الاثنين، 23 يناير 2012

أدونيس وتوكل كرمان

حيـدر سعيـد
في كل سنة، وقبيل إعلان جوائز نوبل، تنشغل الصحافةُ الثقافية العربية ومثقفوها بصناعة ترقب مثير، . . ترقب لاحتمال (مزمن) بفوز الشاعر السوري أدونيس بجائزة نوبل للآداب. في كل سنة، تجدِّد هذه الصحافةُ الحديثَ عن موقع أدونيس من خريطة المرشّحين للفوز بالجائزة، وموقعه في القائمة القصيرة والقائمة الطويلة، وتنقل تصريحات، من هنا وهناك، تدعم هذا الترقب.
أصبح الأمرُ أشبهَ باستمناء جماعي، تمارسه ثقافة عاجزة، شيخة. فجائزة نوبل، التي يمتد عمرُها إلى أكثر من مئة سنة، لم يفز بها سوى أديب واحد من الأدباء الذين يكتبون بالعربية، على ما هو معروف، على الرغم من التأريخ العريق لهذه اللغة وآدابها.
وحين يخرج أدونيس، عقب إعلان الجائزة، من القوائم جميعاً، تتذكر هذه الثقافةُ/ الضحية سياطَ جلاديها، وتتنبه على أن هذه الجائزة مسيّسة، وأن كثيرا من العظماء لم يحصلوا عليها. وبتنا نتذكر، في كل تشرين من كل سنة، أن بورخس لم يحصل على الجائزة. لقد أصبح تشرين موسماً للتضامن مع بورخس.
هذه السنة، أصبح الاستمناءُ أكثرَ شدّة، والترقبُ بدا أنه سينفجر على حقيقة. الكل تهيّأ لأن يتهجى اسم (أدونيس) تعلنه الميديا العالمية فائزاً بنوبل. والكل، أيضاً، تعامل مع الأمر بمنطق الضحية وسياساتها: أن هذه السنة ملائمة، تماماً، لأن تُمنَح نوبل لأدونيس، مع الربيع العربي ونقطته العظمى، الثورة السورية، ولا سيما بعد الرسالة التي وجّهها لبشار الأسد، يطالبه فيها بالمبادرة لإنقاذ سوريا وقيادة مشروع يضمن تداولَ السلطة.
وعلى الرغم من ضحالة الرسالة، التي ظلت تنتظر المبادرة من نظام استبدادي، ذلك "أن أمل أدونيس في الرئيس وفي النظام أمل دائم"، كما يعبِّر عباس بيضون في تعقيبه على الرسالة، افترضت الضحيةُ أن سياسة الجلّاد (اقرأ: الغرب) ستضطره إلى منح الجائزة إلى شاعر سوري، جزءاً من العداء للنظام السوري، وعرفاناً وتكريماً للربيع العربي.
هذا المنطق ينطوي على افتراض ضمني بأن أدونيس سيُمنَح الجائزة لدوافع سياسية، وليست فنية.
ولكن، ما أقسى أن يُكرَّم الربيعُ العربي من خلال أدونيس. ما أقسى أن يُعدّ رمزاً أو أحد رموز هذا الربيع، وهو الذي لم يتخذ موقفا واحداً من نظام البعث في سوريا طيلة ما يقرب نصف القرن من حكمه. أي تسخيف للربيع العربي هذا؟ وأية إهانة؟
وحتى مع الثورة السورية، كان أدونيس متردداً، لم يرسل رسالته إلا من باب إسقاط العتب. كان يحاجج بأن الثورة ستقود الإسلاميين إلى الحكم، وأن المشكلة ـ في الأساس ـ هي الحاجة إلى علمانية حقيقية، وقد افترض ـ عبر طبقات عدة من المجاز ـ أن حزب البعث السوري ذو بنية لادينية. قد تكون هذه الحجّة صحيحة، ولكنها لا تستند إلى فهم للمنطق الداخلي للاستبداد، وأن العلمانية ليست حصانة ـ بذاتها ـ من الاستبداد، والاستبداد الذي شهده التأريخ ـ منذ القرن الثامن عشر ـ كان علمانياً في الغالب. ومن جهة ثانية، يُبطن الخوفُ من الإسلاميين، هنا، تبريراً للاستبداد، فضلاً عن القراءة الخاطئة (وأدونيس يعوزه كثير من السوسيولوجيا) للعوامل التي مكّنت الإسلاميين في المنطقة. إنهم ناتج من نتائج الاستبداد. إنهم تعبير عن قهر وتشويه مستمرين لروح الإنسان وتدمير للقيم المدنية. وإن بقاء الاستبداد لا يعني سوى تغوّل وتوحش أكثر للإسلاميين. بقاءُ الاستبداد سيزيد من مخالبهم، وليس أمامك من حل سوى أن تفتح الحراك السياسي، . . أن تزيل الاستبداد، لتعيد للروح المقهورة نقاءَها.
في الوقت نفسه، وبعيداً عن أية ضجة إعلامية، بعيداً عن أي خبر، حتى وإن كان مقتضباً، بعيداً عن أن نعرف أي شيء عن القوائم القصيرة والطويلة، فازت عربية أخرى بالجائزة، يمنية، مولودة سنة 1979، حين كان أدونيس يقف على عتبة الشيخوخة، مثقفاً، نجماً. توكل كرمان، فازت بنوبل للسلام، لنشاطها المدني في مواجهة الاستبداد، وهو ما عُدّ (ويمكن أن يكون بالفعل) تكريماً للربيع العربي.
توكل كرمان تتحدر وتنتمي إلى حزب إسلامي. وفوزها بنوبل يوثِّق إلى أي حدّ يمكن أن يكون الإسلاميون جزءاً من مشروع التحديث، العلماني في النهاية. لقد كان خطابُها في حفل تسلّم الجائزة علمانياً بامتياز، تحدثت فيه ـ بوضوح ـ عن فكرتي (المساواة) و(الاعتراف بالآخر)، وهما نتاج محض للحداثة الغربية، إذ لم يُنتِج التراثُ الإسلامي سوى مجتمعات تراتبية وامتهاناً للآخر.
وأن نحتفي بتوكل كرمان، الإسلامية الفائزة بنوبل، يعني أننا نطمح إلى أن نكسر الغرور العلمانوي، الذي يرى أن مشروع التحديث يبدأ به، وينتهي به، وأننا نقترب من الإيمان بأن ثمة شركاء في هذا المشروع.
المسافة بين أدونيس وتوكل كرمان أكثر من مهمة، وأكثر من حرجة، مسافة تحكي رحلةَ تحول وتغير في فكرة (المثقف).
في سنة 1974، أصدر أدونيس كتابه (الثابت والمتحوّل). وهو، بلا شك، واحد من أهم ما قدّمته الثقافةُ العربية الحديثة. في هذا الكتاب، حاول أدونيس أن يشرح أن الثقافة العربية، بشكلها الموروث السائد، ذات مبنى ديني، بتعبيره، بمعنى أنها "ثقافة اتباعية"، أي ثقافة تتبع (الثابت)، وهو ما يعرفه بأنه "الفكر الذي ينهض على النص، ويتخذ من ثباته حجة لثباته هو". ومن ثم، يبني (الثابت) أحقيته على ماض يفسره تفسيراً خاصاً، ويفرض نفسه بوصفه المعنى الوحيد الصحيح لهذا النص. ويرى أن الثقافة الاتباعية ترفض الإبداع وتدينه، فالإبداع ينتجه (المتحول)، أي الفكر الذي إما أنه لا يرى في النص أية مرجعية، ويعتمد على العقل، لا النقل، أو أنه ينهض على تأويل يجعل النص قابلاً للتكيف مع الواقع وتجدده. ومن ثم، يرفض (المتحولُ) أحقيةَ (الثابت). ويرى أدونيس أن الثقافة الاتباعية تحول دون أي تقدم حقيقي. ولذلك، لا يمكن أن تنهض الحياة العربية ويبدع الإنسان العربي إذا لم تتهدم البنية التقليدية السائدة للفكر العربي، وتتغير كيفيةُ النظر والفهم التي وجّهت هذا الفكر ولا تزال توجهه، وأن أصل الثقافة العربية لا يحمل في ذاته حيويةَ التجاوز المستمر، إلا إذا تخلص من المبنى الديني التقليدي الاتباعي. وعلى الرغم من أن أدونيس يقول ـ دفاعاً عن أكاديمية كتابه ـ إن مصطلحي (الثابت) و(المتحول) مصطلحان إجرائيان وصفيان، وليسا تقييمين، فإنه يقول، أيضاً: "إن هذه الدراسة هي مشروع لوصف الثقافة العربية كما هي، في ثابتها ومتحولها، بغية فهمها كما هي، من أجل تغييرها كما يجب أن تكون".
كتب أدونيس هذه الأفكار أواسطَ السبعينيات، عشية بداية عصر الأسلمة في المنطقة، أسلمة المجتمع والسياسة والمجال العام، بمعنى أن هذا الكتاب ـ على أهميته وخطورته ـ لم يستطع أن يُثني الناس عن (الثابت)، ويقودهم إلى (المتحول)، بل على العكس، تماماً وتماماً وتماماً، أصبحت مجتمعاتنا أكثرَ تمسكا بـ (الثابت) وعزوفاً عن (المتحول).
إذن، إلى مَن اتجه الكتاب؟ وما قيمته؟ هل هو مجرد هذيان أو تجريدات سريالية؟
هذا سؤال من هواجسي، ولا يخص أدونيس. هل المثقف كائن غريب، ينتج طلاسم لا يقرأها أحد؟ هل هو صاحب مشروع تنوير؟ تنوير ماذا؟ ولمن؟ هل هو يخاطب أقرانَه من مجتمع المثقفين فقط؟ هل يريد أن يبشّر بمشروع التنوير بين فئة تنتمي إليه، تعرف وتحمل، هي أيضاً، هذا المشروع؟ ما معنى أن يخاطب فئة بشيء هو لها أشبه بتحصيل الحاصل؟
المسافةُ بين أدونيس وتوكل كرمان هي المسافة بين رؤيتين لمشروع التحديث: أن تؤمن بأنه مشروع فوقي، ينبغي له أن يبدأ من البنى الفكرية، التي نظن أنها عميقة، أو أن تؤمن بأن التحديث مشروع يُدار من التفاصيل، من العناصر السفلية، . . من الثقافة، بوصفها طريقةَ حياة، لا بنى فوقية مجرّدة.
قبل نحو سنتين، كتبتُ عن طه حسين، وأدونيس، ومحمد عابد الجابري، بوصفهم أهم ثلاثة مثقفين في الثقافة العربية الحديثة. قلتُ حينها إن هؤلاء الثلاثة كانوا جروحاً نرجسية للذات العربية، كسروا إيمانها بنفسها وشعورَها بطهرها، ففي الوقت الذي تشكّل فيه هوس جماعي بأن أزمة العالم العربي، ثقافة ومجتمعاً وسياسة، تكمن في الخارج دائماً، حاول هؤلاء أن ينقلوا تصور الأزمة إلى الداخل، إلى الذات العربية، التي ليست ـ منذ الآن ـ بريئة من أزمتها.
ولا أزال، إلى هذه اللحظة، أؤمن بالأهمية الاستثنائية لهؤلاء الثلاثة. غير أن هؤلاء، الذين أرادوا أن يمرّنوا هذه المجتمعات على الشك بتراثها ونقده، وعلى إعادة صياغة علاقتها بالحداثة الغربية، لم يخلّفوا ـ في النهاية ـ سوى تقديس أكثر لهذا التراث، وعداء أكثر للحداثة.
هذه النقديةُ، إذن، ليست كلَّ شيء، بل هي جزء محدود من مشروع أوسع. النقدية هي في مكان آخر أيضاً.
وهذا المقال ليس عن أدونيس، ولا عن توكل كرمان. إنه مناسبة متجددة لأن أشرح ما حاولت أن أشرحه مراراً، ولكن بأمثلة عينية، متجسدة. هذا المقال يراقب كيف تتحرك فكرةُ (المثقف) وماهيته في الثقافة العربية، . . من المثقف المغترب، المتعالي عن الشأن العام، الذي يأبى لكلمته أن تنغمس و(تتلوث) بالسياسة، إلى المثقف الذي ينخرط في التفاصيل التي تحرّك المجتمعات، . . من المثقف الذي تقف فاعليتُه على الكلمة، إلى المثقف الذي يذهب بكلمته إلى ما هو أبعد، وأبعد.

إشكالية الدين والدولة: من مصر إلى تونس

سعود المولى
يوم الأربعاء 11/1، أصدر الأزهر بياناً تاريخياً عرضه على نحو 60 من الرموز والقيادات والشخصيات العامة التي وافقت عليه وشاركت في إعلانه وذلك "من أجل استعادة روح الثورة"... ومع أن الكثيرين شككوا وطرحوا الأسئلة حول مبدأ الزج بالأزهر في الموضوع السياسي ، إلا أن دعوة البيان إلى "التعاون بين شباب الثورة وبين ممثلي الشعب المنتخبين، لبناء مصر المستقبل"، قد أعطت البيان قيمة أدبية ومعنوية فائقة الأهمية. وقد ساهم البيان في ترطيب الجو العام المتشنج بين العلمانيين والدينيين رغم أنه لم يوقف حالة الاستقطاب العام بين التيارين في المجتمع المصري على ما رأى الكاتب والصحفي القدير فهمي هويدي في مقاله الأسبوعي في جريدة الشروق القاهرية.. وهو ذهب إلى حد انتقاد المثقفين الذين يدعون إلى عدم تدخل الدين في السياسة، لكنهم يسكتون على الوجه الآخر الأكثر أهمية، والذي يتمثل في تدخل السياسة في الدين، بما يؤدى إلى توظيفه لخدمة الأهواء السياسية. وحجة فهمي هويدي أن الفصل بين الدين والسياسة هو فصل نظري حتى في التطبيقات الغربية والعلمانية التي ينطبق عليها معنى التوظيف السياسي للدين، وهو أوضح ما يكون في الولايات المتحدة وإسرائيل على سبيل المثال.
بيان الأزهر ونتائج الانتخابات البرلمانية التي جاءت بنسبة عالية جداً لصالح الإخوان المسلمين (47%) ثم السلفيين (23%) أعادا طرح مسألة الدستور واللجنة المكلفة بصياغته لجهة إطار عملها وحدود صلاحياتها.. ومن يتابع السجالات المصرية الحادة والاتهامات والتشكيك المتبادل يقتنع بأن الوفاق الوطني المنشود لم يتحقق بعد سنة على نجاح الثورة.. ويبدو أن القوى السياسية المصرية ما تزال عاجزة عن صياغة مشتركات وتفاهمات وتوافقات استراتيجية تسمح لها بالتقدم صوب المستقبل وذلك على عكس التجربة التونسية التي خطت ومنذ اليوم الأول خطوة تاريخية هائلة من حيث مراعاة تحــقيق التوافق بين القوى السياسية الرئيسية التي جاءت بها صناديق الاقتراع... وهنا لا بد من أن نسجل للشيخ راشد الغنوشي ولحركة النهضة نجاحهم ومنذ سنوات المنفى والتشرد والمعتقلات والنضال الثوري، في إدارة الحوار الوطني المثمر والشفاف مع كل الفئات الوطنية من علمانية وماركسية وقومية وفي بلورة الحد الأدنى المشترك المتوافق عليه حول العلاقة بين الدين والدولة..
لقد ابرزت التجربة التونسية وجود ثلاثة تحديات تواجه العرب في تطلعهم إلى انجاز تغيير ديموقراطي حقيقي وتأسيس علاقة سليمة بين الدين والدولة: 1- استبداد السلطة ومن مظاهره إخضاع الدين للإرادة السياسية للنظام القائم وتوظيفه (مثال الأنظمة العربية). 2- الاستبداد باسم الدين الناجم عن قراءة أحادية مغالبة للإسلام، والذي يؤدي إلى التدخل بالقوة في حياة المواطنين الخاصة، وإلى النيل من حقوقهم وحرياتهم الأساسية ومن المبادئ الديموقراطي، وهذا ما يخشاه العلمانيون من صعود الاسلاميين. 3- الاستبداد باسم الحداثة الذي يعمل على إلغاء الدين من الحياة العامة بوسائل قهرية من داخل أجهزة الدولة وخارجها ويدفع نحو التصادم بين الدولة والدين وهو تصور لا يؤدى إلى إدامة الاستبداد القائم ودعم انتهاك الحريات وحقوق الإنسان وتعطيل المشروع الديموقراطي.
وقد أنتجت التجربة التونسية هذه توافقاً على بناء الدولة المدنية التي سبق أن اقترحها محمد مهدي شمس الدين في لبنان وحسن الترابي في السودان ومحمد الغزالي في مصر وطبقتها تجربة العدالة والتنمية في تركيا والمغرب ومحنة التيار الإصلاحي في ايران.. وهي تقوم على مبادئ الجمهورية وحقوق الإنسان وتستمد مشروعيتها من إرادة الشعب الذي يتولى في إطار هذه المبادئ إنتخاب مؤسسات الحكم بشكل دوري ومحاسبتها وحيث يخضع فيها الحاكم والمحكوم للقوانين والقواعد التي تسنها المؤسسات الدستورية المنتخبة مع ضمان حق كل طرف في استلهام مقترحاته وبرامجه في كل المجالات من مرجعيته الفكرية الخاصة.

