السبت، 6 يونيو 2009

الإمام شمس الدين: عن الإمام الصدر الانسان القضية

محمد مهدي شمس الدين

كثيرون من الذين يعتبرون أنفسهم خارج المجال الذي كان يعمل فيه الإمام الصدر، لا يدركون الآن لماذا تحوّل إخفاؤه إلى قضية.القاسم المشترك بين هؤلاء، إنهم جميعاً يقفون خارج الدائرة الثقافية التي نحرك الإمام إنطلاقاً من قيمها وتقاليدها، وخارج الدائرة الإجتماعية التي تحرك الإمام إنطلاقاً من واقعها ومطالبها وحقوقها. لذلك فهم غير قادرين فعلاً على تقدير قيمة التحوّلات العميقة التي بدأها، والتي ما تزال تتفاعل مرتبطة بشخصه، رغم مرور هذا الزمن الطويل على إخفائه.

إن فهم هذه التحوّلات وتفاعلاتها في وعي وواقع الإنسان الآخر ( أي ذلك الذي يعتبر نفسه موضوعاً مباشراً لعمل الإمام ) يلزمنا بالعودة إلى فهم موقع عالم الدين المسلم من جمهوره، والمشكلة الإجتماعية المزمنة لهذا الجمهور، بالإضافة إلى تأثيرات الحرب الأهلية ومضاعفاتها، ودور الإمام في ذلك كله.
لم يكن عالم الدين القيادي، في كثير من الأحيان، بعيداً عن هموم الناس ومخاوفهم وآمالهم أن تربيته وثقافته وهدف حياته تدفعه إلى أن يكون إنساناً ملتزماً بقضايا مجتمعه .
وقد كان ثمة، ولا تزال حتى الآن، حالة ثقافية تتعارض مع هذه الوضعية لعالم الدين المسلم، هي بقية من الفهم الصوفي لوظيفة الدين وعلمائه .. هذا الفهم الذي كان سائداً في العالم الإسلامي في عصور إنحطاطه وإنهزامه وتوقف حركته التاريخية.

وقد جاء الفهم الغربي للدين مع الإستعمار وثقافته، ليعزز هذه الحالة الثقافية في العصر الحديث، ويعطيها مبررات ليست من الإسلام في شيء، وليست من الحقيقة في شيء.
هذه الحالة الثقافية تعفي عالم الدين من أي إلتزام سياسي، ومن أي إهتمام إجتماعي، بل لقد كان الإهتمام السياسي يشكل في بعض الحالات طعناً في مصداقية عالم الدين، وتعلم المجتمع أن يعفي عالم الدين من حمل هموم الناس ومخاوفهم وآمالهم. ولا نريد أن ننفي أن عالم الدين، في بعض الحالات، أو في كثير من الحالات، كان يستجيب لهذا الموقف فيعفي نفسه كما كان المجتمع، وفي كثير من الحالات أيضاً، يستجيب لهذه الثقافة، فيعفي عالم الدين من الإهتمام السياسي .

