عامل على مرحلتين رئيسيتين. المرحلة الاولى هي تمرد ادهم خنجر وصادق حمزة، والثانية هي حادث سنة 1936 في بنت جبيل. في الحالة الاولى كان التمرد عبارة عن تمرد فلاحي عفوي تصادف مع فجاءة التغييرات الضريبية. وفي الثانية كان الامر هو ان ادارة انحصار التبغ التابعة للدولة فرضت اجراءات اقتصادية قاسية انتقاما من الزعماء الراديكاليين والوجهاء الجدد الذين يقودون مزارعي التبغ المتذمرين. وبذا تكون طبقة الفلاحين متورطة مباشرة في الازمتين السياسيتين الكبريين لجبل عامل خلال الانتداب الفرنسي.(33)
-5-
لم تستطع العرفان تسجيل هذين الحدثين بالدرجة نفسها من الحرية التي سجلت بها الحقبة العثمانية الطويلة. فالمجلة، شأنها شأن طبقة العلماء التي ينتسب اليها المحرّر، حملت عن الامور نظرة اخلاقية متشددة، وكانت بمعزل عن السياسة اليومية، وان لم تكن منفصلة عن الموضوعات السياسية النظرية. وكان الانفصال السياسي انعكاساً لسياسة الحذر التي تنهمك بها طبقة العلماء. فعلماء جبل عامل ينحدرون من "لا وعي جماعي" علمهم الوقوف على مسافة امينة من الامبراطوريات كما علمهم معاملتها بحذر. والشيخ احمد عارف الزين قد اوجد مجلة حصيفة سياسية في روحيتها والتي تتيح لنا ان نلاحظ كيف رأى العلماء بخاصة دنيا جبل عامل. والمدارس المؤسسة في اواخر القرن التاسع عشر علمت العامليين تفهما ادق من الناحيتين التاريخية واللغوية للنصوص الاسلامية الشيعية. وغرست هذه المدارس في طبقة الوجهاء خاصة تفهما اكثر تهذيبا للتحول السياسي والاقتصادي. وكان العلماء، حتى قبل ان يصطرع الزعماء القدامى والجدد مع العثمانيين والفرنسيين، كانوا مندفعين وحدهم ضد الهيمنة الفكرية للنجف. مع هذا، ومع ان العلماء كانوا هم اوائل حَمَلة التغيير العقائدي في هذه الفترة فانهم كانوا آخر المجموعات الاربع في انضمامها للكفاح السياسي، عقب اضطرابات 1936.
ان العرفان، مجلة "العلماء" تعطينا نظرة شاملة وهادئة عن هذه التحولات التاريخية. ان نهضة جبل عامل كما تعكسها المجلة موضوع جدير بالتقويم الشامل. وينبغي القيام بذلك عاجلاً، حين يكون لا يزال بوسع الباحث مقابلة الاحياء من ذلك الجيل الفائت.
الهوامش
(30) حول هذه الجمعيات الادبية والسياسية "الجنين"، أنظر: العرفان، العدد 24، ص704 وما بعدها. والفترة موضوع البحث هي تسعينات القرن الماضي.
(31) الكثير من المعلومات حول اقتصاد جبل عامل خلال الحرب الكبرى تفضل بها صاحب المعالي كاظم الخليل.
(32) أنظر مثلاً: العرفان، الاعداد 9، مواضع متفرقة؛ 14، ص361، و25، ص776. حول خروج الذهب من سوريا، أنظر: العرفان، العدد 16، ص1 وما بعدها.
(33) المعلومات حول هاتين الانتفاضتين تفضل بها صاحبا المعالي عادل عسيران وكاظم الخليل والسيد موسى الزين شرارة.
طريف الخالدي
(استاذ التاريخ في الجامعة الاميركية في بيروت)
.........................................................................................................................................................................................
الحوار بين ارنست رينان وجمال الدين الافغاني
الحوار بين ارنست رينان وجمال الدين الافغاني
كان رينان (1823- 1892) قد آمن في مرحلة معينة من حياته بأنّ المستقبل للعلم وحده، وكتب بين سنتي 1848-1849 كتابا بهذا الاتجاه عنوانه "مستقبل العلم" لم يلق طريقه إلى النشر إلا سنة 1890، ونشر مشفوعا بمقدمة يتراجع فيها الكاتب عن بعض غلوائه في تصوّر مستقبل العلم والحضارة. وبدأ رينان من سنة 1870 يتراجع عن موقفه المعادي للمسيحية ويطالب بإصلاح ليبرالي كاثوليكي وبأن يقبل رجال الدين بالفصل بين الكنيسة والدولة والجامعة. وكان يعتقد إنّ هذه الإمكانية لا يمكن أن تحصل، إذا ما حصلت، إلاّ في المجتمعات المسيحيّة التي تطوّر فيها العلم تطوّرا كبيرا وفقد فيها رجال الدين احتكار توجيه الجماهير. وتتنزّل نظريته في العجز الجوهري للإسلام عن قبول الإصلاح والتحديث في هذا السياق العام
لا شكّ أنّ محاضرة رينان تحتوي أخطاء كثيرة، مثل ما هو مذكور فيها عن موقف الطهطاوي من الغرب والتحديث. وهي تقوم أيضا على نظرية عرقية كانت شائعة في عهده، ولو عاش رينان القرن العشرين بدل القرن التاسع عشر لفاجأته أن تصبح تركيا أوّل دولة علمانية إسلامية وتقوم أكبر ثورة دينية في المجتمع الفارسي. وكان للفكر الفرنسي في نهاية القرن التاسع عشر أثر كبير لدى العرب وهو فكر كان يحمل في الآن ذاته آثار المواجهة العلمانية للكنيسة والرؤية التي خلفتها هذه الكنيسة حول تاريخ الأديان الأخرى ومنها الإسلام. كما كان يتميز بالمعاداة للسامية وتعني في ذلك العصر معاداة الجنسين العربي واليهودي وقد خصص لهما رينان محاضرة لا تقلّ حدّة عنوانها "في مساهمة الشعوب السامية في تاريخ الحضارة" وهي مساهمة رآها محدودة بل تكاد تكون معدومة.
أرنست رينان(من الأكاديمية الفرنسية)
الإسلاميّة والعلم
محاضرة ألقيت بالسوربون يوم 29/03/1883.
الناشر: كلمان ليفي، باريس، 1883.سيداتي سادتي
لقد خبرت مرات عديدة لطف اهتمام هذا المجمع من المستمعين فتشجعت على أن أطرح للدرس أمامكم اليوم موضوعا من أكثر المواضيع دقّة، مليء بالفروق الرقيقة التي لا مناص من الخوض فيها إذا أردنا أن نخلّص التاريخ من الآراء التقريبية. إنّ نقص الدقّة في استعمال الكلمات التي تسم الأعراق والأمم هي من أهمّ أسباب الالتباس في التاريخ. نتحدث عن الإغريق وعن الرومان وعن العرب وكأنّ هذه الكلمات تحيل إلى مجموعات بشرية ذات هويات قارة فلا نحسب حسابا للتغيرات المترتبة على الفتوحات الحربية والدينية واللغوية وعن الأذواق الجديدة والتيارات الكبرى من مختلف الأنواع وهي تخترق تاريخ الإنسانية. لا يمكن التحكّم في الواقع بمقولات في مثل تلك الدرجة من التبسيط. نحن الفرنسيين مثلا رومان باللغة وإغريق بالحضارة ويهود بالدين. قضية العرق التي تأخذ في المبدأ أهمية كبرى لا تنفكّ تفقد أهميتها بسبب ظهور ظواهر كونية تدعى الحضارة الإغريقية والزحف الروماني والغزو الجرماني والمسيحية والإسلامية والنهضة والفلسفة والثورة، هذه جميعا تمرّ مثل الإعصار على التنويعات البدائية للأسرة البشرية فتجبرها على الانصهار في مجموعات متفاوتة التجانس. أودّ أن أحاول أمامكم توضيح واحدة من أكثر الأفكار غموضا وتشابكا في هذا السياق، أقصد الخلط الحاصل عند استعمال الكلمات: علوم عربيّة، فلسفة عربيّة، فنّ عربي، علوم إسلاميّة، حضارة إسلاميّة. يترتب على الأفكار الملتبسة الكثير من الأحكام المضللة بل الأخطاء العملية الخطيرة أحيانا.
كلّ إنسان يتمتع بالحدّ الأدنى من الاطلاع على شؤون العصر يرى بوضوح الدونية الحالية للبلدان الإسلامية والانحطاط الذي يميّز الدول التي يحكمها الإسلام والبؤس الفكري للأعراق التي لا تقتبس ثقافتها وتعليمها إلاّ من هذه الديانة. كلّ الذين زاروا الشرق أو إفريقيا يصدمهم الانغلاق الذي يميّز عقل كلّ مؤمن صادق، حتى كأنّ دماغه قد أحيط بسوار معدني يمنع عنه العلوم ويحظر عليه التعلّم ويدرأ به أن ينفتح على فكرة جديدة. والطفل المسلم قد ينشأ بعقل يقظ لكنّ التربية الدينيّة تحوّله في سنّ العاشرة أو الثانية عشر إلى كائن متعصّب يدعي حمقا أنّه يمتلك الحقيقة المطلقة ويسعد بوضعه الدوني الذي يحسبه امتيازا. تمثّل هذه العزّة الجنونيّة الرذيلة الجذريّة للمسلم. والبساطة التي تبدو عليها عباداته تملأه باحتقار غير مبرّر للأديان الأخرى. يحتقر المسلم التعليم والعلوم وكلّ ما يميّز العقل الأوروبي لأنّه يعتقد أنّ الله يمنح الثروة والسلطان بمطلق مشيئته فلا دخل في ذلك للتعلّم ولا للاستحقاق. هذه العادة الرديئة التي رسختها العقيدة الإسلاميّة بلغت من القوّة حدّا جعل الفوارق بين الأعراق والقوميات تختفي باعتناق الإسلام. من يدخل الإسلام من البربر والسودان والقفقازيين والماليين والمصريين والأحباش يفقد هويته. ولا استثني من هؤلاء إلاّ الفرس الذين نجحوا في الاحتفاظ بروحهم الأصلية. وقد احتلت فارس في الإسلام مكانة فريدة لكنّها في العمق شيعيّة أكثر منها مسلمة.
يسعى العديد من الناس إلى التخفيف من الاستنتاجات المؤسفة المترتبة ضدّ الإسلام على هذه المعاينة العامة فيقولون إنّ هذا الانحطاط قد لا يكون في آخر المطاف إلاّ حالة عابرة. وهم يستنجدون بالماضي ليطمئنوا أنفسهم حول المستقبل. يقولون: هذه الحضارة الإسلاميّة التي نراها اليوم منحطّة قد كانت في عهد سابق حضارة شديدة التألّق. كان فيها علماء وفلاسفة وكانت لعدّة قرون معلمة الغرب الإسلامي. ما الذي يمنعها من استعادة أمجاد الماضي؟ هذا هو الموضوع الدقيق الذي أرغب في أن يكون موضوع نقاشنا. هل وجدت حقا علوم إسلامية أو على الأقلّ علوم قبلها الإسلام أو تسامح معها؟
إنّ الوقائع المعروضة لا تخلو من بعض الحقيقة. أجل ظهر في الأمصار الإسلاميّة علماء ومفكرون من ذوي المكانة المرموقة من سنة 775 تقريبا إلى حدود منتصف القرن الثالث عشر، أي في فترة امتدّت خمسة قرون تقريبا. بل يجوز القول إنّ العالم الإسلامي كان في تلك الفترة متفوّقا على العالم المسيحي من جهة الثقافة الفكريّة. لكنّ هذا الأمر جدير بأن يحلّل بعمق كي لا يكون مطيّة لاستنتاجات خاطئة. يتعيّن أن نتابع بين القرن والآخر تاريخ الحضارة في الشرق كي نميّز العوامل المختلفة التي ساهمت في هذا التفوّق المؤقت الذي انقلب بعد ذلك إلى دونية متأصلة.
لم يكن شيء أكثر غرابة عن مسامع المسلمين في قرنهم الأوّل من الفلسفة والعلوم. كان الإسلام حاصلة صراع ديني متواصل منذ عدّة قرون ترك الوعي في الجزيرة العربيّة معلّقا بين مختلف أشكال التوحيد السامي. جاء الإسلام في معزل عما يسمّى العقلانيّة والعلم واعتنقه الفرسان العرب وتعلقوا به لتبرير الغزو والنهب فكانوا في زمانهم الأوّل المحاربين الأكثر شجاعة في العالم لكنّهم كانوا بالتأكيد الأقلّ اهتماما بالفلسفة بين البشر. وكتب أديب مشرقي من القرن الثالث عشر يدعى أبو الفرج هذه الكلمات في وصف الشعب العربي: علوم العرب التي تفتخر بها هي علوم اللسان والبلاغة وقرض الشعر وإتقان النثر، أمّا الفلسفة فلم يهبهم الله منها شيئا ولم يجعلها من خصالهم.
لا شيء أصدق من هذا القول. فالعربي البدوي هو من أكثر الناس شاعرية لكنّه من أقلّهم ميلا للتأمّل والتصوّف. يكتفي العربي المتديّن تفسيرا للكون بإله مبدع يدير العالم بنفسه ويتجلّى للبشر عير رسله المتتابعين. وعندما كان الإسلام منحصرا في العرق العربي طوال الفترة الممتدّة من الخلفاء الأربعة إلى العصر الأموي لم تنشأ في صلبه حركة ثقافيّة مستقلّة عن الدين. على عكس ما يقال غالبا، لم يأمر عمر بن الخطّاب بإحراق مكتبة الإسكندريّة فهذه المكتبة في عهده لم يكد يبقى منها شيء. لكنّه انتصر لمبدأ مدمّر للبحث العالم والعمل الفكري.
لقد حصل التحوّل في حدود سنة 750 بانتصار الفرس ونصرتهم أسرة بني العباس على أسرة بني أميّة وتحوّل مركز الإسلام إلى بلاد الرافدين. كانت هذه المنطقة قد احتفظت بآثار إحدى أبهى الحضارات التي عرفها الشرق، حضارة الفرس الساسانيين التي بلغت أوجها في عهد كسرى أنو شروان. كانت المنطقة قد حفلت بالفنون والصناعات منذ قرون وأضاف إليها كسرى النشاطات الفكريّة. وكانت الفلسفة قد التجأت إلى بلاد فارس بعد أن أطردت من القسطنطينية. أمر كسرى بترجمة الكتب الهندية. كان الجزء الأبرز من السكان على مذهب المسيحيّة النسطوريّة ضليعين في علوم الإغريق وفلسفتهم ماسكين بناصية الطبّ وكان رهبانهم يتقنون المنطق والهندسة. تروي الملاحم الفارسيّة التي تواصل الروح الساسانيّة أنّ رستم عندما عزم على بناء جسر دعا كاهنا نسطوريّا ليكون مهندس الأشغال.
أوقف الزحف الإسلامي بقسوة هذا المسار الفارسي لمدّة قرن ثم جاءت الدولة العباسيّة لتمثّل انبعاثا جديدا لملك كسرى. لقد استولى بنو العباس على السلطة بفضل كتائب فارسيّة يقودها رجال من الفرس. وكان مؤسسو الدولة، أبو العباس ثم خاصة المنصور، محاطين دائما بمستشارين من الفرس. كان هؤلاء بمثابة ساسانيين منبعثين من جديد. وكان المستشارون المقربون والوزراء الكبار ومعلمو الأمراء من أسرة البرامكة وهي من الأسر الفارسيّة القديمة تميّزت بالانفتاح الذهني والوفاء لثقافتها القوميّة واعتنقت الإسلام في فترة متأخّرة ودون كبير اقتناع. أحاط النساطرة بعد ذلك بهؤلاء الخلفاء ضعيفي الإيمان وأصبحوا أطباءهم الشخصيّين واحتكروا هذا الامتياز. وكان لمدينة حرّان في تاريخ العقل البشري مكانة لا مثيل لها إذ ظلّت على وثنيتها محتفظة بالتراث العلمي للعصر الإغريقي وهي التي منحت المدرسة الجديدة فيالق العلماء الغرباء عن أديان التوحيد وخاصة منهم علماء الفلك.
لقد قامت بغداد عاصمة لهذه الحضارة الفارسيّة المنبعثة من جديد. لم يكن ممكنا تجنّب استعمال لغة الفاتحين أي اللغة العربيّة ولا رفض الدين الجديد رفضا صريحا. لكنّ روح هذه الحضارة الجديدة كانت روحا مختلطة. وقد تغلّب الفرس والمسيحيّون وكانت المناصب الإداريّة، والشرطة خاصة، بأيدي المسيحيّين. كلّ الخلفاء العباسيين المعاصرين للأسرة الكارلفنجية بفرنسا، ومنهم المنصور وهارون الرشيد والمأمون، كانوا من المسلمين ضعيفي العقيدة وكانوا يتظاهرون بالدين لأنهم زعماؤه لكن تفكيرهم كان بعيدا عنه. كانوا يتطلعون لمعرفة كل شيء وخاصة ما كان غريبا وثنيا. كانوا يسائلون الهند وفارس القديمة واليونان خاصة. صحيح أنّ أصحاب التقوى من المسلمين نجحوا أحيانا في توجيه البلاط نحو ردود فعل غريبة، فكان الخليفة يتظاهر بعض الأحيان بالتقوى ويضحي بأصدقائه من الكفار والملحدين. لكن نسمة الحرية ما تفتأ تستعيد الغلبة فيدعو الخليفة مجدّدا العلماء والخليعين وينهمكون مجدّدا في الحياة المتحرّرة ولا يملك المسلمون الأتقياء غير الإدانة.