الخميس، 19 يناير 2012

هل رأى أحدكم وطناً مخطوفاً

سعود المولى
بالأمس بحثت عنه في كل مكان، كانت أخباره يتناقلها الأثير في الهواء.. حتى إن التلفزيون الفلاني نفسه سأل عنه، إثر زيارة كريمة لوفد من حزب معيّن إلى قيادات مسيحية.. كما أن تلفزيون كذا تحدث عنه برفق وحنان إثر مقابلة أجراها مراسله مع أحد شيوخ السلفية في طرابلس..أما التلفزيون العلاني فقد استذكر وقفات موسى الصدر معه..فبكى وبكينا..وفي تلفزيون آخر كانت شهقات وزفرات مع المؤتمر الصحفي الأسبوعي لقائد محدد لا يفكر بالوطن إنما يبحث يومياً عن خياله...
ومع ذلك فقد بحثت عنه أنا..ولم أوفق..
قيل إن عشيرة بعلبكية (غير بيت المولى) اختطفته، وهي تطالب بفدية كبيرة تعويضاً عن منعها من زراعة الحشيشة.... ولكن لم يقولوا من سيدفع الفدية ولمن؟؟
وزعم البعض أن الخطف تم لأسباب سياسية ولكن لم تصل التحريات إلى تحديد مكان احتجازه: أهو في أنفاق الناعمة أم مع القاعدة في جرود عرسال أم في وادي خالد؟؟
وقيل إن راكبي موتورسيكلات انقضوا عليه في إحدى الصيدليات بضواحي بيروت بحثاً عن أدوية مخدرة.. فخدروه وما تركوه..ولم تعثر لهم السلطات على أثر..
وقيل إن إمرأة فقيرة خرجت من بيتها في عكار تبحث عن لقمة عيش لصغارها الستة فتاهت على الطريق وتعلقت برقبته ولم تتركه..ولا أحد يدري أين ذهبا واختفيا..
وقيل إن مواطناً في جرود جبيل أمسك بتلابيبه معتقداً أنه جابي كهرباء جاء يقبض ممن لا تصلهم كهرباء ولا ماء ولا طرقات.. فقتله ودفنه قرب مزار القديس شربل..
وقيل إن صاحب حانة في صور زعل من القوات الدولية التي لم تعد تشتري من عنده مشروبات كحولية.. فقام بتفجير دورية للقوات الدولية ثم خطفه لكي يضلل التحقيق ويتم اتهامه بالجريمة..
وقيل إنه لم يستطع أن يتكيف مع الغلاء وأن يغير عاداته الغذائية فقرر الاعتكاف حتى زوال الغمة..
وقيل إنه لم يستطع هضم عمليات بيع تراب الشواطئ ولا المتاجرة بمازوت الفقراء ولا شراهة ونزق سائقي الفانات... فركب فاناً وانتحر..
وقيل إنه سئم وعاف أكل الأغذية الفاسدة، ورؤية الأطفال ينهش السرطان ما تبقى من أعمارهم، ومصانع الأوبئة الشرعية وأعمدة الكهرباء الوطنية تنتشر في طول البلاد وعرضها ولا أحد يتنفس احتجاجاً حتى لا يصير مصنفاً في فئة أعداء المقاومة والتنمية والتحرير والاصلاح والتغيير...وما شاء الله من أسماء وعناوين..
وقيل إنه لم يستطع أن يفسر سر انتشار عيادات التجميل في كل مكان..حتى داخل المساجد والكنائس والجامعات والمدارس..
وقيل إنه شوهد يتمشى في مبنى إحدى كليات الجامعة اللبنانية فهاله ما رأى وسمع فانفجر ومات..
وقيل إنه رأى شخصاً يقتات من النفايات في بيروت المحروسة، ورأى طفلاً يموت على باب أحد المستشفيات في صيدا، ورأى شخصيات الوطن تدفع الملايين ليلة رأس السنة فقال: لاحول ولا قوة إلا.. وتوكل عليه وراح..
وقيل إن بعض نواب الأمة الأشاوس لم يرق لهم غنجه ودلعه عليهم فقرروا تغييره خصوصاً وأن عندهم أكثر من بديل!..
وقيل إن المحكمة الدولية الخاصة استدعته للشهادة وإنه خاف من اتهامه بالصهينة فذهب ولم يرجع..
وقيل إنه رفض أن يكون عنده رعايا لا يريدون أن يجدوه حتى لا تموت أحلامهم الصغيرة قبل الكبيرة..

مقتطفات من قصيدة للشاعر الشعبي العراقي عباس جيجان:

أنا شفت الوطن بالطيف جاني البارحة.
قلت له: ليش أنت من دون الدول صاحت عليك الصايحة.
وليش أنت من دون الدول أطفالك الحلوين بالدم سابحة.
وليش أنت من دون الدول بكل بيت عندك نايحه.
وليش أنت من دون الدول ناسك تصبح نازحة.
وليش أنت من دون الدول جيرانك تواقحه؟
وليش أنت من دون الدول أي ثور بالعالم قوي تركض عليه تناطحه.

محمد سليم العوا لـ«الحياة»: انكسار الجيش هزيمة للدولة

الثلاثاء, 17 يناير 2012

القاهرة – محمد صلاح
يخوض المرشح المحتمل لرئاسة مصر الدكتور محمد سليم العوا في «المناطق الشائكة» التي تغلف الحياة السياسية في مصر الآن بديبلوماسية الخطيب المفوه. فهو يرى أن كل المرشحين المطروحين لرئاسة مصر «منافسون حقيقيون» ولا يصادر حق أي منهم في خوض التجربة. وإن كان يفرِّق بين من خدم هذا النظام ومن خدم الدولة في كنفه، لكنه لا يصنف منافسيه في أي الفسطاطين يقف. وللعوا مآخذ على إدارة المجلس العسكري للفترة الانتقالية، إلا أنه يرفض التفرقة بينه وبين الجيش، منبهاً إلى أن قادة المجلس هم قادة الجيش الذي يؤكد أن انكساره «هزيمة للدولة وضياع لمصر».
وفي حوار مع «الحياة» لمس العوا عذراً للمجلس العسكري في أخطاء ارتكبها «من دون سوء نية» وعزاها إلى «قلة الخبرة السياسية». وفي سباقه إلى كرسي الرئيس يتعفف المفكر الإسلامي من طلب الدعم سواء من جماعة «الإخوان المسلمين» أو السلفيين أو الكنيسة أو حتى من الأحزاب.
يعرض العوا «بضاعته» على المواطن الذي يراهن عليه. والخبير القانوني الذي طالما صال وجال في قاعات المحاكم لا يعول كثيراً على القضية المتهم فيها الرئيس السابق حسني مبارك بقتل المتظاهرين، فإن تمت تبرئته «فلا قيمة» لذلك في رأي العوا، فهي «أهون قضية» إذا ما قورنت بـ «قضايا الفساد السياسي والإداري والوظيفي» لمبارك وعائلته وهو تعهد بملاحقة مبارك قضائياً بعد الحكم في القضية الحالية. وللعوا رؤيته في ما يتعلق بالسياسة الخارجية لمصر، إذ يولي اهتماماً خاصاً بالمملكة العربية السعودية حيث دعا رئيس المجلس العسكري المشير حسين طنطاوي إلى القيام بـ «زيارة دولة» إليها. وهو يعتقد أن دولاً أجنبية من بينها إسرائيل لا تريد للعلاقات بين مصر والسعودية أن تتطور.
على رغم خلفيته الإسلامية لا يرى العوا غضاضة في الجلوس مع رئيس وزراء إسرائيل إذا فاز بمنصب الرئاسة في حال اقتضت الضرورة ذلك.
وهنا نص الحوار:
< ماذا تحقق من أهداف الثورة، وماذا بقي؟ - تحقق إسقاط نظام حسني مبارك، وهذا هو الهدف الذي ارتكزت عليه الثورة وتحقق قدر من الحريات غير مسبوق، جماعات سياسية عدة كانت تحاول أن تنشئ أحزاباً ولم تستطع، الآن نرى «الحرية والعدالة» وحزب «الجماعة الإسلامية» وحزب «الوسط» ووصل عدد الأحزاب إلى نحو 50 حزباً، وهذا قدر كبير جداً من الحرية، كما جنينا الحق في التظاهر والاعتصام الذي شهد في بعض الأحيان تجاوزات كثيرة لو كانت في عهد النظام السابق لكانت هناك مجازر في الشوارع، لكن لم يحدث، هناك اعتداءات وشهداء ومصابون نتمنى لهم الشفاء، لكن كل هذا إذا ما قيس بمقياس الكبت والطغيان الذي كان يحدث أيام حسني مبارك يعتبر إنجازاً كبيراً جداً، كما نال الناس حقوقهم في التجمع السلمي. تحقق أهم من ذلك أن من يُقصِّر يعزل، فحكومة عصام شرف الثانية لم تستطع أن تنجز ما كانت مكلفة به فأقيلت أو قبلت استقالتها، وقبول استقالة حكومة أو إقالة حكومة كان خيالاً، هذا التغيير في الأداء في فترة انتقالية، سيسن سنة جديدة. > وما الذي لم يتحقق؟
- أن النظام الفاسد لم يسقط كله، ما زال معششاً في ثنايا الحكومة، وأظن أنه سيأخذ وقتاً طويلاً كي يسقط، وسيحتاج إلى حكومة قوية يدعمها برلمان من أجل سن قوانين صعبة وإجراءات شديدة تؤدي إلى إخراج بقايا النظام الفاسد من البلد، ولم تتحقق أي خطوة نحو العدالة الاجتماعية؛ لأن الأمر يحتاج إلى قوة اقتصادية وقوة سياسية لا يستطيع الحكام الموقتون سواء في الجيش أو الوزارات أن يتخذوا قرارات بعيدة المدى في شأنها، وهناك شيء ليس من حق أحد أن يتحدث عنه لكنهم أشبعوه كلاماً، هو المشاريع طويلة المدى مثل إعادة إحياء توشكى ووادي التكنولوجيا وتطوير سيناء وقناة السويس وتحويلها إلى منطقة حرة، كل هذه مشاريع طويلة المدى لا يقل عمر أي منها عن 15 عاماً، وهذا لا يجوز أن تتداول فيه ولا تحاول أن تخطط له حكومات موقتة.
> بصفتك من أكبر المحامين في مصر، هل ترى أن المحاكمات منطقية؟
- منطقية جداً، لماذا؟ لأن السادة المحامين المدعين بالحق المدني الذين من مصلحتهم أن تنتهي المحاكمة سريعاً عطلوها، ردوا القاضي وحين انتهت قضايا الرد رجعوا إلى المحكمة وطلبوا 1660 شاهداً، أنت مدع بالحق المدني من مصلحتك أن تنهي المحاكمة وألا تعطلها.
> ولماذا يفعلون ذلك؟
- إما نوع من أنواع البطولة القانونية يتصورونها أو يدفعهم أحد لذلك، لا أستطيع أن أقطع أو أتهم زملائي، لأنهم كلهم على درجة من النقاء عالية جداً، ومع ذلك هذا ما يحدث. الآن المحاكمة صارت في الخط النهائي. النيابة ترافعت والمدعون بالحق المدني ترافعوا والدفاع يترافع الآن، بعدها تحجز المحكمة القضية للحكم وهذا نهاية المطاف. وأتوقع أن يصدر الحكم في أيار (مايو) أو حزيران (يونيو). وأياً ما كان الحكم فهذه ليست القضية الوحيدة لحسني مبارك، هذه أهون قضية، هناك قضايا الفساد السياسي والإداري والوظيفي لحسني مبارك وعائلته وأقاربه وأصدقاء عائلته وأقارب عائلته وأقارب زوجته، وهي قضايا بالعشرات، ولم تفتح بعد وهي قضايا لا تسقط بمضي المدة، وكثير منها بحكم الدستور لا يسقط بالتقادم مثل قضايا التعذيب والقتل.
> لماذا لم تفتح هذه القضايا؟
- لأن الإدارة الموقتة لا تستطيع أن تفتح هذه الملفات كلها، وإن فتحتها لن تحقق أي إنجاز على صعيد المعيشة.
> هل تتوقع أن تفتح هذه القضايا؟
- قطعاً ستنظر أمام المحاكم بعد انتخابات البرلمان والرئيس الجديد، لأن هؤلاء لن يكون عليهم قيد من الماضي. الحكومات الموقتة والمجلس الأعلى للقوات المسلحة جاؤوا من الماضي ونتيجة انهيار هذا الماضي فانبثقت لهم بؤرة كي يعملوا، أما من أتى وسيأتي بالانتخاب ليس عليهم عبء من الماضي، فهم منتخبون من الشعب ومتحررون من كل قيد ومحمولون على أمواج الثورة، فالرئيس المقبل إذا لم يستطع أن يلبي مطالب الثورة الحقيقة فلن يستمر.
> إذا حصل مبارك على البراءة في قضية قتل المتظاهرين، ماذا تتوقع؟
- لا يعني شيئاً، لو افترضنا حصوله على البراءة في هذه القضية فلا قيمة لذلك، لأنه سيحاسب على عشرات القضايا الأخرى, ولن أتوانى عن ملاحقته قضائياً بعد انتهاء القضية الحالية.
> هناك اعتقاد بأن القوى التي لم تحقق نجاحات في انتخابات البرلمان تستغل حماسة الشباب وتسعى إلى تأجيج الشارع لإفساد نتائج الانتخاب وبالتالي إفساد انتخابات الرئاسية؟
- طبعاً، توجد قوى فعلت ذلك. «الاشتراكيون الثوريون» الذين خرجوا في «فايسبوك» وقالوا لا بد أن نهدم الدولة حتى نبني على أنقاضها، ولا بد أن نهزم الجيش في 25 كانون الثاني (يناير) مثل ما هزمنا الشرطة في 28 كانون الثاني (يناير) 2011، هذه أقوال واضحة الدلالة لا تحتاج إلى تفسير، من هاجموا قوات الشرطة والجيش بكرات اللهب كانوا يخربون لا يثورون.
نعيش فوضى غير منظمة
> لكن هناك احتقان بسبب اعتداء قوات الشرطة والجيش على المتظاهرين؟
- اقترحت وما زلت تحديد مكان وهو ميدان التحرير في القاهرة وميدان في كل محافظة يتظاهر فيه الناس ويعتصمون بطريقة سلمية ولا يكون فيه أي وجود لشرطي أو عسكري، فهو ميدان ملك الجماهير من دون أن يعطلوا المصالح. وعندما يحدث هجوم مثل ما حدث في شارع محمد محمود للوصول إلى وزارة الداخلية، يجب أن يوقف بكل حزم. حق المواطن أن يتظاهر ويعتصم ولكن ليس من حقه أن يدمر مبنى. يجب تنظيم الأمور لأننا نعيش فوضى غير منظمة.
> لماذا هذه الفوضى بعد عام على الثورة، هل لأن المجلس العسكري قليل الحيلة؟
- المجــلس ليس قليل الحيلة، ولكنه لا يمــلك قوة مدربة للتعامل مع الشارع، الجيش ليس مُعداً لهذا إطلاقاً لذلك يرتكب أخطاء، فهو لا يستطيع أن يتعامل إلا في الحرب مع الأعداء، وهذه جريمة أوقعتنا فيها وزارة الداخلية منذ أن قامت الثورة حتى الآن.
> هذا من جانب السلطة، فهل أحسن الثوار تنظيم صفوفهم؟
- طبعاً ليس هناك تنظيم، ليس هناك ثورة يقوم بها 81 ائتلافاً. هذا مستحيل. والمشكلة الثانية هي ادعاء ملكية الثورة. كنت في الميدان من يوم 28 كانون الثاني (يناير) حتى يوم 12 شباط (فبراير)، وهذه الثورة لم ينظمها أحد، والتنظيم الذي حدث في الميدان كان لوجيستياً ومعظمه بدافع إنساني. كان هناك من يعرض آلاف الجنيهات لدعم المتظاهرين. وبعد أن نجحت الثورة كل مجموعة تدعي أنها نظمتها. فخر أن تكون من شباب الثورة، لكن تظل جزءاً منها ويجب أن تكون حريصاً عليها، وليس من الحرص على الثورة أن تدمر البلد أو أن تهدم الجيش. هزيمة الشرطة كانت أكبر نصر للشعب المصري لأنه شعب أعزل لا يملك أي سلاح هزم شرطة قوامها مليون و750 ألفاً. الثورة انتصرت في الواقع يوم 28 كانون الثاني (يناير) حين هزمت الشرطة.
> هزيمة الشرطة انتصار للثورة؟
- طبعاً.
> وانكسار الجيش؟
- انكسار الجيش هزيمة للدولة وضياع لمصر، الشرطة غير الجيش تماماً.
> والمطالب برحيل المجلس العسكري الآن وتحميله مسؤولية القتل في الأحداث الأخيرة؟
- يرحل الآن، ومن يتسلم الدولة؟.
> مجلس رئاسي مدني.
- من أين يأتي؟
> من التحرير؟
- أتينا بالدكتور عصام شرف من التحرير وترأس وزارتين، والنتيجة كما نرى، هذه حماسة زائدة. المجلس الرئاسي المدني إذا لم يكن منتخباً من ملايين المصريين لن يكون له قيمة ولا سلطة. ولذلك أقف بقوة ضد اقتراح تسليم السلطة إلى رئيس مجلس الشعب المنتخب، لأنه انتخب كي يكون عضواً في البرلمان، والشعب لم ينتخب رئيس البرلمان، انتخب 498 عضواً سيختارون رئيسهم، وهذه مسألة إدارية. وسيختار بحسب الغالبية، سيصوت له الإخوان وأي تحالف معهم وسيكون رئيساً لمجلس الشعب، والذي سيصوت له حزب «النور» وأي تحالف آخر يمكن أن يكون رئيس البرلمان. أنا لا أريد أياً منهم رئيساً للدولة. لا يصلحوا. هذا كلام مستعجل، ويثير العواطف أكثر مما يحقق العمل الدستوري الصحيح.
الإساءة للمجلس العسكري إساءة للدولة
> ما رأيك في الحديث عن «الخروج الآمن» لقيادات المجلس العسكري؟
- أنا من أكثر الناس استياءً من هذه التعبيرات. الخروج الآمن يكون لمن أذى وأنت تريد للتخلص منه أن تعفيه من هذه الجرائم وتجلس أنت مكانه لكي تدير البلد. أنا أرى في الإدارة التي قام بها المجلس العسكري خلطاً لعمل صالح بعمل سيء، أصابوا وأخطأوا، أحسنوا وأساؤوا، عندما أحسنوا كان قصدهم حسناً وعندما أساؤوا، أساؤوا السبيل، أساؤوا الطريق، أساؤوا الوسيلة، لكن أيضاً كان قصدهم حسناً، لم يكن عندهم قصد خيانة البلد، ولا في نيتهم شيء سيء بدليل ما حدث في هذه الانتخابات، من يملك نيات سيئة لا يجري انتخابات نزيهة، كان يجريها وفقاً لرغباته. فكرة الخروج الآمن، فكرة تسيء إلى المجلس الأعلى، وتسيء إلى مصر، لأنها تعني أن مصر ارتضت أن بعض الناس ارتكبوا جرائم لا يحاسبون عليها ليخرجوا من الحياة السياسية بلطف وسلام. وهذا مرفوض، من ارتكب جريمة سيحاسب عليها. وأنا أقول إذا قدر الله أن هذه البلاد يأتيها رئيس منتخب لن يستطيع أن يحكمها إلا إذا حاسب المجرمين كلهم وليس من الآن، منذ عام 1981 حتى نجاح الثورة وحتى انتخابه. إن صح أن هناك جرائم ارتكبت من 11 شباط (فبراير) الماضي حتى 30 حزيران (يونيو) المقبل يجب أن تكون هذه على أولوية جدول أعمال الرئيس المنتخب، كيف نحاسب هؤلاء، أما قصة تأمين شخص مجرم هذه قصة غير واردة ولا يجوز أن ترد.
> هل ترى أن هناك جرائم ارتكبت؟
- لا أرى ذلك، هم (المجلس العسكري) ارتكبوا خطأ بغير قصد سيء، ارتكبوا أعمالاً حسنة بنية حسنة، لكن بلغت قلة خبرتهم السياسية درجة مزعجة.
> هناك من يقارن بين المجلس العسكري وبين الضباط الأحرار، ما الفرق بينهم؟
- مجلس قيادة الثورة كانوا مجموعة مختارة بمعرفة الرئيس جمال عبد الناصر يشكلون قيادة الخلايا الداخلية في الجيش وفي المجتمع أيضاً مثل صلته بالشيوعيين والإخوان المسلمين، كانوا يخططون لقلب نظام الحكم لتحويله من نظام ملكي إلى نظام جمهوري وكان أساس انطلاقهم الانتقام من هزيمة مصر في حرب فلسطين. هؤلاء أتوا بإرادتهم بخطة مُعدة لتحويل مصر من ملكية إلى جمهورية بتنظيم مرتبط بهم من المدنيين، وإن كان سرياً. أما المجلس العسكري، فهم ضباط عظام لم يكن في بال أحد منهم أن يتعرض لإدارة الدولة لا من قريب أو بعيد. وكانت مفاجأة لهم قرار حسني مبارك أن يتولوا إدارة شؤون البلاد، وتولوا هذه الإدارة بحكم الضرورة. والفرق الثاني أن هؤلاء ليس عندهم مشروع سياسي للوطن ولا للمنطقة.
أنا مدعوم من الناس
> من تعتبره منافسك الرئيسي في انتخابات الرئاسة؟
- كل المرشحين.
> بنفس الدرجة؟
- لا طبعاً، درجات مختلفة، لكن كل المرشحين منافسون حقيقيون، أنا لست مدعوماً لا من حزب ولا جمعية ولا مجموعة معينة، مدعوم بالأساس من الناس، ودعيت إلى الترشيح من مختلف الطبقات، وأزور المدن والقرى والمحافظات وألتقي المواطنين وأنا أثق في هؤلاء الناس وتقديرهم الصحيح، لأنهم أذكى وأكثر ثقافة وإدراكاً بكثير ممن نعتبرهم نخبة أو طبقة مثقفة. أطرح مشاريعي على الناس وهم يحكمون على المرشحين من أمرين: سلوكهم الشخصي لا سيما في المرحلة التي ترشح فيها حتى ينتخب بالإضافة إلى سلوكه السابق، ومن خلال مشاريعه.
> ما رأيك في المرشحين الذين يحسبهم البعض على النظام السابق، هل الثورة تعني ألا نأتي برئيس عمل مع النظام السابق؟
- الثورة طبعاً لا تعني ذلك، والشعب المصري سيحكم باختياره. من خدم النظام بالفساد والانحراف هذا ينبغي له البقاء في بيته، ومن خدم الوطن في ظل النظام السابق بأمانة وشرف ونزاهة هذا من حقه أن ينافس على أي منصب.
>هل تعتبر أن انسحاب البرادعي يصب في مصلحتك؟
- دائماً أقول إننا بحاجة إلى عشرات المرشحين من مختلف الاتجاهات السياسية والفكرية في هذه المرحلة المهمة من تاريخنا التي يلعب كل منا فيها دوره في نشر الوعي السياسي وأهمية وضرورة المشاركة، والدكتور البرادعي كان حاضراً في الساحة السياسية منذ فترة وله مريدون يثقون فيه، الترشح كان قراره وعندما أعلن الانسحاب فهو اختياره الذي يرى أنه يعبر عن فكره في الوقت الحالي.
> أنت محسوب على تيار الإسلام السياسي، لكن السلفيين مثلاً يفترض أن مرشحهم حازم صلاح أبو إسماعيل والإخوان المسلمين كل ما صدر عنهم حتى الآن يعني أنهم غير مقتنعين بأي من المرشحين، وفي الوقت نفسه هناك مشكلة أثيرت لفترة بينك وبين الأقباط وأيضاً الليبراليون لا يؤيدونك، على من تراهن؟
- هذا التحليل جيد جداً، لكن لا ينقصه إلا شيء واحد هو أنه قائم على افتراض أن هذه القوى تستطيع أن تُنجح أو تُسقط من تشاء، وهذا ليس صحيحاً، القادرون على الدفع بمرشح إلى هذا المنصب أو حرمانه منه 52 مليون ناخب. هناك تأثير تنظيمي للإخوان المسلمين وللسلفيين، والكنيسة القبطية أيضاً، وأتمنى ألا يكون هذا التنظيم ضدي، لكن ما أفعله دعوة الناس إلى التأمل في البرامج وإلى التأمل في المرشحين. إذا عمل التنظيم الإخواني أو السلفي وإلى حد كبير تنظيم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ضد شخص طبعاً سيؤثر في الأصوات التي ينالها كثيراً، لكن هل يؤدي إلى إسقاطه، أنا أقول لا.
> ألا ترى أن ترشيح 3 مرشحين بخلفية إسلامية يضرهم جميعاً، ألم يكن من الأفضل الالتفاف حول مرشح واحد، أنت أو الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح أو حازم صلاح أبو إسماعيل؟
- أنا أفرق بين مرحلتين، مرحلة الدعوة إلى الانتخابات وأشعر فيها أن ثلاثة من الإسلاميين أو اثنين من الليبراليين أو خمسة من العلمانيين الأقحاح عدد قليل جداً. أنت تحتاج في هذه المرحلة إلى كل صاحب فكر يعرض فكره بأكبر عدد من الوجوه، لكن قبل التصويت بأيام لا بد أن تتوحد القوى، فالليبراليون يكون لهم مرشح واحد والعلمانيون لهم مرشح واحد والإسلاميون كذلك، وهذا جُهد سابق لأوانه.
> هل تتوقع عند غلق باب الترشيح انسحاب مرشحين؟
- نعم، إلى يوم الانسحاب سيكون المرشحون أكثر من واحد من التيار الواحد. اعتقد أن من واجب الإسلاميين ومن واجب الليبراليين والعلمانيين أن يزيدوا من مرشحيهم الآن لتصل الفكرة الإسلامية أو الليبرالية إلى كل ركن في مصر وحين يحل وقت التصويت يكون هناك شخص أو شخصين.
> هل ستبذل جهداً للحصول على أصوات الأقباط أو الإخوان؟
- طبعاً، أبذل هذا الجهد الآن، إذا قدر لي أن أكون رئيساً للجمهورية، فسأكون رئيساً لهم جميعاً، ولا يصح أن يعاديني أحد، قد لا يقبلني لكن لا يعاديني، أعمل الآن على هذا الأمر.
> الثورة قطعاً أثَّرت على التوازنات الإقليمية في المنطقة وموقع مصر منها، كيف تنظر لهذا التأثير؟
- أرى أن شيئاً مهماً حدث، وهو أنه قد تبين لنا «الخيط الأبيض من الخيط الأسود» بخصوص من يساعدنا ومن لا يساعدنا، هناك دول ساعدتنا ودول مستعدة للمساعدة، وهناك دول تعبر عن رغبتها في المساعدة، لكن هناك ظروف تحول بينها وبين أداء هذه الرغبة أداء عملياً، وهناك دول غير مرتاحة لما يحدث في مصر أصلاً.
> من الأفضل أن تطرح لنا نماذج لهذه الدول وتلك؟
- لا أريد أن أسمي نماذج كي لا أغضب أحداً، لكن قطعاً هناك دول غير مرتاحة لمصر مثل سورية واليمن؛ لأن ما يجري فيها ينذر بما حدث في مصر، وهم لا يريدون ذلك.
> هل أثَّرت الثورة سلباً في علاقة مصر بالدول العربية؟
- كان ينبغي أن تكون هذه الفترة من أحسن الفترات في تطوير العلاقات العربية. أنا متطلع بأمل كبير جداً إلى زيارة للمشير طنطاوي للمملكة العربية السعودية، وأدعو بقوة إلى ضرورة إتمام هذه الزيارة في المرحلة الانتقالية، ولا يجب أن ننتظر كي يأتي رئيس منتخب ليبدأ العلاقة من جديد، فالعلاقة مع المملكة العربية السعودية تحديداً علاقة شعبية، كل مصري يحب السعودية، ومن ثم يجب أن تعبر عن هذا الحب الشعبي بزيارة رسمية قوية على مستوى عال جداً، على مستوى من يقوم برئاسة الدولة.
أولوية العلاقة مع السعودية
> هناك اتهامات للسعودية بأنها تشارك في ثورة مضادة أو مستاءة من محاكمة الرئيس المخلوع، وبالتالي ربما يفكر المشير طنطاوي في أنه لو أتم هذه الزيارة قد تشن حملة ضده؟
- المسؤولية التي يتحملها رجل الدولة يجب أن تكون أكبر من هذا، مسؤولية رجل الدولة مسؤولية لا تتعلق بالشارع وكلام الشارع ولا الإشاعات، مسؤولية رجل الدولة هي خدمة الدولة بكل ما يستطيع من قوة، والمشير طنطاوي يتمتع بأنه رجل صلب، عنده صلابة هائلة وعسكرية قديمة متأصلة فيه، وبمقتضى هذه الصلابة والعسكرية ينبغي عليه أن يقدم على مثل هذه الخطوة. أنا لا أقول السعودية فقط، المملكة طبعاً في المقام الأول، لكن هناك مجموعة من الدول العربية لا بد أن تتجدد العلاقات معها. أنا بكل ما استطيع من قوة وفي كل مناسبة أدفع في سبيل إتمام زيارة المشير للسعودية؛ لأن إتمام هذه الزيارة مفيد جداً للشعبين المصري والسعودي وللعلاقة بين الدولتين، وهي علاقة أزلية.
> أفهم من كلامك أن دولاً ليس من مصلحتها التقارب بين مصر والسعودية؟
- طبعاً هناك دول ليس من مصلحتها التقارب، إسرائيل ليس من مصلحتها التقارب وبعض القيادات الأخرى في بعض الدول التي لها علاقات قوية مع إسرائيل ليس من مصلحتها التقارب، أيضاً هناك المشكلة العربية الإيرانية. إذا جرى التقارب المصري الإيراني، سيحدث تباعد مصري سعودي، وإذا جرى تقارب مصري سعودي، سيحدث تباعد مصري إيراني، ومشروعنا قائم على بناء علاقات كاملة في المنطقة كلها، وهذا لن تستطيع أن تفعله إلا مصر ولن تستطيع أن تبادر إليه أي دولة أخرى.
> المشير طنطاوي زار السعودية لحضور جنازة ولي العهد الراحل الأمير سلطان بن عبدالعزيز، فماذا يعوق إتمام زيارة رسمية في رأيك؟
- أنا أقصد «زيارة دولة»، ولا شيء يعيقها، لكن هناك مؤسسات دولة مثل وزارة الخارجية لا بد أن تزكي هذه المسألة، وأيضاً المكتب الخاص للمشير الذي يرصد له تحركات العالم ويحضر ملفاته. ورأيي أن المشير لا بد أن يبادر بزيارة للمملكة العربية السعودية على مستوى زيارة دولة لا زيارة شخصية يلتقي خلالها أخيه الملك عبدالله لمدة ساعتين ثم يعود. أريد زيارة تستمر أياماً يرصد فيها ما حدث في المملكة التي أنفقت بلايين أحدثت طفرة سكانية وطفرة عمرانية وطفرة صناعية وحدث أيضاً أن أخفقت مشاريع، لكن ما حدث من تطور في المملكة جدير أن يرى، لأننا سنعيد بناء الدولة على ما وصل إليه العالم وهم حاولوا ذلك، لذلك هذه زيارة مهمة للمملكة في المقام الأول ولباقي الدول العربية أيضاً.
العلاقة مع إسرائيل
> هل ستجلس مع رئيس وزراء إسرائيل إن فزت بالرئاسة؟
- إن أتى إلى مصر في مسألة سياسية أجلس معه مثل رئيس وزراء أي دولة أخرى، لا حساسية في ذلك، هو رئيس وزراء دولة بيننا وبينها معاهدة، إذا كان الأمر يقتضي أن أجلس معه أجلس، وإذا كان يقتضي أن يجلس معه رئيس الوزراء فليكن أو حتى وزير، لكن ليس ضرورياً أن رئيس دولة مصر يجلس مع رئيس وزراء إسرائيل أصلاً.
> كيف ستعالج ملف معاهدة السلام؟
- هذا الملف يحتاج إلى معالجة جديدة تتطلب دراسة عسكرية واستخباراتية لتقسيم سيناء، لأنه ثبت أن هذا التقسيم لم يؤد إلى حفظ الأمن المصري ولم يؤد إلى حفظ الأمن الإسرائيلي، فلا بد أن يعاد النظر في هذا التقسيم ولا بد أن تكون هناك سيادة كاملة لمصر على أراضيها تمنع وقوع أي جرائم من خلال الحدود، ويجب على إسرائيل أن تحمي نفسها داخل حدودها. أنا ملتزم ألا أوجه لها عدواناً، لكن هي ملتزمة أن تحمي حدودها من الداخل وليس من مصر، لكن هذا الموضوع أكبر من أن يقال فيه رأي نهائي الآن.

