وضاح شرارة
في مطلع الاسبوع الاخير من تموز المنصرم، قبل حملة حماة الثانية وغداة انقضاء 4 أشهر وأسبوع على خروج الحركة الوطنية والمدنية الديموقراطية السورية الى العلن، قتلت "قوات الامن" نحو 11 شخصاً، أو "ما لا يقل عن" هذا العدد على تقدير عمار القربي، رئيس المنظمة الوطنية لحقوق الانسان، في مدينة أو بلدة كناكر (25 ألفاً) بريف دمشق، الى جنوب دمشق الغربي. وأعلن "اتحاد تنسيقيات الثورة السورية" اسماء 7 من القتلى وسن معظمهم. و4 منهم لم يبلغوا العشرين حين قضوا. ونظمت "العملية الامنية" على شاكلة غارة تولاها تراكس، أو جرافة، هَدَم البيوت على أصحابها. وحمت الجرافة دبابات القوات المسلحة او قوات الامن، وقطعت الطرق الداخلية ورابطت على المفترقات وبوابات الدخول الى البلدة. وقامت هذه بحملة اعتقالات طاولت 250 من اهالي كناكر. والغارة "الامنية" أو الانتقامية، على البلدة الجنوبية الغربية، بريف دمشق المحاذي خراج درعا، هو رد جواب على تزويد البلدة، وغيرها من بلدات خراج دمشق، زميلاتها الدرعاوية المؤن، واسهامها في كسر الحصار التمويني الذي تضربه وحدات التدخل المتحركة على المدن والبلدات الناشطة.
التنسيقية والائتلاف
ودرعا نفسها تحتل أسواقها، وعلى الخصوص ساحة الحرية فيها (سابقاً ساحة السرايا) قوات تدخل عسكرية وأمنية، في عشرات سيارات الامن، يحمل أفرادها هراوات. وعودة قوات التدخل، وسياراتها وهراواتها، الى احتلال المدينة، والى مداهمة "القرى" او البلدات التي تصلها بالعاصمة وتصل العاصمة بها مثل برزة والحجر الاسود والسيدة زينب والكسوة وحرستا، وهذه من دمشق "الكبرى" والمتصلة- على خلاف زعم قوى "الاعلام" الرسمية التي أخرجتها من الخريطة الدمشقية تهويناً وتصغيراً من شأن الحركة المدنية في دمشق نفسها- هذه العودة مردها الى دعوة أهلها الى التضامن مع ... حمص وحماة والمدن المحاصرة الاخرى. وهي المدن التي تتظاهر نهاراً و(أكثر فأكثر) ليلاً تضامناً مع درعا والمدن الاخرى المتضامنة والمتظاهرة والمحاصرة. وعلى هذا، نشأت روابط قوية وثابتة من المدن وبين المدن، من "درعا الى القامشلي"، وبين الارياف، في جهات سوريا المتفرقة كلها، بلاداً أو جهات وسكاناً وتجارة وادارة وهيئات مهنية، وأمست الروابط هذه دائرية. وتخطت التأثير الصادر عن بؤرة، شأن درعا في الفصل الاول من الحركة ثم حمص في الفصل الثاني ومعها بانياس فحماة فالحسكة فإدلب...، نحو بؤرة اخرى. وتجاوزت العلاقة الخطية او الرأسية الى شبكة متماسكة ومتضافرة أفعوانية، إذا جازت العبارة.
فالسوريون بنوا، ولا ينفكون يبنون تماسكهم وأواصرهم و"تنسيقياتهم" على مراتبها الوطنية والمحلية (شأن اتحاد تنسيقية حرستا وعربين وزملكا التي نعت في 27/7 محمود طه قاسم "المتزوج منذ ثلاثة أشهر" وقتيل قوات "الامن" على مفرق قرية سليمة وهو عائد على دراجته النارية من عمله)- في ثنايا حركتهم الوطنية والمدنية، وفي سياقتها الكثيرة الفروع والملتفة. وهم يسعون في النهوض جماعة وطنية متضامنة، ومؤتلفة من أهالٍ وأحياء ومدن وأرياف وعشائر وأقوام وطوائف وطبقات. ويرجو "المراقب"، المتعاطف والمتضامن والنصير، أن تكون "التنسيقية" إحياء وتجديداً "للائتلاف"، ولـ"حزب" الائتلاف أو تياره العثماني (في أوائل القرن العشرين) بإزاء "الحزب الاتحادي" المركزي والاندماجي والدمجي قسراً. وأورث ضباط قوميون تُرك اتحاديون البلدانَ والمجتمعات العربية انقلابييها الاوائل الى عتبة النصف الثاني من القرن العشرين. فكان حسني الزعيم، الانقلابي السوري الاول، أحد أواخر هؤلاء الضباط العرب. وهو خلف الضباط العراقيين الذين استولوا على حكم العراق في 1937 1941. ولعل حسم نزاع الاتحاديين، القوميين المتعصبين وقادة الجهاز العسكري البيروقراطي والمحترف، والائتلافيين، وهم ليبراليو الادارة المتحالفون مع ممثلي الاقوام والمجتمعات المحلية والوطنية، لمصلحة الاتحاديين كان فاتحة من فواتح بناء "الدولة" العربية المشرقية على الركن العصبي (العشائري والاهلي) والبيروقراطي العسكري والامني الذي غلب على معظم بلدان المشرق وحركاتها السياسية. وتمثل عليه "القيادة" السورية الاسدية خير تمثيل، غداة انهيار صدام حسين.
فما تضطلع به تنسيقيات الحركة الوطنية والمدنية الديموقراطية السورية المتحدرة من المنتديات والبيانات والمنابر والتيارات، منذ نحو 5 اشهر، لا يقتصر على جمع معارضة شعبية متراصة في وجه الحلف العصبي البيروقراطي الذي ينيخ بثقله على المجتمع السوري، ويحول دون استواء الحكم على صورة الدولة المدنية المشروعة. فهي، الى استيلاء هذه المعارضة، ورص صفوفها، تصنع خيوطاً وجسوراً بين الجماعات الاهلية والبلدية والافراد، وترسي النسيج أو البنيان على لحمة سياسية وطنية، عَرْضية وائتلافية، تنحو نحو التعاقد الحر أو تعاقد أحرار، على الاشتراك سواسية في دولة ووطن (أمة) جامعين ولا ينفكان في طور الجمع والتأليف. فلا تنزل "الدولة القومية" الناجزة والخاوية، وهي فعلاً متعينة في حلف عصبي اداري يتقاسم السلطة والاجهزة والعوائد، جسماً قاهراً وساحقاً على الرعايا والاهل، المتفاوتين كعباً ومكاناً، وعلى البلاد. والانشاء، الوطني والسياسي على هذا المثال، في مجتمع مثل المجتمع السوري سلط عليه الاستيلاء الانقلابي البعثي، في أطواره الثلاثة او الاربعة وفي الطور الناصري و"الوحدوي" السابق، عوامل تفريق وتآكل وتعصب، يقتضي (الانشاء) تدبيراً وحكمة، وحِلماً وحصافة وتأليفاً في المصطلح القديم، من ضرب أو صنف لا عهد للسياسات العربية الانقلابية والاستيلائية، في شقيها وركنيها الاهلي العصبي والجهازي المركزي، به.