هذا هو التفسير لحضارة بغداد التي تبدو غريبة جذابة. وقد رسخت معالمها في كل المخيّلات بفضل قصص ألف ليلة وليلة. إنها خليط عجيب من التشدّد الرسمي والتسيب المكتوم، فترة شباب وعبث ازدهرت خلالها الفنون الجديّة والفنون المرحة بفضل رعاية قادة مارقين عن ديانة متعصبة. كان الشخص المتحرّر في هذه الحضارة واقعا تحت تهديد العقوبات الأشدّ قسوة لكنه يعامل في البلاط كشخص ذي حظوة. ازدهرت الزندقة في ظل هؤلاء الخلفاء الذين كانوا متسامحين أحيانا وأحيانا أخرى جلادين بالرغم عن إرادتهم. ظهر المتكلمون وأقاموا المناظرات يخضعون بها كلّ الأديان للتعقّل. إنّنا نحتفظ بإحدى هذه المناظرات وقد سجلها أحد العلماء واسمحوا لي أن أسردها على مسامعكم كما وردت في ترجمة السيد دوزي (Dozy): طلب عالم من القيروان من متكلم أندلسي تقي قدم إلى بغداد هل حضر مجالس الكلام فأجاب أنه حضر مجلسين ولم يعد بعدها فسأله عن السبب فقال المسافر: حضرت مجلسا ضمّ مسلمين من السنة ومن المبتدعة وكفارا ومجوسا ودهريين وملاحدة ويهودا ونصارى فكانت ملل الكفر جميعا حاضرة. ولكلّ ملّة رئيسها يذبّ عن عقائدها وإذا دخل أحد الرؤساء قام الجميع احتراما ولا يجلسون حتى يأخذ الرئيس مقعده. فلما انعقد المجلس قام أحد الكفرة فقال: لقد اجتمعنا للمناظرة وأنتم أعلم بقواعدها، فليس لمسلم أن يحتجّ بآيات كتابه وأحاديث نبيه فإنّنا لا نؤمن بها، وإنّما دليلنا ما وافق العقل. فرحب الجميع بكلامه. وقال الأندلسي: عرض علي حضور مجلس ثان فكان من نفس القبيل، فهل أعود لمثل هذه المجالس؟
كان من نتائج هذا التوقف المؤقت لسلطة التقوى أن برزت حركة فلسفية وعلمية حقيقية. كان الأطباء السوريون المسيحيون متضلعين في الفلسفة المشائية والرياضيات والطب والفلك وهم ورثة آخر المدارس الإغريقية. فاستعملهم الخلفاء ليعربوا مجموع أعمال أرسطو وإقليدس وجالينوس وبطليموس أي علوم الإغريق التي كانت متوفرة آنذاك. بدأت بعض العقول النشطة مثل الكندي تتأمل مشاكل كونية يطرحها الإنسان دون أن يجد لها جوابا فسُمي هؤلاء الفلاسفة ومنذ ذلك الحين وهذه الكلمة العجيبة تحمل دلالة مشبوهة وتشير إلى شيء غريب عن الإسلام. أصبحت كلمة فيلسوف عند المسلمين تسمية خطيرة يمكن أن تجني على صاحبها الموت أو الاضطهاد، شأن كلمة زنديق أو بعد ذلك كلمة ماسوني. لا مناص من الاعتراف أنّ ذلك كان قمّة العقلانية الحادثة داخل الإسلام فقد نشأت ما يشبه الجمعيات الفلسفية وتُرك أخوان الصفا ينشرون موسوعة فلسفية مهمة بما تميزت به من حكمة وأفكار راقية. ثم جاء رجلان عظيمان هما الفارابي وابن سينا ليحتلا رتبة المفكرين الأكثر اكتمالا بين الفلاسفة. وتطور الفلك والجبر تطورا حثيثا خاصة في فارس. وواصلت الخيمياء تجاربها الدفينة التي كانت تبرز أحيانا إلى العلن في شكل مذهل، مثل التقطير وربما البارود. وحملت الأندلس بعد المشرق هذا المشعل وقدّم يهودها مساهمات نشيطة. ورفع ابن باجة وابن طفيل وابن رشد الفكر الفلسفي في القرن الثاني عشر إلى رتبة لم تبلغها منذ العصر القديم.
هذا هو المجموع الفلسفي الذي تعودنا أن نطلق عليه صفة العربي لأنه مدوّن باللغة العربيّة. لكنه في الحقيقة تراث إغريقي ساساني. وقد يكون أكثر دقّة أن نصنفه إغريقيا لأنّ العناصر الأكثر حيوية في هذا كله قد أتت من اليونان. في عصور الانحطاط تلك كانت قيمة العالم تتحدّد بما تتوفر لديه من معرفة بعلوم اليونان القديمة وكانت اليونان المصدر الوحيد للمعرفة والتفكير السليم. ولئن تفوقت سوريا وبغداد على الغرب اللاتيني فإنما السبب الوحيد لذلك قرب مفكريها من الميراث الإغريقي. كان أكثر يسرا أن نعثر على كتاب لإقليدس أو بطليموس أو لأرسطو في حرّان من أن نعثر عليه في باريس. يا للأسف! ، لو أنّ البيزنطيين رضوا آنذاك أن يكونوا أقلّ غيرة في المحافظة على كنوزهم الفكريّة التي لم تعد مقروءة عندهم! يا للحسرة! لو وجد منذ القرن الثامن أو التاسع أشخاص مثل بوساريون (Bessarion) ولسكاريس (Lascaris)! لو حصل هذا لما احتجنا لهذه الدورة الغريبة التي جعلت علوم الإغريق تصلنا في القرن الثاني عشر عبر سوريا وبغداد وقرطبة وطليطلة. إن عناية خفية قد جعلت مشعل الفكر البشري إذن بدأ يخبو بين يدي شعب تلقفه شعب آخر يرفعه ويؤجج بريقه. فهذه العناية هي التي منحت أهمية خاصة لأعمال هؤلاء السوريين المساكين وهؤلاء الفلاسفة المضطهدين وهؤلاء الحرّانيين الذين عاشوا خارج الزمان بسبب كفرهم. لقد تلقت أوروبا خميرة التراث القديم التي كانت ضرورية لنهضتها وانبثاق عبقريتها بفضل تلك الترجمات العربية لكتب الفلسفة والعلوم الإغريقية.
فعلا، فيما كان ابن رشد، آخر الفلاسفة العرب، يسلم الروح في المغرب حزينا منبوذا، كان غربنا يتهيأ لميلاد جديد. عثرت أوروبا على عبقريتها وبدأت هذا التطوّر الرائع الذي لن ينتهي قبل أن يحرّر العقل تحريرا تاما. هنا، على مرتفعات سانت جنفياف، نشأ المصنع الجديد للعمل العقلي. ولم يكن ينقصه غير الكتب والمصادر من العصر القديم. يبدو لأوّل وهلة أنّ الأكثر منطقيّة أن تطلب تلك المصادر من مكتبات القسطنطينية التي احتفظت بالأصول بدل أن تطلب من تراجم هي في الغالب رديئة ومن لغة لم تكن مهيأة حقا لنقل التراث الإغريقي. على أنّ المنازعات الدينيّة كانت قد أحدثت شرخا بين العالمين اللاتيني واليوناني ازداد عمقا بسبب الحملة الصليبية الملعونة في سنة 1204. ثم إنه لم يكن لدينا مختصون في الهيلينستية فانتظرنا ثلاثة قرون قبل أن نحصل على لوفابر ديتابل (Lefèvre d’Etaples) أو بوديه (Budé).
وفي غياب الفلسفة الإغريقية الحقيقية التي كانت مطمورة في المكتبات البيزنطية اتجه البحث نحو إسبانيا كي تستخرج علوم إغريقية رديئة الترجمة مغشوشة. لن أذكر جيربرت (Gerbert) لأن رحلاته بين المسلمين يحيط بها شكّ قويّ، لكننا نرى منذ القرن الحادي عشر كيف كان ليون الإفريقي متفوّقا في معارفه بالمقارنة بالسائد في عصره وبلده لأنه حظي بتعليم إسلامي. وقد تشكّل من 1130 إلى 1150 مجمع نشيط يضمّ مترجمين استوطنوا طليطلة وعملوا تحت إشراف المطران رايموند (Raymond) وتولى هذا المجمع مهمة النقل إلى اللاتينية للكتب الأكثر أهمية في العلوم العربيّة. وقد دخل أرسطو العربي مظفرا إلى جامعة باريس منذ السنوات الأولى للقرن الثالث عشر. نفض الغرب عن نفسه دونية استمرّت أربعمائة سنة أو خمسمائة سنة. فحتى ذلك الحين كانت أوروبا تابعة في علومها للمسلمين. وفي منتصف القرن الثالث عشر كان الميزان بين الطرفين متأرجحا. وبداية من 1275 تقريبا بدأت تظهر بوضوح حركتان: البلدان الإسلاميّة تنحدر في انحطاط فكري شديد قاتم وأوروبا الغربية تدخل بقوّة في الطريق الواسعة للبحث العلمي عن الحقيقة. إنّه منحى عظيم لا يمكن تحديد أبعاده إلى اليوم.
الجزء الثاني من محاضرة إرنست رينان
الإسلاميّة والعلم الويل لمن أصبح غير نافع للرقي الإنساني، إنّه يحكم على نفسه بالإلغاء! لقد اختفت العلوم المدعوة بالعربية بعد أن نقلت لقاح الحياة إلى الغرب اللاتيني. وبينما كان ابن رشد يحقّق في المدارس اللاتينية شهرة تعادل شهرة أرسطو كان مصيره بين أبناء دينه أن يقبع في النسيان. وإذا تجاوزنا سنة 1200 لم نعد نعثر على فيلسوف عربي واحد جدير بالاهتمام. كانت الفلسفة مضطهدة دوما في العالم الإسلامي لكن ليس بالقدر الذي يلغي وجودها أمّا ابتداء من سنة 1200 فإن الردّة الدينية قد قضت عليها قضاء تاما. ولم يعد المؤرخون والأدباء يتحدثون عن الفلسفة إلا حديث ذكرى عن شيء غير مرغوب فيه. أتلفت المخطوطات الفلسفية أو أصبحت نادرة الوجود. لم يسمح بالتواصل من علم الفلك إلاّ ما يخدم تحديد مواقيت الصلوات. سيطر العرق التركي على الإسلام فنشر في كلّ مكان تدينه الخالي من كلّ نفس فلسفي أو علمي. ومنذ ذلك الحين لم يشهد الإسلام مفكرا عقلانيا منفتحا، سوى استثناءات قليلة مثل ابن خلدون، فقد قضى على الفلسفة والعلوم بين أتباعه.
لم أقصد يا سادتي أن أتهاون بشأن هذه العلوم العظيمة المدعوة بالعربية فهي تمثّل مرحلة مهمة من تاريخ تطوّر العقل البشري. أجل بالغ البعض في تأكيد أصالتها في مسائل عديدة منها خاصة المسائل الفلكية لكن ليس من الحكمة الانتقال من النقيض إلى النقيض ومعاملتها بالازدراء. حقا لقد وجدت مرحلة عربية امتدت من زمن انهيار حضارة العهد القديم في القرن السادس إلى ظهور العبقرية الأوروبية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وقد تواصل خلالها تراث العقل الإنساني في الأقاليم التي فتحها الإسلام. لكن ما هو العربي في هذه العلوم المدعوة بالعربية؟ أنه اللغة ولا شيء غيرها. حملت الغزوات الإسلامية لغة الحجاز إلى كلّ أطراف العالم فكان مصير هذه اللغة شبيها بمصير اللاتينية في الغرب عندما تحوّلت لغة التعبير عن المشاعر والأفكار وفقدت علاقتها باللهجة القديمة. يعدّ ابن رشد وابن سينا والبتّاني عربا كما يصنّف ضمن اللاتينيين ألبرت الأكبر وروجير باكون وفرنسيس باكون وسبينوزا. إنها لمغالطة كبرى أن ننسب الفلسفة والعلوم العربية للجزيرة العربية، فكأننا حينئذ ننسب إلى مدينة روما كل الأدب المسيحي اللاتيني وكل تراث المرحلة المدرسية ومجموع أعمال عصر النهضة وعلوم القرن الخامس عشر وجزء من القرن السادس عشر لأن ذلك جميعا قد دوّن باللغة اللاتينية. وإن مما يثير الانتباه أننا إذا رجعنا إلى قائمة الفلاسفة والعلماء المدعوين بالعرب وجدنا واحدا لا غير من أصل عربي وهو الكندي والبقية فرس أو من شعوب بحر القزوين أو من إسبانيا أو من أهل بخارى وسمرقند وقرطبة وإشبيلية. لم تكن دماؤهم عربية كما لم تكن عقولهم عربية. استعملوا اللغة العربية مضطرين كما اضطر إلى اللاتينية مفكرو العصر الوسيط فطوّعوها لحاجتهم. واللغة العربية هي لغة شعر وخطابة لكنها أداة غير مناسبة للميتافيزيقا. والفلاسفة والعلماء العرب كانوا في الغالب يكتبون في أسلوب قليل الفصاحة.
إذا لم تكن هذه العلوم عربية فهل هي إسلامية على الأقلّ؟ هل منحت الديانة الإسلامية هذه المباحث العقلية شيئا من الرعاية؟ لم يحدث هذا أبدا. كانت الحركة العلمية كلها من عمل الفرس والمسيحيين واليهود والحرانيين والإسماعيلية والمسلمين الثائرين ضد دينهم. ولم تحصل هذه الحركة من الإسلام الرسمي إلا على اللعنات. أدان علماء الدين دون رحمة الخليفة المأمون الذين كان من بين الخلفاء الأكثر حماسا لاستقبال فلسفة الإغريق، وفسروا المصائب التي رافقت عهده بأنها عقاب بسبب سماحه بدخول عقائد غريبة على الإسلام. وقد حدثت مرات أن أحرقت كتب الفلسفة والفلك في الساحات العامة أو أغرقت في الآبار وخزانات المياه تقربا من العامة التي هيجها الأئمة. كانت صفة زنديق تطلق على كلّ من يتعاطى تلك المباحث فيضرب في الطريق العام ويحرق بيته وكثيرا ما يأمر الحاكم بقتله كي يتقرب بذلك إلى العامة.
الواقع إن الإسلام قد عمل باستمرار على اضطهاد الفلسفة والعلوم وانتهى به الأمر إلى وأد هذه المعارف. لكن من الجدير أن نميّز في هذا المجال بين فترتين من تاريخ الإسلام، تمتدّ الأولى من بدايته إلى القرن الثاني عشر وتمتد الثانية من القرن الثالث عشر إلى أيامنا هذه. كان الإسلام في الفترة الأولى ملغوما بالملل والنحل ومعتدلا بفضل المعتزلة الذين هم بمثابة البروتستانت، وكان أقلّ تنظما وتعصبا من الفترة الثانية عندما سقط بين أيدي أعراق التتار والبربر وهي أعراق ثقيلة وعنيفة وفاقدة للسمو العقلي. وخاصية الإسلامية أنها تتلقّى من أتباعها إيمانا لا ينفكّ يقوى مع تقدّم الأزمنة. العرب الأوائل الذين اعتنقوا الإسلام كانوا بالكاد يؤمنون برسالة النبي وظلّ تردّدهم في الإيمان واضحا مدّة قرنين أو ثلاثة قرون. ثم أعقب ذلك عصر السيطرة المطلقة للعقيدة ولم يعد من مجال للتمييز بين الروحي والزمني وأصبح التعزير والعقاب يهدّد كلّ من تسوّل له نفسه التهاون بالعبادات. هذا النظام لم يعرف أكثر قسوة منه إلا محاكم التفتيش الإسبانية.
ليس أضرّ بالحريّة من نظام اجتماعي يسيطر فيه الدين سيطرة مطلقة على الحياة المدنية. ولم نر في الأزمنة المعاصرة إلا مثالين من هذا النظام أحدهما العالم الإسلامي والثاني الدولة البابوية السابقة. مع أنّ البابوية الزمنية لم تحكم إلا رقعة محدودة والإسلام سيطر على أجزاء شاسعة من الكرة الأرضية فرض فيها أشدّ التعاليم معارضة للرقي ومنها مبدأ قيام دولة على وحي مزعوم وتنظيم المجتمع بمقتضى اللاهوت.
الليبراليون الذين يدافعون عن الإسلام لا يعرفون منه شيئا. الإسلام هو الاتحاد الكامل بين الروحي والزمني، وهو سلطان العقيدة، وهو أشدّ ما حملت الإنسانية على عاتقها من الأغلال. أعيد قولي إنّ الإسلام تحمّل الفلسفة مرغما في النصف الأوّل من العصر الوسيط لأنه لم يكن قادرا على منعها ولم يكن في حالة تجانس تيسّر له ذلك ولم يكن يملك وسائل القمع. كانت الشرطة كما رأينا بأيدي المسيحيين وكان شغلها الأول تتبع تحركات العلويّين فكانت أشياء كثيرة تخترق سياج الممنوعات. ولما توفّر للإسلام أتباع كثيرون شديدو الإيمان أصبح ديدنه التنكيل بكلّ مخالف. وكان المطروح جمعا بين الاضطهاد الديني والنفاق. كان الإسلام متحرّرا (ليبراليا) عندما كان ضعيفا وأصبح عنيفا عندما امتلك وسائل القوّة. لا داعي والحالة تلك أن ننسب إليه شرف ما احتفظ به مكرها. إنّ نسبة شرف الفلسفة والعلوم إلى الإسلام لأنه لم يبادر بسحقها هو مثل نسبة شرف مكتشفات العلم الحديث إلى اللاهوتيين المسيحيين. ولم يكن اللاهوت الغربي بأقل تسلّطا من الإسلام، إلا أنّه لم ينجح في القضاء على الروح الحديثة كما قضى عليها الإسلام في البلدان التي سيطر عليها. لم ينجح الاضطهاد اللاهوتي في غربنا إلا في بلد واحد هو إسبانيا حيث حلّ نظام فظيع يقوم على القمع وخنق الروح العلمية. وأنا أسارع بالقول إن ذلك البلد النبيل سوف يثأر لنفسه يوما ما. ما حدث في العالم الإسلامي هو ما كاد يحدث في أوروبا لو نجحت محاكم التفتيش وفيليب الثاني وبيوس الخامس في مخططاتهم القاضية بمنع البشرية من الرقيّ. أنا لا أشعر صراحة بالرغبة في أن أشكر الأشرار على ما كانوا عاجزين عن إيقاعه من شرور. إنّ للأديان دورا نبيلا إذا اضطلعت بتخفيف آلام الإنسان وتقوية مواطن الوهن لإنسانيتنا البائسة. لكن لا داعي أن نشكرها على ما تطوّر رغما عنها وقد حاولت وأده منذ النشأة. وكما لا يرث القاتل ضحيته فلا يجوز أن ينتفع المضطهد بما حاول اضطهاده.
إنّ الخطأ فيما يقوم به البعض بدافع الكرم هو أنهم ينسبون إلى تأثير الإسلام حركة تطورت بالرغم عنه وكان من حسن حظها أنها أفلتت من شراكه. وأن ننسب إلى الإسلام شرف ابن سينا وابن زهر وابن رشد يعادل أن ننسب إلى الكاثوليكية شرف غاليليو. حاول اللاهوت الكاثوليكي أن يعطّل غاليليو لكنه لم يكن بالقوّة التي تكفي لإيقاف مساره، وليس هذا سببا كافيا لأن نعترف له بالفضل. أني أبرئ نفسي من نية الإساءة إلى أيّ من الأديان البشرية التي بحث فيها الضمير الإنساني عن السكينة بسبب قضايا الكون والمصير التي تؤرقه ولا حلّ لها. وللدين الإسلامي مستقبله إذا نظرنا إليه من جهة كونه دينا. ولم تطأ قدماي مسجدا قط إلاّ وتملكتني عاطفة حادّة بل لعلّي أشعر بالحسرة لكوني لست مسلما. لكن الإسلام كان للعقل البشري ضررا محضا. لا شكّ أنّ العقول التي حرمها من الأنوار كانت مهيأة لذلك بسبب عوائق ذاتية لكنّه اضطهد الفكر المتحرّر ولن أقول إنّ اضطهاده كان أكثر قسوة من أديان أخرى لكن أقول إنّ اضطهاده كان الأكثر فعالية. لقد حكم على البلدان التي ضمّها إليه بأن تظلّ منغلقة عن الثقافة العقلية.