محمد سليم العوا .. من ساحات المحاكم إلى دهاليز السياسة

القاهرة – أحمد رحيم
للدكتور محمد سليم العوا مشوار طويل في العمل القانوني، فهو محام ومحكم دولي وأستاذ جامعي يدرس القانون. ولد العوا في كانون الأول (ديسمبر) عام 1942، في محافظة الإسكندرية وتخرج في كلية الحقوق في جامعة الإسكندرية عام 1963. وحدد منذ البداية توجهه الإسلامي فحصل على دبلوم الشريعة الإسلامية في الجامعة نفسها في عام 1964، ثم دبلوم القانون العام. فور تخرجه، عمل وكيلاً للنائب العام وانتقل في عام 1966 للعمل محامياً في هيئة قضايا الدولة، حتى عام 1971، قبل أن يعار من هيئة قضايا الدولة المصرية محامياً في إدارة الفتوى والتشريع بمجلس الوزراء الكويتي. وتولى منصب الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. ودرس في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن حتى حصل على درجة دكتوراه الفلسفة في القانون المقارن.وعين أستاذاً في عدة جامعات مصرية ونيجيرية وسعودية وسودانية. واختير عضواً في اللجنة الفنية لتعديل القوانين السودانية بما يتفق مع الشريعة الإسلامية. وشارك في تأسيس المجلس التنفيذي للمعهد العالمي للاقتصاد والبنوك الإسلامية وفي لجنة التوفيق بين العراق وإيران في عام 1984. وهو عضو في مجمع اللغة العربية في مصر ومجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وعضو عامل في أكاديمية مؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامي في الأردن، وعضو المجلس الأعلى للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية في طهران وعضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. اختير العوا مستشاراً للأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي في عام 2005. وشارك في وفد الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي زار دارفور وسعى لحل أزمة الإقليم السوداني في أيلول (سبتمبر) من عام 2004.وشارك في إعداد وكلف بصياغة وشهد على وثيقة مكة المكرمة لوقف القتال الطائفي في العراق في تشرين الأول (أكتوبر) من عام 2006. كما شارك بجهد خاص في محاولة لرأب الصدع بين قوى الموالاة وقوى المعارضة في لبنان في كانون الأول (ديسمبر) من عام 2006. وراجع مشروع النظام الأساسي للمجلس التشريعي الفلسطيني.وللعوا مئات من الدراسات والبحوث والمقالات المنشورة في كتب قانونية وفقهية متخصصة، وفي المجلات القانونية والإسلامية والثقافية. وألف وأعد عشرات الكتب والبحوث القانونية باللغتين العربية والإنكليزية. وتولى الدفاع في قضايا مهمة شغلت الرأي العام منها الدفاع عن المتهمين في قضية «خلية حزب الله» اللبناني التي اتهمتها السلطات بالعمل على الإضرار بمصلحة البلاد في عام 2009، كما اختير ضمن ممثلي المدعين بالحق المدني في القضية المتهم فيها الرئيس السابق حسني مبارك ونجليه ووزير داخليته حبيب العادلي و6 من كبار مساعديه بقتل الثوار والفساد، وهو كان ضمن الشخصيات التي فاوضت النظام السابق على الرحيل خلال أيام الثورة.
عُرف عن العوا ميله للوسطية، لكن يأخذ الأقباط عليه حديثه عن وجود أسلحة مكدسة في الأديرة المسيحية، وهو التصريح الذي أثار جدلاً كبيراً في الساحة السياسية في مصر وصل إلى حد المطالبة بتفتيش دور العبادة المسيحية.