التمرد الرسمي
ويحقق هذا الزعمَ ويؤيده نهجُ الكتلة السورية الاسدية في معالجة ما تسميه التنسيقيات "الثورة" (وما يليق به ربما أكثر وسمُ الحركة الوطنية المدنية الديموقراطية السورية، وينزهه عما علق بالثورات العربية الاقليمية وانقلاباتها العسكرية، وحركاتها المسلحة الاهلية والمتعسفة وفوضاها المدمرة، من دواعي النفور والصد). فالكتلة الاسدية المتسلطة تعالج حوادث الحركة الوطنية والمدنية ووقائعها، أي اجتماعاتها وتظاهراتها واعتصاماتها واعلاناتها، على الطريقة التي انتهجتها وعرفت بها حروب العصابات، أو حروب الغوار. وهي حروب غارات على الدولة وهيئاتها ومواطنيها ومرافقها. فـ"الدولة" المزعومة تغير على جماعات الاهالي، وعلى مساكنهم وطرقاتهم ومواصلاتهم وجسورهم ومحالهم ودكاكينهم ومساجدهم ومنتدياتهم، وتُعمل في هذه تقطيعاً وتخريباً وهدماً، وفي الناس ارهاباً وتخويفاً وعزلاً وتبعيداً وتحريضاً. وما يتولاه "التمرد" وهو الاسم البوليسي والعسكري الذي سمت به اجهزة مكافحة الانتفاضات الفلاحية، الاوروبية والاميركية، الحركات الاستقلالية و"العالمثالثية" والاجتماعية المسلحة في خمسينات القرن الماضي- وهو تقطيع أوصال جهاز الدولة المتصلة والمتشابكة، وعزل أجزاء البلاد والمجتمع بعضها عن بعض، وتخريب المنشآت وشل الاعمال وتهديد الامن، تتولاه اليوم في سورية (الاخوين الاسد ورهطهما ودوائر "الحلف" ومراتبه الجهازية المصلحية والطائفية) غارات العصابات الاهلية الرسمية و"ألوية الموت" والقتل والاغتيال. وذلك باسم "الدولة"، ونيابة عنها، وتعويضاً عن قصورها عن انجاز المهمات هذه في اطار الاجهزة الرسمية المتماسكة.
وينتدب المركز، وهو النواة القيادية المزدوجة الصفة، قوات مختلطة، أمنية وعسكرية رسمية في زيها المتميز والظاهر وأخرى "مدنية" أهلية في حل من امساك العسكريين والامنيين الرسميين المفترض، وتتولى قتل المتلكئين والمترددين، ينتدب المركز القوات المختلطة الى مواقع ومناطق ذات أدوار معنوية وجغرافية بارزة. ويمهد لتجريده حملتَه تمهيداً "اعلامياً" ومسرحياً حاداً، على شاكلة ذاك الذي سبق الحملة التأديبية والدامية على جسر الشغور ثم على البوكمال. واليوم على حماة. فيعلن عن مقتل عدد كبير من رجاله، ويعزو القتل الى جماعات مسلحة محلية، ويسوغ حملته المختلطة بتلبية نداء الاهالي واستغاثتهم. وكأن الدول تفتقر الى مسوغ مباشر من القانون ومن وظيفتها يدعوها الى بسط الامن. فتوَسِّطُ المواطنين وتلتمس العذر منهم. ويسدل المركز الغفل ستاراً صفيقاً على وقائع الحملة نفسها. فلا شهود من الاهالي، ولا من الصحافة، ولا من جمعيات حقوق الانسان، ولا من البعثات الاجنبية، ولا من الجهاز الذي نفذ العملية. وحين دعي بعض الديبلوماسيين الاجانب، وفيهم السفير الاميركي، الى جسر الشغور بعد حملة التأديب التي لا شاهد عليها، ولا أثر لها في وثيقة مصورة معاصرة، جيء الى البلدة ببعض اهل بلدات مجاورة أو قريبة، وعُهد اليهم بأداء دور العائدين الى بلدتهم الآمنة بعد أن تحررت من مروعيها ومرهبيها بإنعام من القوات المختلطة...
وتشبه الحملات البوليسية والارهابية المختلطة، وعزلها المناطق التي تقصدها، وفرزها السكان والاهالي فريقين، وتصفيتها في ظل يضطرب بين السر والعلن الفريق "المشبوه" والتمثيل به نهج العمليات الثورية الذي انتهجته حركات كاستروية وغيفارية وماوية في أميركا اللاتينية لعل "الطريق المضيء" في قيادة غوزمان بالبيرو المثالَ عليها. فالعمليات الثورية والحملات التأديبية التي تشنها الطوابير الاسدية المختلطة ترميان الى حماية "البؤر" و"القواعد" المحررة، أو المسلوخة من كيان المجتمع المتصل في كنف دولة (طيفية في احيان كثيرة) مشتركة، وإخراجها من هذا الكنف الى عراء سيطرة مباشرة لا قيد عليها من طيف الدولة. وقبل اقتحام حماة في الاول من آب، سلّط جدولُ جمعية حقوقية مدنية ("أفاز" ومعها "انسان" وسام طريف) أحصت 3 آلاف مخطوف ليسوا في عداد الـ13 ألف معتقل الى يومها (من 26 ألفاً اعتقلوا في وقت من الاوقات وأفرج عن بعضهم في اثناء الاشهر الخمسة المنصرمة) ولا هم في عداد الـ1650 قتيلاً، الضوءَ على وجه آخر شبيه بأعمال العصابات الخاصة، الثورية وشبه الرسمية، في كولومبيا الاميركية اللاتينية. (وهذه الارقام يضاف اليها نحو مئتي قتيل وبضعة آلاف من المعتقلين وربما مئات من المفقودين). فمعتقلات قوات كولومبيا الثورية ("فارك")، وهي المنظمة التي احتجزت بيتينكور المرشحة الرئاسية الكولومبية الفرنسية نحو 5 سنوات، تعج بآلاف المخطوفين المدنيين من الاصناف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كلها. والصيغة الاسدية والمحلية تبلورت في فصل "القيء الاهلي"، على ما سمى أحدهم أعوام 1979 1982 وغداتها المباشرة. فمذ ذاك لا يُعلم شيء عن مصير عشرات الآلاف (40 ألفاً؟ 60 ألفا؟ 70 ألفاً؟) من المفقودين الذين تبددت آثارهم بين السجن والتخفي والتوقيف والتحقيق والخطف والتصيفة المواربة.