وبالمقابل، كانت هذه الحالة الثقافية تحصر وظيفة عالم الدين في أن يعد جمهوره إعداداً جيداً للآخرة، وأن يعالج المشكلات والنزاعات الصغيرة في نطاق العائلة والحي والقرية وأن يقوم بدور وعظي في الحياة العامة.. وكان يحدث أن يصطفي لنفسه، أو تصطفيه، جماعة من الناس تقل أو تكثر، تتخرج عليه وتتادب بأخلاقه، وقد تقتبس حتى عادات حياته اليومية وبعض أسلوبه في الحديث.
كان دور عالم الدين حقل تنافس بين هذه الحالة الثقافية، وبين روح الإسلام الحية المتحركة الجهادية.
وحين جاء الإمام الصدر إلى لبنا، كانت قد نضجت في وعي المسلم اللبناني،حالة ثقافية بالنسبة إلى دور عالم الدين المسلم أكثر صدقاً وأقرب إلى روح الإسلام وحقيقته الحية المتحركة. وكان الإمام عنوانها الكبير المتألق في لبنان، بل لقد كان أكثر عناوينها تألقاً ووهجاً وقوة على الإجتذاب والإستقطاب.
جاء الإمام إلى لبنان فاكتشف وضعية الإنسان في البقاع((بعلبك-الهرمل))((وفي الجنوب)) ((جبل عامل)) (( وامتداده البشري في ضواحي بيروت البائسة)). واكتشف أن هذا الإنسان مسحوق مستلب، يتمتع بحرية شكلية لا يستطيع أن يستخدمها في تغيير وضعه، بل لا يستطيع أن يستخدمها في الإعلان عن شكواه..و((يتمتع)) – إلى جانب هذه الحرية بإهمال مطلق من قبل الدولة.
فحاول أن يستجيب لهموم هذا الإنسان ومطامحه وحاجاته، وكانت تلك المرحلة مرحلة المؤسسات: مؤسسة جبل عامل المهنية، ومعهد التمريض، وبيت الفتاة.

ثم تنامى، وعيه لمشكلة هذا الإنسان على ضوء تجارب الطوائف اللبنانية الأخرى، وتأكدت لديه الحاجة إلى مستوى من التنظيم في مؤسسة لها أمثال كثيرة في لبنان، تكوّن ضمير هذا الإنسان ولسانه وأداته في السعي نحو المساواة والكرامة.. فكان المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى .

ثم تنامى وعيه هذا إلى مستوى أعمق، وأدرك ضرورة إيجاد مستوى آخر من التنظيم فكانت حركة المحرومين، ومن ثم حركة أمل والتي تترجم أعمق نزعات هذا الإنسان نحو الحرية والكرامة بما يتجاوز الإطار الطائفي والمذهبي .
وقد أدى به وعيه الموجع لمشكلة هذا الإنسان إلى أن يتحد مع قضايا المحرومين وتطلعاتهم، وإلى أن يجعل منهم قضية حياته.

وبالمقابل أدرك الإنسان المحروم وأدركت قياداته، وهي النخبة المستقبلية الواعية في الجنوب والبقاع وغيرها، من شتى الطوائف والمذاهب والمناطق في لبنان.. أدرك هؤلاء جميعاً أن موسى الصدر قد باع نفسه لقضية الإنسان هذه .. باعها بصدق وحرارة وإخلاص صوفي نابع من إسلامه وثقافته وأخلاقيته وحسه الإنساني الحاد المرهف. ومن هنا إكتسب الإمام هذه الصفة التمثيلية لأعرض قطاع من الشعب اللبناني، وهي صفة فاقت، وما تزال حتى الآن، ورغم كل شيء، ما نجده لدى أي قيادة أخرى .

حاول الإمام الصدر، في بداية تحسسه لمشكلة الإنسان في لبنان، أن يعمل على تحقيق مطامحه من خلال التعامل مع الوضع اللبناني( ولا ندخل في مكونات هذا الوضع وتبيان عناصره وخصوصياته). ولكنه أدرك في وقت مبكر أن هذا الوضع، بمنطقه الخاص، يحاول تدجينه وجعله جزءاً مه. ثار الإمام على هذا التفكير، ومضى يعمل على عقلنة الوضع وأنسنته، وجعله أكثر إدراكاً لحقيقة الأخطار التي كانت تتجمع ويمكن أن تنفجر لتعصف بالوطن كله. ولكن الوضع في لبنان كان ذا مزاج إفتراسي فبدأت محاولات تحطيم الإمام. وقد إشتركت قوى كثيرة في هذه المحاولات، بعضها من موقع الصديق، وبعضها من موقع الخصم، وبعضها الثالث من موقع رمادي. لأن الجميع رأوا في ظاهرة الإمام، الذي فشل الوضع اللبناني في تدجينه، خطراً عليهم، لأن الفهم الذي طرحه لقضية الإنسان المحروم ونمط التعامل الرسالي، هدد هؤلاء جميعاً بخسارة المواقع التي يحتلونها، على حساب الحرمان والمحرومين، سواء من كان منهم مستفيداً مباشراً أم من كان مستفيداً ثانوياً وبالواسطة، هؤلاء جميعاً وحّدتهم المصلحة في إطفاء الشعلة التي أضاءها الإمام، وإسكات الصرخة التي أطلقها .