وليد جنبلاط: الشعوب العربيّة الثائرة لم تعد تقبل بالحزب الواحد والحاكم الأوحد

نظرية الممانعة صادرت آراء الشعوب

أدلى رئيس جبهة النضال الوطني وليد جنبلاط بموقفه الأسبوعي لجريدة "الأنباء" الصادرة عن الحزب التقدمي الاشتراكي مما جاء فيه:بعيداً عن الخطب الكلاميّة المطولة التي نظرّت لمفاهيم ومصطلحات مضى الزمن على القسم الأكبر منها، فإن ثورات الشعوب لها حيثياتها وظروفها الموضوعيّة، وهي حركة تتقدّم الى الأمام ولا تعود الى الوراء. الشعوب العربيّة الثائرة ترفض القمع والاستبداد والفساد،ولم تعد تقبل بالحزب الواحد والحاكم الأوحد، واللغة الخشبيّة التي إستُخدمت لسنوات بهدف السيطرة على الشعوب لم تعد تنطلي على الأحرار والثوار في كل البلدان العربيّة. كما أن المحاولات المستمرة لتسويق نظريّات الارهاب والمجموعات الارهابيّة المسلحة أيضاً لم تعد تقنع الشعوب الغاضبة. وإذا كان هناك من عصابات تُنعت بأنها إرهابيّة تستغل حالات الفوضى التي تثيرها الحلول الأمنيّة والقمعيّة التي يمارسها النظام في مواجهة المطالب السياسيّة والاجتماعيّة المشروعة، فذلك لا يلغي أن هناك شعوباً تريد تحقيق حريتها وديمقراطيتها وعزتها وكرامتها.
فمحمد بو عزيزي من بلدة سيدي بوزيد، مفجر الثورة التونسيّة لم يكن إرهابيّاً، والآلاف من التونسيين الذين نزلوا الى الشوارع لم يكونوا إرهابيين، إنما كانوا أحراراً يرفضون البقاء تحت نير الظلم والقمع والاستبداد الذي مثله حكم زين العابدين بن علي على مدى سنوات وقد إحتفلت تونس بالأمس بالذكرى السنوية الأولى لانتصار ثورتها.
وخالد يوسف مع الملايين من الشباب والأحرار في ميدان التحرير لم يكونوا إرهابيين، وهم أسقطوا نظام حسني مباركوذهبوا به الى المحكمة لينال عقابه بعد سنوات من القهر والفساد والمحسوبيّات. ونحن أيضاً على مشارف الاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لثورة 25 يناير.
والمحامي فتحي تربل الذي رفع الصوت في قضية سجن أبو سليم الذي كان معتقلاً مورست فيه كل أشكال التنكيل والتعذيب والابادة وواجه القمع في بنغازي، وفي منتصف شباط المقبل تحل الذكرى الأولى لاسقاط نظام معمّر القذافي؛ فتربل والآلاف من الثوار الليبيين الذين إنتفضوا ضد إستبداد الحاكم وممارساته القمعيّة ونظرياته السخيفة، لم يكونوا إرهابيين.
كما أن توكل كرمان والملايين من المناضلين في ساحات اليمن وشارع الخمسين الذين خرجوا للمطالبة بالحرية والديمقراطيّة والتعددية لم يكونوا إرهابيين كذلك. والبحرينيون الذين تظاهروا في ساحة اللؤلؤة للمطالبة بحقوقهم السياسيّة المشروعة لم يكونوا إرهابيين أيضاً.
وإذا كان كل هؤلاء ليسوا إرهابيين، فمن الظلم إعتبار أطفال درعا وحمزة الخطيب وغيرهم بأنهم إرهابيون، ناهيك عن الذين يقبعون في السجون والمعتقلات والمفقودين وجميعهم ليسوا سوى طلاب حرية. أما عشرات الآلاف من المناضلين والمناضلات والمواطنين العزل نساءً وأطفالاً وشيوخاً الذين يواجهون سلمياً البطش والقمع بصدورهم العارية، فهم حتماً ليسوا من الارهابيين.
إن القبول بهذا المنطق المؤامراتي يقود الى الاستنتاج، على سبيل المثال لا الحصر، أن ثورة الشعب الأميركي ضد الاستبداد البريطاني كانت تنفيذاً لمؤامرة فرنسيّة، أو أن المقاومة الفرنسيّة بقيادة شارل ديغول من بريطانيا في مواجهة النازية كانت مؤامرة بريطانيّة، أو أن الاحتضان المصري والتونسي للثورة الجزائريّة كان مؤامرة مصرية وتونسيّة، أو أن إستقبال فرنسا للامام الخميني جعل من الثورة الاسلاميّة سنة 1979 تطبيقاً لخطة إنقلابيّة فرنسيّة. وهذا المنطق ذاته سوف يعني أن لينين كان متآمراً مع الألمان عندما إجتاز ألمانيا وإلتحق بالثورة الشيوعيّة سنة 1917! والاسترسال في هذا المجال يفضي الى تقديم أعداد لا تُحصى من الأمثلة التاريخيّة.
لذلك، فإن إطلاق العنان للمخيلات الخصبة وفقاً لهذا المنطق سيضع كل حركات تحرّر الشعوب المشروعة ومعظم الدعم الداخلي والخارجي لهذه الحركات في خانة المؤامرات، وهذا أمرٌ مرفوض جملة وتفصيلاً.
أما نظريّة الممانعة فكانت تمثل محاولة مستمرة لمصادرة آراء الشعوب العربيّة في التحرر والقرار المستقل خصوصاً في فلسطين، ويعود للشعب الفلسطيني وحده حق تقرير مصيره بعيداً عن مصالح بعض المحاور عربيّة كانت أم إقليميّة.
وبالمناسبة، ليس بهذه الطريقة التي عبّر عنها بعض المستشرقين في وزارة الخارجيّة الجزائريّة يُكافىء الشعب السوري، أو يُعبّر عن التراث الجزائري في الثورة والتحرر ولا تزال حاضرة ذكرى الأمير عبد القادر الجزائري الذي حمى الأبرياء في الشام وأهلها في منتصف القرن التاسع عشر من "الشبيحة" آنذاك.
لا شك أن إستمرار النزف في سوريا قد يؤدّي الى الانزلاق نحو الحرب الأهليّة التي ستكون نتائجها مدمرة، أو ربما تُتخذ خطوات للهروب الى الأمام تدفع الأمور نحو التفجير في ساحات أخرى بعواقب وخيمة تُخرج كل الأحداث عن السيطرة. لذلك، نكرر بأن التنفيذ الحرفي للمبادرة العربيّة بحذافيرها هو السبيل الوحيد للخروج من الأزمة وبناء سوريا جديدة معافاة، ديمقراطيّة، متنوعة، ومتعددة.
إننا نؤكد مجدداً على ضرورة أن تقوم الجمهورية الاسلاميّة بمبادرة ما تجاه الشعب السوري الذي وقف الى جانب الثورة الايرانيّة ضد نظام الشاه وفي مواجهة الهجوم الصدّامي في الثمانينات. كما أنه من الضروري لروسيا التي دعمت الشعب السوري في بناء سد الفرات وقدمت الآلاف من المنح الدراسيّة وساهمت في دعم سوريا عسكرياً وإنمائياً، أن تقوم بمبادرة سياسيّة مع الدول المعنية لاخراج سوريا من هذه الأزمة. فالبوارج، على أهميتها، ليست هي السبيل الأمثل للتعاطي مع هذه الأزمة الحادة، فأي عاقل لن يمتنع مستقبلاً عن تقديم التسهيلات لروسيا في ميناء اللاذقيّة أو سواه.
أخيراً، صحيحٌ أنني لم أطلب موعداً من السيّد حسن نصرالله، وربما كان من الأفضل تفادي تلك الهفوة الكلاميّة بعدم طلب موعد مستقبلاً خصوصاً أنني ناديتُ وسأبقى أنادي بالحوار بين اللبنانيين في كل الظروف والخروج من حالة القطيعة السياسيّة بينهم؛ إلا أن ذلك لا يلغي تمسكنا بالمقاومة والوظيفة الدفاعيّة التي تؤدّيها في مواجهة العدو الاسرائيلي بما يتلاءم مع المصلحة الوطنيّة اللبنانيّة مع التأكيد على ضرورة التوصل توافقيّاً الى خطة دفاعيّة وطنيّة شاملة وعدم إستخدام السلاح في الداخل. ونحن نملك كل الحرص، مع المقاومة، للحفاظ على الاستقرار الداخلي والسلم الأهلي لا سيّما في ظل هذه اللحظة الإقليميّة الحساسة والحرجة. أما التباين الحاصل في قراءة تطورات الأزمة السوريّة فنتركه للحوار المباشر بعيداً عن التساجل الاعلامي.

الوفاق بين بيان الأزهر وخبرة تونس

فهمي هويدي

جيد أن يتوافق الجميع في مصر على استعادة روح الثورة، لكن يثير تساؤلنا تصدي الأزهر لهذه المهنة، في حين يدهشنا أن تفشل القوى السياسية في إجراء ذلك التوافق من جانبها.
(1)
لا اعرف ما هي القيمة العملية للبيان الذي أصدره الأزهر يوم الأربعاء الماضي 11/1، وعرضه على نحو 60 من الرموز والقيادات والشخصيات العامة، وقيل إن الهدف منه هو استعادة روح الثورة. ذلك أن ثمة اسئلة عديدة حول مبدأ الزج بالأزهر في الموضوع، وحول خلفية إصدار البيان والجهة التي أعدته. ثم إن إعلانه قبل أسبوعين من حلول ذكرى انطلاق الثورة في 25 يناير، وما أثير من لغط حول فعاليات ذلك اليوم، يضيفان أسئلة أخرى، خصوصا انه دعا إلى التعاون بين شباب الثورة وممثلي الشعب المنتخبين لبناء مصر المستقبل. وإلى جانب هذا وذاك، فثمة تساؤل عن تفسير سكوت البيان عن ضرورة تصحيح أخطاء المجلس العسكري ومحاسبة المسؤولين عنها، لإتمام المصالحة بين المجلس والمجتمع قبل تسليم السلطة إلى المدنيين.
أعرف أن البيان له قيمته الأدبية والمعنوية المقدرة، شأنه في ذلك شأن ما أصدره من قبل من وثائق، خصوصا ما تعلق منها بالحريات العامة وهوية الدولة المنشودة. لكنني لا استطيع أن أقتنع بأن قراءة البيان بفقراته الاثنتي عشرة، يمكن أن تعد إجماعا ملزما للقوى السياسية في مصر. كما أنني لا استطيع أن أتصور أن الأزهر صار طرفا في اللعبة السياسية في مصر، يطالب بأن يجد موقفا إزاء مختلف التطورات، والأحداث السياسية الجارية. وأستبعد تماما ان يتحول الأزهر إلى بابوية جديدة مشابهة لتلك القائمة في الفاتيكان، لها واجهتها الدينية المعلنة وسلطانها الروحي، لكنها تمارس أدوارا سياسية أكثرها غير معلن، وهو ما سجلته عدة كتب غربية صدرت في الموضوع.
(2)
إن كثيرين من المثقفين يدعون إلى عدم تدخل الدين في السياسة، لكنهم يسكتون على الوجه الآخر الأكثر أهمية، الذي يتمثل في تدخل السياسة في الدين، بما يؤدى إلى توظيفه لخدمة الأهواء السياسية. وذلك الفصل بين الاثنين نظري حتى في التطبيقات الغربية والعلمانية التي ينطبق عليها ذلك التوظيف السياسي للدين، وهو أوضح ما يكون في الولايات المتحدة وإسرائيل على سبيل المثال.
ولأن التعاليم في المفهوم الإسلامي لا تنظم علاقات المرء بربه فقط ولكن بعضها ينظم المعاملات أيضا، فضلا عن الأخلاق التي هي الأصل والأساس بطبيعة الحال، فإن علماء المسلمين استندوا إلى تلك التعاليم في الدفاع عن المجتمع ومواجهة الحكام الظلمة. وهم الذين تحدثوا عن فقه الخروج على الحكام الظلمة، ودعوا إلى مقاومتهم والقطيعة معهم حتى قال بعضهم إن الفقيه إذا دخل على الحاكم الظالم يفقد اعتباره وتسقط شهادته.
في التاريخ المصري ان السيد عمر مكرم نقيب الأشراف شارك مع العلماء في عزل خورشيد، الوالي التركي، وقام بتنصيب محمد علي باشا حاكما على مصر في عام 1805، لكن الوالي الجديد ما لبث أن نفاه وقلص دور علماء الأزهر، كي لا يفعلوا معه ما فعلوه مع سلفه. ومنذ ذلك الحين وأسرة محمد على تتحسب لدور الأزهر وتحرص على احتوائه وتطويعه. ولم يختلف ذلك كثيرا بعد الثورة في منتصف القرن العشرين، فعبد الناصر أراد أن يستخدم الأزهر ضمن مشروعه الوطني، والسادات أراد له أن يغطى تصالحه مع إسرائيل. ومبارك لم يستخدمه، ليس تعففا، لكن لأنه كان بلا مشروع، فأخضعه لإدارة جهاز أمن الدولة.
اننا نريد للأزهر ان يؤدى دوره مستقلا عن السلطة. ونعلم أنه في الأصل مؤسسة تعليمية ودعوية. ليس لمصر وحدها ولكن للعالم الإسلامي بأسره. وإذا أراد أن يؤدي دوره خارج ذلك الإطار، فليته يصبح أيضا منبرا للدفاع عن المجتمع وليس السلطة، وصوتا للحق في مواجهة الاستبداد والظلم السياسي والاجتماعي، ودوره في مواجهة الحملة الفرنسية على مصر ليس منسيا. أما إذا لم تمكنه الظروف من أداء ذلك الدور، فإن العالم الإسلامي يظل ينتظر منه الكثير على الصعيدين المعرفي والدعوي.
(3)
في أحسن الأحوال فإن بيانات الأزهر أسهــمت في ترطــيب الجو العام، ولم تغير شيئا من الواقع. فالاستقـطاب حاصل، ولم يتوقــف والجهد المبذول لجمع الفرقاء والبـحث في مواصـفات لجـنة تشـكيل الدستور، كما ان اللغط مستمر حول إطار عمل اللجـنة وحدود صلاحياتها، الأمر الذي يعنى ان الوفاق الوطني المنشود لم يتحقق. ورغم ان نتـائج انتخابات مجلس الشعب رسمت لنا خريطة القوى السياسية وحـددت أوزان تلك القوى إلا أن الانجاز الذي حققته لم يسلـم من النـقد والتـجريح. حتى سمعنا أصواتا لجأت إلى التشكيك في صدق تعبير المجلس عن ثورة 25 يناير.
ما لم تحدث مفاجأة في المشاورات الجارية فلا مفر من الاعتراف بعجز القوى السياسية عن تحقيق الوفاق المنشــود، وهو موقف يـدين هـذه القوى جميعها، التي استغرب عدم قدرتها على رصد ما هو مشـترك بيـنها في المرحلـة الدقيقـة التي يمر بـها الوطن. في هذا السياق أزعــم أن التجربة التونسية ملهمة في مراعاة تحــقيق التوافق بين القوى السياسية. إذ من حسن الحظ أن تلك القوى شرعت في إحداث ذلك التوافق في وقت مبكر. ذلك أن صراعها ضد نظام الرئيس السابق زين العابدين بن على دفعها في عام 2005 إلى توحيد جهودها ضده، وتقوية موقفها من خلال نبذ خلافاتها والاتفاق على ما هو مشترك بينها. منذ ذلك الحين أداروا مناقشات شارك فيها الإسلاميون والعلمانيون والقوميون والشيوعيون والناصريون وشكل هؤلاء ما سمي بهيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات. وقد اسفرت المناقشات عن الاتفاق على المواقف المشتركة بينها في ثلاثة أمور هي: الحريات العامة ـ حقوق المرأة والاتفاق بين الجنسين ـ العلاقة بين الدولة والدين.
ولأنني أحسب أن العنوانين الأولين ليسا محل خلاف كبير في مصر، فإنني سأكتفي بإيراد ما ورد في موضوع العلاقة بين الدولة والدين، وهو أكثر ما يثير الجدل عندنا. إذ نصت الوثيقة على ما يلي:
لقد أبرز تحليل الرؤى والمواقف والتجربة السياسية التونسية المعاصرة حول العلاقة بين الدين والدولة وجود ثلاثة تحديات تواجه الشعب التونسي في تطلعه إلى انجاز تغير ديموقراطي حقيقي وتأسيس علاقة سليمة بين الدين والدولة وتتمثل هذه التحديات في:
1ــ استبداد السلطة الذي من مظاهره اخضاع الدين الإسلامي للإرادة السياسية للنظام القائم وتوظيفه وفي هذا السياق يندرج سعيه الدائم إلى فرض قراءة للدين على المجتمع، بما يخدم مصالحه واحتكار الفضاءات الدينية بالتحكم في تعيين الأئمة، وفقا لولائهم، وتحديد مضامين خطبهم وانتهاك الحريات الشخصية للمواطنين والمواطنات بمختلف قناعاتهم الدينية والفكرية والسياسية.
2 ــ الاستبداد باسم الدين الناجم عن قراءة أحادية مغالبة للإسلام، والذي يؤدي إلى التدخل بالقوة في حياة المواطنين الخاصة، وإلى النيل من حقوقهم وحرياتهم الأساسية ومن المبادئ الديموقراطية.
3 ــ الاستبداد باسم الحداثة الذي يعمل على إلغاء الدين من الحياة العامة بوسائل قهرية من داخل أجهزة الدولة وخارجها ويدفع نحو التصادم بين الدولة والدين وهو تصور لا يؤدى إلى إدامة الاستبداد القائم ودعم انتهاك الحريات وحقوق الإنسان وتعطيل المشروع الديمقراطي.
إزاء هذه التحديات تلتزم هيئة 18 أكتوبر بالدفاع عن رؤية للعلاقة بين الدولة والدين والهوية تنهل من التفاعل الخلاق بين مقومات حضارتنا العربية والإسلامية ومكتسبات الإنسانية الحديثة وخاصة حقوق الإنسان والحريات الجماعية والفردية باعتبارها شرطا أساسيا من شروط التقدم والتنمية والكرامة.
(4)
في هوية الدولة سجلت الوثيقة النقاط التالية:
1ــ إن الدولة الديموقراطية المنشودة لا يمكن أن تكون إلا دولة مدنية قائمة على مبادئ الجمهورية وحقوق الإنسان وتستمد مشروعيتها من إرادة الشعب الذي يتولى في إطار هذه المبادئ انتخاب مؤسسات الحكم بشكل دوري ومحاسبتها ويخضع فيها الحاكم والمحكوم للقوانين والقواعد التي تسنها المؤسسات الدستورية المنتخبة مع ضمان حق كل طرف في استلهام مقترحاته وبرامجه في كل المجالات من مرجعيته الفكرية الخاصة.
2 ــ إن الممارسة السياسية هي اجتهاد بشري، مهما كانت قناعات أصحابها ومعتقداتهم، مما ينفي عنها أي شكل من أشكال القداسة ويجعل المجال السياسي فضاء حرا للحوار والتنافس بين الرؤى وبرامج المكونات السياسية والمدنية على اختلاف مرجعياتها.
3 ــ إن الدولة الديموقراطية المنشودة تقوم على مبادئ المواطنة والحرية والمساواة. وبناء على ذلك فهي تسهر على ضمان حرية المعتقد والتفكير ومقاومة كل أشكال التمييز بين المواطنين على أساس العقيدة أو الرأي أو الجنس أو الانتماء الاجتماعي أو السياسي أو الجهوي كما تضمن للمواطنين جميع الحريات والحقوق الأساسية التي تشكل أساس النظام الديمقراطي.
4 ــ إن الدولة الديموقراطية المنشودة تلتزم نصـا وممارسة بضمان الحرمة الجسدية للإنسان ومنع التعذيب وكل أنواع الانتهاكات البدنية والمعنوية المهينة للكرامة البشرية. وتتعهد هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات بكل مكوناتها بأن تكون برامجها متطابقة مع تلك المبادئ الأساسية كما تلتزم بتطبيق اتفاقية الأمم المتحدة لسنة 1984 الخاصة بمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهنية وهي تتعهد بوضع الآليات الضرورية لاجتثاث ممارسة التعذيب في بلادنا.
5 ــ إن من واجب الدولة الديموقراطية المنشودة إيلاء الإسلام منزلة خاصة باعتباره دين غالبية الشعب دون أي احتكار أو توظيف، مع ضمان حق كل المعتقدات والقناعات وحماية الحرية تجاه الشعائر الدينية.
6 ــ إن هوية الشعب التونسي تشكلت عبر صيرورة تاريخية طويلة وهى تثرى وتتطور بالتفاعل الخلاق بين مقوماتها الحضارية العربية الإسلامية ومكتسبات الحداثة وبناء على ذلك فإن الدولة الديمقراطية المنشودة تلتزم:
أ ــ الدفاع عن اللغة العربية لغة وطنية في الإدارة والتعليم والثقافة وتجذيرها في المجتمع مع ضرورة التفتح على اللغات والثقافات الأخرى.
ب ــ تجذير الشعب التونسي بحضارته العربية الإسلامية بكل ما فيها من رصيد ايجابي مع تطويرها لتستوعب مكتسباته الإنسانية الحديثة وتسهم في إثراء الحضارة الإنسانية في إطار من التفاعل البناء مع مواجه مشاريع الاستلاب والهيمنة التي تسعى إلى القضاء على تنوع الثقافات وفرض نمط ثقافي وقيمي أحادي.
جـ ــ ضمان تدريس مواد التربية الإسلامية خارج أي توظيف سياسي في إطار منظومة تربوية تكفل حق التعليم ونشر قيم التفكير العلمي والنقد والاجتهاد بما يساهم في نحت شخصية تونسية متجذرة في هويتها الوطنية ومتفتحة على القيم العصرية.
7ــ إن الدولة الديموقراطية المنشودة تدافع عن القضايا العادلة للشعوب العربية والإسلامية بحكم طموحها إلى الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية وتعمل على توحيد جهودها في مواجهة الاستبداد الداخلي وكل أشكال الاستعمار والهيمنة الأجنبية من أجل تقرير مصيرها وبناء مستقبلها المشترك.
لقد كانت هذه الخلفية التي التقت عليها القوى السياسية المختلفة في تونس، وراء التوافق الناجح الذي تجلى بعد الثورة، الأمر الذي مكنها من ان تنتقل إلى النظام الجديد بدون ألم، وبعد الفشل الذي منيت به الجهود المختلفة في مصر خلال العام المنقضي، من حقنا أن نسأل: هل صحيح أن القوى السياسية في بلادنا محصنة ضد التوافق؟