سوريا (الاسد) من غير السوريين
وقطع الاتصالات الهاتفية والالكترونية، واغراق المناطق المستهدفة في الظلام وحجب التيار الكهربائي عنها، والحؤول بينها وبين التموين بالسلع الاساسية، ومراقبة أماكن الاجتماع المتوقعة والمقدرة (مثل المساجد وصالات الاعراس والفنادق ونوادي النقابات المهنية) ومحاصرتها وإحراق بعضها، وتعقب الجرحى الى المستشفيات والعيادات الخاصة- هذه كلها وسائل يتوسل بها الجهاز العصبي والبيروقراطي المستولي الى انتزاع الاهالي من الكتلة الوطنية السورية، والى فك عرى العمران والاجتماع والخيوط التي نسجتها الدولة، منذ عهد الولايات فالانتداب فالاستقلال فالديكتاتورية، بين الاهالي. وذلك من تلقاء (قيام) الدولة والادارة واضطلاعها بوظائفها. ومهاجمة الجهاز العصبي - البيروقراطي الاسدي وشائج العمران والاجتماع المدنيين وروابطهما وأبنيتهما الحيوية، جزء من الحرب الاهلية العميقة التي استولى من طريقها هذا الجهاز على آلات الغلبة والقهر والعزل، واختصر الحُكم والدولة فيها.
فلا يطيق الجهاز دوام روابط اجتماعية بين جماعات السكان والافراد، ولا سريانها في عروق عمران مشترك، ولو في حدودها الخدمية والاجرائية الدنيا. فهو يقحم وساطته ومشيئته في عمل الخدمات الاجتماعية والاقتصادية الاساسية، وفي العلاقات المتبادلة التي تنشئها بين الاهالي. فلا ينزع الناس الى التوهم في أنفسهم القوةَ على التواصل التلقائي، خارج مشيئة الرأس العشائري الاهلي والاجهزة الامنية والادارية التي تصدر عن إرادته وأمره القاهرين. فإذا أقدرت الابنيةُ الاجتماعية والادارية، المتخلف بعضها عن "انجاز" الجهاز الاسدي، السوريين على التواصل ارتد الجهاز على ابنية التواصل ومسالكه، وأعمل فيها تحطيماً وتدميراً، على نحو ما يصنع في مداخل حماة ووسطها. فهي، الابنية والمسالك، تنم بكيان عمراني وطني مستقل وقائم بنفسه، وملازم لكيان الجماعة الوطنية والاهلية السورية وأجيالها المتعاقبة.
وعلى هذا، "ينزل" التسلط الارعن والاحمق من الابنية المعنوية والسياسية، شأن الصحافة والاعلام والانتخاب والتحزب والتحالف، الى الابنية الادارية والمادية. ففي الاوقات "العادية"، وجَّه الجهاز المستولي شفرة سكينه (سكاكينه ومقصه ومقصاته) الى الابنية المعنوية والسياسية هذه. فحال بينها وبين انشاء دائرة علانية عامة ومشتركة يسهم في رفعها، وفي رصف حجارتها ومداميكها، من يمثلون جماعات واجساماً خاصة متفرقة، بلدية وأهلية واقتصادية واعتقادية وعصبية، ويسعون في بلورة لحمة سياسية جامعة تتعالى عن الجماعات ومصالحها، وتؤلف بين بعض كتلها وأجنحتها، وتنافس على التمثيل والحكم. واحتكر الجهاز المستولي مُلكية الابنية المعنوية والسياسية، على المعنى المادي والحقوقي للملكية، وانفرد بها، أو نصَّب بعض فروعه ومراقبيه ولياً مطلقاً عليها. فلفّق في حق من ارتضى، في وقت أول، شراكتَهم الانتخابية والنيابية، وأقر لهم بصفة تمثيلية واجتماعية مستقلة، تهماً أحالتهم بين ليلة وضحاها مجرمين ومتآمرين ومحتالين. وضيّق تضييقاً خانقاً على هامش اعلامي هزيل وطرفي. ولم يقصر انقلابه وتضييقه على إعمال الوسائل القانونية والادارية الكثيرة والطيعة التي لا ينازعه عليها منازع. فعمد الى وسائل من خارج اطار العدة القضائية والادارية، وهي المتاحة على مصراعيها، مثل حوادث السير القاتلة، والسطو على الممتلكات والاموال، والتحريض الخاص والغفل على "المنحرفين" وسد أبواب العمل في وجوههم.
فولاية السلطات العامة واحتكارها من غير استثناء، وانتداب الموالي المطواعين والمقيدين الى تصريف بعض اعمالها التنفيذية، لم تحمل على اقتسام السلطان، على أدنى درجات الاقتسام وأقلها. ومثل هذا الانقسام على أدنى درجاته، يفترض الاشتراك في شيء عام ومشترك، ويقر بقصور السلطان، وصاحبه (رأس) الجهاز العشائري البيروقراطي، عن الاضطلاع وحده، ومن غير حاجة الى شركاء متعاقدين، بالتمثيل على "سوريا" (الاسدية)، وتجسيدها وجمع متفرقها (المنكر والمبطل) في نفسه. وينكر السلطان الاسدي و"دولته" انكاراً ضارياً وشرساً حاجته الى شركاء يتعاقد معهم على تمثيل "سوريا". وهذه تعلو السوريين، الافراد والاعيان، وتلتهمهم وتبطل حقيقتهم المادية المتفرقة والتاريخية والاجتماعية. والنظام الاسدي في غنى عن ولاء السوريين، وبالاحرى عن محبتهم واقتناعهم. ويريد منهم، على معنى الاكراه، الطاعة والسمع. ولا يترتب هذا على ضرب من الدهاء والمواربة المعقدة، بل على صنف الاستيلاء الخاص الذي ينفر من أي قيد لا بد أن ينجم عن العقد والشراكة والائتلاف والاقرار بالكثرة الاهلية والاجتماعية. وهذا "سر" الكراهية الحاقدة التي يصليها الجهاز المستولي وأنصاره اللبنانيون الاعراف السياسية اللبنانية، وجهرها الوقح طائفتيها وميثاقيتها، أي كثرتها.
حملة التطويق
وعلى هذا، لا يدعو الاستيلاء على مقاليد الدولة ومرافقها وهيئاتها النيابية والقضائية وادارتها، وعلى مواردها، واحتكار السلطان، وملء قلبه الرمزي والتمثيل عليه من غير شريك، لا يدعو هذا كله الجهازَ أي رأسَه الى الفعل من داخل الدولة ومقاليدها وأبنيتها وأحكامها. فهو يؤثر إعمال الوسائل الخاصة، والمنافية للقانون والخارجة عليه. ويتعمد مهاجمة سفارات الدول الاجنبية بواسطة محازبين انصار وأجراء، وليس من طريق أعراف ديبلوماسية واجراءات تؤدي معاني الانكار والتحفظ والتنديد. والاعراف والاجراءات الديبلوماسية،شأن طرق القضاء والادارة ولوائحهما، قرينة على كيان دولة مقيد بإقرار ملزم، ويبادل الالتزامات بمثلها ونظيرها. وأما المحازبون الانصار والموالي فلا قيد عليهم، ولا يلزمهم اقرار أو تبادل. وهم عَرَض الاستيلاء الخاص، الاسدي العشائري والجهازي، على "سوريا" وتمرد هذا الاستيلاء على العمومية الديبلوماسية القانونية. فهم، على الاراضي السورية هذه المرة، صنو "حلفاء" الجهاز الاسدي وصنائعه وأجرائه ومُديِّه أو "سكاكينه الثانية"، على قول أجنبي، في لبنان وفلسطين والعراق، وفي المنظمات "الجهادية" التي ترعى مرابع المشرق وجنباته. ولا غنى للجهاز عن "الحلفاء" والصنائع والاجراء والمدي "الثانية" بإزاء أنواع وأصناف كثيرة من الخصوم والاعداء والمعارضين والمتحفظين المحليين والاقليميين. وبعض "الحلفاء" انخرط في أبنية دول، وكيانات دول وطنية، ولم يكف عن خوض حرب عصابات وطياحة على دولته الوطنية المفترضة. وآية حربهم انشاء مرافق موازية لمرافق الدولة، وإخراج مناطق "محررة" من ادارتها، واقتطاع "شعب" أو "أمة" من الكيان السياسي والحقوقي المتصل. وتترتب "الطائفية" في سوريا ولبنان والعراق، وفي غيرها، على تسليح الطوائف الغالبة واللابسة زيّ "الدولة"، والمتسلطة باسمها.