إنّ ما يميّز المسلم جوهريا هو كونه يحمل ضدّ العلم حقدا دفينا وقناعة صلبة بأن البحث غير مجد بل هو مدعاة إلى الخطأ ويشبه أن يكون كفرا. والمسلم ينأى بنفسه عن العلوم الطبيعية لأنه يراها منافسة للعلم الإلهي ويعادي العلوم التاريخية لأنّها تحتفظ بذكرى ضلالات الماضي. ولعلّ أفضل شاهد على ما نقول هو الشيخ رفاعة (الطهطاوي) فقد أقام بباريس سنوات عديدة واعظا للبعثة المصرية ثم عاد إلى مصر وكتب رحلة تتضمن معاينات عن المجتمع الفرنسي شديدة الغرابة. كانت فكرته الرئيسية أن العلوم الأوروبية القائمة على مبدأ ثبات قوانين الطبيعة هي كلها ضلالة، ولا بدّ من الاعتراف بأنّ وجهة نظره تتناسب والرؤية الإسلامية. فالعقائد المنزلة تتعارض دائما مع البحث الحرّ الذي قد يخالفها. ليست محصلة العلوم أن تقضي على الألوهية وإنما أن تبعدها عن عالم الجزئيات حيث كان المؤمنون يرون حضورها بدون انقطاع. فالتجربة تحاصر مجال الخوارق وتضيقه والحال أنه قاعدة كلّ لاهوت. والإسلام وفيّ لمنطقه إذا ما حارب العلم لكن الوفاء قد يتحوّل أحيانا إلى خطر على صاحبه. كان من سوء حظّ الإسلام أنّه نجح في مسعاه فجنى على نفسه بقضائه على العلم وحكم على أتباعه بأن يظلوا في الدرجة الدنيا من الرقي البشري.
إذا انطلقنا من فكرة أن في البحث تعديا على حقوق الله فإننا نصل حتما إلى تعطيل ملكة العقل والإخلال بمقتضيات الدقة والعجز عن الرأي الصائب. ينهي المسلمون كلّ قول بالعبارة "الله أعلم"، إنه لأمر جيّد أن يؤمن المرء بالله لكن ينبغي أن لا تبلغ قوّة الإيمان إلى هذه الدرجة. حلّ السيّد لايارد بالموصل ورغب عند وصوله في أن يجمع بعض المعلومات عن المدينة وسكانها وتجارتها وتقاليدها لأنّه كان صاحب عقل منظم، فتوجه يطلب ذلك من قاضي المدينة الذي وافاه بالجواب التالي:
"صديقي الألمعي فخر الأحياء. إنّ ما تطلبه منّي هو أمر غير مجد بل هو أمر مضرّ. لقد قضيت كلّ حياتي في هذا البلد ولم يخطر ببالي قط أن أعدّ بيوته أو سكانه. ولا أرى من شأني أن اهتم بالبضائع التي حمّل بها زيد دابته أو شحنها عمرو في مركبه. أما تاريخ هذه المدينة فعلمه عند الله وهو القادر وحده أن يعدّ ضلالات أهلها قبل أن ينير سبحانه بصائرهم. ومن الخطر أن نحاول نحن البشر معرفتها.
"يا صديقي، يا عزيزي، لا تسعَ لمعرفة ما هو ليس من شأنك، فقد قدمت بيننا فألقينا عليك السلام وقابلناك بالترحيب، فلترحل الآن عنا بسلام. الحقيقة أنّ كلّ ما ذكرته لي لا يمسني بسوء لأنّ القائل والسامع لا يلتقيان. أنت اتبعت سنة قومك فجبت الأقطار ولم تجد لك بأرض مستقرّا. أما نحن فنحمد الله على أننا ولدنا هنا ولا رغبة لنا بالرحيل.
"اعلم يا ابني أن رأس الحكمة أن تؤمن بالله. هو خالق الكون فهل نحاول أن نبلغ علمه ونسعى إلى كشف أسرار مخلوقاته؟ تأمّل ذلك النجم الذي يرتفع في السماء والآخر الذي يجرّ ذنبه ويمضي سنوات ليقترب منا وسنوات ليبتعد، إنّ صانع النجمين هو الأكثر قدرة على أن يوجّههما في السماء.
"لكنك قد تقول: إليك عني يا رجل فأنا عالم رأيت من الأشياء ما لم تر ولم تعلم. إذا ظننت أن ما رأيت وما علمت يجعلك أفضل مما أنا عليه فلا بأس بذلك لكني أحمد الله أني لا أبحث فيما يزيد عن حاجتي من الأشياء. أنت عالم بما أنا في غنى عنه وشاهد على ما أنا متبرّئ منه. وهل إذا زادت معرفتك صنعت لنفسك معدة ثانية أو إذا تدربت على التنقيب اكتشفت بنفسك طريق الجنّة؟
"يا صديقي، إذا طلبت السعادة فقل لا إله إلا الله ثم تجنب الشرور والرذائل. فإذا فعلت ارتفعت عن نفسك خشية الموت والخوف من البشر لأنّك تدرك أنّ ساعتك إذا حانت لا تقديم فيها ولا تأخير."
إنّ لهذا القاضي طريقته في التفلسف، لكن الفارق واضح: إننا نعجب بالروح الطريفة لرسالته أما هو فيرى أنّ ما نقوله نحن هو أمر مستهجن. هذه روح مضرّة بالمجتمع بقدر ما هي مضرّة بصاحبها. ولضعف الروح العلمية نتيجتان وخيمتان هما انتشار الخرافات وغلبة الوثوقية وقد تكون الثانية هي الأشدّ خطرا. والشرق ليس ميالا للخرافة لكنّ داءه الأكبر هو الوثوقية التي تفرض نفسها بالقوّة على المجتمع بأسره. ليست الغاية التي تنشدها الإنسانية الاطمئنان للجهل وإنما الحرب الضروس ضد الباطل والنضال المرير ضدّ الشرّ.
إنّ العلم روح المجتمع والعلم هو العقل وهو السبيل للتفوّق العسكري والصناعي ومنه ينشأ يوما التفوّق الاجتماعي وأقصد سيادة قدر من العدل بين البشر بما يناسب روح الكون. العلم هو الذي يضع القوّة في خدمة العقل. ثمة في آسيا جراثيم توحش تشبه تلك التي عرفتها الغزوات الإسلامية الأولى وإعصار جنكيز خان. لكن العلم هو الذي سيقطع عليها الطريق اليوم. لو اعترضت المدفعية سبيل عمر (بن الخطاب) أو جنكيز خان لما أمكن لهما أن يتخطيا الصحراء. علينا أن لا نتوقّف عند الشذوذ المؤقت. ألم يذمّ العقلاء الأسلحة الناريّة في بداية عهدها ثم اكتشفوا بعد ذلك مساهمتها الثمينة في انتصار الحضارة؟ يقيني الشخصي أن العلم خير وأنه يمنح بنفسه أدوات مقاومة ما يرتكب باسمه من شرور وأن العلم لن يخدم في نهاية المطاف إلا الرقي الإنساني، أعني التقدّم الحقيقي الذي لا ينفصل عن احترام الإنسان والحرية.
كان يمكن لمحاضرة رينان أن تمرّ دون صخب، لولا عاملين أساسين. أولهما شخص رينان الذي لم يكن مجرد باحث أكاديمي بل كاتب يثير الجدل في كل مواقفه ويمارس تأثيرا كبيرا في الرأي العام السياسي والثقافي في فرنسا. ثانيا، وجود ثلة من المثقفين المسلمين في باريس كانوا قد لجأوا إليها بعد الاحتلال البريطاني لمصر سنة 1882. تحوّلت المحاضرة لهذين السببين إلى حدث إعلامي وحضاري ولقيت صدى ضخما وتصدّى كثيرون للردّ عليها. ومن بين الردود ما كتبه جمال الدين المدعو بالأفغاني ونشر في صحيفة "لوديبا" يوم 18-05-1883.
الردّ على رينان
صحيفة "لوديبا"، الجمعة 18 مايو / أيار 1883.
سيدي،
اطلعت في العدد الصادر بتاريخ 29 مارس من صحيفتكم المحترمة على محاضرة في الإسلام والعلم ألقاها في محفل مرموق السيد رينان الشهير الذي عمّ صيته الغرب كله وبلغ أقاصي البلدان الشرقية. ولقد أوحت إلي هذه المحاضرة ببعض الملاحظات رغبت في تسجيلها في هذه المقالة متشرفا بإرسالها إليكم رجاء أن تنشر على أعمدة صحيفتكم.
لقد سعى السيد رينان إلى توضيح مسألة تتعلق بتاريخ العرب ظلت إلى الآن غامضة، كما سعى إلى إزاحة الستار عن حقيقة التاريخ العربي. إلا أن الحقائق التي يقدمها قد تعكّر صفو من أضمر الإجلال لهذا الشعب العربي الذي لا يمكن أن يتهم بكونه قد اغتصب دون حق المكانة والرتبة اللتين احتلهما سابقا في التاريخ. ولا نظن أن السيد رينان كان يقصد النيل من مجد العرب، بل نراه قد استنفد جهده لاكتشاف حقيقة تاريخية وإذاعتها كي تكون معلومة بين الناس، وخاصة الباحثين في أثر الديانات في تاريخ الأمم والحضارات. فأبادر بالتسجيل أن السيد رينان قد برع في هذه المهمة العسيرة لأنه قدّم استدلالات على مسائل كانت خافية إلى حدّ الآن. إني أجد في محاضرته ملاحظات رشيقة ونظرات جديدة وروعة يتعذر وصفها. ولم أطلع على هذه المحاضرة إلا من خلال ترجمة تقريبية لمعانيها، فلو كنت قادرا على قراءتها بالفرنسية لأحطت بأفكار هذا الفيلسوف بأفضل مما فعلت. فليتقبل مني تحية متواضعة تكون عربون احترام وتعبيرا صادقا عن إعجابي. وأنقل إليه في هذه المناسبة قول شاعر كان يحب الفلسفة هو المتنبي، فهو القائل منذ قرون
وذنبي تقصيري وما جئت مادحا بذنبي ولكن جئت أسأل العفو
إن محاضرة السيد رينان تقوم على فكرتين أساسيتين. فقد اتجه الفيلسوف الألمعي إلى الاستدلال على أن الديانة الإسلامية هي في جوهرها ديانة تناقض تقدم العلوم، والاستدلال على أن الأمة العربية تبغض في طبعها الفلسفة وعلوم ما بعد الطبيعة.
كأن السيد رينان يقول: إن الفلسفة نبتة نفيسة يبس عودها بين أيدي العرب فكأنها تحترق بلفح رياح الصحراء. إلا أن قراءة محاضرته تدفع إلى التساؤل إذا كانت هذه العوائق تختص بالديانة الإسلامية وطريقة انتشارها في العالم، أم هي عوائق تختص بطبائع الأمم التي اعتنقت الإسلام وما تتميز به من أخلاق واستعدادات، سواء الأمم التي اعتنقت الإسلام طوعا أو بالقوة؟ لا شك أن ضيق الوقت قد حال دون توضيح المحاضر هذه المسائل. على أن الداء الذي يشير إليه حاصل، ولئن كان عسيرا تحديد الأسباب بدقة والاستدلال بالقاطع من البراهين فإن الأكثر عسرا أن نجد لهذا الداء الدواء الشافي.
أقول حول الفكرة الأولى: لا توجد بين الأمم أمّة قادرة منذ النشأة أن تتبع طريق العقل المحض. إن الرعب الذي يخيّم على كل أمّة ويحكم عليها غشاءه لا بدّ أن يمنع عنها القدرة عن التمييز بين الخير والشر وعن إدراك أسباب السعادة وتبيّن مصادر الخيبات وعوامل استمرار الشقاء. فتظل عاجزة عن استجلاء العلل وتبين الآثار.
هذه حال تمنع الأمة أن تنقاد لما فيه خيرها أو تمتنع عن المضر بها بمحض الإرادة والاختيار. فاضطرت الإنسانية أن تبحث خارجها عن موئل للسكينة وملاذ يجد فيه ضميرها المضطرب شيئا من الراحة. وبرز حينئذ بين الناس معلّمون لئن لم يكونوا قادرين على حملها على إتباع سبيل العقل فقد دفعوا بأبصارها في متاهات الغيب وفتحوا أمام أنظارها آفاقا رحبة ترضي خيالها وتجد فيها مجالا للتعبير عن آلامها عندما يتعذّر عليها الإشباع الكامل لرغباتها.
إن الإنسان لما كان جاهلا في بدئه بعلل الحوادث المحيطة به وأسرارها فقد رام تسليم أمره إلى المعلمين يتبع إرشادهم ويخضع لأوامرهم. ففرضت عليه الطاعة للكائن الأسمى الذي نسب إليه هؤلاء المعلمون كل الأحداث ومنعوا أن يجادل في الشر والخير. إني أسلم أن الإنسان قد أخضع بذلك إلى أثقل استعباد وأكبر ازدراء. لكن هل ينكر أحد أن ذلك التهذيب الديني، سواء أكان مسيحيا أم إسلاميا أم وثنيا، هو الذي كان مرشد الأمم للخروج من حال التوحش والارتقاء في طريق المدنية؟
وإذا سلّمنا أن الديانة الإسلامية كانت عائقا يحول دون تطوّر العلوم فما الذي يدفعنا إلى اليقين أن هذا العائق لا يرتفع في يوم من الأيام؟ بماذا تختلف الديانة الإسلامية عن غيرها من الديانات؟ أليست الأديان جميعا تشترك في التعصب، كل بطريقته الخاصة؟ خذ مثلا الديانة المسيحية، وأقصد الناس الذين اتبعوا تعاليم هذه الديانة وتكيف سلوكهم بأحكامها. لقد خرجت من الطور الأول الذي أشرت إليه وهي تتقدم بخطى سريعة في طريق العلم والتطور بعد أن أصبحت حرّة مستقلة. أما المجتمع الإسلامي فلم يتخلص إلى الآن من وصاية الدين. وكلما تذكرت أن الديانة المسيحية سبقت الإسلام بقرون إلا واعتراني الأمل في أن تحطّم الأمة الإسلامية يوما أغلالها وتتقدّم شامخة في طريق المدنية على شاكلة الغرب الذي لم تثنه عن ذلك العقيدة المسيحية رغم صرامتها وتعصبها.
لن أقبل أبدا أن يستثنى الإسلام من هذا المسار، وأنا أدافع هنا في وجه السيد رينان عن قضية مئات من ملايين البشر الذي سيقبعون في غياهب التوحش والجهل لولا هذا الأمل، ولا أدافع عن قضية الدين الإسلامي.
أقرّ بأن الإسلام حاول خنق العلم وعرقلة تطوّره، فنجح في تعطيل حركة الفكر والفلسفة وأثنى العقول عن البحث عن الحقائق العلمية. لكن الديانة المسيحية لم تكن على علمي براء مما يشبه هذا، فرؤساء الكنيسة الكاثوليكية وهم الممثلون للأغلبية لم يلقوا إلى الآن أسلحتهم في المعركة ضد العلم. ومازالوا يحاربون حربا ضروسا ما يدعونه التدليس والضلالة.
إني أدرك أن المسلمين سيواجهون مصاعب جمة في سبيل بلوغ المدنية لأنهم ممنوعون من اقتحام الطرق الفلسفية والعلمية. والمؤمن عندهم مدعوّ إلى الابتعاد عن طلب الحقيقة العلمية التي هي حقيقة الحقائق، كما يشهد ذلك الأوروبيون. فهو مثل الثور المقرون إلى العربة، إنه مقرون إلى العقيدة مستعبد لها مدفوع أبدا إلى السير في المنهاج الذي خطه له الفقهاء. كما نراه مقتنعا بأن دينه حاو كل الأخلاق والعلوم فلا يرى حاجة إلى التطلع إلى مصدر غيره ولا يشعر بفائدة في أن يرهق نفسه بتفكير يبدو غير ذي جدوى بعد أن ساد لديه اليقين بأنه يمتلك كل الحقائق. هل يفقد الإيمان ويترك ما هو عليه من سعادة أو يدرك أن الكمال ليس الدين الذي يدين به؟ إن الخشية من لفح الحيرة تجعله نفورا من إعمال العقل.
أدرك هذا تمام الإدراك، لكني أخالف السيد رينان في الوصف الذي قدّمه لكم للفتى العربي المسلم عندما رسم هيأته في عبارات قاسية، قائلا إنه يتحوّل بتقدّم السن إلى متعصب أحمق متكبر لشعوره بامتلاك الحقيقة المطلقة. إن هذا الفتى ينتمي إلى جنس ترك بالغ الأثر عند دخوله حلبة التاريخ، ولم يكن أثره السيف وحده فقد قدّم أيضا الأعمال الجليلة التي تثبت ولعه بالعلوم، العلوم جميعا ومنها الفلسفة التي اعترف أنه لم يتحمّلها إلا فترة قصيرة.