بيان الأزهـــــــر والمثقفـين عن منظومة الحريات الأساسية

بيان الأزهـــــــر والمثقفـين عن منظومة الحريات الأساسية
يتطلع المصريون، والأمة العربية والإسلامية، بعد ثورات التحرير التي أطلقت الحريات، وأَذكَت رُوح النّهضة الشاملة لدى مختلف الفئات، إلى علماء الأمّة ومفكِّريها المثقفين، كَي يحددوا العلاقة بين المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية السمحاء ومنظومة الحريّات الأساسية التي أجمعت عليها المواثيق الدّولية، وأسفرت عنها التجربة الحضارية للشعب المصري، تأصيلًا لأسُسِها، وتأكيدًا لثوابتها، وتحديدًا لشروطها التي تحمى حركة التطور وتفتح آفاق المستقبل. وهي حرية العقيدة وحرية الرأي والتعبير، وحرية البحث العلمي، وحرية الإبداع الأدبي والفني، على أساس ثابت من رعاية مقاصد الشريعة الغراء، وإدراك روح التشريع الدستوري الحديث، ومقتضيات التقدم المعرفي الإنساني، بما يجعل من الطاقة الرّوحية للأمّة وقودا للنهضة، وحافزًا للتقدم، وسبيلًا للرُّقىّ المادي والمعنويّ، في جهد موصول يتسق فيه الخطاب الثقافي الرشيد مع الخطاب الديني المستنير، ويتآلفان معًا في نسق مستقبلي مُثمِر، تتحد فيه الأهداف والغايات التي يتوافق عليها الجميع.
ومن هنا فإن مجموعة العلماء الأزهريين والمثقّفين المصريّين الذين أصدروا وثيقة الأزهر الأولى برعاية من الأزهر الشريف، وأَتبعوها ببيانِ دَعْمِ حراك الشعوب العربية الشقيقة نحو الحرية والديموقراطية، - قد واصلوا نشاطهم وتدارسوا فيما بينهم القواسم الفكرية المشتركة في منظومة الحريات والحقوق الإنسانية، وانتهوا إلى إقرار جملةٍ من المبادئ والضّوابط الحاكمة لهذه الحريات، انطلاقًا من متطلبات اللحظة التاريخية الراهنة، وحفاظًا على جوهر التوافق المجتمعي، ومراعاة للصالح العام في مرحلة التحول الديموقراطي، حتى تنتقل الأمّة إلى بناء مؤسساتها الدّستورية بسلامٍ واعتدال وتوفيقٍ من الله تعالى.وبما لا يسمح بانتشار بعض الدعوات المغرضة، التي تتذرع بحجة الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للتدخل في الحريات العامة والخاصة الأمر الذي لا يتناسب مع التطور الحضاري والاجتماعي لمصر الحديثة، في الوقت الذي تحتاج فيه البلاد إلى وحدة الكلمة والفهم الوسطي الصحيح للدين والذي هو رسالة الأزهر الدينية ومسؤوليته نحو المجتمع والوطن.
أولاً : حـــريّة العقيدة:
تُعتَبر حريّةُ العقيدة ،وما يرتبط بها من حقِّ المواطنة الكاملة للجميع، القائم على المساوة التامة في الحقوق والواجبات حجرَ الزّاوية فى البناء المجتمعي الحديث، وهي مكفولةٌ بثوابت النصوص الدِّينية القطعيّة وصريح الأصول الدستورية والقانونية، إذ يقول المولى عز وجل ] لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [ ويقول : ] فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [ ، ويترتّب على ذلك تجريم أي مظهر للإكراه في الدين، أو الاضطهاد أو التمييز بسَبَبِه، فلكلِّ فردٍ في المجتمع أن يعتنق من الأفكار ما يشاء، دون أن يمس حقّ المجتمع في الحفاظ على العقائد السماوية، فللأديان الإلهية الثلاثة قداستها، وللأفراد حريّة إقامة شعائرها دون عدوان على مشاعر بعضهم أو مساس بحرمتها قولاً أو فعلاً ودون إخلال بالنظام العام .
ولما كان الوطن العربي مهبطَ الوَحي السماوي وحاضن الأديان الإلهية – كان أشدّ التزاما برعاية قداستها واحترام شعائرها وصيانة حقوق المؤمنين بها في حرية وكرامة وإخاء .
ويترتّب على حـــق حرية الاعتقاد التسليم بمشروعية التعدد ورعاية حق الاختلاف ووجوب مراعاة كل مواطن مشاعر الآخرين والمساواة بينهم على أساسٍ متينٍ من المواطنة والشراكة وتكافؤ الفرص في جميع الحقوق والواجبات .
كما يترتب أيضًا على احترام حرية الاعتقاد رفض نزعات الإقصاء والتكفير، ورفض التوجهات التي تدين عقائد الآخرين ومحاولات التفتيش في ضمائر المؤمنين بهذه العقائد، بناء على ما استقرَّ من نظم دستورية بل بناء على ما استقر – قبل ذلك - بين علماء المسلمين من أحكام صريحة قاطعة قرّرتها الشريعة السمحاء في الأثر النبوي الشريف : (هلا شققتَ عن قلبه) والتي قررها إمام أهل المدينة المنورة الإمام مالك والأئمة الأخرون بقوله: "إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مئة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمِلَ على الإيمان ولا يجوز حَمْلُه على الكفر" وقد أعلى أئمة الاجتهاد والتشريع من شأن العقل فى الإسلام، وتركوا لنا قاعدتهم الذهبية التي تقرر أنه: "إذا تعارض العقل والنقل قُدَّم العقل وأُوِّل النقل" تغليباً للمصلحة، المعتبرة وإعمالاً لمقاصد الشريعة .
ثانياً: حرية الرأي والتعبير:
حرية الرأي هي أم الحريات كلها، وتتجلى في التعبير عن الرأي تعبيرًا حرًّا بمختلف وسائل التعبير من كتابة وخطابة وإنتاج فني وتواصل رقمي، وهي مظهر الحريات الاجتماعية التي تتجاوز الأفراد لتشمل غيرهم مثل تكوين الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، كما تشمل حرية الصحافة والإعلام المسموع والمرئي والرقمي، وحرية الحصول على المعلومات اللازمة لإبداء الرأي، ولابد أن تكون مكفولة بالنصوص الدستورية لتسمو على القوانين العادية القابلة للتغيير. وقد استقرت المحكمة الدستورية العليا في مصر على توسيع مفهوم حرية التعبير ليشمل النّقد البنَّاء ولوكان حاد العبارة ونصت على أنه "لا يجوز أن تكون حرية التعبير في القضايا العامة مقيدة بعدم التجاوز، بل يتعين التسامح فيها" لكن من الضروري أن ننبه إلى وجوب احترام عقائد الأديان الإلهية الثلاثة وشعائرها لما في ذلك من خطورة على النسيج الوطني والأمن القومي. فليس من حق أحد أن يثير الفتن الطائفية أو النعرات المذهبية باسم حرية التعبير، وإن كان حق الاجتهاد بالرأي العلمي المقترن بالدليل، وفي الأوساط المتخصصة، والبعيد عن الإثارة مكفولاً كما سبق القول في حرية البحث العلمي .
ويعلن المجتمعون أن حرية الرأي والتعبير هي المظهر الحقيقي للديموقراطية، وينادون بتنشئة الأجيال الجديدة وتربيتها على ثقافة الحرية وحق الاختلاف واحترام الآخرين، ويهيبون بالعاملين في مجال الخطاب الديني والثقافي والسياسي في وسائل الإعلام مراعاة هذا البعد المهم في ممارساتهم، وتوخي الحكمة في تكوين رأي عام يتسم بالتسامح وسعة الأفق ويحتكم للحوار ونبذ التعصب، وينبغي لتحقيق ذلك استحضار التقاليد الحضارية للفكر الإسلامي السمح الذي كان يقـــول فيه أكابر أئمة الاجتهاد: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب" ومن ثم فلا سبيل لتحصين حرية الرأي سوى مقارعة الحجة بالحجة طبقًا لآداب الحــــوار، وما اســـتـقرت عليه الأعراف الحضارية في المجتمعات الراقيــة .
ثالثاً :حرية البحث العلمي:
يُعَدُّ البحث العلميّ الجادّ في العلوم الإنسانية والطبيعية والرياضيــة وغــيرها، قاطرة التقدم البشري، ووسيلة اكتشاف سنن الكون ومعرفة قوانينه لتسخيرها لخير الإنسانية، ولا يمكن لهذا البحث أن يتم ويؤتي ثماره النظرية والتطبيقية دون تكريس طاقة الأمّة له وحشد إمكاناتها من أجله. ولقد أفاضت النصوص القرآنية الكريمة في الحث على النظر والتفكر والاستنباط والقياس والتأمل في الظواهر الكونية والإنسانية لاكتشاف سننها وقوانينها، ومهدت الطريق لأكبر نهضة علمية في تاريخ الشرق، نزلت إلى الواقع وأسعدت الإنسان شرقاً وغرباً، وقادها علماء الإســـلام ونقلوا شعلتها لتضيء عصر النهضة الغربية كما هو معروف وثابت. وإذا كان التفكير في عمومه فريضة إسلامية في مختلف المعارف والفنون كما يقول المجتهدون فإن البحث العلمي النظري والتجريبي هو أداة هذا الفكر . وأهم شروطه أن تمتلك المؤسسات البحثية والعلماء المتخصصون حـــرية أكاديمية تامة في إجراء التجارب وفرض الفروض والاحتمالات واختبارها بالمعايير العلمية الدقيقة، ومن حق هذه المؤسسات أن تمتلك الخيال الخلَّاق والخبرة الكفيلة بالوصول إلى نتائج جديدة تضيف للمعرفة الإنسانية، لا يوجههم في ذلك إلا أخلاقيات العلم ومناهجه وثوابته، وقد كان كبار العلماء المسلمين مثل الرازي وابن الهيثم وابن النفيس وغيرهم أقطاب المعرفة العلمية وروادها في الشرق والغرب قرونًا عديدة، وآن الأوان للأمة العربية والإسلامية أن تعود إلى سباق القوة وتدخل عصر المعرفة، فقد أصبح العلم مصدر القوة العسكرية والاقتصادية وسبب التقدم والتنمية والرخاء، وأصبح البحث العلمي الحر مناط نهضة التعليم وسيادة الفكر العلمي وازدهار مراكز الانتاج إذ تخصص لها الميزانيات الضخمة، وتتشكل لها فرق العمل وتُقترح لها المشروعات الكبرى، وكل ذلك مما يتطلب ضمان أعلى سقف للبحث العلمي والإنساني. وقد أوشك الغرب أن يقبض بيديه على كل تقدم علمي وأن يحتكر مسيرة العلم لولا نهضة اليابان والصين والهند وجنــوب شرقي آسيا التي قدمت نماذج مضيئة لقدرة الشرق على كسر هذا الاحتكار، ولدخول عصر العلم والمعرفة من أوسع الأبواب، وقد آن الأوان ليدخل المصــريون والعرب والمسلمون ساحة المنافسة العلمية والحضارية، ولديهم ما يؤهلهم من الطاقات الروحية والمادية والبشرية وغيرها من شروط التقدم في عالم لا يحترم الضعفاء والمتخلفين .
رابعًا: حرية الإبداع الأدبي والفني :
ينقسمُ الإبداع إلى إبداع علمي يتصل بالبحث العلمي كما سبق، وإبداع أدبي وفني يتمثل في أجنــاس الأدب المختلفة من شعر غنائي ودرامي، وسرد قصصي وروائي، ومسرح وسير ذاتية وفنون بصرية تشكيلية، وفنون سينمائية وتليفزيونية وموسيقية، وأشكال أخرى مستحدثة في كل هذه الفروع.
والآداب والفنون في جملتها تستهدف تنمية الوعي بالواقع، وتنشيط الخيال، وترقية الإحساس الجمالي وتثقيف الحواس الإنسانية وتوسيع مداركها وتعميق خبرة الإنسان بالحياة والمجتمع، كما تقوم بنقـــد المجتمع أحيانًا والاستشراف لما هو أرقى وأفضل منه، وكلها وظائف سامية تؤدي في حقيقة الأمر إلى إثراء اللغة والثقافة وتنشيط الخيال وتنمية الفكر، مع مراعاة القيم الدينية العليا والفضائل الأخلاقية .
ولقد تميزت اللغة العربية بثرائها الأدبي وبلاغتها المشهودة، حتى جــاء القرآن الكريم في الذروة من البلاغة والإعجاز، فزاد من جمالها وأبرز عبقريتها، وتغذَّت منه فنون الشعر والنثر والحكمة، وانطلقت مواهب الشعراء والكتّاب - من جميع الأجناس التي دانت بالإسلام ونطقت بالعربية - تبدع في جميع الفنون بحرية على مر العصور دون حرج، بل إن كثيرًا من العلماء القائمين على الثقافة العربية والإسلامية من شيوخ وأئمة كانوا هم من رواة الشعر والقصص بجميع أشكاله، على أن القاعدة الأساسية التي تحكم حدود حرية الإبداع هي قابلية المجتمع من ناحية، وقدرته على استيعاب عناصر التر اث والتجديد في الإبداع الأدبي والفني من ناحية أخرى، وعدم التعرض لها ما لم تمس المشاعر الدينية أو القيم الأخلاقية المستقرة، ويظل الإبداع الأدبي والفني من أهم مظاهر ازدهار منظومة الحريات الأساسية وأشدها فعالية في تحريك وعي المجتمع وإثراء وجدانه، وكلما ترسخت الحرية الرشيدة كان ذلك دليلًا على تحضره، فالآداب والفنون مرآة لضمائر المجتمعات وتعبير صادق عن ثوابتهم ومتغيراتهم، وتعرض صورة ناضرة لطموحاتهم في مستقبل أفضل، والله الموفق لما فيه الخير والسداد .
تحريراً في مشيخة الأزهر :
14 من صفـــر ســنة 1433ﻫ المــــــوافـق : 8 مــن يناير سـنـة 2012 م
شـيخ الأزهــر أحمــــــد الطـيب

حمى التاريخ: صراع الذاكرات أساس الأزمة الطائفية

سعود المولى
الذاكرة التاريخية هي اليوم أعظم مفرِّق بين السنة والشيعة.. ويكفي أن نأخذ حقبة واحدة من التاريخ الإسلامي لكي نكتشف ما تفعله الذاكرة التاريخية الخاصة بكل جماعة من استنفار للأحقاد وتوتير للمشاعر... وعلى سبيل المثال فإن صورة الحروب الصليبية تختلف في الثقافة السنية عنها في الثقافة الشيعية، فينتج عن ذلك ذاكرتان متضادتان متعاديتان.. هذا ما توصل اليه الباحث الموريتاني محمد بن المختار الشنقيطي في رسالته للدكتوراه (ناقشها في 29 أيلول- سبتمبر 2011)، وعنوانها: "أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية-الشيعية"...
والشنقيطي كاتب وشاعر ومحلل سياسي من مواليد موريتانيا 1968، ويعيش اليوم في الدوحة حيث يعمل في مؤسسة قطر للتربية والعلوم، ويكتب في الجزيرة- نت.. درس الشريعة الاسلامية (بكالوريوس 1989) والترجمة (بكالوريوس 1994) وادارة الاعمال (ماجستير 2007 من جامعة كولومبيا الجنوبية-أميركا)..وأكمل برنامج الماجستير والدكتوراه في تاريخ الأديان بجامعة تكساس حيث ناقش مؤخراً رسالته...
الأطروحة التي قدمها الشنقيطي تحاول فهم منحى تطور العلاقات السنية الشيعية باتجاه الصراع العنيف والتكفيري بين الطرفين، ودور ما خلفته ذاكرة الحروب الصليبية لدى الطرفين من جراح وآلام تحولت إلى سكين يمزّق النسيج الواحد...
وفرضية الرسالة هي أن الحروب الصليبية أسهمت في انحسار التشيع في مصر والشام خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر ميلاديين، وربما في انتقال ثقل التشيع إلى بلاد فارس فيما بعد؛ وأن الحروب الصليبية فرّقت السنة والشيعة على المدى القريب في بداياتها لكنها جمعتهم في صف واحد على المدى البعيد، مع إبرازه للفروق بين علاقة السنة بالإمامية الإثني عشرية وعلاقتهم بالإسماعيلية...وقد طرح الباحث على نفسه مهمة تفكيك الذاكرة التاريخية المتفجرة حول الموضوع.. إذ هو يعتبر أن الذاكرة التاريخية الجمعية هي أصل الداء اليوم...
ولتأكيد مقولته هذه ينتقل الشنقيطي من الماضي الى الحاضر، من التاريخ الى الذاكرة، فيستخدم صورة صلاح الدين كما هي في الذهنية السنية والشيعية اليوم، مثالاً على الذاكرة التاريخية المتفجرة... حيث أن أهل السنة يرون صلاح الدين بطلاً مجاهداً ومسلماً مثالياً، في حين يراه الشيعة مغامراً لا مبدأ له ويتهمونه بالتواطؤ مع الصليبيين... ويعتمد الشنقيطي هنا على كتابات حجاجية معاصرة، سنية وشيعية، لتبيان هذا الانشطار في الذاكرة التاريخية، منها كتابات شاكر مصطفى ومحمد علي الصلابي من الجانب السني، وصالح الورداني وحسن الأمين من الجانب الشيعي..
دور الأتراك في الوحدة ومقاومة الفرنجة
ومن جهة أخرى فقد حاول الباحث في أطروحته أن يبين أن الأتراك هم من استثاروا الحملات الصليبية على بلاد الإسلام بتوغلهم في الأناضول وتدميرهم الجيش البيزنطي في موقعة ملاذكرد عام 1071...وهم أيضاً من قاوموا الوجود الصليبي طيلة قرنين من الزمن تقريباً (1095-1291) حتى هزموه نهائياً...فكل القادة البارزين في مقاومة الفرنجة من أراتقة وزنكيين ومماليك كانوا أتراكاً... وحتى صلاح الدين الأيوبي فإن الباحث يراه جزءاً من النخبة العسكرية التركية رغم خلفيته الكردية.. ولأن الأتراك سنة فقد كان انحسار التشيع أثراً جانبياً لا مفر منه للمقاومة الاسلامية للحملات الصليبية.. وقد اعتبر الباحث كل ذلك جزءاً من مسار ما أسماه "القافلة التركية" المتجهة غرباً طيلة الألف عام المنصرمة، من مواطن الأتراك الأصلية في غرب الصين إلى فارس فالعراق فمصر فالأناضول...إلى محاولة تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي اليوم.. موضحاً أن ذلك جزء من "اللحظة التركية" في تاريخ الإسلام التي امتدت 8 قرون ونصف القرن، من تتويج أول سلطان سلجوقي ببغداد عام 1055 إلى عزل آخر سلطان عثماني عام 1909. ولعله كتب بحثه وأنهاه قبل اتضاح معالم صورة العودة التركية إلى قيادة العالم العربي والاسلامي منذ رحلة أسطول الحرية صوب شواطئ فلسطين ووصولاً إلى الموقف التركي المتميّز من الربيع العربي...
الشيعة والسنة وقضية المقاومة:
ويُقدّم الشنقيطي في أطروحته صورة عن التقسيم الطائفي في القرنين العاشر والحادي عشر في مصر والشام والعراق بناء على استقراء واسع لما كتبه المؤرخون والرحالة والجغرافيون المسلمون أمثال ياقوت الحموي وابن جبير والمقدسي وناصر خسرو، وذلك لكي يوضح بأن العراق كان يتقاسمه السنة والشيعة مع صعود سياسي للسنة منذ سقوط الدولة البويهية الشيعية وبزوغ الدولة السلجوقية؛ وأن مصر كانت تحكمها آنذاك نخبة شيعية في حين أن الشعب ظل سنياً في العمق طوال الحقبة الفاطمية، وأن الشام كانت فيه أغلبية شيعية يقودها حكام سنة منذ سقوط الدول الشيعية المتعاقبة على حكم حلب (الدولة الحمدانية والعقيلية والمرداسية)...ولم يكن للشيعة دول في الشام وقت الحملة الصليبية الأولى باستثناء دولة بني عمار بطرابلس... وهنا تحدث الباحث عن الإنشطارات داخل السنة والشيعة في تلك الأيام، خصوصاً الصراع بين الحنابلة والأشاعرة من الجانب السني والصراع بين الإمامية الإثني عشرية والإسماعيلية من الجانب الشيعي...
ويبيّن الباحث بأن الشيعة الإمامية والسنة قاتلوا الصليبيين صفاً واحداً، على عكس ما يشاع اليوم في الخطاب الطائفي، مقدماً نموذج طرابلس بقيادة فخر الملك بن عمار الأمير الإمامي الذي قاوم حصار الصليبيين لطرابلس مدة 7 سنين بدعم من القادة في دمشق وحمص... ناهيك عن نموذج حلب حيث قاد القاضي الشيعي الإمامي أبو الفضل ابن الخشاب جيشاً سنياً تركياً من ماردين إلى معركة سرمدا (أي حقل الدم)الحاسمة ضد القوات الصليبية، وقتال سنة دمشق وحمص مع شيعة عسقلان أكثر من مرة ضد الفرنج، ثم علاقة صلاح الدين القوية بإماميي جحلب ودمشق، وهذا ما جعل مؤرخاً إمامياً هو ابن أبي طي يكتب أول سيرة لصلاح الدين في حياته... وأخيراً أشعار الوزير الفاطمي ذي العقيدة الإمامية طلائع ابن زريك... ويفسّر الشنقيطي هذا التعاضد بين أهل السنة والشيعة الإمامية في وجه الفرنج بعوامل ثلاثة: التقارب المذهبي، والقرب الجغرافي، وعدم تشكيل الإمامية تحدياً سياسياً للقيادة السنية حينها، على عكس الشيعة الإسماعيلية...
ويوضح الباحث بأن الشيعة الإسماعيلية بشقهم الفاطمي الحاكم في مصر آنذاك لم يتحمسوا قط للتعاون مع أهل السنة ضد الفرنج، لكنهم اضطروا في النهاية لتسليم مصر للقيادة السنية بعد أن أصبحت على شفا السقوط في أيدي الفرنج، وأن الشيعة الإسماعيلية النزارية بالشام (المعروفة باسم الحشيشية أو الحشاشين) لعبت دوراً معيقاً للمقاومة السنية من خلال اغتيالهم لقيادات سنية وإمامية بارزة مثل آق سنقر والقاضي ابن الخشاب، ومودود، وزنكي...الخ... لكنهم دخلوا في تفاهم ضمني مع السنة أيام صلاح الدين وبدأوا يستهدفون قيادات فرنجية حيث اغتالوا منهم أربعة كما يوضحه الكشف الذي يقدمه الباحث بأهم الاغتيالات السياسية التي نفذها الحشاشون... ويكشف الشنقيطي في هذا الفصل عن مفارقات تاريخية مهمة ومنها أن الفقيه والشاعر السني عمارة اليمني هو الذي قاد محاولة للانقلاب على صلاح الدين وإحياء الدولة الفاطمية فشنقه صلاح الدين جزاء ذلك... وعمارة هو القائل في مدح الفاطميين:
وزرت ملوك النيل أرتاد نيلهم فأحمد مرتادي وأخصب مرتعي
مذاهبهم في الجود مذهب سنة وإن خالفوني باعتقاد النتشيع