ويروي معارضون سوريون كرد أن بعض "الامن" الاسدي دعاهم الى التظاهر الآمن في أيام الجمع على شرط ترك العلم السوري الواحد، والتلويح محله وبدلاً منه بعلم "حزب العمال الكردستاني". وذلك آنَ عبدُالله أوجلان، زعيم الحزب وأسير قلعة في عرض بحر استانبول، يفاوض الحكومة التركية على ترك حرب حزبه على الدولة التركية وجيشها ومناطقها المختلطة. وحمل مراقبون كثر عمليات "الكردستاني" الدامية الاخيرة على قيادة الحزب الطليقة والمتعاطفة مع الامن السوري والمتمردة على أوجلان وسياسته المعتدلة. ويُصدَّق رأي المراقبين هذا في ضوء نهج "القيادة" الاسدية في أثناء الاشهر الخمسة الاخيرة. فهي سعت في تقسيم السوريين طوائف ومذاهب. فاستجابت المطاليب "الفئوية": إعادة المحجبات الى التدريس، وغلق الكازينو "المنكر"، وتجنيس "الاجانب" الكرد في الحزام العربي، ورشوة الموظفين وبعض أهالي الارياف بعلاوات على الرواتب وبمساعدات عينية، وزيادة علامات الاستلحاق في امتحانات الشهادة الرسمية، وتخفيض سن تقاعد العاملين... وهذه اجراءات صريحة ومباشرة. وأما المطاليب السياسية والمشتركة، مثل حرية العمل السياسي وحرية الاعلام والاحتكام الى القوانين المدنية وإلغاء القيادة الفرعونية، فرد عليها رأس الجهاز المستولي بالتسويف و"التشاور" وبالقتل والاقتحام والخطف والاعتقال والتهجير، أي بحملة التطويق الاخيرة على قول ماوي سائر. فحيث يفترض الجواب السياسي، والتوجه الى السوريين على صفة المواطنين العامة والجامعة، يصيب البكم والعيّ رأسَ الجهاز وسياسته. وهذا مفهوم وجلي: شرط الجواب السياسي اطار الدولة الواحدة والمتماسكة والمشتركة. وهذا على طرف نقيض السلطان الاسدي. فإذا اجتمع السوريون، من غير انكار جماعاتهم أو اختلاف أحوالهم ومشاربهم، على وطنية سياسية مدنية وديموقراطية، دعاهم "النظام" الى الانفراط اسلاميين وكرداً ومعوزين ومتقاعدين وتلاميذ. فأما أن يكون السلطان الاسدي، العشائري والبيروقراطي، ركن "سوريا" وكتلتها ولحمتها ومسكتها وحده من غير شريك، وإما كان حُكم السوريين التفتت والتشرذم والاقتتال والعمالة. ولا لبس في خروج السوريين، والوطنية السورية، من أسر التخيير بين الامرين العقيمين.
الثلاثاء، 9 أغسطس 2011
نظرية ولاية الفقيه السياسية ضحية تناقضاتها
همايون كتيرائي
عن موقع ايران امروز
من المؤكد أن آية الله الخميني عندما كتب مؤلفه "الجهاد الأكبر" المكرّس لنقد المشاكل
الأخلاقية وسلوك رجال الدين، لم يفكر باحتمال أن تتعرض نظريته السياسة إلى موجة من النقد في هذه النقطة بالذات. والآن وبعد مرور ثلاثة عقود على تأسيس نظام ولاية الفقيه، فلم يعد هناك حاجة إلى إثبات اجراءات ولاية الفقيه المتمثلة بالتصفية الجسدية وغير القانونية لمنتقديه ولكل النشطاء السياسيين، وتعذيب السجناء والتجاوز على النساء والرجال السجناء، وفبركة الملفات الأخلاقية والمالية والسياسية للمنافسين والمخالفين، واللجوء إلى أساليب الكذب وتوجيه التهم وبث الاشاعات، وانكار الحقائق وتقديم احصائيات غير صحيحة للشعب، والتصرف بالموارد العامة، وكل الخروق التي لها مساس مباشر بالأخلاق السياسية، وهي تصرفات أضحت بادية للعيان ولا يمكن انكارها.
عند نقد وتحليل مثل هذه العملية، فمن الممكن الرجوع إلى سياق بعض الاصلاحيين والمنتقدين، وتحليل مواقف الحكام، وفي نهاية المطاف التطرق إلى عدم الالتزام بالقانون الأساسي والقوانين والقرارات الجارية. ولكن عندما نواجه بالسؤال التالي عن سبب عدم تطبيق القوانين بعد ثلاثة عقود والتي أصبحت المشكلة الأساسية في نظام ولاية الفقيه، فإننا سوف لا نحصل على جواب شاف ومقنع. من الممكن أن نستذكر قول آية الله الخميني بعد عدة سنوات من عدم تطبيق القوانين، حيث عبّر عن أمله بأن يعود الجميع إلى الالتزام بالقوانين، هذا الالتزام الذي لم يتمسك به آية الله الخميني واستمر الأمر على هذه الشاكلة طوال العقود الماضية.
ولكننا ندقق في هذا المقال ، قبل تناول فعل وسياسة الحكام، في الأسس النظرية لمبدأ ولاية الفقيه الذي مهد الطريق لممارسة هذه الأفعال وما تبعها من خروق قانونية. وبعبارة أخرى فإننا لا يمكن أن نعزو استمرار مثل هذه العملية طوال ثلاثة عقود إلى سوء الإدارة، بل يجب النظر إلى البناء الذي احتضن مثل هذا الانهيار الاخلاقي، والذي مهد له نظام ولاية الفقيه والذي يتطلب تقييمه. وحتى إذا تمتعنا بأعلى حالات حسن النية وافترضنا أن لولي الفقيه بعداً أخلاقياً، ونفترض تولي شخص مثل محمد خاتمي منصب ولاية الفقيه، فإننا لا نستطيع أن نتجنب إعادة انتاج الأساليب والسلوك غير الأخلاقي في نظام ولاية الفقيه.