أراني أساق هنا إلى الحديث عن المسألة الثانية التي طرحها السيد رينان في محاضرته ببراعة واضحة. لا ينكر أحد أن الأمة العربية خرجت من وضع التوحش الذي كانت عليه في الجاهلية وأخذت تسير في طريق التقدم العلمي والذهني في سرعة لا تعادلها إلا سرعة الفتوحات، فاستوعبت خلال قرن كل العلوم الإغريقية والفارسية التي كانت في منشئها الأصلي قد ّتطوّرت ببطء وامتدّ تطورها قرونا. وفي مدة لم تتجاوز القرن أيضا امتدت فتوحات العرب من الجزيرة العربية إلى جبال الهمالايا وقمم البيرنيس. فتقدمت العلوم تقدّما مدهشا في تلك الفترة وشملت كل مجتمعات العرب والمجتمعات الخاضعة لسلطانهم. كانت رومية وبيزنطة في السابق مهدين للعلوم اللاهوتية والفلسفية ومركزي أنوار المعارف الإنسانية جميعا، وقد دخل اليونان والرومان عصر المدنية منذ أمد بعيد فكانت لهم القدم الراسخة في ميدان العلم والفلسفة. ثم جاء عصر توقف فيه علماء اليونان وروما عن البحث وتخلوا عن الدرس، فهدمت النصب التي أقاموها للعلم ودرجت كتبهم القيمة في طي النسيان. وقد كان العرب في وضعهم الأصلي من الجهل والتعصب حين ورثوا عن الحضارات المتمدنة ما تخلت عنه، ومع ذلك فقد أحيوا العلوم المندثرة وطوروها وأعادوها إلى الحياة بما لم يسبق له مثيل. أليس هذا دليلا على تعلقهم الفطري بالعلم؟
أجل، أخذ العرب عن اليونان فلسفتهم كما جرّدوا الفرس عن ما اشتهروا به في العصور القديمة. لكن هذه العلوم التي اغتصبوها بحقّ الفتح قد طوّروها ووضحوها ووسعوها ونسقوها بذوق كامل ودقة نادرة. ثم إن روما وبيزنطة لم تكونا أقرب للعرب وعاصمتهم بغداد من الفرنسيين والألمان والإنجليز، فلماذا لم يبذل هؤلاء جهدا في سبيل استغلال الكنوز العلمية المطمورة في تلك المدينتين إلى أن أنارت المدنية العربية على قمم جبال البرينيس وأشعت ضياء وبهاء على الغرب؟ أجل، استقبل الأوروبيون أرسطو بعد أن توشّح بالزي العربي، لكنهم لم يهتموا به عندما كان قابعا بين جيرانهم اليونان (المسيحيين الشرقيين). أوليس هذا برهان ناصع ثان على تفوّق العرب في مجال الفكر وتعلقهم الفطري بالفلسفة؟
حقا سقطت في الجهل ثانية الأقطار التي كانت مراكز المعرفة مثل العراق والأندلس بل أصبحت أوكارا للتشدّد الديني، لكن لا يمكن أن نستنتج من هذا المصير البائس أن العرب كانوا غائبين عن الحركة العلمية والفلسفية في القرون الوسطى وهم الذين كانوا أصحاب السيادة آنذاك.
إن السيد رينان يقرّ لهم بذلك على كل حال، ويعترف أنهم حفظوا قرونا تراث الإنسانية العلمي وطوّروه. وهل من رسالة أكثر نبلا من هذه يمكن لأمة أن تضطلع بها؟ يسلّم السيد رينان أن الأقطار الإسلامية ضمّت علماء ومفكرين عظاما طوال خمسة قرون من سنة 775 ميلادي إلى أواسط القرن الثالث عشر. وكان العالم الإسلامي آنذاك يتفوق على العالم المسيحي في الثقافة والعلوم. لكننا نراه يقول إن النابغين من رجال الإسلام كانوا في الغالب من أصل حراني أو أندلسي أو فارسي أو أنهم كانوا من نصارى الشام. ولست أقصد أن أغمط علماء الفرس صفاتهم الباهرة ولا أن أغض الطرف عن الدور الجليل الذي اضطلعوا به في العالم العربي، ولكن أرجو أن يسمح لي بأن ألاحظ أن الحرانيين كانوا عربا وأن العرب لما احتلوا إسبانيا والأندلس لم يفقدوا جنسيتهم وظلوا عربا. إن اللغة العربية كانت قبل الإسلام عدّة قرون لغة الحرانيين، ولا يتناقض ذلك وكونهم قد حافظوا على ديانتهم القديمة وهي الصابئية كما لا يلغي ذلك انتماءهم للجنس العربي. كذلك كان رهبان الشام في الغالب من العرب الغساسنة الذين اعتنقوا المسيحية.
أما ابن باجة وابن رشد وابن طفيل فلا يمكن القول إنهم كانوا أقل عروبة من الكندي لأنهم نشأوا خارج الجزيرة العربية، فالعامل الأكبر في تميز الأجناس البشرية هو اللغة، ولو ارتفع التمايز باللغة لنسيت الأمم أصولها. إن العرب الذين سخروا أنفسهم لخدمة الشريعة المحمدية وكانوا في الآن ذاته رعاة ومحاربين لم يفرضوا لغتهم على المغلوبين بل احتفظوا بها لأنفسهم وكانوا غيورين بها على الغير. من المسلم أن الإسلام قد دخل البلدان المفتوحة بالعنف الذي نعلم ففرض لغته وتقاليده وعقائده ولم تقدر هذه البلدان على التخلص من نفوذه، وتمثل بلاد فارس مثالا على ما نقول. لكننا إذا بحثنا في القرون السابقة لظهور الإسلام وجدنا علماء فارس على دراية باللغة العربية. فلئن مكنت الفتوحات من تسريع انتشار اللغة العربية فقد أصبح علماء فارس بعد اعتناقهم الإسلام يفخرون بتحرير مؤلفاتهم في لغة القرآن. لا شك أنه لا يحقّ للعرب أن ينسبوا لأنفسهم مجد انتماء هؤلاء الكتاب إليهم لكننا نعتقد أنهم لا يحتاجون إلى ذلك إذ بينهم العدد الكافي من العلماء والكتاب العظام.
ثم ما عسى تكون النتيجة لو أننا تابعنا العرب منذ انطلاق الفتوحات إلى سيطرتهم على العالم فأقصينا كل أجنبي عنهم وعن أحفادهم ولم نعدّ من مزاياهم الأثر الذي تركوا في الأذهان والدفع الذي قدموا للعلوم؟ ألسنا نضطر حينئذ أن نقصر مزايا الفاتحين وخصالهم على حادثة الفتح وحدها؟ آنذاك يسترجع كل شعب مغلوب استقلاله المعنوي ويسند لنفسه المجد كله فلا يبقى شيء يفتخر به هؤلاء الذين زرعوا الزرع وسقوه.
لو عمّمنا هذا الأسلوب لقالت إيطاليا لفرنسا إن مازارين ونابليون إنما ينتميان إليها، ولطالبت ألمانيا وإنجلترا أن ينسب إليهما فخر من رحل من أبنائها إلى فرنسا وتعلم في جامعاتها ورفع عاليا مكانتها العلمية. أما الفرنسيون فسينسبون إلى أنفسهم الأمجاد التي حققها الأحفاد من الأسر النبيلة التي توزعت في أوروبا بعد الثورة الفرنسية.
فإذا كان الأوروبيون ينتمون جميعا إلى نفس العرق فإنه يصحّ أيضا أن يعدّ الحرانيون والسوريون منتمين إلى العائلة العربية الكبرى، وجميعهم من الساميين.
بيد أنه يمكن التساؤل كيف انطفأت جذوة الحضارة العربية بعد أن أبهرت العالم بضيائها؟ وكيف ظلّ هذا المشعل منطفئا والعرب غارقين في لجج الظلام؟
هنا تبدو الديانة الإسلامية مسؤولة، فمن الواضح أنه حيثما حلّت فقد خنقت العلم، وأعانها الاستبداد إعانة كبرى على تحقيق مقاصدها. يروي السيوطي أن الخليفة الهادي أعدم في بغداد خمسمائة فيلسوف ليطهر الإسلام من جرثومة العلم في بلاد المسلمين. وإذا سلمنا أن هذا المؤرخ قد بالغ في عدد الضحايا فلا مجال لإنكار أن هذه المجزرة قد حدثت وأنها تمثل لطخة في جبين هذه الديانة وفي تاريخ الأمة. لكن أراني قادرا على أن أجد في ماضي الديانة المسيحية حوادث من هذا القبيل. إن الديانات كلها تتشابه وإن تعددت أسماؤها ولا مجال للتوافق أو التوفيق بينهما وبين الفلسفة. فالدين يفرض على الإنسان عقائد والفلسفة تحرّره منها أو من بعضها. كيف يمكن والحال هذه أن يتوافقا؟
دخلت الديانة المسيحية أثينا والإسكندرية متواضعة متوددة، وكانت المدينتان على ما هو معلوم المركزين الرئيسيين للعلوم والفلسفة، ثم استقرت المسيحية فيهما وتوطنت فكان أول همها إلغاء العلوم الحقيقية والفلسفة. فخنقتهما ورمت بهما في أدغال المجادلات اللاهوتية، وأصبحت قادرة بذلك على أن تستدلّ على ما لا يمكن الاستدلال عليه بالعقل، من أسرار التثليث والتجسّد وتحوّل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه. تلك سنّة الأديان، كلما سادت وقويت إلا واتجهت إلى إلغاء الفلسفة، وكذلك تسلك الفلسفة إذا آلت إليها السيادة. وسيستمر الصراع بين العقيدة والنظر الحرّ وبين الدين والفلسفة استمرار التاريخ الإنساني. إنه صراع شديد أخشى أن لا تكون الغلبة فيه دائما للنظر الحرّ، فالعقل لا يوافق الجماهير وتعاليمه لا يفقهها إلا نخبة المتنورين. والعلم، على ما به من بهاء، لا يرضي الإنسانية كل الإرضاء وهي المتعطشة إلى المثل العليا التواقة إلى التحليق في الآفاق المبهمة البعيدة التي لا عهد للفلاسفة برؤيتها أو ارتيادها.
جمال الدين الأفغاني
قرأ رينان ردّ الأفغاني المنشور في صحيفة لوديبا الفرنسية بتاريخ 18/05/1883 وأجاب عليه في اليوم الموالي بتعليق نقدّم هنا تعريبه:
طالعت أمس بما هي جديرة به من اهتمام الأفكار النبيهة التي قدّمها الشيخ جمال الدين حول
محاضرتي الأخيرة بالسوربون. لا شيء أكثر فائدة من أن ندرس وعي الآسيوي المستنير وهو يعبّر عن نفسه بصدق وأصالة. والإنصات إلى الأصوات المتباينة وهي تنبعث من أنحاء العالم للدفاع عن العقلانية يدفع إلى الاعتقاد بأن البشر لئن فرقت بينهم الأديان فقد وحّد بينهم العقل. ووحدة العقل البشري هي النتيجة العظمى والمسلية التي يسفر عنها الصدام السلمي بين الأفكار إذا ما صرفنا النظر عن الادعاءات المتناقضة للرسائل المدعوة بالسماوية. يبدو اتحاد العقول السليمة في الكون لمحاربة التعصب والخرافة عملا مخصوصا بنخبة لا شأن لها، لكن الحقيقة أن هذا الاتحاد هو الأمر الوحيد الدائم لأنه قائم على الانتصار للحقيقة وسينتهي بالتغلب يوما ما عندما تنهار الخرافات وتتشظى في وحدات عريقة من التشنجات العاجزة.
لقد تعرفت على الشيخ جمال الدين منذ شهرين تقريبا وتم ذلك بفضل معاوننا العزيز السيد غانم. قليلا هم الأشخاص الذين التقيت فتركوا في نفسي انطباعا بالقوة التي تركها لقاؤه. وقد كانت محادثتي معه آنذاك الدافع الأكبر لاختياري موضوع العلاقة بين الروح العلمية والدين الإسلامي موضوعا لمحاضرتي بالسوربون. إنّ الشيخ جمال الدين رجل أفغاني قد تحرّر كليّا من المسلمات الإسلامية وهو ينتمي إلى الأعراق النشطة لشمال إيران المجاورة للهند فهناك تتواصل الروح الآريّة القويّة تحت حجاب رقيق من الإسلام الرسمي. وهو البرهان الساطع على المصادرة الكبرى التي وضعنا ومفادها أنّ قيمة كلّ دين تتحدّد بقيمة الأعراق التي تعتنقه. كانت ترشح من جمال الدين حرية الفكر ونبل الطباع فخلت وأنا أتحدث إليه بأني أجالس أحد معارفي القدامى وقد بعث حيا، لقد رأيت فيه ابن سينا وابن رشد وغيرهما من كبار الملحدين الذين مثلوا لمدة خمسة قرون تراث العقل الإنساني. كان الفارق يبرز أمامي بجلاء كلما قارنت هذا الحضور القويّ بالصور التي تبدو عليها البلدان الإسلاميّة بعد فارس، فهي بلدان قد اختفت فيها أو تكاد الروح الفلسفية والعلمية. إنّ الشيخ جمال الدين هو أفضل مثال يمكن تقديمه للصمود العرقي ضدّ الغزو الديني، وهو يؤكد ما لم يفتأ مستشرقو أوروبا الأذكياء يذكرونه: إنّ أفغانستان هي البلد الآسيوي الأكثر احتواء للعناصر المكونة لما ندعوه الأمّة بعد اليابان.
إني لا أرى في المقال العالم الذي كتبه الشيخ إلا مسألة واحدة هي محلّ خلاف بيننا. يرفض الشيخ التمييز الذي يدفع إليه النقد التاريخي في هذه الظواهر المعقّدة التي تدعى الإمبراطوريات والغزوات. فالإمبراطورية الرومانية التي كان للعرب صلات بها عديدة هي التي جعلت اللغة اللاتينية لسان حال العقل البشري في الغرب إلى حدود القرن السادس عشر. وقد كتب بهذه اللغة ألبرت الأكبر وروجر باكون وسبينوزا مع أنّنا لا نعتبرهم من اللاتينيين. وكذلك نقحم في تاريخ الأدب الإنجليزي بيد ( Bède ) وألكوين ( Alcuin ) أو في تاريخ الأدب الفرنسي غريغوار دي تور ( Grégoire de Tours ) وأبيلارد ( Abélard ) وعندما لا نعتبرهم من اللاتينيين فلا يمكن أن نتهم بالتقليل من شأن روما في تاريخ الحضارة، فكذلك نحن لم نقصد التهاون بشأن الحركة العربية. وكل هذه الحركات الإنسانية الكبرى تظلّ بحاجة إلى مزيد التحليل. لكن ليس كلّ ما كتب باللاتينية هو من أمجاد روما ولا كلّ ما كتب باليونانية هو تراث إغريقي ولا كلّ ما كتب بالعربية هو إبداع عربي ولا كلّ ما حصل في المجتمعات المسيحية هو من نتائج الدين المسيحي ولا كلّ ما حدث في البلدان الإسلامية هو من ثمرات الإسلام. هذا هو المبدأ الذي كان قد اعتمده العلامة رينهارد دوزي في تاريخه للأندلس وهو عالم مشهود له بالكفاءة تأسف أوروبا هذه الأيام لوفاته. لقد طبّق هذا المبدأ بحكمة نادرة. فالتمييز الذي دعونا إليه ضروري كي لا نجعل من التاريخ نسيجا من الأفكار التقريبية والالتباسات.
بدا للشيخ أني لم أكن عادلا في مسألة أخرى إذ لم أتوسّع في تأكيد أنّ كلّ أديان الوحي تعادي العلم الوضعي وأنّ المسيحية في هذا المجال ليست بأقلّ ذنبا من الإسلام. هذا أمر لا يرقى للشكّ. لم يكن مصير غاليليو مع الكاثوليكية بأفضل من مصير ابن رشد بين المسلمين. وصل غاليليو إلى الحقيقة في بلد كاثوليكي على الرغم من الكاثوليك كما تفلسف ابن رشد بنبل في بلد مسلم على الرغم من الإسلام. إذا لم أشدّد كثيرا في بيان هذه المسألة فلأنّ مواقفي حولها مشهورة بما يغني عن إعادتها أمام جمهور مطلع على أعمالي. لم أرني مضطرّا إلى أن أعيد في كلّ مناسبة ما كرّرت دائما: ينبغي أن يتحرّر العقل من كلّ عقيدة غيبية إذا رغب في تسخير طاقاته في وظيفتها الرئيسية، أقصد تشييد صرح المعرفة الوضعيّة. ليس المطلوب هدما عنيفا ولا قطيعة قاسية. ليس القصد أن يتخلّى المسيحي عن المسيحيّة ولا المسلم عن الإسلام. إنما المطلوب أن يشترك المستنيرون في المسيحية والإسلام من أجل بلوغ وضع "اللامبالاة الرفيقة" حيث تفقد العقائد الدينية شراستها. لقد تحقّق هذا الوضع في نصف العالم المسيحي تقريبا ونأمل أن يتحقّق مستقبلا في الإسلام. ومن الطبيعي أن أكون أنا والشيخ في طليعة المرحبين عندما يحدث ذلك.
لم أقل إنّ كلّ المسلمين على اختلاف أعراقهم كانوا جميعا جهلة وإنما قلت إنّ الإسلاميّة وضعت الكثير من العراقيل أمام العلم وقد نجحت مع الأسف منذ خمسة أو ستة قرون في أن تمحق العلوم في البلدان التي سيطرت عليها وقد كان ذلك سبب بؤس تلك البلدان. واعتقادي أنّّ نهضة الإسلام لن تحصل بالعودة إلى هذا الدين ولكن بإضعاف تأثيره في البلدان الإسلامية. وكذا تحقّقت نهضة البلدان المصنفة مسيحية بتحطيم استبداد الكنيسة الذي تواصل كلّ العصر الوسيط. ظنّ البعض أنّ في محاضرتي نيّة الإساءة لمعتنقي الإسلام، وأنا أتبرّأ من هذه النيّة لأنّي اعتقد أنّ الضحيّة الأولى للإسلام هو المسلم نفسه. لقد رأيت مرّات عديدة خلال رحلاتي في المشرق أنّ مصدر التعصّب عدد محدود من الأشخاص العنيفين الذين يخضعون غيرهم بالقوّة للممارسات الدينيّة. وأفضل مساعدة يمكن لنا أن نقدّمها للمسلم هي أن نحرّره من دينه. لا اعتقد أني أضمر للمسلمين شرّا إذا كنت أتمنّى لهم أن يحطموا القيود التي تكبلهم خاصة وأن بينهم أشخاصا كثيرين من ذوي الهمّة. وبما أنّ الشيخ جمال الدين يدعوني إلى الإنصاف بين الديانات فإني لا أظنّ أيضا أنّي أضمر الشرّ لبعض البلدان الأوروبيّة إذا ما تمنيت للمسيحيّة فيها أن تكون أقلّ نفوذا.
إنّ التباين بين الليبراليين حول هذه المسائل المختلفة ليس بالتباين العميق فهم جميعا يصلون إلى نفس النتيجة العمليّة سواء أكانوا متعاطفين أو غير متعاطفين مع الإسلام. والنتيجة هي ضرورة تعميم المعارف بين المسلمين. هذا أمر جيّد شرط أن يكون المقصود المعارف الجديّة التي تنمّي ملكة التعقّل. وسأكون سعيدا إذا ساهم القادة الدينيّون من المسلمين في تحقيق هذا العمل الرائع، لكنّي أصارحكم بأنّ لديّ شكوكا في ذلك. سوف يبرز أشخاص متميزون (القليل منهم سيبلغ تميّز الشيخ جمال الدين) وسوف ينفصلون عن الإسلام كما انفصلنا نحن عن الكاثوليكيّة. بعض البلدان سوف تبتعد بمرور الوقت عن الشريعة لكن أشكّ في أن تحظى النهضة الإسلاميّة بتأييد الإسلام الرسمي. وكذلك لم تصاحب الكاثوليكيّة النهضة العلميّة لأوروبا ولا عجب أن تظلّ الكاثوليكية تقاوم إلى اليوم ما هو لبّ العقلانية الإنسانية، أقصد قيام الدولة المحايدة بين العقائد التي تعتبر منزّلة.