خاتمة:
برأي الشنقيطي فإن جذور الأزمة الطائفية اليوم تكمن في "حنبلة" (نسبة إلى التيار الحنبلي) الثقافة السنية المعاصرة من خلال طغيان الخطاب السلفي عليها، و"سمعلة" (نسبة إلى الإسماعيلية) الثقافة الشيعية المعاصرة عبر الحركية السياسية المتفجرة التي جاءت بها الثورة الإيرانية، وطغيان النظرات التبسيطية المطلقة على الرؤى النسبية التركيبية في قراءة التاريخ...

الثلاثاء، 10 يناير 2012

حوار مع برهان غليون

الجمعة 6/1/2012
أجرت الحوار إذاعة الشرق في باريس

* بعد 10 أشهر على انطلاقة الثورة السورية بوجه النظام، ماذا عن معنويات الداخل ومعنويات المجلس الوطني السوري وماذا عن الوسائل والعناصر التي تملكونها؟
*** نحن معنوياتنا عالية ومرتبطة بمعنويات الثوار في الداخل وهي ثورة حقيقية، ثورة الحرية والكرامة والديموقراطية ومعنوياتنا في الداخل نأخذها من حجم التأييد الشعبي الذي نمثل ومن التظاهرات التي خرجت الجمعة الماضية وتجاوز فيها عدد المتظاهرين الأربعة ملايين سوري وبعض الأرقام تتحدث في الداخل عن ستة ملايين متظاهر. هذه التظاهرات تعبر أن الشعب السوري وبعد 10 أشهر ما زال مصمماً وبتصميم لا حدود له على إسقاط النظام وبأي ثمن كان. ونحن لا يمكن أن تكون معنوياتنا مرتبطة إلا بمعنويات الشعب ونحن مؤمنون بالسقوط الحتمي لهذا النظام وبأن هذا السقوط قريب إن شاء الله. في المقابل يعيش النظام حالة من فقدان السيطرة وتعاني أجهزته الأمنية من الإرهاق وحتى عدم القدرة على تنظيم التظاهرات المؤيدة له. وهي بالمناسبة تظاهرات محدودة وبالإكراه وجاءتني أخبار من الداخل لتؤكد لي أن هذه التظاهرات التي ينظمها النظام كلها بالإكراه ولا أحد خرج ليدعم رئيساً من القتلة وهو فعلاً قاتل محترف. أصبح النظام السوري متهالكاً وانتهى. وهو انتهى بالفعل وأؤكد على ذلك. لذلك هو يعتمد على أجهزة القتل حتى ان المراقبين ومع وجودهم وحتى أنهم لم يستطيعوا أداء واجبهم كما يجب فهم يشعرون أن النظام متهالك ولم يعد لديه القدرة على السيطرة وأخذ يتخبّط اكثر من قبل. أعتقد أن النظام فقد معنوياته وفقد السيطرة على الأرض في مناطق كثيرة. كما وأنه فقد سيطرته على نفسه ولم يعد له هامش المناورة السياسية الكبيرة ولا على المستوى الاقتصادي فقد ضعف كثيراً بسبب العقوبات، كما ضعف على المستوى الاجتماعي وكل القطاعات الاجتماعية وعلى رأسها رجال الأعمال الذين كانوا يراهنون على بقائه من اجل الاستقرار، أصبح هؤلاء يعتقدون اليوم أنه مصدر للفوضى وعدم الاستقرار والخراب وربما النزاعات والحروب الداخلية بالبلاد. لذلك هو مدرك تماماً أنه ليس له أي أمل بالبقاء وآمل أن يبدأ أن يفاوض على خروجه بأسرع وقت.
* ليست مفهومة تماماً الحملة على وفد الجامعة العربية بتلك الحدة الى درجة مطالبتها بالمغادرة وهذه البعثة سمحت بتظاهرات في المدن الكبرى وكسرت حلقة توازن مهمة مع قوى النظام الأمنية، وصرنا نسمع بتظاهرات نسائية في حلب تفرج عن معتقلات وإضراب في السجون عن الطعام؟
***نحن نؤكد أن حركات رفض النظام في حلب ودمشق لا تقل عن المدن الأخرى. التي شهدنا مظاهرات مليونية فيها. ولكن هذه المدن الكبرى فيها حجم من القهر والاحتلال الأمني للشوارع والساحات والأحياء وربما المساجد أيضاً بشكل كثيف لدرجة ردعت الكثيرين من الخروج. ولكن مع وجود بعض المراقبين ولو أن أداءهم لم يكن على المستوى بدأت الأمور تتحرك بشكل كبير ونحن مقبلون على فترة تخرج فيها دمشق كاملة وهي خرجت طبعاً في مراحل سابقة، دمشق إحدى بؤر الثورة السورية والشرارة الأولى للثورة قبل أن تبدأ في درعا بدأت فيها، عبر تظاهرة صغيرة في سوق الحميدية قام بها التجار. نحن ليس لدينا شكوك حول موقف الجمهور في دمشق وحلب من الثورة. وأنا أعتقد أن الأمور ستتطور بسرعة في الأسابيع المقبلة ونحن ننتظر تقرير البعثة العربية ليدق المسمار الأخير في نعش هذا النظام ويؤكد الحقائق التي أراد أن يخفيها النظام عن طريق إعلام خاطئ وعلى طول الخط.
* وماذا تتوقعون من التقرير الأولي الذي سيرفع الى اللجنة الوزارية العربية الأحد المقبل؟
*** أنا أتوقع أن يكون التقرير الأولي موضوعياً ويكشف أن النظام يقوم بقتل مواطنيه بشكل متعمّد ويقوم بإهانتهم والتنكيل بالنساء والأطفال. هذا ما ننتظره. كما ننتظر أن يعلن التقرير أن النظام لم يلتزم بوعوده لجهة سحب الجيش الى الثكنات وغير صحيح أن الدبابات انسحبت من المدن فهي تقف على أطراف المدن. في وقت المطلوب هو سحب الجيش الى ثكناته وسحب القوى الأمنية والشبيحة من المدن والأحياء ووقف إطلاق الرصاص على السكان. ثم لم يحصل إطلاق المعتقلين إلا بشكل جزئي وإعلاني وإعلامي وهناك عشرات الآلاف موجودون في السجون. وهناك مخاطر من نقلهم الى ثكنات عسكرية أو ربما القيام بعمليات إجرامية جداً وهذه مهمة جداً. الغريب أن النظام يستخدم في مسألة إطلاق المعتقلين نفس تعبيرات إسرائيل لدى إطلاقها معتقلين فلسطينيين من السجون "إطلاق الأسرى غير الملطخة أيديهم بالدماء". وهو يتصرف تجاه مواطنيه كما تتصرف إسرائيل بالقتل والتنكيل، لا بل أسوأ من تصرفات العدو الإسرائيلي.
* ولكن سمعنا الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي وتصريحاته جاءت مطمئنة وبلغة تختصر المبادرة العربية كما لو أنها تحولت الى موضوع لجنة مراقبين فقط؟
*** أعتقد أن الأمين العام للجامعة العربية أخطأ كثيراً بتصريحات لا علاقة لها إطلاقاً بالارض وقد سمعت أنا شخصياً من رئيس لجنة المراقبين أن المعتقلين لم يفرج عنهم وبأن القوات الأمنية لم تنسحب وبأن الصحافة والإعلام، الصحافة الحرة والعالمية لم تنتشر في سوريا ولا تتحرك ولا تأخذ حق الإذن بالدخول.
* عن أي إعلام يتحدث النظام السوري حين لا يسمح بدخول محطات مهمة مثل "العربية" و"الجزيرة" و"فرانس24"؟
*** أنا أستغرب تصريحات الأمين العام، ولا أدري ما الذي يريده فعلاً، هل يطمئن النظام، أم يطمئن بعض الدول العربية التي لا تزال تقف بوجه طموحات الشعب السوري أو تشكك بهذه الطموحات وينبغي حقيقة اللقاء وضروري اللقاء به من أجل توضيح هذه الآراء، وعلى الأمين العام التراجع عما قاله وأن يلتزم بالتقارير التي تقدمها بعثة المراقبين. فالنظام يريد أن يجهض المبادرة وأن يفقد الجامعة العربية مصداقيتها وعلى الجامعة العربية أن ترد بقوة وأن تؤكد التزامها بوعودها تجاه الشعب السوري، وهي التي وعدت الشعب السوري بمبادرة كاملة تقدم حلولاً للمعاناة التي يعيشها منذ عشرة أشهر. نحن ننتظر من الجامعة العربية موقفاً آخر. وقد سكتنا الآن نسبياً حتى نعطي المراقبين الفرصة لتقديم تقريرهم. وقد فوجئنا بتصريحات الأمين العام المناقضة كلياً للواقع.
* وماذا بشأن زيادة عدد المراقبين وهذه ليست مسألة شكلية؟
*** نحن على اتصال دائم مع الجامعة ووجهنا عدة احتجاجات بأن العدد لا زال غير كاف لإنجاز عمليات التفتيش والبقاء والخبرات قليلة واتصلنا بوزراء في مجلس الجامعة وقيل لي أن الميزانية قليلة جداً وأقروا بذلك ورفعوا الميزانية 4 مرات، ولا شك هناك مشكلة في أداء لجنة المراقبين. ربما هناك إرادة للمساومة والمسايرة وهي ستكون مدانة بالتأكيد. وكان على الجامعة العربية أن تستفيد من قدرات وخبرات دولية لها باعٌ طويل بهذا الموضوع ولها خبرة كبيرة في الأداء. ولكن أنا أخشى وأخاف حقيقة من أن يكون هناك موقف سياسي وراء ذلك. موقف لا يعطي أهمية كافية للتقرير الذي سيصدر عن اللجنة. ونحن نريد تقريراً موضوعياً يقر بالحقائق كما هي على الارض ويكشف كذب النظام فالمسألة لا تتعلق بمؤامرة ولا مسلحين ولا منشقين المسألة تتعلق بكفاح شعب داخلي ينزل يومياً بعشرات الآلاف من رجال ونساء ومن كل المذاهب والطوائف والاديان والاعراق ويقول هذا الشعب للأسد: "تنح نهائياً". وعلى بشار الاسد القاتل المحترف ان يخرج نهائياً ويتنحى عن السلطة.
* البعض يقول ان الموقف المصري، والذي يعبر عنه الامين العام للجامعة العربية، وهو موقف المجلس العسكري، وبعض الاطراف العربية يبدو متحمساً لمشروع حل وسط اكثر مرونة من الحل اليمني يسمح ببقاء الاسد ما هو موقفكم؟
*** تقد ان اي دولة عربية تعتقد ان ابقاء الرئيس الاسد لعدة اشهر او عدة اسابيع ولا اقول عدة سنوات، تكون هذه الدولة حقيقة مخطئة بحق الشعب السوري، حتى لا اقول مجرمة بحق الشعب السوري. فنحن نتحدث عن مذبحة يومية. ومعنى ذلك ان هذا البلد العربي الذي يريد ان يخفف عن الاسد جريمته ويتواطأ مع نظامه يكون متواطئاً مع الجريمة شريكاً فيها وهي ترتكب يومياً ليلاً ونهاراً في سوريا منذ عشرة اشهر. هذا كاف برأيي لادانة اي طرف عربي او غير عربي لا يزال يعتقد او لا يزال يراهن على ابقاء الاسد لفترة مقبلة او يراهن على التفاهم مع الاسد او ان من الممكن ايجاد حل للازمة مع الابقاء على الاسد. لا يمكن اليوم الخروج من الازمة التي يعيشها الشعب السوري ومن المخاطر الكبرى التي يمكن ان تعرض لها سوريا اذا ما استمر الوضع فترة اطول ولا يمكن الوصول الى حل الا مع القطع النهائي مع هذا النظام. وينبغي على الدول ان تعترف ان نظام الاسد لم يعد موجوداً الا عبر استخدام العنف والقتل تجاه الشعب والسكان. ولكن الشعب لفظه نهائياً والاعتراف بحق الشعب السوري بالحرية والكرامة حق على الجميع مثله مثل اي شعب سواه يكافح من اجل حريته وكرامته.
* ماذا عن تعدد المعارضة والخلاف على مسألة التدخل والتدخل لم يحدث للآن، واذا حدث فرضياً من حق البعض ان يكون له تعبيرات معارضة مختلفة؟
*** لا احد يتحدث عن مشكلة التدخل او لا تدخل. التدخل العسكري هو وسيلة للعمل. الهدف المهم هو اسقاط النظام واسقاط رأس النظام وكما تقول بعض الشعارات: اعدامه. الهدف الاول اذاً هو اسقاط النظام والمكسب الحقيقي الذي توصلنا اليه الشهر الماضي وبعد مناقشات ان الجميع يعترف بأن لا "ذرة امل" في الرهان على الحوار مع الاسد. فالجميع متفق على اسقاط النظام وعدم الحوار معه واسقاط رئيسه. والجميع متفق على وقف القتل اليومي والاجرامي للمدنيين. وهذا الامر هو المطلب الوطني الاول ولا يمكن وقف القتل الا عبر حماية المدنيين وايجاد عمليات وآليات عملية لحماية هؤلاء. ونحن قبلنا بالمبادرة العربية في هذا الاطار باعتبارها بداية وضع آلية لحماية المدنيين ولوقف القتل اليومي وسحب القوى الامنية من المدن والشوارع واطلاق لمعتقلين كهدف ثان رئيس ايضاً ومسألة المعتقلين مهمة جداً وقضية سياسية كبرى.
هذان الهدفان صارا محل اجماع للشعب السوري ولكافة اطياف المعارضة ولا خلاف حول الموضوع.
* وماذا عن التعبيرات المتمايزة عند لجان التنسيق؟
*** لجنة التنسيق كانت ترفض الحديث عن اسقاط النظام وكانت ترفض الحديث عن اسقاط بشار الاسد بشكل خاص تغير موقفها نسبياً الآن. لكن الخلاف ليس حول هذا. ما حصل ان المكتب التنفيذي في المجلس الوطني والذي راجع الوثيقة مع لجنة التنسيق وهي وثيقة لم يكن مطلوباً ان تخرج الى الاعلان وانها هي ورقة للنقاش امام المؤتمر الوطني العام المزمع انعقاده في اطار الجامعة العربية. وعندما خرجت هذه الورقة من سياقها قرر المجلس التنفيذي للمجلس الوطني عدم المصادقة عليها هو سيطرح ورقة جديدة من اجل اعادة التفاوض مع جميع الاطراف الاخرى. وليس هناك سبب ليكون طرف مقدماً على طرف آخر. حصلت اخطاء ينبغي تداركها وما زال هدفنا في المجلس الوطني جمع كل اطياف المعارضة حول الثورة الشعبية السورية الديموقراطية.
* من هو الداعم السياسي لكم اليوم؟
*** انا باعتقادي هناك دعم اساسي مهم وجزء كبير مهم من البلدان العربية اذا لم يكن جميع البلدان العربية. قسم كبير منها يدعم الشعب السوري بمطالبته بتنحي الرئيس عن السلطة وهؤلاء قدموا طلباً للجامعة لحماية المدنيين. لدينا تعاطف لدى الرأي العام العربي والعالمي ودعم سياسي مباشر من الاتحاد الاوروبي ومن الولايات المتحدة الاميركية وتركيا ودول اخرى وآسيا وافريقيا. لسنا اسرى الدول الكبرى. والاهم ان بطولات الشعب السوري وتصميمه على الاستمرار بثورته وجهت انظار العالم كلها اليه وصارت تنظر اليه كشعب بطل، في ملحمة قائقة الوصف. وحجم التعاطف الذي نلقاه من كل الناس في الدول التي نزورها نعتز به وهو يقول لنا ما يقوم به الشعب السوري هو ملحمة وهي ملحمة الحرية فعلاًُ. لا مشكلة في الدعم السياسي. هناك بعض العقبات من مثل العقبة الروسية والروس يصرون على استخدام الفيتو في مجلس الامن حتى هذه العقبة يمكن ان تذلل اذا قمنا باطار المجموعة العربية والاوروبية مع اميركا وتركيا واميركا اللاتينية. يمكن ان نذلل هذه العقبة في مبادرة يدعمها ميثاق الامم المتحدة لحقوق الانسان وحماية المدنين ولوقف القتل المنهجي لابناء شعبنا السوري.
* اذا لم تتحرك تركيا فمن الواضح انه لن يحصل شيء، كيف تعملون على مسألة التدخل التركي؟
*** نحن لا نتحدث عن التدخل. نحن نتحدث عن حماية المدنيين وربما نحتاج الى استخدام القوة، حتى الاتراك حين يتحدثون عن التدخل بالقوة فذلك لفرض احترام حقوق الانسان وحماية المدنيين. والاتراك مثلهم مثل بقية البلدان يقولون انهم لن يتدخلوا الا في اطار تنفيذ قرار للامم المتحدة، ونحن نعمل معهم لتذليل العقبات داخل اطار الامم المتحدة والوصول لى تفاهم لحماية المدنيين بوسائل تدخل مختلفة تناقش بين الدول والاطراف ويكون للعرب مكاناً فيها.
* بالاستراتيجية المطروحة راهنا، اما الاصلاح او وضع سكاتيكو، او حرب أهلية، ما هو مشروع المجلس الوطني السوري وعلى ماذا تعملون وما هي الوسائل التي تملكون كمعارضة سورية؟
*** لا هذا، ولا ذاك ولا تلك، نحن سنكمل مسيرة الثورة الشعيية والرهان أولا في الاستراتيجية على استمرار الثورة ودعمها المادي والمنوي. هذا عنصر اول في الاستمرار ويبقى ان يستمر وتتوسع. والعنصر الثاني هو استمرار عمل الجيش السوري الحر وان يقوي ويدعم ويقدم يد المساعدة للشعب ويحمي المتظاهرين وهذا عنصر أساس في أي استراتيجية.
والعنصران يسيران معاً والثورة السورية الشعبية تتوسع والجيش الحر يقوم بعمله وبقي ان يتعزز ليقدم يد المساعدة للمسيرات الشعبية.
* من الأهمية بمكان علاقة الفعل السياسي للمعارضة مع الجيش الحر، كيف يتصرف الجيش الحر بالعلاقة معكم وهو يقوم العمليات عسكرية جريئة جداً ومدعومة من الشعب؟
*** هو ينسق خطواته معنا عبر لجنة تنسيق وذلك بشكل دائم وعبر اتصالات يومية والجيش الحر يعترف بالقيادة السياسية للمجلس الوطني ونحن ندعمه ولا يوجد تناقض مطلقا بين ما يعمله على الارض لحماية المدنيين والتظاهرات الشعبية وبين عملنا كقيادة سياسية. ونحن على اتصال مباشر ويداً بيد مع الجيش الحر لانتصار الثورة الشعبية السورية.
* من لديكم في لبنان، ولبنان جزء اساسي من المحيط الجغرافي لسوريا، كيف تشتغلون على المسألة اللبنانية وماذا عن موقفكم من الأطراف وما معنى قطع العلاقة مع حزب الله في حين الدولة اللبنانية تتبنى حزب الله؟
*** نحن في المجلس الوطني السوري ليس لدينا اجندا خاصة بلبنان، نحن نترك للبنانيين ان يقرروا بأنفسهم مصيرهم كما نطلب من الجميع ان يتركوا الشعب السوري ان يقرر مصيره. وأنا أعتقد كما ذكر لي أكثر من مصدر ان الشعب اللبناني بكامل طوائفه ومذاهبه مع ثورة الشعب السوري وورافض معاناة المواطن، اما لجهة علاقتنا بالأطراف اللبنانية فلا يمكن المطابقة ككل بين الشعب اللبناني المتعاطف معنا ومع بعض الأطراف الحزبية هنا وهناك والحليفة للنظام السوري. اعود واكرر الشعب اللبناني ككل متعاطف مع شقيقه الشعب السوري وكما هو الحال في جميع البلدان العربية، التعاطف مع الشعب السوري قوي وكبير جداً وأعتقد ان سقوط النظام الأسدي سيفتح مجالا اوسع للتفاعل والتواصل والتفاهم بين الشعبين ونحن ننظر الى هذه الفرصة بفارغ الصبر ابعد وهذا هو رهاننا.
* هل على جدول أعمالكم امكانية اللقاء مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي اثناء زيارته العاصمة باريس في الفترة المقبلة؟
*** أعتقد انه هو لم يطلب ذلك، ونحن لم نتحدث عن ذلك، وهو أمر مستبعد لجهة العلاقات السياسية المعروفة مع النظام السوري ونحن نتفهم ذلك.
[ وكيف تنظرون الى تصريح رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي ودعوته بني معروف للنزوع عن الانخراط في صفوف قتلة النظام؟
*** نحن لا ننتظر من اخواننا اللبنانيين ومن اصدقائنا ومن الناس الذين كانوا بصف الصراع الوطني في لبنان ان يكون موقفهم اقل من ذلك.نحن نعتقد ان الجميع مؤيد لكفاح الشعب ولو كان بعضهم غير قادر على التعبير عن نفسه ونحن نحيي الذين يأخذون المبادرة بتاييد مطالب الشعب السوري وعلى رأسهم وليد جنبلاط وهذا ثاني تصريح له في دعم الشعب السوري من أجل العدالة والحرية.
* سؤال آخير وعلى ماذا تعملون في المرحلة المقبلة؟
*** لدينا كل الخيارات، اذا فشلت مهمة الجامعة العربية سوف نذهب الى مجلس الامن اذا كان هناك امكانية لصوغ قرار يضمن الحد الأدنى من حماية المدنيين سندعم هذا القرار بالتواصل مع بقية الدول التي تؤيدنا وتساعدنا وإذا فشل مجلس الأمن سنفكر ببديل آخر كمؤتمر دولي حول الوضع السوري لاشراك جميع البلدان التي تريد تقديم المساعدة للشعب السوري في كفاحه الراهن وكل الخيارات مفتوحة لدينا.