التناقضات العملية في نظرية ولاية الفقيه
إن من اطلع على كتاب ولاية الفقيه وقرأ واستمع إلى خطابات ورسائل آية الله الخميني قبل عام 1978، فسوف لا يتردد بالقول إن رؤيته للنظام كان مبنياً على الفقه الشيعي، والذي يؤكد على أن من يتولى هذا المنصب هو فقيه يجمع كل الشروط. وكانت مجمل خطاباته تدور حول هذا المحور القائل بأن الفقه الشيعي يتمتع بإمكانية بناء نظام سياسي اجتماعي، وإذا ما توفرت الفرصة لرجال الدين، فإن هذه الإمكانية الكامنة ستبرز للعيان. إن هذا الادعاء كان سارياً حتى ثورة عام 1978. ولكن ما إن بدأ تشكيل نظام ولاية الفقيه، واجه آية الله الخميني عملياً المشاكل الصغيرة والكبيرة التي يعاني منها المجتمع الإيراني. ولم تمر إلا فترة قصيرة حتى برز إلى العلن مأزق الفقه الشيعي في إدارة النظام السياسي والاجتماعي.
إن أكبر عقدة واجهت هذا المشروع هي أن الأحكام الفقهية طوال قرون عديدة لم تعالج الحياة الاجتماعية، بل كانت تعالج حياة الفرد. فهذا الفقه لم يطرح حلولاً لإدارة المجتمع، وذلك لأن أهم عامل في إدارة المجتمع لم يجد له مكاناً في الفكر الفقهي. هذه المشكلة التي حاول آية الله النائيني أيجاد حل خاص لها في مرحلة ثورة المشروطة.
ففي الفكر الكلاسيكي والتاريخي للشيعة حُدد تشكيل الدولة كلياً ضمن اطار خيارات الإمام المعصوم. وبالنظر للاعتقاد السائد بغيبة الإمام، فإن الفقهاء قرروا عدم الخوض في هذا الموضوع لحين ظهور الإمام، لاعتقادهم بأن أية حكومة تتسلم زمام الأمور في عصر الغيبة، تعتبر حكومة غاصبة لحق الإمام المعصوم.
وبالاستناد إلى هذه الجذور، فإن نظام ولاية الفقيه محروم من أي سند نظري وتاريخي، وإن الحديث عن الفكر الفقهي في هذا المجال لا يتمتع بالجدية.
وهذا ما انعكس في مقاومة التيار التقليدي والكلاسيكي للحوزة لقرارات نظام ولاية الفقيه، ومعارضة مجلس الحراسة لقرارات أصدرتها الحكومة والمجلس. ولذا وقع الإمام الخميني في مأزق متزايد، مما دفعه في أكثر من خطاب وبوضوح إلى الاعتراف بعدم قدرة الفقه التقليدي على إدارة نظام الحكم والنظام الاجتماعي، وسعى عن طريق اللجوء إلى بعض التكتيكات للخروج من هذا المأزق. فعلى سبيل المثال أفتى الخميني في حالة أن اتخذ مجلس الحراسة قراراً شرعياً بعدم شرعية قرارات مجلس الشورى، بأن يتم الموافقة على هذه القرارات في حالة موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشورى عليه. وعندها يصبح من غير الممكن لمجلس الحراسة التصويت بنقض هذه القرارات.
نظرية حفظ النظام، تحريفية كبيرة
بعد أن بان التعارض بين نظام ولاية الفقيه وبين الفقه التقليدي، وأصبح واضحاً أنه من غير الممكن حل مشاكل النظام بالنظريات الفقهية، لم يبق أمام آية الله الخميني سوى طريقين. الطريق الأول التراجع أمام المرجعية التقليدية للحوزة واشراكها في الحكم، والثاني الاعتراف بصدق أمام الرأي العام بفشل نظرية ولاية الفقيه.
إن الطريق الأول، في ظل المواجهات التاريخية لآية الله الخميني مع النسيج التقليدي للحوزة، أي طريق الشراكة مع المنافس والعدو الداخلي في مشاريع بُذلت من أجلها السنوات لتحقيقها وتحملوا جهوداً كبيرة، فهو لم يكن مقبولاً من قبل آية الله الخميني. فإن صراعه العنيف مع المرجعيات المنافسة ومن ضمنهم آية الله شريعتمداري وآية الله الخوئي وآية الله القمي وآخرهم آية الله منتظري يدل على أنه من غير الممكن تحمله حضور هذه المراجع على رأس هرم الحكم.
أما الطريق الثاني وهو التراجع عن نظرية ولاية الفقيه فهو خيار كبير، بمعنى أن يتخلي عن دعواته التي طرحها منذ شبابه وحتى السنوات الأخيرة حول نهجه الأصلي.
ويبدو أنه لو اعترف بخطأ نظريته، ونظراً لتعلق المجتمع به في تلك الفترة، فإنه فسوف لا يحذف على الإطلاق من الميدان السياسي، بل وبفعل الظروف في تلك الفترة أن يظل الخميني يمارس دوره السياسي كزعيم وطني.
ولكن آية الله الخميني رجّح عدم اختيار أي من الطريقين، بل وسعى عن طريق الالتفاف الكبير على رؤياه النظرية كخيار للخروج من هذا المأزق. وفي الواقع فقد أخذ على عاتقه اعادة النظر في اساسيات تفكيره، ولم يوكل ذلك إلى من يخلفه على غرار ما قام به الايديولوجيون المعاصرون.
وبعبارة أخرى فقد جرى ما يصطلح عليه في ثقافة اليسار منحى "التحريفية" على يد مؤسس النظرية وليس على يد من خلفه في إدارة المجتمع، كمثال خروشوف مقابل ستالين ودنغ زياو بينغ مقابل ماو. إن آية الله الخميني بتحريفه للبناء النظري لولاية الفقيه قد تراجع عن ما ورد في كتابه ولاية الفقيه. فهو عندما يطرح مسألة حماية النظام بمثابة المهمة الأولى، فذلك يعني تخلي حكومة ولاية الفقيه عن مهمتها الأصلية كخادمة ومنفذة للفقه. كما يبرز تناقض كبير يتمثل في أنه لو لم يكن بالامكان تحقيق الفقه بشكله التقليدي، فما هو الامتياز الذي يتمتع به حامل الفقه أي الفقيه مقارنة بالآخرين بحيث يصبح ماسكاً بزمام أمور الحكم؟
لقد جرى تجاهل هذا السؤال ولم يطرح في المجتمع، فظروف الحرب التي سادت على المجتمع المأزوم، من قبيل الدفاع عن السيادة وتجنب الانهيار السياسي قد طغى على الأمور الأخرى ولم تسمح بمناقشة مثل هذه الأمور. ويضاف إلى ذلك فإن جزءاً كبيراً من المثقفين، وخاصة من ذوي الاتجاهات الدينية، استقبلوا هذه التحريفية، بقدر ماهي قد تحد من دور رجال الدين التقليديين في الحكم.