ينبغي أن تكون الحريّة الإنسانيّة واحترام الإنسان القاعدة التي تعلو ولا يعلى عليها. من واجب المجتمع المدني أن لا يسعى لتقديم الضمانة لأي دين ولا يفرضه على أتباعه إذا رغبوا في التخلّص منه كما من واجبه أن لا يسعى إلى هدم الديانات بل عليه أن يتعامل معها بحسن القبول باعتبارها تجليات حرّة للطبيعة البشريّة. وإذا ما تحوّلت الأديان إلى مواضيع حرّة وشخصيّة مثل الأدب والذوق فإنّها ستتغيّر كليّا. سوف تتخلّص الأديان حينئذ من الكثير من مساوئها عندما تتخلّى عن الروابط الرسميّة التي تربطها بالدولة. قد يبدو هذا التصوّر طوباويّا في الوقت الحاضر لكنّه سيتحقّق في المستقبل. كيف يمكن لكلّ دين أن يتصرّف مع أنظمة الحريّة التي ستفرض نفسها في المجتمعات الإنسانيّة بعد طول عناء؟ هذا سؤال لا يمكن أن يجد بيانه في عدد محدود من الجمل. ولم أقصد في محاضرتي إلاّ أن أخوض في شأن تاريخي وقد بدا لي أنّ الشيخ جمال الدين قد قدّم حججا قويّة لأطروحتين أساسيتين مما قصدت الدفاع عنه: الأولى أنّ الإسلام لم ينجح في النصف الأوّل من عهده في إيقاف تدفق الحركة العلمية في المجتمعات الإسلاميّة والثانية أنّه خنق هذه الحركة في النصف الثاني من عهده فحاق به شرّ ما أقدم عليه.
أرنست رينان.
كان رينان (1823- 1892) قد آمن في مرحلة معينة من حياته بأنّ المستقبل للعلم وحده، وكتب بين سنتي 1848-1849 كتابا بهذا الاتجاه عنوانه "مستقبل العلم" لم يلق طريقه إلى النشر إلا سنة 1890، ونشر مشفوعا بمقدمة يتراجع فيها الكاتب عن بعض غلوائه في تصوّر مستقبل العلم والحضارة. وبدأ رينان من سنة 1870 يتراجع عن موقفه المعادي للمسيحية ويطالب بإصلاح ليبرالي كاثوليكي وبأن يقبل رجال الدين بالفصل بين الكنيسة والدولة والجامعة. وكان يعتقد إنّ هذه الإمكانية لا يمكن أن تحصل، إذا ما حصلت، إلاّ في المجتمعات المسيحيّة التي تطوّر فيها العلم تطوّرا كبيرا وفقد فيها رجال الدين احتكار توجيه الجماهير. وتتنزّل نظريته في العجز الجوهري للإسلام عن قبول الإصلاح والتحديث في هذا السياق العام
لا شكّ أنّ محاضرة رينان تحتوي أخطاء كثيرة، مثل ما هو مذكور فيها عن موقف الطهطاوي من الغرب والتحديث. وهي تقوم أيضا على نظرية عرقية كانت شائعة في عهده، ولو عاش رينان القرن العشرين بدل القرن التاسع عشر لفاجأته أن تصبح تركيا أوّل دولة علمانية إسلامية وتقوم أكبر ثورة دينية في المجتمع الفارسي. وكان للفكر الفرنسي في نهاية القرن التاسع عشر أثر كبير لدى العرب وهو فكر كان يحمل في الآن ذاته آثار المواجهة العلمانية للكنيسة والرؤية التي خلفتها هذه الكنيسة حول تاريخ الأديان الأخرى ومنها الإسلام. كما كان يتميز بالمعاداة للسامية وتعني في ذلك العصر معاداة الجنسين العربي واليهودي وقد خصص لهما رينان محاضرة لا تقلّ حدّة عنوانها "في مساهمة الشعوب السامية في تاريخ الحضارة" وهي مساهمة رآها محدودة بل تكاد تكون معدومة.
أرنست رينان(من الأكاديمية الفرنسية)
الإسلاميّة والعلم
محاضرة ألقيت بالسوربون يوم 29/03/1883.
الناشر: كلمان ليفي، باريس، 1883.سيداتي سادتي
لقد خبرت مرات عديدة لطف اهتمام هذا المجمع من المستمعين فتشجعت على أن أطرح للدرس أمامكم اليوم موضوعا من أكثر المواضيع دقّة، مليء بالفروق الرقيقة التي لا مناص من الخوض فيها إذا أردنا أن نخلّص التاريخ من الآراء التقريبية. إنّ نقص الدقّة في استعمال الكلمات التي تسم الأعراق والأمم هي من أهمّ أسباب الالتباس في التاريخ. نتحدث عن الإغريق وعن الرومان وعن العرب وكأنّ هذه الكلمات تحيل إلى مجموعات بشرية ذات هويات قارة فلا نحسب حسابا للتغيرات المترتبة على الفتوحات الحربية والدينية واللغوية وعن الأذواق الجديدة والتيارات الكبرى من مختلف الأنواع وهي تخترق تاريخ الإنسانية. لا يمكن التحكّم في الواقع بمقولات في مثل تلك الدرجة من التبسيط. نحن الفرنسيين مثلا رومان باللغة وإغريق بالحضارة ويهود بالدين. قضية العرق التي تأخذ في المبدأ أهمية كبرى لا تنفكّ تفقد أهميتها بسبب ظهور ظواهر كونية تدعى الحضارة الإغريقية والزحف الروماني والغزو الجرماني والمسيحية والإسلامية والنهضة والفلسفة والثورة، هذه جميعا تمرّ مثل الإعصار على التنويعات البدائية للأسرة البشرية فتجبرها على الانصهار في مجموعات متفاوتة التجانس. أودّ أن أحاول أمامكم توضيح واحدة من أكثر الأفكار غموضا وتشابكا في هذا السياق، أقصد الخلط الحاصل عند استعمال الكلمات: علوم عربيّة، فلسفة عربيّة، فنّ عربي، علوم إسلاميّة، حضارة إسلاميّة. يترتب على الأفكار الملتبسة الكثير من الأحكام المضللة بل الأخطاء العملية الخطيرة أحيانا.
كلّ إنسان يتمتع بالحدّ الأدنى من الاطلاع على شؤون العصر يرى بوضوح الدونية الحالية للبلدان الإسلامية والانحطاط الذي يميّز الدول التي يحكمها الإسلام والبؤس الفكري للأعراق التي لا تقتبس ثقافتها وتعليمها إلاّ من هذه الديانة. كلّ الذين زاروا الشرق أو إفريقيا يصدمهم الانغلاق الذي يميّز عقل كلّ مؤمن صادق، حتى كأنّ دماغه قد أحيط بسوار معدني يمنع عنه العلوم ويحظر عليه التعلّم ويدرأ به أن ينفتح على فكرة جديدة. والطفل المسلم قد ينشأ بعقل يقظ لكنّ التربية الدينيّة تحوّله في سنّ العاشرة أو الثانية عشر إلى كائن متعصّب يدعي حمقا أنّه يمتلك الحقيقة المطلقة ويسعد بوضعه الدوني الذي يحسبه امتيازا. تمثّل هذه العزّة الجنونيّة الرذيلة الجذريّة للمسلم. والبساطة التي تبدو عليها عباداته تملأه باحتقار غير مبرّر للأديان الأخرى. يحتقر المسلم التعليم والعلوم وكلّ ما يميّز العقل الأوروبي لأنّه يعتقد أنّ الله يمنح الثروة والسلطان بمطلق مشيئته فلا دخل في ذلك للتعلّم ولا للاستحقاق. هذه العادة الرديئة التي رسختها العقيدة الإسلاميّة بلغت من القوّة حدّا جعل الفوارق بين الأعراق والقوميات تختفي باعتناق الإسلام. من يدخل الإسلام من البربر والسودان والقفقازيين والماليين والمصريين والأحباش يفقد هويته. ولا استثني من هؤلاء إلاّ الفرس الذين نجحوا في الاحتفاظ بروحهم الأصلية. وقد احتلت فارس في الإسلام مكانة فريدة لكنّها في العمق شيعيّة أكثر منها مسلمة.
يسعى العديد من الناس إلى التخفيف من الاستنتاجات المؤسفة المترتبة ضدّ الإسلام على هذه المعاينة العامة فيقولون إنّ هذا الانحطاط قد لا يكون في آخر المطاف إلاّ حالة عابرة. وهم يستنجدون بالماضي ليطمئنوا أنفسهم حول المستقبل. يقولون: هذه الحضارة الإسلاميّة التي نراها اليوم منحطّة قد كانت في عهد سابق حضارة شديدة التألّق. كان فيها علماء وفلاسفة وكانت لعدّة قرون معلمة الغرب الإسلامي. ما الذي يمنعها من استعادة أمجاد الماضي؟ هذا هو الموضوع الدقيق الذي أرغب في أن يكون موضوع نقاشنا. هل وجدت حقا علوم إسلامية أو على الأقلّ علوم قبلها الإسلام أو تسامح معها؟
إنّ الوقائع المعروضة لا تخلو من بعض الحقيقة. أجل ظهر في الأمصار الإسلاميّة علماء ومفكرون من ذوي المكانة المرموقة من سنة 775 تقريبا إلى حدود منتصف القرن الثالث عشر، أي في فترة امتدّت خمسة قرون تقريبا. بل يجوز القول إنّ العالم الإسلامي كان في تلك الفترة متفوّقا على العالم المسيحي من جهة الثقافة الفكريّة. لكنّ هذا الأمر جدير بأن يحلّل بعمق كي لا يكون مطيّة لاستنتاجات خاطئة. يتعيّن أن نتابع بين القرن والآخر تاريخ الحضارة في الشرق كي نميّز العوامل المختلفة التي ساهمت في هذا التفوّق المؤقت الذي انقلب بعد ذلك إلى دونية متأصلة.
لم يكن شيء أكثر غرابة عن مسامع المسلمين في قرنهم الأوّل من الفلسفة والعلوم. كان الإسلام حاصلة صراع ديني متواصل منذ عدّة قرون ترك الوعي في الجزيرة العربيّة معلّقا بين مختلف أشكال التوحيد السامي. جاء الإسلام في معزل عما يسمّى العقلانيّة والعلم واعتنقه الفرسان العرب وتعلقوا به لتبرير الغزو والنهب فكانوا في زمانهم الأوّل المحاربين الأكثر شجاعة في العالم لكنّهم كانوا بالتأكيد الأقلّ اهتماما بالفلسفة بين البشر. وكتب أديب مشرقي من القرن الثالث عشر يدعى أبو الفرج هذه الكلمات في وصف الشعب العربي: علوم العرب التي تفتخر بها هي علوم اللسان والبلاغة وقرض الشعر وإتقان النثر، أمّا الفلسفة فلم يهبهم الله منها شيئا ولم يجعلها من خصالهم.
لا شيء أصدق من هذا القول. فالعربي البدوي هو من أكثر الناس شاعرية لكنّه من أقلّهم ميلا للتأمّل والتصوّف. يكتفي العربي المتديّن تفسيرا للكون بإله مبدع يدير العالم بنفسه ويتجلّى للبشر عير رسله المتتابعين. وعندما كان الإسلام منحصرا في العرق العربي طوال الفترة الممتدّة من الخلفاء الأربعة إلى العصر الأموي لم تنشأ في صلبه حركة ثقافيّة مستقلّة عن الدين. على عكس ما يقال غالبا، لم يأمر عمر بن الخطّاب بإحراق مكتبة الإسكندريّة فهذه المكتبة في عهده لم يكد يبقى منها شيء. لكنّه انتصر لمبدأ مدمّر للبحث العالم والعمل الفكري.
لقد حصل التحوّل في حدود سنة 750 بانتصار الفرس ونصرتهم أسرة بني العباس على أسرة بني أميّة وتحوّل مركز الإسلام إلى بلاد الرافدين. كانت هذه المنطقة قد احتفظت بآثار إحدى أبهى الحضارات التي عرفها الشرق، حضارة الفرس الساسانيين التي بلغت أوجها في عهد كسرى أنو شروان. كانت المنطقة قد حفلت بالفنون والصناعات منذ قرون وأضاف إليها كسرى النشاطات الفكريّة. وكانت الفلسفة قد التجأت إلى بلاد فارس بعد أن أطردت من القسطنطينية. أمر كسرى بترجمة الكتب الهندية. كان الجزء الأبرز من السكان على مذهب المسيحيّة النسطوريّة ضليعين في علوم الإغريق وفلسفتهم ماسكين بناصية الطبّ وكان رهبانهم يتقنون المنطق والهندسة. تروي الملاحم الفارسيّة التي تواصل الروح الساسانيّة أنّ رستم عندما عزم على بناء جسر دعا كاهنا نسطوريّا ليكون مهندس الأشغال.
أوقف الزحف الإسلامي بقسوة هذا المسار الفارسي لمدّة قرن ثم جاءت الدولة العباسيّة لتمثّل انبعاثا جديدا لملك كسرى. لقد استولى بنو العباس على السلطة بفضل كتائب فارسيّة يقودها رجال من الفرس. وكان مؤسسو الدولة، أبو العباس ثم خاصة المنصور، محاطين دائما بمستشارين من الفرس. كان هؤلاء بمثابة ساسانيين منبعثين من جديد. وكان المستشارون المقربون والوزراء الكبار ومعلمو الأمراء من أسرة البرامكة وهي من الأسر الفارسيّة القديمة تميّزت بالانفتاح الذهني والوفاء لثقافتها القوميّة واعتنقت الإسلام في فترة متأخّرة ودون كبير اقتناع. أحاط النساطرة بعد ذلك بهؤلاء الخلفاء ضعيفي الإيمان وأصبحوا أطباءهم الشخصيّين واحتكروا هذا الامتياز. وكان لمدينة حرّان في تاريخ العقل البشري مكانة لا مثيل لها إذ ظلّت على وثنيتها محتفظة بالتراث العلمي للعصر الإغريقي وهي التي منحت المدرسة الجديدة فيالق العلماء الغرباء عن أديان التوحيد وخاصة منهم علماء الفلك.
لقد قامت بغداد عاصمة لهذه الحضارة الفارسيّة المنبعثة من جديد. لم يكن ممكنا تجنّب استعمال لغة الفاتحين أي اللغة العربيّة ولا رفض الدين الجديد رفضا صريحا. لكنّ روح هذه الحضارة الجديدة كانت روحا مختلطة. وقد تغلّب الفرس والمسيحيّون وكانت المناصب الإداريّة، والشرطة خاصة، بأيدي المسيحيّين. كلّ الخلفاء العباسيين المعاصرين للأسرة الكارلفنجية بفرنسا، ومنهم المنصور وهارون الرشيد والمأمون، كانوا من المسلمين ضعيفي العقيدة وكانوا يتظاهرون بالدين لأنهم زعماؤه لكن تفكيرهم كان بعيدا عنه. كانوا يتطلعون لمعرفة كل شيء وخاصة ما كان غريبا وثنيا. كانوا يسائلون الهند وفارس القديمة واليونان خاصة. صحيح أنّ أصحاب التقوى من المسلمين نجحوا أحيانا في توجيه البلاط نحو ردود فعل غريبة، فكان الخليفة يتظاهر بعض الأحيان بالتقوى ويضحي بأصدقائه من الكفار والملحدين. لكن نسمة الحرية ما تفتأ تستعيد الغلبة فيدعو الخليفة مجدّدا العلماء والخليعين وينهمكون مجدّدا في الحياة المتحرّرة ولا يملك المسلمون الأتقياء غير الإدانة.
هذا هو التفسير لحضارة بغداد التي تبدو غريبة جذابة. وقد رسخت معالمها في كل المخيّلات بفضل قصص ألف ليلة وليلة. إنها خليط عجيب من التشدّد الرسمي والتسيب المكتوم، فترة شباب وعبث ازدهرت خلالها الفنون الجديّة والفنون المرحة بفضل رعاية قادة مارقين عن ديانة متعصبة. كان الشخص المتحرّر في هذه الحضارة واقعا تحت تهديد العقوبات الأشدّ قسوة لكنه يعامل في البلاط كشخص ذي حظوة. ازدهرت الزندقة في ظل هؤلاء الخلفاء الذين كانوا متسامحين أحيانا وأحيانا أخرى جلادين بالرغم عن إرادتهم. ظهر المتكلمون وأقاموا المناظرات يخضعون بها كلّ الأديان للتعقّل. إنّنا نحتفظ بإحدى هذه المناظرات وقد سجلها أحد العلماء واسمحوا لي أن أسردها على مسامعكم كما وردت في ترجمة السيد دوزي (Dozy): طلب عالم من القيروان من متكلم أندلسي تقي قدم إلى بغداد هل حضر مجالس الكلام فأجاب أنه حضر مجلسين ولم يعد بعدها فسأله عن السبب فقال المسافر: حضرت مجلسا ضمّ مسلمين من السنة ومن المبتدعة وكفارا ومجوسا ودهريين وملاحدة ويهودا ونصارى فكانت ملل الكفر جميعا حاضرة. ولكلّ ملّة رئيسها يذبّ عن عقائدها وإذا دخل أحد الرؤساء قام الجميع احتراما ولا يجلسون حتى يأخذ الرئيس مقعده. فلما انعقد المجلس قام أحد الكفرة فقال: لقد اجتمعنا للمناظرة وأنتم أعلم بقواعدها، فليس لمسلم أن يحتجّ بآيات كتابه وأحاديث نبيه فإنّنا لا نؤمن بها، وإنّما دليلنا ما وافق العقل. فرحب الجميع بكلامه. وقال الأندلسي: عرض علي حضور مجلس ثان فكان من نفس القبيل، فهل أعود لمثل هذه المجالس؟
كان من نتائج هذا التوقف المؤقت لسلطة التقوى أن برزت حركة فلسفية وعلمية حقيقية. كان الأطباء السوريون المسيحيون متضلعين في الفلسفة المشائية والرياضيات والطب والفلك وهم ورثة آخر المدارس الإغريقية. فاستعملهم الخلفاء ليعربوا مجموع أعمال أرسطو وإقليدس وجالينوس وبطليموس أي علوم الإغريق التي كانت متوفرة آنذاك. بدأت بعض العقول النشطة مثل الكندي تتأمل مشاكل كونية يطرحها الإنسان دون أن يجد لها جوابا فسُمي هؤلاء الفلاسفة ومنذ ذلك الحين وهذه الكلمة العجيبة تحمل دلالة مشبوهة وتشير إلى شيء غريب عن الإسلام. أصبحت كلمة فيلسوف عند المسلمين تسمية خطيرة يمكن أن تجني على صاحبها الموت أو الاضطهاد، شأن كلمة زنديق أو بعد ذلك كلمة ماسوني. لا مناص من الاعتراف أنّ ذلك كان قمّة العقلانية الحادثة داخل الإسلام فقد نشأت ما يشبه الجمعيات الفلسفية وتُرك أخوان الصفا ينشرون موسوعة فلسفية مهمة بما تميزت به من حكمة وأفكار راقية. ثم جاء رجلان عظيمان هما الفارابي وابن سينا ليحتلا رتبة المفكرين الأكثر اكتمالا بين الفلاسفة. وتطور الفلك والجبر تطورا حثيثا خاصة في فارس. وواصلت الخيمياء تجاربها الدفينة التي كانت تبرز أحيانا إلى العلن في شكل مذهل، مثل التقطير وربما البارود. وحملت الأندلس بعد المشرق هذا المشعل وقدّم يهودها مساهمات نشيطة. ورفع ابن باجة وابن طفيل وابن رشد الفكر الفلسفي في القرن الثاني عشر إلى رتبة لم تبلغها منذ العصر القديم.