مكونات الثورة السورية وسياستها

ياسين الحاج صالح

الوجه الأبرز للثورة السورية هو التظاهرة: خروج مجموعات تتراوح بين عشرات الأفراد ومئات ألوفهم إلى الفضاء العام ومحاولة احتلال حيّزات منه لبعض الوقت، مع إطلاق الهتافات ورفع اللافتات المناهضة للنظام والداعية إلى سقوطه. تحيل التظاهرة إلى المكون الميداني للثورة الذي عرفه العالم، وشكّل ولا يزال منبع كرامة السوريين والبرهان على شجاعتهم وجدارتهم بالحرية. ويشمل هذا المكون كل الأفعال الاحتجاجية الإيجابية والسلبية، بما في هذه الإضراب.
للثورة السورية مكونات أخرى. أولها المكون الاجتماعي الداعم للنشاط الميداني. أعني البيئات الاجتماعية المتنوعة التي تحتضن الثورة وتؤمّن الحماية والدعم للثائرين. وهذا المكون متنوع جداً، يشمل أحياناً مناطق وأحياء بأكملها في بعض الحالات، لكنه متشكل في صورة شبكات مساندة في حالات أخرى، مع المشاركة في النشاط الميداني، وإن ليس دوماً بالتواتر المشهود في درعا وحول دمشق، وفي حمص وإدلب ودير الزور وبعض مناطق حلب. الرابط الجامع لهذا المكون الاجتماعي هو التماهي بالثورة كقضية وكفاعلية يومية من جهة، والقطيعة التامة مع النظام. هذا الشيء ربما لا يلحظه سياسيون ومثقفون معارضون للنظام، يفوتهم أن الأمر اليوم لا يتعلق بمعارضة النظام، بل بالانفصال الكلي عنه، وبالاستناد إلى الثورة كحدث مؤسس ومنتج لشرعية جديدة.
ثالث مكونات الثورة هو المكون العسكري. يتعلق الأمر هنا بألوف من الجنود والضباط الذين «انشقوا» عن الجيش النظامي، وفي حالات أقل عن أجهزة أمنية، وتجمعهم مظلة عامة هي «الجيش السوري الحر». وعلى رغم سوء تسليحهم وقلة عددهم، فقد نجح جنود الجيش الحر في فرض درجة من الردع في بعض المناطق، تحول دون مهاجمة قوى النظام التظاهرات السلمية. والواقع أن كثيراً من التظاهرات التي يراها العالم تنال هذه الفسحة من المكان ومن الوقت بفضل هذه الحماية بالذات. وهو ما يوجب تحليلاً أكثر تعقيداً من ذلك الكلام الصوري الذي يقيم تقابلاً بين التظاهرات السلمية والتسلح. في الشروط العيانية السورية اليوم، ليست العلاقة بين الأمرين علاقة تنافٍ، بل هي أقرب إلى علاقة تكامل.
ودور الحماية هذا من جهة، وملابسات انشقاق عناصر الجيش الحر من جهة ثانية، وكون هؤلاء العسكريين هم التجسيد الأقصى للقطيعة مع النظام من جهة ثالثة، تسوّغ اعتبارهم مكوّناً أصيلاً للثورة السورية. لذلك كانوا يستحقون ما هو أكثر من اعتزاز بأفرادهم في تلك الورقة التعيسة الموقّعة بين المجلس الوطني السوري وهيئة التنسيق الوطني في اليوم الأخير من العام المنقضي.
المكون الرابع للثورة السورية هو السياسي. ويشمل هذا المكون السياسي التنظيمات والكتل التي تعتنق قضية الثورة وتعمل على دعمها. كان المجلس الوطني السوري نال شرعية شعبية مهمة، لكنها ليست مضمونة له على الدوام. ويبدو أنها اليوم في تراجع بسبب عدم تمكنه من إعطاء انطباع إيجابي عن نفسه وعمله بعد مؤتمر تونس قبل أسابيع، ثم بخاصة بعد ما تسببت به الورقة المومأ إليها من مشكلات داخلية أضعفته.
لهذا المكون السياسي سمتان ظاهرتان. أولاهما أنه تهيمن عليه المعارضة التقليدية، وهذه في عمومها معارضة قبل ثورية وغير ثورية، لم تغير في نفسها شيئاً بعد الثورة، فلم يغير الله شيئاً مما بها. والسمة الثانية أنها منقسمة، وأن انقسامها متأصل في تكوينها، وأن صراعاتها تحتدّ بدرجة تتناسب طرداً مع حدة الصراع مع النظام، الأمر الذي وفر على الدوام هامش مناورة مريحاً للنظام. ولانقسام المعارضة التقليدية نسق قديم يكاد يكون ثابتاً، لا يشكل التقابل بين المجلس الوطني وهيئة التنسيق غير آخر حلقة من حلقاته.
للثورة السورية مكون ثقافي يضم فنانين وكتاباً واكبوا الثورة بوسائلهم المتنوعة. ولعل في ما أعلن أخيراً من تشكل رابطة للكتّاب السوريين ما قد يكون مأسسة لانشقاق الكتّاب عن النظام. ليس واضحاً بعد كيف ستسير الرابطة، ولا إن كانت ستشكل إطاراً ديموقراطياً فعلياً لتفاعل أو عمل أولئك الذين يتكلمون على الديموقراطية أكثر من غيرهم. يفترض أن تجرى خلال أيام هيكلة الرابطة وانتخاب من يديرونها، وسيكون هذا أول امتحان لـ «أول مولود ديموقراطي للثورة السورية»، على ما قال أحد مؤسسيها.
ومن الخصائص البارزة للثورة السورية أن مكونها الإعلامي مندمج بقوة بالمكون الميداني، وأن المتظاهرين أنفسهم هم من يقومون بتصوير أنشطتهم. وهذا ليس من دون حماية فقط، بل مع استهداف خاص لهؤلاء «الإعلاميين» غير المحترفين. من المحتمل أنه يتمايز ضمن المتظاهرين من يختصون بالتصوير والتسجيل وبث المعلومات، لكن لا يكاد يكون أحد من هؤلاء مختصاً بالإعلام في الأصل.
لكن ينبغي أن تُدرج ضمن المكون الإعلامي للثورة السورية فضائيات عربية، «الجزيرة» و «العربية» بخاصة، وفرت للثورة منابر بث واسعة الانتشار، وساهمت في إبطال مساعي النظام لعزلها وخنقها.
وللثورة مكون اقتصادي أيضاً. وهو يشمل «ناشطين اقتصاديين»، يساهمون في دعم الثورة مادياً. ويتوافر انطباع بأن مساهمة هذا القطاع مهمة ومتزايدة. وهذا شيء غير مسبوق، بالنظر إلى أن أصحاب الأعمال هم الأكثر حذراً، وهم أنفسهم من يقولون عن قطاعهم إنه الأجبن. ويقع على عاتق هذا القطاع جانب من العبء الإغاثي الكبير الذي تتحسن سبل النهوض به، وقد ساعد في صون كرامة أسر وأفراد من الأكثر تماهياً بالثورة.
فهم الثورة السورية يقتضي النظر بتفصيل في كل من هذه المكونات. لكن تحديد مكونات الثورة أمر مهم عملياً، ومن شأنه أن يساعد على وضع السياسة الملائمة لسير الثورة نحو غاياتها المرجوة. يلزم قبل كل شيء ضمان استمرارية النشاط الميداني واتساعه، فهو أساس الثورة ومبدأ استمراريتها، وكل المكونات الأخرى تعتمد عليه، ولا قوام لها من دونه. يلزم بالقدر نفسه توفير الدعم المادي والسياسي للمكون الاجتماعي، والرعاية المادية والسياسية أيضاً للجيش الحر، وتطوير العمل الإغاثي ليشمل أوسع المحتاجين. ويتعين بناء الهياكل السياسية الداعمة للثورة حول هذه المهمات. الثورة هي الداخل السوري الجديد، وبناء السياسة حولها هو ما يعيد السياسة إلى الداخل الوطني، خلافاً لنهج النظام الثابت، وخلافاً لما تقوم به حتى اليوم تشكيلات المعارضة.