ولكن محاولات التحطيم فشلت كلها لأن الإمام موسى الصدر لم يستند في وجوده إلى معادلة سياسية، أو توازنات بين القوى. وإنما إستند إلى الشعب إلى الإنسان المحروم الذي غدا الإمام قلبه الخافق وصوته وإحتجاجه على البؤس والحرمان.

نعم أحياناً كانت هذه الجماعة أو تلك، من جماعات هذا الإنسان المحروم، تقع أسيرة الإرهاب الفكري الجسدي، أو ضحية الدعاية المأجورة والإشاعات الباطلة. ولكن هذا الإنسان كان يدرك أنه ضحية إعتبار سياسي يقوده متنفذ صغير لمصلحة متزعم كبير، أو ضحية لإعتبار حزبي، ومن ثم فقد كان يجد نفسه في النهاية إلى جانب الإمام ووراءه وحوله. وهكذا بقي الإمام عصياً على التحطيم، بل نما وكبر وغدا في قلوب الناس البسطاء رمزاًُ لقضيتهم. وبقي هو موزّع القلب والعقل بين الإهتمام بالمسائل الصغيرة للمواطن، والإهتمام بالمسائل الكبرى للوطن، وهذه المسائل ذات الطابع المصيري.

وجاءت الفتنة اللبنانية الكبرى، فانغمست فيها قوى سياسية كثيرة إما عن قصد وتصميم، وإما عن جهالة لا تبرر النيات التي دفعت إليها الآثار الفاجعة التي نجمت عنها. ورفض الإمام، من خلال المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، أن يكون طرفاً في الفتنة، بل أعطى نفسه مهمة إستعادة السلام، مع العمل على تطوير النظام نحو وضع أكثر عدالة وإستجابة لمطالب المحرومين. من هنا غدا موسى الصدر موضوع كراهية وعداء ظاهر أو مستتر من قبل جميع أطراف الفتنة، أو الذين كانوا يعدون العدة للإستفادة من الفتنة، فقد عبر كثير من هذه الأطراف عن كراهيته بإعلان فاجر فقد كل قيمة اخلاقية ضد المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وخطه السياسي، وضد شخص الإمام نفسه، وضد دوره وتطلعاته .. ولكن هجمة البغضاء التي تجاوزت كل حد، لم تلن من قناته، بل مضى في مساعيه وتجاوز بها لبنان إلى المحيط العربي حاملاً هم لبنان ومصيره في قلبه وعقله، وأثمرت مساعيه، فإستطاع أن ينقل خوف الناس العاديين وعذابهم اليومي إلى وعي المسؤولين العرب، وأني يحرك بذلك القلوب والضمائر، لا بلغة السياسة واساليبها، وإنما بلغة الإنسانية، لغة القلب والضمير. ووضع حدّاً للفتنة المشتعلة، وهدأ بركان الدم قليلاً، وإمتلأ قلبه بالأمل في غد مشرق للبنان وغد سعيد للمحرومين .
ولكن الحرب الأهلية البشعة توقفت لتكشف الفتنة عن أبشع وأخطر نتائجها في مقياس قضايا المصير. لقد تعاظمت مأساة لبنان الجنوبي، وانكشفت أخطار الوجود التي تحيط به: أخطار الإحتلال الإسرائيلي والتجزئة، والتوطين، وما ينجم عن هذه الأخطار من تشريد للإنسان الجنوبي يضاف إلى حرمانه.