هذا هو المجموع الفلسفي الذي تعودنا أن نطلق عليه صفة العربي لأنه مدوّن باللغة العربيّة. لكنه في الحقيقة تراث إغريقي ساساني. وقد يكون أكثر دقّة أن نصنفه إغريقيا لأنّ العناصر الأكثر حيوية في هذا كله قد أتت من اليونان. في عصور الانحطاط تلك كانت قيمة العالم تتحدّد بما تتوفر لديه من معرفة بعلوم اليونان القديمة وكانت اليونان المصدر الوحيد للمعرفة والتفكير السليم. ولئن تفوقت سوريا وبغداد على الغرب اللاتيني فإنما السبب الوحيد لذلك قرب مفكريها من الميراث الإغريقي. كان أكثر يسرا أن نعثر على كتاب لإقليدس أو بطليموس أو لأرسطو في حرّان من أن نعثر عليه في باريس. يا للأسف! ، لو أنّ البيزنطيين رضوا آنذاك أن يكونوا أقلّ غيرة في المحافظة على كنوزهم الفكريّة التي لم تعد مقروءة عندهم! يا للحسرة! لو وجد منذ القرن الثامن أو التاسع أشخاص مثل بوساريون (Bessarion) ولسكاريس (Lascaris)! لو حصل هذا لما احتجنا لهذه الدورة الغريبة التي جعلت علوم الإغريق تصلنا في القرن الثاني عشر عبر سوريا وبغداد وقرطبة وطليطلة. إن عناية خفية قد جعلت مشعل الفكر البشري إذن بدأ يخبو بين يدي شعب تلقفه شعب آخر يرفعه ويؤجج بريقه. فهذه العناية هي التي منحت أهمية خاصة لأعمال هؤلاء السوريين المساكين وهؤلاء الفلاسفة المضطهدين وهؤلاء الحرّانيين الذين عاشوا خارج الزمان بسبب كفرهم. لقد تلقت أوروبا خميرة التراث القديم التي كانت ضرورية لنهضتها وانبثاق عبقريتها بفضل تلك الترجمات العربية لكتب الفلسفة والعلوم الإغريقية.
فعلا، فيما كان ابن رشد، آخر الفلاسفة العرب، يسلم الروح في المغرب حزينا منبوذا، كان غربنا يتهيأ لميلاد جديد. عثرت أوروبا على عبقريتها وبدأت هذا التطوّر الرائع الذي لن ينتهي قبل أن يحرّر العقل تحريرا تاما. هنا، على مرتفعات سانت جنفياف، نشأ المصنع الجديد للعمل العقلي. ولم يكن ينقصه غير الكتب والمصادر من العصر القديم. يبدو لأوّل وهلة أنّ الأكثر منطقيّة أن تطلب تلك المصادر من مكتبات القسطنطينية التي احتفظت بالأصول بدل أن تطلب من تراجم هي في الغالب رديئة ومن لغة لم تكن مهيأة حقا لنقل التراث الإغريقي. على أنّ المنازعات الدينيّة كانت قد أحدثت شرخا بين العالمين اللاتيني واليوناني ازداد عمقا بسبب الحملة الصليبية الملعونة في سنة 1204. ثم إنه لم يكن لدينا مختصون في الهيلينستية فانتظرنا ثلاثة قرون قبل أن نحصل على لوفابر ديتابل (Lefèvre d’Etaples) أو بوديه (Budé).
وفي غياب الفلسفة الإغريقية الحقيقية التي كانت مطمورة في المكتبات البيزنطية اتجه البحث نحو إسبانيا كي تستخرج علوم إغريقية رديئة الترجمة مغشوشة. لن أذكر جيربرت (Gerbert) لأن رحلاته بين المسلمين يحيط بها شكّ قويّ، لكننا نرى منذ القرن الحادي عشر كيف كان ليون الإفريقي متفوّقا في معارفه بالمقارنة بالسائد في عصره وبلده لأنه حظي بتعليم إسلامي. وقد تشكّل من 1130 إلى 1150 مجمع نشيط يضمّ مترجمين استوطنوا طليطلة وعملوا تحت إشراف المطران رايموند (Raymond) وتولى هذا المجمع مهمة النقل إلى اللاتينية للكتب الأكثر أهمية في العلوم العربيّة. وقد دخل أرسطو العربي مظفرا إلى جامعة باريس منذ السنوات الأولى للقرن الثالث عشر. نفض الغرب عن نفسه دونية استمرّت أربعمائة سنة أو خمسمائة سنة. فحتى ذلك الحين كانت أوروبا تابعة في علومها للمسلمين. وفي منتصف القرن الثالث عشر كان الميزان بين الطرفين متأرجحا. وبداية من 1275 تقريبا بدأت تظهر بوضوح حركتان: البلدان الإسلاميّة تنحدر في انحطاط فكري شديد قاتم وأوروبا الغربية تدخل بقوّة في الطريق الواسعة للبحث العلمي عن الحقيقة. إنّه منحى عظيم لا يمكن تحديد أبعاده إلى اليوم.
الجزء الثاني من محاضرة إرنست رينان
الإسلاميّة والعلم الويل لمن أصبح غير نافع للرقي الإنساني، إنّه يحكم على نفسه بالإلغاء! لقد اختفت العلوم المدعوة بالعربية بعد أن نقلت لقاح الحياة إلى الغرب اللاتيني. وبينما كان ابن رشد يحقّق في المدارس اللاتينية شهرة تعادل شهرة أرسطو كان مصيره بين أبناء دينه أن يقبع في النسيان. وإذا تجاوزنا سنة 1200 لم نعد نعثر على فيلسوف عربي واحد جدير بالاهتمام. كانت الفلسفة مضطهدة دوما في العالم الإسلامي لكن ليس بالقدر الذي يلغي وجودها أمّا ابتداء من سنة 1200 فإن الردّة الدينية قد قضت عليها قضاء تاما. ولم يعد المؤرخون والأدباء يتحدثون عن الفلسفة إلا حديث ذكرى عن شيء غير مرغوب فيه. أتلفت المخطوطات الفلسفية أو أصبحت نادرة الوجود. لم يسمح بالتواصل من علم الفلك إلاّ ما يخدم تحديد مواقيت الصلوات. سيطر العرق التركي على الإسلام فنشر في كلّ مكان تدينه الخالي من كلّ نفس فلسفي أو علمي. ومنذ ذلك الحين لم يشهد الإسلام مفكرا عقلانيا منفتحا، سوى استثناءات قليلة مثل ابن خلدون، فقد قضى على الفلسفة والعلوم بين أتباعه.
لم أقصد يا سادتي أن أتهاون بشأن هذه العلوم العظيمة المدعوة بالعربية فهي تمثّل مرحلة مهمة من تاريخ تطوّر العقل البشري. أجل بالغ البعض في تأكيد أصالتها في مسائل عديدة منها خاصة المسائل الفلكية لكن ليس من الحكمة الانتقال من النقيض إلى النقيض ومعاملتها بالازدراء. حقا لقد وجدت مرحلة عربية امتدت من زمن انهيار حضارة العهد القديم في القرن السادس إلى ظهور العبقرية الأوروبية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وقد تواصل خلالها تراث العقل الإنساني في الأقاليم التي فتحها الإسلام. لكن ما هو العربي في هذه العلوم المدعوة بالعربية؟ أنه اللغة ولا شيء غيرها. حملت الغزوات الإسلامية لغة الحجاز إلى كلّ أطراف العالم فكان مصير هذه اللغة شبيها بمصير اللاتينية في الغرب عندما تحوّلت لغة التعبير عن المشاعر والأفكار وفقدت علاقتها باللهجة القديمة. يعدّ ابن رشد وابن سينا والبتّاني عربا كما يصنّف ضمن اللاتينيين ألبرت الأكبر وروجير باكون وفرنسيس باكون وسبينوزا. إنها لمغالطة كبرى أن ننسب الفلسفة والعلوم العربية للجزيرة العربية، فكأننا حينئذ ننسب إلى مدينة روما كل الأدب المسيحي اللاتيني وكل تراث المرحلة المدرسية ومجموع أعمال عصر النهضة وعلوم القرن الخامس عشر وجزء من القرن السادس عشر لأن ذلك جميعا قد دوّن باللغة اللاتينية. وإن مما يثير الانتباه أننا إذا رجعنا إلى قائمة الفلاسفة والعلماء المدعوين بالعرب وجدنا واحدا لا غير من أصل عربي وهو الكندي والبقية فرس أو من شعوب بحر القزوين أو من إسبانيا أو من أهل بخارى وسمرقند وقرطبة وإشبيلية. لم تكن دماؤهم عربية كما لم تكن عقولهم عربية. استعملوا اللغة العربية مضطرين كما اضطر إلى اللاتينية مفكرو العصر الوسيط فطوّعوها لحاجتهم. واللغة العربية هي لغة شعر وخطابة لكنها أداة غير مناسبة للميتافيزيقا. والفلاسفة والعلماء العرب كانوا في الغالب يكتبون في أسلوب قليل الفصاحة.
إذا لم تكن هذه العلوم عربية فهل هي إسلامية على الأقلّ؟ هل منحت الديانة الإسلامية هذه المباحث العقلية شيئا من الرعاية؟ لم يحدث هذا أبدا. كانت الحركة العلمية كلها من عمل الفرس والمسيحيين واليهود والحرانيين والإسماعيلية والمسلمين الثائرين ضد دينهم. ولم تحصل هذه الحركة من الإسلام الرسمي إلا على اللعنات. أدان علماء الدين دون رحمة الخليفة المأمون الذين كان من بين الخلفاء الأكثر حماسا لاستقبال فلسفة الإغريق، وفسروا المصائب التي رافقت عهده بأنها عقاب بسبب سماحه بدخول عقائد غريبة على الإسلام. وقد حدثت مرات أن أحرقت كتب الفلسفة والفلك في الساحات العامة أو أغرقت في الآبار وخزانات المياه تقربا من العامة التي هيجها الأئمة. كانت صفة زنديق تطلق على كلّ من يتعاطى تلك المباحث فيضرب في الطريق العام ويحرق بيته وكثيرا ما يأمر الحاكم بقتله كي يتقرب بذلك إلى العامة.
الواقع إن الإسلام قد عمل باستمرار على اضطهاد الفلسفة والعلوم وانتهى به الأمر إلى وأد هذه المعارف. لكن من الجدير أن نميّز في هذا المجال بين فترتين من تاريخ الإسلام، تمتدّ الأولى من بدايته إلى القرن الثاني عشر وتمتد الثانية من القرن الثالث عشر إلى أيامنا هذه. كان الإسلام في الفترة الأولى ملغوما بالملل والنحل ومعتدلا بفضل المعتزلة الذين هم بمثابة البروتستانت، وكان أقلّ تنظما وتعصبا من الفترة الثانية عندما سقط بين أيدي أعراق التتار والبربر وهي أعراق ثقيلة وعنيفة وفاقدة للسمو العقلي. وخاصية الإسلامية أنها تتلقّى من أتباعها إيمانا لا ينفكّ يقوى مع تقدّم الأزمنة. العرب الأوائل الذين اعتنقوا الإسلام كانوا بالكاد يؤمنون برسالة النبي وظلّ تردّدهم في الإيمان واضحا مدّة قرنين أو ثلاثة قرون. ثم أعقب ذلك عصر السيطرة المطلقة للعقيدة ولم يعد من مجال للتمييز بين الروحي والزمني وأصبح التعزير والعقاب يهدّد كلّ من تسوّل له نفسه التهاون بالعبادات. هذا النظام لم يعرف أكثر قسوة منه إلا محاكم التفتيش الإسبانية.
ليس أضرّ بالحريّة من نظام اجتماعي يسيطر فيه الدين سيطرة مطلقة على الحياة المدنية. ولم نر في الأزمنة المعاصرة إلا مثالين من هذا النظام أحدهما العالم الإسلامي والثاني الدولة البابوية السابقة. مع أنّ البابوية الزمنية لم تحكم إلا رقعة محدودة والإسلام سيطر على أجزاء شاسعة من الكرة الأرضية فرض فيها أشدّ التعاليم معارضة للرقي ومنها مبدأ قيام دولة على وحي مزعوم وتنظيم المجتمع بمقتضى اللاهوت.
الليبراليون الذين يدافعون عن الإسلام لا يعرفون منه شيئا. الإسلام هو الاتحاد الكامل بين الروحي والزمني، وهو سلطان العقيدة، وهو أشدّ ما حملت الإنسانية على عاتقها من الأغلال. أعيد قولي إنّ الإسلام تحمّل الفلسفة مرغما في النصف الأوّل من العصر الوسيط لأنه لم يكن قادرا على منعها ولم يكن في حالة تجانس تيسّر له ذلك ولم يكن يملك وسائل القمع. كانت الشرطة كما رأينا بأيدي المسيحيين وكان شغلها الأول تتبع تحركات العلويّين فكانت أشياء كثيرة تخترق سياج الممنوعات. ولما توفّر للإسلام أتباع كثيرون شديدو الإيمان أصبح ديدنه التنكيل بكلّ مخالف. وكان المطروح جمعا بين الاضطهاد الديني والنفاق. كان الإسلام متحرّرا (ليبراليا) عندما كان ضعيفا وأصبح عنيفا عندما امتلك وسائل القوّة. لا داعي والحالة تلك أن ننسب إليه شرف ما احتفظ به مكرها. إنّ نسبة شرف الفلسفة والعلوم إلى الإسلام لأنه لم يبادر بسحقها هو مثل نسبة شرف مكتشفات العلم الحديث إلى اللاهوتيين المسيحيين. ولم يكن اللاهوت الغربي بأقل تسلّطا من الإسلام، إلا أنّه لم ينجح في القضاء على الروح الحديثة كما قضى عليها الإسلام في البلدان التي سيطر عليها. لم ينجح الاضطهاد اللاهوتي في غربنا إلا في بلد واحد هو إسبانيا حيث حلّ نظام فظيع يقوم على القمع وخنق الروح العلمية. وأنا أسارع بالقول إن ذلك البلد النبيل سوف يثأر لنفسه يوما ما. ما حدث في العالم الإسلامي هو ما كاد يحدث في أوروبا لو نجحت محاكم التفتيش وفيليب الثاني وبيوس الخامس في مخططاتهم القاضية بمنع البشرية من الرقيّ. أنا لا أشعر صراحة بالرغبة في أن أشكر الأشرار على ما كانوا عاجزين عن إيقاعه من شرور. إنّ للأديان دورا نبيلا إذا اضطلعت بتخفيف آلام الإنسان وتقوية مواطن الوهن لإنسانيتنا البائسة. لكن لا داعي أن نشكرها على ما تطوّر رغما عنها وقد حاولت وأده منذ النشأة. وكما لا يرث القاتل ضحيته فلا يجوز أن ينتفع المضطهد بما حاول اضطهاده.
إنّ الخطأ فيما يقوم به البعض بدافع الكرم هو أنهم ينسبون إلى تأثير الإسلام حركة تطورت بالرغم عنه وكان من حسن حظها أنها أفلتت من شراكه. وأن ننسب إلى الإسلام شرف ابن سينا وابن زهر وابن رشد يعادل أن ننسب إلى الكاثوليكية شرف غاليليو. حاول اللاهوت الكاثوليكي أن يعطّل غاليليو لكنه لم يكن بالقوّة التي تكفي لإيقاف مساره، وليس هذا سببا كافيا لأن نعترف له بالفضل. أني أبرئ نفسي من نية الإساءة إلى أيّ من الأديان البشرية التي بحث فيها الضمير الإنساني عن السكينة بسبب قضايا الكون والمصير التي تؤرقه ولا حلّ لها. وللدين الإسلامي مستقبله إذا نظرنا إليه من جهة كونه دينا. ولم تطأ قدماي مسجدا قط إلاّ وتملكتني عاطفة حادّة بل لعلّي أشعر بالحسرة لكوني لست مسلما. لكن الإسلام كان للعقل البشري ضررا محضا. لا شكّ أنّ العقول التي حرمها من الأنوار كانت مهيأة لذلك بسبب عوائق ذاتية لكنّه اضطهد الفكر المتحرّر ولن أقول إنّ اضطهاده كان أكثر قسوة من أديان أخرى لكن أقول إنّ اضطهاده كان الأكثر فعالية. لقد حكم على البلدان التي ضمّها إليه بأن تظلّ منغلقة عن الثقافة العقلية.
إنّ ما يميّز المسلم جوهريا هو كونه يحمل ضدّ العلم حقدا دفينا وقناعة صلبة بأن البحث غير مجد بل هو مدعاة إلى الخطأ ويشبه أن يكون كفرا. والمسلم ينأى بنفسه عن العلوم الطبيعية لأنه يراها منافسة للعلم الإلهي ويعادي العلوم التاريخية لأنّها تحتفظ بذكرى ضلالات الماضي. ولعلّ أفضل شاهد على ما نقول هو الشيخ رفاعة (الطهطاوي) فقد أقام بباريس سنوات عديدة واعظا للبعثة المصرية ثم عاد إلى مصر وكتب رحلة تتضمن معاينات عن المجتمع الفرنسي شديدة الغرابة. كانت فكرته الرئيسية أن العلوم الأوروبية القائمة على مبدأ ثبات قوانين الطبيعة هي كلها ضلالة، ولا بدّ من الاعتراف بأنّ وجهة نظره تتناسب والرؤية الإسلامية. فالعقائد المنزلة تتعارض دائما مع البحث الحرّ الذي قد يخالفها. ليست محصلة العلوم أن تقضي على الألوهية وإنما أن تبعدها عن عالم الجزئيات حيث كان المؤمنون يرون حضورها بدون انقطاع. فالتجربة تحاصر مجال الخوارق وتضيقه والحال أنه قاعدة كلّ لاهوت. والإسلام وفيّ لمنطقه إذا ما حارب العلم لكن الوفاء قد يتحوّل أحيانا إلى خطر على صاحبه. كان من سوء حظّ الإسلام أنّه نجح في مسعاه فجنى على نفسه بقضائه على العلم وحكم على أتباعه بأن يظلوا في الدرجة الدنيا من الرقي البشري.