الانتفاضة وتحول العلاقات الداخلية في سورية

فايز سارة
يميل بعض السوريين للقول إن ما يحدث في سورية يعكس في أحد جوانبه تحولاً في طبيعة العلاقات الداخلية القائمة بين السوريين، وأساسها علاقات الإخضاع والسيطرة التي ترسخت في نحو خمسة عقود من حكم حزب البعث، والتي تتواصل محاولات سورية جدية ومستمرة لاستبدالها بأخرى، حيث يتجه سوريون اليوم إلى إعادة ترتيب علاقاتهم الداخلية وفق سياق جديد، ينبذ السيطرة والإخضاع، ويوفر قواعد للتضامن والمساعدة في تعبيرات، أخذت تتزايد منذ انطلاق حركة الاحتجاج والتظاهر في آذار (مارس) الماضي.
وبطبيعة الحال، فإن الكلام عن علاقات الإخضاع والسيطرة يقودنا إلى قول إن تلك العلاقات لم تكن فقط نتيجة استخدام المؤسستين العسكرية والأمنية، بل من خلال استخدام أدوات وهيئات استخدمت الأيديولوجيا والسياسة والدعاية والتنظيم لإحكام قبضة السلطة على المجتمع كله، بالتزامن مع تكثيف عمليات إخضاع قطاعية موجهة إلى فئات المجتمع المختلفة.
وجاء حزب البعث الذي اعتبره الدستور السوري قائداً للدولة والمجتمع في مقدم أدوات الإخضاع بإعطائه دوراً واسع الطيف في رسم مسارات الحياة العامة كما حياة الأفراد. إذ بالاستناد إلى القرب منه أو البعد عنه تتحدد السياسات والمصائر في مجالات مهمة كالدراسة والعمل وخيارات أخرى، وحيث لم يحضر تأثير البعث حضرت الجبهة الوطنية التقدمية بأحزابها وتكويناتها الحليفة للبعث في فرض تأثيراتها الإخضاعية.
ولا تقتصر أدوات الإخضاع العامة على البعث وجبهته، بل تشمل أطراً عامة من الاتحادات التي تدخلت على نطاق واسع في حياة السوريين، والتي تبدأ أولى حلقاتها في منظمة طلائع البعث الخاصة بالأطفال، وبدء إخضاعهم من المدارس الابتدائية، ليتم بعدها الانتقال إلى مرحلة أخرى تتواصل عبر تنظيمهم في اتحاد شبيبة الثورة، وهو هيئة شبابية لا يقتصر وجودها على المؤسسات التعليمية في المرحلتين الإعدادية والثانوية، بل يشمل تنظيمها الشباب في أماكن العمل والسكن أيضاً، وذلك قبل أن يظهر دور الاتحادات القطاعية، كاتحاد الطلاب الذي يفرض حضوره في الجامعات والمعاهد السورية، ويمد نفوذه إلى الطلاب في الخارج، واتحاد العمال الذي ينظم السيطرة والإخضاع على العاملين في القطاعات العامة والخاصة والمشتركة، والاتحاد العام النسائي، ومن خلاله تتم عملية ضبط السوريات في إطار إخضاعهن للقيم والسياسات المطروحة.
وعملية الإخضاع العامة تجد لها سنداً ودعماً كبيرين في حلقات أضيق، تكون العضوية فيها محدودة، وإن كانت أكثر فاعلية في مستوى المجتمع. وهو ما يمكن ملاحظته في مضامين أنشطة اتحادات قطاعية نوعية كاتحاد غرف التجارة والصناعة والزراعة، واتحادي الكتّاب والصحافيين، والأمر يتكرر في نقابات مهنية بينها نقابة المحامين والأطباء والصيادلة والمهندسين والمعلمين وغيرها من اتحادات ونقابات تغطي كل أنشطة السوريين، لدرجة يصعب معها القول إن هناك فئة قطاعية غير منظمة، بحيث لا تتوافر لها آلية ضبط وإخضاع. وهكذا صار بالإمكان وجود مستويين: مستوى إخضاع المجموع العام بمواصفاته المحددة، ومستوى إخضاع الفئات المختصة من النخبة الموزعة على الاختصاصات كافة.
والنتائج العملية لسياسة الإخضاع، لم تتجسد فقط في تكريس النظام السياسي القائم، وهو الهدف الأساس من العملية، بل تجاوزتها إلى تهميش النخبة وتدمير وظائفها النقدية في الحياة والمجتمع، ودفعها على طريق تلبية احتياجاتها المادية بكل الطرق والأشكال والأساليب. ولعل المثال الأبرز على الخراب الذي أصاب النخبة يتمثل في موقفها السلبي مما شهدته سورية في الأشهر العشرة الماضية، والذي هو بصرف النظر عن صحة أو خطأ مواقف الموالين والمعارضين، يمثل أهم تحد تعيشه سورية منذ ولادة كيانها السياسي الحديث.
لقد خلقت تلك المستويات من السيطرة حافزاً هائلاً لدى الحراك الشعبي للانعتاق من السيطرة والخروج نحو فضاءات الحرية. ولعل التعبير الأبرز عن التحول الرافض أن اياً من أدوات السيطرة والإخضاع وتنظيماتها لم تظهر أو تثبت وجودها وتأثيرها في صفوف الحراك الشعبي، بل غابت بصورة كلية، وكأنها لم تكن، وجاءت مبادرات تجاوزت الحالة بتفاصيلها إلى محاولة خلق أطر بديلة لها خلفيات سياسية واجتماعية وبنى تنظيمية، لم يقتصر وجودها على منطقة سورية واحدة، بل امتد في مختلف أنحاء البلاد، ليصل إلى أوساط الجاليات في المهجر.
لقد رسم الحراك الشعبي تعبيراته الأولى في لجان ذات طابع محلي هدفها إعادة ترتيب العلاقات في المناطق المحددة، وهو أمر يعني تجاوز علاقات الإخضاع والسيطرة، التي كانوا منظمين في إطارها، والتوجه نحو خلق أسس لعلاقات جديدة. ومن هذه النقطة ظهرت أشكال مختلفة من الهيئات والتنظيمات والاتحادات. بل إن كل واحدة من التجارب، وإن تشابهت بالأسماء، اختلفت في بعض الملامح طبقاً لوعي ومعرفة واحتياجات الذين نظموها، ومنها تنسيقيات المدن والأحياء والقرى، التي تهتم بصورة أساسية بمتابعة الحراك الشعبي وفاعلياته وبخاصة حركة التظاهر.
وأضاف الحراك الشعبي وحواضنه الاجتماعية إلى اهتمامه بالتظاهرات، باعتبارها الأهم في فاعلياته، توجهه نحو إعادة ترتيب أوضاعه وعلاقاته بصورة منفصلة عما كان قائماً من قبل، وجرى إطلاق تحالفات وجماعات سياسية، وتنظيمات أهلية ومدنية، وتنظيمات قطاعية، ولعل بين آخر تلك التشكيلات تأسيس لجان المواطنة والسلم الأهلي، التي ضمت ناشطين وفاعليات اجتماعية واقتصادية بهدف تعزيز السلم الأهلي ومعالجة المشاكل الموروثة، والتصدي للمشكلات التي تظهر على خلفية الأحداث الجارية نتيجة تواصل الحل الأمني/ العسكري. كما أن بين التشكيلات الأخيرة ظهور رابطة الكتاب السوريين، والتي يفترض أن تحل مكان اتحاد الكتاب العرب، وقد أثبت ككل الاتحادات الأخرى أنه بعيد عن هموم السوريين، وما تواجهه البلاد من تحديات كبرى.
والأساس الذي يحكم تشكيل ما سبق من كيانات وهيئات، إنما هو رغبة المشاركين فيها وخياراتهم واحتياجاتهم ومستويات وعيهم. فما تمت إقامته يقع في إطار العلاقات الحرة والمنفتحة والمتعددة، التي لا تقوم فقط بين الأفراد المنخرطين في تلك التجارب، بل أيضاً بين تلك التجارب نفسها.
إن هتافات المتظاهرين ودعم الحواضن الاجتماعية لحركات الاحتجاج والتظاهر، تبين على نحو واضح حقيقة التغييرات الجارية في علاقات السوريين الداخلية.
ففي مختلف الأنحاء، تجرى عمليات واسعة للدعم المادي للمناطق المتضررة بالأحداث، وهو دعم لا يقتصر على المواد الغذائية والألبسة والتجهيزات والأدوية وغيرها. بل يشمل تبادل عبوات الدم في دلالة على توحد السوريين ودمهم في مواجهة المحنة وتحدياتها، وهو توجه تكرسه لأول مرة هتافات المتظاهرين الداعين إلى الحرية والكرامة ووحدة السوريين وتضامنهم مع بعضهم بعضاً، وكلها هتافات لم تكن موجودة من قبل، بل هي ولدت في إطار ثورة السوريين، لتكون التعبير العلني عن التغييرات التي يسعى إليها السوريون في علاقاتهم الداخلية..

قراءة من بكين للموقف الصيني من الربيع العربي

شوي تشينغ قوه (بسام
تلقيت قبل أيام رسالة إلكترونية من عنوان مجهول تحمل «بيان اتحاد المثقفين العرب بشأن الموقف الصيني غير الأخلاقي تجاه الشعب السوري»، وعلى رغم أني لم آخذه مأخذ الجد لأنه صادر من جهة لم أسمع بها ولم أجد معلومات ذات قيمة عنها في الإنترنت، إلا أنه جاء ضمن ما قرأت في الأشهر الماضية من الآراء والتعليقات المماثلة حول الموقف الصيني من الربيع العربي ومن الأحداث السورية خصوصاً، وبالتالي عزز انطباعي بأن هذا الموقف قد أسيء فهمه عربياً إلى حد كبير. لذا، سأحاول في هذه المقالة أن أضع بين أيدي القراء العرب قراءتي الشخصية لهذا الموقف بصفتي مثقفاً أكاديمياً تابع أحداث الربيع العربي وردود الفعل عليها، عربياً وصينياً، منذ اندلاعه حتى اليوم.

ما هي حقيقة الموقف الصيني من الربيع العربي؟

ألخصه بالنقاط الآتية:

أولاً، تدعم الصين جهود الحكومات العربية للحفاظ على السلام والاستقرار في بلدانها، على أن تلجأ هذه الجهود إلى وسائل شرعية وسلمية.

ثانياً، تطالب الصين هذه الحكومات في الوقت نفسه، باحترام المطالب الشرعية للشعوب العربية التي تنادي بالحرية والديموقراطية وكرامة الإنسان، والاستجابة لها. من هنا نتبين أن الصين تحرص على إيجاد نوع من التوازن بين موقفها من الحكومات وموقفها من المعارضات.

ثالثاً، تدعو الصين إلى حل الأزمات بالحوار وبالوسائل السلمية وفي إطار جامعة الدول العربية، وترفض بشدة التدخل الغربي في الشؤون العربية، خصوصاً إذا كان هذا التدخل ينبئ باستخدام القوة العسكرية.

رابعاً، تبذل الصين ما وفي وسعها للتوسط بين الأطراف المتنازعة، في الساحة السورية بالتحديد، بغية تحقيق المصالحة بينها وتفادي الصراع العسكري والحرب الأهلية.

ترقب وقلق

خامساً، لم تتعود الصين بعدُ على ظاهرة جديدة في الشرق الأوسط، تتمثل في ظهور هوة كبيرة وفي شكل جلي بين الحكومات والشعوب، بل بين صفوف أبناء الشعب الواحد، في الحالة السورية مثلاً. لذا، يتخلل الموقف الصيني شيء من الترقب الحذر، بل الحيرة والقلق أيضاً، خصوصاً أن الغموض ما زال يلف الأوضاع الراهنة والآفاق المستقبلية في الكثير من الدول العربية.

سادساً، يتحلى الموقف الصيني بحدّ من المرونة ما يوفّر لبكين المجال لتعديل سياساتها في المستقبل ومواجهة أية سيناريوات محتملة.

وفي رأيي أن هذا الموقف الصيني يأتي نتيجة طبيعية للواقع الصيني الراهن ووليداً للثقافة الصينية. أقول ذلك للأسباب الآتية:

1- هو موقف مبدئي ينسجم مع المرجعيات والمبادئ التي تحرص الصين عليها في وضع سياساتها الخارجية: تسوية الخلافات عبر الحوار والتفاوض، رفض الحرب كأسلوب لحل النزاعات مهما كانت الذرائع، رفض التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للبلدان، والاحترام للوحدة والسيادة الوطنية. وعلى رغم أن هذه المبادئ أصبحت منذ فترة موضع خلافات عميقة لدى بعض الناس، إلا أن الطروحات البديلة لها قد تؤدي إلى عواقب وخيمة وخطرة.

2- هذا الموقف يخدم مصلحة الصين التي ترى أن الاستقرار في المنطقة مفيد لها وللعالم أجمع، وبخاصة في ظل الأرمة الاقتصادية التي تضرب العالم كله اليوم. فلا شك في أن الاضطرابات العربية، إذا انفلت الأمر، ستزيد الطين بلة بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي والاقتصاد الصيني، لما تمثله المنطقة من أهمية قصوى في الإمداد النفطي والسوق الكبيرة.

أسباب الفيتو

3- يستند الموقف الصيني إلى خبرات وتجارب في التاريخ المعاصر، فالتدخل الغربي في الشؤون العربية طوال العقود الماضية لم يفلح في حل أي من القضايا العربية، بل زاد الأمور تعقيداً وصعوبة. فالتدخل الغربي خلق دولة إسرائيل في عمق العالم العربي وخلق معها صراعات ومآسيَ استمرت لأكثر من ستين عاماً ولا أحد يعلم كم من السنين ستستمر في المستقبل. وفي العراق، أدى التدخل الأميركي إلى تدمير بلد عربي عريق وغني ومتماسك، بعد ثماني سنوات من حرب كلفت أميركا أثماناً باهظة، أرواحاً وأموالاً، وأوقعت العراق في انقسامات وأزمات عميقة، إضافة إلى قتلها مئات الآلاف من شعبه. وفي السودان، أدى التدخل الغربي إلى تقسيم هذا البلد الغني بالنفط، وإلى ظهور بوادر صراعات جديدة في الجنوب وفي الشمال.

كما أن التاريخ المعاصر أثبت أن الحصار المفروض على بلد ما لا يؤثر في السلطة بقدر ما يؤثر في الشعب، فالسلطة تستطيع دائماً إيجاد الحيل والسبل لتظل باقية رغم الحصار، كما الحال في العراق وإيران وكوبا وكوريا الشمالية، أما الشعب فهو الذي يعاني مرارة الانعكاسات السلبية للحصار.

وبناء على هذه الخبرات التاريخية استخدمت الصين (مع روسيا) حق النقض ضد مشروع قرار في مجلس الأمن في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، لما يحتويه هذا المشروع من فرض حصار على سورية وتمهيد الطريق للتدخل العسكري فيها. إذًا، فالنقض الصيني كان ضد الحصار وضد التدخل، ومن الخطأ أن يُفهم على أنه ضد الثورة وضد الشعب.

4- يأتي الموقف الصيني منسجماً مع طبيعة الثقافة الصينية ونمط التفكير الصيني، لأن الثقافة الصينية تقوم على منظومة القيم التي صاغت الهوية الصينية الحالية: منها الاعتدال، فالحكيم كونفوشيوس يعتبر أن «الاعتدال هو المثل الأعلى للفضائل»، وأن «الإفراط كالتفريط». ومنها الحرص على السلام وتجنب الحرب بقدر المستطاع، فيقول المعلم التاوي لاو تسي: «السلاح أداة الشؤم لا أداة إنسان كريم، وإذا كان مضطراً إلى استخدامه استخدمه في حدود». كما يقول سون تسي صاحب الكتاب الشهير «فن الحرب»: «إن الحرب من جلائل أمور الدولة، حيث يكمن الموت والحياة، إنها طريق يؤدي إلى الوجود بقدر ما يؤدي إلى الهلاك، فلا يمكن إلا النظر فيها بعناية وتأنّ.» ومنها احترام الصداقة التقليدية، فالإنسان الصيني يشعر بشيء من الدهشة عندما يرى أن زعيماً غربياً مثل ساركوزي أو برلوسكوني كان في الأمس القريب يعانق معمر القذافي بحرارة يهاجمه بعد فترة وجيزة بغارات جوية عليه، ومن الصعب تصورُ فعل مماثل يأتي من زعيم صيني مع أي زعيم عربي صديق.

رؤية صينية للثورة

5- قد لا أجانب الصواب إذا قلت إن الرؤية الصينية للثورة تختلف عن الرؤية العربية ذات المسحة الرومانسية، فالشعب الصيني عانى بما فيه الكفاية من الثورات وأشباهها طوال القرن الماضي، وخصوصاً من «الثورة الثقافية» التي أطلقها الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ، والتي أوقعت الصين في تهلكة شاملة اقتصادياً وثقافياً وديبلوماسياً. لذا، نرى الصينيين ينظرون إلى الثورة بشيء من الشك والريبة، إلى حد أن تعبيراً مثل «فلان هو ثوري» في اللغة الصينية اليوم لا يحمل إلا دلالات سلبية تعني الجمود حيناً والتطرف حيناً آخر.

ومن أحاديث الساعة في الأوساط الثقافية الصينية الجدال الساخن الذي أثارته ثلاث مقالات نشرها الكاتب الصيني الشاب هان هان في مدونته على الإنترنت، حول الثورة والديموقراطية والحرية، وقد شارك في هذا الجدال العلني الليبراليون والمحافظون وعامة زوار الإنترنت ووسائل الإعلام الرسمية أيضاً، والكاتب هان هان يقيم حالياً في شنغهاي ويحظى بشعبية واسعة للغاية بين عشرات الملايين من قرائه ومحبيه في المدن الصنيية، وهو معروف بانتقاداته اللاذعة للحكومة الصينية. وأحب أن أقتبس من هذه المقالات الفقرات الآتية:

- «في دول ذات بنى اجتماعية معقدة، لا سيما في الدول الشرقية، لا يحصد ثمار الثورة في النهاية إلا أصحاب المكر والقسوة. وبكل صراحة أقول: على رغم أن الثورة كلمة رنانة جذابة قد يخيل للبعض أنها تجلب فوائد سريعة، إلا أنها ليست خياراً سليماً للصين، إنما الخيار الأكيد للصين هو الإصلاح الحقيقي».

- «يربط المثقفون عادة بين الديموقراطية والحرية، لكن نتيجة الديموقراطية هي انعدام الحرية في كثير من الأحيان».

- «تتطلب الثورة الوقت الكافي لتتبلور نتائجها. وفي بلاد مترامية الأطراف مثل الصين، كثيراً ما تقترن الثورة بشيوع الفوضى والفراغ السياسي والصراعات بين أمراء الحرب، وإذا استمرت الفوضى لخمس سنوات أو عشر، فسيعود الشعب ليتطلع إلى ظهور قائد مستبد لترتيب أوراق البلاد حتى يستتب الأمن ويتحقق الاستقرار».

- «غالباً ما تكون عيوب الحزب الشيوعي الصيني هي عيوب الشعب نفسه، وليس الحزب إلا تسمية، كذلك النظام أو السلطة. أما التغيير الحقيقي فلن يحدث إلا إذا تغير الشعب. وهنا تكمن أهمية الإصلاح. ينبغي التركيز على الأمور الجذرية مثل سيادة القانون والتعليم والثقافة».

نجيب محفوظ وأدونيس

أقتبس هذه الفقرات لأنها في رأيي ليست مفيدة فقط لفهم أوضاع الصين، بل مفيدة لقراءة الربيع العربي أيضاً، كما أنها تذكرني بآراء مماثلة أبداها بعض المثقفين العرب الكبار حول الثورات العربية، فقد سبق أن قال نجيب محفوظ في حواره مع رجاء النقاش: «من خلال قراءتي في التاريخ، وبخاصة تاريخ الثورات الكبرى، وجدت أن هناك قاعدة مشتركة تنطبق عليها جميعاً، وهي أن الثورة يدبرها الدهاة وينفذها الشجعان ويفوز بها الجبناء». (نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته. ص 216)، ويكتب أدونيس ضمن ما يكتبه عن الربيع العربي: «لا يتم تغيير المجتمع بمجرد تغيير حكّامه. قد ينجح هذا التغيير في إحلال حكّام أقل تعنفاً أو أكثر ذكاء، ولكنه لا يحل المشكلات الأساسية التي تنتج الفساد والتخلف. إذاً، لا بد في تغيير المجتمع من الذهاب إلى ما هو أبعد من تغيير الحكام، أعني تغيير الأسس الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية». (في ضوء اللحظة السورية، 31 آذار/ مارس 2011، جريدة «الحياة»).

والملفت للنظر في التجربة الصينية أنه في مناسبة الذكرى المئوية للثورة الصينية عام 1911 التي أطاحت النظام الملكي وأنشأت أول جمهورية في الصين، توصل بعض المؤرخين من خلال دراستهم الجادة إلى نتيجة مفادها أن الثورات الصينية في المئة سنة الماضية أضرّت بالبلاد أكثر مما أفادتها، وأن الإصلاح والتنمية والبناء هي التي حققت للصين نهضتها الحالية، والتي بوأتها عرش ثاني أكبر اقتصاد في العالم اعتباراً من الفصل الأول لعام 2011، في حين أن البلاد كانت تندرج ضمن أفقر دول العالم في أعقاب الثورة الثقافية في سبعينات القرن الماضي.

ولم أقصد بهذه السطور التقليل من أهمية الثورة في تقدم الشعوب، إنما أقصد، استلهاماً من تجربتنا في الصين، أن الثورة ليست الخيار الوحيد لتغيير الوضع، وأن الثورة تحمل في طياتها سلبيات هائلة قد لا يدركها الثوار، إضافة إلى أن الثورة وحدها لا تصنع التقدم، بل لا بد من العمل الدؤوب في الإصلاح والتنمية من أجل كسب التقدم الحقيقي.

خلاصة القول، إن الموقف الصيني من الربيع العربي هو موقف متوازن، عقلاني، منسجم مع الثقافة الصينية، ونابع من التجربة الصينية الخاصة. وهو موقف قد لا يلقى استحساناً آنياً لدى بعض الأصدقاء العرب، ولكنه لا يتناقض مع المصلحة العليا والبعيدة المدى للشعوب العربية.

أخيراً، أحب أن أشير إلى أن الصين تحتاج إلى بذل جهود أكبر من أجل كسب التفاهم والثقة من الشعوب العربية، وعليها أن تعزز ما يعرف بـ «الديبلوماسية العامة» أو «بناء القوة الناعمة»، حيث ينبغي أن تشرح سياساتها للجمهور العربي بمنطق مقنع ولغة مفهومة مع مراعاة الخلفيات والنفسيات العربية، وأهم من ذلك، ينبغي عليها أن تخطو خطوات أكبر في الإصلاح السياسي، حتى تكون قدوة للعالم الثالث، ليس في مجال الاقتصاد فقط، بل في نشر الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان وغيرها من القيم الكونية أيضاً.

إنه لأمر لا بد للصين منه، إذ إن صديقها في العالم العربي كان وما زال وسيظل الشعوب العربية، التي أيقظ الربيع العربي وعيها بضرورة الانعتاق من قيم الاستبداد لتحتضن قيم التحرر والتقدم والإنسانية.

* باحث في الأدب العربي والشؤون العربية، أستاذ في «جامعة الدراسات الأجنبية» - بكين