وعاد موسى الصدر إلى جهاده على الصعيد اللبناني وعلى الصعيد العربي، يتباحث مع الرؤساء والملوك، ومع القيادات السياسية، ومع الجماعات الحزبية، شارحاص الأخطار المحدقة بالجنوب، محذّراً من العواقب الوخيمة التي تتعدى الجنوب إلى لبنان كله، وتتعدى لبنان إلى المحيط العربي كله، محاوراً في صيغ الخلاص.
كل هذا والإنسان المحروم يسمع ويرى ويفهم. وكان كل ذلك يجعل هذا الإنسان يزداد توحداً مع الإمام الصدر وحبّاً له وثقة به وهكذا غدا الإمام حقيقة في كل بيت محروم، لم يعد شخصاً وإنما غدا ممثلاً لقضية الإنسان المحروم والجماعات المحرومة والمناطق المحرومة .. واستمر يطارد الفتن حيثما أطلت برأسها يطاردها في لبنان وخارجه .

وحمله تطوافه في مطاردة الفتنة ومطاردة الخطر إلى ليبيا. ليبيا التي دعته سلطته الرسمية العليا لزيارتها لتباحثه ويباحثها في شأن لبنان وطريق خلاصه وسبيل وأد الخطر المحدق بجنوبه.
وكانت الدعوة فخاً، وكان الطعم هو التلويح لموسى الصدر بالأمل في أن يجد عند حاكم ليبيا وأعوانه عوناً على الفتنة وعوناً على الخطر وهكذا إحتجز حكام ليبيا موسى الصدر ورفيقيه المجاهدين الشيخ محمد يعقوب والأستاذ عباس بدر الدين وأخفوا أثرهم، وزعموا – كذباً – انهم غادروا ليبيا.
وتكشفت الحقيقة الراغبة البشعة للإنسان المحروم في وقت قصير. أين الإمام؟ اخفته السلطات في ليبيا. لماذا ذهب إلى ليبيا؟ ينقذ لبنان .

وكما يحدث في كل لحظات الصدمة .. إستعاد الإنسان المحروم كل ما يعرفه عن موسى الصدر، كل جهاده وجهوده، فرأى فيه قضيته هو .. رأى فيه رزقه الشريف، وأمنه وبيته،وكرامته، ومدرسة ولده، ومستشفى مريضه، ومعونة بائسه. رأى فيه مستقبل لبنان. رأى فيه حقول الجنوب المحروقة، ومدنه وقراه التي تنزف أيتاماً وأرامل ومشردين، وبيوته الخالية من أهلها، ودروبه المشتاقة إلى وقع أقدامه، والأمل في غد مشرق. ولن يستطيع أحد أن ينتزع من كل هؤلاء الحق في الأمل …