إذا انطلقنا من فكرة أن في البحث تعديا على حقوق الله فإننا نصل حتما إلى تعطيل ملكة العقل والإخلال بمقتضيات الدقة والعجز عن الرأي الصائب. ينهي المسلمون كلّ قول بالعبارة "الله أعلم"، إنه لأمر جيّد أن يؤمن المرء بالله لكن ينبغي أن لا تبلغ قوّة الإيمان إلى هذه الدرجة. حلّ السيّد لايارد بالموصل ورغب عند وصوله في أن يجمع بعض المعلومات عن المدينة وسكانها وتجارتها وتقاليدها لأنّه كان صاحب عقل منظم، فتوجه يطلب ذلك من قاضي المدينة الذي وافاه بالجواب التالي:
"صديقي الألمعي فخر الأحياء. إنّ ما تطلبه منّي هو أمر غير مجد بل هو أمر مضرّ. لقد قضيت كلّ حياتي في هذا البلد ولم يخطر ببالي قط أن أعدّ بيوته أو سكانه. ولا أرى من شأني أن اهتم بالبضائع التي حمّل بها زيد دابته أو شحنها عمرو في مركبه. أما تاريخ هذه المدينة فعلمه عند الله وهو القادر وحده أن يعدّ ضلالات أهلها قبل أن ينير سبحانه بصائرهم. ومن الخطر أن نحاول نحن البشر معرفتها.
"يا صديقي، يا عزيزي، لا تسعَ لمعرفة ما هو ليس من شأنك، فقد قدمت بيننا فألقينا عليك السلام وقابلناك بالترحيب، فلترحل الآن عنا بسلام. الحقيقة أنّ كلّ ما ذكرته لي لا يمسني بسوء لأنّ القائل والسامع لا يلتقيان. أنت اتبعت سنة قومك فجبت الأقطار ولم تجد لك بأرض مستقرّا. أما نحن فنحمد الله على أننا ولدنا هنا ولا رغبة لنا بالرحيل.
"اعلم يا ابني أن رأس الحكمة أن تؤمن بالله. هو خالق الكون فهل نحاول أن نبلغ علمه ونسعى إلى كشف أسرار مخلوقاته؟ تأمّل ذلك النجم الذي يرتفع في السماء والآخر الذي يجرّ ذنبه ويمضي سنوات ليقترب منا وسنوات ليبتعد، إنّ صانع النجمين هو الأكثر قدرة على أن يوجّههما في السماء.
"لكنك قد تقول: إليك عني يا رجل فأنا عالم رأيت من الأشياء ما لم تر ولم تعلم. إذا ظننت أن ما رأيت وما علمت يجعلك أفضل مما أنا عليه فلا بأس بذلك لكني أحمد الله أني لا أبحث فيما يزيد عن حاجتي من الأشياء. أنت عالم بما أنا في غنى عنه وشاهد على ما أنا متبرّئ منه. وهل إذا زادت معرفتك صنعت لنفسك معدة ثانية أو إذا تدربت على التنقيب اكتشفت بنفسك طريق الجنّة؟
"يا صديقي، إذا طلبت السعادة فقل لا إله إلا الله ثم تجنب الشرور والرذائل. فإذا فعلت ارتفعت عن نفسك خشية الموت والخوف من البشر لأنّك تدرك أنّ ساعتك إذا حانت لا تقديم فيها ولا تأخير."
إنّ لهذا القاضي طريقته في التفلسف، لكن الفارق واضح: إننا نعجب بالروح الطريفة لرسالته أما هو فيرى أنّ ما نقوله نحن هو أمر مستهجن. هذه روح مضرّة بالمجتمع بقدر ما هي مضرّة بصاحبها. ولضعف الروح العلمية نتيجتان وخيمتان هما انتشار الخرافات وغلبة الوثوقية وقد تكون الثانية هي الأشدّ خطرا. والشرق ليس ميالا للخرافة لكنّ داءه الأكبر هو الوثوقية التي تفرض نفسها بالقوّة على المجتمع بأسره. ليست الغاية التي تنشدها الإنسانية الاطمئنان للجهل وإنما الحرب الضروس ضد الباطل والنضال المرير ضدّ الشرّ.
إنّ العلم روح المجتمع والعلم هو العقل وهو السبيل للتفوّق العسكري والصناعي ومنه ينشأ يوما التفوّق الاجتماعي وأقصد سيادة قدر من العدل بين البشر بما يناسب روح الكون. العلم هو الذي يضع القوّة في خدمة العقل. ثمة في آسيا جراثيم توحش تشبه تلك التي عرفتها الغزوات الإسلامية الأولى وإعصار جنكيز خان. لكن العلم هو الذي سيقطع عليها الطريق اليوم. لو اعترضت المدفعية سبيل عمر (بن الخطاب) أو جنكيز خان لما أمكن لهما أن يتخطيا الصحراء. علينا أن لا نتوقّف عند الشذوذ المؤقت. ألم يذمّ العقلاء الأسلحة الناريّة في بداية عهدها ثم اكتشفوا بعد ذلك مساهمتها الثمينة في انتصار الحضارة؟ يقيني الشخصي أن العلم خير وأنه يمنح بنفسه أدوات مقاومة ما يرتكب باسمه من شرور وأن العلم لن يخدم في نهاية المطاف إلا الرقي الإنساني، أعني التقدّم الحقيقي الذي لا ينفصل عن احترام الإنسان والحرية.
كان يمكن لمحاضرة رينان أن تمرّ دون صخب، لولا عاملين أساسين. أولهما شخص رينان الذي لم يكن مجرد باحث أكاديمي بل كاتب يثير الجدل في كل مواقفه ويمارس تأثيرا كبيرا في الرأي العام السياسي والثقافي في فرنسا. ثانيا، وجود ثلة من المثقفين المسلمين في باريس كانوا قد لجأوا إليها بعد الاحتلال البريطاني لمصر سنة 1882. تحوّلت المحاضرة لهذين السببين إلى حدث إعلامي وحضاري ولقيت صدى ضخما وتصدّى كثيرون للردّ عليها. ومن بين الردود ما كتبه جمال الدين المدعو بالأفغاني ونشر في صحيفة "لوديبا" يوم 18-05-1883.
الردّ على رينان
صحيفة "لوديبا"، الجمعة 18 مايو / أيار 1883.
سيدي،
اطلعت في العدد الصادر بتاريخ 29 مارس من صحيفتكم المحترمة على محاضرة في الإسلام والعلم ألقاها في محفل مرموق السيد رينان الشهير الذي عمّ صيته الغرب كله وبلغ أقاصي البلدان الشرقية. ولقد أوحت إلي هذه المحاضرة ببعض الملاحظات رغبت في تسجيلها في هذه المقالة متشرفا بإرسالها إليكم رجاء أن تنشر على أعمدة صحيفتكم.
لقد سعى السيد رينان إلى توضيح مسألة تتعلق بتاريخ العرب ظلت إلى الآن غامضة، كما سعى إلى إزاحة الستار عن حقيقة التاريخ العربي. إلا أن الحقائق التي يقدمها قد تعكّر صفو من أضمر الإجلال لهذا الشعب العربي الذي لا يمكن أن يتهم بكونه قد اغتصب دون حق المكانة والرتبة اللتين احتلهما سابقا في التاريخ. ولا نظن أن السيد رينان كان يقصد النيل من مجد العرب، بل نراه قد استنفد جهده لاكتشاف حقيقة تاريخية وإذاعتها كي تكون معلومة بين الناس، وخاصة الباحثين في أثر الديانات في تاريخ الأمم والحضارات. فأبادر بالتسجيل أن السيد رينان قد برع في هذه المهمة العسيرة لأنه قدّم استدلالات على مسائل كانت خافية إلى حدّ الآن. إني أجد في محاضرته ملاحظات رشيقة ونظرات جديدة وروعة يتعذر وصفها. ولم أطلع على هذه المحاضرة إلا من خلال ترجمة تقريبية لمعانيها، فلو كنت قادرا على قراءتها بالفرنسية لأحطت بأفكار هذا الفيلسوف بأفضل مما فعلت. فليتقبل مني تحية متواضعة تكون عربون احترام وتعبيرا صادقا عن إعجابي. وأنقل إليه في هذه المناسبة قول شاعر كان يحب الفلسفة هو المتنبي، فهو القائل منذ قرون
وذنبي تقصيري وما جئت مادحا بذنبي ولكن جئت أسأل العفو
إن محاضرة السيد رينان تقوم على فكرتين أساسيتين. فقد اتجه الفيلسوف الألمعي إلى الاستدلال على أن الديانة الإسلامية هي في جوهرها ديانة تناقض تقدم العلوم، والاستدلال على أن الأمة العربية تبغض في طبعها الفلسفة وعلوم ما بعد الطبيعة.
كأن السيد رينان يقول: إن الفلسفة نبتة نفيسة يبس عودها بين أيدي العرب فكأنها تحترق بلفح رياح الصحراء. إلا أن قراءة محاضرته تدفع إلى التساؤل إذا كانت هذه العوائق تختص بالديانة الإسلامية وطريقة انتشارها في العالم، أم هي عوائق تختص بطبائع الأمم التي اعتنقت الإسلام وما تتميز به من أخلاق واستعدادات، سواء الأمم التي اعتنقت الإسلام طوعا أو بالقوة؟ لا شك أن ضيق الوقت قد حال دون توضيح المحاضر هذه المسائل. على أن الداء الذي يشير إليه حاصل، ولئن كان عسيرا تحديد الأسباب بدقة والاستدلال بالقاطع من البراهين فإن الأكثر عسرا أن نجد لهذا الداء الدواء الشافي.
أقول حول الفكرة الأولى: لا توجد بين الأمم أمّة قادرة منذ النشأة أن تتبع طريق العقل المحض. إن الرعب الذي يخيّم على كل أمّة ويحكم عليها غشاءه لا بدّ أن يمنع عنها القدرة عن التمييز بين الخير والشر وعن إدراك أسباب السعادة وتبيّن مصادر الخيبات وعوامل استمرار الشقاء. فتظل عاجزة عن استجلاء العلل وتبين الآثار.
هذه حال تمنع الأمة أن تنقاد لما فيه خيرها أو تمتنع عن المضر بها بمحض الإرادة والاختيار. فاضطرت الإنسانية أن تبحث خارجها عن موئل للسكينة وملاذ يجد فيه ضميرها المضطرب شيئا من الراحة. وبرز حينئذ بين الناس معلّمون لئن لم يكونوا قادرين على حملها على إتباع سبيل العقل فقد دفعوا بأبصارها في متاهات الغيب وفتحوا أمام أنظارها آفاقا رحبة ترضي خيالها وتجد فيها مجالا للتعبير عن آلامها عندما يتعذّر عليها الإشباع الكامل لرغباتها.
إن الإنسان لما كان جاهلا في بدئه بعلل الحوادث المحيطة به وأسرارها فقد رام تسليم أمره إلى المعلمين يتبع إرشادهم ويخضع لأوامرهم. ففرضت عليه الطاعة للكائن الأسمى الذي نسب إليه هؤلاء المعلمون كل الأحداث ومنعوا أن يجادل في الشر والخير. إني أسلم أن الإنسان قد أخضع بذلك إلى أثقل استعباد وأكبر ازدراء. لكن هل ينكر أحد أن ذلك التهذيب الديني، سواء أكان مسيحيا أم إسلاميا أم وثنيا، هو الذي كان مرشد الأمم للخروج من حال التوحش والارتقاء في طريق المدنية؟
وإذا سلّمنا أن الديانة الإسلامية كانت عائقا يحول دون تطوّر العلوم فما الذي يدفعنا إلى اليقين أن هذا العائق لا يرتفع في يوم من الأيام؟ بماذا تختلف الديانة الإسلامية عن غيرها من الديانات؟ أليست الأديان جميعا تشترك في التعصب، كل بطريقته الخاصة؟ خذ مثلا الديانة المسيحية، وأقصد الناس الذين اتبعوا تعاليم هذه الديانة وتكيف سلوكهم بأحكامها. لقد خرجت من الطور الأول الذي أشرت إليه وهي تتقدم بخطى سريعة في طريق العلم والتطور بعد أن أصبحت حرّة مستقلة. أما المجتمع الإسلامي فلم يتخلص إلى الآن من وصاية الدين. وكلما تذكرت أن الديانة المسيحية سبقت الإسلام بقرون إلا واعتراني الأمل في أن تحطّم الأمة الإسلامية يوما أغلالها وتتقدّم شامخة في طريق المدنية على شاكلة الغرب الذي لم تثنه عن ذلك العقيدة المسيحية رغم صرامتها وتعصبها.
لن أقبل أبدا أن يستثنى الإسلام من هذا المسار، وأنا أدافع هنا في وجه السيد رينان عن قضية مئات من ملايين البشر الذي سيقبعون في غياهب التوحش والجهل لولا هذا الأمل، ولا أدافع عن قضية الدين الإسلامي.
أقرّ بأن الإسلام حاول خنق العلم وعرقلة تطوّره، فنجح في تعطيل حركة الفكر والفلسفة وأثنى العقول عن البحث عن الحقائق العلمية. لكن الديانة المسيحية لم تكن على علمي براء مما يشبه هذا، فرؤساء الكنيسة الكاثوليكية وهم الممثلون للأغلبية لم يلقوا إلى الآن أسلحتهم في المعركة ضد العلم. ومازالوا يحاربون حربا ضروسا ما يدعونه التدليس والضلالة.
إني أدرك أن المسلمين سيواجهون مصاعب جمة في سبيل بلوغ المدنية لأنهم ممنوعون من اقتحام الطرق الفلسفية والعلمية. والمؤمن عندهم مدعوّ إلى الابتعاد عن طلب الحقيقة العلمية التي هي حقيقة الحقائق، كما يشهد ذلك الأوروبيون. فهو مثل الثور المقرون إلى العربة، إنه مقرون إلى العقيدة مستعبد لها مدفوع أبدا إلى السير في المنهاج الذي خطه له الفقهاء. كما نراه مقتنعا بأن دينه حاو كل الأخلاق والعلوم فلا يرى حاجة إلى التطلع إلى مصدر غيره ولا يشعر بفائدة في أن يرهق نفسه بتفكير يبدو غير ذي جدوى بعد أن ساد لديه اليقين بأنه يمتلك كل الحقائق. هل يفقد الإيمان ويترك ما هو عليه من سعادة أو يدرك أن الكمال ليس الدين الذي يدين به؟ إن الخشية من لفح الحيرة تجعله نفورا من إعمال العقل.
أدرك هذا تمام الإدراك، لكني أخالف السيد رينان في الوصف الذي قدّمه لكم للفتى العربي المسلم عندما رسم هيأته في عبارات قاسية، قائلا إنه يتحوّل بتقدّم السن إلى متعصب أحمق متكبر لشعوره بامتلاك الحقيقة المطلقة. إن هذا الفتى ينتمي إلى جنس ترك بالغ الأثر عند دخوله حلبة التاريخ، ولم يكن أثره السيف وحده فقد قدّم أيضا الأعمال الجليلة التي تثبت ولعه بالعلوم، العلوم جميعا ومنها الفلسفة التي اعترف أنه لم يتحمّلها إلا فترة قصيرة.
أراني أساق هنا إلى الحديث عن المسألة الثانية التي طرحها السيد رينان في محاضرته ببراعة واضحة. لا ينكر أحد أن الأمة العربية خرجت من وضع التوحش الذي كانت عليه في الجاهلية وأخذت تسير في طريق التقدم العلمي والذهني في سرعة لا تعادلها إلا سرعة الفتوحات، فاستوعبت خلال قرن كل العلوم الإغريقية والفارسية التي كانت في منشئها الأصلي قد ّتطوّرت ببطء وامتدّ تطورها قرونا. وفي مدة لم تتجاوز القرن أيضا امتدت فتوحات العرب من الجزيرة العربية إلى جبال الهمالايا وقمم البيرنيس. فتقدمت العلوم تقدّما مدهشا في تلك الفترة وشملت كل مجتمعات العرب والمجتمعات الخاضعة لسلطانهم. كانت رومية وبيزنطة في السابق مهدين للعلوم اللاهوتية والفلسفية ومركزي أنوار المعارف الإنسانية جميعا، وقد دخل اليونان والرومان عصر المدنية منذ أمد بعيد فكانت لهم القدم الراسخة في ميدان العلم والفلسفة. ثم جاء عصر توقف فيه علماء اليونان وروما عن البحث وتخلوا عن الدرس، فهدمت النصب التي أقاموها للعلم ودرجت كتبهم القيمة في طي النسيان. وقد كان العرب في وضعهم الأصلي من الجهل والتعصب حين ورثوا عن الحضارات المتمدنة ما تخلت عنه، ومع ذلك فقد أحيوا العلوم المندثرة وطوروها وأعادوها إلى الحياة بما لم يسبق له مثيل. أليس هذا دليلا على تعلقهم الفطري بالعلم؟
أجل، أخذ العرب عن اليونان فلسفتهم كما جرّدوا الفرس عن ما اشتهروا به في العصور القديمة. لكن هذه العلوم التي اغتصبوها بحقّ الفتح قد طوّروها ووضحوها ووسعوها ونسقوها بذوق كامل ودقة نادرة. ثم إن روما وبيزنطة لم تكونا أقرب للعرب وعاصمتهم بغداد من الفرنسيين والألمان والإنجليز، فلماذا لم يبذل هؤلاء جهدا في سبيل استغلال الكنوز العلمية المطمورة في تلك المدينتين إلى أن أنارت المدنية العربية على قمم جبال البرينيس وأشعت ضياء وبهاء على الغرب؟ أجل، استقبل الأوروبيون أرسطو بعد أن توشّح بالزي العربي، لكنهم لم يهتموا به عندما كان قابعا بين جيرانهم اليونان (المسيحيين الشرقيين). أوليس هذا برهان ناصع ثان على تفوّق العرب في مجال الفكر وتعلقهم الفطري بالفلسفة؟
حقا سقطت في الجهل ثانية الأقطار التي كانت مراكز المعرفة مثل العراق والأندلس بل أصبحت أوكارا للتشدّد الديني، لكن لا يمكن أن نستنتج من هذا المصير البائس أن العرب كانوا غائبين عن الحركة العلمية والفلسفية في القرون الوسطى وهم الذين كانوا أصحاب السيادة آنذاك.