مصلحة النظام والتوجه
نحو البرغماتية
بعد أن أعاد آية الله الخميني النظر جذرياً في موقفه السابق من ولاية الفقيه، بادر إلى تكييفه مع معيار حفظ النظام، واللجوء إلى كل الوسائل للحفاظ على الحكم بذريعة مصلحة النظام، واعتبر ذلك أمراً مباحاً. ولذا أقترح تغييراً في القانون الأساسي المتعلق بالمؤسسات، وقدم اقتراحاً بتشكيل ما سمي بـ"مجمع تشخيص المصلحة". وطبقاً لثقافة ولاية الفقيه ففي أي وقت تطرح مسألة المصلحة فذلك يعني أنه لا يوجد حل أصولي وله ما هو مشترك مع القواعد الفقهية. وعندها ينبغي اللجوء إلى حاجات النظام. وهذه الحاجات هي من الكثرة بحيث تبرز الحاجة إلى تأسيس مؤسسات لذلك.
وبعبارة أخرى فإن نظام ولاية الفقيه لم يستطع أن يبدو وكأنه على غرار حكومات صدر الإسلام يعمل على أساس معايير الكتاب والسنة النبوية، لأنه راح مضطراً وضمن احتياجات حكمه إلى اختيار المعايير التي يعمل على ضوئها. لإن هذه البراغماتية بحد ذاتها يمكن أن تشكل تحولاً منطقياً لحل المشاكل التي يواجهها النظام. ولكن بما أنها ارتبطت بالبراغماتية فإنها راحت ترسي تدريجياً الأرضية كي يضع نظام ولاية الفقيه رجليه على جادة الانهيار.
وفي الواقع إن التيار الحاكم لم يكن مستعداً لتسليم الحكومة إلى الآخرين، وعلى الرغم من المأزق النظري والعملي لولاية الفقيه، فإنه مازال يرى نفسه الأحق بالجلوس على كرسي الحكم. وبعبارة أخرى، فبعد إعادة النظر بشكل كبير بنظرية ولاية الفقيه من قبل آية الله الخميني، فقد فَقَد موضوعيته في كل شيء اسمه تطبيق الفقه التقليدي وحل محله مصلحة النظام. ولذا فإن التيار الحاكم لم يعد يستطيع انطلاقاً من الأحقية الأيديولوجية أن يصف الآخرين بعدم صلاحيتهم لتولي الحكم.
ومن هنا بدأت الاستنسابية في نظام ولاية الفقيه بالنمو، أي أن الحكام تلبسوا بلباس يدركون جيداً أنه غير مناسب لهم. وبتعبير آخر اذا كانت كلمة الفقيه تعني الايمان بالفقه والعمل به، ولكن بعد أن وضُعت مصلحة النظام في المقدمة ووضِع النظام الفقهي جانباً، فعندها أصبحت البراغماتية وشهوة الحكم هي السائدة.
إن من ارتبطت أرواحهم بعجين الثقافة التقليدية والمذهبية يدركون جيداً عواقب تقديم حماية النظام على بعض اركان الدين. وفي الواقع اذا كان حفظ النظام يتخطى الصلاة والصوم والحج، فيمكن تجاهل العديد من المقولات الأخرى. وهذه بداية لما أشير في بداية المقالة إلى "الانهيار النظري السياسي لولاية الفقيه".
وهنا وقبل أن نتابع مصداقية الانهيار لهذا النظام في أمثلة ملموسة، نود أن نشير إلى أن إعادة النظر ووضع الأولوية لموضوعة السلطة، لا تعني إلاّ تخطي الحدود الأخلاقية.إن تقديم الأولوية لحفظ النظام يفتح كل الطرق بوجه القيام بأي عمل من أجل تحقيق هذا الهدف. وأصبحت المصلحة وحفظ النظام بمثابة باب يولج من خلاله كل شيء دون أن يتقيد ويتحدد بأي فقه وقواعد وأصول حقوق الإنسان والقوانين المدنية.
إن آية الله الخميني في طرحه للولاية المطلقة في مقابل الولاية المحدودة (المحدودة بالإطار الفقهي )، أجاز للنظام السياسي أن يعبر كل الحدود العرفية والشرعية من أجل الحفاظ على بقائه. وهذا ما جرى طوال العقود الثلاثة الماضية حيث لم يتردد اركان النظام عن اللجوء إلى كل الأساليب بذريعة حفظ النظام. وراوحت ممارسات هؤلاء من تقديم الإحصائيات الكاذبة إلى التستر على الوقائع بدعوى أن ذلك يتعارض مع مصلحة النظام. ومارس هؤلاء أساليب تراوح بين التدخل في الشؤون الشخصية للشعب إلى التلصص على الحياة الخاصة تحت ذريعة مكافحة المنكرات. هذه الاتهامات التي طالت حتى شخصية مثل آية الله منتظري وبدون أدلة سوى ذريعة عدم استيعابه لنظرية ولاية الفقيه التي تحتاج إلى اتخاذ تكتيكات وأساليب حتى ولو كانت غير مألوفة من أجل حفظ النظام. أي، وحسب تعبيرهم ، أن لا يُصب الماء في طاحونة الأعداء والمنتقدين.
إن كل محتوى المقالة يدور حول ذلك الكم الهائل من الأساليب غير المألوفة في ستراتيجية النظام الحالي وتكتيكاته، وقبل الحديث عن سوء الإدارة لدى فرد أو أفراد في النظام. فالحديث يدور حول الأساس النظري الذي بني عليه نظام ولاية الفقيه المطلق. وما دام هذا البناء قائماً وبدون نقد، فسيجري إعادة توليد الأساليب السابقة. وسوف لا يؤدي التغيير في أقطاب الحكم إلى حل مشكلة النظام السياسي لولاية الفقيه المطلقة.
عن موقع ايران امروز
من المؤكد أن آية الله الخميني عندما كتب مؤلفه "الجهاد الأكبر" المكرّس لنقد المشاكل
الأخلاقية وسلوك رجال الدين، لم يفكر باحتمال أن تتعرض نظريته السياسة إلى موجة من النقد في هذه النقطة بالذات. والآن وبعد مرور ثلاثة عقود على تأسيس نظام ولاية الفقيه، فلم يعد هناك حاجة إلى إثبات اجراءات ولاية الفقيه المتمثلة بالتصفية الجسدية وغير القانونية لمنتقديه ولكل النشطاء السياسيين، وتعذيب السجناء والتجاوز على النساء والرجال السجناء، وفبركة الملفات الأخلاقية والمالية والسياسية للمنافسين والمخالفين، واللجوء إلى أساليب الكذب وتوجيه التهم وبث الاشاعات، وانكار الحقائق وتقديم احصائيات غير صحيحة للشعب، والتصرف بالموارد العامة، وكل الخروق التي لها مساس مباشر بالأخلاق السياسية، وهي تصرفات أضحت بادية للعيان ولا يمكن انكارها.