تقديم لكتاب دراسات في الميثاق عن مكتب العقيدة والثقافة/ حركة امل

فيصل الحسيني.. القدس صبره وقبره

فيصل الحسيني.. القدس صبره وقبره
مصطفى عاشور

"فيصل الحسيني" زعيم فلسطيني، وهب حياته لقضية القدس والدفاع عن عروبة المدينة، وكانت أسلحته: الحجج، والوثائق، والصمود. تصدى للممارسات الإسرائيلية الهادفة لتهويد المدينة، واستصرخ العرب والمسلمين، وكانت صرخته الشهيرة "واقدساه". كان حلمه دولة فلسطينية عاصمتها "القدس"، القدس الموحدة والمفتوحة للجميع.
ينتمي لعائلة الحسيني، أشهر وأعرق العائلات الفلسطينية، والتي ضربت أروع الأمثلة في النضال الوطني والدفاع عن القدس. فجده موسى كاظم الحسيني، الذي عينه الإنجليز رئيسًا لبلدية القدس، واشترطوا عليه ألا يشتغل بالسياسة. إلا أن السياسة عنده كانت مرادفًا للوطنية، فاستقال من منصبه، ورأس "المؤتمر العربي الفلسطيني" أول تنظيم فلسطيني للمقاومة بعد وعد بلفور، وقاد مظاهرات كبرى ضد الإنجليز في القدس، وأصيب بجروح في إحدى المظاهرات سنة 1933، وهو في الثمانين من عمره ما لبث أن توفي بعدها. أما والده عبد القادر؛ فحمل لواء الجهاد ضد الإنجليز واليهود، وكان قائدا لجيش الجهاد المقدس؛ حتى استشهد في معركة القسطل 8/4/1948. أما عمه فهو أمين الحسيني مفتي القدس، الذي حمل لواء القضية الفلسطينية لسنوات عديدة داخل وخارج فلسطين حتى وفاته 1974م.
النشأة
انتقل والده للعيش في بغداد سنة 1939، بعد فشل ثورة 1936 ضد الانتداب البريطاني. وشاءت الأقدار أن يرى فيصل نور الحياة في 17 يوليو 1940، وأبوه في ظلمات السجن، بعدما اعتقلته السلطة العراقية، التي لم تفرج عنه إلا إذا أبدى بلد آخر استعداده لاستقباله كلاجئ سياسي، فأبدى الملك "عبد العزيز آل سعود" استعداده لاستقبال عبد القادر وأسرته، فانتقلوا إلى السعودية. تعلم خلالها فيصل مبادئ القراءة والكتابة على يد والده، الذي كان يهتم بتنشئة ابنه، فكان يصطحبه معه في رحلات؛ لتسلق الجبال، والتعرف على أنواع الصخور. واستفاد من والدته ذات الذوق الرفيع، التي كانت تهتم بالرسوم التوضيحية المزينة بالفسفور؛ حتى تكوّن مادة شيقة في تعليم أطفالها.
انتقل مع والده إلى القاهرة، الذي اهتم بتنمية الوعي السياسي عند ابنه؛ فكان يُحفّظه القصائد الشعرية الوطنية، ويدربه على التحدث أمام الجمهور. ولما استشهد عبد القادر كان فيصل في القاهرة، وقرأ نبأ استشهاد والده في الصحف، وكان وقع النبأ مؤثرا على الطفل، وهو في الثامنة من عمره. لكن المأساة غرست فيه قوة الإرادة والصمود، فأصبح يُختار دائما لإلقاء كلمة أُسر الشهداء في حفلات التأبين التي كانت تقام آنذاك، وكأنه يناجي والده الشهيد لا جمهور الحاضرين.
وفي القاهرة حصل على الابتدائية والثانوية، وتعرف على ياسر عرفات. وعندما وقع العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 تقدّم بطلب للانضمام للقوات المسلحة المصرية، واشترك في حركة القوميين العرب عام 1957. كذلك شارك في إنشاء وتأسيس المنظمة الطلابية الفلسطينية عام 1959، والتي أصبحت فيما بعد نواة لمنظمة التحرير الفلسطينية.
كان الجهاد والتضحية والرغبة في الاقتداء بوالده الشهيد عوامل دفعته للانخراط في التدريب العسكري، فحاول الالتحاق بكلية سلاح الطيران المصرية، لكنه أخفق في اختبارات اللياقة البدنية، فانتقل إلى سوريا ودرس الهندسة في الأكاديمية العسكرية بحلب، وحصل على شهادة العلوم العسكرية سنة 1966.