إن السيد رينان يقرّ لهم بذلك على كل حال، ويعترف أنهم حفظوا قرونا تراث الإنسانية العلمي وطوّروه. وهل من رسالة أكثر نبلا من هذه يمكن لأمة أن تضطلع بها؟ يسلّم السيد رينان أن الأقطار الإسلامية ضمّت علماء ومفكرين عظاما طوال خمسة قرون من سنة 775 ميلادي إلى أواسط القرن الثالث عشر. وكان العالم الإسلامي آنذاك يتفوق على العالم المسيحي في الثقافة والعلوم. لكننا نراه يقول إن النابغين من رجال الإسلام كانوا في الغالب من أصل حراني أو أندلسي أو فارسي أو أنهم كانوا من نصارى الشام. ولست أقصد أن أغمط علماء الفرس صفاتهم الباهرة ولا أن أغض الطرف عن الدور الجليل الذي اضطلعوا به في العالم العربي، ولكن أرجو أن يسمح لي بأن ألاحظ أن الحرانيين كانوا عربا وأن العرب لما احتلوا إسبانيا والأندلس لم يفقدوا جنسيتهم وظلوا عربا. إن اللغة العربية كانت قبل الإسلام عدّة قرون لغة الحرانيين، ولا يتناقض ذلك وكونهم قد حافظوا على ديانتهم القديمة وهي الصابئية كما لا يلغي ذلك انتماءهم للجنس العربي. كذلك كان رهبان الشام في الغالب من العرب الغساسنة الذين اعتنقوا المسيحية.
أما ابن باجة وابن رشد وابن طفيل فلا يمكن القول إنهم كانوا أقل عروبة من الكندي لأنهم نشأوا خارج الجزيرة العربية، فالعامل الأكبر في تميز الأجناس البشرية هو اللغة، ولو ارتفع التمايز باللغة لنسيت الأمم أصولها. إن العرب الذين سخروا أنفسهم لخدمة الشريعة المحمدية وكانوا في الآن ذاته رعاة ومحاربين لم يفرضوا لغتهم على المغلوبين بل احتفظوا بها لأنفسهم وكانوا غيورين بها على الغير. من المسلم أن الإسلام قد دخل البلدان المفتوحة بالعنف الذي نعلم ففرض لغته وتقاليده وعقائده ولم تقدر هذه البلدان على التخلص من نفوذه، وتمثل بلاد فارس مثالا على ما نقول. لكننا إذا بحثنا في القرون السابقة لظهور الإسلام وجدنا علماء فارس على دراية باللغة العربية. فلئن مكنت الفتوحات من تسريع انتشار اللغة العربية فقد أصبح علماء فارس بعد اعتناقهم الإسلام يفخرون بتحرير مؤلفاتهم في لغة القرآن. لا شك أنه لا يحقّ للعرب أن ينسبوا لأنفسهم مجد انتماء هؤلاء الكتاب إليهم لكننا نعتقد أنهم لا يحتاجون إلى ذلك إذ بينهم العدد الكافي من العلماء والكتاب العظام.
ثم ما عسى تكون النتيجة لو أننا تابعنا العرب منذ انطلاق الفتوحات إلى سيطرتهم على العالم فأقصينا كل أجنبي عنهم وعن أحفادهم ولم نعدّ من مزاياهم الأثر الذي تركوا في الأذهان والدفع الذي قدموا للعلوم؟ ألسنا نضطر حينئذ أن نقصر مزايا الفاتحين وخصالهم على حادثة الفتح وحدها؟ آنذاك يسترجع كل شعب مغلوب استقلاله المعنوي ويسند لنفسه المجد كله فلا يبقى شيء يفتخر به هؤلاء الذين زرعوا الزرع وسقوه.
لو عمّمنا هذا الأسلوب لقالت إيطاليا لفرنسا إن مازارين ونابليون إنما ينتميان إليها، ولطالبت ألمانيا وإنجلترا أن ينسب إليهما فخر من رحل من أبنائها إلى فرنسا وتعلم في جامعاتها ورفع عاليا مكانتها العلمية. أما الفرنسيون فسينسبون إلى أنفسهم الأمجاد التي حققها الأحفاد من الأسر النبيلة التي توزعت في أوروبا بعد الثورة الفرنسية.
فإذا كان الأوروبيون ينتمون جميعا إلى نفس العرق فإنه يصحّ أيضا أن يعدّ الحرانيون والسوريون منتمين إلى العائلة العربية الكبرى، وجميعهم من الساميين.
بيد أنه يمكن التساؤل كيف انطفأت جذوة الحضارة العربية بعد أن أبهرت العالم بضيائها؟ وكيف ظلّ هذا المشعل منطفئا والعرب غارقين في لجج الظلام؟
هنا تبدو الديانة الإسلامية مسؤولة، فمن الواضح أنه حيثما حلّت فقد خنقت العلم، وأعانها الاستبداد إعانة كبرى على تحقيق مقاصدها. يروي السيوطي أن الخليفة الهادي أعدم في بغداد خمسمائة فيلسوف ليطهر الإسلام من جرثومة العلم في بلاد المسلمين. وإذا سلمنا أن هذا المؤرخ قد بالغ في عدد الضحايا فلا مجال لإنكار أن هذه المجزرة قد حدثت وأنها تمثل لطخة في جبين هذه الديانة وفي تاريخ الأمة. لكن أراني قادرا على أن أجد في ماضي الديانة المسيحية حوادث من هذا القبيل. إن الديانات كلها تتشابه وإن تعددت أسماؤها ولا مجال للتوافق أو التوفيق بينهما وبين الفلسفة. فالدين يفرض على الإنسان عقائد والفلسفة تحرّره منها أو من بعضها. كيف يمكن والحال هذه أن يتوافقا؟
دخلت الديانة المسيحية أثينا والإسكندرية متواضعة متوددة، وكانت المدينتان على ما هو معلوم المركزين الرئيسيين للعلوم والفلسفة، ثم استقرت المسيحية فيهما وتوطنت فكان أول همها إلغاء العلوم الحقيقية والفلسفة. فخنقتهما ورمت بهما في أدغال المجادلات اللاهوتية، وأصبحت قادرة بذلك على أن تستدلّ على ما لا يمكن الاستدلال عليه بالعقل، من أسرار التثليث والتجسّد وتحوّل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه. تلك سنّة الأديان، كلما سادت وقويت إلا واتجهت إلى إلغاء الفلسفة، وكذلك تسلك الفلسفة إذا آلت إليها السيادة. وسيستمر الصراع بين العقيدة والنظر الحرّ وبين الدين والفلسفة استمرار التاريخ الإنساني. إنه صراع شديد أخشى أن لا تكون الغلبة فيه دائما للنظر الحرّ، فالعقل لا يوافق الجماهير وتعاليمه لا يفقهها إلا نخبة المتنورين. والعلم، على ما به من بهاء، لا يرضي الإنسانية كل الإرضاء وهي المتعطشة إلى المثل العليا التواقة إلى التحليق في الآفاق المبهمة البعيدة التي لا عهد للفلاسفة برؤيتها أو ارتيادها.
جمال الدين الأفغاني
قرأ رينان ردّ الأفغاني المنشور في صحيفة لوديبا الفرنسية بتاريخ 18/05/1883 وأجاب عليه في اليوم الموالي بتعليق نقدّم هنا تعريبه:
طالعت أمس بما هي جديرة به من اهتمام الأفكار النبيهة التي قدّمها الشيخ جمال الدين حول
محاضرتي الأخيرة بالسوربون. لا شيء أكثر فائدة من أن ندرس وعي الآسيوي المستنير وهو يعبّر عن نفسه بصدق وأصالة. والإنصات إلى الأصوات المتباينة وهي تنبعث من أنحاء العالم للدفاع عن العقلانية يدفع إلى الاعتقاد بأن البشر لئن فرقت بينهم الأديان فقد وحّد بينهم العقل. ووحدة العقل البشري هي النتيجة العظمى والمسلية التي يسفر عنها الصدام السلمي بين الأفكار إذا ما صرفنا النظر عن الادعاءات المتناقضة للرسائل المدعوة بالسماوية. يبدو اتحاد العقول السليمة في الكون لمحاربة التعصب والخرافة عملا مخصوصا بنخبة لا شأن لها، لكن الحقيقة أن هذا الاتحاد هو الأمر الوحيد الدائم لأنه قائم على الانتصار للحقيقة وسينتهي بالتغلب يوما ما عندما تنهار الخرافات وتتشظى في وحدات عريقة من التشنجات العاجزة.
لقد تعرفت على الشيخ جمال الدين منذ شهرين تقريبا وتم ذلك بفضل معاوننا العزيز السيد غانم. قليلا هم الأشخاص الذين التقيت فتركوا في نفسي انطباعا بالقوة التي تركها لقاؤه. وقد كانت محادثتي معه آنذاك الدافع الأكبر لاختياري موضوع العلاقة بين الروح العلمية والدين الإسلامي موضوعا لمحاضرتي بالسوربون. إنّ الشيخ جمال الدين رجل أفغاني قد تحرّر كليّا من المسلمات الإسلامية وهو ينتمي إلى الأعراق النشطة لشمال إيران المجاورة للهند فهناك تتواصل الروح الآريّة القويّة تحت حجاب رقيق من الإسلام الرسمي. وهو البرهان الساطع على المصادرة الكبرى التي وضعنا ومفادها أنّ قيمة كلّ دين تتحدّد بقيمة الأعراق التي تعتنقه. كانت ترشح من جمال الدين حرية الفكر ونبل الطباع فخلت وأنا أتحدث إليه بأني أجالس أحد معارفي القدامى وقد بعث حيا، لقد رأيت فيه ابن سينا وابن رشد وغيرهما من كبار الملحدين الذين مثلوا لمدة خمسة قرون تراث العقل الإنساني. كان الفارق يبرز أمامي بجلاء كلما قارنت هذا الحضور القويّ بالصور التي تبدو عليها البلدان الإسلاميّة بعد فارس، فهي بلدان قد اختفت فيها أو تكاد الروح الفلسفية والعلمية. إنّ الشيخ جمال الدين هو أفضل مثال يمكن تقديمه للصمود العرقي ضدّ الغزو الديني، وهو يؤكد ما لم يفتأ مستشرقو أوروبا الأذكياء يذكرونه: إنّ أفغانستان هي البلد الآسيوي الأكثر احتواء للعناصر المكونة لما ندعوه الأمّة بعد اليابان.
إني لا أرى في المقال العالم الذي كتبه الشيخ إلا مسألة واحدة هي محلّ خلاف بيننا. يرفض الشيخ التمييز الذي يدفع إليه النقد التاريخي في هذه الظواهر المعقّدة التي تدعى الإمبراطوريات والغزوات. فالإمبراطورية الرومانية التي كان للعرب صلات بها عديدة هي التي جعلت اللغة اللاتينية لسان حال العقل البشري في الغرب إلى حدود القرن السادس عشر. وقد كتب بهذه اللغة ألبرت الأكبر وروجر باكون وسبينوزا مع أنّنا لا نعتبرهم من اللاتينيين. وكذلك نقحم في تاريخ الأدب الإنجليزي بيد ( Bède ) وألكوين ( Alcuin ) أو في تاريخ الأدب الفرنسي غريغوار دي تور ( Grégoire de Tours ) وأبيلارد ( Abélard ) وعندما لا نعتبرهم من اللاتينيين فلا يمكن أن نتهم بالتقليل من شأن روما في تاريخ الحضارة، فكذلك نحن لم نقصد التهاون بشأن الحركة العربية. وكل هذه الحركات الإنسانية الكبرى تظلّ بحاجة إلى مزيد التحليل. لكن ليس كلّ ما كتب باللاتينية هو من أمجاد روما ولا كلّ ما كتب باليونانية هو تراث إغريقي ولا كلّ ما كتب بالعربية هو إبداع عربي ولا كلّ ما حصل في المجتمعات المسيحية هو من نتائج الدين المسيحي ولا كلّ ما حدث في البلدان الإسلامية هو من ثمرات الإسلام. هذا هو المبدأ الذي كان قد اعتمده العلامة رينهارد دوزي في تاريخه للأندلس وهو عالم مشهود له بالكفاءة تأسف أوروبا هذه الأيام لوفاته. لقد طبّق هذا المبدأ بحكمة نادرة. فالتمييز الذي دعونا إليه ضروري كي لا نجعل من التاريخ نسيجا من الأفكار التقريبية والالتباسات.
بدا للشيخ أني لم أكن عادلا في مسألة أخرى إذ لم أتوسّع في تأكيد أنّ كلّ أديان الوحي تعادي العلم الوضعي وأنّ المسيحية في هذا المجال ليست بأقلّ ذنبا من الإسلام. هذا أمر لا يرقى للشكّ. لم يكن مصير غاليليو مع الكاثوليكية بأفضل من مصير ابن رشد بين المسلمين. وصل غاليليو إلى الحقيقة في بلد كاثوليكي على الرغم من الكاثوليك كما تفلسف ابن رشد بنبل في بلد مسلم على الرغم من الإسلام. إذا لم أشدّد كثيرا في بيان هذه المسألة فلأنّ مواقفي حولها مشهورة بما يغني عن إعادتها أمام جمهور مطلع على أعمالي. لم أرني مضطرّا إلى أن أعيد في كلّ مناسبة ما كرّرت دائما: ينبغي أن يتحرّر العقل من كلّ عقيدة غيبية إذا رغب في تسخير طاقاته في وظيفتها الرئيسية، أقصد تشييد صرح المعرفة الوضعيّة. ليس المطلوب هدما عنيفا ولا قطيعة قاسية. ليس القصد أن يتخلّى المسيحي عن المسيحيّة ولا المسلم عن الإسلام. إنما المطلوب أن يشترك المستنيرون في المسيحية والإسلام من أجل بلوغ وضع "اللامبالاة الرفيقة" حيث تفقد العقائد الدينية شراستها. لقد تحقّق هذا الوضع في نصف العالم المسيحي تقريبا ونأمل أن يتحقّق مستقبلا في الإسلام. ومن الطبيعي أن أكون أنا والشيخ في طليعة المرحبين عندما يحدث ذلك.
لم أقل إنّ كلّ المسلمين على اختلاف أعراقهم كانوا جميعا جهلة وإنما قلت إنّ الإسلاميّة وضعت الكثير من العراقيل أمام العلم وقد نجحت مع الأسف منذ خمسة أو ستة قرون في أن تمحق العلوم في البلدان التي سيطرت عليها وقد كان ذلك سبب بؤس تلك البلدان. واعتقادي أنّّ نهضة الإسلام لن تحصل بالعودة إلى هذا الدين ولكن بإضعاف تأثيره في البلدان الإسلامية. وكذا تحقّقت نهضة البلدان المصنفة مسيحية بتحطيم استبداد الكنيسة الذي تواصل كلّ العصر الوسيط. ظنّ البعض أنّ في محاضرتي نيّة الإساءة لمعتنقي الإسلام، وأنا أتبرّأ من هذه النيّة لأنّي اعتقد أنّ الضحيّة الأولى للإسلام هو المسلم نفسه. لقد رأيت مرّات عديدة خلال رحلاتي في المشرق أنّ مصدر التعصّب عدد محدود من الأشخاص العنيفين الذين يخضعون غيرهم بالقوّة للممارسات الدينيّة. وأفضل مساعدة يمكن لنا أن نقدّمها للمسلم هي أن نحرّره من دينه. لا اعتقد أني أضمر للمسلمين شرّا إذا كنت أتمنّى لهم أن يحطموا القيود التي تكبلهم خاصة وأن بينهم أشخاصا كثيرين من ذوي الهمّة. وبما أنّ الشيخ جمال الدين يدعوني إلى الإنصاف بين الديانات فإني لا أظنّ أيضا أنّي أضمر الشرّ لبعض البلدان الأوروبيّة إذا ما تمنيت للمسيحيّة فيها أن تكون أقلّ نفوذا.
إنّ التباين بين الليبراليين حول هذه المسائل المختلفة ليس بالتباين العميق فهم جميعا يصلون إلى نفس النتيجة العمليّة سواء أكانوا متعاطفين أو غير متعاطفين مع الإسلام. والنتيجة هي ضرورة تعميم المعارف بين المسلمين. هذا أمر جيّد شرط أن يكون المقصود المعارف الجديّة التي تنمّي ملكة التعقّل. وسأكون سعيدا إذا ساهم القادة الدينيّون من المسلمين في تحقيق هذا العمل الرائع، لكنّي أصارحكم بأنّ لديّ شكوكا في ذلك. سوف يبرز أشخاص متميزون (القليل منهم سيبلغ تميّز الشيخ جمال الدين) وسوف ينفصلون عن الإسلام كما انفصلنا نحن عن الكاثوليكيّة. بعض البلدان سوف تبتعد بمرور الوقت عن الشريعة لكن أشكّ في أن تحظى النهضة الإسلاميّة بتأييد الإسلام الرسمي. وكذلك لم تصاحب الكاثوليكيّة النهضة العلميّة لأوروبا ولا عجب أن تظلّ الكاثوليكية تقاوم إلى اليوم ما هو لبّ العقلانية الإنسانية، أقصد قيام الدولة المحايدة بين العقائد التي تعتبر منزّلة.
ينبغي أن تكون الحريّة الإنسانيّة واحترام الإنسان القاعدة التي تعلو ولا يعلى عليها. من واجب المجتمع المدني أن لا يسعى لتقديم الضمانة لأي دين ولا يفرضه على أتباعه إذا رغبوا في التخلّص منه كما من واجبه أن لا يسعى إلى هدم الديانات بل عليه أن يتعامل معها بحسن القبول باعتبارها تجليات حرّة للطبيعة البشريّة. وإذا ما تحوّلت الأديان إلى مواضيع حرّة وشخصيّة مثل الأدب والذوق فإنّها ستتغيّر كليّا. سوف تتخلّص الأديان حينئذ من الكثير من مساوئها عندما تتخلّى عن الروابط الرسميّة التي تربطها بالدولة. قد يبدو هذا التصوّر طوباويّا في الوقت الحاضر لكنّه سيتحقّق في المستقبل. كيف يمكن لكلّ دين أن يتصرّف مع أنظمة الحريّة التي ستفرض نفسها في المجتمعات الإنسانيّة بعد طول عناء؟ هذا سؤال لا يمكن أن يجد بيانه في عدد محدود من الجمل. ولم أقصد في محاضرتي إلاّ أن أخوض في شأن تاريخي وقد بدا لي أنّ الشيخ جمال الدين قد قدّم حججا قويّة لأطروحتين أساسيتين مما قصدت الدفاع عنه: الأولى أنّ الإسلام لم ينجح في النصف الأوّل من عهده في إيقاف تدفق الحركة العلمية في المجتمعات الإسلاميّة والثانية أنّه خنق هذه الحركة في النصف الثاني من عهده فحاق به شرّ ما أقدم عليه.
أرنست رينان.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)