عند نقد وتحليل مثل هذه العملية، فمن الممكن الرجوع إلى سياق بعض الاصلاحيين والمنتقدين، وتحليل مواقف الحكام، وفي نهاية المطاف التطرق إلى عدم الالتزام بالقانون الأساسي والقوانين والقرارات الجارية. ولكن عندما نواجه بالسؤال التالي عن سبب عدم تطبيق القوانين بعد ثلاثة عقود والتي أصبحت المشكلة الأساسية في نظام ولاية الفقيه، فإننا سوف لا نحصل على جواب شاف ومقنع. من الممكن أن نستذكر قول آية الله الخميني بعد عدة سنوات من عدم تطبيق القوانين، حيث عبّر عن أمله بأن يعود الجميع إلى الالتزام بالقوانين، هذا الالتزام الذي لم يتمسك به آية الله الخميني واستمر الأمر على هذه الشاكلة طوال العقود الماضية.
ولكننا ندقق في هذا المقال ، قبل تناول فعل وسياسة الحكام، في الأسس النظرية لمبدأ ولاية الفقيه الذي مهد الطريق لممارسة هذه الأفعال وما تبعها من خروق قانونية. وبعبارة أخرى فإننا لا يمكن أن نعزو استمرار مثل هذه العملية طوال ثلاثة عقود إلى سوء الإدارة، بل يجب النظر إلى البناء الذي احتضن مثل هذا الانهيار الاخلاقي، والذي مهد له نظام ولاية الفقيه والذي يتطلب تقييمه. وحتى إذا تمتعنا بأعلى حالات حسن النية وافترضنا أن لولي الفقيه بعداً أخلاقياً، ونفترض تولي شخص مثل محمد خاتمي منصب ولاية الفقيه، فإننا لا نستطيع أن نتجنب إعادة انتاج الأساليب والسلوك غير الأخلاقي في نظام ولاية الفقيه.
التناقضات العملية في نظرية ولاية الفقيه
إن من اطلع على كتاب ولاية الفقيه وقرأ واستمع إلى خطابات ورسائل آية الله الخميني قبل عام 1978، فسوف لا يتردد بالقول إن رؤيته للنظام كان مبنياً على الفقه الشيعي، والذي يؤكد على أن من يتولى هذا المنصب هو فقيه يجمع كل الشروط. وكانت مجمل خطاباته تدور حول هذا المحور القائل بأن الفقه الشيعي يتمتع بإمكانية بناء نظام سياسي اجتماعي، وإذا ما توفرت الفرصة لرجال الدين، فإن هذه الإمكانية الكامنة ستبرز للعيان. إن هذا الادعاء كان سارياً حتى ثورة عام 1978. ولكن ما إن بدأ تشكيل نظام ولاية الفقيه، واجه آية الله الخميني عملياً المشاكل الصغيرة والكبيرة التي يعاني منها المجتمع الإيراني. ولم تمر إلا فترة قصيرة حتى برز إلى العلن مأزق الفقه الشيعي في إدارة النظام السياسي والاجتماعي.
إن أكبر عقدة واجهت هذا المشروع هي أن الأحكام الفقهية طوال قرون عديدة لم تعالج الحياة الاجتماعية، بل كانت تعالج حياة الفرد. فهذا الفقه لم يطرح حلولاً لإدارة المجتمع، وذلك لأن أهم عامل في إدارة المجتمع لم يجد له مكاناً في الفكر الفقهي. هذه المشكلة التي حاول آية الله النائيني أيجاد حل خاص لها في مرحلة ثورة المشروطة.
ففي الفكر الكلاسيكي والتاريخي للشيعة حُدد تشكيل الدولة كلياً ضمن اطار خيارات الإمام المعصوم. وبالنظر للاعتقاد السائد بغيبة الإمام، فإن الفقهاء قرروا عدم الخوض في هذا الموضوع لحين ظهور الإمام، لاعتقادهم بأن أية حكومة تتسلم زمام الأمور في عصر الغيبة، تعتبر حكومة غاصبة لحق الإمام المعصوم.
وبالاستناد إلى هذه الجذور، فإن نظام ولاية الفقيه محروم من أي سند نظري وتاريخي، وإن الحديث عن الفكر الفقهي في هذا المجال لا يتمتع بالجدية.
وهذا ما انعكس في مقاومة التيار التقليدي والكلاسيكي للحوزة لقرارات نظام ولاية الفقيه، ومعارضة مجلس الحراسة لقرارات أصدرتها الحكومة والمجلس. ولذا وقع الإمام الخميني في مأزق متزايد، مما دفعه في أكثر من خطاب وبوضوح إلى الاعتراف بعدم قدرة الفقه التقليدي على إدارة نظام الحكم والنظام الاجتماعي، وسعى عن طريق اللجوء إلى بعض التكتيكات للخروج من هذا المأزق. فعلى سبيل المثال أفتى الخميني في حالة أن اتخذ مجلس الحراسة قراراً شرعياً بعدم شرعية قرارات مجلس الشورى، بأن يتم الموافقة على هذه القرارات في حالة موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشورى عليه. وعندها يصبح من غير الممكن لمجلس الحراسة التصويت بنقض هذه القرارات.
نظرية حفظ النظام، تحريفية كبيرة
بعد أن بان التعارض بين نظام ولاية الفقيه وبين الفقه التقليدي، وأصبح واضحاً أنه من غير الممكن حل مشاكل النظام بالنظريات الفقهية، لم يبق أمام آية الله الخميني سوى طريقين. الطريق الأول التراجع أمام المرجعية التقليدية للحوزة واشراكها في الحكم، والثاني الاعتراف بصدق أمام الرأي العام بفشل نظرية ولاية الفقيه.
إن الطريق الأول، في ظل المواجهات التاريخية لآية الله الخميني مع النسيج التقليدي للحوزة، أي طريق الشراكة مع المنافس والعدو الداخلي في مشاريع بُذلت من أجلها السنوات لتحقيقها وتحملوا جهوداً كبيرة، فهو لم يكن مقبولاً من قبل آية الله الخميني. فإن صراعه العنيف مع المرجعيات المنافسة ومن ضمنهم آية الله شريعتمداري وآية الله الخوئي وآية الله القمي وآخرهم آية الله منتظري يدل على أنه من غير الممكن تحمله حضور هذه المراجع على رأس هرم الحكم.
أما الطريق الثاني وهو التراجع عن نظرية ولاية الفقيه فهو خيار كبير، بمعنى أن يتخلي عن دعواته التي طرحها منذ شبابه وحتى السنوات الأخيرة حول نهجه الأصلي.
ويبدو أنه لو اعترف بخطأ نظريته، ونظراً لتعلق المجتمع به في تلك الفترة، فإنه فسوف لا يحذف على الإطلاق من الميدان السياسي، بل وبفعل الظروف في تلك الفترة أن يظل الخميني يمارس دوره السياسي كزعيم وطني.
ولكن آية الله الخميني رجّح عدم اختيار أي من الطريقين، بل وسعى عن طريق الالتفاف الكبير على رؤياه النظرية كخيار للخروج من هذا المأزق. وفي الواقع فقد أخذ على عاتقه اعادة النظر في اساسيات تفكيره، ولم يوكل ذلك إلى من يخلفه على غرار ما قام به الايديولوجيون المعاصرون.