وقد انضم إلى صفوف حركة "فتح" منذ بدايتها الأولى في عام 1964، ثم انضم إلى قوات جيش التحرير الفلسطيني المرابط في سوريا، أوائل عام 1967، وكان قبلها يعمل في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في القدس حتى عام 1966، في قسم التوجيه الشعبي.
العودة للقدس
وبعد حرب حزيران "يونيو" 1967، وقعت القدس تحت الاحتلال الإسرائيلي، فقرر فيصل العودة إلى معشوقته "القدس" بعد شهر ونصف من الحرب، عبر نهر الأردن، واستقر في حي "الصوانة" بالقدس الشرقية المحتلة، وأهّلته المرحلة المبكرة من العمل الوطني إلى قيادة العمل السياسي في القدس، فاعتقل لأول مرة في أكتوبر 1967، ثم حُكم عليه بالسجن لمدة عام بتهمة حيازة أسلحة. وبعد خروجه تعرض للحبس والمضايقة والاعتقال من جانب السلطات الإسرائيلية لصلاته بمنظمة التحرير الفلسطينية. لكن ذلك لم يمنعه من مواصلة النضال والعمل الوطني، رغم تنقله بين مهن مختلفة، حتى إنه عمل فني أشعة في مستشفى المقاصد الخيرية.
معهد الدراسات العربية
انخرط في العمل السياسي والأكاديمي، فأسس عام 1979 معهد الدراسات العربية في "بيت الشرق" بالقدس المحتلة، وبيت الشرق هو المقر غير الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية في القدس الشرقية. ونذر جهده البحثي في التنقيب عن التراث الفلسطيني، وإعداد الخرائط التي تثبت أحقية الفلسطينيين في القدس، وكذلك التنقيب عن المستندات الدالة على ملكية الفلسطينيين للمباني والمنازل والأراضي، وخاصة تلك التي في القدس الغربية؛ لذا حظي بشعبية كبيرة في الأوساط العربية في القدس، ودرس العبرية حتى أتقنها كسبيل للتفاهم والتعامل مع الإسرائيليين.
وكان الإسرائيليون يصفونه "بالإرهابي الكبير"، و"الإرهابي ابن الإرهابي"؛ لذا كان يتعرض للسجن والضرب وتحديد الإقامة. كما أن نشاطه لم يتوقف أثناء اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987م، فاتُّهم بالقيام بدور رئيسي في توجيه النضال الفلسطيني، وقضى عامين في السجن.
مفاوضات السلام
أجرى مباحثات مبكرة مع بعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية لوضع أسس التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولأول مرة تخرج من مكتبه وثيقة استقلال فلسطين سنة 1988. كما رأس الوفد الفلسطيني الذي اجتمع مع وزير الخارجية الأمريكي "جيمس بيكر"، وهو الاجتماع الذي مهد لبدء محادثات السلام في مدريد في أكتوبر 1991م. وعندما قام فيصل بتشكيل وفد فلسطيني من الضفة الغربية للذهاب إلى مدريد، فاجأه "ياسر عرفات" بتعيين الدكتور "حيدر عبد الشافي" رئيسًا لوفد التفاوض الفلسطيني.
وفي إبريل 1993 أصبح رئيسا للوفد الفلسطيني في محادثات واشنطن، خلفا "لحيدر عبد الشافي". وبعد اتفاقات أوسلو رفضت إسرائيل أن ينضم إلى زعامة السلطة الفلسطينية، بحجة أنه يعيش في القدس.
وقد عُين الحسيني عام 1996 في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية مسئولا عن ملف القدس. ومن هذا الموقع ساهم في اجتماعات مجلس وزراء السلطة الفلسطينية، وشهدت علاقته بالرئيس "عرفات" بعض التوترات، فكان "عرفات" دائم الانتقاد له في اجتماعات المجلس، ونشبت بين الاثنين مشادة كلامية، قام خلالها عرفات بتجميد تمويل مكتب "فيصل" في بيت الشرق، وتعيين وزير لشئون القدس في السلطة الفلسطينية هو "زياد أبو زياد". ورغم ذلك لم تتوقف نشاطات فيصل الخيرية والاجتماعية؛ فكان يقدم المساعدة للعائلات المحتاجة في القدس، ويساعد في توظيف الشباب في بعض المشروعات.