وبعبارة أخرى فقد جرى ما يصطلح عليه في ثقافة اليسار منحى "التحريفية" على يد مؤسس النظرية وليس على يد من خلفه في إدارة المجتمع، كمثال خروشوف مقابل ستالين ودنغ زياو بينغ مقابل ماو. إن آية الله الخميني بتحريفه للبناء النظري لولاية الفقيه قد تراجع عن ما ورد في كتابه ولاية الفقيه. فهو عندما يطرح مسألة حماية النظام بمثابة المهمة الأولى، فذلك يعني تخلي حكومة ولاية الفقيه عن مهمتها الأصلية كخادمة ومنفذة للفقه. كما يبرز تناقض كبير يتمثل في أنه لو لم يكن بالامكان تحقيق الفقه بشكله التقليدي، فما هو الامتياز الذي يتمتع به حامل الفقه أي الفقيه مقارنة بالآخرين بحيث يصبح ماسكاً بزمام أمور الحكم؟
لقد جرى تجاهل هذا السؤال ولم يطرح في المجتمع، فظروف الحرب التي سادت على المجتمع المأزوم، من قبيل الدفاع عن السيادة وتجنب الانهيار السياسي قد طغى على الأمور الأخرى ولم تسمح بمناقشة مثل هذه الأمور. ويضاف إلى ذلك فإن جزءاً كبيراً من المثقفين، وخاصة من ذوي الاتجاهات الدينية، استقبلوا هذه التحريفية، بقدر ماهي قد تحد من دور رجال الدين التقليديين في الحكم.
مصلحة النظام والتوجه
نحو البرغماتية
بعد أن أعاد آية الله الخميني النظر جذرياً في موقفه السابق من ولاية الفقيه، بادر إلى تكييفه مع معيار حفظ النظام، واللجوء إلى كل الوسائل للحفاظ على الحكم بذريعة مصلحة النظام، واعتبر ذلك أمراً مباحاً. ولذا أقترح تغييراً في القانون الأساسي المتعلق بالمؤسسات، وقدم اقتراحاً بتشكيل ما سمي بـ"مجمع تشخيص المصلحة". وطبقاً لثقافة ولاية الفقيه ففي أي وقت تطرح مسألة المصلحة فذلك يعني أنه لا يوجد حل أصولي وله ما هو مشترك مع القواعد الفقهية. وعندها ينبغي اللجوء إلى حاجات النظام. وهذه الحاجات هي من الكثرة بحيث تبرز الحاجة إلى تأسيس مؤسسات لذلك.
وبعبارة أخرى فإن نظام ولاية الفقيه لم يستطع أن يبدو وكأنه على غرار حكومات صدر الإسلام يعمل على أساس معايير الكتاب والسنة النبوية، لأنه راح مضطراً وضمن احتياجات حكمه إلى اختيار المعايير التي يعمل على ضوئها. لإن هذه البراغماتية بحد ذاتها يمكن أن تشكل تحولاً منطقياً لحل المشاكل التي يواجهها النظام. ولكن بما أنها ارتبطت بالبراغماتية فإنها راحت ترسي تدريجياً الأرضية كي يضع نظام ولاية الفقيه رجليه على جادة الانهيار.
وفي الواقع إن التيار الحاكم لم يكن مستعداً لتسليم الحكومة إلى الآخرين، وعلى الرغم من المأزق النظري والعملي لولاية الفقيه، فإنه مازال يرى نفسه الأحق بالجلوس على كرسي الحكم. وبعبارة أخرى، فبعد إعادة النظر بشكل كبير بنظرية ولاية الفقيه من قبل آية الله الخميني، فقد فَقَد موضوعيته في كل شيء اسمه تطبيق الفقه التقليدي وحل محله مصلحة النظام. ولذا فإن التيار الحاكم لم يعد يستطيع انطلاقاً من الأحقية الأيديولوجية أن يصف الآخرين بعدم صلاحيتهم لتولي الحكم.
ومن هنا بدأت الاستنسابية في نظام ولاية الفقيه بالنمو، أي أن الحكام تلبسوا بلباس يدركون جيداً أنه غير مناسب لهم. وبتعبير آخر اذا كانت كلمة الفقيه تعني الايمان بالفقه والعمل به، ولكن بعد أن وضُعت مصلحة النظام في المقدمة ووضِع النظام الفقهي جانباً، فعندها أصبحت البراغماتية وشهوة الحكم هي السائدة.
إن من ارتبطت أرواحهم بعجين الثقافة التقليدية والمذهبية يدركون جيداً عواقب تقديم حماية النظام على بعض اركان الدين. وفي الواقع اذا كان حفظ النظام يتخطى الصلاة والصوم والحج، فيمكن تجاهل العديد من المقولات الأخرى. وهذه بداية لما أشير في بداية المقالة إلى "الانهيار النظري السياسي لولاية الفقيه".
وهنا وقبل أن نتابع مصداقية الانهيار لهذا النظام في أمثلة ملموسة، نود أن نشير إلى أن إعادة النظر ووضع الأولوية لموضوعة السلطة، لا تعني إلاّ تخطي الحدود الأخلاقية.إن تقديم الأولوية لحفظ النظام يفتح كل الطرق بوجه القيام بأي عمل من أجل تحقيق هذا الهدف. وأصبحت المصلحة وحفظ النظام بمثابة باب يولج من خلاله كل شيء دون أن يتقيد ويتحدد بأي فقه وقواعد وأصول حقوق الإنسان والقوانين المدنية.
إن آية الله الخميني في طرحه للولاية المطلقة في مقابل الولاية المحدودة (المحدودة بالإطار الفقهي )، أجاز للنظام السياسي أن يعبر كل الحدود العرفية والشرعية من أجل الحفاظ على بقائه. وهذا ما جرى طوال العقود الثلاثة الماضية حيث لم يتردد اركان النظام عن اللجوء إلى كل الأساليب بذريعة حفظ النظام. وراوحت ممارسات هؤلاء من تقديم الإحصائيات الكاذبة إلى التستر على الوقائع بدعوى أن ذلك يتعارض مع مصلحة النظام. ومارس هؤلاء أساليب تراوح بين التدخل في الشؤون الشخصية للشعب إلى التلصص على الحياة الخاصة تحت ذريعة مكافحة المنكرات. هذه الاتهامات التي طالت حتى شخصية مثل آية الله منتظري وبدون أدلة سوى ذريعة عدم استيعابه لنظرية ولاية الفقيه التي تحتاج إلى اتخاذ تكتيكات وأساليب حتى ولو كانت غير مألوفة من أجل حفظ النظام. أي، وحسب تعبيرهم ، أن لا يُصب الماء في طاحونة الأعداء والمنتقدين.
إن كل محتوى المقالة يدور حول ذلك الكم الهائل من الأساليب غير المألوفة في ستراتيجية النظام الحالي وتكتيكاته، وقبل الحديث عن سوء الإدارة لدى فرد أو أفراد في النظام. فالحديث يدور حول الأساس النظري الذي بني عليه نظام ولاية الفقيه المطلق. وما دام هذا البناء قائماً وبدون نقد، فسيجري إعادة توليد الأساليب السابقة. وسوف لا يؤدي التغيير في أقطاب الحكم إلى حل مشكلة النظام السياسي لولاية الفقيه المطلقة.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)