وتعرض لبعض محاولات الاغتيال من جانب المستوطنين اليهود؛ ففي صيف 1995م أطلقوا الرصاص على منزله، وهو بداخله؛ فحطموا بعض السيارات، كما أن سيارة إسرائيلية حاولت أن تصطدم بسيارته، لكنه نجا من المحاولتين. وعندما اتخذت الحكومة الإسرائيلية بزعامة "بنيامين نتنياهو" قرارا ببناء مستوطنة إسرائيلية في" جبل أبو غنيم" بالقدس، تصدّى فيصل لهذا القرار، وقاد مظاهرة ومسيرة انتهت إلى الموقع الذي تبني فيه إسرائيل المستعمرة، فتعرض هو ومن معه لضرب مبرح من القوات الإسرائيلية، وكان يكفي وجود فيصل الحسيني في أي مسيرة؛ حتى تنتفض السلطات الإسرائيلية لمنع هذه المسيرة ووقفها.
كان فيصل الشخصية الفلسطينية المحورية، التي يروق لكثير من القيادات الدولية التحدث إليها والتباحث معها، عندما يزورون القدس. وعُرف عن الرجل تسامحه في التعامل، والصلابة في الإرادة؛ فكانت نفسه طيبة كوجهه المشرق، وقد أجمعت الآراء على أنه كان مثالا للأخلاق العالية.
استولى حب القدس على قلبه وعقله، فوهب حياته لها، وعشق فيها المكان والتاريخ والمقدس، فكان لا يصبر على فراقها، ويشعر بالحنين إذا غادرها. فبالرغم من أنه يمتلك منزلاً أنيقًا في "عين سينيا" القريبة من القدس، فإنه فضل أن يعيش في بيت مستأجر بالمدينة القديمة، وكأنه يرى أن الوجود في القدس هو الصمود في وجه المحتل؛ لذلك كان يقول: لم أعد أشعر باستقرار إلا في القدس.
ودافع عن القدس وعروبتها. وأكد مرارا أن القدس الغربية عربية. وطالب بتوحيد المدينة بشطريها الشرقي والغربي، وفتحها أمام المجتمع. واعتبر الاستيطان اليهودي في المدينة إعلانًا للحرب على الشعب الفلسطيني.
الكويت والوفاة
مات فيصل الحسيني في الكويت في 31 مايو 2001؛ حيث كان يقوم بأول محاولة من نوعها لإنهاء الخصومة بين الكويت والسلطة الفلسطينية، وهي الخصومة القائمة منذ عام 1990، إلا أنه أصيب بأزمة قلبية ووافته المنية. وذكر الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات أن الحسيني كان مصابا بمرض الربو، وأنه تعرض- من أيام قبل سفره للكويت- للغازات التي يطلقها الجيش الإسرائيلي في القدس، وأنه توفي بسببها.
وحُمل جثمانه إلى القدس، وشيعه إلى مثواه الأخير 20 ألفًا من أبناء القدس في جنازة مهيبة؛ حيث دُفن في باحة الحرم القدسي الشريف بجوار أبيه وجده. وهذه هي المرة الأولى التي يُدفن فيها فلسطيني في هذا المكان منذ احتلال إسرائيل للقدس عام 1967.
ورفضت الحكومة العليا في إسرائيل طلبًا تقدم به زعيم حركة "أمناء جبل الهيكل" وأحد المسئولين في حركة "كاخ" المتطرفة، بمنع دفنه في باحة المسجد الأقصى، بحجة أن ذلك انتهاك للوضع القائم في المكان المقدس، وانتهاك للقانون. وبررت المحكمة حكمها بأن أي عراقيل أمام مراسم التشييع سيكون من شأنه إثارة حوادث خطيرة. وهكذا شاء القدر أن يولد "فيصل الحسيني" في بغداد، ويتعلم في القاهرة، ويعيش في القدس، ويموت في الكويت، ويدفن في باحة المسجد والحرم المقدس، بجوار أبيه وجده.